ـ القسم الثاني ـ
د. أبو القاسم فنائي(*)
«الدِّينُ لا يُصْلِحُهُ إِلاَّ الْعَقْلُ» (الإمام عليّ×)([2]).
ن ـ الازدواجية في العقل العملي ــــــ
إن من بين الموضوعات الهامة المطروحة في مجال العقل العملي وجود نوع من الازدواجية في أحكام وتعاليم هذا العقل. فإن العقلانية العملية تنقسم إلى: أخلاقية (إيثارية)؛ واقتصادية (أنانية). إلاّ أن هذا التقسيم يؤدّي بنا إلى التعارض في مقتضيات العقل والعقلانية العملية؛ إذ إن العقلانية الاقتصادية تقتضي منا أن نفكر في مصالحنا «الأنويّة»، وأن نأخذ على الدوام أرباحنا وخسائرنا الأنويّة بنظر الاعتبار، وأن نقدّم مصالحنا الأنويّة على أيّ شيء آخر([3]). ومن ناحية أخرى فإن العقلانية الأخلاقية تطلب منا أن لا نضحي بمصالح الآخرين من أجل مصالحنا، وأن نرى في الحدّ الأدنى من الأهمية والقيمة لحقوق ومصالح وسعادة ورفاه الآخرين ذات الأهمية التي نراها لحقوقنا ومصالحنا وسعادتنا ورفاهنا.
إن للعقلانية الأخلاقية مستويين: المستوى الأول ـ أو أدنى مستويات العقلانية الأخلاقية ـ يمكن تسميته بـ «الأخلاق في حدّها الأدنى». والأخلاق في حدّها الأدنى تقوم على «العدالة» و«الإنصاف»، وتطلب من الفرد أن يسعى وراء مصالحه الشخصية في «إطار» العدالة والإنصاف لا غير. وأما «الأخلاق في حدّها الأقصى» فهي تقوم على «الحبّ» أو «الكرم» أو «الإيثار» أو «الهاجس»، وتطلب من الفرد أن يضحّي بمصالحه من أجل مصالح الآخرين. إن قيم الأخلاق في حدّها الأدنى تلعب دور الكابح في سلوك الإنسان، إلاّ أن الطاقة المحرِّكة لهذه الأخلاق يتمّ توفيرها من خارج الأخلاق. إن الأخلاق في حدّها الأدنى تقول: إن الفرد في سعيه إلى الحصول على مصالحه الشخصية إذا لم ينقض أصل العدالة والإنصاف فإن سلوكه سيكون سلوكاً أخلاقياً. إن هذه الأخلاق لا تريد من الفرد أن يضحّي بمصالحه الشخصية دائماً من أجل مصالح الآخرين، أو أن يقدّم مصالح الآخرين دائماً على مصالحه الشخصية. إلا أن القيم الأخلاقية في الحدّ الأقصى تذهب إلى أبعد من ذلك، وتدعو الفرد إلى الإيثار والتضحية بمصالحه من أجل مصالح الآخرين. إن هذه الأخلاق تقوم على الكرم والسخاء والإيثار والتضحية.
س ـ لماذا يجب أن نكون أخلاقيين؟ ــــــ
إن ازدواجية العقل العملي تفاقم من السؤال القائل: «لماذا يجب أن نكون أخلاقيين؟». وقد أجاب فلاسفة الأخلاق عن هذا السؤال بأجوبةٍ متنوّعة.
الجواب الأوّل: إن المعايير الأخلاقية من مقتضيات العقلانية الأخلاقية. ولذلك فإن أصل هذا السؤال ليس قابلاً للطرح، أو إن الإجابة عنه في غاية البداهة والوضوح، بمعنى أنّه سؤالٌ مغلق. طبقاً لهذه الرؤية يكون العقل والعقلانية الأخلاقية متقدِّمٌ على العقل والعقلانية الاقتصادية، وعند التعارض بين مقتضيات هذين العقلين يجب النزول عند حكم العقل الأخلاقي، وإلاّ ففي غير هذه الصورة سوف لا يكون للأخلاق والعقلانية الأخلاقية معنىً أو مصداقٌ أو مورد([4]).
الجواب الثاني: إن الالتزام بالقيم والواجبات والمحظورات الأخلاقية يضمن مصالح الأفراد على المستوى الشخصي؛ لأن هذا الالتزام يخلّص الفرد من وخز الضمير، ويشبع غريزته الإيثارية، وإن لإشباع الغريزة الإيثارية ذات القيمة والأهمية الموجودة في إشباع الغريزة الأنويّة. وعلى هذا الأساس فإن رعاية القيم الأخلاقية واحترام حقوق الآخرين يضمن مصالح الفرد أيضاً.
الجواب الثالث: إن التنافي بين مقتضيات العقل الأخلاقي ومقتضيات العقل الاقتصادي يعود إلى «ضيق الأفق» أو «القصور في الرؤية». ولذلك فإن هذا الضيق في الأفق أو القصور في الرؤية إذا أعطى مكانه إلى «سعة الأفق» فإن هذا التنافي سيزول؛ لأن العقلانية الاقتصادية تريد منا أن نضحّي بمصالحنا الآنية والعابرة من أجل مصالحنا الثابتة وطويلة الأمد، وإن الالتزام الأخلاقي على المدى البعيد سيكون في مصلحتنا، وإنْ كان في ضررنا على المدى القريب([5]).
إن لتبرير الالتزام الأخلاقي على أساس الأنانية البعيدة الأفق أو العقلانية الأنويّة تقريراً دينياً، وتقريراً علمانياً. وإن التقرير العلماني لهذا التبرير يمكن بيانه في إطار الاستدلال التالي:
1ـ إن الكثير من المصالح والغايات الفردية لا يمكن الحصول عليها إلاّ في ظلّ الحياة الجماعية.
2ـ إن الحياة الجماعية رهنٌ بالتعاون والتكافل.
3ـ إن التعاون والتكافل رهنٌ بالثقة المتبادلة.
4ـ إن الثقة المتبادلة رهنٌ بمراعاة القيم الأخلاقية وحقوق الآخرين.
يتمّ التأكيد في هذا الاستدلال على الدور الفريد لمراعاة القيم الأخلاقية في بلورة الحياة الاجتماعية المنشودة، وكون هذا الأمر من لوازم الوصول إلى الغايات والمصالح الفردية.
أما التقرير الديني، الذي يمكن تقديمه لتبرير الالتزام الأخلاقي، فيقوم على مقدّمتين. وكلا هاتين المقدّمتين من التعاليم الدينية الهامّة.
المقدّمة الأولى: «النظم والنظام الأخلاقي في العالم»؛ والمقدّمة الثانية: «الحياة بعد الموت».
وفي التقرير القائم على النظم الأخلاقي في هذا العالم يقال: «إن هذا العالم بمنزلة الجبل، وأفعالنا بمنزلة الصوت، ولا محالة أن الصوت سيرتدّ إلينا على شكل صدى»([6]).
ويقال في التقرير القائم على الحياة بعد الموت: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7 ـ 8)، أو يقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 245).
أما الجواب الرابع عن السؤال القائل: «لماذا يجب أن نكون أخلاقيين؟» فيستند إلى المعرفة الإنسانية العرفانية. وقد تمّ بيان لبِّه وجوهره بشكلٍ دقيق في بيتين لسعدي الشيرازي القائل:
«بني آدم أعضاي يكديگرند *** كه در آفرينش زيك گوهرند
چو عضوي به درد آورد روزگار *** دگر عضوها را نماند قرار».
وهو ترجمةٌ تكاد تكون حرفيّةً للحديث النبويّ القائل: «إنّما مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».
طبقاً لهذه الرؤية تكون مصالح الآخرين مصالحنا، وأضرارهم أضرارنا أيضاً. ولو أن الإنسان أدخل في حساباته العقلانية في مقام اتخاذ القرار حقيقة أن الآخرين شركاء له في الإنسانية، وأن الحدود الفاصلة بينه وبين الآخرين ما هي إلاّ حدود وهمية وغير واقعية، فإنّ مقتضيات العقلانية الاقتصادية ومقتضيات العقلانية الأخلاقية ستكون متناغمة ومنسجمة، وسيزول التعارض والتنافي بينهما.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى طريقة الحلّ التي تقدَّم بها فيلسوف الأخلاق الأمريكي الراحل (جون راؤولز)؛ إذ إن جوهر مدَّعاه قد أفلت من قبضة بعض المفكِّرين من أبناء الوطن. يسعى راؤولز في كتابه (نظرية في باب العدالة) إلى استنباط قواعد العدالة وأصولها من العقلانية الأنانية والمصلحية، إلاّ أن غايته من وراء ذلك لا تكمن في تبرير أصول العدالة في ظلّ قيم العقلانية الأنانية، بل في إظهار تناغم مقتضيات العقلانية الأخلاقية مع مقتضيات العقلانية الأنانية.
إن المنهج الذي يقدِّمه راؤولز لتبرير نظرية العدالة (أصول العدالة) الأخلاقية مزيجٌ من «النزعة التناغمية» أو «الاعتدال الفكري» و«النزعة التعاقدية»([7]). يتعيَّن على الفرد في هذا النهج من جهةٍ أن يسعى إلى استخراج النظرية الأخلاقية المطلوبة من صُلْب المشاهدات الأخلاقية، ليصل إلى منظومة منسجمة ومتناغمة من المتبنيات والأحكام الشاملة على الأمور التالية:
1ـ الأحكام الأخلاقية الشهودية «المدروسة» و«الممحّصة»([8]).
2ـ الأصول والقواعد الأخلاقية المستخرجة منها.
3ـ المتبنّيات الأصولية في مجال الإنسان، «الهوية الشخصية»([9]) والمنزلة الأخلاقية في المجتمع.
فعندما يتمّ الحصول على مثل هذه المنظومة يتمّ تبرير جميع المتبنيات والأحكام الموجودة في تلك المنظومة. ومن ناحيةٍ أخرى يسعى راؤولز إلى إثبات أن نتيجة توظيف هذا المنهج والأسلوب (أي أصول العدالة) مقبولٌ من قبل جميع عقلاء العالم، شريطة أن لا يأخذوا ـ في مقام الحكم ـ موقعيتهم ومنزلتهم الراهنية، أو تلك التي سيؤولون إليها في المستقبل، بل عليهم افتراض أنفسهم في «الموقع الأول»([10])، وأن يصدروا أحكامهم من وراء «ستار الجهالة»([11]).
إن «الموقع الأول» موقع افتراضي مقيّد بمجموعة من قيود الأخلاق الاجتماعية، والتي يتمّ اكتشاف خصائصها من طريق تنسيق المشاهدات الأخلاقية. وعلى هذا المنوال يسعى راؤولز إلى تبرير أصول عدالته، والاستدلال عليها من طريقين، ويثبت أن هذه الأصول منسجمة مع العقلانية الأخلاقية، ومنسجمة أيضاً مع العقلانية الاقتصادية والأنانية. وهذا يعدّ نقطة قوّة نظريّته، لا نقطة ضعفها([12]).
3ـ اختلاف العقلانية التقليدية عن العقلانية الحديثة ــــــ
من هنا نعود إلى أصل البحث. لقد كان موضوع حديثنا في هذا الفصل يدور حول العقلانية الحديثة، واختلافها عن العقلانية التقليدية. لقد بحثنا اختلاف العقلانية العملية التقليدية والعقلانية العملية الحديثة في ما سبق. ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن اختلاف العقلانية النظرية الحديثة عن العقلانية النظرية التقليدية؟
يمكن القول: إن أهم فارق بين هاتين العقلانيتين يكمن في أن العقلانية الأولى «انتقادية»([13])، بينما العقلانية الثانية «ذات نزعة حتمية جازمة». وإن هذا الاختلاف قبل أن ينشأ عن ذات العقلانية النظرية ينشأ عن المقدّمات والمتبنيات النظرية لهذين الفهمين للعقلانية النظرية. وهنا سنعمل أوّلاً على توضيح الاختلاف القائم بين هذين الفهمين للعقلانية النظرية، ومن ثمّ ننتقل إلى بحث أصولهما النظرية والتحوُّل الذي أدّى إلى إحلال العقلانية الانتقادية محلّ العقلانية الحتمية الجازمة.
إن العقلانية التقليدية ذات نزعة حتمية جازمة؛ لأن هذه العقلانية تقوم على فرضيةٍ تقول بسهولة الوصول إلى القطع واليقين. في إطار هذه العقلانية يعتبر العلم مساوياً للقطع واليقين، بمعنى أن القطع واليقين مأخوذٌ في تعريف العلم. ومن ناحيةٍ أخرى فإن العقلانية الحديثة ليست حتمية، ولا جازمة؛ لأن هذه العقلانية تقوم على فرضية تقول بأن القطع واليقين ليس سهل المنال، وإن أكثر معلومات الناس ـ إذا لم نقل: كلّها ـ تقوم على الظنون. إن هذه العقلانية لا تأخذ القطع واليقين في تعريف العلم، وإنما تقسِّم العلم إلى قسمين، وهما: العلم «القابل للخطأ»([14])؛ والعلم «غير القابل للخطأ»([15]).
إن جوهر مدّعى العقلانية الحتمية الجازمة عبارةٌ عن:
1ـ إن معايير العقلانية ثابتةٌ وقطعية، وغير قابلة للإصلاح والتغيير.
2ـ إن ذات العقل غير قابل للنقد والإصلاح.
3ـ على هذا الأساس فإن العقلانية لا تمثِّل مشروع الجميع أو لا شيء، بمعنى أن معايير العقلانية غير قابلة للنقد العقلاني.
وإن جوهر مدّعى العقلانية الانتقادية عبارةٌ عن:
1ـ إن معايير العقلانية مرنة ـ إلى حدٍّ ما ـ، وظنية، وقابلة للإصلاح وإعادة النظر.
2ـ إن ذات العقل قابلٌ للنقد والإصلاح.
3ـ إن مشروع العقلانية هو مشروع الجميع أو لا شيء، بمعنى أن معايير العقلانية ـ أو فهم الناس لهذه المعايير ـ قابلة للنقد العقلاني.
طبقاً للعقلانية الحتمية الجازمة هناك معايير قطعية ويقينية لا تقبل الترديد والشكّ، وهي ثابتة باستمرار، ولا تقبل التغيير، ولا تقبل الشرح والتفسير. وإن هذه المعايير هي التي تشكّل أسس العقلانية. وحيث إن هذه المعايير قطعية ويقينية يمكن من خلالها الحصول على العلم القطعي الذي لا يقبل الترديد أو الخطأ. ولو انسجم شيءٌ مع هذه المعايير كان معقولاً، وإلاّ فلا. بَيْدَ أن العقلانية الانتقادية تقول: إن المعايير العقلانية ظنيّة، وقابلة للتغيير والإصلاح، والشرح والتفسير، وعند مواجهة دعوى غير منسجمة مع العقل والعقلانية لا ينبغي الاستعجال في ردّها، بل لا بُدَّ من تقييم «دليل» تلك الدعوى مع معايير العقلانية غير المنسجمة معها، فإذا كان ذلك الدليل هو الأقوى وجب إصلاح أو تفسير ذلك المعيار العقلاني بشكلٍ يجعله متناغماً مع تلك الدعوى. إن الأصول والمعايير في العقلانية الانتقادية إنما تعتبر بوصفها «نقطة انطلاق»([16])، وإن تبريرها يكون أوّلياً وفي بادئ النظر، بمعنى أن هذه الأصول والمعايير قد تتغيّر ويتمّ إصلاحها وتغييرها في مسار البحث العقلاني، أو أن تخلي مكانها لصالح الأصول والمعايير الجديدة. وحيث إن معايير العقلانية ظنّية فإن نتيجة تطبيق واستعمال هذه المعايير لن تكون سوى الظنّ أو العلم الظنّي الذي يجوز عليه الخطأ.
