أحدث المقالات
ترجمة: قاسم الكعبي

الشيخ مجتبى القزويني الخراساني 1318 ـ 1386هـ ــــــــــ

1 ـ المتعقل العظيم

المتعقل الرباني، والمتألّه القرآني، المربي الكبير، والعقلاني العظيم، جامع المعقول والمنقول حضرة الشيخ مجتبى القزويني الخراساني، من «زبدة المتألّهين في العلوم القرآنية» في القرن الماضي، فهو ثالث أكبر ركن من أركان « المدرسة التفكيكيّة» في القرن الرابع عشر الهجري.

ذكرنا أنه كان هناك الكثير من العلماء والفضلاء المطّلعين على المعارف الدينية والتربية الاعتقادية الخالصة ممّن يتمتع بذوق تفكيكي، وأنهم ما زالوا موجودين في القرون الماضية، وكذلك في هذا القرن أيضاً، وفي كلّ الأمكنة والمجالات، سواء سمّوا بهذا الاسم أو لم يُعرفوا به، لكن السيد موسى القزويني الزرآبادي والميرزا مهدي الإصفهاني الخراساني والشيخ مجتبى القزويني الخراساني كان لهم ارتباط وثيق بأفكار التفكيك ومقولاته.

ولد الشيخ مجتبى القزويني الخراساني سنة 1318 هـ من أم صالحة في مدينة قزوين. وكان أبوه الشيخ أحمد التنكابني من العلماء الأفاضل أيضاً، فهو من تلاميذ وخواصّ العالم العابد والمتقي الكبير الحاج الميرزا حسين الخليلي الطهراني (1326هـ).

2 ـ أساتذة القزويني(1) ــــــــــ

في النجف الأشرف

تشرّف الشيخ ـ بعد إتمام دروسه الأولية ـ مع أبيه بزيارة « النجف الأشرف» في سنّ الشباب، وبقي في تلك البقعة المقدّسة لمدّة سبع سنوات تقريباً، ليكتسب من فيض علوم الأساتذة والعلماء الكبار أمثال: 1 ـ السيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ). 2 ـ الميرزا محمد تقي الشيرازي (1338هـ). 3 ـ الميرزا محمد حسين النائيني (1355هـ). وقيل: إنه استفاد من درس الميرزا محمد حسين النائيني مع آية الله العظمى المرحوم الحاج أبو القاسم الخوئي (1413هـ). وقد ورد ذكر الشيخ مجتبى القزويني في أحد الرسائل التي بعثها الميرزا النائيني للميرزا الإصفهاني.

3 ــ مشرق الأنوار القرآنية ــــــــــ

رجع الشيخ إلى قزوين ليبقى فيها عامين، وفي هذه المرحلة اتصل بالمربي الكبير، وعالم الحقائق والأسرار، المتبحّر في المعارف القرآنية السيد موسى القزويني الزرآبادي (1353هـ) ـ زوج أخته ـ واقتفى أثره في معرفة العلوم الإنسانية والتعرّف على هذه العوالم، وتعلّم العلوم الباطنية، وكثير من الأسرار والعلوم الخفيّة، مهتماً بالرياضات والمجاهدات الشرعية والسير والسلوك، وقد نبّه الأستاذ الشيخَ إلى ضعف البناءات العقدية غير القرآنية، وجعله يُعرض عن الفلسفة اليونانية، والعرفان الهندي، والإشراق الغنوصي والاسكندراني، والفلسفات والعرفان الامتزاجي.. إلى حيث «الحكمة اليمانية» ومشرق «الأنوار القرآنية».

4 ــ أساتذة القزويني (2) ــــــــــ

في قم ومشهد المقدّسة

جاء الشيخ القزويني إلى مدينة قم، ليبقى في هذه الحاضرة العلمية مدّة سنتين، حيث استفاد من الدروس العالية للشيخ عبد الكريم اليزدي (1355هـ)، ثم حطَّ رحاله في الروضة الرضوية في مشهد، مستفيداً من دروس الأساتذة الكبار أمثال: 1 ـ آغا بزرك حكيم الشهيدي (1355هـ). 2 ـ الحاج الميرزا محمد آغا زادة الكفائي الخراساني (1356هـ). 3 ـ الشيخ أسد الله العارف اليزدي. 4 ـ الشيخ موسى الخوانساري، مؤلّف حاشية «المكاسب». 5 ـ الميرزا مهدي الغروي الإصفهاني الخراساني (1365هـ). 6 ـ الحاج السيد حسين الطباطبائي القمي (1366هـ).

5 ــ خوض ميدان التدريس في العلوم الدينية المختلفة ــــــــــ

بعد أن أمضى القزويني المراحل المذكورة، ونهل من علوم المعقول والمنقول جميعها، وأحرز مرتبةً عالية في الرياضات والعبادات، أصبح من المربّين الكبار، وفي عداد كبار علماء الباطن، فبدأ بتدريس العشرات من العلماء والفضلاء والمدرّسين والوعّاظ والمحققين، وتربيتهم في ظلّ حبّه للدين.

ومن خلال تدريسه الدروس المتنوّعة في الفقه والأصول والفلسفة والعرفان الانتقاديين والأخلاق الإسلامية والمعارف القرآنية، ومبادئ ومقولات «المدرسة التفكيكية».. كان القزويني يتعامل مع طلابه أباً رحيماً، متفقداً أحوالهم، متواضعاً معهم.

كانت حياته بسيطةً جداً، وكان ـ مع ذلك ـ يغض الطرف أحياناً عن حاجاته، باذلاً تمام جهده لمعونة بعض الطلبة الفقراء.

كان مثالاً للتقوى وجهاد النفس، وأنموذجاً للإعراض عن المال والجاه والمقام والشهرة، فكان يجد فيه كلّ طالبٍ وكل باحث سبباً كبيراً للمواساة، كان يراعي شخصية الطلاب في الأوقات جميعها من خلال التعامل معهم، وبالأخص السادة والأشراف منهم، فكانت لديهم عنده منزلةٌ خاصّة.

6 ــ في المجتمع وغمار العمل السياسي ــــــــــ

لم يكن الشيخ القزويني ليتوانى عن أداء مسؤولياته السياسية والاجتماعية بشوق ولهفة واعتقاد، وكان مقداماً في مواقفه الدينية السياسية، فلم يكن خائفاً أو متردّداً، كما لم تمنعه المداومة على الأذكار والأوراد والعبادات والرياضات واستغراقه في العوالم الروحية عن مثل هذه الأعمال، ومع ذلك كان هادفاً ومخلصاً في نشاطه هذا بعيداً عن الميول والرغبات([1]).

من هنا، كان القزويني محتاطاً إزاء تلويث الأعمال بالميول والأغراض الذاتية، والانحراف عن الأهداف، كان يفكّر بأمور المسلمين، ويتألّم لأحوالهم، وكان يتحرّق من قلّة التقوى عند بعض رجال الدين، وقد نقل عن أستاذه الميرزا الإصفهاني أنه كان يعيش الشعور نفسه.

7 ــ الأعمال العلمية ــــــــــ

لمعرفة نتاج الشيخ القزويني بصورةٍ جيدة لابد من التركيز على السنوات الأربعين التي قضاها في التدريس والتعليم، وتربية الطلاب بأعداد وفيرة، فقد كان يدرّس الأصول في مرحلتي السطوح والخارج، والفقه كذلك،بالإضافة إلى تدريسه المصنفات الهامّة الرئيسة في الفلسفة، والفلسفة النقدية، والمعارف العقدية القرآنية الأصيلة، لقد كان مُجدّاً في تربية الطلاب والمريدين، يتميز منهج تدريسه في الحكمة والفلسفة بفوائده الكبيرة، ومساهمته في تنمية طاقات الطلاب، حيث كان يشجّع على أسلوب «التفكير الاجتهادي» في الممارسات الفكرية([2])، والذي يدعو للأسف والأسى أنّ هذه الحالة لم تنعكس ـ بصورةٍ واضحة ـ في أعمال القزويني العلمية المطبوعة.

