أحدث المقالات

اعتاد الفقه الشيعي، سيما في الفترات المتأخرة، على تنامي ظاهرة المرجعية الدينية، وصار للفقهاء مكانة بارزة ومرموقة على هذا الصعيد، واشتدّت وتفاعلت العلاقة بين الفقيه وطبقة عامة الناس، تحت إطار مفهوم التقليد، وكانت «الرسائل العملية»، وهي خلاصة فتاوى الفقهاء وما توصّلوا إليه، حلقة الوصل الأساسية بين المرجع ومقلّديه، ونريد هنا تسجيل ملاحظة واحدة سريعة حول هذه الرسائل العملية والفتاوى بشكل عام؛ تاركين مجموعة أفكار حول الفتوى والرسالة العملية إلى مناسبات لاحقة إن شاء الله تعالى.

ينظر الفقهاء أنفسهم ــ فضلاً عن غيرهم ــ للفتاوى والرسائل العملية على أنها أحكام شرعية أولية، بمعنى أنها تعبّر عن النتائج التي توصّل إليها الفقيه في أبحاثه العلمية في تعامله مع النصوص، بقطع النظر عن العناوين الطارئة التي قد تغيّر هذا الحكم أو ذاك، كما وبقطع النظر عن الحكم الولائي الحكومي المرحلي الذي قد يراه الفقيه في هذه المرحلة أو تلك.

وعلى هذا الأساس، فالرسائل العملية ــ غالباً ــ نتيجة تفاعل الفقيه مع النصّ، لا تفاعله مع الواقع والنصّ معاً، وإذا أراد أن يتفاعل مع الواقع ويأخذه بعين الاعتبار فإنه يمارس طريقة الاحتياط، فلا يفتي بل يحتاط وجوباً أو استحباباً، ولهذا تتخذ الرسائل العملية طابع الكلية والعمومية دون إشارة إلى طبيعة المرحلة.

ولنا هنا ملاحظة جزئية؛ ذلك أن الرسائل العملية تقع في مشكلين هنا، هي وظاهرة الفتوى عموماً، وعليها أن توازن حلولها للمشكلين معاً:

المشكل الأول: إن الرسالة العملية أو الفتوى لها طرفان: أحدهما المفتي، وثانيهما المقلِّد، المسمّى بالعامي عندهم، ويراد من الفتوى أن يعمل الناس عليها؛ إذاً فهي على صلة بالواقع العملي مباشرةً، فكيف لا يمكنها أن تأخذه بعين الاعتبار، فمثلاً يرى بعض الفقهاء أنّ الحربيّ من الكفار، ويقصدون به مطلق غير الذمي والمعاهد حتى لو لم يمارس الحرابة فعلاً، مهدور الدم والمال، ومعنى ذلك أنه يجوز سرقته ــ إن صحّ التعبير ــ بل قتله، وانطلاقاً من هذه الفتوى التي لا نحاكمها فعلاً، لا سلباً ولا إيجاباً،  يرى الفقيه نفسه أن التطبيق الميداني العملي لها ــ في الغالب ــ يؤدي إلى مفاسد بحسب طبيعة المرحلة التي نعيشها، لهذا نجده يتخذ موقفاً بالعنوان الثانوي يميل فيه إلى الحظر، لكن الرسالة العملية تبقى تحكي عن الحكم الأولي عنده، وهو الرخصة، فأيّ ضرورة لبيان هذا الحكم الأولي، والمفروض أنّ الرسالة العملية موصوفة بالعملية، لا بالعلمية؟

من هنا، يفرض هذا الواقع أن تكون الرسائل العملية قد أخذت بعين الاعتبار ليس العنوان الأولي والنتاج البحثي للمسألة فحسب، بل والعناوين الأخرى الطارئة التي يحقّ للفقيه الإفتاء على أساسها، سيما وأنّ ممارسات الفقهاء ــ عملياً ــ تقرّ بالتمييز بين المباحث الفقهية العلمية والفتاوى العملية الميدانية من حيث المبدأ وفق تخريجات فقهية؛ ولهذا نرى في الفتوى، أي فيما يسمّيه الناس فتوى، احتياطاً وجوبياً، فيما يكون البحث العلمي للفقيه نفسه قد توصّل إلى الرخصة والحلية مثلاً، من هنا يعتبرون أن الحجية إنما هي لفتوى الفقيه لا لرأيه العلمي، وهذا بحثٌ آخر لنا ملاحظات عامة عليه نتركها إلى مجال آخر.

المشكل الثاني: وهو على عكس المشكل الأول تماماً، فالفقيه ــ غير الحاكم الذي له الولاية ــ ليس معنياً بتحديد موضوعات الأحكام، أو مصاديقها، بمعنى أنه يقول لك: إن ملاقاة الدم للماء القليل تنجّسه، لكنه غير مسؤول عن تحديد حصول هذه الملاقاة في هذا الماء أو ذاك، وإنما الأمر على هذا المستوى موكولٌ إلى المكلّف نفسه.

وهذا مبدأ قَبِل به الفقه الإمامي، لهذا كانت الفتوى في مفهومهم لها عبارة عن الحكم الكلي على موضوعه الكلّي، أي إن الفقيه لا شأن له بالموارد الجزئية التطبيقية، وإلاّ دخل الفقه في متاهات.

وهذه الفكرة غاية في الأهمية في حدّ نفسها، لكنّ الفقه والفتاوى لم تعمل بها دائماً، فنحن نجد الكثير من الفتاوى في الرسائل العملية وغيرها لا تنطبق عليها هذه القاعدة، والناس اعتادت على اعتبار هذه الفتاوى حجة، رغم أنها ليست في حدّ نفسها حجةً وفقاً لقواعد الفقه نفسه، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، فيما ينتمي إلى غير ما يسمّى بالموضوعات المستنبطة، فنجد فقيهاً يفتي بحرمة التدخين، مع أنّه لا يوجد هكذا حكم في كتاب ولا سنّة على مستوى تعلّقه بعنوان التدخين، وإنما الموجود هو حرمة الإضرار بالنفس، وهو ــ أي الفقيه ــ اقتنع قناعةً شخصية أن التدخين فيه إضرار بالنفس، لذلك حكم بحرمته، على أساس صيرورته مصداقاً لمتعلّق الحكم بالحرمة، ألا وهو الإضرار بالنفس، مع أنّ هذا التحديد للموضوع ــ أي كون التدخين مضرّاً أو غير مضرّ ــ ليس من وظيفة الفقيه بما هو فقيه، ودليل حجية الفتوى عندهم لا يشمل مثل هذه النتائج الموضوعية، مع ذلك رأينا صيغة الفتوى هي التحريم المنصبّ على التدخين، مع أن الصيغة الحقيقية المفروضة هي أن يقول: يحرم الإضرار بالنفس، أو يحرم التدخين إذا أضرّ بالنفس، وهذا الإضرار المسبّب يرجع تحديده إلى المكلّف نفسه ــ وقد يقتنع بالضرر وقد لا يقتنع ــ لا إلى الفقيه، وفق الأصول المعمول بها في الفقه الإسلامي.

وهكذا يقول الفقيه: ثبت العيد اليوم، فهل قوله حجة مع عدم بنائه هو نفسه على حجية حكم الحاكم في ثبوت الهلال؟ فقهياً إذا كان حكم الحاكم في هذا المورد حجةً، وحَكَم، كان قوله حجةً على مقلّديه وغيرهم ممّن يقلّدون من يقول بحجية حكم الحاكم هنا على الأقلّ، أما مع عدم القول بحجية حكم الحاكم هنا، وصرّح المفتي أو المرجع بثبوت الهلال، فإنّ قوله لا قيمة له تشريعاً، إلاّ إذا أورث الناس ــ من خلال كونه مخبراً ــ اطمئناناً بصدق الشهود وعدالتهم، لا بوصفه فقيهاً، مع أن الناس لا تتعامل على هذه الطريقة، وهذا خطأ واضح.

ولو شئت أن أذكر الأمثلة على ذلك لما اتسع المجال أبداً، وهذه أخطاء شائعة في الفقه المتداول بين الناس، وثمة في الفتاوى الكثير من هذه الأنواع والألوان.

وعليه، فإذا كان المطلوب من الفقيه من جهة أن يواكب الواقع وتكون فتاواه ورسائله العملية قائمةً على الواقع والنصّ معاً، لا بعيدة عن الواقع تتعامل مع النصوص فقط، باعتبار أنه مرجع تقليد لا مجرّد باحث علمي فقيه لا أثر لرأيه في الواقع الاجتماعي و.. للناس، فحديثنا عن الفتوى بما تمثله من حلقة وصل المرجعية بالأمة.

وإذا كان المطلوب من الفقيه أيضاً ــ من جهة ثانية ــ أن ينضبط ضمن وظيفته المحدّدة في الفقه الإسلامي، وهي حجية الفتوى لا مطلق الرأي ولو كان في تحديد الموضوعات غير المستنبطة، فكيف يمكن الجمع بين الوظيفتين؟ وكيف يتسنّى للفقيه أن يواكب في فتاويه حركة الواقع مع كونه غير معنيّ ــ فقهياً ــ بغير الحكم الكلّي؟!

أعتقد أن الجواب يكون بالجمع والتوفيق طبقاً للأساسين التاليين، وهما:

أولاً: التمييز في عالم الموضوعات، لا بين الموضوعات المستنبطة وغيرها فحسب، بل بين الموضوعات التي يصحّ إيكالها إلى المكلّف وغيرها، فمثل تحديد حصول الملاقاة أو ما شابه ذلك شأن فردي يمكن إيكاله إلى المكلّف، ولا دليل يُلزم الفقيه ــ تكليفاً ــ بالتدخل، كما لا دليل يعطي رأيه ــ وضعاً ــ الحجية والاعتبار فيه، لهذا فهذه الموضوعات يفترض أن يتجنّب الفقيه الدخول فيها؛ لأن تدخله موجب لإيهام الناس حجية قوله، بل عليه أن يتركها لهم يحدّدوا فيها أمورهم.

نعم له ذلك من باب أنه صاحب جهة ونفوذ، فيمكنه القيام بما قد لا يمكن لغيره القيام به، مثل ما لو فرض أن جبنةً أو طعاماً ما شك في أمره على مستوى الحلية والحرمة، للشك في شأن موضوعي فيه لا حكمي، وأراد الفقيه ــ بحكم منصبه الديني في المجتمع ــ أن يتابع هذا الموضوع، كي يساعد الناس على تحديد أمرها إزاء هذا الطعام أو ذاك، فله ذلك؛ ولكنّ قوله لا يكون حجةً عليهم إلاّ إذا أورثهم الاطمئنان أو السبيل المعتبر، ويمكن لأي جهة لها نفوذ أن تقوم بهذه الخدمة أيضاً.

وعليه، فالموضوعات التي لا محذور من إيكالها إلى الأفراد توكل إليهم على مقتضى القاعدة كما شرحنا، أما الموضوعات التي إذا أوكلت إلى الأفراد لزم الفوضى أو الهرج والمرج أو مفاسد أخرى نوعاً، فإن مثلها يعود إلى الفقيه أن يتدخّل فيه، لكي يعطي الموقف هناك.

وعلى سبيل المثال، مسألة السرقة المتقدّمة، فإنّ إيكال تحديد عدم حصول مفاسد إلى الأفراد سيلزم منه حصول المفاسد في الخارج، فكلّ فرد سيقول: إن عملي متقن ولن يقع ما يوجب الضرر عليّ أو على أحد من المسلمين، أو يوجب هتك حرمة المؤمنين، فالنظرة الفردية تظلّ متفلّتة من القراءة المجتمعية العامة، والفقيه هنا؛ لكي يضبط الأمر من ناحية تشريعية، يحدّد الموضوع لا من زاوية فردية بل من زاوية عامة، حاصداً مجمل الصورة التي تقع في هذا المجال أو ذاك، ليصدر حكمه الثانوي طبقاً له، فإنّ هذا الحكم الثانوي بالحرمة وإن كان قائماً على أساس حرمة هتك سمعة المؤمنين مثلاً، إلاّ أنه لا يحقّ لآحاد المكلّفين أن يعتبروا تحديد هذا المعيار الذي قامت الفتوى على أساسه من شؤونهم وبيدهم، فكلّ أمرٍ يكون إيكاله إلى الآحاد موجباً للهرج والمرج أو المفسدة، أي يختلّ فيه الضبط العام، يُرجع في تحديد حكمه حينئذٍ إلى الفقيه، لا لأن الفقيه قام دليل على حجية فتواه هنا، بل لأنّ هذا هو السبيل الوحيد للالتزام بالشريعة، درءاً لمادّة الفساد أو سدّاً للذرائع، إذ لو ترك الأفراد أنفسهم لتحديد الأمر للزم ــ بقراءة عامة مجتمعية ــ حصول المفسدة، وهو أمرٌ لا يجوز، ولهذا لو عثرنا على سبيل ضبط آخر غير مرجعية الفقيه على المستوى الديني ــ وكلامنا على المستوى الديني ــ أمكن الأخذ بها لتحقيق المصلحة المذكورة أو دفع المفسدة.