إن اعتبار الأصول والمعايير العقلانية في العقلانية الحتمية الجازمة «دائميٌّ» و«نهائيٌّ»، ولا يُحتمل فيها الخطأ والشكّ والترديد؛ وأما في العقلانية الانتقادية فإن اعتبار هذه الأصول والمعايير يكون «استعجالياً» و«في بادئ النظر». إن العقلانية الحتمية الجازمة تعتبر المعايير العقلانية «غير قابلة للترديد»، و«غير قابلة للخطأ»، و«غير قابلة للإصلاح؛ أما العقلانية الانتقادية فهي أقلّ تواضعاً في ادّعائها، إذ تعتبر هذه المعايير قابلة للترديد، وقابلة للخطأ، ولذلك فإنها تقبل التغيير والإصلاح.
إن موازين العقلانية في العقلانية الانتقادية ليست «نسبية»، إلاّ أنها «ظنية»، وفي الوقت نفسه «شمولية». وإنّ فهمنا وإدراكنا وتفسيرنا لهذه الموازين، وكذلك حدود وثغور وطريقة تطبيقها، قابلٌ للتغيير والتحوُّل. إن هذه الموازين قابلة للتفسير، وقد تخلي مكانها لصالح الموازين الجديدة، أو أن تكتشف لها تخصيصات واستثناءات جديدة([17]). وإن قائمة هذه الموازين والمعايير مفتوحة إلى الأبد، ولذلك فإن انتقادات العقل الانتقادي تشمل نفسها أيضاً، حيث يمكن وضع العقل الانتقادي في ميزان العقلانية الانتقادية، والعمل على نقده أيضاً. إن العقلانية الانتقادية مدركةٌ لحدود العقل في فهم وكشف الحقيقة، ومقرّةٌ بذلك. إن العقلانية التقليدية تقول: إن معايير العقلانية قطعية ويقينية، ويمكن الوصول إلى القطع واليقين من خلال هذه المعايير. أما العقلانية الحديثة فتقول: إن هذه المعايير ظنّية، ولذلك تكون نتائج استعمالها وتطبيقها ظنيّة أيضاً.
وفي ما يلي نبحث في القواعد النظرية للعقلانية الحتمية الجازمة، والعقلانية الانتقادية.
يمكن القول باختصار: إن العقلانية الحتمية الجازمة تقوم على «الواقعية البسيطة»، والعقلانية الانتقادية تقوم على «الواقعية الانتقادية» أو «الواقعية المعقَّدة». وبشكلٍ عام هناك ثلاثة آراء أو ثلاثة أنواع للتفسير في ما يتعلّق بالعلاقة القائمة بين الذهن والعين، وهي:
1ـ التفسيرات التشكيكية.
2ـ التفسيرات القائمة على الواقعية البسيطة.
3ـ التفسيرات القائمة على الواقعية الانتقادية.
إن التشكيكية تعني واقعية حقيقية لا وجود لها([18])، أو إذا كان لها من وجود فإنها غير قابلة للمعرفة.
إن الواقعية البسيطة تعني أن ذات «الواقعية» ثابتة ومطلقة وأبدية، وإنّ «تصوّرنا» عن تلك الواقعية ثابت ومطلق وأبدي.
وأما الواقعية الانتقادية فتعني أن «الواقعية» ثابتة ومطلقة وأبدية، إلاّ أن «تصوّرنا» عن الواقعية، ونظريتنا في مجال الواقعية، قد لا تكون ثابتةً، ولا مطلقة، ولا أبدية.
يدّعي المتشكّكون أن معلوماتنا ذاتية تماماً، أي ليس لها «منشأ» عيني، ولا «مضمون» عيني، وإن المرء في مقام كسب المعرفة مجرَّد «فاعل». وعلى هذا الأساس فإن معتقداته وآراءه وأفكاره فاقدةٌ للقيمة والاعتبار المعرفي. إن هذه النظرية تواجه إشكالين رئيسين؛ إذ إنها لا تستطيع بيان الواقعيتين التاليتين:
1ـ «اكتشاف» الخطأ في المدركات.
2ـ «الاختلاف» و«التنوُّع» المعرفي للتجارب والأفكار والآراء والنظريات.
يدّعي القائلون بالواقعية البسيطة أن أفكارنا موضوعية تماماً، أي إنّ لها «منشأً» عينيّاً، كما إنّ «مضمونها» يعبّر عن «حاقّ» الواقعية، وإنّ المرء في مقام كسب المعرفة مجرّد «منفعل». وعلى هذا الأساس فإن معلوماته تتمتّع بدرجة ثابتة من القيمة والاعتبار المعرفي. إن الواقعية البسيطة تتجاهل دور ونصيب «المعرّف» في مقام المعرفة بالمرّة. طبقاً لهذه الرؤية تكون العلاقة القائمة بين الذهن والعين من نوع «التطابق»([19])، وإنّ إدراك الحقيقة يعني «الوصول» إلى الحقيقة. في إطار هذه النظرية لا يُعْقَل التفكيك بين الظاهرة (الشيء في نفسه أو المعلوم بالعرض) والظهور (الشيء بالنسبة لنا أو المعلوم بالذات). وكما تقدَّم فإن الواقعية البسيطة تفترض مقدّمات هامّة في مجال «طبيعة» الواقعية أو الحقيقة و«علم النفس الإدراكي»، وعلى أساسها يتمّ نفي «التعدُّدية» الوجودية والمعرفية.
وإن تلك المقدّمات وبعض النتائج المترتّبة عليها على النحو التالي:
1ـ إن الحقيقة «بسيطة».
2ـ إن الحقيقة «مجرّدة»، وليس لها «ظاهرٌ» أو «باطن»، ولا «إبهام» أو «غموض» أو «تعقيد».
3ـ إن ذهن الإنسان في مقام كسب المعرفة يتصرَّف على نحوٍ «منفعل» و«متفرّج» محض، ويكون بمنزلة المرآة «الصافية» الخالية من أيّ لون.
4ـ ليس للحقيقة سوى ظهور «واحد»، وصورة «واحدة»، وتفسير «واحد»، لا أكثر.
5ـ على هذا الأساس فإن إنكار الحقيقة أو اختلاف الناس بشأن الحقيقة وتفسيرها ينشأ دائماً من «الأهواء»، أو الرذائل العقلانية والنفسية.
كما أن الواقعية البسيطة تواجه ثلاثة إشكالات رئيسة؛ إذ لا تستطيع تقديم تبيين صحيح ومقبول للواقعيات أو الحقائق التالية:
1ـ «وقوع» الأخطاء في المدركات.
2ـ «اختلاف» و«تنوُّع» المدركات من الناحية المعرفية.
3ـ الاختلاف بين الأنبياء والقدّيسين.
ومن ناحيةٍ أخرى تقول الواقعية الانتقادية: إن معلوماتنا وأفكارنا لا هي ذاتية تماماً، ولا هي موضوعية تماماً، وإنّ لبعضها «منشأً» عينيّاً، إلاّ أن «مضمونها» على الدوام تجلٍّ وظهور للواقعية أو الحقيقة القائمة في أذهاننا وذواتنا؛ فإنّ أفكارنا، بالإضافة إلى التأثُّر بـ:
1ـ الموضوع ومتعلّق المعرفة (المعلوم بالذات)، تتأثَّر بـ:
2ـ العواطف والمشاعر؛ وبـ:
3ـ معلوماتنا وتجاربنا السابقة؛ وكذلك بـ:
4ـ رغباتنا وأجوائنا ومناخ حياتنا (الأعمّ من المناخ الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي وما إلى ذلك) أيضاً.
إن بعض هذه التأثيرات تعتبر من مقدّمات ومقوّمات المعرفة، وبعضها الآخر من موانع المعرفة واكتسابها. وعلى هذا الأساس فإن القيمة والاعتبار المعرفي لآرائنا وأفكارنا ليست ثابتة أو واحدة دائماً. وبطبيعة الحال فإن التفكيك والفصل بين الأفكار المعتبرة والأفكار الفاقدة للاعتبار ممكنٌ في الجملة. وإن العلاقة بين الذهن والعين في هذه الرؤية ليس من نوع «التطابق» بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هو من نوع «التلازم»([20])، وإنّ إدراك الحقيقة يعني «الاقتراب» منها. إن هذه النظرية تعمل على التفكيك بين الظاهرة (الشيء في نفسه أو المعلوم بالعرض) وبين الظهور (الشيء بالنسبة لنا أو المعلوم بالذات). وعليه فإن للواقعية الانتقادية مقدّمات هامة أيضاً في مجال «طبيعة» الواقعية أو الحقيقة و«الإدراك النفسي»، وإن هذه المقدّمات تفضي بشكلٍ طبيعي إلى التعدُّدية الأنطولوجية والمعرفية. وإن تلك المقدّمات وبعض النتائج المترتبة عليها على النحو التالي:
1ـ إن الحقيقة «معقّدة»، و«كثيرة الأوجه».
2ـ إن الحقيقة «مستورة».
3ـ إن للحقيقة «ظاهراً» و«باطناً»، بل لها «آلاف الوجوه».
4ـ إن ذهن الفرد في مقام الإدراك ليس «منفعلاً» و«متفرّجاً» محضاً، بل هو في الآن الواحد يعتبر «منفعلاً» و«فاعلاً»، و«متفرِّجاً» و«مؤثِّراً»، بمعنى أنه يعمل عمل المرآة «المقعّرة» أو «المحدّبة» و«الملوَّنة» في وقتٍ واحد.
وعلى هذا الأساس:
1ـ يمكن الحصول على تجارب «متنوّعة» من حقيقة «واحدة».
2ـ يمكن تقديم تعبيرات وتفسيرات وقراءات «متنوّعة» لتجربةٍ «واحدة».
وفي هذه الحالة:
3ـ إن إنكار الحقيقة أو اختلاف الناس بشأن الحقيقة لا ينشأ دائماً من «الأهواء»، وإنما ينشأ من الأمور المتنوّعة التالية:
1ـ تعدُّد الظهورات والتجلّيات «العينية» للحقيقة، أو
2ـ تعدُّد الظهورات والتجلّيات «الذهنية» للحقيقة، أو
3ـ تعدُّد الأفهام والتفسيرات المختلفة عن الحقيقة، أو
4ـ اتّباع «الأهواء والرغبات».
وعلى هذا الأساس فإن إنكار «تصوير» خاصّ للحقيقة، أو الاختلاف بشأن «التصوير» الصحيح للحقيقة، هو غير إنكار ذات الحقيقة، وغير الاختلاف بشأن وجود وطبيعة الحقيقة.
وخلاصة القول: إن الواقعية البسيطة تقوم على «الحتمية الجازمة» على المستوى النظري، أو تقوم على توهُّم «الوصول» إلى الحقيقة، وتؤدّي إلى «الاستبداد النظري»، و«الاستبداد العملي»، و«الدكتاتورية»، و«العنف» على المستوى العملي. في حين إن الواقعية الانتقادية تقوم على «التواضع» العقلاني والعملي، وكذلك تقوم على دعوى «الاقتراب» من الحقيقة، بدلاً من «الوصول» إليها، ولذلك فإنها تؤدّي إلى «الديمقراطية»، و«التسامح» و«الحوار» على المستوى العملي.
يرى أنصار الواقعية البسيطة أن الواقعية الانتقادية ما هي في الحقيقة إلاّ تعبير خلاّب وخادع للتشكيك على المستوى النظري، والعبثية المذهبية على المستوى العملي، ولكنْ إذا كانت
1ـ الواقعية متعدِّدة الوجوه، وكان
2ـ ذهن الفرد في مقام كسب المعرفة فاعلاً، وليس مجرَّد منفعل ومتفرّج محض،
ففي هذه الحالة:
1ـ يمكن الحصول على تجارب متنوّعة ـ على الأصول ـ من واقعية واحدة.
2ـ يمكن تقديم تفسيرات مختلفة ـ على الأصول ـ عن تجربةٍ واحدة.
ولذلك لا يمكن إنكار هذه الحقائق تحت ذريعة الهروب من التشكيك والعبثية المذهبية. وحيث إن القسم الأكبر من معلوماتنا ظني وغير يقيني لا يمكن إقحام قيد «القطع» و«اليقين» في تعريف العلم، أو تقييد قيمة واعتبار العلم بشرط حصول القطع واليقين.
إن التشكيكية والحتمية الجازمة وجهان لعملةٍ واحدة. وإنّ ادّعاء القطع واليقين في موضعٍ تكون فيه الأدلة المتوفّرة ظنّية مخالفٌ للعقلانية. إن مسؤوليتنا العقلانية والمعرفية تقتضي منا أن نجدّ من خلال:
1ـ الصدق (في البحث عن الحقيقة).
2ـ الجدّ (والسعي في حدود الوسع والإمكان).
3ـ توظيف الأساليب الموثوقة.
لـ «الاقتراب» من الحقيقة، وأن نقيِّم التمسُّك والإصرار على معتقداتنا بميزان ومعيار قوّة الشواهد والأدلة المتوفّرة لصالح تلك المعتقدات. نحن مسؤولون تجاه «الفضائل» و«الرذائل» العقلانية، وتجاه «أسلوب التحقيق»، ولسنا مسؤولين تجاه «نتيجة التحقيق».
وعلى هذا الأساس فإن سعادة الإنسان في البُعْد النظري رهنٌ بأمرين:
1ـ تهذيب النفس من الرذائل العقلانية (المعرفية)، واكتساب الفضائل العقلانية (المعرفية).
2ـ اتّباع «الأسلوب» الموثوق في مقام اكتساب المعرفة، والقول بها، وتمحيص المتبنّيات.
إن السعي المقرون بالصدق والجدّ في «الاقتراب» من الحقيقة «يضمن» النجاة والسعادة والفلاح للفرد مئة بالمئة؛ لأن مثل هذا السعي يستوجب القرب «العيني» و«الوجودي» من الحقيقة، حتّى وإنْ لم يفْضِ إلى القرب «الذهني» و«العلمي» من الحقيقة. إن النجاة إنما هي في الصدق، وليس في الصدق المنطقي وذات الأمر المتبنى، بمعنى أن المهم هو السعي الصادق والجاد في الاقتراب من الحقيقة، وليس مطابقة مضمون المعتقد والمتبنى مع الواقع([21]). وبطبيعة الحال فإن السعي الصادق والجادّ للتقرّب من الحقيقة يتضمّن السعي الصادق والجادّ لإحراز الصدق (مطابقة مضمون المعتقد مع الواقع) أيضاً، بَيْدَ أن المطابقة وعدم المطابقة الواقعية والذاتية لا تقع تحت سلطة واختيار الفرد، وإن الفرد حتّى إذا كان لديه يقينٌ بمطابقة مضمون معتقداته مع الواقع مع ذلك يمكن أن لا تكون معتقداته مطابقة للواقع «حقيقة»، بمعنى أن اليقين بمطابقة المعتقد للواقع لا يضمن المطابقة «الواقعية» لذلك المعتقد مع الواقع.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ سعادة الفرد في البُعْد العملي رهنٌ بأمرين:
1ـ تهذيب النفس من الرذائل الأخلاقية، واكتساب الفضائل الأخلاقية.
2ـ السعي المقرون بـ «الصدق» و«الجدّ» في إطار العمل بالواجبات.
وعلى هذا الأساس فإن العالم الجديد ليس عالم العقلانية فحَسْب، بل هو عالم «الواقعية الانتقادية» أيضاً. إن سكان هذا العالم يعترفون باعتبار «الظنّ» و«التعدّدية»([22]).
ذكرنا فيما سبق أن الحداثة تقوم على ثلاثة أركان، وهي:
1ـ «مرجعية العقل».
2ـ «السلطة على الذات».
3ـ «الفردانية».
كما يمكن توضيح الاختلاف بين العقلانية الحديثة والعقلانية التقليدية في ظلّ هذه الأركان الثلاثة أيضاً.
ففي عالم ما قبل الحداثة كان العقل في الغالب أداة لمعرفة الوحي والنقل (العقل المسموع). وأما العقل المستقلّ (العقل المطبوع أو الشهودي والعقل التجريبي) فلم يكن له من اعتبارٍ سوى في حدود بوابات الدين، وأما في ما وراء ذلك فيلغى دوره لصالح النقل. إن هذا العقل لم يكن مرجعاً، ولم يكن مقدّماً على النقل، وإنما كان له من القيمة والاعتبار بوصفه مجرّد وسيلة وأداة لمعرفة المنقولات، وتبرير اتّباعها. كما كان الإنسان في عالم ما قبل الحداثة «محكوماً للغير»، لا «حاكماً على نفسه». فبدلاً من الرجوع إلى عقله كان مكلَّفاً بالرجوع إلى ما يقوله الآخرون. وبدلاً من إطاعة أحكام العقل كان يجب عليه إطاعة أوامر الآخرين. وبالتالي فإن الهوية الفردية للناس في عالم ما قبل الحداثة كانت باهتةً وضعيفة، ورازحة تحت وطأة الهوية الجماعية، وذائبةً فيها. أما الهوية الفردية فليست غير الهوية الإنسانية. وكما رأينا فإن العقل والعقلانية مقوّمة للهوية الإنسانية. وعلى هذا الأساس فإن ذوبان الهوية الفردية في الهوية الجماعية تؤدّي أيضاً إلى إلغاء العقل أو إضعافه.
وأما في العالم المعاصر فإن العقل يحظى بالمرجعية والموضوعية، ويكون التقدُّم لـ «شريعة العقل» على «شريعة النقل»، ولا تختزل قيمة العقل في كونه وسيلة وأداة لفهم الدين. إن سكان هذا العالم يتولون «حكم أنفسهم»، وهؤلاء لا يقتصر تدخلهم على دائرة حياتهم الشخصية فقط، بل لهم الحقّ في التدخُّل واتخاذ القرار حتّى في دائرة الحياة الجماعية أيضاً. وكذلك في العالم الحديث يكون التقدُّم للهوية الفردية على الهوية الجماعية، بمعنى أنه لا يمكن تجاهل الهوية الفردية ولوازمها الاعتبارية تحت ذريعة المصلحة الجماعية، بل على العكس من ذلك، فإن الهوية الجماعية تعتبر هوية ذرية([23]) متنافرة الأجزاء، ومؤلّفة من عناصر بسيطة كثيرة، وفي إطار هذا الفهم لا يكون المجتمع غير مجموع الأفراد. إن اختلاف العالم الحديث وعالم ما قبل الحداثة في هذه الموارد يعكس بوضوحٍ رؤية الإنسان الحديث وإنسان ما قبل الحداثة تجاه منزلة وموقع العقل والعقلانية، ولزوم وكيفية ومساحة الاستفادة من العقل.
من خلال الالتفات إلى الإيضاحات التفصيلية المتقدّمة في مجال العقلانية الحديثة يمكن القول: إن فهم الدكتور سروش للعلمانية العقلانية الحديثة يبتعد إلى حدٍّ ما عن الواقعية، ويمكن النقاش من بعض الجهات في انتقاداته في هذا الشأن([24]).
يقول الدكتور سروش في نقد العلمانية: «إن العلمانية في الحقيقة… تحلّ محلّ الدين. وبطبيعة الحال فإن ما يُقال من أن العلمانية لا تعارض الدين كلام صحيح. فالعلمانية لا تخالف الدين، ولكنّها أسوأ من مخالفة الدين؛ لأنها منافس وبديل للدين، حيث إنها تستطيع ملء فراغ الدين بشكلٍ كامل… إن العلمانية تخلق لدى المرء دافعاً نحو العمل، وهو دافعٌ لا يُبقي لدى الفرد حاجة إلى الدين؛ حيث تعطي العلمانية لتفكيره صبغةً دنيوية تطغى على الصبغة الدينية، وتجرّده من الشعور بالحاجة إلى تحليل المبدأ والمعاد. وعندما يتمّ للعلمانية ذلك يمكن القول ـ بمعنى من المعاني ـ: إن ديناً جديداً قد ظهر إلى الوجود، ولكنّه دينٌ لا يطلق على نفسه تسمية الدين، فهو يقوم بما يقوم به الدين ـ بمعنى خلق الدافع والتفكير ـ، ولكنه لا يُسمّي نفسه ديناً»([25]).
وقال في نقد العقلانية الحديثة: «وعلى كلّ حال فإن الإنسان عندما يفقد الدوافع والأفكار الدينية يكون قد فقد بعض الأشياء. وإن العلمانية، على الرغم من أنها تبدو وكأنّها تحلّ محلّ الدين، وتعطي الناس دافعاً وفكراً، تعجز عن جبران بعض الأمور… فهناك أمورٌ مفقودة وضائعة، وهناك إخفاقات لا يمكن حلّها من خلال العقلانية العلمانية. فعندما تحكم العقلانية المحضة فإن الحياة من جهةٍ ستخضع لحساب الربح والخسارة، وتتحوَّل الأخلاق إلى أخلاق مصلحية تماماً (utilitarian)… ولكنْ يزول شيءٌ ويغيب عن الوجود، وهو عنصر العفو والصفح والتضحية والفداء والجود والكرم…، وسيكون الملاك والمدار قائماً على الحسابات العقلية للربح. ولو لم يعد الشخص باحثاً عن مصالحه وأرباحه سيكون متَّهماً في عقله. ولكنْ عندما تقف هذه الأرباح والمصالح في مواجهة بعضها سوف تتحوّّل الحياة إلى جحيم… ولبّ الكلام: إن العقل الذي يكون طرفاً في النزاع ومنشأ للخصومة لا يمكنه أن يكون في موقف الحَكَم لحلّ هذا النزاع. إن الأفراد الذين يقفون موقف المطالب، ويتّخذون موقف إحقاق الحقوق، والحصول على مزيدٍ من الربح، عندما يقفون في مواجهة بعضهم سوف يأكل بعضهم لحم بعضٍ، وسوف يمزّقون بعضهم بعضاً. لا يمكن لنا أن نجد عنصر الصفح في العقلانية. وهذا هو ما يفتقر إليه الإنسان المعاصر. ولو أمكن العثور لهذا العنصر على دافعٍ فلن يكون إلاّ دافعاً دينياً أو شبه ديني، بمعنى أنه لا بُدَّ من الحصول على هذا الدافع من جهةٍ أخرى، وضمّه إلى العلمانية… ينبثق عن العقلانية البحتة نوعٌ من الغرور والأنانية. وليس غريباً أن تقف الرومنطيقية في مواجهة العقلانية، التي تمثِّل في حقيقتها جوهر العلمانية. كان أتباع هذه الرؤية يسعَوْن إلى استرجاع العناصر التي تمّ إغفالها، والتي حاق بها الظلم في المناحي الوجودية من الإنسان، وقالوا بأن العمل على تضخيم العقل قد أدّى إلى إضعاف الكثير من الأمور القيِّمة. ومن تلك الأمور في الدرجة الأولى الأخلاق، ومن بين هذه الأخلاقيات: العفو والكرم([26]).
يبدو أن الدكتور سروش قد أخذ تعريف العقل والعقلانية من بعض العرفاء المسلمين، من أمثال: مولانا جلال الدين الرومي. في حين أن هذا التعريف ليس جامعاً، ولا يشمل جميع أنواع العقلانية، وبالإمكان نقده حقيقة. إن للعقل والعقلانية التي ينتقدها جلال الدين الرومي وإقبال والدكتور سروش خصائص أربعة: 1ـ الأنانية؛ 2ـ الربحية؛ 3ـ الوسائلية؛ 4ـ العلمية.
إن الإنسان العاقل ـ في إطار هذه العقلانية ـ هو الذي لا يفكِّر من جهة إلاّ في مصالحه وأرباحه، وينظر إلى جميع الأمور من زاوية الحصول على مزيد من الربح؛ ومن جهةٍ أخرى يعتبر البيان المعقول والعقلاني هو تبرير الأحداث والظواهر والوجود من خلال البيان العلمي (الحسّي)، وتتلخّص المصادر المعرفية الأولى بالنسبة له في الحواس الظاهرية([27]).
وكما ذكرنا فإنّ العقلانية العملية تنقسم إلى نوعين: أخلاقية أو إيثارية([28])؛ واقتصادية أو أنانية([29]). كما تنقسم من جهةٍ أخرى إلى قسمين أيضاً، وهما: العقلانية غير الآلية (الناظرة إلى الأهداف)([30])؛ والعقلانية الآلية (الناظرة إلى الغايات)([31]). إن العقلانية الأخلاقية منسجمةٌ تمام الانسجام مع المحبّة ومقتضياتها، كما هي منسجمة ومتناغمة مع العدل والإنصاف والصفح والكرم والإيثار، وهي تدعو الإنسان إلى الاتّصاف والتحلّي بمثل هذه الأمور. إن هذه العقلانية هي مصدر القيم الأخلاقية، وإن حساباتها لا تقوم على أساس الربح والخسارة الشخصية. وإذا كانت تقيم وزناً لنتائج الأعمال وأرباحها وخسائرها فإنها تأخذ بنظر الاعتبار أرباح وخسائر جميع الأشخاص الذين يتأثّرون بذلك العمل بنحوٍ من الأنحاء، ولا تقتصر في ذلك على ربح وخسارة شخص الفاعل فقط. إن المذهب النفعي([32])، الذي هو أحد قراءات الأخلاق العلمانية، هو غير الأنانية([33]). إن المذهب النفعي يرى أن المعيار الأخلاقي الجيّد والصحيح هو الذي يجلب أعلى مراتب السعادة إلى أكثر الأفراد، وليس الربح الأكثر لشخص الفاعل فقط. وعلى هذا الأساس فإن المذهب النفعي لا يتنافى مع الإيثار والتضحية والصفح والجود والكرم أبداً.
يضاف إلى ذلك أن العقلانية العملية ـ كما أثبت بعض علماء المعرفة وفلاسفة الدين المعاصرين، من أمثال: آلستون وبلانتينغا وآخرين ـ هي نوعٌ أو مرتبة خاصّة من العقلانية النظرية التي لا تحظى بالمشروعية والمقبولية إلاّ في دائرة العلوم التجريبية، وفي المعرفة العلمية للطبيعة. وعلى أساس هذه الرؤية تكون المتبنيات العقائدية المرتبطة بالمبدأ والمعاد والتفسير المعنوي والروحي للعالم وللأحداث والظواهر الطبيعية مبرَّرةً، بنفس مقدار التبرير الذي تحظى به المتبنيات العلمية، والتفسير العلمي والتجريبي للطبيعة والظواهر الطبيعية.
وكما تقدَّم فإنّ تقسيم العقلانية النظرية إلى أنواع مختلفة يقوم على القول بالمقدّمتين الهامّتين التاليتين:
1ـ لدينا تجارب متنوِّعة، وإنّ التجربة الحسية لا تمثّل إلاّ نوعاً خاصاً من التجربة.
2ـ إن التجارب غير الحسّية (أي: التجربة الدينية، والفلسفية، والعرفانية، والأخلاقية، وما إلى ذلك) تحظى في الحدّ الأدنى بنفس القيمة والاعتبار المعرفي الذي تحظى به التجارب الحسّية، ويمكن اعتمادها في مقام الحصول على المعرفة والتبرير.
إن الذين يختزلون العقلانية النظرية في العقلانية العملية يعملون في الحقيقة على إنكار إحدى هاتين المقدّمتين، أو كلاهما، أي إنهم يقولون:
1ـ لا توجد هناك تجارب متنوّعة، أو
2ـ إن التجارب العلمية (الحسّية) هي النوع الوحيد من التجارب المعتبرة، والتي تحظى بالقيمة والاعتماد من الزاوية المعرفية.
لو فكّر شخصٌ على هذه الشاكلة لن يكون له مناص من اختزال العقلانية النظرية في العقلانية العملية، واعتبار معيار هذه العقلانية هو القابلية على قياس وتقييم المدّعى بميزان «التجربة الحسّية»، واعتبار الادّعاءات غير العلمية أو ما فوق العلمية (الفلسفية، والدينية، والأخلاقية، وما إلى ذلك) ادّعاءات مخالفة للعقل وغير عقلانية. إلاّ أن ذات هذا الادّعاء مخالف للعقلانية؛ لأن اختزال العقلانية النظرية في العقلانية العلمية غير قابل للتبرير وفقاً لمعايير ذات هذه العقلانية([34]). وعلى هذا الأساس فإن العقلانية الحديثة لا تخالف الأخلاق والأخلاقيات، ولا تخالف التفسير الديني والعرفاني للعالم. وإذا كان هناك من مشكلة فهي تكمن في حصر العقل والعقلانية في نوعٍ واحد أو أنواع خاصّة من العقل والعقلانية.
إن العقلانية هي نقيض «الخرافة» على المستويين الفكري والاعتقادي، إلاّ أن التفكيك والفصل بين الأفكار والعقائد الخرافية وبين الأفكار والعقائد المعقولة في كلّ مجالٍ من المجالات إنما يغدو ممكناً من خلال الميزان المناسب لذلك المجال. ومع إنكار العقلانية العرفانية، واعتبار الأفكار العرفانية أفكاراً فوق عقلانية، لن يبقى أيّ معيار للفصل والتفكيك بين الأفكار العرفانية الأصيلة عن تخريف المتعرفنين، وفي هذه الحالة لا يمكن التعبير عن العرفان النظري والعرفان العملي بوصفهما فرعَيْن من فروع المعرفة.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن العلمانية؟ يبدو أنّه لا مناص لنا من الفصل بين نوعين أو معنيين من العلمانية.
ونحن نسمي هذين النوعين أو المعنيين من العلمانية بـ: العلمانية «المتطرّفة» أو «العلمانية في الحدّ الأقصى»؛ والعلمانية «المعتدلة» أو «العلمانية في الحدّ الأدنى».
إن العلمانية في حدّها الأدنى لا تحلّ محلّ الدين، كما أنها لا تدّعي ذلك. إن هذه العلمانية تعني عقلنة الدوافع والأفكار التي هي في حدّ ذاتها ما فوق دينية، ولكنْ في فترةٍ من التاريخ حاول المتديِّنون خطأً أن يجعلوها دينية. إن هذا النوع من العلمانية منسجمٌ مع الدين والأخلاق والعرفان بشكلٍ كامل. وإن الاعتراف بهذا النوع من العلمانية يعود بالنفع على الدين والأخلاق والعرفان تماماً. إن العلمانية في الحدّ الأدنى تعني النظر إلى الأمور التي هي «ذاتاً» و«واقعاً» ما فوق دينية على أنها ما فوق دينية، أو جعلها كذلك، ولكنْ في برهةٍ من التاريخ تمّ اعتبارها جزءاً من الدين؛ إما عن طريق الخطأ؛ أو بداعي الضرورة، فاتّخذت صبغة دينية. وفي هذا الإطار يكون مسار «العلمنة»([35]) في واقع الأمر ردّة فعل على «نقض العلمنة»([36]) (جعل الأمور ـ التي هي في حدّ ذاتها غير دينية ـ دينية).
أما العلمانية في حدّها الأقصى فتعني إحلال غير الدين محلّ الدين في خصوص الدائرة الواقعية للدين. إن هذه العلمانية تعني جعل الدوافع أو الأفكار مادية، أو صيرورتها كذلك. وهي لذلك لا تتناغم مع الدين والعرفان والأخلاق. بَيْدَ أن العلمانية بهذا المعنى لا تتنافى مع الدين والعرفان والأخلاق فحَسْب، بل لا تنسجم حتّى مع العقلانية أيضاً. نحن لا ننكر أن بعض الغربيين، وبعض الشرقيين ـ تبعاً لهم ـ، يفسِّر العلمانية بهذا المعنى، ولكنْ لا يمكن إنكار هذه الحقيقة أيضاً، وهي أن بالإمكان في الحدّ الأدنى، ومن الناحية النظرية، تقديم تفسيرٍ للعلمانية والعقلانية الحديثة ـ التي هي جوهر العلمانية ـ ينسجم مع الدين والعرفان والمعنوية والأخلاق. ويمكن الإشارة إلى الكثير من الأشخاص الذين هم علمانيّون ومتديّنون بهذا المعنى أيضاً([37]).
ولا بُدَّ من إضافة هذه النقطة أيضاً، وهي أن العقل، على الرغم من كونه طرفاً في النزاع ومنشأ هذا النزاع، يمكنه أن يكون حَكَماً في هذا النزاع أيضاً، بل ليس هناك في الأساس من حَكَم غير العقل. إن شرط الحَكَم هو الإنصاف والحياد بين طرفي النزاع، وإن العقل الناقد ـ الذي هو مصدر العقلانية الانتقادية ـ مستوفٍ لهذا الشرط. ولذلك فإنه يمتلك صلاحية الحكم بشأن النزاع المحتدم بينه وبين الآخر([38]).
يستنتج الدكتور سروش من بحثه في مجال العقلانية الجديدة والعلمانية ما يلي: «إن ما حصل في الغرب والعلمانية من تقديس العقل لم يكن أمراً سيّئاً (من وجهة نظري في الأقلّ). ولكنْ لا بُدَّ أيضاً من تحرير العقل. وهذا ما تمَّتْ الغفلة عنه. وهنا يأتي دور الأنبياء؛ فإن نداءهم الهامّ إلى العالم يكمن في هذه الناحية، وهي تحرير العقل الفردي والجماعي من سطوة أعداء العقل… إن توظيف العبادة ومفهوم الله هنا هو الوسيلة الأفضل لكبح جماح الإنسان. فلولا وجود الله لحلّ هذا الإنسان المنفلت محلّ الله. وهذا هو الذي حصل في العالم. فعلى الإنسان في مرحلة من المراحل أن ينحني، وإلاّ فإن جموحه سيحوِّل العالم إلى جحيمٍ. نحن نحترم العقل، كما نحترم الحرّية الخارجية أيضاً، كما نشحذ الهمم من أجل القضاء على الاستغلال والاستبداد، فهذه كلُّها أمور جيّدة، ولكنْ علينا العمل على استعادة شيءٍ منسيّ، ألا وهو تحرير العقل. وهذا ما قام به الأنبياء، وتفتقر إليه العلمانية»([39]).
إلاّ أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: «كيف يجب أن نحرِّر العقل؟»، و«كيف يمكن كبح جماح الإنسان؟». فإذا كان تكليف الإنسان ومسؤوليته تأتي على قدر عقله، وإذا كان الأنبياء يكلِّمون الناس على قدر عقولهم، فعندها ألا يكون تحرير العقل مقدّمة للذهاب إلى الدين، وسماع نداء الأنبياء، وفهمه، والعمل به، بشكلٍ صحيح؟ لا شَكَّ في وجوب تحرير العقل من قيود الأهواء، وسلاسل الرغبات، وأصفاد الطمع والجبن، بَيْدَ أن السؤال هو عن ماهية هذا الوجوب؟ وكيف يمكن تحصيل هذه الحرّية؟ نحن نرى أن هذا الوجوب هو وجوب أخلاقي، بمعنى أنه حكمٌ من أحكام العقل الأخلاقي. وإن هذا العقل هو الذي يتعيَّن عليه سماع نداء الأنبياء وفهمه وتلبيته. وهذا العقل هو الذي يجب عليه أن يأخذ بأيدي الناس إلى الأنبياء، ويرشدهم إلى سماع ندائهم وكلمتهم، ويحثّهم على تلبية دعوتهم.
إن الدين من وجهة نظرنا لا يحول دون تمرّد الإنسان وجعله شخصاً إلهياً، ولذلك نجد أن تمرّد أدعياء التديّن وأعداء العلمانية لا يقلّ عن العلمانيين، وأن حرق الأصولية الدينية للعالم ليس بأقلّ قسوة من حرق الأصولية العلمانية للعالم. أجل، لا بُدَّ من تحرير عقل الإنسان من قيود الطمع والهوى والجشع، ولكنْ «لا يعدل الميزان غير الميزان»([40]). لا يمكن للعقل أن يتحرّر إلا من قبل نفسه، وإن امتلاك زمام العقل المستقل لا يكون إلاّ بيد العقل والعقلانية الأخلاقية، التي هي النبيّ الباطني([41]). وإذا لم يتمكّن هذا العقل من معالجة الإنسان من أمراضه لن يتمكّن الأنبياء الظاهريون من معالجته أيضاً، بل إن اتّباعهم سيعطي نتائج معكوسة. وإن النجاح الذي حقّقه الأنبياء في إطلاق سراح العقل من براثن الأهواء والرغبات والأطماع إنما كان في ظل تعزيز العقل الأخلاقي. ولا علاقة لهذه المشكلة بالعلمانية؛ فإن المتدينين والعلمانيين مبتلون بهذه الأمراض بنسبةٍ واحدة([42]). كما يجب تحرير العقل من قيود النقل أيضاً.
إن الذي يحول دون تمرُّد الإنسان ـ في تصوّري ـ هو الاعتقاد الراسخ بتقدُّم الأخلاق على الدين من جهةٍ، والاعتقاد الراسخ بتقدُّم العقل الأخلاقي (العقل المتمحور حول الحق) على العقل الاقتصادي (العقل المصلحي أو المتمحور حول الربح) من جهةٍ أخرى. إن الاعتقاد بوجود الله وعبادته إذا لم يقترن بالقول والاعتقاد بتقدُّم الأخلاق على الدين فإنه لن يكبح جماح الإنسان، بل يتحوَّل إلى مبرّر وحافز ديني للطغيان والتمرّد والاستئثار.
قد يقول شخصٌ: أرى أن المتديِّن هو المتواضع، والعلماني هو المتمرِّد والمنفلت، وإن العلمانية في الأساس تعني التمرّد والطغيان. بَيْدَ أن الشيء الوحيد الذي يُغيِّر هذا التعريف هو أنه على أساسٍ من ذلك يتمّ اعتبار العلماني المتواضع متديّناً، والمتديِّن المتكبر والمستكبر علمانيّاً. إلاّ أن الحقّ هو عدم وجود أيّ ملازمة بين التديُّن والتواضع، وبين عدم التديُّن والتمرّد، إنما الاعتقاد بتقدُّم الأخلاق على الدين هو الذي يستوجب تواضع المتديِّنين، والاعتقاد بتقدُّم العقل الأخلاقي على العقل الاقتصادي هو الذي يستوجب تواضع غير المتديِّنين. فلا التديُّن من تلقائه يمنع الإنسان من التمرُّد، ولا العلمانية في حدِّ ذاتها مصدر للتمرُّد.
4ـ نقد العقلانية ــــــ
هناك في ما يتعلّق بالعقل والعقلانية بعض الغموض والاستفهامات، التي يبدو من الضروري هنا إخضاعها للبحث والنقد. يقال في نقد العقلانية عادةً:
1ـ كيف يمكن الفصل بين حكم «العقل» وبين حكم الأهواء والوساوس الشيطانية؟
2ـ كيف يمكن الحؤول دون «خطأ» العقل؟
3ـ كيف يمكن حلّ التعارض القائم بين عقول الناس؟
إن الذين يطرحون هذه الأسئلة يضعون الإصبع على ثلاث حقائق واضحة وملموسة. وإن هذه الحقائق الثلاثة عبارةٌ عن:
1ـ تأثُّر العقل بالعواطف والمشاعر والوساوس.
2ـ أخطاء العقل في إدراك ومعرفة الحقائق([43]).
3ـ اختلاف الناس في تشخيص حكم العقل.
إلاّ أن النتيجة التي يحصلون عليها من خلال هذه المقدّمات ليست صحيحة. فإن تلك النتيجة من زاوية القائلين بتقدُّم النقل على العقل هي: حيث لا يمكن القضاء على تأثير الأهواء والوساوس في حكم العقل تماماً، وحيث لا يمكن تجاوز احتمال خطأ العقل بشكلٍ كامل، وحيث لا يمكن حلّ التعارض القائم بين عقول الناس، لا بُدَّ إذن من القول بأن حكم العقل إما هو فاقدٌ للاعتبار بالمرّة، أو القول بأن اعتباره مشروطٌ بحصول القطع واليقين. وعلى كلّ حال فإن «الظنون العقلية» غير مبرّرة وفاقدة للاعتبار (إلغاء العقل). وعلى هذا الأساس لا بُدَّ من الرجوع إلى النقل، بدل العقل؛ لكي ننجو من الأخطاء وتأثير الأهواء. ويتمثَّل شعار هذه الجماعة بالبيت الشعري لجلال الدين الرومي القائل:
عقل قربان كن به شرع مصطفى *** حسبي الله گو كه الله أم كفى([44])
أما النتيجة التي يحصل عليها القائلون بتقدّم الحبّ على العقل من هذه المقدّمات فهي أن الطريق لتدارك نقصان العقل وتحريره من مخالب الأهواء يكمن في العشق والمحبّة. وسوف نبحث هذين الرأيين ضمن العنوانين التاليين:
أـ نقد العقل من زاوية القائلين بالنقل ــــــ
إن الأسلوب الذي يقترحه القائلون بالنقل؛ من أجل تدارك نقصان العقل وتحريره من قيود الأهواء، ورفع التعارض القائم بين العقول، هو الرجوع إلى الوحي والنقل. إن أصحاب هذا المنهج يقولون: إن سرّ حاجة الناس إلى الدين والوحي والهداية الإلهية هو ما يعانيه العقل من النقص، ومن الوقوع في قبضة الأهواء والوساوس. وعليه فإن توقُّع الإنسان من الدين لا يعدو هذا الأمر. هؤلاء يقولون: إن حكم العقل إنما يكون مبرّراً ومعتدّاً به إذا كان قطعياً ويقينياً، وإن اتباع أحكام العقل الظنية بحكم اتباع الأهواء والوساوس.
كما يتمسّّك القائلون بالنقل لتأييد ما يذهبون إليه بالشواهد الموجودة في صلب الدين، والتي لا يخلو بحثها ونقدها هنا من المناسبة. هؤلاء يقولون: إن الله نهى في القرآن الكريم عن اتّباع الظنّ؛ إذ يقول مثلاً:
ـ ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36).
ـ ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 36).
فالآية الأولى صريحة بأن اتّباع الظنّ لا يُغني الفرد عن الحقّ والحقيقة. كما أن الآية الثانية صريحة أيضاً في نهي الفرد عن اتّباع غير العلم، وتقول بوجوب اتّباع العلم فقط. ولكن حيث إن العلم مساوق للقطع واليقين سيكون معنى هذه الآية هو النهي عن اتّباع الظنّ.
وطبقاً للتفسير الذي يقدِّمه القائلون بالنقل لهذا النوع من الآيات والروايات علينا؛ لكي نأمن من وقوع العقل في الخطأ، أن نكتفي في دائرة المدركات والأحكام العقلية بالقطع واليقين، ولا يحقّ لنا اتّباع الظنون العقلية.
إلاّ أن هذا الرأي يؤدّي إلى إلغاء وتعطيل العقل، ويفضي إلى التشكيك في مجال حجّية المدركات العقلية، وتبعاً لذلك ينتهي إلى سقوط المدركات النقلية عن الاعتبار. يمكن القول، في نقد هذا الرأي: عندما يستحيل حصول القطع واليقين في بعض الموارد يكون التماس القطع واليقين مخالفاً للعقلانية، وبطبيعة الحال فإن العقل يطلب منا في موارد استحالة حصول القطع واليقين أن لا ندعي القطع واليقين، وأن لا نقبل مثل هذا الادّعاء من الآخرين أيضاً، إلاّ أن العقل لا يطلب منا معاملة الظنون العقلية معاملة الشكّ، بل إن ما يريده العقل منا عبارةٌ عن:
1ـ أن نفصل الظنون المعتبرة والمعقولة عن الظنون غير المعقولة وغير المعتبرة.
2ـ أن نزن ونقارن درجة تعهُّدنا والتزامنا النظري والعملي بالمتبنيات والأحكام المستندة إلى الظنون المعتبرة، مع قوّة الأدلة والشواهد الظنية المتوفرة لصالح تلك الأمور.
إن فصل وتفكيك الظنون المعتبرة عن الظنون غير المعتبرة إنما يعود سببه إلى أن الظنّ، مثل القطع، على نوعين: النوع «النفسي»؛ والنوع «المعرفي». إن الظنّ والقطع بوصفهما حالتين ذهنيتين ونفسيتين يفتقران إلى القيمة والاعتبار من الزاوية المعرفية؛ إذ يحتمل ظهورهما في الذهن لأسباب غير معرفية، فيكونان مستندين إلى العلة (العلة غير المعرفية)، لا إلى الدليل (العلة المعرفية). أما القطع والظنّ الذي يكون معتبراً من الزاوية المعرفية فهما القطع والظنّ الحاصل من الطرق المعتبرة والمعتمدة والمستندة إلى الدليل المناسب (الذي يلعب دور العلّة)، وليس القطع والظنّ المستند إلى العلّة، ولا القطع والظنّ المستند إلى الدليل غير المناسب وغير الكافي.
ومضافاً إلى ذلك يجب أن تكون «درجة» الظنّ متناسبة مع حجم «المدَّعى»، بمعنى أنه لا يمكن إثبات أو تأييد كلّ مدَّعى بأيّ دليل. قد تتغيّر درجة الظنّ المعتبر واللازم من دائرةٍ إلى أخرى، ومن موضوعٍ إلى آخر؛ لأن هذا هو ما تقتضيه العقلانية. ولكنْ كما سبق أن رأينا لا فرق من هذه الناحية بين الظنّ العقلي (الظنّ المستند إلى المشاهدة أو الاستدلال العقلي)، والظنّ النقلي (الظنّ المستند إلى الدليل النقلي)، والظنّ الحسّي (الظن الحاصل من التجربة الحسّية). إن الدرجات المتساوية للظنون العقلية والظنون النقلية والظنون الحسية تحظى بدرجةٍ واحدة من القيمة والاعتبار من الزاوية المعرفية. يُضاف إلى ذلك أن العلم مفهوم معرفي، ومقولة مشككة، والظنون المعتنى بها تعدّ عُرْفاً من العلم، ولا تعدّ جهلاً. وهذا يُثبت أننا لا نستطيع أن نعتبر العلم مساوقاً ومرادفاً للقطع واليقين.
يضاف إلى ذلك أنّ لنا أن نتساءل:
1ـ هل الأحكام التي نحصل عليها من طريق النقل قطعية ولا تقبل الخطأ؟
2ـ هل احتمال الخطأ في النقل أقلّ من احتمال الخطأ في العقل؟([45]).
3ـ ما هو الفرق بين الظنون النقلية والظنون العقلية، بحيث إن الظنون النقلية تغني الفرد عن الحقّ والحقيقة، ويمكن اعتبارها بحكم القطع واليقين، أما الظنون العقلية فلا تغني الفرد عن الحق والحقيقة، ولا تكون بحكم القطع واليقين؟
مضافاً إلى ذلك فإن سلب الحُجّية عن الظنون العقلية هو بمثابة الجلوس على غصن الشجرة وقطعه من الجزء المتّصل بالجذع؛ إذ يستحيل الرجوع المباشر إلى الله والنبيّ (من دون توسيط العقل والتجربة)؛ إذ لا بُدَّ أوّلاً من إثبات ربوبية وألوهية الله ونبوّة النبي، وتصوُّر كلماتهما وتصديقها، ليمكن بعد ذلك القول: إن هذا الحكم الخاص هو حكم الله أو النبيّ. إلاّ أن هذا القول وهذا التصوُّر والتصديق هو من نشاط هذا العقل الناقص، والذي يكون نهباً للأهواء والغرائز. إذا كان حصول القطع واليقين في مورد بعض هذه الافتراضات ممكناً فهو بلا شَكٍّ مستحيل في جميع الموارد؛ وفي حالة الإمكان فإنه لا يحول دون وقوع الخطأ في الإدراك. ومن الجائز أن يقع العقل في الخطأ في معرفة حكم الله أيضاً. ومن جهةٍ أخرى فإن الأهواء والغرائز كما تخلّ في فهم نداء ورسالة النبي «الباطني» (العقل) وتلبية دعوته فإنها تخلّ في فهم نداء ورسالة النبيّ «الظاهري» (الوحي)، وتلبية دعوته أيضاً. يُضاف إلى ذلك أن الناس إذا كانوا مختلفين في فهم وتفسير حكم النبي الباطني فإنهم يختلفون في فهم وتفسير حكم الأنبياء الظاهريين أيضاً، هذا إذا لم نقل: إن اختلافهم في فهم وتفسير حكم الأنبياء الظاهريين أكثر وأشدّ وأعمق وأقدم من اختلافهم في فهم وتفسير حكم النبي الباطني.
وبعبارةٍ أخرى: إن الرؤية التقليدية في ما يرتبط بالعقل والوحي تقول: إن الوحي «مصدر» الأحكام الشرعية، والعقل «وسيلة» لمعرفة هذه الأحكام. ولكنّنا نرى أن الوحي ليس «مصدراً» للحكم، وإنّما هو «طريق» لمعرفة الحكم. وأما العقل فهو بالإضافة إلى كونه «وسيلةً» للمعرفة، هو «مصدرٌ» للحكم أيضاً. فإذا لم يكن هذا المصدر وهذه الوسيلة المعرفية موثوقة ومعتمدة في مقام معرفة حكمه، وكان من حقّنا تعطيله؛ بسبب احتمال خطئه، فلماذا لا يكون الأمر كذلك في ما يتعلّق بمقام معرفة الوحي أيضاً؟! هذا إذا غضضنا الطرف عن أن الوحي يصل إلينا دائماً من طريق النقل، وأن منقولات الناس، مثل معقولاتهم، ليست بمنأى عن تأثير الأهواء والرغبات. يعترف سائر علماء الإسلام ـ باستثناء الأخباريين ـ بوجود بعض الروايات الموضوعة أو المحرَّفة، ولكنْ لا أحد يقول بوجوب تعطيل السنّة؛ بسبب وجود تلك الروايات، أو أن نشترط الاعتراف بها وقبولها بحصول القطع واليقين. إن النتيجة المنطقية التي يمكن التوصُّل إليها؛ بسبب وجود الروايات المختلقة، هي التعامل مع السنّة معاملة انتقادية، والعمل على وضع أساليب تساعد على التمييز بين الروايات المختلقة والروايات الصحيحة. ولكنّ السؤال هو: لماذا لا ينبغي ـ أو لا يمكن ـ اتّخاذ منهج مشابه تجاه العقل واحتمال وقوعه في الخطأ؟
إن آليّة المعرفة عبارةٌ عن إضافة المعطيات الجديدة إلى المعلومات السابقة. وإن وسيلة وأداة المعرفة تحمل على القيم والمعايير المعرفية (أخلاق التفكير والتحقيق). وإن العقل ـ في مقام الحصول على المعرفة ـ مقدَّمٌ على الوحي والنقل؛ لأن الوحي والنقل لا يمكنهما أن يكونا مصدراً مستقلاًّ للمعرفة، ولا يمكن الحصول على المعرفة الدينية المستندة إلى الوحي والنقل دون تركيب معطيات الوحي والنقل مع المعايير والافتراضات العقلانية السابقة (تقدّم «شريعة العقل» على «شريعة النقل»). والنقطة الهامة هي أن شريعة العقل هي، مثل شريعة النقل، غالباً ـ إذا لم نقل دائماً ـ ما تكون مفيدةً للظنّ، ولا تفيد القطع واليقين.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن الآيات والروايات التي تنهى الناس عن اتباع الظن؟ نرى أن القائلين بالنقل قد أخرجوا هذه الآيات والروايات عن سياقاتها الطبيعية. ولذلك فإنّ جميع التفسيرات المقدَّمة لهذه الآيات والروايات خاطئة. أما من وجهة نظرنا فإن هذه الآيات والروايات ناظرة إلى موردين بعينهما:
الأوّل: عندما تكون الحقيقة واضحة، ويكون الحق في متناول الإنسان. ولا شَكَّ في أنّه إذا أمكن الوصول إلى الحقيقة في (بعض) الموارد لا يمكن ـ بل لا ينبغي ـ الاكتفاء بالظنّ والحدس في الاقتراب من الحقيقة؛ فإنّ اتّباع الظنّ في هذه الموارد لا يغني عن اتّباع الحقّ شيئاً.
والثاني: عندما يكون الموضوع من الأهمّية بحيث تقتضي المسؤولية العقلانية من الإنسان أن يعمل على طبق العلم اليقيني فقط، ولا يعتني بظنونه وحدسياته.
وفي الحقيقة يمكن القول: إن هذه الآيات والروايات لا تثبت حكماً تشريعياً وتعبُّدياً، وإنّما «تذكّر» الناس بمعايير العقلانية. إن هذا الآيات والروايات المذكورة «إرشادية»، بمعنى أنها تبيِّن حكم العقل، وليست «مولوية»، بمعنى أنها لا تبيِّن حكم الشرع. هذا هو حكم العقل الذي يحتِّم علينا عدم العمل على طبق ظنّنا في هذين الموردين المذكورين. إلاّ أنّ كلاًّ من العقل والوحي يقول: إنه لا يمكن العمل في هذين الموردين بـ «الظنّ النقلي» أيضاً. ومن هذه الناحية لا فرق بين الظنّ العقلي والظنّ النقلي، بمعنى أن المعايير العقلانية الحاصلة من هذه الآيات والروايات لا تقبل التخصيص. وإنّ الظن النقلي أيضاً لا يحلّ محلّ الحق واليقين. وفي حالة كون الموضوع هامّاً فإن الظنّ النقلي فاقدٌ للاعتبار أيضاً. في حين أن القائلين بالنقل يذهبون إلى الادّعاء بأن هذه الآيات والروايات إنما تنهى عن اتّباع الظنون العقلية فقط، وبشكلٍ مطلق. فهؤلاء يرَوْن أن الظنّ النقلي بحكم اليقين. إن القائلين بالنقل ذهبوا إلى التصوّر بأن هذه الآيات والروايات تبيّن الحكم التعبّدي للشرع، ثمّ استنتجوا من ذلك أن هذا الحكم التعبّدي قد تمّ تخصيصه بالأدلة الدالة على حجّية الظنون النقلية. ولكننا نرى خطأ هذا الفهم والاستنباط، ونقول بأن هذه الآيات والروايات تبيِّن المعايير العقلانية والأخلاقية الحاكمة على البحث والتفكير.
وإذا تجاوزنا هذين الموردين فإن كلاًّ من العقل والوحي يقول بأننا مكلَّفون بالعمل على طبق ظنوننا، ولا مناص لنا من ذلك، بمعنى أنه عندما لا يكون الحقّ في بعض الموارد واضحاً، ولا يمكن الوصول إلى الحقيقة، وكان الحصول على اليقين مستحيلاً أو مستعصياً ومستلزماً للعسر، وفي الموارد التي لا يجب فيها الاحتياط، يحقّ لنا أن نعمل على طبق ظنوننا، دون أن يكون هناك فرقٌ في هذه الموارد بين الظنّ العقلي والظنّ النقلي والظنّ الحسّي. إنّ علمنا بمضمون الوحي في أكثر الموارد ـ إذا لم نقل في جميعها ـ، بما في ذلك الآيات والروايات التي تنهانا عن اتباع الظنّ، لا تتجاوز حدود الظنّ، وإنّ سلب الحجّية والاعتبار عن مثل هذا الظنّ سيؤدّي إلى تعطيل الوحي. وعليه فإن خطأ العقل لا يمكن رفعه من خلال الرجوع إلى النقل. كما لا يمكن من هذا الطريق تخليص العقل من براثن الأهواء.
ب ـ نقد العقل من الزاوية العرفانية ــــــ
إن الطريق الذي ينتهجه عرفاء المسلمين؛ لرفع نقصان العقل وتخليصه من قيود الهوى، يقوم على تزكية وتهذيب النفس، وسلوك طريق الحبّ من جهةٍ، والقول بتقدُّم المحبّة والعشق على العقل من جهةٍ أخرى. إن التقابل والمواجهة بين العقل والعشق، وتفوُّق العشق على العقل، يعدّ من التعاليم الهامّة للمنهج العرفاني في عالم الإسلام.
يقول أصحاب هذا الحلّ:
1ـ هناك حقائق لا يمكن للعقل أن ينالها. وإنّ الطريق الوحيد الموصل إلى معرفتها يكمن في (العشق) والحبّ، والقول بأن (العشق يمثِّل بوصلة أسرار الله). ولا يمكن الحكم بشأن صحّة وسقم الأقوال الناظرة إلى هذه الحقائق من خلال المعايير العقلانية.
2ـ إن المعرفة التي تأتي من طريق الحبّ والعشق (التجربة العرفانية) أفضل وأشرف وأكثر قيمةً من المعرفة الحاصلة من طريق العقل.
3ـ إن العقل العملي هو عقل «مصلحي» و«نفعي» و«أناني».
4ـ العقل أسير النفس الأمّارة.
ـ إن العشق لا ينسجم مع العقل (طبقاً لحسابات العقل النفعي والمصلحي يعتبر العشق عين الجنون).
5ـ لا يمكن محاربة الرذائل الأخلاقية من خلال الاستناد إلى العقل الواقع في أسر الهوى.
6ـ يمكن تخليص العقل من أسر الأهواء والرغبات من طريق تزكية النفس وتهذيبها.
7ـ يمكن تحرير العقل من قيود الجشع والطمع بالعشق والمحبّة.
8ـ إن الطريق الوحيد لعلاج الرذائل الأخلاقية جذرياً هو العشق.
إلاّ أن العرفاء بطبيعة الحال ـ وخلافاً للقائلين بالنقل ـ لا يأمرون بتعطيل العقل، وإنما يُصرّون على مجرّد تحرير العقل والالتفات إلى القيود التي يعاني منها في مقام معرفة الحقائق. وإن هاتين النقطتين جديرتان بالتأكيد حقّاً.
ومع ذلك توجد هنا بعض المسائل المبهمة التي تحتاج إلى التوضيح، وهي:
1ـ إن تزكية النفس وتهذيبها «في مقام المعرفة» ليست غير تطهير الروح من الرذائل المعرفية، وإحلال الفضائل المعرفية بدلاً منها.
2ـ من خلال التأمّل في كلمات العرفاء يمكن لنا أن ندرك أن فهمهم للعقل هو ذات الفهم السائد في الثقافة الإسلامية، والتي على أساسها يتمّ:
1ـ اختزال العقل النظري في العقل الاستدلالي بالمعنى الأرسطي للكلمة.
2ـ اختزال العقل العملي في العقل المحاسب والآلي والمتمحور حول ذاته.
3ـ اختزال العقلانية في الاستدلال على الطريقة الأرسطية.
4ـ اختزال المصادر المعرفية المعتبرة في التجربة الحسّية والاستدلال العقلي القائم على التجارب الحسّية.
فإذا كان لدى الفرد مثل هذا الفهم للعقل والعقلانية سوف يصل إلى نتيجة مفادها:
ـ إن التجربة العرفانية فاقدة للقيمة والاعتبار.
ـ إن إله العرفان غير معقول.
ـ إن التفسير العرفاني للعالم (وحدة الوجود) خلاف العقل والعقلانية.
ـ إن العشق أمرٌ مذموم، وإن الابتلاء بالعشق هو عين الجنون والخبال.
وعلى هذا الأساس فإن العقل الذي يشجبه العرفاء وينتقدونه عبارةٌ عن فهم خاص للعقل النظري، وفهم خاص للعقل العملي. إن مثل هذا الفهم للعقل ناقص، ولا يشمل جميع أقسام أو آليات العقل النظري والعملي. إن مثل هذا الفهم الناقص للعقل والعقلانية يستحقّ النقد حقيقة. وعلى هذا الأساس يمكن القول في مقام الإجابة عن نقد العقلانية من الزاوية العرفانية:
1ـ إن العقل النظري لا يُختزل في العقل الاستدلالي الإغريقي المتمثِّل بالقياس القائم على التجارب الحسّية (إن آلية العقل لا تكمن في الاستدلال على الطريقة الأرسطية)، بل إن الآلية الرئيسة للعقل النظري تكمن في «تقييم التناسب بين الدليل والمدّعى»، و«الشهود العقلاني».
2ـ إن العقلانية النظرية لا تُختزل في العقلانية الفلسفية، وإن العقلانية المناسبة مع مساحة العرفان عقلانية عرفانية (تناسب الدليل العرفاني مع المدّعى العرفاني).
3ـ إن المدّعيات العرفانية غير قابلة للإثبات أو التأييد من خلال الاستدلال على الطريقة الأرسطية، والاستناد إلى المقدّمات الحسّية والفلسفية، فهي بهذا المعنى فوق طور العقل. ولكنّها قابلةٌ للإثبات والتأييد والتبرير العقلاني (العقل الشهودي) بمساعدة المشاهدات العقلانية والتجارب العرفانية.
4ـ إن مصادر المعرفة لا تُختزل في التجربة الحسّية والاستدلال العقلي القائم على التجارب الحسّية (يمكن للتجربة العرفانية في الحدّ الأدنى أن تكون معتبرة وذات قيمة وقابلة للاعتماد، كما هو الحال بالنسبة إلى التجربة الحسّية، ويمكن الاستفادة من هذه التجارب (العرفانية) بوصفها موادّ أولية في الأدلة العقلية).
5ـ إن النقد العرفاني للعقلانية يقوم على مغالطة أخذ «ما بالعرض» بدلاً عن «ما بالذات» (إن العقل والعقلانية لا يساوي الفلسفة التقليدية الإغريقية أو الإسلامية، كما أن إبطال آراء الفلاسفة المنتسبين إلى هاتين المدرستين لا يساوق إبطال العقلانية وإلغاء الفلسفة).
6ـ لو أبطلنا العقلانية في دائرة العرفان لن يكون هناك أيّ معيار للفصل والتفكيك بين الأفكار والادّعاءات العرفانية الأصيلة وبين الخرافات (العقلانية نقيض الخرافة، وليست نقيضاً للعرفان).
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن انتقادات العرفاء للعقل العملي؟ في تصوُّرنا:
1ـ إن فهم العرفاء المسلمين للعقل العملي ناقصٌ أيضاً؛ وذلك لأن هذا الفهم يختزل العقل العملي في العقل الأناني والمصلحي الآلي، ولا يشمل العقل غير الآلي والعقل الأخلاقي([46]).