على أية حال، أمّا نتاجاته المكتوبة المدوّنة فهي:

1 ـ بيان الفرقان (فارسي) في خمس أجزاء:

الجزء الأول: يتناول فيه «التوحيد القرآني» وامتيازه عن التوحيد الفلسفي والعرفاني، حيث ذكر ثمانية فروق مهمّة: 1 ـ علم الله. 2 ـ حدوث العالم. 3 ـ مسألة البداء. 4 ـ الجبر والتفويض. 5 ـ القضاء والقدر. 6 ـ السعادة والشقاء. 7 ـ الهداية والضلال. 8 ـ الدعاء.

الجزء الثاني: وتناول فيه الفرق بين الوحي والنبوة في الرؤية القرآنية وبينهما في الفلسفة والعرفان، بالإضافة إلى تناوله وجوه إعجاز القرآن، حيث اعتبر المعارف الجديدة القرآنية أهمّ وجوه هذا الإعجاز.

الجزء الثالث: في بيان المعاد القرآني الخالص (المعاد الجسماني) (المعاد البرزخي والمثالي)، وقد ذكر خمسة أصول يقوم على أساسها «المعاد القرآني»، وهي: 1 ـ حدوث العالم وكيفية خلقه. 2 ـ خلق الإنسان وعوالمه. 3 ـ خلق آدم A. 4 ـ التناسخ وردّه. 5 ـ إمكان خراب العالم وخلق عالم آخر.

الجزء الرابع: في بيان الدور الأساسي للمعصوم A في الهداية، وضرورة الرجوع إليه في الحصول على الفهم الصحيح للقرآن، وبيان الحديث النبوي المقطوع الصدور، وردّ المطالب السخيفة للغزالي في عدم الحاجة إلى المعصوم A، وذلك في كتابه: «القسطاس المستقيم».

الجزء الخامس: في بيان وتحليل «غيبة المعصوم» وما يتصل بها من فروع ومسائل، وكذا بعض الأحاديث الواردة في «الغيبة» و«الظهور» و«القيامة»، وبيان علامات هاتين الحادثتين العظيمتين، اللتين غالباً ما يحدث الخلط بينهما.

2 ـ رساله اى در معرفة النفس «رسالة في معرفة النفس»، وتشمل: 1 ـ بيان نظرية أرسطو ونقدها. 2 ـ نظرية «كون النفس مادية الحدوث»، ونقدها. 3 ـ نظرية الماديين في النفس، ونقدها. 4 ـ النفس في التصوّر القرآني.

3 ـ رسالة في نقد الأصول الفلسفية الإحدى عشر للملا صدرا الشيرازي نقداً علمياً فلسفياً.

4 ـ نسخ في بعض العلوم الغريبة.

8 ــ ملاحظات ــــــــــ

ولا بد هنا من الإشارة إلى عدّة أمور:

1 ـ يعتقد الشيخ الأستاذ القزويني أن طالب المعارف الحقّة لا بد أن يكون مطّلعاً على مباني القوم ونظرياتهم؛ ولهذا تجده قضى سنوات عدّة في دراسة الفلسفة والعرفان، فقد استفاد في هذا المضمار من أساتذة كبار أمثال آغا بزرك حكيم الشهيدي، حتى أن هذا الأستاذ المشهور في هذا العلم كان راضياً عن تلميذه المثابر، ومستأنساً به حدّاً أهدى إليه فيه نسخةً من كتابه: «الإشارات»([3]).

2 ـ قال الشيخ الأستاذ: قام المرحوم آغا بزرك بتدريس بحوث الفلسفة العليا، كما هي الحال اليوم في دروس بحث الخارج الأصولية والفقهية، وكان يقول: أريد أن أختبر هذه المسائل بمعيار اجتهادي وقراءة اجتهادية أيضاً، خارجاً عن تحت هيمنة النصوص الفلسفية الحاكمة عليها، ثم نقوم ببحثها بعيداً عن الوقوع تحت تأثير المقامات العلمية وشهرة المؤلّف، وكان يقول: إن آغا بزرك حكيم طرح دراساته في البحث الخارج على كتاب الأسفار الأربعة للشيرازي مدّةً من الزمن، وقد تناول فيه المسائل العلمية في الأسفار من وجهات نظر مختلفة، ومن جملة ذلك مسألة «أصالة الوجود»، حيث أخضعها للبحث والنقاش والتداول،مستعرضاً الآراء الموافقة والمخالفة، بالإضافة إلى إبداء رأيه، دون القناعة برأي الموافقين لها.

3 ـ وعلى أساس هذا الرأي كان الشيخ الأستاذ نفسه يدرّس المصنّفات الفلسفية، وكان درسه عميقاً وجذاباً، وربما قام بمقارنة النصوص الفلسفية معاً والتدقيق فيها. نعم، كان الشيخ الأستاذ من نخبة أساتذة الفن العقلي ومن فرسان علم المعقول، إضافةً إلى ما يتمتع به من ميزات روحية أخرى كتهذيب النفس والرياضات الشرعية، وهي ميزات جعلته مهميناً ـ بصورةٍ أفضل ـ على المسائل العقلية والعرفانية.

والجدير بالذكر إشاراته حول النمطين الأخيرين من «الإشارات»، حيث لم نر أيّاً من أهل الفن والاختصاص قد توصّل إلى مثلها، وهذه نقاط مجهولة في شخصيّته العلمية وعظمته الروحية.

9 ــ آية الله العظمى الميلاني ودرس أسفار الشيخ القزويني ــــــــــ

نقل بعض أتباع الشيخ القزويني بعض مذكّرات حياته وخصوصيّاته، ومن جملة ما نُقل أنّ الأستاذ القزويني كان ألقى درسه في السنوات 10 ـ 15 الأخيرة من عمره الشريف في منزله، وفي أحد دروس الأسفار ـ كنت حضرت عنده «السفر الأول» بمعيّة بعض الأصدقاء الفضلاء، و«السفر الرابع» لوحدي ـ دخل آية الله محمد هادي الميلاني فجأةً بمفرده، حيث كان الأخير في أوائل إقامته في مدينة مشهد، وكان من عادته استشارة الشيخ القزويني في بعض الأعمال؛ حيث كان الشيخ أعرف بأوضاع هذه المدينة، وقد جاء ذلك اليوم للغرض عينه. وكان الدرس في بدايته لم تُقرأ فيه سوى سطور عدّة، كان ذلك في الصفحات 90 ـ 95، من الطبعة الحجرية القديمة للأسفار الأربعة، كنا نقرأ حينها كلّ يوم صفحةً واحدة تقريباً ـ إلاّ عدة أسطر ـ وقد تمّ قراءة الدرس في ذلك اليوم بالتمام، وكان من عادة الشيخ آنذاك الاعتذار من الطلبة، فيما إذا نزل به ضيف؛ لكنه فعل العكس تماماً ذلك اليوم؛ فقد اعتذر من السيد الميلاني، وقال كلاماً بهذا المضمون: «الطلبة يأتون من أماكن بعيدة، فلو سمحت لي بالاستمرار في الدرس». وكان المرحوم الميلاني غايةً في الأدب، فرحّب بالأمر، وأكّد على الأستاذ بالاستمرار، وبهذا النحو استمرّ الدرس، بل تجاوز الصفحة المقرّرة بعدة أسطر، ثم قمنا مباشرةً وخرجنا حتى لا نضيّع وقت السيد الميلاني.

كان من عادة الأستاذ أن يقوم بتوديع الطلبة إلى الباب، لقد قال لي يومها حينما ودّعني على الباب: بما أن السيد الميلاني جاء لوحده فانتظروه حتى يرجع معكم، لقد كان الشيخ الأستاذ يعلم منّي الرغبة في خدمة العلماء والأساتذة؛ ولذلك بقيت انتظر ـ خارجاً ـ لمدّة نصف ساعة، إلى أن خرج السيد الميلاني وودّع الشيخ الأستاذ، ومباشرةً استأجرت عربةً تجرّها الخيول، وركبنا العربة معاً، بعد ذلك قال لي السيد الميلاني: إسحب سقف العربة فسحبته بمعونة السائق، وفي اللحظة التي سارت فيها العربة، قال السيد الميلاني: عجباً لهذا الدرس الطاهر! عجباً لهذا الدرس الطاهر! وقد ردّد كلمة طاهر عدّة مرات، قلت: نعم سيدي، قلتَ شيئاً .. إذا وصلك شيء ما فهو خلاف الواقع، قال: لا، طاهر، طاهر، ثم أضاف: فإذاً كيف لم يرد؟! يقولون: إنه يردّ الفلسفة، قلت: يبدو أنكم أخبرتم بهذا الأمر على خلاف الواقع، فإذا قالوا: إنه يعرض مطالب ناقصة؛ لكي يسهل عليه ردّها، ثم يقوم بردّها في المجلس كيفما كان، كلا، إن الأمر ليس كذلك.

قلت للسيد الميلاني ـ وأيّد كلامي ـ: كان الأستاذ يدرّس الفلسفة بمنتهى الدقّة، وقد استمرّ على ذلك ردحاً طويلاً من الزمن، كان كل 15 ـ 20 يوماً عندما تنتهي الفصول ويقوم بأداء المطلب حقّه من الشرح والتدريس، وعندما كان يهمّ في الشروع في بحث فلسفيّ جديد.. يذكّر تلامذته بعدم صحّة النظريات التي أتى على ذكرها؛ مستعرضاً ـ سريعاً ـ نواقص المقولات الفلسفية في هذا الموضوع، بل لقد كان يجلب في بعض الأحيان معه كتباً أخرى ليقوم بمقارنة زوايا الموضوع بغية وضع اللمسات التكميلية الأخيرة عليه.

ثم قلت: عندنا درس في المعارف القرآنية يومي الخميس والجمعة، يقوم على بيان أصول العقائد القرآنية، وكلّما مررنا ببحث فلسفي أو عرفاني يتعلّق بموضوع الدرس يشير الأستاذ إليه، مذكِّراً بمواضع النقد أو عدم الانطباق أو التأويل غير المناسب، ويُلفت نظر الطلاب إلى لزوم تجنب «التعبّد في العقليات» و«التقليد في العقديات»، فيقول: إن مسائل الأصول لا يجوز التقليد فيها ولا التعبد، فلا تقبلوا بشيء على هذا النحو؛ فقط لأن عالماً كبيراً قال به.

وقد طلب بعض الأصدقاء تثبيث هذه الخاطرة، ومن الواضح أنّ التأييد الشخصي للسيد الميلاني حجّة، فلم يكن رجلاً خلافياً ولا محتاجاً للخلاف، وتأييده كان باعثاً لنا على التشجيع والإقدام،ذلك أنّه من أساتذة الفلسفة المتضلّعين فيها، وكان التلميذ البارز الوحيد لصاحب «نهاية الدراية»، ومنظومة «تحفة الحكيم» التي يرجّحها بعضهم على منظومة السبزواري، وكان له حضوره الفلسفي الفاعل والقويّ أيضاً.

في أحد الأيام كنت في مجلسه، فتناول نظرية الملا صدرا في «المادية الحدوثية للنفس»، وعندما دخل صلب الموضوع وتناول بالتشقيق صورَ المسألة، تبيّن لنا كم كان يتمتّع بهمة عالية على الدرس الفلسفي وموضوعاته.

10 ــ mمعرفة النفسn الانتقادية ــــــــــ

مما يؤسف له أن كتاب الشيخ القزويني حول النفس وما فيها من آراء وأقوال، مع ما اشتمله من ملاحظات نقدية، لم يطبع حتى الآن، ففي هذا الكتاب تتجلى المكانة العلمية والفلسفية والعرفانية للقزويني وتفوّقه على أقرانه.

أما كتابه: «بيان الفرقان» فكان الهدف الرئيس منه تناول بعض الإشارات التمهيدية؛ بغية كشف الامتياز بين نتائج الدراسات القرآنية وتلك القائمة على الأصول الفلسفية والعرفانية، وقد احتوى الكتاب على مقدّمات مطوية كثيرة، تحتاج إلى شرح وتوضيح.

وفي الواقع، يجب أن يُبذل جهد هنا يشابه ذاك الذي فعله الشهيد المطهري في كتاب «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، وبالأخص المجلّد الأول والثالث منه، فقد أضيفت بعض المطالب على مباحث التوحيد، والعدل، كما قدّمت بعض المباحث الأولية لتحليل الأبعاد المختلفة للموضوعات.

11 ــ إلى الملكوت الأعلى ــــــــــ

وفي اليوم الثاني والعشرين من ذي الحجة عام 1386هـ المصادف 14 / 1 / 1346ش، كانت نهاية هذا العالم الرباني، والإنسان القرآني، بعد صراع مرير مع مرض معدي ـ يحُتمل احتمالاً قوياً أنه كان ناتجاً عن شدّة الرياضات والاعتياد على «الجوع» ـ ودفن في الصحن الرضوي القديم (صحن انقلاب) في جانب الشمال الغربي، رحمه الله رحمةً واسعة.

علي أكبر إلهيان 1380هـ ــــــــــ

العالم الرباني والجوهر الروحاني والزاهد المتجرّد، تربى في مدرسة السيّد موسى الزرآبادي، ولد في قزوين، وقرأ المقدّمات هناك، ثم سافر إلى طهران لمواصلة دراساته العليا، ليعود بعدها إلى قزوين للحضور عند أستاذ عصره المربّي الكبير «أعجوبة العصر» آية الله السيد موسى الزرآبادي، فتلقى قسماً من العلوم، ومن جملتها العرفان النظري والعلوم الغريبة، سالكاً ـ عنده ـ مراحل تهذيب النفس، فنال مرتبة الكمال الروحي ومكانة الإنسان القرآني بعد سنوات من الرياضات والمجاهدات والعبادات، ليصبح إنساناً حقيقيّاً، وليندرج في عداد كبار علماء الباطن.

وقد قام الشيخ علي أكبر إلهيان ـ أحياناً ـ بالتدريس وتربية الطلاب، متّبعاً في الفكر العقدي خطى أستاذه السيد موسى الزرآبادي، أي «المدرسة التفكيكية»، كما يذكر طلابه ذلك، وله بحوث في بعض المسائل من جملتها موضوع «أصالة الوجود» و«جسمانية حدوث النفس الإنسانية»، موجهاً لهما نقداً علمياً وفلسفياً لاذعاً.

