أحدث المقالات

د. أحد فرامرز قراملكي(*)

ترجمة: د. الشيخ عبد الله الأسعد

هذا البحث مأخوذٌ من كتابه القيِّم (جستار در منطق دانان مسلمان)، أي (تحقيقٌ في التراث المنطقيّ للمناطقة المسلمين).

مقدّمةٌ

شهاب الدين السُّهْرَوَرْديّ (550 ـ 587هـ)، الشهير بشيخ الإشراق، كان زميلاً لفخر الدين الرازي (547 ـ 606هـ)، حيث درسا علم المنطق عند مجد الدين الجيلي في مدينة مراغة.

وشهرته الفلسفية ومذهبه الإشراقي الذي أسَّسه ألقيا بظلالهما على سائر شؤونه العلمية، وبخاصّة منطقه؛ ولذلك لم يكن في الدراسات التي تناولَتْ فكره ذلك القسط الوافي من دراسة وتحقيق آثاره.

للسهروردي رؤى نقدية وآراء مبتَكَرة كان لها الحضور المؤثِّر في تاريخ تطوُّر علم المنطق في التاريخ الإسلامي. قلّة العناية بإحياء الإرث المنطقي للسهروردي صعَّب على الباحث الوقوف على تلك الآراء، والتي تفتقر إلى دراسات معمَّقة وشاقّة لأجل الوقوف على:

1ـ إبداعات السهروردي.

2ـ تأثيرها في تطوُّر علم المنطق.

لقد نشر حسين ضيائي تحقيقاً تحت عنوان: (المعرفة والاشراق في فكر السهروردي)، باللغة الإنجليزية، وذلك سنة (1990م)، كما أن غلام حسين إبراهيمي ديناني نشر تحقيقاً مفصَّلاً في آراء شيخ الإشراق، ضمَّنها جملةً من رؤاه ونظرياته، وذلك بعنوان: (شعاع الفكر في فلسفة السهروردي)، وذلك سنة (1366هـ.ش).

أما هذا التحقيق الحاضر فيتناول المباحث التالية:

هل يعدّ السهروردي مؤسِّساً في المنطق، كما هو في الفلسفة؟

هل يمكن الكلام عن مذهبٍ منطقيّ خاصٍّ به؟

ما هي خصائص النظام المعرفي لمنطق السهروردي؟

والمسألة الأخيرة يمكن البحث فيها من حيثيّتين:

1ـ حيثيّة البناء المنطقي.

2ـ حيثيّة كونها من الآراء المنطقية التي أبرزها السهروردي.

وقبل الخوض في هذه المسألة لا بُدَّ من الوقوف أوّلاً على آثاره المنطقية، والإشارة إلى كلّ واحدٍ منها بما يناسب.

الآثار المنطقيّة للسُّهْرَوَرْديّ

لا يوجد للسهروردي مؤلَّفٌ مستقلّ في علم المنطق، وإنّما ـ بناءً على السنّة الرائجة لدى الكثير من الحكماء ـ كانت آثاره المنطقية ضمن الآثار الفلسفية، حيث كان يأتي القسم الأوّل منها في علم المنطق.

إذن الآثار المنطقية للسهروردي ليست كتباً مستقلّةً، وإنّما هي عبارةٌ عن آثار ضمن كتبه الفلسفية الجامعة، حيث يتم فيها بيان المسائل المنطقية العُمْدة، إجمالاً تارةً؛ وتفصيلاً أخرى.

ويمكن تقسيم الآثار المنطقية للسهروردي إلى مجموعتين:

الأولى: رسائل منطقية لدواعٍ تعليمية، حيث اتَّبع في صياغتها إلى حدٍّ ما سنّة القدماء، والتزم فيها الاختصار، حيث جاءت الرسائل مختصرةً، وفي نفس الوقت بسيطةً وسهلة.

الثانية: رسائل منطقية مفصَّلة لدواعي التحقيق، وبسط الآراء المنطقيّة، حيث كان الشيخ فيها نقّاداً، وقدجاء بالمبتَكَر الجديد المهمّ.

1ـ قسم المنطق في كتاب «حكمة الإشراق»

الكلام في أهمّية كتاب حكمة الإشراق كثيرٌ، وهو ما تكشف عنه الشروحات المتعدِّدة له.

لقد تمّ نشر هذا القسم ضمن المجلد الثاني من مصنَّفات شيخ الإشراق السهروردي، بتصحيح: الراحل هنري كوربان(1355هـ.ش). وقد كان لهذا القسم تأثيرٌ عميق في فكر المتقدِّمين.

اشتمل القسم الأوّل من هذا الكتاب على أهمّ المسائل المنطقية، حيث عمد السهروردي إلى عرضها بلغةٍ موجزة وأسلوبٍ تعليمي، وقد كان يتخلَّل ذلك مواقف نقديّة للشيخ.

فعلى سبيل المثال: ما جاء في نقد السهروردي لمنطق التعريف عند المشّاء، حيث عمد الى هَدْمه.

لقد كان يشير إلى مختصّاته وابتكاراته بعباراتٍ مثل: قاعدة إشراقية، دقيقة إشراقية، حكمة إشراقية. ولقد كان هذا الأثر المنطقي نموذجاً لصدر المتألِّهين في رسالته التنقيح في المنطق.

2ـ قسم المنطق في كتاب «اللمحات»

كتاب اللمحات كتابٌ موجَز ومختصر، وشاملٌ لأهمّ المباحث المنطقية والفلسفية، وقد جاء إلى حدٍّ كبير وفق سَبْك القدامى ـ وسوف يتَّضح المراد من القدامى ضمن هذه المقالة([1]) ـ.

وهو كتابٌ موجزٌ كُتب لداعي التعليم، وقد تمّ نشره ضمن المجلّد الرابع من مجموعة آثار شيخ الإشراق، بتصحيح: نجف قلي حبيبي، وذلك سنة (1380هـ.ش).

3ـ قسم المنطق في كتاب «التلويحات»

لقد تمّ تصحيح هذا القسم وتحقيقه ونشره بشكلٍ مستقلّ في إيران سنة (1388هـ.ش) من قِبَل الدكتور علي أكبر فيّاض.

يشبه هذا الكتاب إلى حدٍّ كبير كتاب اللمحات، غير أنه أكثر تفصيلاً، وأسلوبه التعليمي ممّا لا يخفى.

والذي يبدو لي هو أنّ الشيخ صاغ أفكاره هاهنا وفق كتاب اللمحات، لكن المنهج النقدي الجادّ غاب عنه، فلم يُلْحَظ فيه.

4ـ قسم المنطق في كتاب «المشارع والمطارحات»

وهو الأكثر تفصيلاً من بين آثار السهروردي، حتى اشتمل على أقسام العلوم الحكمية، وأمعن في التفصيل في المسائل المنطقية، حيث عرض آثار القدامى، ولا سيَّما آثار الشيخ أبي عليّ. كما أنّه عمد إلى تحليلها ونقدها في كلّ موضعٍ موضعٍ، وبالتالي فالمسائل التي لم يتناولها قليلةٌ جدّاً.

أمّا مرادنا من النقد هاهنا فهو التحليل (to Criticize)، وليس صرف الهدم وذكر الخلل (to Critique).

يُعَدّ كتاب المطارحات من الكتب المهمّة التي تطرح الآراء البديعة لشيخ الإشراق، ورؤاه النقدية لآراء القدامى. وممّا تحسن الإشارة إليه هو أنّ قسم المنطق من المطارحات تم ّتصحيحه ونشره أخيراً في إيران، وذلك باهتمامٍ وعنايةٍ من الدكتور مقصود محمدي، وإشراف: عالي پور، وذلك سنة (1385هـ.ش).

5ـ قسم المنطق في كتاب «المقاومات»

لم يُنْشَر هذا القسم إلى الآن، غير أن الراحل هنري كوربان قام بتصحيح قسم الإلهيّات، ونشره سنة (1355هـ.ش).

مناهج التبويب في الآثار المنطقية

يكشف التتبُّع للآثار المنطقية المؤلَّفة في العصر الإسلامي عن وجود تبويبٍ ملحوظ في عرض المسائل المنطقية، لكنْ لم يكن التبويب وَقْفاً على نحوٍ واحد منه، علماً أن التبويب هو عبارةٌ عن بحث المسائل المنطقية ضمن أبواب وفصول متعدِّدة.

لكن الطريقة المتعارفة في التبويب هي طريقة الأبواب التسعة، وهي التي تبدأ من كتاب إيساغوجي، ثم المقولات، ثم العبارة، ثم القضايا، ثم القياس (التحليل الأول)، ثم البرهان (التحليل الثاني)، ثم الجَدَل، والخطابة، والشعر والمغالطة.

وهذا ما التزم به أبو عليّ في الشفاء، ثم ليتخلّى عنه في الإشارات، ويعتمد تبويباً آخر غيره؛ فقد حذف المقولات؛ لأنها ليست من مسائله، وإنّما من مبادئه.

كما أنه عمد إلى مباحث الحدود فأخرجها عن كتابَيْ البرهان والجَدَل، ليجعلها فيه مستقلّةً متقدّمةً على كتاب العبارة.

هذا الإنجاز في الإشارات وغيره من الآثار كان موضع تلقٍّ وقبولٍ من المتأخِّرين، حيث أصبح تدوين الكتب المنطقية يقوم على التبويب ذي البابين المستقلّين: منطق التعريف؛ ومنطق الحجّة.

التبويبان المذكوران هما الأشهر، لكنْ يوجد تبويبٌ غيرهما، حيث نجد كلاًّ من: ابن سهلان السّاوي من المتقدِّمين؛ وجابر الأنصاري ـ مؤلِّف تحفة السلاطين ـ من المتأخِّرين، يسعيان للدمج بين المنهجين الآنفين في التبويب، ليتكوَّن منهجٌ تلفيقي جديد. وهنا يلحّ السؤال: وفق أيٍّ من مناهج التبويب دوَّن الشيخ آثاره؟ هل دوّنها وفق منهج الأبواب التسعة، أم البابين، أم التلفيق بينهما، أم أن هناك منهجاً رابعاً غير كلّ ما ذُكر؟

المدّعى هاهنا هو أنّ الشيخ السهروردي اعتمد التبويب الثاني، أي  إن السهروردي كان يدرك تماماً الفَرْق بين البناء الذي قام عليه كتاب الشفاء والبناء الذي قام عليه كتاب الإشارات، فاختار الثاني، وفق رؤيته العميقة للفَرْق بين البناءين، حيث اعتمد على المنطق ذي البابين، لا الأبواب التسعة، كما هو الحال بالنسبة إلى الفخر الرازي الذي كان يمرّ في عملية تطوير وتهذيب المنطق في البابين بمرحلةٍ انتقالية.

وبالتالي فإنّه يمكن وضع آثار شيخ الاشراق من حيث تكوُّن وتكامل المنطق ذي البابين من خلال العبور من الإشارات إلى كمال المنطق المذكور في القرن السابع، وهذا ما سوف نلمسه من خلال كلّ رسالةٍ من رسائله.

هيكليّة الآثار المنطقية

1ـ في «حكمة الإشراق»

لقد رتَّب السهروردي قسم المنطق من هذا الكتاب على ثلاث مقدّمات:

1ـ المعارف والتعريف.

2ـ الحجج ومبادئها.

3ـ المغالطات وبعض المحاكمات بين كلام الإشراق وبعض كلمات المشّاء.

لقد بحث السهروردي في المقدّمة الأولى عن: الدلالة، وانقسام العلم إلى: تصوُّر؛ وتصديق، ومباحث الكلِّيات، حيث كانت هذه المقدّمة بمنزلة المقدّمة في منطق التعريف.

وقد جاءت كلمات الشيخ السهروردي موحيةً بأن استعمال الكلِّيات الخمسة خاصّ بمنطق التعريف، ولذا فقد راح يبحث في شروط التعريف والحدود.

لقد قام منطق التعريف عند السهروردي على أساس بيان قاعدة الإشراق في هدم أساس التعريف لدى المشّائين.

أما المقدّمة الثانية فقد جرى البحث فيها عن: القضية، وأقسامها، وجهاتها، والتناقض، والعكس، كمقدّمة لمنطق الحجّة، ثم تمّ الشروع في بيان القياس، وموارد القياس البرهاني، والتمثيل، وأقسام البرهان، وبيان المطالب، حيث يمكن عدّ المباحث الأخيرة كخلاصة لعلم المناهج.

أما المقدّمة الثالثة فقد بدأها بعرضٍ مفصَّلٍ للمغالطات ورفعها، ولذلك فقد حظيَتْ المغالطات بعنايةٍ فائقة منه، حيث جعلها في مبحثٍ مستقلٍّ جاء به بعد التعريف والحجّة، مخالفاً بذلك القدماء.

كما كانت عناية السهروردي بالبرهان ملحوظةً أيضاً، وما عنايته هذه بكلٍّ من صناعة البرهان؛ وصناعة المغالطة، من بين الصناعات الخمس، إلاّ تأثُّراً بالشيخ الرئيس.

لقد أورد الحكيم السهروردي في هذه المقالة آراءه النقدية لبعض آراء المشّاء، وذلك كالعكس، وقد جعل ذلك بمثابة الملحق بمباحث علم المنطق.

2ـ في منطق «التلويحات»

هناك فوراق عدّة يمتاز بها منطق التلويحات عن منطق حكمة الإشراق، وهي:

1ـ أكثر تفصيلاً.

2ـ أشمل من حيث المباحث.

3ـ وجود التغيُّر الهيكلي.

يشتمل هذا القسم من المنطق على ستّة أقسام، بعنوان (المراصد)، حيث زاد على حكمة الإشراق ثلاثة مباحث.

المرصد الأوّل: جاء تحت عنوان: (إيساغوجي). كما اشتمل على البحث عن الرؤوس الثمانية، والدلالة، والكلِّيات. ولا يعلم مَنْ صرف عبارته حول الكلِّيات بأن استعمالها كان مختصّاً بمنطق التعريف أو الأعمّ منه والحجّة. وهذا خلاف ما أفاده في حكمة الإشراق.

المرصد الثاني: لقد جاء تحت عنوان: (القول الشارح)، حيث تمّ في هذا المرصد عرضٌ تفصيلي لمنطق التعريف، وقد ختمه ببيان وجوه الخطأ في الحدّ والرسم، مما يُعَدّ ثمرةً لمنطق التعريف.

المرصد الثالث: اشتمل على مباحث التركيب الخبري.

المصد الرابع: اشتمل على مباحث: الجهات، التناقض، والعكس أيضاً.

وهذان المرصدان الأخيران يُعَدّان بمنزلة المقدّمة لمنطق الحجّة، وإنْ كان بنحوٍ مختصر.

المرصد الخامس: في تركيب الحجج، حيث تم البحث مفصَّلاً في القياسات الاقترانية: الحملية؛ والشرطية، وكذلك القياس الاستثنائي.

المرصد السادس: في تصنيف المطالب وموادّ الأقيسة.

إنّ منطق التلويحات، وخلافاً لمنطق الإشارات، اشتمل على مباحث البرهان، مستقلّةً عن القياس، منضمّةً إلى المغالطات في قسمٍ واحد.

هذا النظام الحاكم في التلويحات يكشف عن ترابط هذه المباحث الوثيق.

3ـ في منطق «اللمحات»

هو كتابٌ مختصر جدّاً، مُعَدٌّ للتعليم.

لقد اشتمل هذا الكتاب على عشرة أقسام عمدة، تمَّتْ عنونة كلّ قسمٍ بعنوان: (المورد)، كما كتب الشيخ أبو عليّ الإشارات وفق منهاج عشرة.

المورد الأوّل: تحت عنوان: (إيساغوجي)، فهو من حيث مباحثه مثل القسم الأوّل من التلويحات.

المورد الثاني: تحت عنوان: (الأقوال الشارحة)، حيث يبحث في منطق التعريف. كما تمّ التعرُّض لنماذج من أخطاء التعريف.

المورد الثالث: تحت عنوان: الاسم اليوناني (باري أر ميناس)، حيث اشتمل على مقدّمةٍ في أنحاء وجود الشيء، حيث جرى البحث عن القضايا وأقسامها.

المورد الرابع: في جهات القضايا، والتناقض، والعكس.

المورد الخامس: التركيب الثاني (ترجمة الاسم اليوناني). وهو في الحجج، حيث يبحث في القياس الاقتراني والاستثنائي.

المورد السادس: في قياس الخُلْف، والعَكْس، والدَّوْر، واكتساب المقدّمات والاستقراء، والنتائج، حيث بحث ذلك في قسمٍ مستقلّ، خلافاً لما في التلويحات.

المورد السابع: وقع البحث فيه عن أصناف المسائل، وموادّ الأقيسة.

المورد الثامن: في أصناف ما يحتجّ به، والتحقيق في مباحث مثل: الاستقراء والتمثيل والقياس.

المورد التاسع: بحَسَب المتن المصحَّح من قِبَل: الدكتور نجفقلي حبيبي كان في البرهان والمغالطة، كما هو الحال في التلويحات.

لكنّ التصحيح المذكور لم يكن منسجماً مع ما أكّد عليه السهرودي في البداية من أن الكتاب على عشرة موارد، إلاّ إذا كان عدم ذكر المورد العاشر بسبب عدول السهروردي عن العشرة إلى التسعة، وهو ممّا لا دليل عليه([2]).

وبناءً على التصحيح المذكور يكون النظام الحاكم على منطق التلويحات هو نظام الأبواب التسعة.

أما لو اعتمد المصحِّح على نسخة (A.M)، حيث تكون المغالطة بحثاً مستقلاًّ، وهو المورد العاشر، بينما تكون اللمحة الخامسة هي المورد التاسع، فإنه سيكون مناسباً لما أفاده السهروردي في مقدّمة الكتاب.

إذن، فالمغالطة بحثٌ مستقلٌّ هاهنا، وكذلك في منطق حكمة الإشراق، وكذلك منطق المشارع.

4ـ في منطق «المشارع والمطارحات»

هو أثرٌ آخر من آثار الحكيم السهروردي تمّ تدوينه وفق الأبواب التسعة. وقد أطلق على كلّ بابٍ فيه اسم المشرع، وقد جاء شبيهاً بكتاب اللمحات، إلاّ في موردٍ واحد، حيث تمّ درج البحث عن توابع القياس (القياس، والعَكْس، والدَّوْر، والخُلْف، واكتساب المقدّمات و…) ضمن مباحث القياس، لا كما كان الحال في اللمحات، حيث تمّ عرض المذكورات ضمن قسمٍ مستقلّ.

وقد وافق سَبْكُ المشارع السَّبْكَ الرائج لدى المناطقة.

كما أنّ الرائج لديهم هو أن مباحث الاستقراء والتمثيل يؤتى بها في كتاب القياس، وهو ممّا لم يلتزم به السهروردي، حيث خصَّها بقسمٍ مستقلّ، وكذلك فعلها هاهنا، حيث جاء بكلٍّ من: الاستقراء والتمثيل ضمن قسمٍ مستقلّ، تحت عنوان: (أصناف ما يحتجّ به من الأمور الجَدَلية).

كما أنّه فصل المغالطة هنا عن البرهان، فكانت مستقلّةً عنه، وذلك ضمن المشرع التاسع.

5ـ في منطق «المقاومات»

لا يمكن الكلام عن النظام البنيوي لهذا الكتاب سوى ما أفاده نفس السهروردي، من أنّه مجرّد تعليقات ومباحث تكميلية لمنطق المطارحات، وليس بأيدينا شيءٌ عنه غير هذا.

التحليل البنيوي للآثار المنطقية

تبدأ كلّ آثار السهروردي المنطقية بكتاب (إيساغوجي)، وتنتهي بكتاب (المغالطة). ومن المعروف أن إيساغوجي هو المدخل للمنطق الأرسطي. لقد تناوله السهروردي، وخلافاً للقدامى فقد أدرج فيه مباحث مثل: الرؤوس الثمانية، الدلالة، ومباحث الألفاظ. أما ختم المباحث المنطقية بالمغالطة فهو منسجمٌ مع سنّة أرسطو، كما أنّ المتوقَّع من المنطق كذلك؛ إذ يُراد به كسب المهارات التي تعين على تشخيص المغالطة، وعلاجها.

البحث في النتاج المنطقي للسهروردي، وذلك من خلال الوقوف على الأقسام المنطقية المذكورة آنفاً، يوقفنا على مدى تنوُّعها: ثلاثة أقسام من حكمة الإشراق، ستّة أقسام في التلويحات، وعشرة في اللمحات، وتسعة في المشارع.

لا يمكن تحديد النظام البنيوي الحاكم على هذه الآثار من خلال عدد الأقسام، وإنّما الذي يعين على ذلك هو تحليل محتوى هذه الأقسام، فهو الجدير بالكشف عن الجواب.

غابَتْ المقولات عن آثار السهروردي تماماً، فلم يبحث عنها في أيٍّ من آثاره المنطقية، والسرُّ في ذلك هو العمل وفق توجيه الشيخ أبي عليّ، فهي ـ المقولات ـ ليست من مسائل علم المنطق، وإنما من مباديه([3]).

لقد سبك السهروردي آثاره المنطقية كلّها وفق النظام الحاكم على الإشارات، حيث أكّد ابن سينا على أهمِّيتها، لكنه أصرّ على عدم كونها من صميم علم المنطق ومسائله، وإنّما هي من مبادئه.

ومع هذا فقد أضاف السهروردي أمرَيْن:

1ـ الادّعاء بأنّ المقولات التي يتمّ عرضها في القسم الأوّل من منطق أرسطو الأرغانون ليست لأرسطو، كما هو الرائج المتعارف، وإنّما هي لشخصٍ فيثاغوري يدعى «أرخوطس»([4]).

2ـ القول بقلّة فائدة البحث عن المقولات([5]).

وهو كلامٌ متقدّم في المنطق. كما أن تحليل القضية لا يقتصر على الواقعية الأرسطية، والقول بالكلّي الطبيعي، وإنما يمكن ذلك حتّى في الموضوعات التي لا ماهيّة محصّلة لها.

وأما مباحث التعريف (الحدّ والرسم) فقد جاءَتْ في جميع آثاره مستقلّةً، ومتقدّمةً على مباحث القضية والحجّة.

الاستقلال والتقدُّم المذكوران إنّما كانت بدايتهما من بعض الآثار المتأخِّرة لأبي عليّ، أمثال: الإشارات، فهما واحدةٌ من أهمّ خواص المنطق ذي البابين؛ بينما جاءت المباحث المذكورة في الآثار التي يحكمها المنطق ذو الأبواب التسعة ضمن كتاب البرهان وكتاب الجَدَل.

إذن، فالسهروردي في حذفه للمقولات، واستقلال مبحث التعريف، وتقدُّمه على مبحث القضية والحجّة، قد خطا خطوةً من سنّة المنطق ذي الأبواب التسعة إلى سنّةٍ جديدة، هي سنّة المنطق ذي البابين.

هذا القسم من منطق حكمة الإشراق يقوم على نظام البابين، حيث جاءَتْ المقالة الأولى في مقدّمات التعريف ومنطق التعريف؛ بينما كانت الثانية في مقدّمات الحجّة ومنطق الحجّة؛ بينما أفردَتْ الثالثة لبيان أن المنطق في تشخيص المغالطات.

البناء المذكور قد تمَّتْ المحافظة عليه ورعايته دون أن تخدش به المقدّمات والملاحظات الكثيرة.

لم يتعرَّض الشيخ أبو عليّ في الإشارات لكلٍّ من: الجَدَل والخطابة، كما فعل في الشفاء، سوى كما أفاده في النهج السادس، وفي معرض بيان مبادئ الأقيسة، حيث اقتصر على الإشارة لمقدّمات الجَدَل والخطابة فيه.

لقد اكتفى ابن سينا بالبحث عن البرهان والمغالطة، دون سائر الصناعات. وقد تبعه في ذلك السهروردي. لكنّ استقلال البرهان والمغالطة في قسمٍ في مقابل الحجّة، كما هو ظاهر الإشارات وآثار السهروردي، لا يخلو من غموضٍ وإبهام.

لقد تمّ درج البرهان ضمن مباحث الحجّة، أي في المقالة الثانية، لكن السهروردي في بقيّة آثاره يجعل كلاًّ من البرهان والمغالطة قسماً واحداً مستقلاًّ.

ويمكن فهم الاستقلال المذكور على نحوَيْن:

1ـ البرهان والمغالطة يتضمّنان مباحث مناهج المعرفة، وهي المباحث التي راحَتْ تنتظم تدريجاً في عُرْف المنطق التدويني، وقد تمّ التعاطي معها من قِبَل مناطقة أمثال: الكاتبي القزويني على أنها ملحقةٌ بعلم المنطق.

2ـ البرهان هو الصورة الكاملة للحجّة.

إذن، فالبحث عن البرهان هو البحث عن النموذج الأمثل للحجّة، بينما يأتي البحث عن المغالطة بحثاً عن الشكل العقيم والمعيوب لها، وذلك يؤدّي إلى كسب تفكيرٍ سالمٍ، والوقاية من التفكير المنحرف.

تحليل المحتوى المنطقي لمذهب شيخ الإشراق

التبعية لإشارات أبي عليّ، والخلاف بين النظامين: العمدة؛ ومنافسه (ذي البابين وذي الأبواب التسعة)، لا ينحصر في الإطار البنيوي، كاستقلال بعض المباحث وعدمه، أو تقديم بعضها وتأخير بعضٍ آخر، وإنّما الخلاف واقعٌ في المعضلات المنطقية، وحلولها أيضاً.

منشأ الكثير من التمايز والاختلاف إنما هو من المباحث المنطقية لأبي عليّ في كتابه الإشارات والتنبيهات.

والأهمّ من هذه المسائل عبارةٌ عن: التعريف الذاتي، تعريف القضية، القضايا الحقيقية والخارجية، هيكل معنى الحدّ و….

وفي أغلب المواضع التي عدل الشيخ عنها في الشفاء، واعتمدها في الإشارات، بادر السهروردي إلى المَيْل إليها وترجيحها.

وهاهنا يمكن عرض المثال الأبرز على ذلك، حيث يمكن الاكتفاء بتعريف القضية، حيث يعرِّف الشيخ القضية في الشفاء بأنها التي تقبل الصدق أو الكذب بالذات([6])، لكنّه عدل عنه في الإشارات الى القول بأنّها المركَّب الذي يوصف المخبر بأنّه صادقٌ أو كاذب([7]). وهو تعريفٌ مبتلىً بمآخذ عديدة، كتعريف الشيء بحال متعلَّقه، وزيادة الحدّ على المحدود، والتطويل، و…. لكنّ السهروردي بحِنْكَته ودَرْكه لسر ّعدول أبي عليّ عن التعريف القديم قَبِلَ تعريف الإشارات، وأخذ به في كلّ آثاره([8]).

وقد أصبح هذا التعريف من خصوصيات المنطق ذي البابين، من الإشارات إلى كشف الأسرار، للخونجي.

إبداعات السُّهْرَوَرْديّ المنطقيّة

رغم عمر السهروردي القصير لكنّه ترك بصمته في علم المنطق، وذلك من خلال ابتكاراتٍ عديدة فيه؛ فقد أدرك الحكيم السهروردي عميقاً:

أوّلاً: أنّ المنطق الأرسطي المشّائي يشتمل على مشاكل عديدة، ولذلك تراه قد أمعن في نقده، وبشكلٍ دقيق ومفصّل، في كتابه المطارحات.

كما أنه قد أدرك ثانياً قيام منطق المشّاء على الحكمة المشّائية، وقد رأى أن حكمة الإشراق يمكن أن تكون أساساً يقوم عليه نظامٌ منطقيّ آخر.

لم يتفاعل مع هذا المنطق الجديد، لكنْ كانت له رؤى جديدةٌ متعدِّدة. وأهم هذه الرؤى هي رؤية إرجاع كل القضايا إلى القضية الحملية الكلّية الموجبة الضرورية. وهذا الادّعاء قائمٌ على أربعة ادّعاءات:

الادّعاء الأوّل: القضايا الشرطية من حيث المضمون والمعنى هي الحملية، والفرق يكمن في الصياغة، لا غير.

فالقضية الشرطية: (إذا أشرقت الشمس فالنهار موجود) إنما هي صياغةٌ وبيان آخر للقضية الحملية التالية: (شروق الشمس مستلزمٌ لوجود النهار).

هذا على مستوى الشرطية المتصلة؛ وأما المنفصلة فالكلام هو الكلام، فقولنا مثلاً: (هذا العدد إمّا زوجٌ أو فردٌ) تعبيرٌ آخر عن القضية الحملية التالية: (كون هذا العدد زوجاً معاندٌ لكون هذا العدد فرداً).

هذه الرؤية المتطرِّفة للسهروردي لم تَلْقَ قبولاً، والذي صار سنّةً حاكمةً في الحضارة الإسلامية هو أنّ الحملية هي شرطيّةٌ.

كلٌّ من الرأيين الآنفين: الشرطية هي حملية بلحاظ المعنى؛ الحملية ترجع إلى شرطية، قائمٌ على معنى غير مناسب للشرط؛ لأن الشرط ـ سواء كان استلزاماً أو عناداً بين طرفي الشرطية: المقدَّم والتالي ـ تارةً يكون بين صدقهما؛ وأخرى بين وجود شيئين، كالمستقلّ والرابط، وأحد المعنيين غير الآخر.

الادّعاء الثاني: إمكان إرجاع القضايا السلبية إلى قضايا موجبةٍ؛ لأن الحمل في أساسه الإيجاب. وهذا الإبداع يمكن تحليله إلى معانٍ عدّة: تحليل يفيد بأن المراد على مستوى المعنى، حيث إن الشيخ أبا عليّ، في الإرشادات، وفي معرض تحليله للسالبة الكلية المطلقة، اعتمد على تحليل الموجبة الكلية: كلّ واحدٍ واحدٍ من (أ) يسلب عنه (ب).

الادّعاء الثالث: لا دقّة منطقية في القضايا الجزئية، فهي في قوّة المهملة: مهملة جزئية، والمطلوب في العلوم إنّما هو الحكم الكلّي. فعندما نقول مثلاً: «بعض الجامعيين موفَّقون» فإنّ المراد من موضوع هذه الجزئية غير معيَّنٍ ولا مشخّصٍ، مع أن لغة العلم يفترض بها أن تكون دقيقةً معينة. لكنْ إذا تمّ درج «بعض الجامعيين» تحت اسم مفهوم، وليكن «المجدُّون»، فإنّه يمكن الحكم الكلّي التالي: «الجامعيون المجدّون موفَّقون».

الادّعاء الرابع: رجوع القضايا الممكنة إلى ضرورية؛ فالقضية الممكنة: «الإنسان موجودٌ بالإمكان» يمكن تحويلها إلى «الإنسان ممكن الوجود بالضرورة».

ولم يَحْظَ هذا الإبداع بعد السهروردي بعنايةٍ تُذْكَر، ولكنّ الدراسات الفكرية المنطقية للخُلْف كانت مدينةً لإبداعات السهروردي، فهي التي تشير إلى مدى ذلك.

فعلى سبيل المثال: لقد استند الخواجة الطوسي في تحديدات الحملي والشرطي على أنهما صنفان أم قسمان على ادّعاء السهروردي الأوّل([9]).

البحث في اعتبار القضية سالبة المحمول، الذي بدأ من الخونجي وانتهى بالمُلاّ صدرا، إنما هو في الواقع مضمون الادّعاء الثاني للسهروردي([10]).

والادّعاء الأخير هو المشهور، حيث نجد الحكيم السبزواري&، تأثُّراً بالمُلاّ صدرا&، ينهمك فيه تأمُّلاً ونقداً، حيث نسب للسهروردي في اللآلي المنظمة (منطق المنظومة) إرجاع القضايا الموجبة إلى القضية الضرورية:

والشيخ الإشراقي ذو الفطانة *** قضيّةً قصَّر في البتّانة

ويمكن تلمُّس نظرية السهروردي هذه في أساس نظرية الـ «منادلوجي» عند لايبنتز، وكذلك في تحليل القضايا بناءً على أساس المنادلوجي.

الوحيد بعد السهرودي الذي قَبِلَ الادّعاءات الأربعة المذكورة، وتعامل معها على أساس أنها نظريّةٌ واحدة، هو صدر المتألِّهين& في التنقيح، حيث اعتبر ذلك منعطفاً مهمّاً في علم المنطق([11]). ولقد تناولنا في مقدّمة التنقيح هذه الرؤية مفصَّلاً.

 

التمثيل لدى شيخ الإشراق

نموذجٌ آخر من آراء السهرودي الخاصة هو رأيه في التمثيل، حيث جاء رأيه فيه متطابقاً مع رأي السَّلَف من المناطقة، فقد أورد نقد أبي عليّ في ردّ حجِّية التمثيل([12])، حيث التزم رأياً متشدِّداً في دَوْر ووظيفة التمثيل.

يرى الفارابي (260 ـ 339هـ) التمثيل كالاستقراء، له وظائف ثلاث: فهم الأمور، الحفظ، والتصديق في بعض الموارد([13]). ومقصوده من بعض الموارد كلٌّ من: التصديق الظنّي والإقناعي، وأما مراده من فهم الأمور فهو التعريف.

أما ابن سينا فلا يرى قيمة للتعريف بالتمثيل، إذ هو ليس تعريفاً أساسياً حقيقياً، وإنما هو شيءٌ مثل التعريف، وهو لا يخلو من أخطاء كثيرة([14]).

أما السهروردي فلم يقبل بالتمثيل وسيلةً للتعريف مطلقاً. وقد استدلّ على عدم صلاحية التمثيل للتعريف أيضاً([15]) بإبداع السهروردي في مسألة التمثيل على تصوُّره الخاصّ للتمثيل، وتعريفه له. فرغم اتباع السهروردي للمشّاء، وخصوصاً في التلويحات واللمحات، لكنه امتاز عنهم في قضيّة التمثيل.

المشّاؤون، واقتفاءً منهم لأرسطو، يرَوْن أن التمثيل عبارةٌ عن انتقال الحكم وسريانه من جزئيٍّ إلى جزئيٍّ آخر مثله([16]).

لم يأخذ السهروردي الجزئيّ في تعريف التمثيل، ولو في واحدٍ من آثاره، وإنما أخذ في اللمحات([17]) مفهوم الشيء في تعريفه للتمثيل، وهو تعبيرٌ قريب من بيان جمهور المناطقة؛ لكنه استعمل كلمة (أمر) في حكمة الإشراق([18]). ومعلومٌ أن مفهوم الأمر هذا أعمّ من الجزئيّ، وهو شاملٌ للكلِّي والجزئيّ. لكنّ ملاّ صدرا الشيرازي يأخذ كلمة الأمر في تعريف الجزئيّ([19]). غير أن السهروردي عدل إلى استعمال لفظٍ آخر في تعريفه للتمثيل، وذلك في كتاب المشارع، الذي يعدّ آخر عمل له، فقد جاء بلفظ «أمر معقول» عوضاً عن لفظ الجزئيّ، الذي جرَتْ عادة المشّاء على درجه ضمن تعريف التمثيل.

وهنا أسئلةٌ تطرح في سرّ هذا العدول:

1ـ ما هو الداعي إلى هذا التغيير؟

2ـ بمَنْ وبمَ تأثَّر السهروردي حتّى عدل هذا العدول، وأحدث هذا التغيير؟

3ـ ما هو أثر هذا التغيير على الاعتبار المنطقي للتمثيل؟

الذي يعين على فهم ما أحدثه السهروردي في هذه المسألة هو أن زميله الفخر الرازي تجنَّب أيضاً ذكر لفظ الجزئيّ في تعريفه للتمثيل، فلم يورد ذلك اللفظ في أيٍّ من آثاره، وإنّما اعتمد على تعبيرٍ كلّي ومُبْهَم «محلّ وفاق ومحلّ خلاف»([20]). وهذا يؤشِّر ـ على نحو الاحتمال ـ على أنّ المؤثِّر في ذلك هو أستاذ كلٍّ منهما، وهو مجد الدين الجيلي، الذي تحرَّز من أخذ لفظ الجزئيّ في تعريف التمثيل، والذي ترك الأمر غامضاً محيِّراً هو أنّ واحداً منهما لم يذكر توضيحاً لذلك التغيير.

النكتة المهمة في فهم كلام السهروردي هو التعارض الظاهري بين كلامه وعبارة أرسطو.

في التحليل الأوّل: طريق التمثيل لا هو عبارة عن العلاقة ما بين الجزئيّ والكلّي، ولا هو عبارة عن الرابطة بين الكلّ والجزء، كما هو الحال في القياس، وإنما هو عبارةٌ عن رابطة الجزء بالجزء.

لقد فهم الشرّاح العبارة المذكورة بصورتين:

الأولى: تفسير جمهور المناطقة الذين يرَوْن أن أرسطو يعتقد أن الاستدلال ثلاثة أنحاء:

1ـ الانتقال من الكلّي إلى الجزئيّ (القياس).

2ـ الانتقال من الجزئيّ إلى الكلّي (الاستقراء).

3ـ الانتقال من الجزئيّ إلى الجزئيّ (التمثيل).

وهذا الفهم مطابقٌ للترجمة الإنجليزية، طبعة أدلر، وكذلك تفسير ابن رشد (520 ـ 595هـ)([21]).

الثانية: تفسير الفارابي للعبارة المذكورة المنسوبة لـ (تذاري أوياثياذورس)([22])، حيث يقول في المثال: انتقال الحكم من الجزئيّ لا يكون مجرّداً وعارياً عن الكلّي، وكذلك الانتقال من الكلّي لا يكون مجرّداً عن الجزئيّ، كما هو الحال في القياس، وإنما الانتقال يكون من الجزئيّ مقروناً بالكلّي، أو الكلّي مقروناً بالجزئي. وبهذا يكون هذا الجزئي معتبراً كما هو الكلّي([23]). وهذه الترجمة العربية، وكذلك الفارسية، لأديب سلطاني، للأنمانوت([24]) هما الأنسب لهذا الشرح. إذن يمكن فهم كلام شيخ الإشراق ضمن هذا السياق.

يؤكِّد السهروردي على قاعدة: (الجزئيّ لا يكون كاسباً ولا مكسوباً)، وأنها بمنزلة قاعدة منطقية، وأساسٌ في نظرية المعرفة، لكنّها تتنافى مع أيّ نحوٍ من أنحاء اعتبار التمثيل، سواء كان يقيناً أو ظنّاً، وذلك إذا أخذ التمثيل وفق تعريف الجمهور. ولذا فإن أخذ (الأمر المعقول) في تعريف التمثيل كفيلٌ برفع التنافي في البين.

وهناك تعبيرٌ آخر للسهروردي ينهض بحلّ معضلةٍ أخرى غير المعضلة سالفة الذكر. وهذه المعضلة هي التي يعرضها ابن تيمية بشكلٍ مفصَّل، وهو ما يمكن عرضه من خلال التالي:

ـ مبدأ علمنا بالخارج إنما هو بالجزئيّات.

إذن، أساس علمنا بالخارج هو القياس التمثيليّ.

ـ القياس المنطقيّ يقوم على التمثيليّ.

ـ فإذا لم يكن التمثيل معتبراً فكذلك يكون القياس المنطقيّ غير معتبرٍ.

أما على مبنى السهروردي فالتمثيل ليس عبارةً عن انتقال الحكم من جزئيٍّ إلى جزئيٍّ آخر، بل انتقال الحكم من جزئيٍّ بما هو جزئيّ إلى جزئيٍّ آخر بما هو جزئيّ محالٌ.

وليس أبداً علمنا الخارجي يرجع إلى العلم بالجزئيّ بالمعنى المذكور آنفاً.

 

النتيجة

يمكن عرض هذه النتيجة من خلال الأمور التالية:

ـ للسهروردي خمسة آثار مهمّة في المنطق.

ـ منطق السهروردي وفق المنطق ذي البابين، حيث دوَّن آثاره وفق بابين: منطق التعريف؛ ومنطق الحجة.

ـ لقد كان متأثِّراً في ذلك بإشارات الشيخ أبي عليّ.

ـ عند التفاوت بين الشفاء والإشارات نجد السهروردي يرجِّح ما عدل إليه الشيخ عن الشفاء إلى الإشارات.

ـ للسهروردي إبداعاتٌ عديدة.

ـ إرجاع كلّ القضايا إلى الحملية الموجبة الكلية الضرورية نموذجٌ لتلك الإبداعات.

ـ لقد تلقى المناطقة بعد السهروردي أربعة ادّعاءات له دون اعتراضٍ، وهي:

1ـ أخذ به الخواجة نصير الدين الطوسي في شرح الإشارات، حيث عمد إلى الجمع بينه وبين منافسه، وقد كان الادّعاء الأول هو أن القضايا الشرطية هي كلّية من حيث المضمون.

2ـ القضايا السالبة يمكن إرجاعها إلى موجبةٍ، وهو في نظرنا ما كان مُلْهِماً للخونجي في تفريقه ما بين القضايا السالبة المحمولة والمعدولة.

3ـ القضايا الجزئية عاريةٌ عن الدقّة المنطقية.

4ـ رجوع القضايا الممكنة إلى قضايا ضرورية، وهو ما يمكن رصده في فلسفة لايبنتز، وكذلك في المنادولوجي عنده.

والوحيد الذي قَبِلَ الادّعاءات الأربعة مجتمعةً هو صدر المتألِّهين، حيث اعتبرها منشأ انعطافٍ جديد في المنطق.

ـ خالف السهروردي المشهور في تحليل وتعريف التمثيل، حيث لم يقبل بأن يكون التمثيل عبارةً عن انتقال الحكم من جزئيٍّ إلى جزئيٍّ آخر مشابهٍ له.

وإنّما أخذ في تعريفه قيد «أمر معقول». وقد كان لهذا القيد أثران:

1ـ حلّ معضلة التنافي ما بين تعريف المشهور للتمثيل وما بين قاعدة (الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكسوباً).

2ـ حلّ معضلة ابن تيميّة أيضاً.

ولعلّ الذي ذهب إليه السهروردي في شأن التمثيل إنّما كان قد أُلهمه من كلامٍ للفارابي في تحليل التمثيل.

على رغم وجود انتقاداتٍ عديدةٍ للسهروردي لمبنى الشيخ الرئيس المنطقي، ورغم تلقّي المتأخِّرين لبعض إبداعاته، فإنه يبقى المبنى المنطقيّ القائم على البابين راسخاً لا يتزلزل، بل هو السنّة الحاكمة في الحضارة الإسلامية دائماً.

 

 

الهوامش

(*) أستاذٌ جامعيّ، وعضو الهيئة العلميّة في جامعة طهران، وأحد وجوه الثقافة والفكر في إيران. له مؤلَّفاتٌ عديدة في المنطق والحكمة والكلام ومناهج البحث والأخلاق الحرفيّة.

([1]) لم يَأْتِ ما يشير إلى ذلك. (المعرِّب).

([2]) عبارة السهروردي هكذا: (العلم الأوّل: المنطق، وفيه عشرة موارد). مجموعة مصنَّفات السهروردي 4: 144، حيث لم يذكر المصحِّح المورد العاشر. (المؤلِّف).

([3]) شيخ الإشراق السهروردي يعتقد حصر القضية في الضرورية.

([4]) مجموعة مصنَّفات السهروردي 1: 12.

([5]) المصدر السابق: 284 ـ 285.

([6]) الشفاء: 32، وأيضاً النجاة: 19.

([7]) الإشارات: 15.

([8]) مجموعة مصنفات حكمة الإشراق 2 (التلويحات): 17؛ مجموعة مصنفات حكمة الإشراق 4 (اللمحات): 152؛ المشارع والمطارحات: 126.

([9]) شرح الإشارات 1: 115.

([10]) راجِعْ: الملاّ صدرا، التنقيح في المنطق: 37 (المقدّمة).

([11]) الملاّ صدرا، التنقيح في المنطق: 15 ـ 54.

([12]) منطق التلويحات: 67؛ حكمة الإشراق 2: 43 ـ 44؛ اللمحات 4: 175.

([13]) الألفاظ المستعملة في المنطق: 88 ـ 94.

([14]) منطق المشرقيين: 31.

([15]) المشارع: 109.

([16]) الفارابي، المنطقيات 1: 143؛ مسائل متفرقة: 13؛ الخطابة: 27 ـ 59؛ ابن سينا، الشفاء: 569؛ البغدادي، المعتبر: 201؛ ابن سهلان السّاوي: 134؛ الطوسي، أساس الاقتباس: 330؛ الأبهري، كشف الحقائق: 33؛ الكاتبي، جامع الحقائق: 681 ـ 682؛ الشمسية: 166؛ منطق العين: 217؛ الحلّي، الأسرار الخفية: 196.

([17]) اللمحات 4: 175؛ التلويحات: 67.

([18]) حكمة الإشراق 2: 42.

([19]) التنقيح: 44.

([20]) الملخص: 338.

([21]) تلخيص القياس: 209.

([22]) طبعة بدوي: 309.

([23]) المنطقيات 1: 193.

([24]) الأنمانوت: 403.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً