قراءةٌ في كتاب جون هيك
د. علي شهبازي(*)
لا يزال موضوع العلم والدين والنسبة القائمة بينهما هو موضوع الساحة الأكثر تداولاً. وهو في الحقيقة من أكثر المسائل تعقيداً في فلسفة الدين. إن لمسألة الإيمان بالخلق([2]) والتكامل دوراً كبيراً هنا، وقد تطوّرت هذه التساؤلات حتى وصل البحث إلى علمي الأعصاب والهندسة الوراثية ونسبتهما إلى المعتقدات الإلهية والتجارب والحالات العرفانية.
وهنا بالتحديد تمّ فتح جبهة مواجهة جديدة بين العلم والدين. وإن فسيفساء الأفكار وتنوّع المفكِّرين المصطفين في مواجهة بعضهم تتمثَّل أمام الناظر بشكلٍ بديع؛ فهو من جهةٍ يثير الشغف والبهجة؛ ومن جهةٍ أخرى يمثِّل مشهداً مرعباً ومثيراً للقلق، ولا سيَّما بالنسبة إلى المؤمنين والمتشرِّعين. واليوم أصبح أمراً مألوفاً أن يكون أطرافُ النزاع في المناظرات العلمية ـ الدينية مزيجاً من علماء الأحياء والخلايا والذرّات، والمتخصِّصين في علم الأعصاب، وعلماء اللاهوت، وأصحاب الأطروحات العلمية في التراث الديني الخاصّ، والتجريبيين الذين يحملون هموم التجارب الدينية، وعلماء النفس من مختلف المدارس والمذاهب، وفلاسفة الدين.
ومن بين الذين يتمتَّعون بسابقةٍ مألوفة نسبياً في الخوض في مسائل العلم والدين هو الفيلسوف المعاصر المختصّ في فلسفة الدين (جون هيك). وقد سعى ـ في أحدث إصدارٍ له بعنوان: «الحدّ الجديد بين العلم والدين: التجربة الدينية وعلم الأعصاب والأمر المتعالي»، سنة 2006م ـ إلى إلقاء نظرةٍ جديدة حول بعض المسائل المطروحة في فلسفة الدين المعاصرة. يشتمل هذا الكتاب، البالغ 228 صفحة، على ثلاثة أقسام، وثمانية عشر فصلاً.
وفي القسم الأول، المشتمل على أربعة فصول، يتناول موضوعات من قبيل: «الدين بوصفه مؤسسة إنسانية»، و«المعنوية والعرفان»، و«ماهية التجربة الدينية».
وفي القسم الثاني، المشتمل على ستة فصول، يتعرَّض إلى مسائل هي من معطيات العلم الحديث في مجال علم الأعصاب والدراسات المتعلقة بالمخّ، والمثارة في مواجهة الأبحاث اللاهوتية، وهي مسائل من قبيل: «مسألة التماهي بين الذهن والمخّ»، و«النظريات الطبيعية السائدة»، و«الاختيار والإرادة الحرّة»، وما إلى ذلك من المسائل.
وفي القسم الثالث، المشتمل على ثمانية فصول، يتمّ طرح المسائل المرتبطة بالمعرفة والتعدّدية، وموضوعات من قبيل: «العالم المعاصر والمعنوية»، و«الحياة بعد الموت».
الدين بوصفه مؤسسة بشرية، والدين بوصفه أمراً معنوياً
في ما يتعلَّق بالدراسات الدينية، حيث يتمّ النظر إلى الأديان، يُشار أحياناً إلى ثلاث مراحل، وهي:
1ـ مرحلة ما قبل العصر المحوري (ما قبل القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد).
2ـ مرحلة العصر المحوري (حوالي 900 أو 800 إلى 200 قبل الميلاد).
3ـ مرحلة ما بعد العصر المحوري (منذ القرن الثاني قبل الميلاد إلى يومنا هذا).
والمرحلة الأولى تمثّل في الواقع عصر الأديان البدائية، حيث كان الدين البدائي ديناً قبلياً ومناطقياً، يهدف في الأكثر إلى الحفاظ على النظم السائد في الأشياء، وتنظيم حياة القبيلة أو الحكومة. وقد كانت البشرية وعالم الكائنات الحية جزءاً من كلٍّ، وكان الإنسان البدائي يرى نفسه جزءاً من المنظومة الاجتماعية الحيّة، وليس فرداً منفصلاً ومستقلاًّ.
والمرحلة الثانية هي مرحلة تبلور الآراء الروحية الكبرى، حيث تجلّت في الوجوه والنصوص المقدّسة الهامة. وإلى هذه المرحلة تعود الديانات الكبرى، من قبيل: الهندوسية، والبوذية، والزردشتية، واليهودية، والكونفوشيوسية، والطاوية. وأما المسيحية والإسلام فهما وإنْ كانا ينتميان من الناحية التاريخية إلى المرحلة الثالثة، بَيْدَ أن جذورهما تعود إلى التراث الديني الإبراهيمي، وعليه فإنهما يرتبطان بالمرحلة المحورية. وإذا تجاوزنا هذه التقسيمات التاريخية، التي هناك الكثير من البحث في صحتها ومتانتها، يمكن النظر إلى الدين بلحاظين، أو بعبارةٍ أخرى: إن لكل دين ناحيتين، وهما: الناحية الخارجية؛ والناحية الداخلية. ويمكن تسمية الناحية الخارجية بالدين التأسيسي، والناحية الداخلية بالإيمان، أو بعبارةٍ أوضح: «المعنوية» أو «العرفان».
وإن المؤرّخين للدين والمختصين بالعلوم الإنسانية وعلم الاجتماع من الذين يدرسون الدين جامعياً وعلمياً إنما يلاحظون ويدرسون الناحية المحسوسة والخارجية من الدين، أي الدين التأسيسي. فقد أدرك (إميل دوركهايم)، في أبحاثه حول المواطنين الأستراليين الأصليين (الأبيرجن) ـ على سبيل المثال ـ، أن الطوطم هو تجسيد الله، كما هو تجسيدٌ للقبيلة نفسها؛ إذ هي واقعية أكبر من الأفراد، ولها الحجية والسلطة عليهم. واستنتج من ذلك أن الله في الحقيقة هو المجتمع المتجسِّد على شكل طوطم.
ويكمن خطأ دوركهايم وأمثاله في أنهم يعمِّمون تحليلاتهم، ويستعملون تلك التحليلات في بيان حقيقة الدين، ويستنتجون من ذلك أن الدين عبارةٌ عن المرجعية والقدرة الشاملة للمجتمع، وهي القدرة التي يمكن للخيال الديني أن يستوعبها بوصفها تجسيداً لمفهوم الإله. بَيْدَ أن هذا الاتجاه لا يستطيع بيان الأديان غير السماوية والفردية، من قبيل: البوذية، والهندوسية، ولا التحدّيات التي أثارها مؤسِّسو تلك الأديان والأديان التوحيدية أمام المجتمع. إن هذه التعميمات المفرطة في السذاجة هي في الواقع الخصيصة البارزة لجميع النظريات المعرفية والنفسية التقليلية([3]). إن المنظرين التقليليين يتوصلون في بعض الأحيان إلى رؤيةٍ صائبة بشأن ناحيةٍ خاصّة من الدين، ثم يتصوَّرون خطأً أنهم توصَّلوا إلى اكتشاف ماهية وذات الأديان.