2ـ إن العشق وإنْ كان يمثِّل أحد أفضل الطرق لتحرير العقل، ولكنْ هناك أيضاً طرقٌ أخرى للوصول إلى هذه الغاية؛ لأن المعنى الدقيق لتحرير العقل عبارة عن رفع الموانع التي تعيق العقل عن ممارسة دوره المناسب والمتوقَّع منه. وإن هذه الموانع تنقسم إلى قسمين: موانع خارجية؛ وموانع داخلية. وإن حقوق الإنسان تعمل على رفع الموانع الخارجية الماثلة أمام طريق العقل، وتضمن حرّيته السلبية، ولكنّها تسكت عن رفع الموانع الداخلية. والموانع الداخلية عبارةٌ عن الرذائل النفسية. وأما تحرير العقل من قيود الرذائل النفسية (الأعمّ من الرذائل الأخلاقية والرذائل المعرفية)، وطرق إزالة هذه الرذائل، فلا ينحصر بالعشق، وهناك في الحدّ الأدنى طريقان آخران لمعالجة الرذائل بشكلٍ جذري: أحدهما: هو التقوى والخشية من الله؛ والآخر: الالتفات إلى الكرامة الإنسانية.
3ـ إن العقل والعقلانية الأخلاقية تنسجم مع العشق (والإيثار)، ولكنْ لا بشكل مطلق، بل إن معقولية العشق رهنٌ بتأثيره الإيجابي على الازدهار والنمو الأخلاقي لدى الفرد([47]).
4ـ إذا كان لخصائص المعشوق دورٌ في نوع تأثير العشق على أخلاق العاشق، وكونه إيجابياً أو سلبياً، فعندها تكون مطلوبية العشق من الناحية الأخلاقية رهناً باستحقاق المعشوق وصلاحيته الأخلاقية، بمعنى أن تأثير العشق ـ في هذا الفرض ـ في معالجة الرذائل الأخلاقية في الحقيقة ليس تأثير العشق بما هو عشق، بل هو تأثير الأوصاف والخصائص التي يتمتَّع بها المعشوق. إن العشق يسلب أوصاف العاشق، ويزرع في كيانه وروحه أوصاف المعشوق.
وعلى هذا الأساس:
5ـ إذا كان المعشوق يتمتَّع بالفضائل الأخلاقية، وإذا كانت الصورة التي يحملها العاشق عن المعشوق مشتملة على الفضائل الأخلاقية، فإنّ عشقه له سوف يؤدّي إلى تنمية هذه الأوصاف لديه. وأما إذا كان المعشوق متّصفاً بالرذائل الأخلاقية، أو إنّ الصورة التي ارتسمت له في ذهن العاشق مشتملةٌ على الرذائل الأخلاقية، من المحتمل عندها أن لا يساعد عشقه له في معالجة الرذائل الأخلاقية، بل قد يؤدّي ذلك إلى استفحال الرذائل الأخلاقية وتعذُّر معالجتها، بل قد يؤدّي إلى استحالة علاجها.
6ـ إن طريق مكافحة الرذائل الأخلاقية يكمن في تعزيز وتقوية العقل الأخلاقي، وتحكيمه على العقل الأناني والمصلحي. ويمكن للعشق أن يكون عنصراً مساعداً في هذا الشأن.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن النسبة القائمة بين العقل والعشق؟
نتكلَّم أوّلاً عن النسبة القائمة بين العشق والعقل النظري. لا شَكَّ في أن العشق يُعَدّ واحداً من قنوات ومصادر المعرفة، إلاّ أنه في الوقت نفسه يشكّل واحداً من موانع المعرفة أيضاً. قال النبي الأكرم|: «حُبّك للشيء يُعمي ويصمّ»([48]). فالعشق، كما يؤدّي إلى رؤية ما يتصف به المعشوق من الجمال والكمال، يحول دون رؤية ما يتّصف به من القبائح والرذائل أيضاً.
كما يمكن عدُّ العشق واحداً من الفضائل المعرفية؛ لأن الرذائل الأخلاقية والمعرفية من موانع معرفة الحقيقة، وإنّ العشق يمثِّل أحد أفضل الطرق وأكثرها تأثيراً في علاج هذه الرذائل. وفي الوقت نفسه ـ كما أسلفنا ـ فإنّ دور العشق في معرفة الحقائق ليس إيجابياً على الدوام. فإن العشق، كما يطهّر الإنسان من الرذائل الأخلاقية، يجعل منه أسيراً مكبّلاً بأصفاد المعشوق، فإذا كان ذلك المعشوق شيئاً مغايراً للحقيقة قد يُشكِّل مانعاً من التعرُّف إلى الحقيقة بشكلٍ صحيح. في حين أن العقلانية النظرية لا تنسجم مع «التفكير الخرافي» و«تقديس الخرافة»، دون «العشق» و«الهيام».
مضافاً إلى ذلك فإن العرفاء عندنا يتحدّثون عن العشق يتحدّثون وكأنّ التطهّر من الرذائل الأخلاقية من الخصائص الذاتية للعشق، بمعنى أنه من خصائص العشق بما هو عشق. في حين قد لا يكون الأمر كذلك. ولربما كان تأثير العشق في أخلاق العاشق بتأثير من خصائص المعشوق، فيتّخذ العاشق صبغة المعشوق. وعندها سيكون تأثير العشق في علاج الرذائل الأخلاقية في الحقيقة تأثيراً من قبل «المعشوق»، وليس تأثيراً من قبل «العشق»، وخصوصية لنوع خاصّ من العشق، وليس خصوصية للعشق بما هو عشق. يرى العرفاء أن العشق يمثِّل أحد الفضائل، بل هو عندهم يمثّل أمّ الفضائل بأسرها. ولكنْ ربما أمكن القول: إن كون العشق فضيلة أو رذيلة تابع في بعض الموارد لخصائص المعشوق وخصاله في الحدّ الأدنى. وفي هذه الحالة لا يعدّ عشق المعشوق فضيلةً إلاّ إذا كان المعشوق فاضلاً، ليست فيه أيّ شائبة من شوائب الرذيلة. فإذا كان المعشوق متَّصفاً بجميع الفضائل عندها سيكون عشقه أمّ جميع الفضائل، في هذه الحالة فقط. وعلى هذا الأساس فإن التأثير الأخلاقي للعشق ـ في بعض الموارد على الأقلّ ـ تابعٌ لخصائص وخصال المعشوق([49]). وعلى حدّ تعبير (هاوسي) : «قل لي مَنْ تعشق أقُلْ لك مَنْ أنت».
وبطبيعة الحال فإن العشق لا يتعلّق بالإنسان والكائن الإنساني (من قبيل: الإله المتشخّص والمتأنسن) فقط، بل يمكن أن يتعلّق حتّى بالأمور المجرّدة والمثالية، من قبيل: الحقيقة والعدالة والخير والجمال أيضاً. فإن الـ (philosophia) مثلاً إنما تعني في الحقيقة عشق الحكمة([50]). إلاّ أن النقطة الهامة التي يجب ذكرها هنا بشأن هذه الموارد هي أن تعيين ما إذا كانت مثالية وتقييمها، وتحديد ما إذا كانت تستحقّ أن تكون مثالية، من شؤون العقل الأخلاقي.
ومن ناحيةٍ أخرى يجب عدم اختزال العقلانية النظرية في العقلانية العلمية والفلسفية، كما يجب عدم تقييم المدّعيات العرفانية بميزان العقلانية العلمية أو الفلسفية. تقول العقلانية العلمية: إنما الشيء المعقول هو الذي يمكن اختباره بميزان التجربة الحسّية، أو الذي يكون فرض وجوده ضرورياً للتجارب الحسّية. إن هذه العقلانية لا تنسجم مع العشق والسرّ والحيرة والعرفان والمعنويات، ولا تتحمّل مثل هذه الأمور. طبقاً لهذه العقلانية تعتبر الأفكار الدينية والأخلاقية والعرفانية خرافة وأسطورة وغير علمية ومخالفة للعقل؛ لأن هذه الأفكار لا تقبل التقييم والإثبات والإبطال أو التأييد والتضعيف، لا بميزان التجربة الحسّية، ولا افتراض وجودها لازم وضروري لبيان التجارب الحسّية. ولو عمد شخصٌ إلى اختزال العقلانية النظرية في هذا النوع من العقلانية فإنه سينتهي إلى القول بـ «عبادة العلم»([51]) أو التفرعُن. أما العقلانية العلمية فهي نوعٌ خاص من العقلانية الضرورية والمفيدة في حدّ ذاتها، إلاّ أن توسيع هذه العقلانية نفسها إلى خارج حدود الطبيعة والعلوم التجريبية، وتقييم المدّعيات الدينية والعرفانية بمعايير العقلانية العلمية، مخالفٌ للعقلانية.
كما أن المدّعيات العرفانية غير قابلة للتقييم والاختبار بموازين ومعايير الفلسفة الإسلامية أيضاً. كما أن العقلانية السائدة في الفلسفة الإسلامية لا تتحمّل التفسير العرفاني للعالم، ولا تنسجم بشكلٍ خاصّ مع وحدة الوجود العرفاني (فإن كثرة الوجود تمثّل واحدة من افتراضات الفلسفة الإسلامية). وبالإضافة إلى ذلك فإن التجارب والمشاهدات العرفانية تعتبر من وجهة نظر هذه الفلسفة فاقدةً للقيمة والاعتبار المعرفي؛ إذ إن الطريق الوحيد المعتبر لكسب المعرفة طبقاً لتعاليم هذه الفلسفة هو «القياس البرهاني»، ولا مشروعية للتمسُّك بالمشاهدات والاستدلال الشهودي والتمثيلي في الفلسفة. ولكنْ لا وجود لأيّ دليل يُثبت صحة هذا التفسير المضيّق للعقلانية النظرية، وجامعيّته بالقياس إلى جميع أنواع العقلانية النظرية الأخرى.
ورغم ذلك لا يصحّ الادّعاء القائل بأن المدّعيات العرفانية «تفوق العقلانية». وكما رأينا فإن الدائرة العرفانية تمتلك عقلانيّتها المناسبة أيضاً. وأساساً فإن العرفان النظري ليس شيئاً آخر غير إعادة إصلاح عقلانية المشاهدات والتجارب العرفانية. وخلافاً للتصوُّر السائد فإن هذه المشاهدات والتجارب لا تُختزل في المشاهدات والتجارب «القلبية»، في مقابل «العقلية»، بل تشمل طيفاً متنوِّعاً يحتوي على المشاهدات والتجارب العقلية الناظرة إلى المسائل العرفانية أيضاً. وأساساً لا يُمكن رسم حدٍّ قطعيّ وحاسم بين «العقل» و«القلب»([52]). وعلى كلّ حال فإن العقل لا يريد منا تقييم المدّعيات العرفانية بميزان العقلانية العلمية أو الفلسفية أو الرياضية؛ لأن مثل هذا التقييم من شأنه أن يكون مخالفاً للعقلانية، إلاّ أن العقل يريد منا أن نقيّم هذه المدّعيات بميزان العقلانية العرفانية؛ لأنه الميزان والمعيار الوحيد الذي يمكن على أساسه الفصل بين الأفكار الأصيلة والتعاليم العرفانية المعقولة وبين التعاليم الخرافية والمنافية للعقل في مجال العرفان.
هناك الكثير من الحقائق التي هي فوق طور الاستدلال بالمعنى الأرسطي للكلمة، ومن هنا فإنها غير قابلة للتقييم والنفي والإثبات. إن للاستدلال الأرسطي خصوصيتين، وهما: أوّلاً: الاستدلال القياسي، وثانياً: الاستدلال القائم على المقدّمات الحسّية([53])، إلاّ أن هذا لا يعني أن هذه الحقائق فوق طور العقل، ولا يمكن الحكم بشأن صحّتها وسقمها من خلال المعايير العقلانية. وكما سبق أن ذكرنا فإن مقتضى العقلانية النظرية في مجال العرفان، أو إن تعريف العقلانية في هذا المجال، عبارةٌ عن: «تناسب الدليل العرفاني مع المدَّعى العرفاني». وعلى كلّ حال فإن لدى العرفاء أدلتهم على مدَّعياتهم. وإن هذه الأدلة ـ بطبيعة الحال ـ ليست من سنخ الاستدلال القياسي، كما أنها لا تقوم على المقدّمات الحاصلة من التجارب الحسّية، إلاّ أن التجربة العرفانية تعدّ من الناحية المعرفية نوعاً من أنواع الأدلة المعتبرة في موضعها، ويمكن من خلال الاستناد إلى هذه التجربة والأدلة (التمثيلية) القائمة على هذه التجربة التمييز بين العرفان الأصيل والخرافات. إن مجموعة المعايير المعبِّرة عن شرائط اعتبار التجربة العرفانية تؤلِّف «شريعة العقل» في مجال العرفان. في ما يتعلّق بإدراك الحقائق العرفانية نجد قدم بعض أصحاب الاستدلال غير مستقرّة، ولا متمكّنة([54])؛ إذ يستندون في أدلتهم إلى مقدّمات حسيّة وتجريبية بحتة، ولا يرَوْن تلك القيمة المعرفية اللازمة للمشاهدات والتجارب العرفانية. وعلى كلّ حال فإنّ الاستدلال أخصّ من العقلانية ومن التبرير المعرفي.
ولكن ما الذي يمكن قوله بشأن الربط والنسبة القائمة بين العشق و«العقل العملي»؟ طبقاً لمعايير العقل المصلحي والعقلانية الاقتصادية يُعتبر العشق أمراً غير مبرَّر ولا معقول. فالعقل المصلحي يأخذ في حسابه ربحه وخسارته على الدوام. وهذا هو العقل الذي يمقته العرفاء، وهو الذي يريدونه من التقابل بين العشق والعقل في بعض الموارد. إن العقل الاقتصادي يرى العشق عين الجنون والخبال؛ لأن الذي يعشق إنما يكون في الحقيقة مقامراً ومقحماً نفسه في مجازفة شديدة الخطورة، ويكون احتمال الوصول فيها إلى الغاية ضئيلاً جداً. فنتيجة العشق ليست مجهولة فحَسْب، بل إن العشق إحلال المعشوق محلّ النفس، والتضحية من أجله والفناء فيه بشكلٍ كامل، دون توقُّعٍ لأيّ مكافأة أو طمع في نتيجة أو ربح. إن مثل هذا الأمر من الأساس لا ينسجم مع العقلانية الأنانية والنفعية والمصلحية. في العشق الحقيقي تزول الأنا نهائياً، فضلاً عن أن تفكّر هذه الأنا بربحها أو خسارتها، أو أن تفكّر في مصلحتها أو ضررها.
وعليه لو نظرنا إلى العشق من زاوية العقلانية الأنانية لن نجد أضرار العشق أكثر من منافعه فحَسْب، بل سنجد العشق ضرراً وخسراناً كلّه. فالعشق يعني إلغاء وتعطيل العقل الأناني. إلاّ أن العشق والهيام منسجمٌ ومتناغم مع معايير العقلانية الأخلاقية؛ لأن معقولية العشق من الزاوية الأخلاقية يعود سببها إما إلى التأثير الذي يتركه العشق بما هو عشقٌ على شخصية العاشق؛ وإما إلى التأثير الذي ينال العاشق من معشوقٍ خاص. وفي الحالة الأولى يحكم العقل الأخلاقي بمطلوبية العشق بما هو عشق. وأما في الحالة الثانية فإنّ حكم العقل الأخلاقي بمعقولية ومطلوبية العشق إنما يشمل نوعاً خاصّاً من العشق. وعلى كلتا الحالتين يكون الفناء في الآخر وإحلال الآخر محلّ النفس أمراً معقولاً ومقبولاً؛ لأن الأنا التي تتمّ التضحية بها في الحقيقة هنا هي الأنا التي تكون منشأً لعبادة الذات، وليست الأنا الأخلاقية.
وعلى هذا الأساس فإن العقلانية الأخلاقية تدعو الإنسان إلى العشق، وإن العشق والهيام ـ إذا اعتبرناهما من الأفعال الإرادية والاختيارية ـ تكون عُرضة للنقد والتقييم الأخلاقي. وعلى أيّ حال فإن القيمة الأخلاقية للعشق تأتي من الدور الذي يلعبه العشق في تعزيز الأنا الإنسانية والسيطرة على الأنا الحيوانية. ومن خلال هذا البيان يتّضح أن نقدهم للعقل والعقلانية تفسير مضيّق للعقل والعقلانية. وعلى هذا الأساس لو تخلّى هذا التفسير عن مكانه لتفسير العقل والعقلانية بشكلٍ صحيح فإن تلك الانتقادات ستفقد صدقها واعتبارها. وباختصارٍ فإنّ كلمات من قبيل: «لا فصل للعشق في كتاب طبيب العقل… تعايش أيّها القلب مع الداء ولا تأمل بدواء»([55]) إنما تصدق بشأن العقلانية المصلحية فقط، دون العقلانية الأخلاقية.
ج ـ نقد العقل من الزاوية العقلانية ــــــ
إن الطريق الثالث الذي يمكن اقتراحه لتعويض نقصان العقل وتحريره من الأهواء والرغبات هو العقلانية الانتقادية. تقول هذه الرؤية: «إن الميزان يعتدل بالميزان»([56]).
طبقاً لهذه الرؤية يمكن تمييز حكم العقل من حكم الأهواء بواسطة «الدليل»، ولا ينبغي الإذعان لحكم العقل دون دليلٍ معتبر، بمعنى أن حكم العقل يجب أن يكون مقروناً بالدليل، وإن الدليل الذي يُبرِّر حكم العقل يثبت بنفس المقدار أنه لا ينبثق عن الأهواء والرغبات. وفي الوقت نفسه لا بُدَّ من الالتفات إلى أن التعاطي الانتقادي للعقل مع أحكامه إنّما يؤدّي إلى «تقليل» أخطاء العقل في تشخيص الحقيقة وإدراك حكمه وحكم الشرع. وعليه لا وجود لأيّ طريق أو أسلوب لنفي الخطأ بشكلٍ كامل وقطعي ويقيني؛ فإن اليقين «المنطقي» و«المعرفي» إذا كان في متناول الإنسان إنما يكون في دائرة المنطق والرياضيات، وإن اليقين «النفسي» من الناحية المنطقية يفتقر إلى القيمة المعرفية.
وفي مقام حلّ التعارض القائم بين العقل والعقل الآخر، وكذلك حلّ التعارض القائم بين العقل والوحي، أو العقل والنقل، لا بُدَّ من الاحتكام إلى ذات العقل أيضاً. وإن حكم العقل ومقتضى مسؤوليتنا ووظيفتنا العقلانية هو اتّباع الأصلين التاليين:
1ـ قياس أدلتنا إلى أدلة الآخرين، والإذعان للدليل الأقوى.
2ـ قياس الأدلة العقلية إلى الأدلة النقلية، والإذعان للدليل الأقوى.
وإن تعارض العقل مع الوحي، أو تعارض العقل مع النقل، إنّما هو في حقيقته مصداقٌ ومورد للتعارض بين العقول.
يتمثّل الطريق الوحيد للتقليل من الأخطاء المعرفية ـ من وجهة نظرنا ـ في المزج بين مختلف مصادر المعرفة، وتنظيم المعلومات والمعطيات الحاصلة من مختلف القنوات المعرفية، من قبيل: القلب والعقل والحسّ والتجربة والوحي والنقل. لا يمكن للدين والوحي والقلب والعشق أن يحلّ محلّ العقل في الحياة الفردية والجماعية للناس، كما لا يمكن لعقل أن يحلّ محلّ هذه الأمور. إن الطرق المختلفة للحصول على المعرفة تكمل بعضها، وإن المزج المناسب والمطلوب للمعارف التي ينتهي إليها كلّ واحد من هذه الطرق يُسهم في المجموع في تقليل أخطاء الإنسان على المستوى العلمي، وعلى المستوى العملي. والمهم في البين هو أن يتعاطى الفرد مع جميع المصادر المعرفية بشكلٍ انتقادي، وأن لا يُفضِّل مصدراً على مصدر آخر. إن العقلانية المعتدلة والانتقادية غير العقلانية المتطرّفة أو الجازمة. إن هذا النوع من العقلانية يعطي الاعتبار والقيمة اللازمة للوحي والنقل والقلب أيضاً، وهي تمتلك ادّعاء متواضعاً ومنصفاً، وهو عبارة عن: «تقدُّم الظنّ الناشئ عن الدليل الأقوى على الظنّ الناشئ عن الدليل الأضعف، سواء أكان هذا الظنّ ناشئاً عن العقل (الشهود أو الاستدلال العقلي)، أو عن طريق القلب والتجربة العرفانية، أو عن طريق الحسّ والتجربة العلمية».
5ـ كلمةٌ أخيرة ــــــ
يجب عدم تفسير التأكيد على العقل والعقلانية بعدم الحاجة إلى السنّة. فالسّنة هي عُصارة تجارب الماضين، وحصيلة احتكاكهم بالمسائل النظرية والمشاكل العملية في مختلف مجالات الحياة. إن العقلانية تقتضي منا أن نجدّ في حفظ تجارب السابقين، والعمل على توظيفها والاستفادة منها. يقول الإمام عليّ×: «العقل حفظ التجارب»([57])، أي إن العقل عبارة عن استلهام التجارب، والاعتبار بها.
والمهمّ في البين هو كيف يمكن لنا أن نستفيد من السنّة؟ وما هو منهج الاستفادة منها؟
إلاّ أن الإيمان بالسنّة مطلقاً، ومن دون تمحيص ونقد، مخالفٌ للعقلانية بمقدار مخالفة إنكارها المطلق للعقلانية. إن العودة إلى السنّة هي مصداقٌ للعودة إلى العقل الجمعي. والفريضة الخطيرة التي يجب أن يضطلع بها المصلحون المعاصرون تكمن في العمل على «الإصلاح العقلاني» للسنّة في عصر التجدُّد. وإن الفهم التقليدي للدين والتديُّن التقليدي يُشكّل جزءاً من السنّة، والذي هو ـ كسائر أجزائه ـ خليطٌ من الحقّ والباطل، والصواب والخطأ، والمعقول وغير المعقول. من هنا فإن المعرفة الدينية والتديُّن التقليدي بحاجةٍ ماسّة إلى النقد العقلاني والأخلاقي. ولا ينبغي تسرية تقديس الدين وكونه حقّاً على «فهم» و«عمل» وسلوك المتديِّنين.
كما لا ينبغي حمل التأكيد على العقل والعقلانية على أنه يعني الإعراض عن الحقّ، والاستغناء عن الوحي والدين، والتنكُّر للأنبياء أو الاستغناء عن تعاليمهم، والاستنكاف عن عبادة الله. لا يمكن للعقل أن يحلّ محلّ الدين في حياة الإنسان، كما لا يمكن للدين أن يحلّ محلّ العقل في حياة الإنسان. إن الذي ينشده ويطلبه العقل والوحي رهنٌ بأن نقيم تلاقحاً وتعاطياً وحواراً عقلانياً بينهما. إن الدين ثمرة العقل الإلهي والنبوي، وإن العقلانية تريد منا أن نفيد الفائدة القصوى من عقول الآخرين. وإن الذي لا ينسجم مع العقلانية هو أن أعمل على تعطيل عقلي في مقابل عقل الآخر، وهذا الآخر يشمل الله والنبيّ أيضاً. وإن الفرد لا يستفيد من العقل الإلهي والنبويّ إلاّ بمقدار ما يتمتّع به عقله من النشاط والازدهار.
الهوامش
(*) أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، وأستاذٌ في جامعة المفيد في مدينة قم.
([1]) سبق أن نشرنا خلاصة أبحاث هذا الفصل في مجلّة (مدرسة). انظر: فنائي، مباني اجتهاد: تأثير معرفت بشري در معرفت ديني، مجلّة نقد ونظر، العدد 3 ـ 4: 284 ـ 293.
([2]) غرر الحكم ودرر الكلم: 50، الحكمة رقم 315.
([3]) إن المراد من المصالح الأنوية هنا هو الأعمّ من المصالح الفردية والصنفية والفئوية والوطنية؛ فإن العقلانية الاقتصادية تريد منا:
1ـ عند التعارض بين مصالحنا الشخصية ومصالح الآخرين أن لا نفكر إلاّ بأرباحنا وخسائرنا، ولا نفكر في أرباح وخسائر الآخرين.
2ـ عند التعارض بين مصالحنا الفئوية والصنفية والمصالح االفئوية والصنفية للآخرين أن لا نفكر إلاّ بأرباحنا وخسائرنا الصنفية والفئوية، ولا نفكر في الأرباح والخسائر الصنفية والفئوية للآخرين.
3ـ عند التعارض بين مصالحنا الوطنية والمصالح الوطنية للآخرين أن لا نفكر إلاّ في مصالحنا الوطنية فقط، ولا نفكر بالمصالح الوطنية للآخرين.
والوجه المشترك بين هذه الموارد الثلاثة يكمن في تقديم مصالحنا «الأنويّة» على مصالح الآخرين، رغم اختلاف «الأنا».
([4]) تعود هذه الإجابة إلى (كانْت) وأتباع مدرسته.
([5]) إن هذا الجواب يعكس لبّ وجوهر «التعاقدية» (contractarianism). يسعى التعاقديون إلى إثبات أن الالتزام الأخلاقي إذا تمسّك به أكثر أفراد المجتمع سيكون لصالح الجميع. انظر في هذا الشأن الكتاب التقليدي:
– Gauthier, D. (1987) Morals by Agreement (Oxford: Oxford University Press Clarendon Press).
([6]) فحوى شعر للمولوي يقول فيه:
«إين جهان كوهست وفعل ما ندا *** سوي ما آيد نداها را صدا»
(المثنوي 1، رقم البيت: 215).
([7]) يذهب راؤولز إلى إمكان توظيف هذا المنهج والأسلوب لتبرير نظرية أخلاقية عامّة أيضاً.
([8]) considered moral judgements.
([12]) تعرّضنا إلى مزيد من الشرح التفصيلي لنظرية راؤولز في مجال التبرير المعرفي للادعاءات الأخلاقية في الفصل السابع من كتابنا «أخلاق تفكّر أخلاقي» (أخلاق التفكير الأخلاقي).
([13]) لا نعني بـ «العقلانية الانتقادية» رؤية بوبر وبعض تلاميذه وشرّاحه؛ فإن مراد هؤلاء من العقلانية الانتقادية هو القول الذي يُبطل إمكان التبرير الإيجابي للنظريات والقرارات، ويكتفي بالتبرير السلبي والإقناعي لها. في حين نذهب ـ تبعاً لجميع المعرفيين الحداثويين ـ إلى إمكان الاعتقاد بالتبرير الإيجابي أو التأييد الظني للمعتقدات والقرارات طبقاً للأصول. يرى بوبر وبعض تلاميذه وشرّاحه أن العقلانية الانتقادية رهنٌ بامتناع التبرير الإيجابي. ولكنّي أذهب إلى القول بأن هذه العقلانية رهنٌ بامتناع أعلى درجات التبرير الإيجابي، أي القطع واليقين المنطقي الذي ينسجم مع إمكان ووجود الدرجات الظنية للتبرير الإيجابي.
([17]) إن سبب ظنية هذه المعايير والقواعد العقلانية يعود إلى أن الأساليب المتوفّرة لدينا لكشف هذه القواعد لا تفيد غير الظن. وإن اكتشاف هذه القواعد والمعايير يتمّ إما من طريق الرؤية الباطنية والمشاهدة والرجوع إلى المرتكزات؛ وإما من طريق الاستقراء والرجوع إلى السنّة أو العقل (سيرة العقلاء)؛ أو من طريق الإصلاح العقلاني لتاريخ العقلانية (العقلانية الراهنة والوصفية). ولا شيء من هذه الأساليب مفيد لليقين بالمعنى المعرفي والمنطقي للكلمة.
([18]) وهنا لا بُدَّ من التفكيك والفصل بين المقولات الآتية:
1ـ إن الحقيقة ما بعد الطبيعية (reality) هي غير الحقيقة المعرفية (truth). فالأولى تعني الوجود والتحقُّق، والثانية تعني الصدق الذي يمكن للقضايا أن تتّصف به. وللحدّ من الغموض يحسن تسمية الحقيقة ما بعد الطبيعية بـ «الواقعية»، على أن نستخدم «الحقيقة» للتعبير عن الحقيقة المعرفية فقط. ولكنْ حيث إنّ العرف العام يُكثر من استعمال الحقيقة في المعنى الأول فإننا من الآن فصاعداً سنعمد إلى استعمال الحقيقة بمعنى الواقعية.
2ـ إن التشكيك في دائرة الوجود (التشكيك الوجودي) هو غير التشكيك في الدائرة المعرفية (التشكيك المعرفي). فالأول عبارة عن الشكّ في وجود أو عدم وجود أمر ادّعي وجوده، والثاني عبارة عن الشكّ في العلم أو الجهل بـ (ماهية) أمر اعتبر وجوده أمراً مفروغاً عنه. قد لا يكون الفرد مشكّكاً في وجود واقعية مستقلة عن الذهن، ولكنه يُشكّك في علمنا بتلك الواقعية. وبعبارةٍ أخرى: إن الشكّ في الوجود هو غير الشكّ في الماهية.
3ـ إن العينية أو الذهنية (objectivity or subjectivity) الوجودية هي غير العينية أو الذهنية المعرفية. إن للموجودات عينية أو ذهنية وجودية، ولكنّ وجودها ليس مستقلاًّ عن الإنسان وقواه الإدراكية. ومن ناحيةٍ أخرى إن للقضايا عينية أو ذهنية معرفية لا يمكن التحقُّق بشأن صدقها وكذبها بشكلٍ عام. ولكي تتّضح المسألة بشكلٍ أفضل يمكن أخذ الحالات الأربع المتصوّرة التالية بنظر الاعتبار:
أـ إن لقمّة دماوند عينية وجودية، وأما القضية القائلة: «يبلغ ارتفاع قمّة دماوند مقدار عشرين متراً فوق مستوى سطح البحر» فلها عينية معرفية.
ب ـ إن لقمّة دماوند عينية وجودية، وأما القضية القائلة: «تروقني قمّة دماوند» فلها ذهنية معرفية.
ج ـ إن للذكاء ذهنية وجودية، إلاّ أن القضية القائلة: «إن ذكاء زيد أكثر من ذكاء عمرو» (في الوضع النفسي الراهن) فلها عينية معرفية.
د ـ إن لليأس ذهنية وجودية، وأما القضية القائلة: «أنا يائس» (في الوضع النفسي الراهن) فلها ذهنية معرفية.
وإن لتطوّر العلوم التجريبية (سواء الطبيعية أو الإنسانية) دوراً محوريّاً في تقليل مصاديق القضايا المشتملة على ذهنية معرفية. مع الشكر الجزيل للأستاذ المحترم مصطفى مَلَكْيان على بيان هذه التفكيكات، وذكر هذه الأمثلة.
([21]) إن المراد من الصدق في عبارة: «النجاة في الصدق» هو «الصدق الأخلاقي»، الذي هو من المصاديق البارزة لـ «الصدق»، وليس «الصدق المعرفي». طبقاً لنظرية المطابقة في مجال الصدق (corresponding theory of truth) يكون الصدق والكذب المعرفي عبارة عن: مطابقة أو عدم مطابقة المعتقد أو القضية أو مضمون الكلام للواقع، وإن مطابقة المعتقد أو القضية أو مضمون كلام الشخص للواقع ليست باختياره وإرادته. إلاّ أن الصدق والكذب الأخلاقي عبارةٌ عن مطابقة أو عدم مطابقة كلام المتكلم لمعتقده. إن الصدق الأخلاقي يقع تحت اختيار وإرادة الفرد، ولذلك تكون نجاته وفلاحه رهناً به. أما الصدق المنطقي فلا يقع تحت اختيار الفرد، ولذلك لا تكون سعادته رهناً به، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى مَلَكْيان على مساعدته لي في تدقيق هذا الهامش، وتصحيحه.
([22]) إن «تعدُّدية الصدق» هي غير «تعدُّدية النجاة»، بمعنى أن التعدُّدية الثانية أعمّ من التعدُّدية الأولى؛ فإن النجاة والسعادة رهنٌ بالصدق والجدّ، وليس رهناً بالصدق، بمعنى مطابقة مضمون العقيدة مع الواقع. انظر في هذا الشأن:
ـ سروش، صراطهاي مستقيم: 33 ـ 36، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.
ـ سروش، «ريشه در آب است: نگاهي به كارنامه كامياب پيامبران» (في كتابه مدارا ومديريت: 381 ـ 418).
([24]) كما سنرى في كتابنا «أخلاق دينداري» (أخلاق التديُّن) فإن العلمانية تنقسم إلى نوعين: «متطرّفة» أو «في الحدّ الأقصى»؛ و«معتدلة» أو «في الحدّ الأدنى». والنقد الذي يمكن توجيهه لكلام الدكتور سروش هنا هو أنه لا يفرِّق بين العلمانية «المتطرّفة» والعلمانية «المعتدلة»، وإنما يشير إلى النوع المذموم من هذه العلمانية بوصفه النوع الأوحد للعلمانية أو مفهومها الوحيد، في حين أنه في مؤلَّفاته الأخرى يلتزم بهذا الفصل والتفكيك، وإنْ لم يكن تحت هذين العنوانين. انظر: تعريف أنواع العلمانية في كتابنا «أخلاق دينداري». ولمزيدٍ من الاطلاع على آراء الدكتور سروش بشأن أنواع العلمانية انظر:
ـ سروش، «دين أقلي وأكثري» (في كتابه بسط تجربه نبوي: 83 ـ 112).
ـ سروش، «پيامبر در صحنه» (في كتابه بسط تجربه نبوي: 161 ـ 179).
ـ سروش، «معنا ومبناي سكولاريسم» (في كتابه مدارا ومديريت: 417 ـ 443).
([25]) سروش، «سکولاريسم» (في كتابه سنّت وسكولاريسم: 92 ـ 93، طهران: مؤسسه فرهنگي صراط).
([26]) المصدر السابق: 93 ـ 96.
([27]) وهذه العقلانية هي التي أفادها مولانا جلال الدين الرومي في بعض أشعاره وقصائده. انظر: المثنوي، المجلد الثالث، البيت رقم 3978.
([34]) من الجدير بالذكر أن القدماء كانوا بدورهم يختزلون العقلانية النظرية في العقلانية الرياضية، وكانوا يشترطون حصول القطع واليقين القياسي في اعتبار معقولية المدّعى. كما أنهم كانوا يقيّمون الادعاءات العلمية والدينية والفلسفية بهذا المعيار أيضاً، وحتّى الاستقراء العلمي والحسّي كانوا يرجعونه إلى القياس أيضاً. أما المعاصرون فيذهبون إلى القول بأن القطع واليقين القياسي إنما يمكن الحصول عليه في مجال المنطق والرياضيات فقط، وأما في مجال العلم والدين والفلسفة فيجب الاكتفاء بالظنون المعقولة والمعتبرة. وكما قلنا: بطبيعة الحال إنّ الظن الذي يمكن الحصول عليه في كلّ واحد من هذه الحقول يجب أن يكون من طريق التجربة المناسبة مع تلك الحقول، ومن خلال المواءمة والمناغمة بين المعطيات التجربية مع بعضها البعض، ومع سائر المتبنيات ذات الصلة، وليس من طريق التجربة الحسّية فقط. ولا بُدَّ هنا من إضافة هذه النقطة أيضاً، وهي أن امتناع حصول القطع واليقين المنطقي والرياضي (القياسي) في غير دائرة المنطق والرياضيات لا يتنافى مع إمكان حصول الأنواع الأخرى من القطع واليقين (من قبيل: القطع واليقين المستند إلى الإيمان وما إلى ذلك) في هذه الدوائر.
([37]) يمكن العثور على مزيد من البحث في ما يتعلّق بأنواع العلمانية في كتابنا: «أخلاق دينداري» (أخلاق التديُّن).
([38]) إن من الأدلة على امتلاك العقل صلاحية الحكم فيما بينه وبين الآخر هو أن الإنسان العاقل يسلّم بدليل الآخر إذا كان أقوى من دليله، وعندما يُذعن الشخص للدليل الأقوى من دليله، أو يعترف بخطأ استدلاله، فهو في الحقيقة يكون مذعناً لحكم عقله.
([39]) سروش، «دينداري تجربه أنديش» (في كتابه سنت وسكولاريسم: 208 ـ 209، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط).
([40]) مضمون شعر لمولانا جلال الدين الرومي، ونصّه: «هم ترازو را ترازو راست كرد»، (المثنوي، المجلد الثاني، البيت رقم 122).
([41]) رُوي عن الإمام علي× أنه قال:
ـ «أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ غَلَبَ جِدُّهُ هَزْلَهُ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَى هَوَاهُ بِعَقْلِهِ». (غرر الحكم ودرر الكلم: 52).
ـ «إِذَا كَمُلَ الْعَقْلُ نَقَصَتِ الشَّهْوَةُ». (المصدر نفسه).
ـ «مَنْ كَمُلَ عَقْلُهُ اسْتَهَانَ بِالشَّهَوَاتِ». (المصدر نفسه).
ـ «الْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ، وَالْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ، فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ، وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ». (نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم 424).
([42]) من الملفت أن نعلم أن الدكتور سروش قد أشار في موضعٍ آخر إلى هذه النقطة، وهي أن تأثير الدين في حياة الإنسان وروحه ونفسه، من وجهة نظر مولانا جلال الدين الرومي، بمنـزلة تأثير الموسيقى، بمعنى أن الدين لا يُضيف شيئاً للإنسان، وإنما يعمل على استثارة ذلك الشيء الموجود سلفاً في وجوده وضميره، ويعمل على تحفيزه وإظهاره. يقول سروش: «يذهب المولوي إلى الاعتقاد بأن الدين يلعب هذا الدور أيضاً، بمعنى أنه لا يُضيف إلى الإنسان غير الشيء القليل، بل إنه يعمل على تحريك الإنسان على شاكلته. ولذلك يؤدّي الدين بالبعض كي يغدو شيطاناً مريداً، بينما يؤدي بالبعض الآخر كي يغدو ملاكاً صالحاً؛ لأن الإيمان يظهر معدن الإنسان كما هو»، (سروش، آئين شهرياري ودينداري: 322، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط). وبالالتفات إلى ما تقدم يجب القول: إن شخصية الإنسان السابقة ليس في مقام العمل بالتعاليم الدينية فحَسْب، بل قبل ذلك لها حضور مؤثر ومصيري حتّى في مقام فهم الدين أيضاً. وإن جانباً من هذه الشخصية يتمثّل بالمخزون الذهني للفرد، وإن من بين أهم الفرضيات والمقدمات الموجودة في هذا الشأن هي النظرية التي يؤمن بها الفرد في ما يرتبط بالعلاقة بين الدين والأخلاق.
([43]) إن الأخطاء في الإدراك لا تنشأ عن الأهواء دائماً.
([44]) ومعناه بالعربية: «انحر العقل على مذبح دين المصطفى.. وقُل: حسبي الله؛ فإنّ الله هو الكافي».
([45]) لا بُدَّ من التذكير هنا بأننا في مقام التعارض بين «النقل» و«العقل» لا نستطيع الاستناد إلى حكم النقل بشكلٍ تعبّدي. فعلى سبيل المثال، لا يمكن التمسّك بالروايات الواردة في إبطال القياس والاستحسان ـ من قبيل: الرواية القائلة: «إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة» (بحار الأنوار 2: 303) ـ للقول بنفي حجّية الظنون العقلي بشكلٍ كامل؛ فإن بعض الظنون العقلية معتبرة ومعتمدة من وجهة نظر العقلاء، وإن عقلاء العالم المعاصر يعملون على طبق هذه الظنون. ومن الجدير أن نعلم أن بعض هذه الظنون يتمّ الحصول عليها من تلك الطرق التي تعتبر من وجهة نظر عقلاء العالم القديم مفيدة للقطع واليقين. فعلى سبيل المثال: إن عقلاء العالم المعاصر يعتبرون العلوم التجريبية علوماً ظنية، في حين أن عقلاء العالم القديم يعتبرون ذات هذه العلوم قطعية. وعلى هذا المنوال فإن الشهود العقلاني من وجهة نظر علماء المعرفة المعاصرين يفيد الظنّ، في حين أنه من وجهة نظر القدماء يفيد اليقين. إن الكثير من الأدلة الواردة في النصوص الفلسفية التقليدية لصالح النظريات الفلسفية أو ضدّها لا يعدو في الحقيقة أن يكون شهوداً عقلانياً. وكان القدماء يعتبرون هذه الأدلّة براهين يقينية، أما المعاصرون فيرَوْنها براهين ظنيّة. فعلى سبيل المثال: انظر: براهين أصالة الوجود في المجلد الأول من الأسفار الأربعة. حيث لا شيء من هذه الأدلة من البراهين المفيدة لليقين يحسب ما هو مصطلح في المنطق الأرسطي.
لقد أرسل لي سماحة الأستاذ مصطفى مَلَكْيان ملاحظة في بيان معنى الحديث القائل: «إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة»، لا بأس من ذكرها هنا، إذ يقول: «هل قيد «الناقصة» في هذا الحديث قيدٌ توضيحي أو احترازي؟ إذا كان قيداً توضيحياً فهذا يعني أن جميع العقول ناقصة. وعليه كيف يمكن اعتبار النقص بالنسبة إلى شيء لا يوجد له حتّى مصداق واحد كامل بحسب الادّعاء؟! هل يمكن اعتبار ضعف جميع أعين الناس لمجرّد وجود ألوان وأحجام تعجز جميع أعين الناس عن رؤيتها؟! وإذا كان قيداً احترازياً فهذا يعني أن هناك عقولاً ناقصة، وهناك عقولٌ كاملة أيضاً. وفي هذه الحالة يرد هذا الإشكال: عندما لا يتمّ بيان الحدّ الفاصل بين هذين العقلين فما هي الفائدة المترتبة على بيان هذا الحكم؟».
([46]) فعلى سبيل المثال: يقول مولانا جلال الدين الرومي: «لا أبالي عشق باشد ني خرد.. عقل آن جويد كزان سودي برد»، أي (إن عدم المبالاة بالعشق ليس من العقل في شيء.. فالعقل لا يبحث إلاّ عن مصالحه). انظر: المثنوي، المجلد السادس، البيت رقم 1967.
ويقول أيضاً: «عقل بازاري بديد وتاجري آغاز كرد.. عشق ديد زان سوي بازار أو بازارها»، أي (ما إن رأى العقل سوقاً حتّى غدا تاجراً.. ورأى العشق أسواقاً عامرة خلف تلك السوق). انظر: ديوان شمس، القصيدة رقم 139.
([47]) في ما يتعلق بتأثير العشق في العاشق هناك رأيان في علم النفس: الأوّل: يذهب إلى القول بأن التحوّل الروحي والنفسي لدى العاشق من فعل المعشوق. والثاني: يذهب إلى أن تغيّر العاشق إنما هو نتاج العشق، بغضّ النظر عن خصائص المعشوق. (مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى مَلَكْيان على تذكيره لنا بهذه النقطة). ولكنْ ربما أمكن الجمع بين هذين القولين، كأنْ يقال مثلاً: إن من خصائص العشق أن يجعل العاشق لا يرى إلاّ فضائل محاسن المعشوق، أو أن لا يرى في معشوقه غير الحُسْن والفضيلة، حتّى وإن كان المعشوق مفتقراً إلى تلك الفضائل والمحاسن. طبقاً لهذه النظرية فإن التحوُّل الذي يحدث في العاشق بفعل العشق هو تحوُّل معرفي؛ فإن العشق يُغيّر رؤية العاشق ويغسل عينيه، أو يزوِّده بعدسات جديدة. فإذا قبلنا بهذا الاحتمال ستكون هاتان النظريتان من حيث النتيجة شيئاً واحداً، وإنْ كانت تعطي تفسيرات مختلفة لظاهرة واحدة (أي التحوّل الأخلاقي الإيجابي لدى العاشق).
([49]) يمكن تقسيم خصائص المعشوق من حيث تأثيرها في أخلاق المعشوق، وتبعاً لذلك في علمه وعمله إلى قسمين: الأوّل: صفات المعشوق غير الأخلاقية التي لها خاصية وتأثير أخلاقي؛ والثاني: صفات المعشوق الأخلاقية. على سبيل المثال: إن وصف الله بالمطلق هو أحد أوصافه غير الأخلاقية. إن المطلق ليس وصفاً أخلاقياً، ولكنْ لو أن شخصاً عشق الله، وعلم أن الله يمتلك مثل هذه الصفة، لن يزعجه أن يكون الله معشوقاً من قبل الآخرين أيضاً، وأن الآخرين يحظَوْن منه بذات الاهتمام واللطف والرعاية التي يمنحها له، بمعنى أن هذه الصفة ستمحو رذيلة الحسد الأخلاقية من وجود العاشقين لله. وهكذا الأمر بالنسبة إلى وصف الله بصفة الوحدانية، التي تمثِّل مقدّمةً لتوحيده في العبادة؛ فإن عبادة الله الواحد يقضي على رذيلة الخوف من المخلوقات أو الطمع بها، وكما نعلم فإن مصدر الكثير من السلوكيات والأفعال الأخلاقية الخاطئة يأتي من الخوف أو الطمع. والمثال على الأوصاف من النوع الثاني: صفة «الجود». فإذا كان المعشوق «جواداً» فإن هذا المعشوق سوف يُسقط هذه الصفة على العاشق، وأما إذا كان المعشوق «شحيحاً» فإن العاشق سيغدو «شحيحاً» لا محالة.
([50]) أشكر سماحة الأستاذ مصطفى مَلَكْيان على تنبيهي إلى هذه النقطة.
([52]) نُسب الإدراك والتفكير في القرآن الكريم إلى «القلب» في أكثر من موضع، وذلك حيث يقول:
ـ ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. (محمد: 24).
ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا…﴾. (الحجّ: 46).
ـ ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾. (التوبة: 87).
وأما في الروايات فقد رُوي عن الإمام الصادق× مثلاً أنه قال: «يَا هِشَامُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾، يَعْنِي «عَقْلٌ». (الكافي 1: 16).
([53]) هذا هو الفهم السائد لرؤية أرسطو بشأن الاستدلال في الثقافة الإسلامية.
([54]) انظر: المثنوي، المجلد الأول، البيت رقم 2132. والملفت أن هذا الادعاء العرفاني في بيانه لشأن ومنـزلة الاستدلال وأصحاب الدليل يُصاغ في إطار نوع من الاستدلال القياسي لإقناع عقل المخاطب.
([55]) مضمون بيت شعر لحافظ الشيرازي، يقول:
در دفتر طبيب خرد باب عشق نيست *** إي دل به درد خو كن ونام دوا مپرس
([56]) مضمون شطر شعري لجلال الدين الرومي، يقول: (هم ترازو را ترازو راست كرد). انظر: المثنوي، المجلد الثاني، البيت رقم 122.
([57]) نهج البلاغة، الكتاب رقم 31.