ومن الطبيعي هنا أن يجري بحث في التمييز المصداقي بين نوعي الموضوعات، أي ما يوكل للمكلّفين وما لا يوكل، مما لا مجال لبحثه هنا، لكن ما أودّ أن أشير إليه أنّ القضية متحركة، فرب موضوعٍ ما في ظرف زمكاني خاص مما يصحّ إيكاله إلى الآحاد، فيما لا يصحّ ذلك في حقّ الموضوع نفسه في ظرفٍ آخر، والمعيار دائماً هو الواقع الميداني.

ثانياً: اللجوء إلى مقولة «حكم الحاكم»؛ باعتبار أنّ للحاكم صلاحية التدخل في الموضوع على خلاف الحال مع الفتوى، كما هو مبحوث  في الفقه، وتبدو الحاجة إلى حكم الحاكم لحلّ المسألة التي نحن فيها في القضايا ذات الطابع العام أيضاً، والتي تحتاج إلى قدر أكبر ــ عادةً ــ من الصرامة، فمثلاً لو قيل: إن الفتوى الشرعية هي لزوم محاربة العدو الغاشم مثل إسرائيل، شريطة أن لا يلزم من الحرب معها مفاسد أعظم على أمة الإسلام، فيجري قانون التزاحم بين المفسدة والمصلحة لصالح ترجيح وجوب الجهاد تارةً أو لزوم السلم أخرى، فإن هذا العنوان الكلي لا يمكن إيكاله إلى المكلّفين؛ لأن معظم أحكام باب الجهاد من الشأن المجتمعي العام الذي يصعب إحالته إلى الآحاد؛ للزوم الفوضى وغيرها فيه؛ لهذا ثمة حاجة إلى قرار موحّد، ففي كلّ الدول، تتخذ الدولة القرار المذكور، دون أن تسمح لآحاد الناس أن يتعاطوا معه بمزاجية، وأما على الصعيد الشرعي فيُفترض إحالة مثل ذلك إلى الحاكم الشرعي؛ لأن مثل هذه الموضوعات تحتاج إلى قدر كبير من الصرامة والقاطعية، الأمر الذي يمنحنا إياه حكم الحاكم، بما له في الفقه الإسلامي من نفوذ حتى على الآخرين ممّن لا يقلّدون هذا الحاكم نفسه.

إذن، فحكم الحاكم وسيلة أخرى في مجالات محدّدة تسمح بدخول الفقيه مجال الموضوعات، وعليه، نعود إلى نقطة بحثنا لنرى أن الفتاوى والرسائل العملية يجب:

أ ــ أن تخلو من التدخل في الموضوعات غير المستنبطة والتي لا تنتمي إلى حكم الحاكم ولا إلى نوع الموضوعات التي لا يصحّ إيكالها إلى الآحاد، وهذا ما أظنّ أنه سوف يغيّر عدداً من الفتاوى الموجودة في الرسائل العملية أو على الأقل صيغتها.

ب ــ أن تخلو من الكلية والتجريدية، ففي الموضوعات التي لا يصحّ إيكالها إلى الآحاد، لا يصحّ وضعها بصورتها الأولية في الرسائل العملية أو الفتاوى، بل يفترض أن تحتوي الرسالة العملية أو الفتوى مباشرةً الحكمَ الثانوي، ويُترك الحكم الأولي للأبحاث العلمية الصرفة.

هذا، وأمّا تفاصيل هذه المباحث وتخريجاتها الاستدلالية مما ألمحنا إلى بعضه فنتركها إلى مجال أوسع.

<فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ

ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا>

[ النساء: 65 .]

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً