تمهيد ـــــــ
من أهم المسائل الفلسفية الإلهية مسألة علم الباري تعالى بالجزئيات واتّحاده بالذات، وقد كانت نظرية العلم هذه إحدى الموضوعات الرئيسة للفلاسفة قديماً وحديثاً، ولحلّ المشكلات المثارة حول هذه النظرية من حيث تغيّر الجزئيّات وفنائها مع بقاء الذات الربوبية، ذهب الحكماء الإلهيّون إلى اتجاهات متباينة في مصنّفات الفلسفة التفصيلية.
وقد نضجت هذه المسألة ـ ككثيرٍ من المسائل الأخرى ـ بعد أفلاطون وأرسطو، ولعلّ عدم اطلاعنا على كتب قدماء الحضارات القديمة: اليونانية والصينية والفارسية، من أقوى أسباب اندثار مباحث الفلسفة القديمة.
على أيّة حال، طرح أفلاطون ـ وعلى ضوء نظرية المُثُل ـ نظريّةً خاصّة حول علم الحقّ سبحانه، فقال: إنّ العلم الإلهي يتعلّق بالعقول الواقعة في عالمها متقدّمةً على وجود المادّيات، وفي مقابله حصر أرسطو علم الحقّ بالصور المعقولة؛ لذهابه إلى أنّ المعقول هو الصورة المعقولة للشيء، أمّا المشاؤون في الحكمة الإسلامية فحذوا حذو أرسطو، ورأوا أنّ علم الباري يتعلّق على وجهٍ كلّي بالصور المعقولة.
وتبدو أهميّة هذا البحث في الجبر والتفويض، واتحاد الصفات مع الذات الإلهية، وحكمة الصانع تعالى وغيرها، فالمسألة ـ على كلّ حال ـ موضع تضارب الآراء والأفكار، وسنشير إجمالاً للآراء فيها، قبل البحث حول اختلاف رأيي الحكيمين: الشيخ ابن سينا رئيس المشائين، وصدر المتألّهين الشيرازي، مؤسّس الحكمة المتعالية.
وقبيل هذا، لابد من عرض رأي هاتين المدرستين في العلم نفسه وماهيّته.
العلم في المدرستين: المشائية والمتعالية ـــــــ
من المشاكل في تاريخ العلوم نسبة رأي إلى عالمٍ أو مدرسة، فكثرة تصانيف القدماء توجب إيهاماً في آرائهم، حتّى يصبح الجزم بالنسبة شائكاً، سيما في المواضع التي تتواشج من حيث نتائجها مع موضوعات أخرى، ومنها مسألة العلم؛ فهي من المباحث الدخيلة في كثيرٍ من المطالب الحكمية، فيشكل كشف رأي خاصّ لحكيم كثير التأليف مثل الشيخ الرئيس ابن سينا وصدر المتألهين، كي نجزم بصحّة نسبة رأي إليهما.
وبعد اللتيا والتي، يمكن أن يقال: إنّ السِمَة الغالبة في كلمات الشيخ هي أنّ العلم عبارة عن الصورة المرتسمة من الشيء المتمثلة عند العالم([1])، وإن يبدو منه القول بكونه التجرّد من المادّة في بعض المواضع([2])، أو صدور الصورة من العالِم في موضع آخر([3])، أو أنّه كيفية ذات إضافة، وليس إضافةً صِرفة بين العالم والمعلوم، كما يظهر في موضع([4]).
ولا يخفى على القارئ الفطن أنّ تشتّت كلمات ابن سينا حاكٍ عن تحيّره في نظرية العلم، لكن مع ذلك كلّه ينبغي أن يُسند إليه أنّ العلم هو الصورة المرتسمة من الشيء عند العالم ـ كما هو المشهور عنه ـ لكثرة ورود مثل هذا التعبير والتفسير في كلماته.
أمّا صدر المتألهين، فيظهر منه أنّ العلم هو الوجود المجرّد عن المادّة([5])، وقد طرح هذه النظرية ردّاً على القول بأنّه كيفٌ نفساني، أو من قبيل الماهيات، أو أنّه التجرّد وهو أمر عدمي، أو أنّه إضافة محضة، وقد صرّح أنّ هذا التعريف للعلم (الوجود المجرّد) يشتمل على جميع أصنافه، من الحسّ والخيال والعقل، فالمحسوس بالذات هو الوجود المجرّد عن المادّة، وكذا المتخيّل بالذات([6]).
آراء الحكماء في علم الباري ـــــــ
وقد أجاد صدر المتألهين في بعض كتبه بتلخيصه كلام القدماء والمتأخّرين من الحكماء حول علم الباري تعالى بالجزئيات، فنسب كلّ قولٍ إلى قوم أو فيلسوف إلهيّ، وللشك في بعض كلماته مجال، وقد أغمضنا عن البحث في صحّة ما نسبه حذراً من التطويل، ونذكر هنا كلامه([7]) مع اختلاف يسير:
1 ـ القول بارتسام صور الممكنات في ذاته تعالى، وحصولها فيه حصولاً ذهنياً على الوجه الكلّي، وهو قول المشائين، كالفارابي، وبهمنيار، واللوكري، وقد نسب هذا القول إلى ابن سينا أيضاً.
2 ـ القول بأنّ وجود صور الممكنات في الخارج هو مناط عالميّته تعالى بها، سواء كانت الممكنات مجرّدات أو مادّيات، مركبّات أو بسائط، وهو قول الإشراقيين، كالسهروردي، والمحقق نصير الدين الطوسي الذي تبع الإشراقيين في هذه المسألة، وابن كمونة، وقطب الدين الشيرازي، ومحمد الشهرزوري.
3 ـ القول باتحاده تعالى مع الصور المعقولة، وهو القول المنسوب إلى فرفوريوس.
4 ـ القول بأنّ العلوم الإلهية هي الصور المفارقة والمُثل الأفلاطونية التي بها يعلم الله الموجودات كلّها، وهو قول أفلاطون.
5 ـ القول بأنّ الموجودات الممكنة تكون ثابتةً قبل وجودها في الأزل، فيعلمها الله تعالى لثبوتها، وهو قول المعتزلة.
6 ـ القول بأنّ الأشياء كلّها قبل وجودها ثابتة بثبوت علمي غير عيني، يقال له: الأعيان الثابتة، وهي علوم إلهيّة، وهذا قول الصوفية، وقد زعم الملا صدرا أنّ هذا القول يقرب كثيراً من قول المعتزلة.
7 ـ القول بأنّ ذاته تعالى علمٌ إجمالي بجميع الممكنات، فإذا علم ذاته فقد علم بعلم واحد الأشياء كلّها على نحوٍ إجمالي، وقد نسب هذا القول إلى أكثر المتأخرين، وهو قريبٌ من زمان صدر المتألهين، وهذا هو قول ابن سينا مع موافقته للقول الأوّل أيضاً، حيث يقول: إنّ علم الواجب يكون على وجه كلّي.
8 ـ القول بأنّ ذاته تعالى علمٌ تفصيلي بالمعلول الأوّل، وعلم إجمالي بما سواه، أمّا ذات المعلول الأوّل فهو علم تفصيلي بالمعلول الثاني، وعلم إجمالي بما بعده، وهكذا إلى آخر الموجودات، ولم يُنسب هذا القول إلى شخص خاص.
9 ـ القول بأنّ علمه تعالى عين ذاته، ومع ذلك فهو تفصيليّ بتمام الموجودات متعلّق بوجوداتها على وجهٍ جزئي، وهو قول صاحب الحكمة المتعالية صدر المتألّهين الشيرازي.
توضيحات ابن سينا رئيس المشائين ـــــــ
حيث تعرّضت كيفية علم الواجب تعالى بالجزئيات لإشكالات عديدة مذكورة في كتب الفلسفة تفصيلاً، منها لزوم تعدّد ذات الواجب وصفاته، ومنها حصول الكثرة في ذاته، ومنها لزوم النقص الناشئ من كسب الكمال العلمي من جانب مخلوقاته، ولزوم تغيّر الناشئ من العلم بالمتغيّرات، والإشكال حول كيفية تعلّق العلم بالمعدومات، ومشاكل أخرى يصعب على الحكماء حلّ جميعها.. فقد ذهب كلّ حكيمٍ إلى رأي حتّى يجيب عن بعض الغوامض، فيتبنّى ما يغدو أقلّ عُرضةً للنقد من غيره.
أمّا الشيخ الرئيس ابن سينا فله إيضاحات شتّى، كلّ منها يوضح بعض رأيه، ويحلّ به بعض الإشكالات، ونذكرها تفصيلاً، لكن يجدر الانتباه إلى أنّ هذه الكلمات إيضاحاتٌ لا غير، ومن الصعب عدّها استدلالات مستقلّة.
الأوّل: العلم قسمان: ما قبل وجود المعلوم وما بعد وجوده، يقع علم الواجب بالممكنات على القسم الأوّل؛ لأن العلم التابع للمعلوم يوجب النقص في العالم، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فعلمه متبوعٌ للأشياء لا تابع لها([8]). أمّا أنّ العلم التابع يستلزم النقص في العالم، فهو من المباحث التي برهن عليها ابن سينا بأربعة براهين([9])، وقد أضاف صدر المتألهين إليها برهانين آخرين([10])، لم نجدهما في كلمات ابن سينا، ولعلّهما من إضافات الشيرازي تأييداً لكلام الشيخ.
الثاني: العلم قسمان: نفساني وعقلاني، العلم النفساني هو الذي ينظر إلى كلّ معلوم مستقلاً ومنفرداً، ويعلمها معاً بجعل كلّ واحد منهما بجانب الآخر؛ ممّا يوجب التكثر في العالِم، وهو علم تفصيلي. أمّا العلم العقلاني فهو علمٌ إجمالي فعلي بسيط، لا يوجب تكثراً في العالم لبساطته، وعلم الباري تعالى بالموجودات من قبيل العلم العقلاني المجرّد البسيط([11]).
الثالث: وهذا أكمل وأتقن من الأوّلَين، وهو أنّ العقل البسيط هو العقل الذي يكون مشتملاً على صور جميع المعقولات بالإجمال، وهو خلاّق الصور المعقولة بأجمعها، والعقل البسيط في الإنسان هو الكيف العارض على النفس، يخلق الصور المعقولة بقوّته الخلاّقة تفصيلاً، والنفس تنفعل منه وتتقبّل الصور المعقولة في صقعه.
أمّا الواجب تعالى، فالصور المعقولة مخلوقات ولوازم ذاته، فلا تحلّ محلّ ذاته حتّى يكون منفعلاً بها، بل هو خلاّق للصور بذاته، فالعلم والعقل البسيط في الحقّ تعالى عين ذاته البسيطة، فعلمه بسيط إجمالي، وذاته غير منفعلة من علمه([12]).
الرابع: وقد استفاد فيه من نظرية العلّية واستناد الجميع إلى الواجب تعالى، وهو أنّ الأشياء بنفسها لا توجب علم الواجب بها؛ لأنّه يستلزم النقص في ذاته، بل الحقّ أنّ الواجب يعلم الأشياء من حيث إنّها تصدر منه، وهو الخالق لها، فيعلمها على ما هي عليه من جهة صدورها من الحقّ؛ فالواجب يعلم ذاته ويعلم أنّه الخالق للأشياء، فيتعلّق علمه بالأشياء بالقصد الثانوي، حيث إنّها تصدر منه، فهو عالمٌ بذاته وبكونه علّة الجميع، فيعلم صدور الموجودات منه، فيعلم الموجودات، وهذا العلم حيث يكون ملازماً لعلمه بذاته كان عينَ ذاته([13]).
الخامس: وهو مبنيّ على قاعدة: mالشيء ما لم يجب لم يوجدn، فإنّ الممكن لا يكون وجوده وقوعاً ـ وإن أمكن ذاتاً ـ إلاّ إذا وجدت علله قبله رتبةً، فبعلّته يخرج الممكن من تساوي النسبة إلى الوجود والعدم، ويبلغ الوجوب بالغير، فما لم يبلغ الوجوب لم يوجد، فالعلم بالممكن ذاتاً يجتمع مع الشك في وجوده؛ لأن العلم بذات الممكن لا يستلزم وجوده أو عدمه، ما لم يلاحظ علّته وبلوغه الوجوب، فإذا علم أنّ المقتضي موجود والموانع كلّها معدومة يبلغ مرتبة الوجوب، فقد تيقّن بصدوره من علّته ووجوده.
لكن في ضوء إبطال الدور والتسلسل، نعلم أنّ الوجوب بالغير لابدّ من أن ينتهي إلى الواجب بالذات، وأنّ العلل والأسباب كلّها منتهية إلى ذات القيّوم الحقّ، وهو الذي أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، وبإيجابه وجب الكلّ، وبإيجاده وجد الكلّ، وحيث إنّه يعلم ذاته، يعلم أنّه هو الموجب للجميع، وهو المُخرِج للكلّ من تساوي النسبة إلى الوجوب بالغير، ويعلم الأسباب والعلل والوسائط، فيعلم الجميع علماً يقيناً من جهة علمه بهذه الأسباب والعلل([14]).
السادس: إنّ جزئيات الأمور يمكن علمها بسبيلين:
أ ـ أن تُدرك تشخّصاتها وجزئياتها على المنهج التفصيلي، وهذا الإدراك يكون تابعاً للمدرك، فيتغيّر بتغيّره ويسمّى إحساساً وتخيّلاً.
ب ـ أن تدرك الجزئيات من طريق أسبابها وعللها، فتُعقل تبعاً لإدراك العلل.
وعلم الباري تعالى يقع على النهج الثاني، فيختصّ بأمور:
أولاً: أنّه يكون كلّياً؛ فالعلل والأسباب تقع كلّيةً بالنسبة إلى المعلولات، وإن تشخّصت.
ثانياً: لا يتغيّر هذا العلم تبعاً للمعلوم؛ فالمتغيّرات وتغيّراتها، وكذا كونها وفسادها معلومةٌ لله، فلا يوجب ذلك تغيّراً في علمه.
ثالثاً: أنّ هذا العلم من نتائج علمه بذاته، حيث إنّه يكون من جهة العلم بالأسباب، وهو تعالى مسبّب الأسباب، وتنتهي إليه سلسلة العلل، فبعلمه يعلم الجميع([15]).
السابع: يقوم كلّ إدراك في النفس الإنسانية على الإحساس؛ فقد يحسّ الإنسان صورةً ما وهو الإدراك الحسّي، وقد يتخيّل صورةً بتجريد الصورة المحسوسة عن مادّتها وإبقائها مع عوارض المادّة، فيتخيّلها مع كبرها ولونها وشكلها وغيرها من العوارض، وقد يعقل الصورة بتجريدها عن المادّة وعوارضها، فيعقلها كلّياً محضاً بلا دخل مادّةٍ ولا اضمام عارض إليها.
وعلى أيّ حال، يحتاج الإدراك إلى الإدراك الحسّي، فإذا تطابقت الصورة المعقولة مع المحسوسة، يقال: إنّ المعقول هو المحسوس وإلاّ فلا، والسرّ أنّ النفس ضعيفة لا يمكنها الوصول إلى الإدراك العقلي إلاّ بواسطة الإدراك الحسّي.
أمّا الواجب تعالى فهو عارٍ عن شوب نقصٍ، فهو عاقل بذاته، لا يحتاج في تعقّله إلى الحسّ، فلا يتغيّر علمه لعدم تغيّره في العقليات، وإنّما التغيّر إذا تعلّق العلم الحسّي بالجزئيات، وهذه الصورة العقلية موجودة لكلّ محسوس جزئي، لكنّ النفس الإنسانية لا يمكنها الوصول إليها إلاّ بالإحساس، والله تعالى يدركها بذاتها من جهة أسبابها([16]).
الثامن: حصول العلم على قسمين:
أ ـ قد يحصل العلم بالاستنتاج والفكر، وهو ترتيب المعلومات لحصول المجهول، كما في العلم البشري الحاصل بالقياس والاستقراء ونحوهما، فلا يكون العلم في الإنسان في رتبةٍ واحدة وبعلمٍ واحد، بل يكون مترتباً بعضُه على بعض، كما هو معلومٌ عند أهل المنطق.
ب ـ وقد يحصل العلم دفعةً واحدة، فالعالم يعلم المعلومات بعلمٍ واحد، والمعلومات حاضرة عنده أجمع بلا تقدّم ولا تأخّر، وهذا هو العلم البسيط للحقّ تعالى الذي لا تكثر فيه ولا تغيّر، ولا يتأتّى إليه بحركةٍ أو زمان([17]).
التاسع: إنّ الصور المعقولة التي هي المصدر الرئيس لصدور الأشياء من الحقّ تعالى، تكون من لوازم ذاته، وهي تعقّل الحقّ للأشياء، فلا تتقدّم الصور على التعقّل ولا تتأخّر، بل هي عينه، وحيث إنّ صدور الأشياء يكون بوساطة صورتها العقلية، فإذا كانت الصور اللازمة صادرةً بواسطة صورٍ أخرى لزم التسلسل، فهذه الصور مع كونها لازمةً لذاته تكون متّحدة معها([18]).
العاشر: إنّ علمه الكلّي ينطبق على المعلومات الجزئية لحصولها بوساطة عللها وأسبابها، فلو كان متعلّق علم الله هو الماهيات فلا ينطبق على الجزئيات، حيث إنّ الماهيات الكلّية قابلةٌ للصدق على كثيرين، فلا تنطبق على الجزئيات والتشخّصات وعوارضها ولوازمها، لكنّ الباري تعالى يعلم الأشياء الجزئية بوساطة عللها، والعلل توجب وجوب المعلول، فيعلم الأشياء بعلم كلّي ينطبق على الجزئيات، فيكون علمه كلّياً منحصراً في فرده، ولا يشترك فيه اثنان([19]).
الحادي عشر: إنّ المعقولات لا تتّحد ببعضها، بل كلّ منها أمور متفارقة لا تتّحد بغيرها، ولا بالجوهر العاقل لها، مع أنّ الواجب تعالى عالمٌ بالجميع ويعقل الأشياء كلّها، فيبدو إشكال حصول العقول المفارقة المتباينة بالذات في ذاته تعالى، فيلزم الكثرة في ذاته.
وقد أجاب ابن سينا عن إشكال أنّ للواجب تعالى علماً بذاته، وهو عين ذاته، وهو من صفاته ولا يوجب كثرةً في ذاته. وله علمٌ آخر يتعلّق بالأشياء المخلوقة المعلولة له، وهو من لوازم علمه بذاته وعلمه بعلّية ذاته للأشياء وكونه مُبدئاً لها، والتعقّل بالنسبة إلى الأشياء يكون من لوازم ذاته ومن معلولاته المتأخّرة عن الذات، فلا يوجب كثرةً فيها([20]).
الثاني عشر: ليس العلم المتعلّق بالجزئيات من كمال ذاته، مع أنّ علمه هو الصور المعقولة الخارجية، بل كمال ذاته أنّه بحيث يلزم من ذاته حصول الصور المعقولة، قال: mالأوّل يلحظ من ذاته mكلّ ممكن الوجود في نفسه واجب بهn بوسط أو غير وسط؛ فالهيئة العلمية لازمة ذاته من غير أن يكون لها شرفٌ وزينة، بل علوّه ومجده هو بحيث تلزم وحدته تلك الهيئة، لا بكونها لازمةn([21]).
الثالث عشر: إنّ الصور ليست حالّة في ذات واجب الوجود، بل صادرة منه، فلا تنقش الصور المعقولة في ذاته حتّى يلزم منها حصول الكثرة فيها، ويُفهم هذا المضمون من عدّة مواضع من كلماته([22]).
اضطراب موقف ابن سينا في مسألة العلم الإلهي ــــــ
يدلّنا تشتت كلمات الشيخ ابن سينا على تحيّره في أمر علم الباري، حيث إنّ العبارات السابقة بعضها يغاير بعضاً، بل هي متهافتة، فمثلاً لا يُعلم أنّ علمه من لوازم ذاته المقدّسة الصادرة من ذاته، أو هي عين ذاته غير صادرة منها، والشيخ نفسه عارفٌ بتحيّره معترفٌ به، حيث يقول: mفبقي لك النظر في حال وجودها معقولةً، أنّها تكون موجودة في ذات الأوّل كاللوازم التي تلحقه، أو يكون لها وجود مفارق لذاته وذات غيره، كصور مفارقة على ترتيب موضوعه في صقع الربوبية، أو من حيث هي موجودة في عقل أو نفس، إذا عقل الأوّل هذه الصور ارتسمت في أيّها كان، فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة، وتكون معقولة له على أنّها فيه، ومعقولة من الأوّل على أنّها عنهn([23]).
يريد بهذه العبارات المغلقة الصعبة توضيح أنّ الصور المعقولة يمكن أن تكون من قبل اللوازم التي تلحق الذات، ومع ذلك توجد في ذات الواجب من غير مفارقةٍ لها، وأن تكون من قبيل اللوازم المفارقة لها، فعلى الاحتمال الثاني، إمّا تكون الصور المعقولة كسائر الصور المفارقة العقلية، ذات مراتب خاصّة موجودة في صقع الربوبية، أو تكون مرتسمةً في موجودٍ عيني آخر من عقلٍ أو نفس، فيكون العقل والنفس موضوعين للصور المعقولة، فتكون من حيث حضورها في العقل والنفس معقولةً لهما، ومن حيث صدورها من الحقّ الواجب تعالى معقولةً له.
أمّا صدر المتألهين، فقد ردّ على ابن سينا بقوله: إنّه متحيّر في نظرية علم الحقّ بالجزئيات، وبأنّه قد ذكر احتمالات بعضها غير معقول بنفسه، ومثل لها بأنّ صقع الربوبية الوارد في كلامه غير بيّن. وأضاف: إنّ تحيّر ابن سينا قد نشأ من نظريّته في العلم، وتفسيره له بكونه صورةً مرتسمة من المعلوم عند العالم([24]).
نقد صدر المتألهين لموقف ابن سينا ـــــــ
لا يخفى على من راجع كتب صدر المتألهين أنّه دافع عن نظرية الشيخ ابن سينا في مقابل ما أورده المتأخّرون مثل شيخ الإشراق، ونصير الدين الطوسي، والعلاّمة الخفري، وفخر الدين الرازي، ناسباً إليهم عدم التدبّر التامّ في كلامه حقّ التدبّر، لكنّه نفسه عاد وسجّل اعتراضات عديدة على نظرية ابن سينا، نوضحها بما يلي:
الاعتراض الأوّل: إنّ الصور العقلية ـ على رأي ابن سينا ـ لوازم ذات الباري، ومن عوارضها، وإن كانت من حيث المفهوم جواهر، فنسأل عن اللزوم في المقام ونقول: أيّ معنى من معاني اللزوم أراد ابن سينا؟ فإنّ اللوازم على أقسام ثلاثة: لازم الوجود الخارجي، ولازم الوجود الذهني، ولازم الماهية، وهو اللازم للشيء دون لحاظ الوجودين، ولا يمكن أن تكون الصور المعقولة من أحد هذه الأقسام الثلاثة؛ للأسباب التالية:
أ ـ إنّ الواجب موجودٌ خارجي عيني، ليس له صورة ذهنية ووجود ذهني حتى تكون الصور العقلية من لوازم وجوده الذهني.
ب ـ ليس للواجب تعالى ماهية بمعنى حدّ الوجود، وإن كانت له ماهية بمعنى ما به الشيء هو هو، حتّى تكون الصور العقلية من لوازم ماهيّته.
ج ـ لو كانت الصور المعقولة من لوازم وجود الواجب الخارجي لكانت ذات وجودات عينية خارجية؛ لأن اللوازم من توابع الوجود الملزوم، فلو كان الملزوم موجوداً عينياً خارجياً، كان اللازم أيضاً من الأمور الحقيقية الخارجية، مع أنّ هذه الصور ـ على ما أفاد ابن سينا ـ ليست من الأمور الخارجية، بل أمور ذهنية عارضة على الواجب تعالى، فلا تكون الصور من لوازم الباري بأيّ معنىً من معاني اللزوم.
إن قلت: إنّ الصور تكون من لوازم الماهية، بمعنى ما به الشيء هو هو، فإنّ هذا المعنى أحد الاصطلاحين من معنى الماهية.
قلت: الماهية بمعنى ما به الشيء هو هو، وإن صحّ إطلاقه على الله ـ جلّ جلاله ـ لكنّه عين إنيّته، وهو عين وجوده، فيجري الإشكال المذكور بالنسبة إلى لوازم الوجود بعينه([25]).
هذا، وفي نسبة القول بأنّ mالصور العقلية هي عوارض ذات الحقّ زائدةً على ذاتهn إلى الشيخ ابن سينا نظر، مع أنّه هذا هو الركن الأصيل في افتراض نظريّتيهما، فصدر المتألهين رأى أنّ المشائين صرّحوا بأنّ علم الواجب هو العرض، وقال: mولا يبعد أن يكون القول بعرضيّتها من تصرّفات المتأخّرين؛ حيث إنّ كلمات قدماء الفلاسفة القائلين بالصور كانكسيمانوس وغيره خالية عن ذكر العرضية، كما يظهر لمن تتبّع مأثورات كلماتهمn([26]).
لكن القارئ المطّلع إذا لاحظ كلمات ابن سينا في mالعرشيةn يجد فيها التصريح بأنّ علم واجب الوجود بالجزئيات غير زائد على ذاته، بل هو عينها([27])، ولا يخفى أنّ هذه النظرية لا تصدر عمّن هو قائل بكون علم الحقّ أعراضاً زائدة.
الاعتراض الثاني: العلم بالعلّة لا يستلزم العلم بماهية المعلول، فعلمه تعالى بذاته لا يستلزم علمه بماهيات الأشياء، وإن صحّ أنّ العلم بوجود العلّة مستلزم للعلم بوجود المعلول، وهو علم يتعلّق بشهود العلّة مُحضراً، أمّا العلم المتعلّق بالماهيات على نحو الوجود الذهني فلا يلزم منه العلم بالعلّة، وابن سينا يرى أنّ الجزئيات معلومة للحقّ تعالى بماهياتها، والعلم بها يكون على نحو الوجود الذهني، فلا يمكنه تصحيح هذا العلم من علمه بذاته([28]).
الاعتراض الثالث: وينبني هذا الاعتراض على قاعدة: mإمكان الأشرفn ومفادها: إنّ كلّ ما في الكون من الموجودات العينية، كلّما كان أقرب إلى المبدأ الفيّاض والباري الحقّ تعالى كان وجوده أقوى وأشرف، وكلّما كان أبعد عن المبدأ كان وجوده أضعف، فعلى ضوء هذه القاعدة تكون الصور العقلية المرتسمة للباري على نحو الوجود الذهني، أضعف وجوداً وأخسّ هويةً من الأشياء المعلومة بالعرض نفسها؛ لأنّه لا شبهة في ضعف الصورة الذهنية بالنسبة إلى الوجود الخارجي، فلو كانت المعلولات بأجمعها، من العقل والنفس والمادّة، صادرة عن الواجب بوساطة صورها الذهنية المعقولة، للزم أنّ تكون وجوداتها الذهنية مقدّمةً على وجوداتها العينية، وأن تكون أقوى وأشرف من الوجودات الخارجية، وهو خلاف الوجدان والبرهان([29]).
الاعتراض الرابع: لو كان صدور المخلوقات عن الحقّ متوقفاً على صورها العقلية، للزم أن يكون توقّف صدور الصادر الأوّل أيضاً متوقفاً على صورته العقلية، ولازمه أن يكون صدوره متأخراً عن حصول صورته العقلية، ومعنى ذلك أنّه عند صدور الصادر الأوّل، يلزم صدور شيئين من الواجب: أ ـ صدور الصور العقلية من الصادر الأوّل. ب ـ صدور الصادر الأوّل نفسه، وهو ما يفضي إلى صدور الكثير من الواحد، وهو محال([30]).
الاعتراض الخامس: إنّ المفاهيم الكلّية الموجودة في الأذهان لا تصير جزئيات، وإن تقيّدت بقيود متعدّدة؛ لأن الجزئيات أمور متشخّصة ـ سواء كانت ذهنيةً أو خارجية ـ والكلّي بعد القيود لا يصير متشخّصاً، بل يبقى على كليّته مع ضيق شموله، فلو كان علم الواجب بوساطة الصور العقلية على الوجه الكلّي، للزم عدم علمه بالجزئيات المتشخّصة، وهذا من أعظم النقائص، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنّ المخلوق الصادر من الحقّ لا يكون كلّياً بل جزئياً متشخّصاً موجوداً، فلزم عدم علمه بمعلولاته ومخلوقاته([31]).
نظرية اتحاد العلم بالذات مع العلم بالمخلوقات تفصيلاً ـــــــ
ابتكر صدر المتألهين في نظريّة علم الباري للجزئيات رأياً بليغاً في غاية التحقيق، وهو العلم التفصيلي المتّحد بالذات، وهو أنّ علمه بذاته عين علمه بالأشياء تفصيلاً، وملخّص رأيه ننقله نصّاً:mعلمه بجميع الأشياء حقيقة واحدة، ومع وحدته علم بكلّ شيء لا تغادره صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها؛ إذ لو بقي شيء لم يكن ذلك العلم علماً به، لم يكن هو حقيقة العلم، بل كان علماً بوجهٍ وجهلاً بوجه، وحقيقة الشيء بما هو الشيء غير ممتزجة بغيرهn([32]).
وقد رأى شمول علمه وإحاطته بكلّ موجود كلّي وجزئي، وعلمه عين ذاته، ومبدأ صدور المعلولات عن ذاته، وهو يعلم الأشياء في القضاء السابق على وجودها، وهو علمٌ إجمالي في عين الكشف التفصيلي([33]).
وقد اعترف أنّه كان في سالف الزمان معجباً بقول الإشراقيين وتابعاً لرأيهم في هذه المسألة، كان يقول بمقالة الشيخ الشهيد شهاب الدين السهروردي والعلاّمة الحكيم نصير الدين الطوسي، لكنه بعد هداية الملك المنّان، تبصّر ورأى النظرية الخاصّة، واستفاد من البراهين عليها، بحيث إنّه لا توجد في مسطورٍ قبله([34])، فهو ـ بفضل الله تعالى ـ من أجل شرح كلامه وتبيين مرامه استفاد من بيانين مناسبين لذوق العرفاء والحكماء، مطابقاً لمصطلحهم، مبتنياً على مقدّمات مذكورة في كتبهم.
طريقة الحكماء في فهم مسألة العلم الإلهي ـــــــ
وهذه الطريقة تبتني على قاعدة: mبسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منهاn، وتستنتج من مقدّمات:
المقدّمة الأولى: كلّ هوية من الهويات الوجودية تكون مصداقاً لمعنىً من المعاني الكلّية. وقد يكون وجود واحد مع وحدته مصداقاً لكثيرٍ من المعاني الكلّية؛ ليس كلّ معنىً منها ماهية له، بل تصدق المعاني بالوجوه والاعتبارات، فتتحقّق المعاني المتعدّدة بوجودٍ واحد عيني، فالوجود بسيطٌ خارجي وإن كان بالنسبة إلى المفاهيم مركّب، وقد يكون الموجود الخارجي غير بسيط بل يتركّب بالنسبة إلى كلّ مفهوم يصدق عليه، مثل الإنسان العيني الذي يصدق عليه الحيوان والناطق، ويكون الإنسان في الخارج أيضاً مركّباً من المادّة والصورة المقابلتين للجنس والفصل، فهو المركّب الخارجي، أمّا الفصل الأخير فهو واجدٌ لجميع الكمالات الوجودية للشيء، فتصدق عليه جميع المفاهيم الجنسية والفصلية الصادقة على الشيء، فالأشياء المتكثرة التي يمكن وجود كلّ واحد منها مستقلاً قد اجتمعت في وجود واحد، هو الفصل الأخير، فيصدق الكثير على الواحد الخارجي.
المقدّمة الثانية: كلّ وجود أقوى وأبسط من غيره هو أشمل للمعاني الكلّية وأكثر إحاطةً بالكمالات.
المقدّمة الثالثة: يمكن أن تكون حقيقة الشيء النوعية جنساً لموجودٍ آخر مثل الحيوان، فإنّه جنس الإنسان، ومع ذلك فهو نوع لسائر الحيوانات، وكذا الجسم، هو جنسٌ للنبات وإن كان نوعاً للأجسام، فالجسم الذي في ضمن النبات يكون قسماً خاصّاً من الجسم الذي له الشأنية ليصير نباتاً، ليس بجسم محضٍ، أمّا الجسم الذي في سائر الأجسام غير الحيّة، فيكون جسماً محضاً، فما يكون جنساً لنوعٍ يمكن أن يكون تمام حقيقة سائر الأنواع، وهذا ناشئ من كون الفصول الأخيرة من كمالات الأنواع السابقة، فالحيوان النوعي غير مستهلك في شيء، أمّا الحيوان الجسمي فمستهلك في الإنسان وناطقيّته، حيث إنّ النطق ذو قوّة بالنسبة إلى سائر أنواع الحيوان.
المقدّمة الرابعة: إنّ المعلول مستندٌ ـ بوجوده وكمالاته ـ إلى علّته، فالعلّة واجدةٌ لتمام كمالات المعلول على نحوٍ أعلى وأتمّ، والواجب بالذات الذي هو علّة العلل مستجمعٌ لجميع الكمالات والخيرات، وهو وجودٌ أقوى وأتمّ من كلّ موجود، بل لا نهاية لوجوده الواجبي ولا نقص في ذاته.
المقدّمة الخامسة: تستجمع العلّة البسيطة ـ مع بساطتها ـ كمالات المعلول، بل هي واجدةٌ لوجوده على نحوٍ بسيطٍ غير مباين لذاته، فواجب الوجود بالذات مع بساطته واجدٌ لوجود الأشياء جميعها، وعليه فهو كلّ الأشياء، وإن لا يصدق عليه أحدها بحدوده ونقائصه.
إنّ واجب الوجود بالذات يعقل ذاته، وذاتُه بسيطة الحقيقة، فذاته مستجمعة لوجود جميع الأشياء، وبتعقّله ذاته يعقل الأشياء كافّة، فعلم الباري ذو خصوصيات يجب التنبيه عليها: أ ـ علم إجمالي بسيط. ب ـ علم تفصيلي بالموجودات. ج ـ يتعلّق بوجودات الأشياء لا بماهياتها. د ـ يكون قَبل وجود الموجودات. هـ ـ يكون في رتبة ذات الحقّ تعالى. و ـ يكون من كمالاته.
طريقة العرفاء وتبرير العلم الإجمالي في عين الكشف التفصيلي ـــــــ
أمّا طريقة العرفاء، فهي التي يمكنها تبرير نظرية العلم الإجمالي في عين الكشف التفصيلي، بناءً على اصطلاحاتهم ومبانيهم، وإلاّ فإنّ العرفاء ولكثرة اشتغالهم بالأمور المعنوية، وعدم اهتمامهم بالبراهين العقلية، لم تأتِ مكاشفاتهم على نهجٍ برهاني، ولم يذكروا لآرائهم محامل خالية عن التناقض في الكلام والإشكال في إيضاح المرام، أمّا صدر المتألهين فقد جهد كثيراً لتبيين مرامه على طريقة العرفاء؛ لأجل أن لا يكون مناقضاً لآرائهم، وهذا المقام يحتاج أيضاً إلى ذكر مقدّمات:
المقدّمة الأولى: إنّ لله تعالى أسماء وصفات كلّها من لوازم ذاته، وليس المراد منها ألفاظ القادر والعالم، وهي حسب اصطلاح العرفاء أسماء الأسماء، بل المراد حقائق القادر والعالم، والإسم عبارةٌ عن الذات المتّصفة بالصفة، والصفة هي المحمولات العقلية ـ مثل العلم والقدرة ـ لا العوارض الزائدة على الذات.
المقدّمة الثانية: كلّ وجود أصيل يمكن أن يكون مصداقاً لمفاهيم متعدّدة، مثل: الوجود، والوحدة، وممكن الوجود وغيرها، لكن ليس كلّ مفهوم حاكٍ عن الوجود الخارجي العيني، بل مفهوم الوجود الذي يحكي عن الخارج وغيره من المفاهيم يصدق على الوجود الخارجي على نحو الخارج المحمول، الذي ينتزع من العين فيُحمل عليها.
المقدّمة الثالثة: كلّما كان الوجود أقوى وأشرف، كان أشمل للكمالات، وكان انتزاع المفاهيم منه أكثر.
المقدّمة الرابعة: كلّ عالمٍ يعلم وجود شيء يعلم كلّ ما يصدق عليه، ويدرك المفاهيم الصادقة عليه، وهذان العلمان متّحدان وهما: العلم بوجود الشيء وهويته، والعلم بالمفاهيم المحمولة عليه.
المقدّمة الخامسة: وهي المقدّمة العرفانية المذكورة في كلام صدر المتألهين، إنّ لكلّ اسمٍ وصفة لله تعالى لوازم يقال لها باصطلاح أهل الله: mالأعيان الثابتةn، والأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود أبداً، والمراد من عدم وجودها أنّه ليس لها وجودات مستقلّة عن ذات الحقّ، حتّى تختصّ كلّ عين ثابتة بوجودٍ خاصّ، فليست من عوارض الوجود ولا الوجود عارضٌ لها، وليست بمعلولات، بل هي موجودات أزلية بوجود الحقّ، كما أنّها ليست غير الحقّ حتّى يلزم تعدّد الواجب، بل وجود واحد أحديّ تتّحد به الأعيان الثابتة، وبهذا تقع نجاتها من العدم([35]).
الاستنتاج ـــــــ
قال صدر الحكماء: mلمّا كان علمه بذاته هو نفس وجوده، وكانت تلك الأعيان موجودةً بوجود ذاته، فكانت هي أيضاً معقولة بعقل واحد هو عقل الذات، فهي مع كثرتها معقولة بعقل واحدn([36]).
وينبغي أن يُعلم أنّ لله تعالى مرتبة هي مرتبة أحديّته أو مرتبة غيب الغيوب، لا يكون له في هذه المرتبة هوية شخصية، ولا يمكن الإخبار عنه، والصفات والأسماء كلّها فانية في تلك المرتبة، وله مرتبة أخرى تسمّى بالواحدية تتكثر الأسماء بعضها ببعض، وحقائقها تتمايز مع كونها بوجودٍ واحد، وهي مقام الجمع، وفي هذا المقام المثُل النورية الأفلاطونية، فإنّها حقائق غير متباينة للذات، وهذا هو مراد صدر المتألهين من المُثل الأفلاطونية، كما صرّح به ([37]).
ملخّص عناصر الاشتراك والامتياز بين المدرستين: المشائية والمتعالية في العلم الإلهي ـــــــ
1 ـ وجوه الاشتراك:
أ ـ إنّ واجب الوجود يعقل الأشياء قبل كونها، وصدورها عن الواجب لا يوجب تغيّراً في ذاته.
ب ـ إنّ الموجودات حاضرة عند بارئها بصورها العقلية، لكنّ مراد المشّائية من الصور العقلية الصورُ المرتسمة، ومراد الحكمة المتعالية منها الحقائق العقلية والوجودات العقلانية.
ج ـ كثرة الصور والموجودات تتأخّر عن الذات، فلا تؤثر في الذات الأحدية.
د ـ الحيثية المعقولية للأشياء عين حيثية صدورها عن الواجب.
هـ ـ إنّ الوجودات تُعقل أوّلاً ثم توجد؛ لا أنّها توجد فتُعلم.
و ـ ليس من كمال الواجب صدور الأشياء منه، بل كماله أنّه بحيث تصدر منه الأشياء، فليس الصدور والعلم من كماله، بل ذاته الكاملة من جميع الجهات تستلزم صدور الأشياء وتعقّلها.
ز ـ إنّ واجب الوجود يعلم الأشياء كافّة بعلمٍ واحد ودفعةً واحدة.
2 ـ وجوه الامتياز:
أ ـ العلم هو الصورة المرتسمة من المعلوم عند العالم في الحكمة المشّائية، ووجودٌ مجرّد عن المادة في الحكمة المتعالية.
ب ـ علم الواجب بالنسبة إلى الموجودات يكون على وجهٍ كلّي عند المشائين، وهو على وجهٍ جزئي عند المدرسة المتعالية.
ج ـ علم الباري يتعلّق بالماهيات عند المشائية، وبالوجودات عند المتعالية.
د ـ قال صدر المتألهين: mعلم الواجب عند ابن سينا عرضٌ زائد على الذاتn، وعند المشائين علمه متّحد بذاته.
هـ ـ ومن موادّ افتراق النظريّتين ما ذكره صدر المتألهين، من أنّ ابن سينا يرى أنّ علم الواجب علمٌ إجمالي، فيما يقول هو: إنّه علم تفصيلي.
و ـ إنّ العلم من لوازم ذات الحقّ على رأي الحكمة المشائية، وهو عين ذات الحقّ على رأي الحكمة المتعالية.
* * *
الهوامش
(*) متخصّصة في الفلسفة، وعضو الهيئة العلمية لجامعة طهران، إبنة الإمام روح الله الخميني، وقد أرسلت الدراسة باللغة العربية.
[1] ـــ الإشارات والتنبيهات، شرح الإشارات والتنبيهات 2: 308.
[2] ـــ التعليقات: 81؛ والشفاء، الإلهيات: 368، 357.
[3] ـــ التعليقات: 154، 152؛ والشفاء، الطبيعيات، النفس: 215.
[4] ـــ التعليقات: 13.
[5] ـــ الأسفار 3: 292.
[6] ـــ الأسفار 3: 299.
[7] ـــ لاحظ: الأسفار 6: 180؛ والمبدأ والمعاد: 67؛ وشرح الهداية الأثيرية: 314؛ والحاشية على شرح حكمة الإشراق: 364.
[8] ـــ الشفاء، الإلهيات: 363؛ والمبدأ والمعاد: 19؛ وشرح الإشارات والتنبيهات 3: 298.
[9] ـــ المبدأ والمعاد: 19؛ والنجاة: 593؛ والشفاء، الإلهيات: 358.
[10] ـــ الأسفار 6: 193 ـ 194.
[11] ـــ دانش نامه علائي (بالفارسية): 87؛ ولاحظ الحاشية على شرح حكمة الإشراق، لصدر المتألهين: 360.
[12] ـــ المباحثات: 301.
[13] ـــ المبدأ والمعاد: 20.
[14] ـــ دانش نامه علائي: 90.
[15] ـــ الشفاء، الإلهيات: 359؛ والنجاة: 595؛ والتعليقات: 14، 81، 120، 121.
[16] ـــ التعليقات: 120.
[17] ـــ المصدر نفسه.
[18] ـــ المصدر نفسه: 48.
[19] ـــ الشفاء، الإلهيات: 360.
[20] ـــ شرح الإشارات والتنبيهات 3: 303.
[21] ـــ المباحثات: 134؛ ولاحظ الأسفار 6: 206.
[22] ـــ الشفاء، الإلهيات: 364؛ والتعليقات: 125؛ وعيون الحكمة، رسائل ابن سينا: 73.
[23] ـــ الشفاء، الإلهيات: 364.
[24] ـــ المبدأ والمعاد: 82؛ وشرح الهداية الأثيرية: 328.
[25] ـــ الأسفار 6: 228؛ والمبدأ والمعاد: 77؛ وشرح الهداية الأثيرية: 321.
[26] ـــ الأسفار 6: 227.
[27] ـــ العرشية، رسائل ابن سينا: 249.
[28] ـــ الأسفار 6: 230؛ والمبدأ والمعاد: 76؛ وشرح الهداية الأثيرية: 321.
[29] ـــ الأسفار 6: 232؛ والحاشية على شرح حكمة الإشراق: 365.
[30] ـــ الأسفار 6: 232؛ ولاحظ: شرح الهداية الأثيرية: 324.
[31] ـــ المبدأ والمعاد: 78؛ وشرح الهداية الأثيرية: 331.
[32] ـــ العرشية: 7.
[33] ـــ الواردات القلبية في معرفة الربوبية: 59.
[34] ـــ الأسفار 6: 280.
[35] ـــ المصدر نفسه 6: 283.
[36] ـــ المصدر نفسه.
[37] ـــ المصدر نفسه 6: 188، 227.