ومنذ العصر المحوري فصاعداً بدأ التمايز التدريجي بين الدين بوصفه مؤسسة ومجموعة من الآداب والمناسك الاجتماعية والناحية الداخلية أو التجريبية للدين.
يرى (جون هيك) ضرورة نقل الاهتمام من الناحية الخارجية للدين وتوجيهه إلى الناحية العرفانية، وأن نسعى من هذه الناحية إلى البحث عن أقسام التجربة الدينية.
وفي تراث الفلسفة التحليلية الأمريكية ـ الإنجليزية يتمّ الحديث عن العرفان والمعرفة العرفانية، دون أن يكون هناك أدنى كلامٍ بشأن المعنوية. وحيث إن دائرة ومساحة التجربة الدينية أوسع من العرفان وأحوال العرفاء يجدر الحديث عن «المعنوية»، بالإضافة إلى مصطلح «العرفان». إن الدراسات الاجتماعية تثبت أن الناس يميلون إلى اعتبار أنفسهم «معنويين» أكثر من اعتبار أنفسهم «دينيين»، وإن الجماعات والمدارس التي تتحدَّث عن المعنوية قد أصبحت نِدّاً ومنافساً قويّاً للمسيحية. يضع جون هيك هذه المعنوية التي ظهرت مؤخَّراً في العصر الحديث بين قوسين (المعنوية)؛ كي يميِّزها من الناحية الداخلية للدين، بمعنى موقف الإنسان من الأمر المتعالي.
يعمد علماء الاجتماع أحياناً في بحث ظاهرة رواج «المعنوية» إلى التعبير بـ «المعنوية القائمة على الحياة الأنفسية»، في مقابل «الدين بمنزلة الحياة». وفي هذه المعنوية يتجه الفرد بشكلٍ أكبر نحو معالجة وتحسين وضعه، وطلب السعادة لنفسه، بمختلف الأساليب، ومن دون الاستناد أو الالتفات إلى الواقعية المتعالية. ومن الواضح أن «الدين» يميل أبداً إلى الأمر المتعالي (ولا سيَّما الإله المتشخِّص). وبطبيعة الحال يجب أن لا نغفل عن نقاط ضعف وقيود هذا النوع من التصنيفات والتقسيمات؛ إذ هناك بين هاتين المقولتين نوعٌ من التماهي. فعلى سبيل المثال: إن الكثير من الآداب والمناسك التي تندرج ضمن مقولة «المعنوية القائمة على الحياة الأنفسية» موجودةٌ أيضاً ضمن التعاليم والمناسك الكَنَسية أيضاً، كما أن الكثير من أعضاء الكنائس يشاركون في النشاطات والتجمُّعات «المعنوية» أيضاً. والأمر الآخر الذي يجب عدم الغفلة عنه هو التدقيق في استعمال مصطلح «العرفان». إن التراث المدوَّن للعرفاء يثبت أنهم يعملون أحياناً على بيان أحوالهم وتجاربهم، وأنهم قاموا في بعض الأحيان بتصوير نوعٍ من الإلهيات أو الفلسفات العرفانية. وهنا حيث نتحدَّث عن العرفان فإننا نريد بذلك تلك الأحوال والتجارب العرفانية. وإن من بين أكبر معطيات هذا العرفان ـ على حدّ تعبير «وليم جيمز» ـ رفع الحجب بين الفرد والأمر المطلق. إن الفرد يرى نفسه في حالاته العرفانية متّحداً مع الأمر المطلق، وهو مدركٌ لهذا الاتحاد. وعلى الرغم من أن الوحدة ـ بمعنىً من المعاني ـ صحيحةٌ، إلاّ أن تعريفها ليس واضحاً أو سهلاً، وغالباً ما يتمّ استعمالها بالمعنى الاستعاري، وليس الحقيقي والعَدَدي. ويمكن لنا أن نشاهد نموذجاً واضحاً لهذه الرؤية في معتقد «أدفياتا فيدانتا» أو (وحدة الوجود). وقد عمد المحقِّق الهندوسي «رادا كريشنا» إلى تلخيص فلسفة الـ «أدفياتا فيدانتا» في الفلسفة الهندوسية على النحو التالي: «الذات التي لها تعلُّق نسبي بالعالم، وهي تيار من التجربة، ومسيل من الحياة، وهي المحور الذي تدور حوله أذهاننا وتجاربنا الحسية. وفيما وراء هذه البنية العامة يكمن الوعي العام والشامل، أي الـ «أتمان»([4])، أو الذات التي تمثِّل وجودنا الحقيقي». وإن ذات هذا الـ «أتمان» تتّحد في نهاية المطاف مع الحقيقة الغائية والأزلية لـ «براهمان». وقد استعمل (آدي شانكارا) ـ الشارح الكبير لفلسفة الفيدانتا ـ مثال الجرّة والهواء، حيث يقول: إننا لو حطمنا الجرار الملأى بالهواء فإن الذي سيبقى هو مجرّد الهواء الذي لم يَعُدْ موزَّعاً بين الجرار؛ لأن الهواء الذي كان محبوساً في الجرار سوف يمتزج بالهواء المنتشر في العالم. وعلى هذا القياس يمتزج الأتمان، ويتّحد بالبراهما.
يشير (جون هيك) في ترجيح الناحية المعنوية أو العرفانية للدين على ناحيته التأسيسية إلى أن الإنسان في الوقت الذي لا يستطيع أن ينتمي في وقتٍ واحد إلى مؤسّستين حصريتين متنافيتين، يمكنه أن يقع تحت تأثير بُعْدين معنويين، وأن يتمتَّع بمختلف أنواع الحكمة والآداب والمناسك المعنوية التي حصل عليها من مختلف المصادر. وهذا هو ما نحتاجه حالياً، وفي الحقيقة إنّ هذه هي الطريقة التي أخذت أعدادٌ مطّردة من الناس تنتهجها، وهم في تصاعدٍ وازدياد. إن المؤسسات الدينية تشكّل مادّةً خصبة لتفريق الناس وتباعدهم، في حين أن المعنوية أو العرفان ـ رغم تنوُّع أشكاله في مختلف السنن ـ لا يعمل على تقسيم الناس إلى جماعاتٍ متناحرة. إن الاختلافات الموجودة في الأشكال المتنوِّعة هي أمورٌ تكمِّل بعضها، ولا تتعارض فيما بينها.
