د. محمد بنعمر (*)
المفهوم في العلوم الإنسانيّة
يُعَدُّ تحديد المفاهيم وتعيين المصطلحات في العلوم بصفةٍ عامةٍ عملاً مُلْزِماً، ومسلكاً ملحّاً لكلّ دارسٍ أو باحثٍ يودّ مقاربة آية ظاهرة، ثقافية أو فكرية أو تربوية أو إنسانية أو دينية، في أيّ علمٍ من العلوم، وفي أيّ تخصُّصٍ من التخصُّصات، سواء أكانت تلك العلوم علوماً حقّة أم علوماً إنسانية أم علوماً شرعية؛ باعتبار أن لكلّ صناعةٍ أو علمٍ مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة به، التي عادةً ما يتميَّز ويختصّ بها ذلك العلم عن غيره من العلوم والمعارف، بجميع فروعها وتخصُّصاتها.
ولأن المفهوم كان دائماً هو النواة الأولى في تركيب وصناعة الأفكار، وبناء وتشكيل النظريات العلمية، فإن أيّ لبسٍ أو خفاء أو تعميم في تحديد وبيان المفهوم سيؤثِّر لا محالة على تلك الأفكار المركّبة للمعارف والنظريات المحمولة في تلك العلوم، وهو ما يعني أن تحديد المصطلحات والمفاهيم أمرٌ ضروريّ، وضبطها واختيارها عملية مُلْزِمة؛ لأن الخَلَل الذي عادةً ما يقع في البحوث العلمية يعود إلى عدم انضباط اللغة المصطلحية والمفاهيمية، وغياب التحقُّق العلمي من المفاهيم، ولا سيَّما ما كان من المفاهيم الشائعة في التداول والذائعة في الاستعمال.
وقديماً قال ابن حزم: إن أكبر ما يعترض العلوم هو أن تقع الأسماء على غير مسمَّياتها ([1]).
والبحث هذا هو تساؤلٌ عن مدى حضور العلوم الإنسانية في التراث الإسلامي، ممارسةً وكتابةً وتنظيراً، مع العلم أن العلوم، بغضّ النظر عن نوعها وجنسها، عادةً ما تتطوَّر تَبَعاً للمسار والسياق التاريخي الذي تقطعه أغلب العلوم، بجميع أقسامها وأنواعها ومساراتها. والعلوم الإنسانية لا تخرج عن هذه القاعدة المعرفية والقناعة الإبستمولوجية العامة، التي تقطعها أغلب العلوم في تطوُّرها أو في انتقالها وتفاعلها مع باقي ومختلف العلوم الأخرى؛ إذ إن أيّ علمٍ من العلوم يمرّ بعددٍ من المراحل، ويقطع مجموعةً من الأشواط، إلى أن يستقلّ بموضوعه الخاصّ به، ويتميَّز بمناهجه، وينفرد بلغته المفاهيمية.
الدلالة الحقيقيّة للعلوم الإنسانيّة
من عادة الباحثين والمشتغلين بالدراسات الإنسانية أن يتمّ تحديد العلوم الإنسانية بأنها تلك العلوم التي تقارب الإنسان في أحد أبعاده الأساسية المشكِّلة لشخصيّته، هادفةً من هذا الاشتغال والمدارسة الارتقاء بالإنسان نحو الأفضل. ولقد جاء الاشتغال بهذه العلوم في الغرب في سياق الوَعْي الذي أخذ يتنامى ويتَّسع حول قيمة العلوم التي تشتغل على الإنسان في أحد جهاته وأبعاده البارزة المشكِّلة لشخصيته، ولا سيَّما ما كان منتمياً إلى الجهة النفسية أو التربوية أو الاجتماعية أو القِيَمية، أو منتمياً إلى المؤسَّسات والفضاءات المشكِّلة للمجتمع ولمؤسَّساته، والتي يتفاعل معها الإنسان بشكلٍ دائم وبصفةٍ مستمرّة، وهذه الخاصِّية من أهمّ الأوصاف التي بها تتميَّز العلوم الإنسانية.
ولعلّ ما يميِّز العلوم الإنسانية هو أنها تقارب الإنسان في حدوده الزمانية والمكانية التي يتواجد ويتفاعل فيها، ولا تدرس الإنسان من حيث هو ذاتٌ مطلقة ومستقلّة عن هذه الحدود.
العلوم الإنسانيّة وحاجيات الإنسان
من أهداف العلوم الإنسانية ومراميها البعيدة الاستجابةُ لحاجيات الإنسان، والعمل على تلبية متطلّباته، وحلّ مشاكله، والتخفيف من حدّة الإكراهات، ومن حجم الضغوطات والصعوبات التي يعيشها الإنسان ويتفاعل معها بشكلٍ يوميّ؛ بسبب التطوُّر السريع الذي عرفته المجتمعات المعاصرة، وهي الصعوبات التي أخذَتْ تواجه هذا الإنسان وتتَّسع في حياته، وقد جاءت نتيجة التغيُّر السريع والتحوُّل الطارئ الذي طرأ على مجريات ومسار الحياة المعاصرة، وهذه التغيُّرات جاءت في معظمها نتيجةً لمجموعةٍ من التحوُّلات الثقافية والقِيَمية والاجتماعية العميقة التي شهدها العالم اليوم، وبالأخصّ ما حدث من تحوُّلات في السنوات الأخيرة، وكان هذا بفضل التأثير الكبير الذي تركَتْه الثورة الصناعية والثورات المعرفية التي عرفتها المجتمعات المعاصرة، ولا سيَّما الثورة الرقمية، وما حملته من آثار ومن تداعياتٍ ومن نتائج عميقة، أثَّرَتْ على الإنسان في حياته العامّة والخاصّة، بل حتّى على المؤسَّسات التي يتفاعل معها. فكانت وجهة العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر هي التفاعل مع مجريات الحياة الجديدة باعتماد الأسس المنهجية والاستعانة بالمرجعيات العلمية في مقاربة ما هو إنسانيّ، بالاستعانة والاستفادة من البحوث العلمية ومن الآليات والمناهج الإجرائية، واستثمارها في دراسة وفَهْم ومعرفة شخصية الإنسان، بأبعادها المتعدِّدة، وباتجاهاتها المختلفة؛ لغاية تعديل السلوك الإنسانيّ والبشريّ، وتصويب العادات والسلوكات والأفعال السيِّئة، والاستجابة للمشاكل الحياتية المتراكمة والمعقَّدة أحياناً، والتي ساهم فيها التطوُّر الكبير الذي عرفته المجتمعات الإنسانية في الفترة المعاصرة، ما يدلّ أن من أبرز السياقات التي كانت من وراء نشأة هذا النوع من العلوم هو ميلاد المجتمع الصناعيّ، وتطوّر نمط الإنتاج الرأسمالي، وهيمنة ثقافة الاستهلاك، ما يعني أن العلوم الإنسانية جاءت مواكبةً لمجمل التغيُّرات والتحوُّلات التي عرفها الغرب الأوروبي في سياق تطوّر المجتمع، وتطوّر علاقات الإنسان بالطبيعة والمجتمع وبالتاريخ، وسَعْي هذا الإنسان في سياق هذه التحوّلات إلى تفسير ومعرفة مظاهر السلوك الإنسانيّ في مختلف أبعاده ومستوياته. وإنْ كان البُعْد النفسي والاجتماعي هو الغالب.
ماهيّة العلوم الإنسانيّة
إن العادة السائدة بين الباحثين والدارسين أن يتمّ اختزال العلوم الإنسانية وتوصيفها بأنها تلك العلوم التي تدرس وتشتغل على الإنسان في أحد أبعاده الأساسية المشكِّلة لذاته ولشخصيِّته، في بُعْدها النفسي أو الاجتماعي أو القِيَمي، علماً أن من السياقات المشجِّعة والمحفِّزة التي ساهمَتْ في ظهور هذه العلوم هو سياق ظهور النزعة الإنسانية التي عرفها العالم المعاصر، وارتبطَتْ بشكلٍ خاصّ بعصر الأنوار الأوروبية. لكنّ أكبر ما تحقَّق في العلوم الإنسانية في مسارها وتطوُّرها التاريخي البعيد هو استقلالها وانفصالها بشكلٍ كلِّي ونهائي عن الفلسفة، التي كانت محتضنةً لها ومتعايشةً معها لفترةٍ طويلة، وانفرادها وتميُّزها بموضوعها واختصاصها، بمناهجها وبمفاهيمها.
وبالتالي فقد ظهرت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؛ لتتبوّأ مكانةً علميّةً مهمّة وخاصّة بين العلوم الحديثة؛ ولتعبر وتشخص للتحوُّل الكبير وللنقلة العلمية وللطفرة العميقة التي طرأَتْ وحدثَتْ في المجتمعات الغربية في المستوى الثقافي والفكري والاجتماعي والمؤسَّساتي والتربوي والقِيَمي من جهةٍ؛ ولتجيب على أهمّ المشاكل الحياتية المتراكمة والإكراهات المتعاقبة، التي أعقبَتْ هذا التحوُّل العميق وهذه النقلة الكبيرة الذي وقعَتْ في مرافق وقطاعات المجتمع المعاصر من جهةٍ أخرى.
وأمام هذا التحوُّل الكبير الذي عرفه العالم في مختلف قطاعاته ومرافقه فقد ازداد واتَّسع الطلب والحاجة إلى هذه العلوم؛ لتكون علوماً خادمة للإنسان، وملبِّية لحاجياته النفسيّة والسايكولوجية والاجتماعية، ومستجيبةً ومجيبةً لأهمّ المشاكل والإكراهات الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية التي أحدثها هذا التطوُّر الكبير وهذا التقدُّم السريع في مرافق ومؤسَّسات المجتمعات المعاصرة.
فقِيَم التصنيع والتقنية والعقلانية والثورة الرقميّة في التواصل وآثار ومخلَّفات العولمة جلبَتْ للإنسان كثيراً من التحدِّيات، وأحدثَتْ كثيراً من السلوكات التي لم يعهدها الإنسان من قَبْلُ، ما جعل هذا النوع من العلوم ينخرط في الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة القلقة، التي تتَّصل بواقع الإنسان وبحياته وبمستقبله.
أساسيّات وأوَّليات العلوم الإنسانيّة
من أساسيات وأوّليات العلوم الإنسانية إقرارها واعترافها بأنه يمكن أن يكون الإنسان موضوعاً وذاتاً قابلةً للدراسة والمقاربة الإجرائية، رغم ما يميِّز شخصية الإنسان من خاصّية التحوُّل والتغيُّر السريع في شخصيّته، وعليه نقول: إن العلوم الإنسانية، رغم حداثتها، هي علومٌ حاملةٌ لخطابٍ مؤسَّسٍ على إمكانيات علمية، وعلى قدرات معرفية، تتيح وتقدِّم مساهمات علمية، تساعد على مقاربة وملاحظة وفَهْم شخصية وسلوك الإنسان. فلها مكانةٌ متميِّزة وقدرات خاصة وحضور متميِّز في البحث الإجرائي، مما يجعلها تتميَّز بمجموعةٍ من الخصوصيات والمواصفات داخل مجال العلوم والمعارف بشكلٍ عامّ، بل حتّى داخل المجتمع والوجود الاجتماعي والإنسانيّ، فمن عادتها أنها تتّصف باستقلاليّةٍ علمية في موضوعها، وبتميُّزٍ وخصوصيةٍ في مناهجها، وبلغةٍ خاصّة في مفاهيمها ومصطلحاتها المشكِّلة لبنائها.
هذه الاعتبارات والأوصاف المشار إليها جعلَتْ العلوم الإنسانية تُحدَّد بكونها تلك العلوم التي حملت مجالاتها وأقطابها وعناصرها قضايا علمية موجّهة بشكلٍ أساس إلى الاشتغال على شخصيّة الإنسان، فهي تعمل بشكلٍ دائم وبصفةٍ مستمرّة على رَصْد وتتبُّع مختلف السيرورات والتحوُّلات والتفاعلات النفسية والعقلية والاجتماعية والقِيَمية للإنسان.
وبعبارةٍ أخرى، أكثر إيجازاً وتعبيراً ودقّةً: إن العلوم الإنسانية هي تلك العلوم التي تتناول بالدراسة النقدية والمتعدِّدة النشاط الإنساني والسلوك البشري في عددٍ من أبعاده، ودوافع تلك الأنشطة وخصائصها، وكيفية تطوُّرها والارتقاء بها، والرفع من وتيرة تلك الأنشطة الإنسانية نحو التميُّز والأفضل.
وفي المقابل فان أكبر ما تحقّق للعلوم الإنسانية في مسارها التاريخي، ولا سيَّما في السنين الأخيرة، هو طلاقها وانفصالها بشكلٍ نهائيّ عن الفلسفة، واختيارها وجهة الاختصاص والتفرُّد والتميُّز بموضوعها الخاصّ، بمجالها الخاصّ ونطاقها العلمي، وحتّى بلغتها المفاهيمية([2]).
إن الخطاب الفلسفي في مساره التاريخي احتضن كثيراً من الاجتهادات في قضايا الإنسان، في واقعه ومستقبله؛ فالقول والخطاب الفلسفي حول الإنسان يعتبر قديماً قِدَم التفلسف نفسه، حيث لم تَخْلُ كتابات الفلاسفة من آراء وتأمُّلات وقضايا وخواطر تصبّ كلّها في المجالات التي لها قرابةٌ مباشرة وصلةٌ قريبة بشخصيّة الإنسان.
فالفلسفة اليونانية حملت أفكاراً وآراء وخواطر حول الإنسان، وحول شخصيّته ومصيره، ما يدلّ على أن الإنسان من حيث هو ذاتٌ وهويّةٌ وكينونةٌ يحضر بشكلٍ كبير في الفلسفة اليونانية، ولا سيَّما في فلسفة أفلاطون وفي جمهوريته.
فرغم أن خطاب الإنسان يتَّسع في جمهورية أفلاطون، إلاّ أن المنحى الفلسفي والخطاب التأمُّلي يظلّ هو المنحى المهيمن والخطاب الغالب في هذا الحديث([3]).
إشكاليّة المعرفة في العلوم الإنسانيّة
إضافةً إلى جميع هذه الاعتبارات المذكورة والمشار إليها، فإن العلوم الإنسانية في بُعْدها الإبستمولوجي والمعرفي لا تدّعي لنفسها الوصول إلى المعرفة بشكلٍ مطلق ونهائي ويقيني، وإنما كانت دائماً تأخذ بما هو نسبيّ في تحصيلها واكتسابها للمعارف. منطلقُها وشعارُها المبدئيّ هو الاعتراف والإقرار بالبُعْد النسبيّ في النتائج. وهذا من أسرار قوّتها وتفوُّقها، ومن تجلِّيات استمراريّتها، ومن أوصاف ديمومتها، بل أيضاً هذا أحد تجلِّيات تميُّزها عن العلوم الحقّة، مثل: الرياضيات؛ والعلوم الفزيائية.
فرغم هذا الإشكال الإبستمولوجي، الذي يحضر في العلوم الإنسانية، تيسَّر وتسنّى لهذه العلوم أن تحقِّق نتائج إيجابية وكبيرة، وتحمل فائدةً تخصّ حياة الإنسان في حاضره ومستقبله، رغم جميع هذه الإكراهات والصعوبات التي اعترضَتْ الظاهرة الإنسانية، ولا سيَّما ما كان متعلِّقاً وخاصّاً بجهة المناهج والآليات التي تستخدمها هذه العلوم، وتتوسَّل بها؛ للوصول والتأكيد والبرهنة على مقدّماتها، وفق الخصوصية المركّبة للظاهرة الإنسانية المتميِّزة بمجموعةٍ من الخصائص.
ورغم هذا الاعتراف بهذا الإشكال فإنه لا يعني في كلامنا هذا التنقيص من المكانة العلميّة للعلوم الإنسانيّة، ولا يعني أن حضورها من حيث الممارسة متوقِّفٌ على القضاء على هذه المشاكل الإبستمولوجية المرتبطة ببنائها وبموضوعها وبمرجعياتها.
فهذا الكلام المتعلِّق بالإشكال المنجي لا يقف عائقاً في قيام العلوم الإنسانية، ولا يشكِّل تحدّياً لمستقبل هذه العلوم.
أقطاب العلوم الإنسانيّة
من العادة المترسِّخة والحاضرة بين الباحثين والمشتغلين على البحوث والدراسات الإنسانية أن يتمّ تقسيم هذه العلوم وتفريعها إلى فروع وأقطاب عديدة، منها: علم النفس، الذي يهتمّ بدراسة السلوك والأنشطة العقلية والوجدانية للنفس البشرية؛ لفهمها وتفسيرها، والبحث عن علاجاتٍ لأمراضها، واقتراح تقويمات لمشاكلها، ما يدلّ على أن علم النفس بشكلٍٍ عامّ يشتغل على المجال النفسيّ والسلوكيّ والشعوري، وعلى الكيفية التي بها يكتسب الإنسان المعارف، والطريقة التي بها يتلقّى التعليمات.
أما علم الاجتماع فهو يختصّ بدراسة المجال الاجتماعي للإنسان وسلوكه في المجتمع الذي يتواجد ويعيش فيه، إضافةً إلى تفاعله مع محيطه. فهو بهذا الوصف يُعَدّ العلم الذي يهتمّ بدراسة العلاقات الرابطة والمتبادلة بين الأفراد والجماعات، وعلاقتهم وتواصلهم مع بعضهم، وتفاعلهم المباشر والمستمرّ مع المؤسَّسات التي يتواجدون فيها، والسعي نحو تفسير وفهم تلك التفاعلات علميّاً وإجرائيّاً؛ من أجل الارتقاء بها نحو الأفضل([4]).
وتُعَدّ الجهة الاجتماعية أهمّ جهةٍ من فروع العلوم الإنسانية، وهي جهةٌ تتَّجه إلى دراسة المجتمع ورصد الظواهر والتغييرات الاجتماعية، ومدى تأثيرها على الإنسان.
ومن العادة أن تعرَّف العلوم الاجتماعية وتحدَّد بأنها مجموعةٌ من «المعارف المتعلِّقة بدراسة الفرد والمجتمع، وعلاقة الفرد بالمجتمع ومؤسَّساته، وعلاقات الأفراد بعضهم مع بعضٍ، في تفاعلهم وتواصلهم. ومن أهمّ هذه العلوم: علم الاجتماع؛ وعلم النفس؛ وعلم الاقتصاد؛ وعلم التاريخ»([5]).
أما علم التاريخ فهو العلم الذي يتناول دراسات الماضي الإنساني في كافّة مجالاته، ومدى تأثير ذلك الماضي على حاضر الإنسان ومستقبله، وكيفيّة الاستفادة من دروس وأحداث هذا الماضي في بناء الحاضر والمستقبل([6]).
وهذا مؤشِّرٌ واضح وبيِّنٌ على أن العلوم الانسانية ذات وحدةٍ معرفيّة متكاملة، ومواضيع منسجمة متوافقة، وأقطاب متجانسة متناسقة، لا تقبل التفرقة، ولا الانفصال أو التقاطع بين أجزائها، ولا تقبل التَّبَعيّة لغيرها من العلوم، بل لها استقلالية خاصّة([7]).
حداثة العلوم الإنسانيّة
إن هذه العلوم المسمّاة بالإنسانية حديثة العهد في نشأتها وتطوُّرها، مقارنةً مع العلوم الأخرى. وهذا التأخُّر في النشأة والتطوُّر والمسار له ما يبرِّره في أكثر من مستوىً؛ فهو يرجع بالدرجة الأولى إلى الطبيعة المعرفية المركّبة لموضوع هذه العلوم في ارتباطها مباشرةً بشخصيّة الإنسان، وهي الشخصية التي عادةً ما تتّصف بالتركيب المتعدِّد، وبالتغيُّر المستمرّ وبالتحوُّل المفاجئ، وهو ما يلزم عنه تحيين هذه العلوم وتجديدها حتّى تستجيب للمتغيِّرات المتلاحقة والسريعة التي تعرفها العلوم، فهي تعرف تحوّلاً وتغيّراً سريعاً، وفي بعض الأحيان يكون هذا التغيير بشكلٍ مفاجئ([8]).
هذا التأخُّر في نشأة هذا النوع من العلوم، أعني العلوم الإنسانية، يعود إلى أن الإنسان عبر التاريخ راكم معارف كثيرة تخصّ معرفة العالم المادّي والطبيعي لهذا الكَوْن بتنوُّعاته وبتعقيداته، ونجح وتفوّق بشكلٍ كبير في فهم وتفسير الظواهر الطبيعية، ووقف على قوانينها وسُنَنها ونواميسها المسيِّرة لهذه الظواهر، وحلّ كثيراً من المعضلات والمشاكل التي ترتبط بالعالم المادّي للإنسان، وانتهى المطاف بهذا الإنسان إلى النجاح في امتلاك كثيرٍ من النظريات العديدة حول أصل الكَوْن وأصل الحياة وعالم الطبيعة…([9]).
لكنْ في المقابل فإن العالم النفسي والعقلي والوجداني للإنسان لا يزال في بداية الاستكشاف والمعرفة، وقد حان الوقت أكثر من أيّ وقتٍ مضى للتوجُّه نحو هذه الجهة، والعناية بالمعرفة العلمية الدقيقة أو الإجرائية التي تخصّ العالم النفسي والاجتماعي لهذا الإنسان، مع الابتعاد قَدْر الإمكان عن الخطابات والبحوث غير المُجْدِية وغير النافعة للإنسان…([10]).
وهذا التأخُّر في النشأة لا يؤثِّر على هذه العلوم، ولا على مسارها؛ لأنه قبل أن ينتقل الإنسان إلى معرفة ذاته، ورغم أن هذه المعرفة لم تكن متيسِّرةً إلاّ في وقتٍ متأخِّر، فإن الجهة التي نالَتْ الأولوية هي جهة الكَوْن المحيط بالإنسان، وهو ما يفسِّر ويبرِّر لنا مدى التأخُّر الذي عاشَتْه ومرَّتْ منه العلوم الإنسانية في نشأتها وتطوُّرها، وانتقالها بين الحضارات والثقافات، وإنْ كانت الحاجة تزداد إلى هذه العلوم بشكلٍ أكبر في السنوات الأخيرة؛ بسبب تطوُّر وتعقُّد الحياة([11]).
العلوم الإنسانيّة والامتدادات الفلسفيّة
تُعَدّ المرحلة الفلسفية من أهمّ المراحل التي قطعَتْها ومرَّتْ منها العلوم الإنسانية. وقبل هذه المرحلة كانت الممارسات والبحوث في الإنسانيات وفي كلّ ما يتّصل بالبُعْد النفسي والاجتماعي والقِيَمي للإنسان يمارَس بشكلٍ تلقائيّ، وأحياناً بشكلٍ عفوي من حيث الممارسة والفعل والحضور والمقاربة؛ لأن المعارف التي يتلقّاها أو يحصل عليها الإنسان تجاه ذاته ونفسه، أو حتّى في احتكاكه وتواصله مع الغير، أوفي اتجاه تفاعله مع المحيط والمجال الذي يعيش فيه، عادةً ما تكون تلك معارف تلقائية وبسيطة، وأحياناً عفوية، يحصل عليها الإنسان تلقائياً عن طريق الاحتكاك والممارسة اليومية، أو عبر العمل والتواصل والممارسة التلقائية التي يكتسبها من معيشته اليومية([12]).
وهذا ما يدلّ على أن البدايات الأوّلية للممارسات البحثية في العلوم الإنسانية كان هو الاشتغال على الإنسان من زوايا فلسفيّة متعدِّدة، وكانت بداياته ومقدّماته هو الاحتضان والمعايشة مع الفلسفة. ففي البحوث الفلسفية اليونانية الأولى استحضر فلاسفة اليونان المسائل الثقافية والتربوية والنفسية والاجتماعية، فكثيرٌ منهم اشتغل على مهامّ التربية، وعلى وظائفها وأدوارها في المجتمع، وهو الاتجاه الغالب على معظم فلاسفة اليونان، الذين اتَّجهوا بشكلٍ خاصّ إلى دَوْر التربية والتنشئة في صناعة وإعداد الإنسان المثاليّ الحامل للقِيَم العليا، التي ترضي الآلهة، وتصنع المجتمع المثالي([13]).
كما أن فلاسفة اليونان، ومنهم: أفلاطون، قد تحدَّثوا عن الذكاء، وقيَّدوا الذكاء في علم الرياضيات؛ فالإنسان الذكيّ هو العارف بالمعادلات الرياضية وبخبايا علم الهندسة.
هذا الحضور الواسع للمباحث النفسية والاجتماعية في الممارسات والأنشطة الفلسفية حضر وترسَّخ بشكلٍ قويّ وفعليّ وواضح بين أغلب فلاسفة اليونان، بما في ذلك الفلاسفة الروّاد، الذين اختزلوا البحث النفسي والتربوي في القِيَم العليا، التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان المثالي، والتي ينبغي أن يحملها الإنسان في سلوكه اليوميّ، وينقلها إلى غيره من أفراد المجتمع الذي يعيشون معه؛ لنَيْل رضا الآلهة.
ومن الإشارات والأفكار التربوية والنفسية في الفلسفة اليونانية إشارةُ الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي ذكر أن التربية سلوكٌ ملازمٌ ومرافقٌ للإنسان منذ ولادته، بل هي ممتدّةٌ ومتعايشة ومستمرّة معه إلى مماته، بحيث تكاد تغطّي التربية جميع حياة ومراحل الإنسان. وممّا قاله أفلاطون في هذا الموضوع: إننا نحتاج لصناعة رجلٍ خمسين عاماً([14]).
ومن أعمال أفلاطون في المجال الاجتماعي التربوي تأسيسه «الأكاديمية»، وهي مؤسّسةٌ تعليمية، أنشاها أفلاطون للتدريس وللتعليم، وأطلق عليها هذا الاسم، وكان علم الرياضيات هو العلم المهيمن والغالب على مناهجها وعلى برامجها التعليمية. وهو أمرٌ غير مستَغْرَب ما دام مدخل الأكاديمية يحمل شعاراً ولافتةً كبيرة كُتب ونُحت عليها: «…يمنع ولوج مَنْ لا يحسن الرياضيات إلى «الأكاديمية»». وكانت الفترة التي يستغرقها التعليم في هذه المؤسَّسة تمتدّ إلى عشر سنوات، يتلقّى الطالب فيها الحساب والهندسة الرياضيات…([15]).
وبالعودة إلى تاريخ الفلسفة بشكلٍ عامّ نجد أفلاطون قد جعل من النشاط العلمي والرياضي النشاط الوحيد المشخِّص والمُبْرِز والمُجْلِي للذكاء الإنساني وقوّته، فالإنسان الذكيّ والمتفوّق عند أفلاطون هو العارف والمتمكّن من علم الرياضيات، والمتمرِّس بمبادئ هذا العلم، وبغياب الذكاء الرياضي والتقصير أو الجهل في حلّ المعادلات الرياضية يغيب نشاط الذكاء عند الإنسان بشكلٍ عامّ، وفق الرؤية الأفلاطونية([16]).
وفي هذا السياق قدّم أفلاطون إلى أستاذه سقراط في محاورة الجمهورية نظريّته حول القدرات العقلية للإنسان. وتقوم هذه النظرية على أنه يمكن تقسيم البشر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل: هم الفلاسفة، وهو أعلى سلّم القدرات العقلية؛ يليه القادة العسكريون، ويليهم العمّال والفلاحون؛ أما العوامّ فهم في الرتبة الثالثة، وهم في أدنى السلّم([17]).
فالذكاء بهذا الفَهْم الفلسفي والتفسير الأفلاطوني يرجع أحياناً إلى ما هو وراثيّ وأبديّ أكثر مما يرجع إلى الاستعدادات والمؤهّلات القبلية التي يكتسبها الفرد في سياق تفاعله واحتكاكه مع مجتمعه وبيئته؛ إذ يتحدَّد الذكاء بشكلٍ حَتْميّ ومسبق مع ميلاد الإنسان، وهو غير قابلٍ للتحويل أو للتغيير، رغم المراحل العمرية التي يمرّ بها ويقطعها الإنسان. فطبيعة الذكاء لا تتغيَّر، فهي كطبيعة المعادن، كما قال أفلاطون([18]).
العلوم الإنسانيّة في التراث الإسلاميّ
يزعم بعضٌ ويدّعي، بدون سندٍ علمي أو مرجعٍ معرفي، أن العلوم الإنسانية التي تشتغل على الإنسان وعلى شخصيّته، في عددٍ من أبعادها ومستوياتها ومكوّناتها، ظلَّتْ غائبةً في التراث العربي الإسلامي، وفي كتابات ومدوّنات علماء الإسلام، وطال غيابها ليغطّي هذا الغياب أمداً بعيداً، ويستغرق مدّةً زمنية طويلة، تحت دعوى أن الاستحواذ والقوّة والهيمنة والغَلَبة في علوم التراث العربي الإسلامي كانت للعلوم الدينية والفقهية والبيانية والمعجمية، التي تنزع نحو البيان، وتنحو نحو التفسير، وتأخذ بالتأويل، أكثر من نزوعها نحو الاشتغال على شخصيّة الإنسان، بأبعادها المتعدِّدة، وبمجالاتها المختلفة، وعلى إكراهاته في المجتمع الذي يعيش ويحيا فيه.
والمستند في هذا الادّعاء أن ما يجمع العلوم في التراث العربي الإسلامي هو تغليبها المنزع اللغوي والبياني والتأويلي في هذا الاشتغال، دون أيّ اهتمامٍ أو عنايةٍ بما يرجع إلى البحث في الإنسان.
وتغليب هذا المنزع البياني جعل بعضهم يسمّي هذه الحضارة بحضارة النصّ؛ لأن المدار والمركز الذي تعود إليه هذه الحضارة هو النصّ.
فأغلب العلوم التراثية اختارَتْ لنفسها وجهة العناية بتفهُّم وفقه النصوص الشرعية؛ لضبط معناها، وتلقّي دلالاتها، وتحصيل مقاصدها، أعني تعلّقها بفَهْم وفقه وتلقي النصّ الشرعي، على حساب الاشتغال على القضايا المرتبطة بمشاكل الإنسان بأبعادها المتعدّدة وبقضاياها المختلفة، وبالأخصّ ما اتَّصل بالبُعْد النفسي والاجتماعي، وصلة هذا البُعْد بحاضر هذا الإنسان وبشخصيّته وبمستقبله.
وهذا الخطاب الصريح يدلّ على أن العلوم التي نشأَتْ في أحضان التراث العربي الإسلامي، ورغم ما تتميَّز به من التعدُّد، وما تحظى به من التنوُّع، وما تأخذه قضاياها من الاختلاف في البناء، قد نشأَتْ انطلاقاً واعتباراً من التعامل المباشر مع الوَحْي، الذي هو النصّ.
فالبُعْد الحاكم في الثقافة العربية الإسلامية في بداية نشأتها هو اعترافها بأن الحاجة ماسّةٌ وضروريةٌ إلى تأسيس منهجٍ يضبط عملية الفهم، ويسدِّد عملية البيان، وينظِّم عملية التأويل، من خلال إظهار الأصول المعتمدة، ووضع الشروط والضوابط المعينة والمساعدة على التفسير.
وهو ما دفع بعلماء التفسير إلى الاعتناء والاهتمام بمنهج الفهم، وبمسالك البيان والاستمداد، بحيث نتج عن هذا التعامل المباشر مع النصّ الشرعي أن قامَتْ شبكة متكاملة ومتداخلة من العلوم، تتداخل فيها العلوم اللغوية البيانية مع العلوم الشرعيّة، والتي من أبرزها: علم اللغة والمعجم، وعلم الدلالة والتصريف، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول التفسير، وعلم القراءات؛ لتشرك هذه العلوم جميعاً في هدفٍ واحد جامع ومشترك، وهو استمداد وتلقّي المعنى من النصّ، وتحصيل القصد المحمول في هذا النصّ([19])؛ إذ اقترن بهذا العلم «علم الفقه» علمٌ منهجيّ وهو «علم أصول الفقه». والحقّ أن أصالة الفقه الإسلامي، وخصوصية العقل العربي، إنما ترجع إلى هذا العلم المنهجي الذي لا نجد له نظيراً ولا مثيلاً ولا شبيهاً في الثقافات والحضارات الأخرى، وهو الاعتبار الذي جعل الدكتور محمد حميد الله يقول: إن «علم أصول الفقه هو أول محاولةٍ في العالم استهدفَتْ إنشاء علمٍ يفسِّر القانون ونصوص القوانين التفصيلية، وهو علمٌ اتَّجه إلى تفهُّم وبيان الحمولة التشريعية في النصوص القانونية الشرعية»([20]).
وبلغة الدكتور طه عبد الرحمان عندما قال: «إن علم أصول الفقه يُعَدّ بحقٍّ أعظم علمٍ أنشأته الحضارة الإسلامية إنشاءً…»([21]).
وبالتوازي مع هذا الاعتراف والإقرار بقوّة علم الفقه ومركزيّته في التراث العربي الإسلامي، فإن المفكِّر طه عبد الرحمان اختار أن يردّ بقوّةٍ على مَنْ استصغر هذا العلم، أو قلَّل من شأنه أو من قيمته العلمية والمنهجية والتشريعية؛ لأن القضايا والمباحث والإشكاليات الكبرى التي جاءت في هذا العلم يتعذَّر على الباحثين المعاصرين استحضارها اليوم…([22])، ما يعني أن قصد علوم الفهم والتلقي والبيان في التراث العربي الإسلامي هو ضبط عملية الفهم والتأويل للنصوص الدينية، حمايةً لهذه النصوص من التفسيرات والتأويلات الفاسدة، ومن اختراق المذاهب؛ نتيجة الصراع المذهبي الشديد والقويّ الذي كان بين الفِرَق الكلامية والعَقْدية، وهو الصراع الذي أضاع من الزمن الكثير على المسلمين ليشتغلوا بقضايا استنفَدَتْ منهم زمناً كبيراً، فبَدَل أن يتّجه البحث إلى العناية بالإنسان وبشخصيّة هذا الإنسان وبمشاكله، أقحمَتْ كثيرٌ من العلوم نفسها في صراعاتٍ مذهبية، لا يُجْنَى منها نفعٌ؛ إذ هي من الصراعات الفارغة.
وممّا لاحظه كثيرٌ من الدارسين والباحثين في التراث العربي الإسلامي أن عدداً من العلوم قد صُرف فيها زمنٌ طويل، لكنها لا تحمل معنىً ولا غايةً ولا نَفْعاً للإنسان، في عاجلته أو في آجلته([23])، مثل: القضايا والمسائل التي تنتمي إلى علم الكلام، فرغم أنها استنفدت زمنها، وقضَتْ أغراضها، ووصلَتْ إلى أهدافها، إلاّ أن كثيراً من العلماء أعادوا الاشتغال عليها، دون اعتبار للسياق، ولا للظروف. فابن خلدون يرى أن الحاجة إلى علم الكلام لم تَعُدْ ضروريةً في عصره وزمنه؛ إذ انقرضت المبتدعة والملحدة، ولم يعُدْ لهم تواجدٌ.
لكنّ من الباحثين مَنْ يرى أن المعيار الحاكم للعلوم، والذي كانت ترجع إليه العلوم في التراث العربي الإسلامي، هو معيار الجدوى والمنفعة؛ فقيمة العلم في الإسلام ما أدّى إلى الخلاص في الدنيا والآخرة، فلا أفضلية لأيٍّ على الآخر، وإنما الأفضلية تكون بما يحمله العلم من منفعةٍ وفائدة للإنسان([24]).
فأفضل العلوم، كما قال ابن حزم، «ما أدّى إلى الخلاص في دار الخلود، ووصل إلى الفوز في دار البقاء»([25]).
فحتّى العلوم التي دخلت إلى دار الإسلام في العصر العباسي إنما نشأَتْ لدواعٍ حضارية وبواعث ثقافية، ومن أبرز هذه الدوافع الحاجة إلى هذه العلوم؛ إذ لم تكن هذه النشأة مجرّد تَرَفٍ فكري، أو نشأت دون حاجةٍ، وإنما نشأ العلم في الإسلام لدواعٍ اقتضَتْها الحاجة الحضارية إلى ذلك العلم؛ للإجابة عن المشاغل والمشاكل التي مرَّت بها وعاشَتْها الحضارة العربية الإسلامية([26]).
مرجعيّات الدعوى
من المستندات المحدّدة في غياب العلوم الإنسانية عند بعض الدارسين المشتغلين بتراث الحضارة العربية الإسلامية هو أن الحضارة العربية الإسلامية عادةً ما تسمّى بـ «حضارة الفقه»، وهذه التسمية ليست عَيْباً أو نَقْصاً في حقّ الحضارة العربية الإسلامية، بقدر ما تختزل هذه التسمية المجال المحوري الذي كان الموضوع الغالب والمهيمن في اشتغال علماء الإسلام؛ فالفقه كان حاضراً بقوّةٍ في تراث المسلمين، ولا أدلّ على ذلك من تلك المختصرات والمطوّلات والحواشي التي ازدهَرَتْ في الفقه الإسلامي، وهي الوجه الخاصّ الغالب في الثقافة العربية الإسلامية؛ فالفقه هو أقرب المنتجات إلى العقل العربيّ، وهو الوجه المعبِّر والمجسِّد لخصوصية الحضارة العربية الإسلامية ([27])، بل من الدارسين والمفكِّرين من قيَّد عبقرية الحضارة العربية الإسلامية وخصَّها في الدراسات الفقهية والأصولية والتشريعية، وهو الاختيار الذي دافع عنه مصطفى عبد الرزّاق في أطروحته الجامعية، التي قدَّمها بالفرنسية إلى جامعة السوربون في فرنسا، وكانت بعنوان: «تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية»([28]).
العلوم الإنسانيّة والتحفُّظ من الغياب
في المقابل يذهب كثيرٌ من الباحثين إلى التحفُّظ من هذا القول، ويعدّونه قولاً بعيداً عن الموضوعية؛ فالاعتراف قائمٌ بحضور الدراسات والبحوث والممارسات ذات المنزع النفسي والإنساني والاجتماعي في التراث العربي الإسلامي؛ إذ تبدو البحوث النفسية والاجتماعية والإنسانية بشكلٍ عامّ حاضرةً في هذا التراث، وهو ما يتجسَّد بشكلٍ واضح، وبحضورٍ متميِّز، وبموقعٍ واسعٍ، بين علماء الإسلام وفلاسفته ومفكِّريه، الذين قاربوا الإنسان في كثيرٍ من أبعاده المشكِّلة لشخصيته، وهو ما تُبْدِيه الدراسات والبحوث والكتب المتخصّصة والمصنّفات المصنّفة في هذا الموضوع؛ إذ قارب الفلاسفة المسلمون شخصيّة الإنسان، ومن أبرزهم: أبو بكر بن زكريا الرازي والفارابي وابن سينا وإخوان الصفا والغزالي وابن مسكوَيْه وابن رشد وابن حزم وابن باجة. وهذه الأسماء تمثِّل المرحلة الفلسفية في الدراسات التي لها صلةٌ مباشرة بشخصيّة الإنسان، فهم يجسِّدون المرحلة الفلسفية في دراستهم للنفس البشرية، ولشخصية الإنسان في بُعْدها الاجتماعي بشكلٍ عامّ، ما يدلّ على أن المعرفة بالإنسان كانت من العلوم الرائجة في الحضارة العربية الإسلامية ([29])، بحيث لا نشطّ إذا قلنا: إن علماء العرب والمسلمين قدَّموا إسهاماتٍ جليلةً ومشاركاتٍ رائدةً ومتميِّزة في مجال العلوم الإنسانية، وإنْ كانت هذه المشاركة تعبِّر عن العصر والثقافة التي عاشها ومرّ بها علماء الإسلام، وهذا شأنٌ يعمّ جميع العلوم؛ لأن أيّ علمٍ، كغيره من العلوم، يتطوَّر تَبَعاً للمسار التاريخي الذي تقطعه أغلب العلوم الإنسانية، وعلم النفس لا يحيد ولا يخرج عن هذه القاعدة المعرفية والإبستمولوجية، التي تمرّ بها أغلب العلوم في نشأتها وتطوُّرها.
وممّا ينبغي الإشارة إليه أن علم النفس في التراث الإسلامي لم يكن «صنعةً» تجتمع عليها فئةٌ من الدارسين والباحثين، كما كان الشأن في علم النحو، الذي تحوّل إلى صنعةٍ تجمع النحويّين؛ إذ كان للمسلمين فضلُ السَّبْق والإضافة في كثيرٍ من مجالات الدراسات النفسية.
دلائل وشواهد
إن أكبر الدلائل الدالّة والشاهدة والكاشفة على مدى اهتمام علماء الإسلام بالدراسات النفسية والتربوية والاجتماعية هو حضور التصنيف والتأليف في هذا النوع من التخصُّص المتعلِّق بالتراث التربوي الإسلاميّ بشكلٍ كبير، والذي كان موضع اشتغال علماء الإسلام.
والذي يعكس هذا الحضور هذا الكمّ الهائل من المؤلَّفات والدراسات والمصنَّفات التي اشتغلَتْ على التربية، وعلى طرق التعليم والتدريس، في الإسلام، ومنها:
ـ أدب الدنيا والدين، للماوردي(450هـ)([30]).
ـ سياسة الصبيان، لابن سينا.
ـ كتاب العلم، للحارث المحاسبي(243هـ)([31]).
ـ رسالة المعلِّمين؛ ورسالة تهذيب الأخلاق، للجاحظ(299هـ).
ـ تهذيب الأخلاق، لابن مسكوَيْه(421هـ).
ـ الأخلاق والسير، لابن حزم(456هـ).
ـ جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ النمري القرطبي ([32]).
ـ الرسالة المفصَّلة لأحوال المتعلِّمين وأحكام المعلِّمين والمتعلِّمين، للقابسي(349هـ).
ـ المقدّمة، لابن خلدون(808هـ)([33]).
ـ القانون في أحكام العلم وأحكام المعلِّم وأحكام المتعلِّم، للشيخ العلاّمة الحسن اليوسي المغربي، تحقيق: حميد حماني، مطبعة فضالة، المغرب، 2013م([34]).
فهذه الكتب اعترافٌ جليّ بين الباحثين والدارسين بحضور البحث في القضايا الإنسانيّة، فالعرب والمسلمون قدَّموا إسهاماتٍ جليلةً ومشاركاتٍ رائدةً وكتباً متميِّزة في مجال العلوم الإنسانية، وإنْ كانت هذه المشاركات تعبِّر عن أحوال العصر، وعن الثقافة العامة التي سادَتْ في زمنهم وعصرهم، وهذا شأنٌ عامّ ومشتركٌ، يعمّ جميع أصناف المعرفة الإنسانية والعلوم في نشأتها، وفي تطوُّرها، وفي المسار الذي تمرّ به وتقطعه([35]).
خاتمةٌ
لا تتأسَّس العلوم الإنسانية من فراغٍ، ولا تتأسَّس اعتباطاً، وإنما تنشأ وتتأسَّس نتيجةً لسياقاتٍ تتحدَّد في الحاجة إلى ذلك العلم، تفرض مجموعةً من المعطيات، كما أن خطاب الريادة والأسبقية، ونحن الأسبق والسبّاقون، لا يساهم ولا يفضي إلى تأسيس خطاباتٍ علمية، إنسانية أو غيرها من العلوم باختلاف أجناسها، التي بإمكانها أن تجيب وتستجيب للمشاكل التي يعيشها الإنسان في حاضره ومستقبله.
ما ننهيه من هذه الورقة البحثية حول العلوم الإنسانية وحضورها في التراث العربي الإسلامي أن الاعتراف أو الإنكار لحضور البحث في العلوم الإنسانية لا أهمِّية له، إذا نحن أدركنا المحدودية للقيمة العلمية والمعرفية لهذه البحوث التربوية والنفسية والاجتماعية المنجزة في التراث، ولا سيَّما ما تعلَّق بقدرات هذا المنتوج العلمي التراثي على المستوى المعرفي والعلمي.
الهوامش
(*) باحثٌ في الفكر الإسلاميّ، وحائزٌ على دكتوراه في علم أصول الفقه، وأستاذٌ مساعِدٌ في كلِّية الآداب في وجدة ـ المغرب.
([1]) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل 8: 101.
([2]) محمد وقيدي، ما هي العلوم الإنسانية؟: 11.
([3]) د. عبد الرحمن بدوي، أفلاطون: 154، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1954م.
([4]) خادي مسعودة، التربية والبيداغوجية في فكر إميل دركايم، مجلة جيل، العدد 50، 2017م.
([5]) مصطفى عشوي، نحو تكامل العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية، مجلة التجديد، العدد 2: 58، 1418هـ ـ 1997م.
([6]) علي امليل، الخطاب التاريخي عند ابن خلدون (دراسة لمنهجية ابن خلدون): 17، المركز الثقافي العربي.
([7]) طه عبد الرحمان، حوارات من أجل المستقبل: 28.
([8]) Les grands penseurs des sciences humaines: Nicolas Journet: 78.
([9]) برتراند راسل، حكمة الغرب 2: 5، ترجمة وتقديم: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، العدد 365، 2009م.
([11]) د. سالم يفوت، الفكر الفلسفي والفكر العلمي: 128، ضمن كتاب الفلسفة العربية المعاصرة، مركز الوحدة العربية، 2000م.
([12]) محمد بنعمر، التربية بمقاربة تاريخية، بحثٌ على موقع جريدة الأستاذ، 2016م:
profpress.ma
([13]) عفيفي محمد عبد الهادي، الأصول الفلسفية للتربية: 59، دار وهدان للطباعة، مصر، 1978م.
هامش 14
([14]) Platon ـ Premier théoricien de l’éducation: Georges Minois: 131.
وهو بحثٌ نُشر بمجلة العلوم الإنسانية (Sciences Humaines) الفرنسية، العدد 45، 2016 ـ 2017م.
([15]) برتراند راسل، حكمة الغرب 1: 10، سلسلة عالم المعرفة، العدد 364، ط2، 2009م.
([16]) Platon ـ Premier théoricien de l’éducation: 155.
([17]) عبد الرحمان بدوي، أرسطو عند العرب: 164.
([18]) الذكاء الإنساني (اتجاهات معاصرة وقضايا): 15، تقديم: الدكتور محمد طه، سلسلة عالم المعرفة، العدد 330، 2006م.
([19]) محمد بنعمر، علوم الفهم في التراث العربي الإسلامي: 16.
([20]) أبو الحسين البصري، المعتمد 1: 16 (مقدّمة المحقِّق الدكتور محمد حميد الله).
([21]) طه عبد الرحمان، تجديد لمنهج في تقويم التراث: 93.
([22]) الحوار أفقاً للفكر، محاورة مع المفكر طه عبد الرحمان: 169.
([23]) د. سالم يفوت، نحن والعلم: 41.
([24]) سالم يفوت، تصنيف العلوم عند ابن حزم، مجلة كلِّية الآداب، العدد 9، الرباط ـ المغرب، 2009م.
([25]) رسالة في مراتب العلوم عند ابن حزم الأندلسي 2: 62.
([26]) د. سالم يفوت، مكانة العلم في الثقافة العربية، مجلة ثقافات، العدد 18، 2006م.
([27]) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي: 98.
([28]) علي عبد الرزّاق، من آثار مصطفى عبد الرزّاق، تقديم: طه حسين، دار المعارف، مصر، 1957م.
([29]) إبراهيم محمد الوزاد، مشكل الإنسان في فلسفة ابن باجة: 13، أطروحة دكتوراه في كلِّية الآداب، الرباط ـ المغرب.
([30]) صدر عن دار المنهاج، 2013م.
([31]) اشتهر الحارث المحاسبي(243هـ) بكتبه وبمصنَّفاته في التربية في بُعْدها الروحي، وبالأخصّ بكتابه العلم، الذي حقَّقه محمد عابد، وصدر عن الدار التونسية عام 1987م.
([32]) أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي(463هـ)، كتاب بيان العلم وفضله، حقَّقه: أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط1، 1414هـ.
ولمزيدٍ من التفصيل يراجَعْ: د. عبد الرحمان النحلاوي، أعلام التربية في تاريخ الإسلام (يوسف بن عبد البرّ القرطبي)، دار الفكر، سوريا، 2017م.
([33]) يُراجَع: Mongia Arfa Mensia (أستاذةٌ في معهد السوربون في فرنسا)، نظرية ابن خلدون في التعليم نظريّةٌ سبقَتْ عصرها. وهذا البحث نُشر في المجلة الدولية لعلوم التربية، العدد 79، 2018م. وكان الملفّ بعنوان: Les grandes figures de l’éducation dans le monde
([34]) للمزيد من المعرفة حول شخصية أبي الحسن اليوسي يراجَع الملفّ الضخم الذي خصَّصته مجلة المناهل المغربية، في عددها 15، لشخصية الإمام اليوسي العلمية والتربوية، 1979م.
([35]) د. شقي إبراهيم عبد الحميد، علم النفس في التراث الإسلامي: 35، دار السلام، مصر، 2008م.