لعل فائض القوة علىكافة المستويات لدى جمهور الصحوة الشيعية، إضافة الى عمق الازمة الاجتماعيةوالثقافية التى يعيشها لبنان، وحدّة الانقسام العمودي بين مكوناته الثقافية منذ حربتموز، وحجم الاحتقان الطائفي و الاصطفاف المذهبي، اوصل اللبنانيين عموما والشيعةخصوصاً, إلى مذهبة حياتهم اليومية وأدواتهم المعيشية.
فقد قصدت منذ مدة محلاًلبيع الطيور على طريق صيدا القديمة في طرف الضاحية الجنوبية، عاصمة الصحوة الشيعيةفي لبنان وحاضنة نخبها، داخل المحل، وأثناء حديثي الى صاحبه السوري الجنسية، الذييضع فوق مكتبه صورة كبيرة للسيد حسن نصر الله، لفت انتباهي واستهجاني معاً، التسميةالتي اختارها هذا التاجر لمحله: (الإمامية عليهم السلام للطيور والأسماك)، ولم أجدأي تفسير إيجابي غير استغلالي لهذه التسمية، التي وجدت فيها الكثير من الإهانةوالتهاون من قبل تاجر الدواجن والأسماك برمزية الاسم ومضمونه، ما يطرح أسئلة كثيرةحول طبيعة اختيار اسم المكان وتأثيره على نوعية الزبائن، وما يعكسه من صور مذْهبةالحياة اليومية ومستلزماتها.
منذ مدة سمعت أحد أصدقائي يتحدث عن حمْية الإمامالصادق، مقدماً شرحاً تفصيلياً عن احاديث نقلت عن الامام الصادق، حول كيفية خفضالوزن و الحفاظ على رشاقة الجسم، معتبراً ان ما قاله الصادق يوازي بأهميته احدث ماوصلت اليه الدراسات الطبية في كبرى مراكز البحوث العلمية، معتبراً ان هذه الحمْيةما هي إلا برهان آخر يؤكد على المعرفة الطبية لدى اهل البيت.
وفي نموذج آخر, تلقيت دعوة عبر الهاتف من قريبة لي تدعوني فيها إلى حفل زواج ابنها, وتؤكد حضوريالى مائدة العشاء التي ستقام على شرف العروسين، فقالت السيدة مجاملة (يا سيد نريدبركتك على مائدة ام البنين) مكررة التسمية, إنها مائدة ام البنين, كشاهد على اجتياحالمذْهبة أبسط عادات وتقاليد أهلنا وإدراج المسميات الدينية في رزنامة اليومياتالشيعية. ليتحول عشاء زواج تقليدي إلى وليمة تحت مسمى ديني مستجد.
مشهد إضافيلحال التمايز في الشكل والتصرفات لدى المكونات اللبنانية، فقد أصبحت الحلي، وخصوصاًالتي يضعها الرجال، دلالة على الدين والمذهب، وقد كان الأخوة المسيحيون هم السباقونفي هذا المجال, من خلال وضع الصليب كقلادة عنق, في حين استطاعت القوات اللبنانيةإيجاد رمزية خاصة لهذا الطقس حيث اعتمد مناصروها ما يعرف الآن (بالصليب المشطوب)،وإن كان الصليب لدى المسيحيين هو علامة جامعة بين كل الطوائف، يبرز في مقابلهالإسلامي تمايز شيعي على السني، وفقاً للظاهرة التي نشهدها هذه الأيام، باعتمادالكثير من الشباب الشيعة وضع سيف الإمام علي بسلسلة تتدلى من أعناقهم، إضافة الىخواتم الفضة بأحجار العقيق اليمني و الدر النجفي والزمرد، وقد اصبح لكل نوع من هذهالاحجار طقسه المذهبي، وصولا إلى الأهم فيها، خاتم الحرز المعروف بحرز الرضا. إضافةالى ما بات يعرف بـ (النتقة الخضراء) وهي لفافة قماش اخضر توضع حول معصم اليداليمنى للبركة.
كذلك لم تنج ولاعات السجائر ومحافظ اليد والشنط المدرسية منظاهرة المذْهبة، أما السيارات فقد تحولت إلى أداة مهمة للتعبير عن هذه الظاهرة، حيثتم تعميد هياكلها اما بصليب او شارة خضراء او سوداء او سبحة تتدلى من مرآة الزجاجالامامي.
وفي اطار مذهبة التقنية، تبرز ظاهرة الرنات الدينية على اجهزة الهاتفالنقال، فقد تتفاجأ وأنت في احد مقاهي العاصمة، ان تسمع صوت الرادود البحريني (حسينالاكرف) او العراقي (باسم الكربلائي) او اناشيد دينية، تتصاعد من هاتف فتاة او شابيجلسان الى جوارك، وما يدهشك تناقض الرنة المستخدمة مع المظهر الخارجي لصاحبالهاتف، كدليل قاطع على المذهبة فقط و ليس على التدين، فهل اصبحت الموسيقى التيتوحد العالم والتي قد يسمعها عدوان متقابلان أسلوباً للتفرقة.
وضمن سياسة وضعاليد على الطائفة الشيــعية، واستكمالاً وإمعاناً في مصادرتها واحتكارها بما ملكتاو حملت او حفـظت من تراثها وعباداتها و ثقافتها الاجتماعية و الدينية، كانتمناســبة الخامس عشر من شعبان من هذا العام، اي ليلة ولادة الإمام الثاني عشر (محمدبن الحسن العسكري) (ع ) او المهدي المنتظر لدى كافة المذاهب الاسلامية، رافعةلزيادة الفوارق، او تاكيداً على الخلاف والاختلاف بين جمهور الصحوة الشيعية ونخبهاوآخرين داخل الطائفة الواحدة و بقية الطوائف الإسلامية.
بعيدا عن خلافالاجتهادات بين أتباع المذهب الإثني عشري، وبقية المذاهب الاسلامية حول عقيدةالمهدي، وإن كان الجميع يلتقي على الفكرة، الا انهم يختلفون مع الشيعة حول انه ولداو لم يولد بعد. ورغم أن المفهوم السائد لأسباب خروج الإمام المنتظر هو تحقيقالعدالة, فجموع المسلمين تنتظر رجلاً من صلب رسول الله، يملأ الدنيا قسطاً و عدلاًبعدما ملئت ظلماً وجوراً, إلا ان الممارسات الاخيرة حولت المناسبة من فرصة لتحقيقالعدالة بين الناس، الى احتكار شيعي من خلال مظاهر احتفالية مبالغ فيها، وتم نقلالمناسبة من عبادة جامعة الى خصوصية مذهبية، تمارس كطقس فريد عند الإماميين، وترافقذلك مع انتشار لافتات و شعارات وأضواء وسمت المناطق الشيعية وغطت جدران و شرفاتوشوارع الضاحية الجنوبية بشكل مبالغ فيه، في مشهد مكمل لأسلوب مصادرة المناسباتوإعطائها طابعاً آخر لم يعتد عليه اللبنانيون عامة والمسلمون خاصة.
لقد اصبحجلياً ان الحالة الشيعية قد استكملت بناء ادواتها الثقافية و الاجتماعية بموازاةالأطراف الدينية الاخرى، فأتخمت بسلسلة من المدارس تحمل تسميات ذات دلالات خاصةفأصبحت تملك الآن ما يوازي (مدارس الراهبات و الإنجيليات و مدارس القديسين والإرساليات) من شبكة مدارس «المصطفى» الى «المهدي» و«شاهد» و«الهادي»، إضافة الىالمعاهد والمهنيات والمستشفيات والمستوصفات التي تحمل اسماءً شيعية, الا ان اخطر ماغفلت عنه هذه النخبة التي تنجز حالتها، ان مدارس الشكل الواحد والنمط الواحد والعقلالواحد في تجربة الآخرين, لم تتمكن من استيعاب الآخر ولم تستطع امتلاك شركاء أومختلفين لبعد ثقافتها التعليمية عن يوميات وهموم شركائها في الوطن، فأنتجت يمينيةمسيحية انعزالية كانت منبعاً بشرياً لأشرس أسماء الحرب الاهلية اللبنانية، فهل نكررالمشهد؟
ما لم تنتبه إليه النخب الشيعية، و لا املك تفسيراً له، هو اننا امامحياة اكاديمية علمية منجزة و متطورة في لبنان، عبر سلسلة جامعات أصبحت بمصافالجامعات العالمية لحسن سمعتها المهنية، بينما نقف نحن الشيعة كالمتفرجين على هذاالمشهد العلمي عن قصد او غير قصد.
في الختام ومن واقع كوني شيعياً، أقول هذاالكلام غيرة ووجعاً، وأتمنى ان يكتب سني عما ينتشر في صفوف اهل السنة، من افكار وسلوكيات مماثلة في مبالاغاتها، وليس المسيحيون بأقل حاجة من ذلك.