وحيث عمدنا إلى تقديم الناحية الداخلية من الدين (أي التجربة الدينية أو العرفان) على الناحية الخارجية منه (أي المؤسسات الدينية) يطرح هذا السؤال نفسه: ما هو الطريق إلى إدراك أن التجارب الدينية هي التي تحكي عن الحقيقة وتكشف عن الواقع بشكلٍ موثَّق؟ فهل هناك معيارٌ يمكن الاحتكام إليه في إثبات صدق أو كذب ما يسمّى تجربةً دينية؟ وكيف يمكن تشخيص الحدّ الفاصل بين التجارب الدينية والأوهام؟
يرى (جون هيك) أن التجارب الدينية القائمة ـ بطبيعة الحال ـ على المفاهيم الدينية من السعة بحيث تتراوح أبعادها من ذروة التعالي إلى حضيض الابتذال. ومن خلال ذكر نماذج وأمثلة من هذا الأمر يثبت أن الإنسان قد يتوهَّم في بعض الموارد أنه خليفة الله في إنفاذ إرادته. وهو هنا يذكر في الغالب أمثلةً ونماذج من ابتذال التجارب الدينية. فعلى سبيل المثال: هناك من الأشخاص مَنْ يتصوّر حقّاً أن الله قد تدخل في حياتهم بشكلٍ فاعل، وعمل على توجيه أفعالهم وأفكارهم؛ أو هناك منهم مَنْ يعتبر نفسه مأموراً من قبل الله لفضّ النزاعات وحلّ الخلافات، وعلى هذا الأساس يبيح لنفسه إشعال الحروب وإراقة الدماء واقتراف أبشع الإبادات الجماعية. وعليه لا بُدَّ في كلّ تراثٍ دينيّ من وجود معايير وضوابط لتشخيص الغثّ من السمين، وتحديد التجربة الأصيلة والموثّقة دينياً من الأوهام الشخصية. وقد عمد (جون هيك) ـ بالنظر إلى الأديان التوحيدية، من قبيل: المسيحية والإسلام، بل وحتّى المذاهب البشرية، مثل: البوذية ـ إلى ذكر العديد من الموارد التي تمسَّك فيها العرفاء المنتسبون إلى هذه الأديان بمعايير محدّدة ومبذولة، من قبيل: التطابق مع النصوص المقدّسة، والتماهي مع الفهم المتعارف والعقل السليم، والتناغم مع الحياة الاجتماعية للبشر، ومن بينها: الأخلاق، والانسجام مع قواعد وأساليب السلوك، والسير على طريق الكمال الإنساني، وما إلى ذلك من الأمور، مؤكِّداً على أن العرفاء قد ذكروا في آثارهم وأقوالهم أكثر من مرّةٍ أنه لا يمكن اعتبار كلّ مشاهدة أو سماع على أنه من قِبَل الله تعالى، بل يجب قياس تلك المشاهدات والمسموعات وتقييمها في ضوء النصوص المقدّسة أو التعاليم الأصيلة للدين الرسمي، والعمل على توثيقها وتحكيمها. يؤكِّد أكثر العرفاء وأصحاب التجارب على المعايير العملية، وما يعبِّر عن أخلاقيات الفرد على مستوى الأعمال والسلوك. وباختصارٍ: إن المعايير العامة والشاملة لتشخيص اعتبار وصحّة التجربة الدينية كامنة في نتائجها الأخلاقية والمعنوية في حياة الإنسان، بمعنى أن التجارب الدينية يمكن التعرُّف عليها من خلال ثمارها ونتائجها. وعلى حدّ تعبير الفقرة المعروفة في إنجيل متى: «الشجرة الصالحة تعطي ثماراً صالحة، والشجرة الفاسدة تعطي ثماراً فاسدة».
الدين وعلم الأعصاب
وأما القسم الثاني من هذا الكتاب ـ وربما كان أهمّ أقسامه؛ بلحاظ الموضوع والمسائل ـ فيتناول التحدّيات الجديدة التي أثارتها العلوم ومعطيات علم الأعصاب، ولا سيَّما الدراسات المتعلقة بالأعصاب وآلية عمل المخّ تجاه المعتقدات والتجارب الدينية.
هناك مَنْ يعتقد ـ مصيباً ـ أن الرؤية الطبيعية، ولا سيَّما المادية، هي الرؤية المهيمنة على التفكير الغربي الحديث. ولو اتفقنا مع كلام (جون سرل) القائل بأن المادية هي دين العصر بالنسبة إلى الكثير من المتخصّصين في مجالات من قبيل: الفلسفة وعلم النفس والعلوم المعرفية والمجالات الأخرى التي تهتمّ بالدراسات الذهنية لن يكون ذلك جزافاً. ومن هنا كان كلّ مجتمعٍ يعاني من نوعٍ من الرؤية الميكانيكية أو الآلية التقليلية، وهي الرؤية التي يجب القول فيها: إن ذلك العلم يتبلور ضمن إطارها. وبطبيعة الحال فإن معلول هذه الرؤية هو الذي يبلور جميع الواقعية التي تؤلِّف العالم الطبيعي أو المادي، وليس شيئاً آخر، وإن الذهن بوصفه جزءاً من عالم الطبيعة ليس سوى ظاهرةٍ مادية. ومن هنا يذهب الكثير من المتخصّصين في علم الأعصاب إلى القول: عندما نبحث حول كيفية عمل المخّ فإننا إنما نبحث حول كيفية أداء الذهن؛ لأن الذهن ليس سوى كتلة وزنها 1200 غراماً من الخلايا المكوِّنة له. ومن الواضح أن مثل هذه الرؤية الفيزيقية أو المادية للذهن البشري لا تنسجم أبداً مع المعتقدات الدينية، ومن بينها: الاعتقاد بوجود الواقعية الإلهية المتعالية. بَيْدَ أن بعض العلماء، من أمثال: (نيوبرغ) وأعوانه، عمدوا من خلال هذا الفهم الفيزيقي والمادي للذهن إلى إيجاد نوعٍ من الانسجام بين العلم والدين، وذهبوا ـ من خلال طرح مفهوم جديد باسم الإلهيات القائمة على علم الأعصاب (النيوروثولوجي)([5]) ـ إلى اعتبار مفاهيم، من قبيل: مفهوم الله، هي نتاج الحالات المتنوِّعة للمخّ، وكلّما تحدّثوا عن النسبة بين المخّ والذهن فإنهم يعتبرون الذهن معلولاً للمخّ. بَيْدَ أنه لا يمكن اعتبار هذه الجهود فوق إطار الرؤية الطبيعية والمادية للكون. ومن الواضح أن النزعة الطبيعية ـ ولا سيَّما المادية منها ـ لا تنسجم مع الكثير من التعاليم الأصيلة في الأديان العالمية الكبرى.
ثم يواصل (جون هيك) بحثه في بعض أحدث التحدّيات المنبثقة عن دراسات علم الأعصاب، ثم يسعى إلى الإجابة عن هذه التحديات، استناداً إلى كلام بعض المتخصّصين في هذا المجال.
يعتبر المخّ البشري المؤلّف من مئة مليار خلية عصبية أعقد شيءٍ كشف عنه العلم حتّى هذه اللحظة. يمكن اعتبار الفصوص الأربعة للمخّ من أهمّ الأجزاء المكوّنة للمخّ. وفي ما يتعلق بهذا المورد الخاصّ شغلت (النسبة بين الدين ودراسات علم الأعصاب) اهتمام الباحثين، حيث تنقسم فصوص المخّ([6]) إلى الأقسام التالية:
1ـ الفصّ القفوي (أو القذالي)([7])، الذي يمثّل المركز الداعم لقدرتنا على الرؤية، ويحوّل المعلومات إلى مناطق إضافية من الدماغ.
2ـ الفصّ الجداري([8])، المسؤول عن الإحساس في الجانب المعاكس من الجسم، وتحديد الجهات، وأجزاء أخرى من المعرفة.
3ـ الفصّ الصدغي([9])، حيث يتضمّن مسؤولية أساسية في استيعاب السمع واللغة، والإدراك، ويتعلّق بجوانب من الذاكرة.
4ـ الفصّ الجبهي([10])، يختصّ بالتفكير والتخطيط وتكوين المفاهيم.
بَيْدَ أن المتخصّصين في علم الفسيولوجيا، رغم تأكيدهم على أن لكل فصٍّ من هذه الفصوص المذكورة وظائفه الخاصة، يعتبرون المخّ بمجموعه كلاًّ حيوياً فاعلاً تتفاعل جميع أجزائه وتتعاون فيما بينها، وإن هذا التعاون فيما بينها يؤدّي إلى إدراك الإنسان لشيءٍ أو ظاهرة خاصّة.
والأمر الجدير بالذكر هو ماهية النسبة بين التجربة الدينية والمخّ وآليات عمله. يذهب الكثير من العلماء المتخصّصين في علم الأعصاب، من الذين درسوا في معطيات علم الأعصاب المقرونة بالتجارب الدينية المقرَّرة، وكذلك بعض فلاسفة الدين الذين يتتبّعون المعطيات الناتجة من بحوث علم الأعصاب، يعتبرون التجارب الدينية نتاج تفاعلات المخّ أو اختلال وظائفه. إن الذين يتعرَّضون إلى نوباتٍ من الصرع يعانون تجربة أوهام واضحة، حيث يتوهّمون خلالها أنهم يسمعون أصواتاً أو يشاهدون أموراً ذات طابع ديني. بل إن مشاعر من قبيل: الإحساس بحضور الله أو الارتباط به، أو الشعور بالانفصال عن الهيكل الجسماني، والشعور بنوعٍ من الرضا والسعادة المتعذّرة على الوصف، والإحساس بالازدهار وبلوغ الغاية، ومشاهدة النور الساطع الذي يبدو وكأنّه منشأ العلم والمعرفة، ورؤية الشخصيات السماوية التي تبدو على شاكلة عيسى المسيح وأمثاله، هي بأجمعها من تداعيات بعض نوبات الصرع. وإن بعض النشاط الحاصل في الفصّ الصدغي قد تستتبع أحياناً نتائج من قبيل: تداعيات نوبات الصرع. كما تذهب هذه المجموعة من العلماء إلى الاعتقاد بأن فقدان الأوكسجين أو الكلوكوز في المخّ أو الاهتياج العارم المفاجئ من شأنه أن يستدعي تصوّر الفرد رؤية أو سماع بعض الأمور ذات الماهية الدينية على غرار ما يحدث للمصروعين. وهنا يطرح سؤالٌ نفسه: إذا كان الأمر كذلك ما الذي يمنعنا من اعتبار مسموعات أو مشاهدات الشخصيات الدينية والعرفانية، من أمثال: عيسى وبولس وتيريزا، وكذلك أموراً من قبيل: التعالي على الطبيعة، أو الشعور بحضور موجودٍ أو موجودات إلهية، نتاج اختلال في وظائف المخّ أو حتّى تحريك شطرٍ من المخّ أو إدراكه لشطره الآخر المتناظر معه؟
يعمل (جون هيك) في نقد ما يُقال في مجال نشاط المخّ والتجربة الدينية على التمييز صائباً بين الموارد المبحوثة من قبيل: (راما شاندران)، وبين الموارد المختلفة الأخرى التي درسها (نيوبرغ) وأضرابه. إن موضوع اختبار (نيوبرغ) وأعوانه هم رهبان التيبت، الذين يمثِّلون نموذجاً بارزاً للأفراد المتديّنين حقيقة، وبطبيعة الحال هناك احتمال أن تكون حالاتهم العرفانية ملازمةً لردود أفعالٍ أو تداعيات عصبية أيضاً. وأما (راما شاندران) وأمثاله فإنهم؛ بمقتضى طبيعة مهنتهم واختصاصهم، يتعاطون مع المرضى والتشخيصات الطبية، ويدرسونهم من حيث الاضطرابات العصبية والنفسية. وعلى هذا الأساس لا يمكن ـ من خلال دراسة التحوّلات العصبية والنفسية لهاتين المجموعتين ـ الحكم في باب التجربة الدينية على نَسَقٍ واحد. وبعبارةٍ أوضح: لا يوجد هناك أدنى تلازم مفهومي بين التجارب الدينية والأمراض أو الاضطرابات النفسية. إن كبار العرفاء هم في العادة أشخاصٌ أقوياء ومؤثِّرون وموفورو النشاط، وقد أقرّ بذلك علماء من أمثال: (نيوبرغ) و(داكيلي)، رغم منهجهم الطبيعي والمادي. ومن هنا فإن قياس العرفاء وحالاتهم العرفانية بمرضى الصرع وتداعيات نوبات الصرع قياسٌ مع الفارق، ومقارنةٌ خاطئة.
الأمر الآخر: إن أمثال (راما شاندران) يؤكِّدون على الإثارة الكهربائية لأجزاء من المخّ، حيث يمكن بواسطتها إيجاد حالاتٍ شبيهة بالتجارب الدينية لدى الأشخاص الخاضعين للاختبار. فعلى سبيل المثال: يمكن من خلال تعريض أجزاء خاصّة من المخّ إلى التيارات المغناطيسية خلق إحساسٍ بالرضا والغبطة لدى الشخص. ويشير هؤلاء في هذا المورد، وكذلك في مورد تداعيات نوبات الصرع، إلى الفصّ الأيسر من الجبهة. وأما في ما يتعلَّق بـ (راما شاندران) وغيره من المتخصِّصين في علم الأعصاب من أصحاب الكلمة في مجال الدين فيجب القول: إنهم رغم تخصّصهم وكفاءتهم في حقولهم التخصّصية، إلاّ أن معطياتهم لا يمكن تعميمها وتسريتها إلى الدوائر المختلفة الأخرى من الدراسات والتجارب الدينية. ولا ننكر بطبيعة الحال أن هناك اليوم حقولاً فرعية جديدة في ما يتعلَّق بعلم الأعصاب والدين، حيث يمكن لنا جميعاً الاستفادة منها على السواء. بَيْدَ أنه بالالتفات إلى المعايير المذكورة في الفصل الرابع (ومن بينها: النتائج الأخلاقية والمعنوية على المدى البعيد، التي تُعَدّ من التجارب الدينية في حياة الفرد) لا يمكن اعتبار التجارب الناجمة عن نوبات الصرع أو الإثارات الكهربائية أو تناول العقاقير أو حبوب الهلوسة تجربة دينية، على غرار ما ذُكر بالنسبة إلى الأديان ـ ولا سيَّما العالمية منها ـ في ضوء المعايير الخاصة. ومن ناحيةٍ أخرى لا يمكن لنا أن نقيم علاقةً قطعية من نوع العلة والمعلول بين نوبات الصرع والتجارب الدينية، كما لا يمكن اعتبار تجارب أمثال: (راما شاندران) و(روجر بنفيلد) ـ الإثارة الإلكترونية لطبقة المخّ ـ تجربةً دينية؛ إذ إن الأشخاص الذين أخضعوا لتجاربهم إنما كانوا في الغالب من زبائنهم الذين يعانون من المَرَض أصلاً، ولم يكونوا أصحّاء. وأما الأشخاص الذين يتمتَّعون بسلامة المخّ فإنهم إما أن لا تكون لديهم ردّة فعلٍ تجاه الإثارة الكهربائية، أو إنهم يبدون ردّة فعلٍ ضئيلة للغاية. فمن بين ما مجموعه 1500 شخص تمّ إخضاعه للاختبار العلمي ـ على سبيل المثال ـ لم يستجِبْ للإثارة والشعور بالغبطة والسرور سوى شخصٍ واحد فقط.
تكمن مشكلة علماء من أمثال: «راما شاندران» و«بنفيلد» وغيرهما من علماء الأعصاب في أنهم لا يفرِّقون أبداً بين الأوهام الحاصلة من الأمراض النفسية أو تناول العقاقير أو الإثارات الكهربائية أو نوبات الصرع وبين التجارب الدينية الأصيلة والحقيقية. إن العرفاء ـ خلافاً للمصابين بداء الصرع أو الذين تعرض لهم الأوهام لشتّى الأسباب ـ لا يعتبرون مشاهداتهم ومسموعاتهم مغايرةً للواقع، ويبقى إيمانهم بواقعية حالاتهم حتّى بعد الخروج من أجواء تلك الحالات على حاله. وعليه لا ينبغي من خلال اعتبار عدم واقعية الأوهام أو الحالات الحاصلة من اختلالات المخّ الحكم بعدم واقعية التجارب الدينية للعرفاء. صحيحٌ أن الشخص الذي يتناول بعض المخدّرات، أو الذي يتعرّض إلى ضربةٍ في الجمجمة، يشاهد أموراً مثل: النجوم وغيرها ممّا لا وجود له في عالم الواقع، ولكنْ هل يبيح لنا ذلك الحكم بعدم وجود العالم الواقعي الذي نشاهده عياناً ونحن بكامل قوانا العقلية والإدراكية؟ وعلى هذا القياس، لو أدَّت الأسباب الفيزيقية بنا إلى التعرُّض لبعض الأوهام الدينية لا يمكن الحكم ـ بسببها ـ بعدم وجود أيّ حقيقةٍ متعالية تعبِّر عنها التجارب الدينية، أو القول بعدم وجود الحقيقة المتعالية التي يمكن إدراكها بشكلٍ صحيح.
هناك مَنْ يتحدّث عن دراسة حالات ومراقبة الرهبان البوذيين في مناطق التيبت ونشاط أجزاء من المخّ عندهم أثناء المراقبة. وقد أجرى «نيوبرغ» و«داكيلي» ذات الاختبار على الراهبات المنتسبات إلى الفرقة الفرنسيسكية أيضاً، وأدركا بعدها أن مخّ هذه الراهبات بدوره قد تعرَّض أثناء العبادة والتضرُّع إلى ذات الأعراض والتغيّرات الحاصلة عند الرهبان البوذيين. بَيْدَ أن الفارق الهامّ هنا يكمن في أن الراهبات في هذا الاختبار أبدَيْنَ نوعاً من الشعور بالقرب من الله، خلافاً للرهبان البوذيين في حالة المراقبة، حيث شعروا بنوعٍ من الاتحاد مع الطبيعة. وعليه بالالتفات إلى هذا الاختلاف بين حالات الوعي لدى هاتين الجماعتين لا يمكن اعتبار الوعي والإدراك معلولاً للمخّ؛ لأن المخ قد أظهر نشاطاً واحداً في الناحية العصبية، بَيْدَ أن التداعيات التي كانت في وَعْيهما وإدراكهما قد اختلفت، ولو كانت تجاربُهم مجرّد انعكاس لحالاتهم العصبية فقط لكانت التبعات والتداعيات واحدةً أيضاً.
إن المتخصّصين في فسلجة الأعصاب يرصدون نشاط المخّ في ناحيةٍ خاصة منه، ويعملون عليها، ولا تكمن هواجسهم في أن الإدراك هل هو متَّحدٌ مع نشاط المخّ، أو هو معلولٌ له، أو هو ملازمٌ له؟ ولكنْ، خلافاً للمتخصِّصين في الأعصاب، يذهب الذين يحملون هذه الهواجس إلى القيام بأمرين؛ فمرّةً يرومون معرفة ما الذي يجري في المخ عندما يكون الشخص في كامل وعيه، ويكون في حالة إدراك، أو تفكير، أو إرادة، أو تجربة نوع من الإثارة، أو إبداع لوحة أو مأثرة فنية؟؛ وتارةً يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يرومون معرفة ما هو الوعي والإدراك أساساً؟ وإذا كان معلولاً للنشاط الذهني فكيف تحصل هذه المعلولية؟ وما هي صيغتها؟
واليوم يسعى العلماء المتخصّصون في العلوم الطبيعية ـ بشكلٍ رئيس ـ إلى خفض الإدراك إلى مستوى العناصر المادّية ووظائف المخّ. ولكنْ يبدو أنهم سوف يخفقون في ذلك. إن المغالطة الموجودة هنا هي أن هؤلاء يعتبرون التلازم أو التقارن بين حالات الوعي والإدراك وبين التغيّرات الحاصلة في المخّ بمعنى الاتحاد والتماهي بينهما. وبعبارةٍ أخرى: إن الكثير من المتخصّصين في علم الأعصاب، وكذلك بعض فلاسفة الذهن، ذهبوا إلى أبعد من المبنى المقبول والمشترك بينهما، ومن خلال سلوك الاتجاه المادي والفيزيائي يقولون: لو أخذنا جانباً خاصّاً من التفكير الواعي بنظر الاعتبار فإن الحادث في الفكر والمسارات الإلكتروكيميائية التي تعتري المخّ في الوقت نفسه ليسا أمرين منفصلين؛ أحدهما: فيزيقي؛ والآخر: غير فيزيقي، بل هما في الحقيقة حادثٌ فيزيقي واحد. يمكن اعتبار هذا القول بالتماهي نوعاً من الخطأ أو المغالطة المنطقية؛ إذ إن كلَّ شخصٍ يدرك بوجدانه أن مسار الوعي والإدراك يختلف ماهوياً عن التغيُّرات الحاصلة في المخّ بالتزامن مع حصول ذلك الإدراك. فلو كان (أ) هو (ب) وجب أن يتَّصف بجميع صفاته وخصائصه، إلاّ أن الحالات الذهنية فاقدةٌ للمكان، في حين أن حالات المخّ في مكانٍ، ولها منزل حقيقي. إن الشعور بالألم قد يكون شديداً أو طفيفاً، إلاّ أن المخّ نفسه لا يغدو خفيفاً أو شديداً. فلو أنّني وخزْتُ إصبعي بإبرةٍ فإن أوصاف إدراكي للألم لن تكون هي ذات أوصاف إطلاق مجموعة من الخلايا العصبية في المخّ قطعاً.
المعرفة والتجربة الدينية
عند بلوغ الفصل الحادي عشر ندخل في القسم الثالث من هذا الكتاب. ويشتمل هذا القسم ـ خلافاً لسابقَيْه ـ على مسائل أكثر تنوُّعاً، حيث تبدأ مساحة هذه المسائل من طرق الحلّ المعرفية، ثمّ تتّسع لتبلغ المسائل المتعلّقة بالتعدُّدية الدينية، وحتى مسألة المعاد والحياة بعد الموت.
يتناول الفصل الحادي عشر مسألة اعتقادنا بوجود العالم المحيط بنا. إننا نعتقد بالعالم المحيط بنا، والذي يؤثِّر على حواسنا ومنظومتنا الإدراكية، بناءً على شهادة الحواس، وليس بناء على الأدلة والبراهين المنطقية. والذي عمل على إنضاج هذه الرؤية المعرفية قبل أيّ مدرسة فكرية أخرى هو المذهب الفلسفي التجريبي في إنجلترا. حيث عمد (جون لوك) ـ الفيلسوف التجريبي في القرن السابع عشر الميلادي ـ إلى التفكيك بين الكيفيات الأوّلية والكيفيات الثانوية، وأعطى الأصالة للكيفيات الأوّلية؛ لأن الكيفيات الثانوية ـ من قبيل: الصوت واللون والحرارة والطعم والرائحة ـ ليست سوى تأثير الكيفيات الأوّلية في إدراكنا. وقام (جورج بريكلي) ـ من خلال إلغاء الكيفيات الأوّلية ـ بتبديل كلّ شيءٍ إلى مضمون الوعي والإدراك، وقال بأننا إنما نعرف محتوى وعينا وإدراكنا بالقطع واليقين فقط، بمعنى أن العالم المحيط بنا ـ بما في ذلك الناس وكلّ ما نرتبط به ـ إنما هو موجودٌ في أذهاننا فقط. وعليه فإن الموجود يعني المُدْرَك. والاستثناء الوحيد في البين هو الله فقط؛ إذ إن وجوده منفصلٌ عن إدراكه.
وأما «ديفيد هيوم» ـ وهو فيلسوفٌ تجريبي من القرن الثامن عشر الميلادي ـ فقد أقام إيماننا بوجود العالم الخارجي على طبيعتنا وجبلّتنا، وليس على البراهين الفلسفية. إن الذهن لا يذعن إلاّ بما يُفرض عليه من الخارج، ثم يعمل من خلال مصادره الحسّية الواضحة على بناء منظومةٍ متّسقة، نطلق عليها اسم «الواقعية» أو «العالم». إننا ندرك العالم الذي نعيش فيه، دون أن يقوم أيّ دليلٍ فلسفي على إثباته أو رفضه. إننا نعتمد على حواسنا، ونسمّي هذا الاعتماد إيماناً طبيعياً، وعلينا أن نقيم حياتنا على دعائم هذا الإيمان. وفي هذا الإطار ذهب «جورج مور» ـ فيلسوف النصف الأول من القرن العشرين ـ؛ تأكيداً لكلام «هيوم»، إلى القول بأننا نعرف الكثير من الأمور، ونذعن بوجودها، ولكننا مع ذلك لا نستطيع إثبات وجودها بالبرهان.
إن (هيوم)، الذي قام على أكتاف فلاسفة من أمثال: (جون لوك)، و(باركلي)، يقدِّم لنا أصلاً يؤيِّده الفهم المتعارف، ويساعد عليه العقل السليم. كما يمثِّل رؤية فلاسفة اللغة في القرن العشرين. وطبقاً لهذا الأصل ـ الذي تقوم عليه حياتنا اليومية ـ يجب علينا الإذعان بوجود كلّ شيء يبدو موجوداً، إلاّ إذا قام الدليل على ضرورة التشكيك في وجوده. نصادف حولنا الكثير من الموارد التي لا نملك معها إلاّ الإيمان والاعتراف بوجودها، حيث نعتمد في العادة على تجاربنا اليومية ـ بل يجب علينا الاعتماد عليها ـ، وإلاّ أضحت الحياة مستحيلةً. وبطبيعة الحال فإن هذا الاعتماد ليس اعتماداً أعمى، بل هو اعتمادٌ نقدي، وهناك على الدوام احتمال إعادة النظر فيه. وحيث يكون اعتمادنا في هذا المورد انتقادياً نكون بإزائه في برزخٍ بين النوم واليقظة، وفي اليقظة نفرِّق بين الأمور الواقعية والأمور التي تبدو واقعية، كما هو الحال بالنسبة إلى السراب. كما ينبغي هنا أن نفرِّق بين الأخطاء الحسّية([11]) والتوهُّم([12]). إن الذهن الذي يعمل دائماً على تفسير الكثير من المعطيات والإشارات الحسّية يخطئ أحياناً في تفسير الإدراك الحسّي، ويطلق على مثل هذا الخطأ بـ «الخطأ الحسّي». وأما التوهّم فهو ليس تفسيراً خاطئاً لمعطىً حسّي، بل هو نوعٌ من الشطط المَحْض، الذي يكون في الغالب معلولاً لنوعٍ من الاختلال أو الضعف الذهني أو العصبي.
وعلى أيّ حال ليس أمامنا سوى الاعتماد على إدراكنا ومصادرنا الحسّية المعرفية. ولكنّ السؤال المطروح هنا: هل يمكن توظيف أصل الاعتماد الانتقادي هذا بشأن جميع التجارب المعرفية، بما في ذلك التجربة الدينية؟ يبدو في الوهلة الأولى أن هذا الأصل يجب أن يجري في هذا الشأن أيضاً؛ لأن التجربة الدينية هي، مثل الإدراك الحسّي، تجربةٌ حقّاً. إن المفكِّرين الطبيعيين الذين لا يعتقدون بأيّ واقعية إلهية متعالية يؤمنون بهذا الأصل، ولكنّهم ينوِّهون في الوقت نفسه إلى أنّه طبقاً لأصل الاعتماد الانتقادي يجب الاعتماد على تجاربنا، إلا إذا كان هناك دليلٌ معتبر على عدم الاعتماد. وفي مورد التجربة الدينية؛ حيث تتوفَّر الأدلة المعتبرة على عدم الاعتماد، يجب عدم الاعتماد عليها. ومن بين الأدلة التي يذكرها هؤلاء المفكِّرون على عدم الاعتماد على التجربة الدينية هناك موردان يحظيان بأهمّية أكبر من تلك الأهمية التي تحظى بها الأدلّة الأخرى، وهما:
أوّلاً: إن التجربة الحسّية تجربة عامة، وأما التجربة الدينية ـ بمعنى الإدراك التجريبي للأمر المتعالي ـ فليست من الأمر العامّ، وإنما هي أمرٌ شخصي تماماً. ثم إن هذه التجربة الشخصية والخاصّة لا تحدث إلاّ لبعض الأشخاص القلائل. ثم إنه على فرض تعرُّض الكثير إلى مثل هذه التجربة، إلاّ أنها من النوع الذي لا يتكرَّر إلاّ نادراً.
وثانياً: إن التجربة الحسّية متناسقةٌ ومتساوية إلى حدٍّ كبير في جميع أنحاء العالم، وفي جميع الثقافات، إلاّ أن التجربة الدينية، أي التجربة المؤلَّفة من المفاهيم الدينية، تتَّخذ أشكالاً وصوراً متنوّعة للغاية بحَسَب الأمكنة والأزمنة المختلفة. وعلى هذا الأساس فإن الطبيعيين لا يرَوْن جريان أصل الاعتماد الانتقادي في مورد التجربة الدينية.
وعلى أيّ حالٍ يبقى السؤال قائماً: كيف يمكن تبرير هذا التنوُّع الكبير للتجارب الدينية؟ وفي الأساس إذا كان الأمر المتعالي واحداً لا أكثر، ولو اعتبرنا التجربة الدينية أصيلة وحقيقية، فما هو حكم التجارب الأخرى؟ هذا ما سيتحدّث عنه (جون هيك) في الفصل الثاني عشر من هذا الكتاب.
لقد ذكر العلماء ثلاثة آراء في مجال تجاربنا الإدراكية للعالم، أو العالم الذي ندركه ونعيه: الرأي الأوّل: هو الموسوم بالواقعية البسيطة، بمعنى العالم المحيط بنا كما يبدو في أنظارنا؛ والرأي الثاني: المثالية، بمعنى العالم الذي ندركه، ولا يكون له وجود إلاّ في وعينا وإدراكنا؛ والرأي الثالث: الرأي المعروف بالواقعية الانتقادية، أي إننا بواسطة إمكاناتنا المعرفية وصور ومقولات وَعْينا ندرك العالم كما يتراءى لنا، وبعبارةٍ أخرى: إن العالم في نفسه غير ظاهرٍ لنا، وإنما ندرك منه ما تسمح به بنيتنا الذهنية، وما يعرضه الذهن البشري من التأثيرات الواقعية على وَعْينا. والذي يحظى بالأهمّية الخاصّة في هذه النظرية هو المشاركة والدَّوْر الفاعل والمبدع للذهن في إدراكنا للعالم المحيط بنا. وفي الحقيقة، في هذه التجربة التي هي حصيلة مشاركة الذهن والواقع، تكون التجربة مطروحةً على الدوام بمثابة التفسير. وبطبيعة الحال فإن التفسير هنا ليس بمعنى التفسير المصطلح بالنسبة إلى بيان وشرح النصوص المقدّسة مثلاً، بل بمعنى أننا في كلّ لحظةٍ في حالة تفسير التأثيرات المحيطة بحواسنا، ونعمل بشكلٍ وآخر على تفسير تلك المعطيات. ونعني بـ «المعطيات» هنا الأوضاع والأحوال الخاصّة التي نمارس من خلالها الفعل وردّة الفعل. إذن من بين الإجابات التي يمكن تقديمها عن مسألة تنوُّع التجارب الدينية أننا وفي كلّ آنٍ في حالة تفسير أو بيان الواقع، وبعبارةٍ أخرى: ليست لدينا تجربة أو مشاهدة خالصة بمعزل عن التفسير والمعنى، وإنما نحن على الدوام في حالة «التجربة بمثابة الـ…»، أو «المشاهدة بوصفها…».
أما المسألة الأخرى فهي مسألة سطوح وطبقات المعنى. إننا في حياتنا اليومية نواجه أشياء منفصلةً من بعضها، ونرى هذه الأشياء المنفصلة على الدوام بوصفها عناصر لحالةٍ أوسع، وتلك الحالة بدورها عنصرٌ في وضعٍ أكثر سعةً وشمولية. ومن الأفضل القول: إننا نعيش في وضعٍ نواجه معه فتح سجلّ المعنى وطبقاته، وهو وضع يُعبِّر عن الثبات، كما يعبِّر في الوقت نفسه عن التغيُّر المستمرّ. في هذا العالم المتغيّر باستمرار ندرك سطوح المعنى وطبقاته، وكلّ طبقةٍ تنقلنا إلى طبقةٍ أخرى. وإن هذا الوضع المتشابك والمتداخل من الطبقات ليس أفقياً أو سطحياً بالضرورة، بل هو عموديّ في الغالب، بمعنى أن كل طبقة من المعنى تنقلنا إلى طبقةٍ أعلى من ذلك المعنى. ومن ناحيةٍ أخرى فإننا فاعلون مختارون، وكائنات مختارة، حيث ننتخب من بين الأمور والقِيَم وهذا النوع من أساليب الحياة أو ذاك. ولهذه الأسباب فإن تجربتنا عن الأمر المتعالي تجربة متنوعة، كما أنها ـ خلافاً للتجارب الحسّية ـ ليست تجربة شاملة وثابتة، فهي ليست عامة؛ إذ إن ذلك الأمر المتعالي لا يفرض نفسه علينا، وليس نمطياً ولا ثابتاً؛ إذ إن مشاركة الإنسان في صور وأشكال التجربة الدينية الأصيلة تتنوَّع تبعاً لتنوُّع الثقافات والسنن.
ويتعرَّض (جون هيك) في الفصول اللاحقة إلى مسألة تنوُّع وكثرة الأديان والمذاهب. وبالنسبة إلى الكثير من أتباع الأديان لا يكون السؤال عن «أيّ دين؟» مطروحاً؛ لأن الإجابة عن هذا السؤال محسومةٌ سَلَفاً؛ فهم يؤمنون دون أدنى شكٍّ في أن الدين الذي ولدوا عليه، ونشأوا فيه، هو من أفضل الأديان وأصوبها، وأنه المنجي، دون غيره من الأديان والمذاهب. بَيْدَ أنه بالنسبة إلى الكثير من أتباع الأديان أيضاً ـ ولا سيَّما في العالم المعاصر، حيث انفتاح الثقافات والديانات على بعضها ـ أصبح السؤال عن الدين أمراً جادّاً وهاجساً معقّداً. فلو أخذنا مفهوماً من قبيل: الفلاح والنجاة على سبيل المثال فإنّ كلّ دينٍ في إطار مفهومه الخاصّ يقدِّم نفسه بوصفه هادياً إلى النجاة والفلاح، وفي الحقيقة إن جميع الأديان تحاول الإجابة عن هذا السؤال القائل: «ما الذي يمكن لنا أن نفعله كي نحصل على الفلاح؟». وفي إطار الإجابة عن هذا السؤال وأمثاله من الأسئلة نواجه تعدُّد الطرق والأنظمة المفهومية، التي تؤدّي في نهاية المطاف إلى تعدُّد الأديان. وإذا كانت مسألتنا هنا تكمن في العلاقة بين الأديان أو المذاهب فإننا سوف نواجه ثلاثة آراء، وهي:
1ـ الانحصارية: بمعنى أن هناك ديناً واحداً هو دين الفلاح والنجاة. فلو أخذنا المسيحية ـ على سبيل المثال ـ نجد المسيحيين الانحصاريين يعتقدون أن المسيحيين وحدهم هم الناجون، وعلى حدّ تعبير الكاثوليك: «ليس هناك أيُّ طريقٍ للنجاة خارج جدران الكنيسة».
2ـ الشمولية: بمعنى أن النجاة للجميع لا تتحقّق إلاّ بتضحية السيد المسيح. وهذا بطبيعة الحال لا يقتصر على المسيحيين، بل إن جميع أفراد البشرية يمكن لهم من خلال هذه الكفّارة «صلب عيسى المسيح» بلوغ النجاة. وعلى حدّ تعبير «كارل رانر»: إن غير المسيحيين هم في الحقيقة مسيحيّون مجهولون، ولو عُرض عليهم الكتاب المقدَّس بشكلٍ صحيح فإنهم سيقبلون عليه، أو بعبارةٍ عصرية أكثر شيوعاً: إن غير المسيحيين سيواجهون المسيح في نهاية المطاف، أو في لحظة الموت أو بعدها، وسوف يؤمنون به بوصفه إلهاً مخلِّصاً.
3ـ التعدُّدية: بمعنى أنه لا وجود للدين المنجي الواحد، وإن جميع الأديان الكبرى في العالم هي أديان أصيلة وحقيقية ومخلصة.
ذهب (جون هيك) ـ من خلال قوله بعدم إمكان ترجيح أتباع دينٍ على أتباع دينٍ آخر، من حيث معدل الذكاء والفطنة والصدق ومراتب الأخلاق والإخلاص والنقاء الروحي ـ إلى ردِّ القولين الأوّلين (الانحصارية والشمولية)، واختار القول بالتعدُّدية. بَيْدَ أنه قبل طرح وبيان آرائه التعدُّدية يشير في البداية إلى موقفين في هذا الشأن، ويعدِّد مواطن الخلل والضعف فيهما، ويردّهما. وهذان الموقفان عبارةٌ عن:
1ـ التعدُّدية القائمة على الواقعية ـ أو الأمر المتعالي ـ متعدِّدة الجهات، بمعنى أن الواقعية المتعالية تشتمل على العديد من النواحي الشخصية وغير الشخصية، وإن كل واحدٍ من الأديان الكبرى يقوم على إدراك ناحيةٍ واحدة أو أكثر من تلك النواحي.
2ـ التعدُّدية اللامركزية، بمعنى أن الأديان مستقلّةٌ ومنفصلة عن بعضها بالكامل، وتعبد كلّ واحدة منها واقعيتها الغائية الخاصة، أو أنها تتّخذ موقفاً بإزائها، وتسلك طريقها الخاصّ في الوصول إلى تلك الغاية. وربما تضمّن هذا القول تعدُّديةً عن العوالم المنفصلة عن بعضها، والتي تدبِّر أمورها آلهةٌ مختلفة. وقد ذهب (جون هيك) إلى القول بضعف هذين الرأيين بجميع قراءاتهما، التي تبين العلاقة بين الأديان.
وفي مقام بيان رؤيته التعدُّدية الخاصة يسوق مقدّمتين تشكِّلان مبنىً لنظريته:
المقدّمة الأولى: إن التجربة الدينية بجميع صورها المتنوّعة ليست مجرد تخرّصات بشرية، وإنما هي في الحقيقة انعكاسٌ في مقابل الحضور الشامل للواقعية المتعالية. ومن الواضح ـ بطبيعة الحال ـ أنه لا يمكن اعتبار كلّ تجربة تجربةً دينية؛ إذ المعيار المشترك بين جميع الأديان في اعتبار دينية التجارب هو النتائج الأخلاقية والروحية المترتبة على تلك التجارب في حياة الإنسان.
المقدّمة الثانية: إن الأديان العالمية في ما يتعلَّق بتلك النتائج الأخلاقية والروحية تقف على قدم المساواة، بمعنى أنه لا يمكن ترجيح بعضها على بعض من هذه الناحية.
وبعد ذكره لهذه المقدّمات عمد (جون هيك) ـ من خلال توظيفه لتمايز (كانْت) بين الـ «نومن»([13]) و«الفينومن»([14]) ـ إلى طرح تمايزٍ رئيس في باب الأمر المتعالي؛ إذ يقول: يجب الإيمان ـ من جهةٍ ـ بأن الأمر المتعالي في كُنْه ذاته يفوق التوصيف والإدراك البشري. إن الأديان تتّجه إلى هذه الواقعية الغائية التي تفوق المفاهيم والمقولات، وفي الحقيقة فإن الأديان ما هي إلاّ استجاباتٌ وانعكاسات لهذه الواقعية المتعالية. ومن ناحيةٍ أخرى يجب الالتفات إلى الصور والأشكال الخاصّة التي يمكن لنا نحن البشر أن ندرك الواقعية المتعالية في الأديان التاريخية.
والخلاصة: يمكن اعتبار الأديان ردّة فعلٍ طبيعية متفاوتة من الناس تجاه الأمر الواقعي المتعالي، ولذلك يجب اعتبارها أشكالاً مختلفة للتجربة الدينية. فهي ردود أفعال وتجارب، لكلّ واحدٍ منها شكله الثقافي الخاصّ، وتعمل على توظيف أدواتها المفهومية الخاصة.
ومن هنا فصاعداً ينتقل (جون هيك) إلى طرح بعض المسائل، والإجابة عنها بعدّة أجوبة. ويعمل على وصف وبيان مسألة التعدُّدية وتنوُّع الأديان والسنن الدينية، وكيفية ارتباطها، وكذلك نسبة كثرة الأديان إلى المعنويات في العام المعاصر، وصولاً إلى جواب الأديان ـ في نهاية المطاف ـ عن مسألة الحياة بعد الموت، وهاجس الخلود.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الفلسفة والأديان في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.
([1]) John Hick (2006), The New Frontier of Religion and Science: Religious Experience, Neuroscience and the Transcendent, New York: Palgrave Macmillan.
([4]) الأتمان (atman): الذات الكونية التي انبثقت منها جميع النفوس (في الديانة الهندوسية)، المعرِّب نقلاً عن: منير البعلبكي، المورد.
([13]) الـ (noumenon): الشيء أو مفهوم الشيء كما هو في ذات نفسه، أو كما يبدو للعقل المَحْض (في الفلسفة الكانْتية). المعرِّب، نقلاً عن: منير البعلبكي، المورد (معجم إنجليزي ـ عربي).
([14]) الـ (phenomenon): الشيء كما يبدو لنا، تمييزاً له عن الشيء في ذاته (في فلسفة إيمانوئيل كانْت). المعرِّب، نقلاً عن: المصدر السابق نفسه.