قراءةٌ في التيّار التقليدي وفكر د. حسين نصر
د. الشيخ عبد الحسين خسرو پناه(*)
تمهيد ــــــ
تأسّس التيار التقليدي من قبل الفيلسوف الفرنسي رينيه غنون (عبد الواحد يحيى)([1])(1886 ـ 1951)، واكتسب هويته على يد العالم السيلاني آناندا كنتيش كوماراسوامي([2])(1877 ـ 1947)، وتطوّر على يد فريتوف شووان([3])، وتيتوس بوركهارت([4])، وماركوبوليس([5])، ومارتن لينكز([6])، وتحوّل إلى تيّار فكريّ خاصّ.
ولا تعني السنّة (التقليد) في التيار التقليدي الرسوم والعادات والأسلوب، بل المراد بها السنّة الإلهية الأزلية والأبدية الجارية والنافذة على كلّ الوجود، السنّة بمعنى الأصول والحقائق ذات المنشأ القدسي، والتي تمتلك صيغتها العملية وتجلّياتها الخاصة بها في إطار أيّ حضارة. وكلّ حضارة لها صلة بهذه الأصول، وتتمسّك بها، تسمّى حضارة تقليدية([7]). والتيار التقليدي الإسلامي شأنه شأن الحركات الدينية الأخرى، كالتيّارات التقليدية لليهودية، والكاثوليكية، والبروتستانتية، وغيرها من ردود الفعل الأوروبية على الحداثة. وعملت هذه الحركات الدينية على معارضة الحداثة ومخالفتها بشكلٍ علني؛ من أجل المحافظة على سننها الخاصة، ومرجعياتها القيادية، كالبابا([8]). والأمر الجدير بالاهتمام هنا أن التيار التقليدي لا يذهب إلى تبنّي معيار عام لنقد الحداثة، وينقدها من داخل السنّة، وهي بنقدها هذا لا تعطي بديلاً عنها. ويراود هذا التيار هاجس علاقة الدين بالحداثة، وكذلك الدين بالطبيعة، ويفتي بتعارض المقولتين الأوليين، وانسجام المقولتين الأخريين. ولكنْ من أجل حلّ التعارض القائم بين الاثنين يقف هذا التيّار في الخندق المقابل للحداثة العلمانية، والحداثة الدينية، أي بَدَلاً من أن يلغي السنّة والدين يعمل من أجل إحياء السنّة، ويقترح الاحتكام إلى التيار التقليدي، مبيِّناً سلبيات الحداثة. وإثر التحوُّلات الحديثة اهتمّ هذا التيار بالدراسات الدينية بشكلٍ أكبر من التيار المناهض للحداثة، وانبرى لحلّ المعضلات التي يعاني منها الغرب الجديد، من خلال التأكيد على العرفان الإسلامي والأديان الشرقية. والتيّار التقليدي عبارةٌ عن مجموعة تؤمن بالحكمة الخالدة، ويقولون: إن الأديان الكبرى في العالم، مثل: الإسلام والمسيحية واليهودية، وأديان شرقي آسيا، كالبوذية، وديانة جين، وشينتو وتائو، تشترك كلّها بحقيقةٍ متماثلة.
ثوابت التيار التقليدي ــــــ
الثوابت والآراء الأساسية للتيار التقليدي على النحو التالي:
1ـ الحكمة أو الفلسفة الخالدة([9]): مختلف التيارات الفلسفية الإسلامية، وبخاصّة الحكمة المتعالية، تعتبر من مصاديق هذه الفلسفة. وأوّل مَنْ اختار مصطلح الفلسفة الدائمة، أو الحكمة الخالدة، في الغرب هو آغوستينوس إستويخوس، عنواناً لكتابه في سنة 1540م، ومن ثمّ اشتهر استخدام هذا المصطلح في مقالة لـ (لايب نيتز) في سنة 1715، وأخيراً استخدمه فريتيوف شووان مستفيداً من مؤلّفات رينيه غنون. وبمعنى آخر فإنّ الرسالة الأساسية لهذه الفلسفة هي في تمايز ظاهر الأديان وباطنها، وكثرتها الظاهرية ووحدتها الباطنية.
2ـ الوحدة السامية للأديان([10]): الإيمان بالوحدة السامية للأديان تعني اتّحادها في الأهداف النهائية. فالتقليديّون يؤمنون أوّلاً بأن جميع الأديان الكبيرة والخالدة في العالم ذات مصدر إلهي.
وثانياً: بالرغم من وجود الاختلافات الظاهرية إلاّ أنها ذات وحدة باطنية.
وثالثاً: الحكمة الخالدة موجودة فيها جميعاً.
والحكمة الخالدة في ظلّ الرؤية التقليدية ترى أن مصدر آلاف الأديان المختلفة ـ التي حكمت المجتمعات البشرية على مدى القرون والعصور، وكانت سبباً في ظهور الحضارات الدينية بقوانين دينية، والمؤسّسات الاجتماعية والفنّ وعلومهم الخاصّة ـ تكمن في حقيقة مطلقة واحدة فقط، تلك الحقيقة المشار لها في الدين الإسلامي بشهادة التوحيد «لا إله إلاّ الله»، وفي (أوپانيشادها) بعبارة: «لا هذا، ولا ذاك»، وفي التائوية بمقولة: «الحقيقة المجهولة»، وفي الإنجيل بعبارة: «أنا كما أنا موجودٌ»، ولكنْ بشرط أن يتم إدراك تلك الحقيقة بأسمى معانيها([11]). وبسبب الإيمان بالوحدة السامية للأديان لا يؤمن أتباع التيار التقليدي بتبليغ دين الحقّ، ويوصون المؤمنين بالتمسّك بأديانهم. وهو زَعْمٌ يتعارض تماماً مع الآيات المتعلّقة بضرورة التبليغ الديني. وعلى هذا الأساس يقسّم التقليديون التعاليم الدينية إلى: الجوهر؛ والقشور، ويعتبرون أنّ الخطوط المشتركة للأديان تمثِّل جوهر جميع الأديان. وفي تلك الحالة فإن فروع الدين لن تصل في أهمّيتها إلى أهمّية البُعْد العرفاني. وادّعاء الوحدة السامية للأديان بحدّ ذاته سيؤول في النهاية إلى مذهب الكثرة الدينية؛ لأن الطرق المختلفة للوصول إلى الحقيقة ستجد معناها بتفكيك الشريعة الظاهرية والحقيقة الباطنية.
3ـ مذهب الكثرة الدينية: من المستلزمات غير القابلة للإنكار لنظرية الوحدة السامية للأديان هو القبول بالتعدُّدية الدينية. ولا شَكَّ في أن هناك تبايناً جوهرياً بين التعدُّدية الدينية لجان هيغ والتعدُّدية الدينية للتيار التقليدي. فالتيار التقليدي يسعى، من خلال المنهج العلمي لعلم الوجود والحكمة الخالدة، وبالاستعانة بالعرفان والتصوُّف، إلى القول بأن تعدُّد الأديان الشرقية والغربية وكثرتها هي تجلِّيات إلهيّة، في حين يصف جان هيغ كثرة الأديان، من خلال المنهج الفلسفي النقدي، والمنهج الكانتي في علم المعرفة، بأنها من الإنجازات البشرية.
4ـ التوجّه نحو العرفان والتصوُّف: لغرض تثبيت نظريّة الوحدة السامية للأديان اتّجه التيار التقليدي نحو العرفان والتصوُّف الشرقي، وبخاصّة العرفان النظري لمدرسة ابن عربي؛ إذ يعتقد هذا التيار أن جميع الأديان تقوم على مبدأ تمايز الحقّ والخلق، وأن طريق الوصول إلى الحقّ يكمن في اتّباع الدين والفطرة الإلهية، وأداء حقّ الخلافة (الخلافة الإلهية للإنسان)، وأن الشهود أو البصيرة العقلية بالنسبة إلى العقل الاستدلالي تمتاز بأن لها صفة المبدأ والمقصد.
5ـ نقد الغرب والعالم المتحضّر، وامتلاك المعرفة الكافية عن ذلك: الهمّ الأساس للتيار التقليدي هو في مواجهة العالم المتحضّر ونتائجه، ولكنْ بشرط معرفة جميع جوانب الغرب ومنجزاته.
6ـ الإيمان بالعلم والفنّ القدسي، في مقابل العلم والفنّ الحديث: يعارض أتباع التيار التقليدي تقديس العلم، والتأثُّر بالعلم، واستبدال العلم بالرؤية الكونية المبنيّة على العقل المادّي، والمذهب التجريبي، والمادية، والإنسانية أيضاً، ويؤكِّدون على العلم القُدْسي([12]).
دراسات سيّد حسين نصر الدينيّة، وسلبيّاتها ــــــ
الشخصيات الإيرانية التي تدافع اليوم عن هذا التيّار وتؤازره هم على النحو التالي: السيد حسين نصر([13])، وغلام رضا أعواني، ونصر الله پور جوادي. ولكنْ لكثرة مؤلَّفات السيد حسين نصر في الدفاع عن هذا التيّار خلال عقد السبعينات يمكن اعتباره الممثِّل الفكري لهذا التيار. وبناءً على ذلك سوف نتطرَّق إلى توضيح وتحديد سلبيّات مقولة الدراسات الدينية التقليدية، بقراءة الدكتور نصر، فضلاً عن المواضيع المتقدِّمة:
1ـ الإيمان بالسنّة ــــــ
هناك ثلاثة عناوين مهمّة في المشروع الفكري للسيد نصر تتمثّل بالسنّة، والحكمة الخالدة، والأمر القُدْسي. وهو يرى أن طريق النجاة من أزمة العالم المعاصر تكمن في العودة إلى السنّة والأمور الروحيّة. السنّة في المنظومة الفكرية للسيد نصر عبارة عن هدية إلهية، ولا ينبغي النظر لها على أنها بمعنى العادات والنماذج الوراثية والمتروكة. هذه الهدية الإلهية تمنح الإنسان المعتَقِد بها الإيمان العقلي، والاهتمام القلبي. وهذه السنّة هي سنّة خالدة، وثابتة، وراسخة، وواعية، أي سنّة الأولين([14])، وهي السنّة التي لا تحتمل الصيرورة، ولا ينتهي أَجَلها. فالسنّة في رأي نصر عبارة عن حقيقة ذات منشأ إلهي، وتبلّغ للناس عن طريق العظماء، أمثال: الأنبياء، والأوتاد([15]). وعلى هذا الأساس يرى نصر أن التمثُّل بالإنسانية يكمن في الوقوف بين يدي الله، سواء كنا نعلم بهذا الأمر أو لا. وبناءً على ذلك فإن وجودنا ليس سوى ردّة فعلنا على الأمر الإلهي بالصيرورة، ووجود الإنسان بحدّ ذاته هو مجرّد إجابة لله تعالى، والصيرورة إلى إنسانٍ حقيقي يعني العلم بهذه الحقيقة الأساسية، وهي: مَنْ نحن؟ فإذا لم تكن لدينا درايةٌ كاملة بهذا الموضوع سنجد أنفسنا كبشرٍ من حيث الصُّدْفة، وليس من حيث الحقيقة. فالإنسان الحقيقي يستلزم العلم الكامل بهويّته([16]). ويصرّ السيد نصر، من خلال نظرية السنّة، على إحياء الحكمة الخالدة في هذا الزمان؛ لأنه يعتقد أن المسافات المقطوعة للفلسفة الجديدة وصلت باعتراف الكثيرين من أتباعها إلى طريقٍ مسدود([17]). أقوال السيد نصر هذه تشبه إلى حدٍّ كبير أقوال هومري؛ لأنه أوّلاً: ليس من المعلوم بأيّ منهج يريد أن يثبت الادّعاء القائل: إنّ سنّة التقليديين هي نفس سنّة الأنبياء؟! وكيف أن هذه السنّة موجودة في الإسلام، وكذلك في الأديان الموجودة في العالم؟! والظاهر أنّ هذا الادّعاء مقرونٌ بشيءٍ من الذوق، ويفتقد لأيّ برهان. وعلى هذا الأساس فإن كلا التيّارين: المجدِّد؛ والتقليدي، يخالفون هذه المقولة.
اعتراض التيار الحداثوي والمتجدِّد جاء على خلفية رأيٍ خاصّ يحمله التيار التقليدي بخصوص الحداثة؛ ومخالفة التيار التقليدي للمدرسة التقليدية سببه التوجُّه المفرط للمدرسة التقليدية للعرفان والأديان الشرقية، وعدم اهتمامها بالفقه والشريعة.
ولا أعرف كيف يريد السيد نصر أن يجمع بين العرفان الإسلامي الأصيل، القائم على الشريعة، والعرفان الفاقد للشريعة، والقائل بالتناسخ، وعشرات العناوين الأخرى التي تتعارض مع الدين الإسلامي، ويقول: إن الأصل فيها جميعاً هو الحكمة الخالدة والسنّة.
وحتّى مقولة الحكمة الخالدة هذه تعاني هي الأخرى من أوضاع مؤسفة؛ ذلك أن التقليديين لم يتعرَّضوا لتوضيح قواعد وأصول الحكمة الخالدة. وقولهم: إن الحكمة المتعالية هي واحدة من أنواع هذه الحكمة ليس كافياً. الإشكال المهمّ الآخر المسجَّل على التقليديين أنه لو سلَّمنا بفرضية هذه النظرية القائلة بوحدة الوجود، وهي من أصول الحكمة الخالدة، يجب أن ننكر الإله المشخَّص، في حين أن تعاليم الدين الإسلامي تتحدَّث عن إله مشخَّص.
2ـ الشريعة غير الفاعلة ــــــ
على مستوى القول يؤكِّد الدكتور نصر على تمسُّكه بالشريعة، وضرورة تطابق الأعمال الحياتية معها([18]). فهو يرى أنّ الشريعة أو القانون الإلهي للإسلام يحظى بمركزية أساسية في الدين الإسلامي، بحيث يمكن القول: إن المسلم يعني ذلك الشخص المؤمن بمصداقية الشريعة، حتّى لو لم يكن قادراً على العمل بجميع أحكامها وتعاليمها. ويقسِّم محتوى الشريعة إلى المواضيع المرتبطة بالعبادات والمعاملات. ويعتقد أنه يمكن من خلال دراسة المواضيع التي تمّ تناولها في هذه الأبواب والمقولات يمكن أن نرى بوضوحٍ أن الشريعة لا تقتصر في شمولها على المسائل ومواضيع الحياة الدينية الشخصية، أو حتّى الحياة الدينية للمجتمع الإسلامي فحَسْب، بل تشمل جميع أوجه النشاط والحياة الإنسانية، مثل: الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضاً. ويشير الدكتور نصر في تتمّة كلامه إلى نماذج من المواضيع الأخلاقية والحقوقية والمعاملات والمسائل الاجتماعية والأسرية والاقتصادية والسياسية للدين الإسلامي، ووصيّة الإمام عليّ× لمالك الأشتر([19]). وبناءً على ما يقوله الدكتور نصر فإنّ التقليديين يحترمون جميع جوانب أيّ سنّة ودين، بدءاً من الفقه، وصولاً إلى العرفان والحكمة. ويسري هذا الأمر عنده على الإسلام أيضاً. وفي الأديان الأخرى أيضاً لا يمكن السَّيْر نحو وادي العرفان بدون تطبيق الأحكام الإلهية في مجالات الحقوق والفقه([20]). ويرى أتباع التيار التقليدي أن التوقُّع المعقول للإنسان من الدين هو الإرشاد نحو فلاح الإنسان، المقرون بالمعرفة بالحقيقة، وكيفية الوصول إلى ذلك. ونتيجة هذا الإرشاد تتمثَّل بإعطاء الحياة البشرية معناها. وهذا الأمر ضروري لمواصلة الحياة واستمرارها، بقَدْر أهمّية الماء والهواء. إلاّ أنّ الدين يتمنّى هو الآخر على الإنسان أن يؤمن بالأمر القدسي، ويسلّم لمنعم الوجود تسليماً([21]). ولا يوافق السيد نصر على تغيير الدين إلاّ إذا أراد الشخص أن ينتقل من الدين الكاذب إلى دين الحقّ، أو من الدين الذي فقد جوانبه الروحية والمعنوية إلى الدين الذي ما زالت فيه إمكانية الوصول إلى الحقّ. وبناءً على قوله فالدين في المجتمع الإسلامي التقليدي، وكذلك في الأديان الأخرى، قريبٌ جدّاً من الدولة والمؤسّسات السياسية للمجتمع. وإنّ تغيير الدين يعدّ بمثابة الخيانة للمجتمع، وجزاؤه الإعدام، ليس في الإسلام فقط، بل في الكثير من الأديان الأخرى أيضاً. ويرى أنّ خاتمية الدين الإسلامي يعدّ أمراً منطقياً، بمعنى أن تاريخ البشرية ليس بلا نهاية؛ فله بداية ونهاية، ومعنى الخاتمية هنا أنه سوف لن يأتي بعد ذلك نبيٌّ بمعنى النبيّ المرسَل، ودين جديد كالدين الإسلامي والمسيحي والديانة البوذية، إلى نهاية التاريخ. ولا بُدَّ من القول: إن الدين الإسلامي يحظى بمكانةٍ متميِّزة بين باقي الأديان الأخرى؛ ذلك أن الجوانب العقلية والمعنوية الروحية، وخاصّة التصوُّف والعرفان، تمتلك في الدين الإسلامي النصيب الأوفر لاستقطاب المخاطَبين الجُدُد، وخاصّة في الغرب، وكذلك في الحفاظ على الشباب المسلم في أحضان عالم الإيمان([22]).
ويرى الدكتور نصر في التقسيم التقليدي للشريعة والطريقة والحقيقة، يرى أن الحقيقة هي التي تؤدّي إلى إشباع الرغبات المعنوية للإنسان المتحضِّر؛ ذلك أن أفكار الإنسان مليئة بالمفاهيم المعادية للسنّة، وأعماله خالية من الأمر القُدْسي. وبناءً على ذلك يجب أن نبدأ بالحقيقة. والفرد الغربي إذا لم يؤمن بالحقيقة لن يذهب إلى العمل بالشريعة. ومن هنا فالهاجس الأكبر للسيد نصر يكمن في نطاق المواضيع المعنوية في الإسلام، أكثر منه تجاه المسائل السياسية والاجتماعية في الدين الإسلامي؛ لأنّه أوّلاً: كما سبق أن قلنا: هو لا يرى التمسُّك العملي بجميع الأحكام الشرعية شرطاً في إسلامية الفرد، كما هو شأن البعض من الفرق الصوفية، ويقول بكلّ صراحة، دون الالتفات إلى روايات أهل البيت^ في باب السياسة: «إن الله سبحانه وتعالى رأى؛ وبناءً على حكمته، أنه من الأفضل أن لا يعرض في القرآن الكريم الأحكام اللازمة لتأسيس مؤسّسة سياسية واحدة بشكلٍ صريح ومحدَّد؛ لاتّباعها على مدى القرون بدون تغيير»([23]).
وهنا نقول: ألا يمكن التوصل إلى النظام السياسي للإسلام من خلال القواعد والأصول الحاكمة على السياسة في القرآن، وكذلك قواعد أصول الفقه التي أشار لها الدكتور نصر في كتاب (قلب الإسلام) باعتبارها فلسفة الفقه في الدين الإسلامي، وكذلك الروايات الكثيرة لأهل البيت في باب أحكام الولاة؟
ممّا لا شَكَّ فيه أنه يمكن التوصُّل إلى إجابةٍ مناسبة على تشكيل المؤسّسة الحكومية من خلال الاستعانة بالروايات وفقه السياسة. فالسيد نصر؛ بلحاظ ميوله المفرطة للتصوُّف والأمور المعنوية، لم يكن قادراً على التفكير في السياسة والنظام السياسي والفقه السياسي في الإسلام. وبالرغم من أن التحوُّلات الطارئة على خلفية انتصار الثورة الإسلامية في إيران وأحداث الحادي عشر من سبتمبر أدخلته إلى هذا المعترك إلى حدٍّ ما، إلاّ أن تعمُّقه في التصوُّف لم يسمح له حتّى الآن أن يدخل إلى هذا الميدان([24]). إلاّ أن السيد نصر يعارض العلمانية، والمنهج الذي يتبنّاه التيار الفكري الديني الحديث في فصل الدين عن السياسة، ويؤكِّد على ترابط الدين والسياسية، ولكنّه يقول بنظام الحكم المَلَكي، بَدَلاً من نظام ولاية الفقيه([25]). ومن الجدير بالذكر أن المؤلِّف لا يريد أن يعمل على إيجاد التعارض بين العرفان والمعنوية من جهةٍ والسياسة والفقه السياسي من جهةٍ أخرى، بل إن واقع الأمر يكمن في أنه يمكن الجمع بين نموذج من عرفان أهل البيت والفقه السياسي لأهل البيت، كما جمعت هاتين المقولتين في شخصية الإمام الخميني&، إلاّ أن التصوف الشائع في تاريخ الإسلام، وهو مزيجٌ من التصوُّف الهندي والشرقي، لا يستطيع الانسجام مع الفقه السياسي والاجتماعي. والنقطة الجديرة بالاهتمام أن المنظومة الفكرية للدكتور نصر، وتأمُّلاته التقليدية، لا ينبغي تحجيمها بالمعرفة القدسية المبنيّة على الأمور المعنوية، واعتبار نظريته الإسلامية والنظرية العلمانية من نَمَطٍ واحد؛ لأنه عندما أصدر كتابه قلب الإسلام (The Heart of Islam)، والذي تم تأليفه بطلبٍ من دار نشر هاربرسن فرانسيسكو، بيَّن أن الحركات الإسلامية في فلسطين والشيشان وكوسوفو وسريلانكا وإفريقيا الغربية والجزائر والبوسنة هي عبارةٌ عن دفاع مشروع عن القيم الدينية والثقافية، ويرى أن الإسلام يقف بإزاء العلمانية في مختلف المجالات العقائدية والسياسية والأخلاقية والعرفانية والحقوقية والفقهية. وحَسْب اعتقاد السيد نصر فالحياة بما يطابق تعاليم الشريعة، سواء كانت بالشكل أو بالمضمون، تعتبر حياة أخلاقية بكلّ معنى الكلمة. وحَسْب قوله: لا يمكن أن نفصل دائرة السياسة عن دائرة الدين؛ بمعنى أنه لا ينبغي دفع الدين إلى الانزواء، كما حصل للكنيسة في الغرب([26]). حتّى أنه يقرأ الجهاد بمعنى الدفاع عن دار الإسلام، والدفاع عن العالم الإسلامي ضدّ الغزو وتدخُّل القوّات غير المسلمة، ويعتقد أن التفسير الخاطئ للجهاد دفع الغرب إلى أن يصف الإسلام بأنه دين السَّيْف، ولكنْ في الحياة المعنوية يمكن أن نصف الكمال بأنه بمثابة جهاد النفس([27]). ولكنْ بالرغم من كلّ ذلك يجب أن لا نغفل عن أن السيد نصر هو شخصٌ تقليدي ومعنوي، ويسيطر عليه هاجس الأزمة المعنوية التي يعاني منها العالم المتحضِّر أكثر من أيّ شيءٍ آخر، ولذلك لا يتطرَّق إلى المواضيع الاجتماعية والسياسية للإسلام بقوّة اهتمامه بالمواضيع المعنوية.
3ـ نظريّة الحكم المَلَكي الديني ــــــ
أحد الآراء التقليدية الأخرى للسيد نصر هو قبوله بالنظام المَلَكي، فهو يقول بهذا الصدد: «على مدى التاريخ الإسلامي ظهر في البداية نظام الخلافة، ومن ثم النظام المَلَكي في النظام الإسلامي لأهل السنّة. ولم تقبل الشيعة بنظام الخلافة كنظامٍ سياسي، ولكنَّها قبلت بنظام السَّلْطنة أو المَلَكية، باعتبارها شكلاً من الحكومة الأقلّ نقصاً في مرحلة غيبة الإمام×. هذه النظرية كانت موجودة حتّى في المؤلفات الأولى للسيد الخميني، قبل أن ينطلق لمعارضة النظام المَلَكي، لصالح المفهوم الجديد «حكومة ولاية الفقيه». وعلى أيّ حال فالحاكم في جميع أشكال الحكومة [في الإسلام] كان يسعى إلى كسب المشروعية من خلال الدفاع عن الشريعة، والحصول على دعم العلماء، أو على الأقلّ التظاهر بذلك»([28]).
وهذا الادّعاء للسيد نصر بعيدٌ هو الآخر عن الواقع، ويعدّ نوعاً من التبرير لعقيدته. فبما أنه يؤمن بالنظام المَلَكي، وكان وفيّاً ومخلصاً له من الناحية العملية، نراه يسعى جاهداً لينسب أقواله وأفعاله إلى المذهب الشيعي، متناسياً أنّ أيَّ فقيه لم يؤيِّد النظام المَلَكي بلحاظ المعرفة الدينية، ولم يفرِّقوا بين الخلافة والسَّلْطنة بلحاظ عدم امتلاكهما للمشروعية.
وعلى سبيل المثال: يقول الشيخ المفيد(413هـ) في المقنعة، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «تنفيذ حدود الإسلام وأحكامه بيد سلطان الإسلام، المنصوب من قبل الله تعالى. والمراد بالسلطان أئمّة الهدى من آل محمد‘، أو المنصَّبين من قبلهم. وأوكل الأئمة هذا الأمر إلى فقهاء الشيعة؛ لكي يتحمَّلوا مسؤولية تطبيقها إنْ أمكن ذلك»([29]).
ويقول حمزة بن عبد العزيز الديلمي(448هـ)، المعروف بـ (سلاّر الديلمي)، في كتاب المراسم: «تطبيق الأحكام والحدود بين الناس موكولٌ أمرها إلى الفقهاء. وكلّ الشيعة مأمورون بمساعدة الفقهاء على إقامة هذه الأمور»([30]).
ويقرّ القاضي عبد العزيز الحلبي(481هـ)، المعروف بـ (ابن البرّاج)، في كتاب المهذّب بأنّ تولّي أمر الحكومة، وإقامة الحدود بين المسلمين، لو كان بإذنٍ من الإمام العادل لا إشكال فيه([31]).
كما أنّ الفقهاء الآخرين، كشيخ الطائفة الطوسي(460هـ)، وابن حمزة عماد الدين الطوسي(550هـ)، ومحمد بن إدريس الحلّي(598هـ)، خصَّصوا منصب القضاء للفقيه الجامع للشروط بصريح العبارة([32]).
ويشترط العلاّمة الحلّي(726هـ)، في «تذكرة الفقهاء» و«القواعد»، في باب القضاء، وإقامة الحدود، أن يكون الفقهاء في زمن الغيبة مأذونين من قبل الإمام المعصوم×؛ وفي كتاب «مختلف الشيعة»، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يثبّت الولاية العامة للفقيه، بالتمسُّك بمقبولة عمر بن حنظلة، وسائر الروايات([33]).
ويقول المحقِّق الكركي، المعروف بـ (المحقِّق الثاني)(940هـ): إن فقهاء الشيعة متَّفقون على أن الفقيه الجامع للشرائط هو نائب عن الأئمّة المعصومين^ في جميع الأمور التي للنيابة دخلٌ فيها([34]).
وتحدَّث المقدّس الأردبيلي(993هـ)، في مواضع مختلفة من كتاب مجمع الفائدة والبرهان، عن النيابة العامّة للفقهاء، ويقول: إنّ الفقيه له النيابة الأصلية لولاية الإمام×([35]).
كما أن السيد محمد بن عليّ الموسوي العاملي(1009هـ)، والملاّ محسن فيض الكاشاني(1091هـ)، والسيد جواد بن محمد الحسيني العاملي(1226هـ)، والمحقِّق النراقي(1245هـ)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والشيخ محمد حسن النجفي(1266هـ)، والشيخ الأنصاري، والحاج آقا رضا الهمداني(1322هـ)، والسيد محمد بحر العلوم(1326هـ)، والسيد البروجردي([36])، من أعاظم الفقهاء البارزين الذين دافعوا أيضاً عن ولاية الفقيه الجامع للشرائط وحكمه.
كما أن الموضوع الذي ينسبه السيد نصر للإمام الخميني& ليس صحيحاً؛ ذلك أن الإمام يؤكِّد، في كتاب كشف الأسرار، على أن المجتهدين؛ وانطلاقاً من أنّ النظام المتهالك أفضل من عدم وجوده، لم يُعْلنوا عن معارضتهم أبداً للنظام المَلَكي، ولم يطالبوا باستقلال الممالك الإسلامية، مع كون الحكومة جائرة، وتعمل ضدّ التعاليم الإلهية. وعلى الرغم من أن جميع الحكومات، باستثناء الحكومة الربّانية، هي حكومات جَوْر، وضدّ مصلحة الناس، فإن عدم معارضة العلماء لهذه الحكومات يأتي على خلفية حاجة الناس إلى الأمن والنظام([37]). هذا الطرح للإمام الخميني يبيِّن لنا أن فقهاء الشيعة؛ وبسبب وجود مصلحةٍ أقوى، يختارون السكوت، أو كانوا يتعاونون أحياناً من أجل المنافع الاجتماعية والدينية، بالرغم من عدم مشروعية تلك الحكومة. فالإمام علي×، ورغم أنه كان يعتبر الخلافة مغصوبةً، كان يتعاون مع الخلفاء من أجل مصالح المجتمع، وكان يساعدهم على توسيع رقعة الدولة الإسلامية. وتاريخ الإمامة حافلٌ بمختلف المواقف، بين المدّ والجزر، والأخذ والعطاء، والتعامل المتباين، التي لا يمكن أن نجد لها تفسيراً إلاّ من خلال المصلحة العليا للمجتمع.
وعلى سبيل المثال: كان الإمام عليّ× غير راضٍ عن كيفيّة انبثاق الخلافة، وامتنع عن مبايعة أبي بكر، معبِّراً عن معارضته لهذا الأمر. وكان يذهب ليلاً مع فاطمة الزهراء÷ إلى بيوت الناس في المدينة؛ لتعريفهم بالولاية. ولكنْ مع ذلك عندما وجد الإمام نفسه أمام دعوة أبي سفيان، الذي دعاه للبيعة، وما اقترحه على الإمام× بقوله: «ابسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئْتَ لأملأنَّها عليه خيلاً ورجلاً»، امتنع الإمام، وردَّ عليه بالقول: «ارجع يا أبا سفيان، فوالله ما تريد الله بما تقول، وما زلْتَ تكيد الإسلام وأهله»([38]). وعندما شعر× بالخطر المحدق بكيان الإسلام، وشاهد المجاميع المرتدّة، والمانعين للزكاة، ومحاصرة المدينة، بايع الخليفة، وقال: «فأمسكت يدي حتّى رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد‘، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثَلْماً أو هَدْماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فَوْت ولايتكم»([39]). ولهذا السبب شارك الإمام× في الدفاع عن المدينة في الحرب ضدّ المرتدين([40])، ورفض أن يخرج جيش أبي بكر من المدينة([41])، وساعد أبا بكر في الحرب ضدّ الروم، وقدم النصح والمشورة للخليفة الثاني عند اتّخاذ القرارات([42]).
والخطأ الآخر للسيد نصر يرجع إلى رأيه بثورة الإمام الخميني، فقد ظنّ أن حركة الإمام الخميني& وثورته إنما هي وليدة إيمان الإمام وتمسُّكه بالعرفان النظري والتصوُّف العملي، وأن الإمام بمطالعته العرفان النظري والرياضة الروحية والعرفان العملي، والاستفادة من أساتذة العرفان النظري، بلغ مرحلة العودة إلى الخلق بمعيّة الحقّ، وشرع بحركته السياسية([43]). في حين كان لفقه الإمام دورٌ كبير في ثورته، فضلاً عن عرفانه.
4ـ نظريّة وحدة الأديان ــــــ
نظرية وحدة المضمون والكثرة الخارجية للأديان في مدرسة نصر عبارة عن نظرية تقليدية قديمة، وليست جديدة، ولا بدعة، بل هي نظرية قديمة، لها جذورٌ عميقة في الأديان القديمة. فهو من خلال دراسته للأديان البدائية أو المحلية، مثل: الشامانية وأديان أمريكا الشمالية، والشينتوئية، والأديان المحلّية لأمريكا الشمالية، والأديان الإفريقية، والأديان المصرية، والتعاليم الدينية للشرق الأقصى، أي التائوية وديانة الكنفوسيوس، والديانة الهندوسية، والديانة البوذية، والديانة الزرادشتية، والأديان اليونانية، والأديان الإبراهيمية، أي الدين اليهودي والدين المسيحي والدين الإسلامي، يتوصَّل إلى أنّ هناك علماً كونياً خالداً موجوداً في جميع هذه الأديان([44]). ويرى السيد نصر أن كلّ دينٍ هو عبارةٌ عن حقيقةٍ مطلقة؛ ولكنّ المطلق في المفهوم الأسمى من الأشكال المتجلِّية ضمن حدود كلّ دينٍ خاصّ؛ أي إن وحدة الأديان وجوهرها الحقيقي مطلق، ولكن تجلياتها وأشكالها المتعدِّدة وكثرتها نسبية، وحَسْب تعبير شوان: إنه يقول بالإطلاق النسبي. ومن أجل أن ينجو من هذا الخطأ المنطقي يقول: كلّ تجلٍّ من تجلِّيات كلمة الله أمرٌ خاصّ بذلك المجتمع الديني الخاص، نزل من أجل هدايته([45]). هذا الرأي، وكما سيأتي في المواضيع اللاحقة، مخالفٌ للمنطق، ويتعارض مع آيات القرآن أيضاً؛ إذ كيف يمكن القول بأن المعاد والحياة بعد الموت في عالمٍ آخر يعتبر تجلِّياً لكلمة الله من جهةٍ واعتبار نظرية الحلول حقّاً وتجلِّياً إلهيّاً من جهةٍ أخرى؟! وكيف يمكن القبول بشمولية الإسلام ودوره المرشد لجميع الناس وفي مختلف العصور، وهي من بديهيات الإسلام وضرورياته، والقول أيضاً بأن الأديان الأخرى هي تجلِّيات إلهيّة؟!
وتجدر الإشارة إلى أن السيد نصر لم يحدِّد بقوله: إنّ المراد بالتجلِّيات الإلهية التجلِّيات التكوينية، وفي تلك الحالة سيصبح الشيطان وجميع أنواع الوثنية وعبادة الشيطان من التجليات التكوينية لله تعالى هي الأخرى، ولكنْ لا يمكن أن نستنتج منها التجليات التشريعية بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولا الإقرار بمصداقية الأديان الموضوعة من قبل الإنسان، والاعتراف لها بالدور الإرشادي. ولو أن السيد نصر راجع المصادر العرفانية بدقّةٍ لعلم أن أيّ كشف أو شهود ليس بحجّةٍ؛ فالكثير من المكاشفات العرفانية هي وليدة الأفكار الشيطانية. وبناءً على ذلك يجب على العرفاء أن يعرضوا شهودهم على القرآن والعقل؛ للتمييز بين الكشف المتَّصل والكشف المنفصل؛ لكي يقبلوا بها في حالة التوافق، أو يطرحوها في غير هذه الحالة([46]). الأمر الآخر أن التباين الباطني للأديان أقلّ من اختلافاتها الظاهرية، وإنّ عدم الاكتراث للاختلافات الباطنية المهمّة للأديان ليس دليلاً على وحدة الأديان.
5ـ نظريّة الكثرة الدينيّة ــــــ
ولكي يفسّر السيد نصر كثرة الأديان الإلهية والبشرية، وحتى الأديان المحرّفة والأديان الوثنية، فإنه يعتقد بأن الذات المطلقة للواحد الأحد لن تتجلّى بصورةٍ واحدة في جميع الأديان؛ إذ تتجلى الحقيقة في الأديان المختلفة تارةً بشكلٍ أسطوري؛ وتارة أخرى بصورة توحيد مجرّد. وأحياناً تتجلى أسماؤه وصفاته بأشكال وأصوات اللغة المقدّسة، وأحياناً أخرى تتجلّى بصورة أرباب أنواع مقدّسة، هي مظاهر للقوى الإلهية.
ولدعم نظريته يتمسّك ببيت شعري للشبستري، ومعناه: لو كنت تدري ما الصنم يا مسلم لقلت: إن الدين في عبادة الأوثان([47]).
كما نراه يتمسّك في البعض من مؤلَّفاته بالبيتين التاليين، ومعناهما: ليس من حدٍّ لدين الحقّ في الظهور، يتلألأ علينا كالماء الطهور، فيبدو أحياناً بأشكال الأوثان، ويتجلّى أحياناً على جبل النور([48]).
ويتّضح لنا ممّا تقدّم أن السيد نصر يؤمن بنظرية الكثرة الدينية، ولكنْ بالفارق الذي سنشير إليه. فهو يقول: نحن نتحدّث عن الوحدة السامية للأديان، ونرى هذه الوحدة في عالم ما وراء الصورة، في حين أن الحقيقة التي وراء الصورة تتجلّى في عالم الصور والتعيينات، وفي ذلك العالم تتلوّن بالكثرة، بدون أن تزول الوحدة. وفي عالم الكثرة يمكن الحديث عن قرابة الأديان المختلفة، وكأنّها كأفراد الأسرة الواحدة، كالأديان الإبراهيمية والهندية وغيرها. اسمحوا لنا لنأتي بمثالٍ يوضِّح هذه الإجابة: لو اعتبرنا نور الشمس يمثّل رمز الحقيقة السامية للأديان، فعندما ينكسر هذا النور ينقسم إلى ألوانه المختلفة، وهي كلّها نور، ولكن أحدها أخضر، والآخر أحمر، وقِسْ على هذا. ولكنْ نكتشف فيما بعد أن هناك تقارباً بين بعض الألوان، كالبني والأحمر، أو البنفسجي والأزرق، ويمكن الحديث بشكلٍ معقول عن هذه القرابة الملحوظة بواسطة عيوننا، بدون أن ننكر نور الأحد الذي لا لون له([49]). ويقول: «أتباع الحكمة الخالدة وفلسفة ما وراء الطبيعة يعارضون في نفس الوقت أتباع النسبية، القائلين بأن جميع الأديان نسبية ومصاغة من قبل المجتمعات البشرية، وليس لها مصدر إلهي لتمنح الصفة المطلقة لكلّ دين، وكذلك الذين يرَوْن أن دينهم فقط على الحقّ، وأن الأديان الأخرى خالية من الحقيقة»([50]).
وهو متَّفق مع جان هيغ في مسألة الكثرة الدينية، ويختلفان في المنهج فقط. فمنهج السيد نصر في مسألة الكثرة وتعدُّد الأديان هو في الفلسفة الخالدة، في حين أن هيغ توصَّل إلى هذه النظرية عن طريق المنهج الاستقرائي، والمعرفة الكانتية. ويرى هيغ أن الأديان الكبرى في العالم تمثِّل صوراً من تجربة الحقّ تعالى؛ أي إن هيغ يرى في صور التبلور المتنوّعة للحقيقة الدينية في كلّ عالمٍ من العوالم أنها بمنزلة ردّ الفعل الإنساني على الحضور الإلهي؛ إلاّ أن السيد نصر يرى أنها تمثِّل بيانات إلهية في ظلّ الأوضاع والأحوال الإنسانية المتنوّعة. بَيْدَ أن نصر لا يعتقد هو الآخر بأن كلَّ بيانٍ من الإلهيّات الإسلامية، أو أيّ إلهيات أخرى، وحيٌ إلهي، وإنّما يعتقد أن المناسك والنصوص المقدّسة، وبعضاً من البيانات الإلهية الأساسية، في إطار أيّ دينٍ من الأديان مقدّرةٌ بتقديرات إلهية. وعلى أيّ حال لا يوافق السيد نصر على نظريّة هيغ هذه، القائلة بأن بيانات الأديان عبارة عن ردود فعل إنسانية صرفة على الذات الغائية. ولهذا السبب لا يعتقد السيد نصر أيضاً، كما هو شأن هيغ، بالمصداقية المطلقة والحصرية، ومصداقية أفضلية الأديان على بعضها البعض، ويؤكِّد على جرح وتعديل هذه النظرية. لا يسمح نصر للأفراد العاديين بالتخلّي عن دينهم، ويؤمنوا بدينٍ آخر؛ بسبب المصداقية النسبية للأديان، معتبراً أن العيش في ظلّ أكثر من عالم ديني أمرٌ غير ممكن للأفراد العاديين. ولكنْ يمكن أن يحصل ذلك للأفراد الذين وصلوا إلى نهاية الطريق.
والملفت أيضاً أنّ نصر يواجه شبهة أساسية، وهي أنه طبقاً لما جاء في القرآن الكريم فإنّ عيسى المسيح× هو في الحقيقة نبيّ، وليس ابن الله، وهناك خَلْطٌ ولبس في هذا الموضوع بالنسبة للمسيحيين؛ ولكنْ كيف يسمح الله تعالى بأن يعيش أتباع أحد الأديان الرئيسة في العالم، والذي يرى فيه عشرات الملايين من الناس طريق خلاصهم وفلاحهم بأن يعيشوا لمدّة ألفَيْ عام في الظلال، على الرغم من حكمته وعدالته التي لا حدَّ لها؟
وعند مواجهته لهذا التساؤل لا يرى نصر بُدّاً من المضيّ قُدُماً على أساس الحكمة الخالدة، ويرى في تفسير المسيحيين هذا عن عيسى المسيح× أنه مشيئةٌ إلهية، وجانب من تجلِّيات الحقّ تعالى.
إلاّ أن هيغ لا يوافق نصر في تفسيره هذا، ويقول: إن المسيحيّين في جميع الكنائس يؤمنون بالربّ الأب، وإن عقيدة التثليث هي العقيدة التي ابتدعها العلماء فيما بعد، أي إن المسيحيين أقرب في العمل إلى عقيدة المسلمين.
وعلى أساس قاعدة التجلِّي يرى السيد نصر أن كلا الوصفين المختلفين للمسيحية والإسلام بشأن عيسى المسيح هما عبارة عن نوعين مختلفين من التجلِّي للحقّ تعالى، ولا يجد في ذلك مشكلة معرفية ومنطقية خاصّة. ويقول في حكمة هذين التجلِّيين: «لقد كانت المسيحية مضطرة إلى أن تخلّص عالماً متّجهاً نحو الفناء؛ بسبب المنهج العقلي والمنهج الطبيعي. ومن هنا كان من اللازم أن يقدّم نفسه بعنوان طريق العشق والإيثار؛ ليعطي إجابةً على الفلسفة السفسطائية وفلسفة الشكّ الغائرة في القدم لعدّة قرون، والتي كانت قائمة على النضج والتطوّر بمستوى الإفراط العقلي، وبعيدة تماماً عن الحضور الفاعل لله تعالى». ولكنْ في ما يتعلَّق بالإسلام كان السيد نصر يرى أن الإسلام دخل إلى عالمٍ كثير التناقض، ولم يكن مجبراً على مواجهة القائلين بأصالة الأنا والسفسطائيين والعقليين في مكّة. والحقيقة أن الإسلام قد جاء لإعادة ترسيخ الرأي بخصوص الوحي الإبراهيمي، الذي كان يؤدّي فيه السيد المسيح أيضاً دوراً فاعلاً ومؤثِّراً. وهذا القول يعني أن السيد المسيح كان يؤدّي دورَيْن في هذه العوالم الدينية المختلفة: أحدهما: دوره في الإسلام، باعتباره آخر شخص في سلسلة الأنبياء من آل إبراهيم يظهر قبل نبيّ الإسلام‘؛ والدور الآخر: هو دور المخلِّص الوحيد للناس الذين لا يمكن خلاصهم بأسلوبٍ آخر.
هذا الكلام يطرحه السيد نصر المؤمن باللغة الواقعية للدين، بالرغم من قوله: إنّ اللغة لا تعطي الموضوع حقَّه في ما يتعلَّق بالذات الغائية.
ولكنْ على أيّ حال يرى السيد نصر، كما هو هيغ، أنه ليس من دينٍ يمثل الحقيقة الوحيدة.
هذا في الوقت الذي يعتقد فيه هيغ أنّ العلم الحديث أثبت بأن الادعاءات الحصريّة لعيسى×، وقوله: «ليس بوسع أحدٍ أن يقترب من الأب إلاّ عن طريقي»، تعدّ من الأمور التي لم يذكرها عيسى×، وأنّ أحد الكتّاب ذكر هذه الإلهيات بعد حوالي ستين أو سبعين عاماً من بعد عيسى×، ولو كنا ممَّنْ يقول: إنّ هذا الأمر من تجلّي الحقّ بلا واسطة ففي هذه الحالة يجب أن يكون الدين المسيحي هو الدين الكامل الوحيد.
ويقول نصر في ردّه على هيغ: إن نبيّ الإسلام‘ قال أيضاً: «مَنْ رآني فقد رأى الحقّ»؛ ولكنّ القولين موجّهين لمجتمعٍ بشريّ خاصّ نزل له الدين الخاصّ، أي إن السيد نصر ينكر عالمية الدين الإسلامي أيضاً([51]). ولكنّه يطرح في موضعٍ آخر ادّعاءً ضعيفاً، وبالإضافة إلى قبوله بالوحدة السامية للأديان يقول: إن المسلم الذي يظنّ أن هذا الموضوع مخالف للقرآن يجب أن يعلم أنه لم يقرأ القرآن بشكلٍ صحيح؛ إذ لا يوجد أيّ كتابٍ مقدَّس عالمي الصفة بحجم القرآن الكريم. وقد قال القرآن: لقد اصطفينا رسولاً واحداً إلى جميع البشر، ولا زلنا نحن أيضاً على هذه السنّة القديمة، والدين الإسلامي الذي يعتبر آخر دين للبشرية. وهذه بالضبط هي فكرة عالمية الوحي وشموليته([52]). كما أن بعض الكتاب يصابون بالدهشة عندما يرَوْن أن أحد رجال الدين المسيحيين يبادر إلى إصلاح الديانة المسيحية من خلال تبرُّؤه من التثليث؛ ولكنْ يقوم عالم مسلم بنصيحة المسيحيين بعدم التخلّي عن تلك العقيدة([53]). ولا يوضِّح لنا السيد نصر كيف يتمّ صلب السيد المسيح× في مرحلة معينة من المعرفة، وفي المرحلة التالية لا يصلب، بالرغم من وجود عدّة مراحل للمعرفة([54]).
وعلى أيّ حال ليس بإمكان السيد نصر أن يجمع بين نظريّة مصداقية الأديان المختلفة والمعتقدات الشرقية والهندية والكثرة الدينية وبين استحالة اجتماع النقيضين وعالمية الدعوة الإسلامية ونظرية نسخ الأديان الأخرى ببعضها البعض.
وبرأي السيد نصر فإن مسألة تنوُّع الأديان عبارة عن مسألة ميتافيزيقية، ومتعلِّقة بعلم الوجود. ويتطرّق إلى تفسير تعدُّد الأديان بقواعد الفلسفة الخالدة.
ويبدو أن موقف هيغ، القائم على اعتبار ظاهرة الدين أمراً إنسانياً، ورأي نصر، القائل بأنّه من الوحي، هما رأيان متطرِّفان. إلاّ أن هيغ يوافق على واقعية الحقّ، ولكنّه يعرِّف الدين بأنّه ردّة فعل إنسانية. فالإلهيات الموجودة لا هي مصاغة بشكلٍ كامل من قبل الإنسان، ولا مصدرها الوحي الإلهي بشكلٍ كامل. ولهذا السبب نجد أن الله تعالى بعد أن ينزل شريعة معيَّنة، وهداية الناس بتلك الشريعة، يقوم بإنزال شريعةٍ أخرى أكمل من سابقتها؛ لكي يُقبل الناس على الشريعة الجديدة باختيارهم الواعي. ولكنْ إذا لم يقع هذا الاختيار فهذا كلامٌ آخر، ولا ينبغي اعتبار ما يحرِّفه البشر تجلِّياتٍ إلهيّةً. والأديان الإبراهيمية ـ وليس الأديان الشرقية والهندية التي لا يوجد لدينا دليلٌ على مصداقيتها ـ هي تجلِّيات لله سبحانه وتعالى؛ ولكنّ السنن الدينية لتلك الأديان طالتها أيدي التحريف على مرّ التاريخ. وحسب تعبير أحد الباحثين: يمكن القول أمام شبهة ضلال المسيحيين لمدّة ألفَيْ سنة: ليس بعيداً عن عدالة الله تعالى أن يسمح ببقاء سنّةٍ معينة في الخطأ والضلال إذا كان ذلك الضلال نتيجة للذنب الذي أراده هو، كما لا يتعارض مع حكمة الله تعالى أن يسمح لسنّةٍ معيّنة بالبقاء لمدّة ألفَيْ سنّة في الضلال إذا كان في هذا السماح خيراً ومنفعةً للخليقة، حتّى وإن لم يكن ذلك الخير والنفع معلوماً للخَلْق([55]). وهذا ما عليه المشيئة الإلهية، وهي أن يرتكب الكثير من الناس الذنوب لعدّة سنواتٍ، ولا يطردهم الله بقدرته اللامتناهية. فالله تعالى أراد بإرادته التكوينية أن يتمّ تطبيق الأديان بواسطة الثقافات المختلفة، ولكنْ لا يوجد دليلٌ منطقيّ يدلّ على أن كثرة الأديان تتمتّع بالمصداقية؛ ذلك أن الإرادة التشريعية تعارض الأديان المتكثِّرة المتولِّدة من الثقافات المتباينة. إن الله سبحانه وتعالى يوجِّه خطابه للناس جميعاً، وكيف يمكن الأخذ بنظريّة التعدُّدية الدينيّة لهيغ بوجود الآيات الكريمة التالية، من قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153)، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 143). كما يعترف القرآن الكريم بأعمال التحريف العَمْدية في الأديان، ويقول على سبيل المثال: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 75)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 78)، وكذا الآية الكريمة: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة: 13 ـ 14).
ومن هنا، كيف يمكن الاعتراف بصدقيّة مختلف الأديان الشرقية والغربية المحرّفة بوجود هذه الآيات الكريمة؟! وكيف يمكن أن تكون حادثة الصَّلْب قد حدثت ولم تحدث أيضاً؟! والمشكلة الأخرى ترتبط بالعبادات والمناسك. وعلى أيّ حال هل أن الصلاة والصيام لكلّ الناس أم أن المسلمين هم المكلَّفون بها فقط؛ لكي يفلحوا؟! وبناءً على ذلك فإن نظريّة الكثرة الدينيّة ليست وحدها غير منسجمة مع تعاليم القرآن الكريم فقط، بل يجب على النظرية التقليدية، وبناءً على المنهج المتقدِّم، أن تعتبر جميع الاختلافات الاجتماعية تجلِّيات إلهيّة، وفي هذه الحالة فإنها لا تبشِّر سوى بتخلُّف المجتمعات. ومن هنا يتوجَّب على التقليديين ان يعتبروا الحداثة أيضاً؛ طبقاً لرؤيتهم، تجلِّياً لله تعالى؛ لأنها تتَّسم بالاستمرار.
المسألة الأخرى أن السيد نصر يوافق على التطوّرات البشرية للأديان، ولكنه لا يعطي معياراً متكاملاً لتشخيص التطورات البشرية والتجلِّيات الإلهية، ويشير فقط إلى معيار استمرار الأديان الإلهيّة، وعدم استمرار الأديان الموضوعة. وبالنسبة إلى التقليديين فإنّ إحدى مميِّزات الأديان الحقيقية هو استمرارها التاريخي، ولكنْ عندما يصل إلى الديانة السيخيّة، وعلى الرغم من أنها ديانةٌ موضوعة ومستمرّة، نجده لا يجيب عن ذلك، معتبراً إيّاها حالةً استثنائية ظهرت من تداخل ديانتين قويتين من الناحية المعنوية، أي الإسلام والديانة الهندوسية([56]).
6ـ العلم المقدَّس ــــــ
أحد المواضيع المهمّة التي تناولها السيد نصر بشكلٍ واسع هي مقولة العلم المقدَّس والعلم الديني. فالمعرفة لدى السيد نصر تختلف عن نظرية المعرفة الجديدة. المعرفة في هذه المقولة لها بعدٌ قدسيّ، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحقّ. وإن الإنسان لكي يتوصَّل إلى ذاته المطلقة يجب أن يلتمس طريقاً إلى عنصر الوعي، وهذا الأمر يتحقّق هو الآخر عن طريق وعيه، ولكن الوعي بحدّ ذاته يتوصل إلى المطلق عندما يستعين برسالة العقل الالهي، أي الوحي (بالمعنى العام للمصطلح)([57]). إنه يؤمن بأن العلوم التقليدية تتسم بوحدة الرأي مع الدين أو الأديان التي ظهرت وترعرعت في أحضان حضاراتها. ففي الحقيقة لم تتسبّب العلوم الجديدة في أفول وزوال الإدراك الديني والفلسفي لنظام الطبيعة في الغرب فحَسْب، بل إنها قضت على العلوم التقليدية تماماً. ولكن على أيّ حال لا يمكن القول: إن العلوم التقليدية ليست من العلوم الخفية فحَسْب، بل هي على العكس من الطبيعة، وقائمة على أساس قواعد ميتافيزيقية تختلف اختلافاً عميقاً مع المقدِّمات الفلسفية للعلوم الجديدة([58]). والمعلوم أن العلوم التقليدية لا حصر لها، كالعلوم المصرية والصينية واليونانية والإسلامية وغيرها. حتّى أن هناك علوماً تقليدية متعدِّدة ضمن نطاق كلّ حضارة خاصة. هذه العلوم قائمة على أساس قواعد ميتافيزيقية محدّدة، تشكل في نفس الوقت أصول الدين، وسنّة تلك الحضارة التي ترعرعت هذه العلوم في أحضانها([59]). ويشير السيد نصر في تتمّة الفصل الرابع من كتاب (دين وطبيعت) [أي الدين والطبيعة] إلى نماذج من المقدّمات واللغة المشتركة في علوم الطبيعيات والطبّ القديم لبعض العلماء الكبار، مثل: جابر بن حيان، وأبو ريحان البيروني، وأبو الفتح الخازني، وآخرين، ويوضح فيه علاقة الرؤية الكونية الدينية بالعلوم التقليدية القديمة. وقد انقرضت لغة الحوار هذه إثر ظهور العلوم الجديدة، وبرزت ظاهرة التصوير الميكانيكي الآلي للعالم، وهيمنة مذهب التسمية على العلوم في عصر النهضة والثورة العلمية([60]). ولا ينبغي اعتبار التيار التقليدي والاتّجاه الفكري للسيد نصر مخالفين للعلم الجديد، بلحاظ تأكيدهما على العلم القدسي، بل يعتقدان بوجوب أن يوضع العلم الجديد في مكانةٍ لائقة حدّدتها الميتافيزيقيا والحكمة الخالدة، ويجب أن يُنظر إلى الله تعالى كمحور أساسي وحقيقة ثابتة، وأن سائر الوجود عبارة عن مراتب لتلك الحقيقة، ويستفاد هذا الأمر من عمق العرفان والوحي الإلهي([61]). ويرى السيد نصر أن العلوم التقليدية هي العلوم التي تتحدّث عن الحقائق، وتعتبر العالم المادي عالماً متدنّياً لا قيمة له، وبهذه الحقائق يمكن إظهار الدرجات العليا. وحَسْب قوله فإننا نهتمّ بالعلم الذي لا يذهب قطبه العيني إلى أبعد من التركيب الروحي ـ الجسمي لعالم الطبيعة المحيط بالإنسان، وقطبه الذهني إلى أبعد من التعقُّل البشري الذي يتمّ تصوُّره بشكلٍ إنساني صرف، ومنفصل عن نور العقل تماماً([62]). إن السيد نصر لا يعارض العلوم الجديدة بشكلٍ كامل، ويعتقد أنه يمكن اعتبار العلوم الجديدة منهجاً وأسلوباً لا بُدَّ منه لمعرفة جوانب معينة من عالم الطبيعة، أي بعنوان منهج أو أسلوب بإمكانه أن يكشف عن البعض من خصائص عالم الطبيعة أو المادة، وليس عن جميع جوانبه وأبعاده([63]). وحسب قوله فإن الفارق الأساس بين العلوم التقليدية والعلوم الجديدة يكمن في الحقيقة التالية، وهي أن الأمر غير المقدَّس في العلوم التقليدية أمر إنساني صرف، وهامشي على الدوام، والأمر المقدَّس محوريّ، في حين أن الأمر غير المقدَّس في العلوم الجديدة أصبح محورياً. وعلى هذا الأساس يمكن الحديث عن العلم المقدس وغير المقدس عند التفريق بين العلوم التقليدية والعلوم الجديدة. ولم يكن هدف العلوم التقليدية هدفاً نفعياً بالمعنى المراد به اليوم أبداً، كما لم يكن من أجل العلم في نفسه؛ لأنه انطلاقاً من أن الإنسان ككلٍّ يتكوَّن في الرؤية التقليدية من الجسم والنفس والروح فإن جميع العلوم التي نشأت ونمت في الحضارات القديمة قامت بتلبية حاجةٍ خاصّة لهذا الكيان([64]). ويعتقد الدكتور نصر أن العلوم الجديدة وقعت تحت تأثير الرؤية الكونية المادية، ونأت بنفسها عن العلوم التقليدية القائمة على أساس الرؤية الكونية التوحيدية، ويقول: لقد أعرضت أوروبا بوجهها عن هذه القاعدة في القرون الوسطى، باستبدال الرؤية الكونية القائمة على محورية الإنسان بدلاً عن الرؤية الكونية القائلة بمحورية الله، أو حَسْب التعبير الديني: بجعل «ملكوت الإنسان» بدلاً عن «ملكوت الله»([65]). إن الدين الإسلامي ينظر إلى العلم نظرةً مقدّسة، باعتبار أن كل علم يرتبط في نهاية الأمر بجانب من التجلِّيات الإلهية([66]). والرؤية التوحيدية للإسلام لم تسمح على الإطلاق بأن تنشأ مختلف أشكال المعرفة بشكلٍ مستقلّ عن بعضها البعض، بل على العكس من ذلك، هناك على الدوام درجات من المعرفة يكون فيها لكلّ شكل من أشكال المعرفة صلة وعلاقة جوهرية مع المعارف الأخرى، بدءاً من الأمور المادية، ووصولاً إلى أرقى أشكال المعرفة الميتافيزيقية، وتعكس معرفة الحقيقة بنفسها([67]). والعلوم التي تستحقّ فعلاً أن تسمى بالعلوم الإسلامية هي التي تكشف عن وحدة الطبيعة؛ بحيث إن المرء عندما ينظر إلى وحدة العالم يتوصّل إلى الوحدة الإلهية الغيبية الحقّة، والتي تمثّل وحدة الطبيعة صورة منها([68]). ومن الممكن ان تبدو العلوم التقليدية عديمة الفائدة في الظاهر، ولكنْ مع ذلك فإنها من أكثر العلوم نفعاً في واقع الأمر؛ لأنه ما الأمر الذي يمكن أن يكون أكثر نفعاً للإنسان من ذلك الشيء الذي يعدّ غذاءً لروحه الخالدة، ويعينه على التعرّف على تلك البارقة الإلهية التي أصبح بيمنها إنساناً([69])؟! وبناءً على رؤية العلوم التقليدية لا يوجد هناك أيّ تباين أو ازدواجية كاملة فيما بين (الفكر والعمل)، أو (الحقيقة والفائدة). ولهذا السبب ففي نفس الوقت الذي تأخذ فيه العلوم التقليدية الجانب العملي بنظر الاعتبار فإن الجانب الكشفي والتأمُّلي أيضاً مأخوذٌ هو الآخر بنظر الاعتبار فيها([70]). ويقول السيد نصر في مسألة الترابط بين العلوم البشرية والعلوم المقدَّسة: بالرغم من أنها علومٌ تتعلّق بالعالم الكوني، بإمكانها أن تصبح بمساعدة (الروح الإلهية) رموزاً ترفع الحجب عن الحقيقة المعنوية، ورؤية الصور، وليس أن تصبح حجاباً لها؛ وأن تعين الإنسان للوصول إلى مقام ومنزلة «رؤية الله تعالى في كلّ مكان» بلطف الله تعالى. وبإمكانها أن تصبح ظهيراً ومعيناً لتطهير فهم الإنسان عن العالم من حوله، وبالشكل الذي يصل فيه المرء إلى المرتبة التي يرى فيها الأمور (في الله)، لا في نفسه([71]). وبالنظر إلى الأهمّية التي تحظى بها لغة العلوم المقدسة فإنه يقول: «اللغة المستخدمة (لغة العلوم المقدسة) هي اللغة «الرمزية» التي «ترفع الحجاب عن حقيقة موجودة فيما وراء حدود وواقع العلم المراد دراسته. فكلُّ علم تقليدي ذو معنى من حيث المعنى الميتافيزيقي، بحيث إنه يتمكن أن يربط من خلال اللغة الرمزية مجالاً أوسع من الواقع بمجالات أكثر سعة وبعداً. فالرياضيات أو علم النجوم التقليدي القديم هي علوم رياضيات ونجوم، ولكنْ ليس الرياضيات وعلم النجوم بالمعنى المحدود لهذه المصطلحات الآن فقط، بل انها مظاهر رمزية للحقائق المتعلّقة بعالم ما بعد الطبيعة. ومن غير الممكن حصول الفهم الكامل للعلوم التقليدية بدون معرفة اللغة الرمزية، تلك العلوم التي تستخدم الظواهر للكشف عن حقيقة ذاتية، فهي تحجبها وتكشفها في نفس الوقت»([72]). كما أنه يعترف بتأثير الوحي الإسلامي على العلوم، ويقول: «لا يمكن أن نتصوّر ظهور العلوم الإسلامية وتكاملها فيما بعد، بدون الالتفات إلى الحضور الدائم لروح الوحي الإسلامي، والطريقة التي نظّم فيها هذا الوحي النفوس والمجتمعات البشرية، والحضارة المسؤولة عن إيجاد العلوم وتكاملها»([73]). ويشير نصر إلى الأساليب المختلفة في العلوم الإسلامية، ويقول: «استخدم الباحثون وعلماء الإسلام أساليب مشاهدة المحسوس، والتجربة، والاستدلال، والبرهان، وأخيراً العقل والذوق والشهود العرفاني، وبيَّنوا على نحوٍ معين ارتباط مراتب الوجود أحدهما بالآخر من خلال هذه الطرق»([74]). وكتب حول تأثير مسألة الرؤية الكونية على العلوم: «لا بُدَّ من قلب هذه المعادلة، ولا ينبغي النظر إلى العلم بشكلٍ عامّ، والإبداع الجديد بهذا المستوى من التدنّي والضَّعة، وكأن ضفدعة تنظر بعين أفعى، بل يجب النظر إلى ذلك على أساس الرؤية الكونية الإسلامية المستقلة، والتي تكمن جذورها في الوحي الإلهي»([75]).
ويقترح السيد نصر المراحل التالية لإيجاد العلم الديني:
1ـ الخطوة الضرورية الأولى هي في أن نضع حدّاً للنظرة المقدّسة للعلم والإبداع الجديد. ولدينا اليوم علاقة متواضعة مع العلوم الجديدة. فالعلم هو نتاج بشري، ويجب أن ندع عقدة الازدراء جانباً. نحن نرى ضفدعة بعين أفعى، إنها ضفدعةٌ، وليست أفعى.
2ـ اقتراحه الثاني ينصّ على وجوب القيام بدراسة المصادر الإسلامية التقليدية دراسة معمّقة، بدءاً من القرآن الكريم والحديث وصولاً إلى جميع المصنَّفات التقليدية التي ترتبط بعلوم الفلسفة والإلهيات، وعلم الوجود وأشباهها؛ لنتمكن من تدوين الرؤية الكونية الإسلامية، وبخاصة المفهوم الإسلامي للطبيعة والعلوم الطبيعية؛ ذلك أن العلوم الطبيعية قائمة في كلّ الأحوال على فلسفة طبيعية، وعلينا أن نأتي أولاً ونستخرج فلسفة الطبيعة من نصوصنا ومصادرنا الدينية؛ لكي نتوصّل على أساسها إلى رؤية كونية إسلامية مؤثّرة في العلوم الطبيعية، وحينئذٍ تصبح العلوم الطبيعية علوماً طبيعية إسلامية. إنّ الكشف مجدَّداً عن الرؤية الكونية الإسلامية الأصلية، وبخاصّة علاقتها بالعلوم الطبيعية، يستلزم دراسة تاريخ العلوم الإسلامية دراسةً معمَّقة، وفهمها فهماً جيّداً.
3ـ وبعد تحقيق روح الثقة بالنفس، وفلسفة الطبيعة، والرؤية الكونية الإسلامية المؤثّرة في العلوم الطبيعية، فالمقترح والخطوة الثالثة هي أنه «يجب فسح المجال أمام الكثير من الجامعيّين المسلمين للاطّلاع على العلوم الجديدة، وعلى أعلى المستويات العلمية، وبخاصة العلوم الأساسية، والتي يطلق عليها الغربيّون تسمية (العلوم المحضة). ويوجد في العالم الإسلامي الآن الكثير من الأطبّاء والمهندسين، قياساً إلى الذين يقومون بدراسة الجوانب المحضة والنظرية لبعض العلوم، كالفيزياء والكيمياء والبيئة». وهذا يعني أن يأتي بعد ذلك مجموعة من علماء العلوم الطبيعية ويقوموا بإجراء الأبحاث والدراسات العلمية وفقاً لتلك الرؤية الكونية. واقتراحنا الرئيس أنْ هلمّوا لاكتساب العلوم الغربية على أفضل وجهٍ، وفي نفس الوقت ضعوا أسسها وقواعدها النظرية والفلسفية في بوتقة النقد. وما يقولونه من أن يكون لنا علماء ليقوموا بدارسة العلوم الأساسية بتلك الرؤية الكونية الخاصة لا يعني أن كل النظام العلمي للغرب يجب أن يتغيَّر؛ اذ يجب علينا أن نذهب لتعلُّم العلوم الغربية على أفضل وجهٍ ممكن، ولكن في نفس الوقت يجب أن ننقد القواعد النظرية للغرب، وأسسه الفلسفية، ورؤيته الكونية. وعلى أيّ حالٍ من مجموع هذه العناوين يريد أن يخلص إلى القول: إن مشكلة تعارض العلم والدين تكمن في الرؤية الكونية للأسس الفلسفية، ولو قمنا بتغيير ذلك ستحلّ مشكلة هذا التعارض.
4ـ «الخطوة المهمّة الأخرى تكمن في إحياء العلوم الإسلامية التقليدية في كل زمان ومكان ممكن، وبخاصّة في بعض الميادين، كالطب والصيدلة والزراعة والهندسة المعمارية. وهذه الخطوة لا تؤدّي إلى مزيد من ثقة المسلمين بثقافتهم فحَسْب؛ بل تنطوي على نتائج اجتماعية واقتصادية عظيمة». ومراد السيد نصر في هذا المقترح يرمي إلى أبعد من تاريخ العلم، فهو يوصي بإحياء العلوم الإسلامية ـ وليس إحياء تاريخ العلوم الإسلامية ـ.
5ـ الاقتراح الخامس الذي يطرحه السيد نصر هو في قوله: إن أهم إجراء لإيجاد العلم الإسلامي الحقيقي يكمن في إعادة تلفيق العلم مع الأخلاق، وليس من خلال شخص العالم، بل بمساعدة القواعد النظرية والأسس الفلسفية للعلم. فهو يقول: «لا يكفي أن يكون لدينا مسلمون يُعْنَوْن بإيجاد العلوم، بل يجب علينا تأليف العلوم التي تُعِدّ المسلم؛ بمعنى أن نأخذ بعين الاعتبار الأسس الفلسفية المؤثِّرة على العلوم أيضاً». وبذلك نجد أن الدكتور نصر يهتمّ بمسألة التعارض بين العلم والدين، ويرى أن مصدر التعارض يكمن في الرؤية الكونية والأسس الفلسفية، وأن تغيير الرؤية الكونية للعلوم يمثّل الحلّ المناسب لهذا التعارض. ولكنْ يبدو من ظاهر كلامه أن أكثره يرتبط بالعلوم الطبيعية، وليس العلوم الإنسانية. ولكنْ ما هي الخطّة الأخرى التي ينبغي وضعها بخصوص العلوم الإنسانية؟ هذا ما لم يتطرَّق إليه([76]).
وتجدر الإشارة إلى أنه يجب أن نثني على السيد نصر بخصوص مسألة العلم المقدَّس، إلاّ أن الإشكال الموجود في هذا الرأي يكمن في الإبهام الموجود في طرح الحلول المناسبة، والخطط التنفيذية التي تمكِّنه من تحويل العلوم غير المقدَّسة إلى علوم مقدَّسة بصورةٍ عينية. وهل أن العلوم الجديدة ينبغي العمل على إلغائها تماماً من الساحة أم يُصار إلى تهذيبها بإجراء بعض التغييرات عليها؟ وهل أن الدكتور نصر يقول بمقولة الأستاذ جوادي الآملي باستخراج العلوم الجزئية من النصوص الدينية أم انه يذهب إلى قول الدكتور نقيب العطاس بتهذيب العلوم الغربية؟ وهل يكفي هذا المقدار من إنتاج بعض العلوم أو نموّها في أحضان الثقافة لتصبح مقدّسة؟ وهل أن العلوم التجريبية نسبية؛ إذ تقسم إلى: مقدّسة وغير مقدّسة؟ وما مصير عينية العلوم إذن؟ وفي كل الأحوال فإن هذا المقدار من الكلام في باب العلم المقدَّس لا يكفي. وأرى أن بعضاً من انتقادات التقليديين للمنهج العلمي، والمنهج العقلي، وفقدان المسألة المعنوية، مقبولة إلاّ أنها لا تقود إلى أيّ علاقة بين هذه الانتقادات مع التيار التقليدي. وغاية ما يُستفاد من كلام السيد نصر في باب العلم المقدّس أن العلم يجب أن لا يكون بلا هدفٍ، ولا يتحرك في مسار غير إلهي وإنساني، ويجب أن يصار إلى الاستفادة من الأسس الميتافيزيقية المقدّسة لتحديد هدف العلم، إلاّ أن هذه الأمور تبيّن أن التقديس هو وصف لحالة الأسس وأهداف العلم، وليس العلم بعينه.
7ـ معارضة الحداثة ــــــ
يعارض السيد نصر الحضارة الغربية بشدّة، ويشبِّهها بالديك مقطوع الرأس الذي يتحرّك يميناً وشمالاً لفترةٍ قصيرة بحركةٍ سريعة دون هدف، حتّى يلفظ أنفاسه الأخيرة ويموت. فالحضارة الجديدة وبالرغم من إنجازاتها الهائلة في السيطرة على الطبيعة، إلاّ أنها تعاني من مشكلة كبيرة، ألا وهي نسيان الذات. وقد أوقدَتْ ناراً كانت هي ضحيتها الأولى. وهو يعتقد أن المسلمين وقعوا تحت تأثير الحداثة التي تعتبر من ثمار الحضارة الغربية، وأصنامها الوهمية، ويرى أن إحدى أكبر مشاكل العالم الإسلامي في مواجهة الغرب تكمن في دخول الحركات الفكرية الفلسفية المتعددة، وتحت عناوين علمية مختلفة، والتي قدَّمت نفسها بأشكال وألوان مختلفة، وجرّت العالم الإسلامي إلى تقلُّبات حادّة، وجعلت القرنين الـتاسع عشر والعشرين قرني الـ (لا دين، وعصر الأديان الكاذبة). وهو يقدِّم المنهج التقليدي كأسلوبٍ لحل المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي والإنسان المعاصر. ويعتقد السيد نصر أنه يجب معرفة العالم الغربي معرفة دقيقة، ومن خلال المعرفة الدقيقة للثقافة المحلية الموروثة ننطلق إلى اكتشاف قواعدها الحتمية والأبدية الخالدة، ويمكن التوصل إلى المعايير اللازمة لنقد الفلسفة الغربية نقداً شاملاً جامعاً من خلال الدراسات المقارنة للفلسفة الإسلامية مع الفلسفة الغربية، وإقامة جسور التفاهم بين الشرق والغرب، وتعريف الإنسان الغربي بالإرث الفكري والمعنوي للدين الإسلامي الحنيف. وحَسْب اعتقاده فإن العالم الغربي ابتعد عن الحقيقة، وأخذ يسير في طريق الانحطاط والاضمحلال؛ بسبب فراغه من الأمور الروحية والمعنوية، ويرى أن السبيل لإنقاذ المتطلّبات الروحية للإنسان الغربي يكمن في اللجوء إلى العرفان الإسلامي. وبالنظر إلى أنه يرى أن السبيل إلى إحياء الحضارة والثقافة هو في إحياء الأمور الروحية والمعنوية فإنّه يضع هذه المسؤولية الخطيرة في العالم الإسلامي على عاتق الحكمة المتعالية([77]). ويعتقد السيد نصر أن الدين الإسلامي ينطوي على المزيد من المداراة، وبنسبةٍ أعلى من سائر الأديان، وحتّى من الديانة الهندوسية المشهورة بالمداراة([78]). ويقول في نقده للحداثة: «الأصولية هي الوجه الآخر لعملة الحداثة، ولا يمكن للأصولية أن تقوم بدون الحداثة»([79]). ويعتقد السيد نصر أن الحداثة تؤدّي إلى إضعاف الدين والقضاء عليه، وهذا الأمر مشهود في مختلف المجالات، من قبيل: الأخلاق والطبع الاجتماعي والاقتصاد والسياسة من جهةٍ، والفلسفة والعلم، وحتّى الفكر الديني الجديد إلى حدٍّ ما، من جهةٍ أخرى. وشهد النصف الثاني من القرن العشرين استعادة الدين لقوّته، ولكنْ في الكثير من الحالات حصلت هذه العودة بصورةٍ أصولية مختلفة تماماً عن السنّة، وكانت الوجه الآخر لعملة الحداثة([80]). ويرى السيد نصر أن أزمة البيئة وليدة الأزمة الروحية والمعنوية([81]). ويقول السيد نصر، ردّاً على سؤالٍ حول مشابهته لفرديد، من حيث رفض الفلسفة الغربية والحداثة: «بالرغم من أني كنت صديقاً حميماً للسيد فرديد، وجعلته أستاذاً في الفلسفة، ولكنْ بالرغم من ذلك فقد كان هناك فارقٌ أساسي بيني وبينه. فالمرحوم فرديد كان يقول بأصالة قسم من الفلسفة الغربية، وبخاصة الفلسفة الألمانية وهايدغر. ولم تكن لديه أيّ محبة تجاه الملا صدرا، بالرغم من حبِّه للسهروردي. وأبحاثه الفلسفية كانت تنصب في الغالب على انتقادات هايدغر للحداثة، في حين أنني لا أقول بأيّ أصالةٍ للفلسفة الأوروبية الجديدة، إلاّ أنّي متعلِّق جداً بالفلسفة الأوروبية القديمة. وكلّ ما أفصح عنه وأتحدّث به يستند على فلسفتنا القديمة. ومن هنا فالاختلاف بيني وبينه كان كبيراً جدّاً. إلاّ أن المرحوم فرديد كان يشترك معي في خصلتين: الأولى: إنه كان يدرك وجود مسائل عميقة في المواجهة بين الحداثة والفكر التقليدي، فالكثيرون كانوا لا يفهمون ذلك، إلاّ أنه كان مدركاً لهذا التضادّ. والنقطة الثانية: إنه كان يمتلك قابلية كبيرة على توضيح هذا التضاد والتعارض في إطار المفردات والمصطلحات الفارسية الملفتة والجديدة، ولكنْ مما يدعو للأسف أنه لم يكتب شيئاً من هذه الناحية»([82]). الحرية المعاصرة تعني حرية النفس، ونحن نريد في الفكر التقليدي التحرُّر من قيود النفس الأمّارة وإرهاصاتها، ولكنّ الحداثة بمعناها المعاصر تريد أن تحرِّر النفس بجميع رغباتها ومطالبها. وقد تحوّلت الحداثة اليوم إلى فلسفةٍ استهلاكية تسعى لتأمين شهوات الإنسان التي لا حصر لها بخصوص كلّ شيء. هذه الحداثة جرَّتْ الأمر إلى القضاء حتّى على الطبيعة. وقولنا نحن التقليديون عن الحرّية يختلف عن مقولة المطالبين بالحداثة. فالفكر التقليدي لا يعارض الحرّية بمعناها التقليدي والعرفاني والفلسفي بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل إنه يعارض الحرية الكاذبة؛ ذلك أن هذا النوع من الحرية يجعل الإنسان بالتدريج حبيساً لميول ورغبات لا سلطة له عليها، وبناءً على ذلك فالإنسان الحديث يتصوّر أنه حرٌّ، في حين أنه في الغالب محبوس ومحكوم([83]).
وإلى جانب نقدهم لمرحلة الحداثة يدافع التقليديون عن المرحلة التقليدية، ولكنْ هل بمقدورهم أن يغضّوا الطرف عن انحرافات عصور الرّق والإقطاع، في حين أنها ظهرت في فترة سيطرة المعتقدات والقيم التقليدية؟! حالات الفساد الحاصلة في المرحلة التقليدية لم تكن بأقلّ من مرحلة الحداثة. وتطرّق أحد الكتّاب في كتاب «تحقيق در تاريخ فلسفه شيخي گري، بابي گري، بهائي گري وكسروي گري» [وتعني «دراسة في تاريخ الشيخية والبابية والبهائية والكسروية»] إلى أسباب ظهور الفرق والمذاهب في المرحلة التقليدية في إيران، ويقول: «الوضع الاقتصادي والزراعي غير السليم والمحدود للعصر القاجاري كان يقوم على الزراعة التقليدية، وعلاقة الأرباب بالرعيّة، والنظام الإقطاعي للقرون الوسطى، والذي كان يتوجّب فيه على كلّ مدينة وناحية تأمين أرزاقها ذاتيّاً؛ لأن كلّ مدينة وولاية كانت محدودة؛ بسبب عدم اتصالها بالمدن والولايات الأخرى، ومستقلة من حيث تأمين ما تحتاج إليه. ومن هنا لو حصلت حالة قحط في مدينة أخرى؛ بسبب قلة المؤونة، وكانت الأرزاق موجودة في مدينة أو ولاية أخرى، لم يكن بمقدورها مساعدة الولاية التي تعاني من القحط. وغالباً ما كان القحط هو السائد في أكثر المدن، وبخاصة في القرى؛ لأن الإقطاعيين كانوا يأخذون أكثر من نصف أرزاقهم إلى أماكن أخرى، أو يخزنونها في المخازن، ولا يساعدون الناس والكادحين. وكان الإقطاعيون يفعلون ما يشاؤون بشكلٍ مطلق في داخل حدود أملاكهم بشكلٍ مباشر، أي بأنفسهم أو بواسطة موظَّفيهم وممثِّليهم، وكانوا يتحكمون بمصير المزارعين الكادحين، ويمارسون بحقهم القهر والعنف والقسوة، ويستغلّونهم لقضاء أعمالهم ومشاغلهم كيفما يشاؤون، وبصور مختلفة، كالسُّخْرة والخدمة بدون أجرٍ. وعلاقتهم بطبقة المزارعين المضحِّية كانت تتّسم دائماً بالغلظة والاستبداد… ومن هنا فإن المزارعين والكادحين، الذين كانوا يشكِّلون الطبقة الاقتصادية المنتجة، لم يكن لديهم أيّ ضمانٍ اقتصادي واجتماعي، وبالتالي كانوا يعيشون في منتهى البؤس والحرمان واليأس، وكان المستقبل أمامهم مظلماً، وينتظرون بأبدانهم وأرواحهم لحظة الفَرَج وظهور المُنْجي الإلهي»([84]). فضلاً عن وقوع التقليديين في مغالطة جمع كلّ المسائل في مسألةٍ واحدة في ما يتعلَّق بنقدهم للحداثة والتجديد؛ وذلك لأن العالم الجديد عبارة عن خليط من الفلسفات والعلوم والثقافات، ولا يمكن الحكم على هذا الكلّ وتقييمه،كما فعل هايدغر والتيار المناهض للحداثة.
8ـ معارضة النهضة الفكرية الجديدة ــــــ
الفكر الديني التقليدي جعل الدكتور نصر سيِّئ الظنّ بالمثقَّفين، فهو يقول: «إحدى مشاكل العالم الإسلامي تكمن في أن الكثير من الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مثقَّفو العالم الإسلامي ليسوا في الحقيقة كذلك. إنهم مثقَّفو الدرجة العاشرة للفكر والحضارة الغربية»([85]). فهو لا يعترف بأيّ أصالة للمثقَّفين المسلمين شبه الحداثويين، معتبراً إيّاهم من الذين استسلموا للفكر الغربي الجديد القائم على القضاء على الدين، والذين ليس لديهم كذلك إلمامٌ عميق بالثقافة الغربية نفسها. ويعتبر السيد نصر المثقَّفين الدينيين المعاصرين بأنهم من مفكِّري الدرجة الثانية للغرب، والذين سوف لن يكون لهم أيّ تأثير على مستقبل الإسلام، كأسلافهم المجدِّدين، بدءاً بمحمد عبده ومَنْ جاء من بعده([86]). وتجدر الإشارة إلى أن إحدى الإشكاليات المشتركة بين التيار التقليدي والحديث تكمن في عدم الرجوع إلى المصادر الدينية لفهم الوجود والإنسان. كما أن السيد نصر يستمد أفكاره إمّا من آراء العرفانيين والأديان الشرقية والهندية، أو من أقوال الفلاسفة والقائلين بالحكمة الخالدة. وعندما يلجأ إلى آيات القرآن الكريم، ويستعين بها، فهو كالعلاّمة الطباطبائي، لا ينتهج منهج تفسير القرآن بالقرآن، ولا يأخذ بنظر الاعتبار مجموع الآيات المرتبطة ببعضها البعض، فضلاً عن أن استغراقه بالمنهج التقليدي أبعده عن مصدرٍ آخر يُدْعى بـ (سنّة أهل البيت^).
الهوامش
(*) أستاذٌ جامعيّ، وعضو الهيئة العلميّة في مركز الدراسات الثقافيّة ـ قسم الفلسفة والكلام. له مؤلَّفاتٌ عديدة في فلسفة الدين والكلام الجديد.
([1]) ولد المفكّر التقليدي الفرنسي رينيه غنون (Rene Guenon) في فرنسا سنة 1886، واطلع خلال دراسته للرياضيات والفلسفة على التصوُّف والعرفان الإسلامي والدراسات الشرقية، وفي سنة 1912 اعتنق الإسلام. وفي عام 1930 سافر إلى مصر باسم عبد الواحد يحيى. وتوفي سنة 1951، ودفن في مقبرة القاهرة. وله عدة مصنَّفات، ومنها: شرق وغرب، بحران دنياي متجدّد، سيطرة كميت وعلائم آخر الزمان…، وغيرها.
([2]) ولد آناندا كنتيش كوماراسوامي (Ananda K.Coomaraswamy) سنة 1877 في مدينة كولومبو عاصمة سريلانكا، ولكنّه نشأ وترعرع في إنجلترا، وتخصّص بدراسة علم طبقات الأرض. وفي زيارة له إلى سيلان وجد الضرر الذي لحق بالثقافة التقليدية لبلاده. وكانت سيلان في أوائل القرن التاسع عشر إحدى المستعمرات البريطانية. ومن خلال ما كان يحمله كومارا سوامي من اطّلاع على نتاجات الشاعر الهندي رابيندرانات تاگور (1861 ـ 1941) تولّد لديه دافعٌ أقوى للدفاع عن القيم الشرقية. واكتسبت مؤلفاته منذ سنة 1932 وجهة دينية وميتافيزيقية أكبر. وكتاب (استحاله طبيعت در هنر) هو أحد مؤلَّفات كوماراسوامي، والذي تمت ترجمته ونشره من قبل السيد صالح الطباطبائي سنة 1384هـ.ش (2005م). وتوفي سنة 1947.
([3]) ولد فريتيوف شووان (Fritjof Schuon) سنة 1907 في سويسرا. وبعد دراسته في مدينة بازل السويسرية ومولوز الفرنسية سافر إلى البلدان الإفريقية، ومنها الجزائر ومراكش، وكذلك إلى تركيا وقبائل الهنود الحمر الأمريكيين. وفي سنة 1998 توفي في منـزله في بلومينكتون بولاية أنديانا الأمريكية، معتنقاً الدين الإسلامي باسم عيسى نور الدين أحمد. وألّف جملةً من الكتب، مثل: وحدت متعالي أديان، گوهر وصدف تصوّف، مغز وپوسته أديان، إسلام وحكمت خالده، منطق وتعالي، وغيرها.
([6]) ولد مارتن لينكز (Martin Lings) في مدينة لنكستر بإنجلترا، في عائلة بروتستانتية. وبعد أن أكمل دراسته في اللغة والأدب الإنجليزي اعتنق الإسلام بقراءته لمؤلّفات رينيه غنون، واختار لنفسه اسم أبو بكر سراج الدين. وقد أكد على التيار التقليدي في مؤلَّفاته، ومنها: عرفان إسلامي چيست؟ (ترجمة فروزان راسخي، نشر مكتب السهروردي للأبحاث والنشر، 1383)؛ وعارفي أز الجزاير، ترجمة: نصر الله پور جوادي، دار نشر هرمس، 1378؛ وعارفي قديس در قرن بيستم؛ وشكسبير در پرتو هنر مقدس يا عرفاني، ترجمة: سودابه فضائلي، دار نشر نقره؛ وراز شكسبير. وتوفي سنة 2005م.
([7]) راجع كتاب: (دين ونظام طبيعت)، ملاحظات الفصل الأول؛ وكذلك (معرفت ومعنويت)، في الفصل الثاني.
([8]) محمد لگنهاوزن، (چرا سنّت گرانيستم)، ترجمة: منصور نصيري، دار كتب خرد جاويدان، دار نشر جامعة طهران، صيف 1382؛ ومجلة آيينه وأنديشه، العدد 6، آبان 1385.
([10]) Transcendental Unity of Religions.
([12]) اقتراح، نقد ونظر، العدد 15 ـ 16، صيف 1377.
([13]) السيد حسين نصر هو الآخر أحد منتقدي الحداثة والتجديد. ولد في طهران سنة 1312هـ.ش. والشيخ فضل الله النوري جدّه لأمه، ووالدته ابنة عم كيانوري، سكرتير الحزب الشيوعي الإيراني حَسْب ما ذكره نصر في كتابه (در جستجوي أمر قدسي)، في البحث عن الأمر القدسي. وأكمل دراسته الابتدائية في طهران، وعندما مرض والده ولي الله ذهب إلى أمريكا، بمساعدة خاله عماد كيا (مندوب إيران في نيويورك)، وحصل على شهادة الدكتوراه في مادّة الفلسفة وتاريخ العلوم من مؤسّسة ماساشوست للتكنولوجيا. وعاد إلى إيران بعد ثلاث عشرة سنة، أي في عام 1337، وأخذ يدرس مادة تاريخ العلوم والفلسفة في جامعة طهران، ثمّ عيِّن بعد ذلك عميداً لكلية الآداب، وبعدها رئيساً لجامعة شريف الصناعية (آريامهر). ومنذ عام 1354 إلى عام 1357 عمل كسفيرٍ متنقّل لإيران في الأمور الثقافية، ورئيساً لمكتب زوجة الشاه شهربانو، وعضواً في لجة الثقافة الوطنية الإيرانية، والسكرتير العام للاتحاد الشاهنشاهي لفلسفة إيران. ثم ذهب مرة أخرى إلى أمريكا بعد انتصار الثورة الإسلامية، وعمل بالتدريس في جامعة جورج واشنطن. إنّ الاطلاع على مؤلَّفات بعض الأفراد، مثل: كوماراسوامي ورينيه غنون وشووان وبوكهارت وآخرين، دفعت نصر للتوجّه نحو الميتافيزيقيا التقليدية والحكمة الخالدة. وبعد ان أنهى نصر دراسة العلم التجريبي والرياضيات من جامعة ماساشوست أخذ يعاني من أزمة فكرية؛ ذلك أن نصر اختار دراسة مادة الفيزياء لمعرفة جبلّة العالم والظواهر، إلا أن التأمل في المواضيع الطبيعية أثبت له أن المواضيع الأساسية لما بعد الطبيعة غير موجودة في الفيزياء. وهذه الوقفة التأمُّلية ازدادت قوّة عند حضوره في محاضرات برتراند راسل ـ الفيلسوف الإنجليزي ـ، كما عندما سمع من راسل أن «ماهية الواقعيات الخارجية بحدّ ذاتها ليست موضوع علم الفيزياء، أو تثير اهتمامه». وانبرى سيد نصر إلى اعتناق الفكر التقليدي، ونقد الفلسفة الجديدة للغرب، على خلفية لقاءٍ له مع جورجيودي سانتي يانا ـ الفيلسوف الإيطالي ـ، وكذلك من خلال قراءة مؤلفات رينيه غنون. ومن فلاسفة الغرب الجدد كان نصر يحب باسكال ولايب نيتس فقط، وأمّا بالنسبة لفلسفة الوجود للملا صدرا فقد كان يراها أعمق وأبلغ من فلسفة هايدغر. وبعد عودة نصر إلى إيران، وقيامه بالتدريس، وقبوله رئاسة جامعة طهران، نراه يذهب إلى دروس كاظم عصار، وذو المجد الطباطبائي. وعن طريق ذلك يتعرف على العلامة الطباطبائي، ويقوم بعد ذلك بعقد جلسة بحثٍ وحوار أسبوعية بحضور ذو المجد والمطهري وهانري كُرْبن والسيد جلال الدين آشتياني، ويلتحق بهم فيما بعد داريوش شايغان. وكان نصر يؤمن بالفرق الصوفية، كما يعترف هو بذلك، ويصف نفسه بأنه عضو في فرقة صوفية، ويعتبر أباه من مشايخ الصوفية؛ إذ كانت له الكثير من المراودات مع صفي عليشاه. وتمكّن نصر من نشر أفكار التيار التقليدي من خلال العديد من المؤلَّفات، من قبيل: در جستجوي أمر قدسي، دلباخته معنويت، نياز به علم قدسي، هنر ومعنويت، نظر متفكّران إسلامي درباره طبيعت، معرفت وأمر قدسي، إنسان وطبيعت، بحران هاي معنوي إنسان إمروزي، آرمانها وواقعيات إسلام، قلب إسلام، دين ونظام طبيعت، جوان مسلمان ودنياي متجدّد، صدر المتألهين وحكمت متعالية، آموزهاي صوفيان، أز ديروز تا إمروز، جاودان خرد (مجموعة مقالات)، سنت عقلاني إسلامي در إيران (مجوعة مقالات)، تاريخ فلسفة إسلامي بمساعدة إليور ليمن، معتبراً نفسه الممثل الفكري لهذا التيار في عقدي السبعينات والثمانينات (من السنة الإيرانية).
([15]) راجع: سيد حسين نصر، دلباخته معنويت؛ وكذلك حميد مقدمي، در زمين حريف، خرد نامه همشهري، 29/4/1384هـ.ش.
([16]) السيد حسين نصر، إيستادن در پيشگاه خداوند، ترجمة: دانيال شاه زمانيان، العدد الخاص لصحيفة جام جم (نقطه)، العدد 1905، 1385هـ.ش.
([19]) جوان مسلمان ودنياي متجدّد: 66 ـ 93.
([23]) جوان مسلمان ودنياي متجدّد: 87.
([24]) لمزيدٍ من الاطلاع راجع: سيد حسين نصر، آموزهاي صوفيان، ترجمة: حسين الحيدري ومحمد هادي الأميني، قصيده سرا.
([25]) قلب الإسلام: 185 ـ 187.
([26]) راجع: قلب الإسلام، للسيد حسن نصر.
([27]) مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي، للسيد حسين نصر، صحيفة جام جم الخاصة (نقطه)، العدد 1905، مرداد 1385هـ.ش.
([32]) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 301 ـ 302؛ الوسيلة في كتاب القضايا والأحكام، فصل بيان القاضي؛ السرائر 1: 398 ـ 399.
([33]) تذكرة الفقهاء 1: 459؛ القواعد 1: 119؛ مختلف الشيعة: 339؛ إيضاح الفوائد 1: 398 ـ 399.
([34]) رسائل المحقّق الكركي 1: 142؛ وراجع كذلك: جامع المقاصد 2: 375.
([35]) راجع مجمع الفائدة والبرهان 1: 231؛ 12: 11؛ 8: 160؛ 12: 28.
([36]) راجع: مدارك الأحكام 5: 427؛ مفاتيح الشرايع 2: 50؛ مفاتيح الكرامة 1: 21؛ جواهر الكلام 16: 178؛ القضاء والشهادات: 48 ـ 49؛ مصباح الفقيه، كتاب الخمس: 160 ـ 161؛ بلغة الفقيه 3: 243؛ البدر الزاهر: 57.
([37]) راجع: كشف الأسرار: 175 ـ 177.
([38]) ابن الأثير، الكامل 3: 326؛ السيد محسن الأمين العاملي، في رحاب أهل البيت 1: 311.
([39]) صبحي الصالح، نهج البلاغة، الكتاب رقم 62.
([40]) هاشم المعروف الحسيني، سيرة الأئمة الاثني عشر: 352 ـ 353.
([42]) تاريخ اليعقوبي 2: 132 و152.
([43]) حامد اليوسفي، تحليل السيد نصر لحركة الإمام الخميني، صحيفة اطلاعات، ملحق الحكمة والمعرفة، الرابع عشر من شهر إسفند 1385.
([44]) دين ونظام وطبيعت: 39، والفصل الثاني.
([46]) راجع: تمهيد القواعد، وتحرير تمهيد القواعد.
([48]) جاودان خرد 1: بداية الكتاب، برعاية: السيد حسن الحسيني، دار نشر سروش، 1382.
([50]) حوار خاصّ مع الدكتور السيد حسين نصر، صحيفة الشرق، 25 مرداد 1385.
([51]) عدنان أصلان، أديان ومفهوم ذات غائي، حوار مع: جان هيغ والسيد حسين نصر، ترجمة: أحمد رضا جليلي، مجلة معرفت، العدد 23، شتاء 1376هـ.ش.
([52]) السيد حسين نصر، نبرد إيمان در جهان آينده، ترجمة: محمد ميرزا خاني، صحيفة كارگزاران، 30 شهريور 1385؛ وآيينه أنديشه 6: 126.
([53]) محمد لگن هاوزن، نكاتي چند پيرامون پلوراليزم ديني، ترجمة: أحمد رضا جليلي، مجلة معرفت، العدد 34، 1377.
([56]) مجلة (آيينه أنديشه)، العدد 6.
([57]) راجع: السيد حسين نصر، (دلباخته معنويت)؛ وكذلك: حميد مقدمي، در زمين حريف، خرد نامه همشري، 29/4/1384هـ.ش.
([60]) المصدر السابق: 216 ـ 221.
([61]) راجع: السيد حسين نصر، نياز به علم مقدّس (الحاجة إلى العلم المقدّس)، ترجمة: حسن ميانداري، قم، مؤسّسة طه الثقافية، 1378.
([62]) نياز به علم مقدّس: 130.
([63]) جوان مسلمان ودنياي متجدّد، فصل علم وتكنولوجي جديد (مصدر فارسي).
([64]) نياز به علم مقدّس: 170 ـ 172.
([66]) علم در إسلام: 26، ترجمة: أحمد آرام، 1366.
([68]) علم وتمدّن إسلامي: 2، ترجمة: أحمد آرام، دار نشر أنديشه، طهران، 1350.
([69]) نياز به علم مقدّس: 173، س5.
([70]) المصدر السابق: 172 ـ 173.
([72]) المصدر السابق: 173 ـ 174.
([73]) علم در إسلام: 18، ترجمة: أحمد آرام، طهران، دار نشر سروش، 1366هـ.ش.
([74]) نظر متفکّران إسلامي درباره طبيعت: 16، طهران، دار نشر الخوارزمي، ط3، 1359هـ.ش.
([75]) مقالة جهان بيني إسلامي وعلم جديد، ترجمة: تاج الدين ضياء، مجلة فرهنگ الفصلية، العدد 30، صيف 1377هـ.ش.
([76]) السيد حسن نصر، جهان بيني إسلامي وعلم جديد: 9 ـ 32، ترجمة: تاج الدين ضياء، مندرج في العلم الديني.
([77]) راجع: در غربت غربي: 9ـ60؛ خرد جاودان: 45 ـ 319؛ إسلام وتنگناهای إنسان متجدّد: 24ـ 290؛ زمينه برخورد تمدّن إيران وغرب: 23؛ موقعيّت فلسفه در عصر حاضر: 42.
([78]) حوار «فاندر تايلور» مع الدكتور نصر 6: 129، ترجمة: فاضل لاريجاني، وكالة أنباء مهر، 1382؛ وآيينه أنديشه.
([80]) حوار خاص مع الدكتور سيد حسين نصر، صحيفة الشرق، في 25 مرداد 1385هـ.ش.
([81]) راجع: سيد حسين نصر «در جست وجوي أمر قدسي»؛ وراجع أيضاً: حسين فراستخواه، نگاهي به کتاب تازه «در جست وجوي أمر قدسي»، صحيفة الشرق، الأول من مرداد 1385؛ يك فنجان فلسفة با دكتر نصر، جام جم، أونلاين، السبت 14 آذر 1383؛ وآيينه أنديشه، العدد 6.
([82]) أسبوعية شهروند إمروز: 109، السنة الثانية، العدد 34، 30 دي 1386هـ.ش.
([84]) يوسف فضائي، تحقيق در تاريخ وفلسفه شيخي گری، بابي گری، بهائي گری وکسروی گری (دراسة في تاريخ وفلسفة الشيخية والبابية والبهائية والكسروية): 83 ـ 84، مؤسّسة عطائي للطباعة، طهران، ط1، 1353هـ.ش.
([85]) يك فنجان فلسفه با دکتر نصر، جام جم أونلاين، السبت 13 آذر 1383؛ وآيينه أنديشه: 163، العدد 6.
([86]) گفتگوی اختصاصي با دکتر سيد حسين نصر «حوار خاصّ مع الدكتور سيد حسين نصر»، صحيفة الشرق، في 25 مرداد 1385.