وكان الشيخ من العظماء، ومن الزهاد المقتدى بهم، لم يكن مهتماً بأيّ شيء من متاع الدنيا؛ لا بيت ولا أثاث، وكان دائم التجوال في عدة مدن مثل قزوين، رشت، طالقان، طهران، آستانة أشرفية، رامسر و…… وربما ذهب في بعض الأحيان إلى مشهد، فيدخل على ابن اخته المرحوم الحاج الشيخ مجتبى القزويني، وأحياناً كان يُقيم في حجرة في مدرسة «نوّاب»، فينشغل بالزيارة والعبادة. كانت لديه مهارة خاصّة في العلوم الغريبة وإحاطة بالأدعية والأوراد، وكان صاحب كرامات وتصرّفات، وذا روحية كبيرة جداً وقويّة كذلك.

كتب أحد الشعراء الغربيين تحت عنوان: «قصة نفس، كيف يصنع الله إحدى النفوس ويبنيها؟»، قال: أحياناً يصطفى الله نفساً من النفوس الطاهرة ثم يجعلها معرضاً للاختبار بالتدريج، فإذا ما وجدها لائقةً بهذا الأمر يقرّبها إليه. هذه الروح المختارة لا بد أن تكون بمنتهى الرأفة، تعطى سهماً عظيماً من الرقّة والكبرياء؛ بحيث تغدو أكثر استشعاراً وتأثراً بالحوادث، ثم يقذف الله ذلك الصيد الضعيف في لُجّة الفقر والضنك اختباراً للحقيقة وطلباً للمصير إلى حالة أفضل، لا يمدّ اليه أحد يد المعونة فيبقى دائماً صافياً مجهولاً، جاعلاً ذلك الجسم الضعيف الذي يضمّ بين حناياه تلك الروح المختارة يقاسي وطأة العذاب والآلام، طعامهُ الدموع والآهات دون أن يعلم أحد بمحنته؛ من أجل أن يكتمل ذلك الاختبار، في كل يوم صدمة واختبار جديد، يتعبه من عذاب الشوق والعشق والظلم. لا تسكن هذه الشدائد في يوم من الأيام، وإذا ما طلبت هذه الروح الصلح ينهدم ذلك السكون، وإذا ما قاومت يبتليه بضربةٍ أخرى أشدّ من الأولى وأمضى، وإذا ما استسلمت يزيد في شدائده، في قلب كل عزيز وقريب من تلك الروح المظلومة سهم من البلايا والمنايا مسطرة قصة فجيعة وغامضة مليئة بالأسرار، يأخذه بأصعب القوانين والأعمال لكي يكون أكثر استحكاماً وصلابة كطبقة الميناء الصلبة وكالسيف المصقول.

يُريد هذا القاضي العادل أن يعلم أن هذه الروح ـ التي هي محلّ عنايته ورعايته ـ كيف تقوم بوظائفها إلى آخر لحظة في خضَّم ذلك السيل من المصائب والمحن دون أن تفقد توازنها ووقارها، فإذا ما لاحظ أنها نجحت في ذلك الاختبار ولم تنحرف عن خط سيرها واستقامتها عند ذلك تتبسم لهُ الأقدار رحمة وتحنناً، ثم يودعه في أحضان الموت.

ولا بد أن نضيف إلى هذا الكلام الشاعري الجميل والواقعي أيضاً: ثم يرفعه إلى فردوس الخالدين ويجلسه في جوارهم؛ حتى يتزوّد من جماله وإلى الأبد. وفي ذلك الوقت، تعلم تلك الروح علّة تلك المصائب والمحن جميعها، ذلك لكي تتمتع بمشاهدة تلك التجلّيات التي لا يمكن أن يحويها وصفٌ، وإلى الأبد، ولكي تغنّي ذلك النشيد الجميل مع الخالدين وإلى الأبد. وأن تستغرق في مشاهدة التجلّيات الجميلة الرائعة.

وكما مرّت الإشارة في ترجمة حياة السيد موسى الزرآبادي، لم يغفل هؤلاء العظام عن أداء تكاليفهم السياسية والاجتماعية، ولهذا وجدنا الشيخ إلهيان يلقي كلاماً في حقّ نوّاب صفوي (استشهد 1334ش/ 1955م)، كما كتبتُ عن ذلك في مكانٍ ما فقلت: كان الشيخ علي أكبر إلهيان من العلماء الكبار، ومن أهل العلوم الباطنية والمشاهدات والكرامات له من العمر سبعين عاماً، له جسم نحيف من أثر العبادات والرياضات، سمعتُه يقول في إحدى المرات: «إذا ما رأيت نواب حضورياً ربما أصبح أحد أعضاء مجموعته».

هذا الكلام يؤكّد الأهمية الكبيرة التي يحتلّها الدفاع المسلّح عن القيم الدينية في ذلك الوقت. وكان والد الشيخ إلهيان، العالم الفاضل والفقيه التقي الشيخ محمد تقي التنكابني (1327هـ) من العلماء المتجرّدين والفقهاء العاملين، ومن تلاميذ الميرزا الشيرازي الكبير، له مصنفات كثيرة في الفقه والأصول. وقد وردت ترجمته في الكتب التالية: ـ هدية الرازي إلى المجدِّد الشيرازي. ـ «نقباء البشر» 1: 239 ـ 240. ـ مستدركات أعيان الشيعة3: 119.

في الختام، انتقل هذا الجوهر الوضّاء في شهر رجب عام 1380هـ (شهر دي 1339ش) إلى الرفيق الأعلى.

السيد أبو الحسن حافظيان1981م ــــــــــ

الحاج السيد أبو الحسن حافظيان المشهدي من نوادر عصره. ولد في مشهد في بيتٍ علوي، وتربى في أحضان التقوى. درس الأدب والرياضيات والطب القديم والنجوم والهيئة والفقه والأخلاق في بداية تحصيله، ثم دخل وادي الرياضة والمجاهدة وتحصيل العلوم الغريبة، مستفيداً من بعض الأساتذة الكبار.

كانت للسيد حافظيان صداقات عدّة في حوزة مشهد، ومن جملة أصدقائه الشيخ مجتبى القزويني، ذاك الصديق الذي لفت انتباه حافظيان إلى مقامات السيد موسى الزرآبادي ـ العالم العامل والمربي الكامل ـ وكراماته وعلومه، وهذا ما دعى السيد حافظيان للسفر إلى قزوين بمعيّة ودلالة الحاج الشيخ مجتبى القزويني، ليتشرّف بلقاء وخدمة السيد الزرآبادي، وينال الحظوة في كسب العلم وطيّ مراحل أكثر أهميّةً من التي كان قد حصل عليها قبل السفر.

وحافظيان من المرتاضين الكبار والمتعبّدين بالسلوك الشرعي، فقد كان دائم الاشتغال بالعبادات والرياضات في الحجرات العلوية للصحن الرضوي العتيق (صحن انقلاب، الحجرات المقابلة للقبلة، في جهة الشمال الشرقي)، لقد كان من أهل الدعاء، والأساتذة المشهورين في العلوم الغريبة. من آثاره: «اللوح المحفوظ»، وكتاب في شرح ذلك اللوح، وكذلك لوح: «جنة الأسماء»، ولا أعتقد أن شخصاً قد كتب حتى الآن مثل هذا اللوح، وبمثل هذه الجودة والجمال؛ فقد تناول الرموز العلميّة والخواص الروحانية لهذه الألواح، الأمر الذي لا بد من التعرّض له في الموضع المناسب.

وقد سطر حافظيان شرحاً مختصراً لسيرة حياته بطلبٍ من أحد الأصدقاء([4])، يجدر بنا الإشارة إلى نبذة منه، مع تغيير بسيط وتوضيح.

ولد السيد أبو الحسن حافظيان عام 1322هـ في مشهد المقدّسة، واشتغل بدراسة المقدّمات من النحو والصرف والرياضيات والطب والنجوم والهيئة والفقه والأخلاق عند بعض الأساتذة، وكان لديه شوق كبير للرياضات والمجاهدات، متأثراً في ذلك ببعض الأعمال التي كان يقوم بها والده([5]). وقد قَبِل الحاج الشيخ حسن علي الإصفهاني المترجَم له تلميذاً عنده في الرياضات؛ طبقاً لوصية الأب.

كان حافظيان يعمل بصورةٍ منتظمة لتحصيل العلم في مدرسة الميرزا جعفر، في الضلع الشرقي للصحن الرضوي القديم ـ صحن انقلاب ـ أمّا في الليالي فينشغل بالعبادات والرياضات في الحجرة العلوية للصحن القديم، قرب الإيوان العباسي مقابل «البقعة المطهّرة»…. واستمرّ كذلك إلى أن أصبحت له شهرة كبيرة بين الخواصّ والعوام، فقد استفاد عموم الناس من الدعوات والأعمال الروحية التي كان يقوم بها. هذا وقد كان منشغلاً فترةً من الزمن بخدمة الحاج السيد مظهر حسين الهندي، كما اتخذ منزلاً له ـ أواخر حياته ـ في مدينة مشهد في زاوية الصحن الجديد ـ صحن آزادي ـ في الحجرات العلوية في الضلع الجنوبي، مشغولاً بالرياضات الشرعية…

وقد سافر ـ بعد ذلك ـ عام 1347هـ مع الرجل الكبير الحاج الشيخ مجتبى المدرّس القزويني ـ طاب ثراه ـ لملاقاة الأستاذ الكبير والسيّد الجليل حضرة السيد موسى الزرآبادي ـ طاب ثراه ـ في قزوين…. فما وفّق له فيما مضى كأنما كان مقدّمةً للوصول إلى ذلك السيد الكبير، وبعد ذلك، حالفه التوفيق بصورة كاملة، فأصبح صاحب مكاشفات وذا إرادة قوية، بحيث ظهرت آثاره واضحة على الجميع، وكان يسافر إلى قزوين مرّةً واحدة في كلّ سنة.

أما سفره إلى الهند، فكان عام 1351هـ، حيث قضى هناك عشر سنين وستة أشهر، فكانت له سياحةٌ في كلّ زاوية من الهند، وكان من زوايا خواص المرتاضين في الهند.

زار الغانغ، وهو النهر المقدّس للهنود، واغتسل في مائه في هردواد، وصلّى في بيوت التماثيل ـ ظهره إلى الصنم ووجهه إلى القبلة ـ وبعد أن صلّى، قرأ القرآن بصوتٍ عال ولحنٍ عربي، واستمع إلى مرتاضين كثيرين…

بنى مسجداً صغيراً للشيعة في محلّة «غروبازار» في شهر سرينعر في كشمير([6])، وكان الناس في حاجةٍ شديدةٍ لبنائه، وفي سفح جبل «ترال» في كشمير ومدن وقرى كثيرة لا تعرف القبلة بنى حافظيان على قمّة جبل «صوفي بورة» برجاً مربعاً من الحجر لتشخيص القبلة من كل جهة، وكتب هناك: «صلّ ركعتين واطلب حاجتك من الله»، فكان الناس في تلك الأيام يذهبون إلى ذلك المكان، ويدعون لقضاء حاجته، من السنّة والشيعة، ويشعلون المصابيح في ليلة النصف من شعبان، علماً أن الشيخ حافظيان كان صنّف كتاب «اللوح المحفوظ» ـ وهو من العجائب العلمية ـ في هذه البلاد نفسها.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الضريح المبارك لحضرة الإمام الرضا A ـ والذي يقع الآن على ذلك المرقد الملكوتي ـ من آثار المرحوم السيد حافظيان، فقد فكّر قبل أربعين سنة بتبديل الضريح السابق ـ الذي أصبح قديماً ـ فأقدم على بناء ضريحٍ جديد بمعونة بعض المتديّنين في باكستان، ومساعدة القائمين على الحضرة الرضوية المقدسة، وبعد إتمام العمل نصبَ الضريح الجديد بعد أن نقل الضريح السابق إلى المتحف الرضوي المقدّس، وذلك بمعونة بعض الفنّانين من مشهد وإصفهان.

وقد رفع الستار عن الضريح الجديد في النصف من شعبان 1379هـ، حيث أعطى رونقاً أكثر إشراقاً لضريح الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضاA، إن الخدمة التي قام بها السيد حافظيان لهذا الحرم الملكوتي كانت سارّةً جداً، تستحقّ أن يشكُر الله عليها.

وقد بلغ السيد حافظيان في «المعارف الاعتقادية» و«حقائق المبدأ والمعاد» و«الحقائق الروحية الشريفة» مرتبةً عالية جداً، شكّلت حصيلة جوهره الروحي الذي كان يتمتع به واستعداده الممتاز، وكذلك نتيجة حضوره دروس العلماء الأعاظم، واجتهاده في العبادات والرياضات الشرعية والأذكار وقراءة القرآن التي كانت شغله الدائم، وكانت له مشاهدات وتصرّفات تحظى بأهمية كبيرة، بل كان لبعضها ـ أحياناً ـ فائدةٌ للأصدقاء بمن فيهم أنا الذي أكتب هذه السطور، فقد شاهدت لهذا العالِم أموراً مهمّة، وقد استفاد الكثيرون في مشهد ونقاط مختلفة من إيران والهند وباكستان وبعض بلدان العالم الأخرى من روحيّته وأدعيته طوال سنوات متمادية ـ 50 عاماً تقريباً ـ واستطاع أن يحلّ الكثير من المشاكل، وأن يقدّم الكثير من الأعمال العظيمة.

ومما يؤسف له أنه لم تدوّن جزئيات حياة السيد حافظيان الروحية ذات المضامين العالية، ونوادر أحواله وأعماله وخدماته، وسيرة حياته ورحلاته. نعم، كانت هناك بعض الأشياء المكتوبة؛ بيد أنها قليلة.

على كلّ حال، كان هذا العالم تفكيكيّاً أيضاً في رؤاه الاعتقادية، كأستاذه السيد موسى الزرآبادي، وصديقه الشيخ مجتبى القزويني الخراساني، وكانت له مواظبة على «السلوك الروحي الشرعي»، فقد كان بعيداً عن السلوك المصطنع، ولم يكن من أهل التدريس والتأليف، فقد كانت كثرة الأعمال في إيران وباكستان تأخذ منه جملة أوقاته. وإني لأرى في تناول سيرة هذا الرجل ـ تلك الشخصية المعنوية الكبيرة والنادرة ـ بمناسبة ذكر السيد موسى الزرآبادي وعدد من تلامذته مناسبةً طيّبة.

كانت همّة السيد حافظيان في خدمة الخلق، وكانت له رياضات ومجاهدات، واكتساب متواصل للعلوم والكمالات، حصل على قدرة روحية ـ في ظلّ العبادات والرياضات الشرعية والتوسلات ـ ومع ذلك كان متواضعاً في خدمة الناس، فقد كان يعتبر طريق القرب من الله كامناً في خدمة «خلق الله»، وكان في هذا الأمر صبوراً، وذا وجهٍ باسم. كان يجلس يومي الأحد والأربعاء في البيت، فاتحاً الباب على مصراعيه لاستقبال الناس، فيأتيه من كان محتاجاً يجلس قربه ويتكلّم إليه من صميم قلبه واضعاً مشاكله ـ أو مشاكل أولاده أو أقرباءه ـ بين يديه، وبعد أن يسمع ـ بتواضع ـ يحاول بكلّ سعيه حلّ هذه المشاكل، كان يضع الأدعية اللازمة لكلّ أمر دون طمع ـ من التي يهيئها بنفسه ـ وكان يعلّم الناس طريقة العمل إذا وجد ذلك ضرورياً، وربما استفاد كثير من الناس من تلك الأدعية والأعمال، واستطاعوا من خلالها حلّ مشاكلهم.

هذا الموضوع له قصّة طويلة أيضاً، ومما يؤسف له عدم تدوين هذه الأمور عن مثل هؤلاء لا في كتاب ولا في شريط.

لم يشعر السيد حافظيان بالضيق من تعليم العلوم والأسرار التي استفادها من أساتذته الكبار، وكذا الأدعية ونسخ الإجازات التي كانت لديه، والرياضات والمجاهدات التي سلكها ـ وبعضها كان مهماً جداً ـ فإذا ما وجد طالباً مستعداً ولائقاً فإنه لا يتوانى عن تعليمه وتربيته.

من هنا، استفاد بعضهم من هذه الشخصية الهامة، ومن أبرزهم: الحاج السيد حسين قنبري، كما يظهر ذلك في نسخة كتاب «اللوح المحفوظ» التي أهداها له أستاذه، فقد كتب فيه: «… لقد وفق [قنبري] للعمل بالمجاهدات والرياضات طبقاً لتعاليمي التي أخذتها من أساتذتي الكبار، وبحمد الله والمنة فقد سبق معاصريه في هذا المضمار، وحصل على نتائج كاملة؛ ولهذا فهو الآن مشغول بخدمة الخلق التي هي أفضل العبادات بعد أداء الفرائض جزاه الله خير الجزاء…n.

عرف السيد قنبري السيدَ حافظيان في مشهد عام 1331ش/1952م، وطلب منه الإرشاد والتعليم، فاستقبله الأستاذ وقام بتعليمه وتربيته، وبعد اثني عشر عاماً من العمل (1341ش) وبعد طيّ المراحل، انشغل بالإجابة على أسئلة الناس ورفع مشاكلهم بأمرٍ من الأستاذ، وما زال مداوماً على ذلك منذ 30 عاماً، في سلوك طريق أستاذه في خدمة الناس ورفع حاجاتهم دون انتظار نفع دنيوي أو..

وقد كان متّبعاً نهج أستاذه في الأذكار والأعمال، أي المنهج الشرعي الكامل دون أي انحراف، هذا المنهج الذي يختلف عن المسلك الصوفي وأمثاله، وقد كان السيد حافظيان يؤكّد أيضاً على أن منهج أستاذه ـ أي الحاج الشيخ حسن علي الإصفهاني النخودكي ـ في الرياضات كان شرعياً تماماً.

وأسجل في هذه الخاتمة كلمة أخيرة وهي أن العلماء العظام وتلامذتهم كانوا دائماً في خدمة خلق الله وما يزالون، وما حصلوا عليه كان من أجل راحة الخلق وحلّ المشاكل رضوان الله تعالى عليهم.

الشيخ هاشم القزويني الخراساني 1960م ــــــــــ

أدرك هذا العالم المفكّر، والفقيه الزاهد، والمربي العظيم، ومدرّس الفقه والأصول والأخلاق السيدَ موسى الزرآبادي في قزوين والميرزا مهدي الإصفهاني في مشهد.

«ولد الحاج الشيخ هاشم (محمد هاشم) المدّرس القزويني الخراساني عام 1270هـ في إحدى قرى قزوين، وتعلّم المقدمات والأدب العربي فيها، وبعد إكماله درس اللغة العربية عند أساتذة الفن، قرأ السطوح العالية في الفقه والأصول عند أساتذة قزوين، وعلى رأسهم الحاج الملا علي الطارمي والآخوند الملا علي أكبر، كما درس الفلسفة المشائية والإشراقية عند الحاج السيد موسى الزرآبادي، ثم عزم على السفر إلى إصفهان لإكمال علوم الاستنباط؛ فحضر عند أركان فقه الشيعة هناك وهم المرحومان: «الكلباسي» و«الفشاركي»، ثم رجع إلى وطنه بعد ست سنوات من الإقامة هناك، وقد كانت الأجواء في الحوزة العلمية في مشهد آنذاك تشجّع على الهجرة، فسافر إلى هذا المركز العلمي وحضر عند كل من: 1 ـ آية الله الحاج آغا حسين القمي. 2 ـ آية الله الميرزا محمد آغا زاده الخراساني، ابن الآخوند الملا محمد كاظم الخراساني، صاحب «الكفاية». 3 ـ آيـة الله الميرزا مهدي الإصفهاني.

كان القزويني فخوراً بالإجازة التي حصل عليها من الأستاذين الأخيرين، حيث وشّح آية الله السيد أبو الحسن الإصفهاني ـ زعيم الحوزة العلمية ـ الإجازة المذكورة بالتوقيع التالي: صَدَر عن أهله في محلّه.

وكان الحاج الشيخ هاشم القزويني، مثالاً بارزاً للعالم الديني الحقيقي، كان رجلاً عاقلاً، حراً، متواضعاً، ذكياً، ملتزماً، شجاعاً، بعيد النظر. وكان شديد الكراهية لخداع الناس والانحطاط والنزعة الرجعية.

إنه عالم الكمال جمع في جسد، أما في الأخلاق فقد «جُمعت الأضداد»، كان نهاية الوقار وشديد التواضع، اجتماعياً، وفي الوقت نفسه منزوياً، كان يمتلك الشهامة والشجاعة وسلامة النفس، كما كان صريحاً وشفّافاً.. كان للطلبة أباً رحيماً، فعندما امتنع عن التدريس إثر الأزمة القلبية التي ألمّت به لم يتضايق من الإجابة على أسئلة التلاميذ العلمية، ومع ذلك كلّه كان يكتفي بالقليل من متاع الحياة الدنيا، وكان ذو همّة عالية في ظلّ هذه القناعة.

جاء على لسان الشاعر المغفور له غلام رضا القدسي (1304ش ـ 1368ش) الذي حضر درس الشيخ هاشم القزويني أنّه قال: عندما نال العلاّمة الفقيد هذه المنازل، رأى أنه محتاج إلى عالم يتألّق بين الجميع، هذا الأستاذ.. ناشر علوم أهل بيت العصمة الفقيه الزاهد، ومعلّم الأخلاق، العلامة المرحوم الميرزا مهدي الإصفهاني ـ رحمة الله عليه ـ فعندما أدرك الأستاذ هذه الشخصية لم يُفارقها، ولا يوماً واحداً، باستثناء أيام التبعيد ـ بعد تدخله في حادثة «مسجد كَوهرشاد»، وتصديه للأهداف التي كان يسعى لتحقيقها رضا خان، عميل الأجانب، في القضاء على القيم ـ وقد كتب الميرزا النائيني تقريراته من الشيخ الأستاذ، وتعلّم روح المعارف الإسلامية وقسماً من العلوم الخاصة منه، لقد كان ـ بصورةٍ عامّةٍ ـ فقيهاً كبيراً يمتلك روحاً نشطة فاعلة، بعيداً عن كلّ مقام واسم.

كان القزويني مديراً للحوزة العلمية في خراسان بمنتهى اللياقة، ولمدة أربعين عاماً، وهناك العديد من الفضلاء المشار اليهم بالبنان الآن من الثمرات العلمية له، وأحدهم: الأستاذ الدكتور محمد رضا شفيعي الكدكني، فقد دوّن بعض المذكّرات حول شخصية هذا المربي العظيم، فقال: من الضروري أن نشير إلى وجود أشخاص كان لهم أكبر الأثر في حياتي بعد والدي، وأحد أهمّ هؤلاء المغفور له آية الله الحاج الشيخ هاشم القزويني، فإضافةً إلى تدريسه الفقه والأصول، كان يعلّمنا ـ عملياً ـ سبيل الخروج من ضيق نظر القرون الوسطى وكسر حاجز التعصّب في التعلّم وطلب العلم.

وقد وفقتُ أن أكون من تلاميذه، وحضّار درسه في «الرسائل» و«المكاسب» و«الكفاية» و«خارج الأصول» لعدّة سنوات؛ وقد كنتُ أحسّ بالفرق بينه وبين أقرانه، بما أعطاني الله من ذوق وذكاء متواضعين … ولا أنسى أبداً أنه قد وصل متأخراً في أحد الأيام لنصف ساعة، وقد كنتُ وقتها في بداية الشباب ـ أصغر الطلبة في درسه ـ كنت أذرع الطريق من مدرسة نواب حتى الزقاق، وفي بعض الأحيان أدخل في داخل الزقاق حتى اقترب من منزلة بقلب مفعم بالاشتياق لقدومه، وعندما أحسّ بمجيئه أشعر بالهدوء والاستقرار في داخلي…

كان الشيخ القزويني ذا ذهن حرّ وقّاد، وبديهة عالية في الإجابة عن الأسئلة، قلّما توجد بين أساتذة عصره… كان غالباً ما يذكر في المباحث الفقهية والأصولية أمثلةً من الواقع اليوميّ الذي يعيشه الناس، وذلك بغية الحيلولة دون وقوع الطالب تحت تأثير الوصفات الجاهزة.

الميرزا علي أكبر النوقاني 1300 ــ 1370هـ ــــــــــ

يُعتبر الميرزا علي أكبر النوقاني من العلماء الأفاضل، والخطباء القديرين، والمربين الكبار. ولد في مشهد المقدّسة في محلّة نوقان (نوغان)، وبقي هناك لكسب العلم 27 عاماً، مستفيداً من عدّة أساتذة مثل: 1 ـ الميرزا عبد الجواد الأديب النيشابوري الأول (1344هـ). 2 ـ الحاج الشيخ حسين علي الطهراني، العالم المتقي والزاهد المعروف (1325هـ). 3 ـ الحاج السيد عباس الشاهرودي، العالم التقي (1341هـ).

وبعد ذلك رحل إلى النجف الأشرف، واستفاد من دروس كلّ من: 1 ـ الآخوند الملا محمد كاظم الخراساني (1329هـ). 2 ـ السيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ). 3 ـ شريعة إصفهاني (1339هـ).

وبعد وفاة الآخوند الخراساني أخذ إجازة الاجتهاد من: 1 ـ الميرزا عبد الله المازندراني (1330هـ). 2 ـ الميرزا محمد تقي الشيرازي (1338هـ).

وعندما رجع الميرزا النوقاني إلى وطنه، عمل على حفظ مبادئ الدين وترويجها، صارفاً أربعين سنةً من عمره الشريف في تربية المجتمع، وبعد ذلك، التحق بحمعٍ من أصدقاء الميرزا الإصفهاني وتلامذته، واستفاد من معارف ذلك العالم المتألّه القرآني، وأصبح من أعلام «المدرسة التفكيكية».

ومن خصائص المدرسة التربوية للميرزا الإصفهاني الارتباط الخاصّ بمقام ولاية وليّ العصر الحجة بن الحسن المهدي (عج) وهذه الحالة كثيراً ما تلاحظ في أصحاب هذا العالم وتلامذته، إلى حدّ أن بعضهم كان واعظاً منبرياً، وكان يُلزم نفسه بذكر اسم صاحب الزمان (عج) في مجالسه كافّة، ولم يكن ينهي أيّ مجلسٍ دون ذكره، ومن جملة هؤلاء: الواعظ المتقي المعروف في ذلك الزمان المغفور له الشيخ الحاج علي المحدِّث الخراساني (1370هـ).

عام 1363هـ، أعطى آية الله العظمى المجاهد المعروف الحاج السيد حسين الطباطبائي (1366هـ) ولاية «مدرسة نواب» في مشهد المقدسة إلى الشيخ النوقاني، فتولاها ست سنوات وعدّة أشهر، وهذا ما يشير إلى جدارته الرفيعة بالعمل التربوي. وفي تلك الفترة وضعت بعض المقرّرات والقوانين في المدرسة لتربية الطلاب، ولعبت دوراً في ذلك عند الكثيرين منهم، وكان النوقاني يتجنب الطلبة الكسالى والجهلة الذي يفتقدون روح التقوى، وكان يقول: على الطالب ـ مهما كان السبب الذي يحمله على الدرس، ارتقاء المنبر أو إمامة الجماعة أو تعليم بعض المسائل ـ أن يدرس السطوح بصورةٍ جيدة، من الأدب والمنطق والفقه والأصول، وأن يفهم كتاب الكفاية جيداً ويُمتحن به كذلك، وفي تلك الحالة يمكن أن يكون مروّجاً للدين، ذلك كلّه إضافةً إلى بعض المقرّرات الخاصّة بارتقاء المنبر، وهي مقرّرات لو روعيت بصورة صحيحة لما شاهدنا كلّ هذه الأمور المحزنة التي تحدث على المنابر.

آية الله النوقاني شخصية محترمة، ذو قوام رشيد، ومنظر جذاب، وصوت رجولي مؤثر، وهيبة نادرة، وحياة بسيطة، كان يرتقي المنبر عدّة مرات في السنة في بيته، وذلك قبل حادثة مسجد «كوهرشاد».

كان مثالاً للعالم الملتزم اليقظ، ومن المروّجين للدين. كان قليل النظير في الخطابة والمناظرة والمنبر، كان لديه «السمت الرشيد» الذي اعتبره ابن سينا شرطاً في الواعظ والمبلّغ والمربي الإخلاقي، وكان مطّلعاً على مسائل زمانه، مؤكّداً على علماء الدين والمبلغين أن يكونوا واعين بها، ومن خلال هذه الخصوصيات (قوّة البيان الجذاب، القدرة الكاملة على المناظرة، الاطلاع على حقائق المعارف الدينية، الوعي بثقافة العصر) استطاع أن يُخلّص الكثير من الوقوع في فخ التبليغ الضالّ للمبلغين ذوي المسالك الباطلة.

كان للنوقاني ذوق لطيف وطبع شاعري، وله مجموعة شعرية عالية المضامين في التوسّل بوليّ العصر (عج)، وله ثلاثة مصنفات مطبوعة: 1 ـ دو مقالة نوقاني. 2 ـ سه مقالة نوقاني. 3 ـ مجموعة أشعار.

الكتاب الأول: في ردّ الأديان والمسالك الباطلة بأسلوب بسيط، وقد وردت سيرة حياته في مقدّمة «مجموعة أشعار» بقلم الحاج عبد الحميد المولوي([7]).

الابن الوحيد ـ من الذكور ـ للنوقاني هو العالم الخبير بأوضاع المجتمع وآلامه المغفور له الحاج الميرزا مهدي النوقاني، سلك سيرة أبيه الحسنة بعد أن تربى على يديه، وواصل سيرته الطاهرة. وقد انتقل إلى رحمة الله عام 1371ش ـ 1413هـ، (عام تأليف هذا البحث)، ودفن في جوار الحرم الملكوتي في خراسان، رحمه الله مع أبيه رحمةً دائمة.

الشيخ غلام حسين المحامي البادكوبه 1954م ــــــــــ

الشيخ غلام حسين المحامي البادكوبه من العلماء الجامعين. ولد في إحدى قرى بادكوبه قبل الثورة الشيوعية في آذربيجان. كان أبوه الشيخ أبو الصلت البادكوبه من العلماء البارزين في ذلك الزمان، وكانت الناس ترجع إليه في أجوبة المسائل الدينية بعد وفاة أستاذه العالم الفاضل، الحاج الشيخ غني البادكوبه، مرجع المسلمين في ذلك البلد.

بعد ان أنهى الشيخ غلام حسين المحامي دروسه الابتدائية، عزم على السفر إلى بادكوبه، منشغلاً فيها بقراءة اللغة والآداب العربية، حتى قرأ كتاب المطوّل في المدرسة العلمية هناك، ثم استمرّ في دراسته في مدرسة خيراتخان؛ حيث أنهى الكتب المخصصة لمرحلة السطوح بجديّة تامة عند أساتذة حوزة مشهد، ثم اشترك في بحوث الخارج في الفقه والأصول والعقيدة عند بعض الأساتذة الكبار والفقهاء العظام، أمثال: 1 ـ آية الله الميرزا محمد آغا زادة الخراساني. 2 ـ آية الله العظمى الحاج آغا حسين الطباطبائي القمي. 3 ـ الفيلسوف المعروف آغا بزرك حكيم الشهيدي. 4 ـ آية الله الميرزا مهدي الغروي الإصفهاني.

كان آية الله المحامي مهتماً بتحصيل الحكمة والفلسفة عند بعض الأساتذة المشهورين بهذا الفن في ذلك الوقت، أمثال آغا بزرك حكيم الشهيدي المشهدي، وبعض الأساتذة الآخرين، حتى وصل إلى مرتبة لائقة فيهما.

وبحضوره دروس الميرزا الإصفهاني ومعرفته بمكانته العلمية الشامخة، ألزم نفسه بدروسه والاستفادة منه في المباحث الانتقادية.

ومع إعراضه عن التقليد، كرهاً به، وإصراره على البحث والفحص والردّ والإيراد، فقد منح الأساسيات الفكرية لمشروع أستاذه في نقد المعطيات الفلسفية والعرفانية نزعةً عميقة، وكان لهذا العالم الرباني والمتألّه القرآني منزلةً خاصة عند آية الله الإصفهاني، وكان يُعتبر من أركان الحوزة العلمية في خراسان، يضاهي في منزلته منزلة بعض العلماء الكبار أمثال الشيخ هاشم القزويني، والحاج الشيخ مجتبى القزويني، وهم من الشخصيات العلمية البارزة في حوزة مشهد المقدسة خلال عقود عدّة من القرن الرابع عشر الهجري، فقد كانوا يديرون دروس الحوزة الرئيسية.

ولم يقصّر هؤلاء الكبار، والمؤمنون الصالحون والعلماء العاملون في أداء تكاليفهم الاجتماعية والسياسية ـ كما مرّت الإشارة لذلك ـ وكانوا يعلمون بحقّ وظائفهم الدينية، كانت تربط آية الله المحامي علاقة متينة بالشهيد نوّاب صفوي، وكانت للأخير ميول خاصة للشيخ، باعتباره واحداً من رجال الله والعلماء المجاهدين الشجعان، كانت العلاقة محكمة في التصدي للنظام البهلوي المنحطّ والمعادي للإسلام.

كان الحاج الشيخ غلام حسين المحامي يدافع عن المقدّسات الدينية والقيم الإسلامية بكلّ طاقته، كان مصداقاً لقوله تعالى: >وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ< المائدة: 54، أي لم يكن يخشى أحداً في أداء تكاليفه السياسية والاجتماعية، ولم يمتنع عن القيام بوظائفه الدينية.

كان مهتمّاً اهتماماً شديداً برفع مشاكل الشباب وحفظ بناءاتهم الاعتقادية، رحيماً متواضعاً، خادماً للمسلمين، كان كثير القراءة للقرآن الكريم، يأنس بالمناجاة وقراءة الأوراد والتهجّد بالليل، مؤثراً في الناس، مجتهداً في توسّلاته،وخصوصاً بصاحب الزمان «عج».

كان لدي انشداد خاصّ لهذا الأستاذ المربي والمقام الطاهر والمتواضع، صاحب الزهد والتعبد، بالإضافة إلى تأثري بروحيّته العلمية والاجتهادية، وكان يبادلني الشعور نفسه، وفي ذلك الوقت درستُ مقداراً من «منظومة السبزواري» مع أحد زملائي من طلاب مدرسة نواب عنده (درس الفلسفة عند الأستاذ آغا بزرك حكيم)، وعندما كنت أذهب إلى منزله كان يفتح لنا الباب بمنتهى التواضع والكرم، ويستقبلنا ويشرح لنا الدرس. أما أسلوب تدريسه للفلسفة فكان يدرّسها برؤية اجتهادية نقدية، وهذه النقطة البناءة المهمّة كانت تبعث فينا الرغبة والشوق، وكان له أسلوب خاص وعميق في تحليل المباني الفلسفية ونقدها، خصوصاً فلسفة وحدة الوجود وأصالة الوجود، أسلوب خاص به، فكان يتناول أساس المشكلة بأقصر الجمل وأقرب الطرق، مُبيناً الإشكالات الواردة على القواعد والأدلة، كان يحلّل المسألة كما يحلّل الندّاف القطن، كالنور الذي يتحلّل عن طريق «المنشور»، ومع شديد الأسف لم تكن الوسائل متوفرة في ذلك الوقت كآلة ضبط الصوت وشريط التسجيل حتى تضبَط مثل تلك المحاضرات والأسئلة والأجوبة والبحوث؛ كي يستفيد منها الطلاب والمحققون.

ولأن الكلام هنا يتناول أساتذة المدرسة التفكيكية، أرى التعرّض لذكر هذا الرجل الإلهي والعالم الزاهد الرباني في محله، بل واجب ووظيفة، فهو من كبار التفكيكيين، وباحث ناقد ذو نظرة عميقة في الأصول الاعتقادية والمباني والمصطلحات الفلسفية، فقد كان من زبدة تلامذة الميرزا الإصفهاني.

وفيما عدا ما أملك شخصيّاً من معلومات عنه، طلبتُ من ابنه البارّ حجة الإسلام والمسلمين الحاج الشيخ رضا المحامي([8])، كي يكتب شيئاً عن حياة أبيه، فكان من جملة ما كتبه:…. ومن خصوصياته الأخرى مداومته على تلاوة القرآن؛ فكان يُلزم نفسه بقراءته في المنزل بصوت مرتفع، وعادةً ما كان يكرّر ختم القرآن في شهر رمضان، وقد ذهبتُ معه أوائل أيّام الشباب إلى مسجد كوهرشاد في شهر رمضان، فكان يقرأ ـ أحياناً ـ خمسة أجزاء في جلسةٍ واحدة… ومن خصوصياته الأخرى أنه كان يستيقظ قبل الأذان؛ لصلاة الليل، ثم يبدأ بمناجاة ذات وقع، لا تزال أصداؤها وذكراها يرنّان في سمعي، وكان كثير الذكر، وذا أذكار يداوم عليها…

بعد رحلة الأب، وانعقاد مجالس الفاتحة، ومن أجل أداء الزيارة والاحترام، ذهبنا إلى المرحوم آية الله الحاج الشيخ مجتبى القزويني بمعيّة بعض الأقرباء… وضمن إظهار الحزن والأسف على الوالد، قال: «ربما لا تعرفون الحاج الشيخ غلام حسين كما أعرفه أنا؛ فمن خصوصيّات أبيكم أنه لا يسمع مسألةً علمية من أيّ مقام علمي إلا ويهضمها أولاً، ثمّ يحدد مدى صوابها، ثم يخزنها في ذاكرتهn، نعم، كان أبي آية الله الحاج الشيخ غلام حسين المحامي، في الحقيقة، فيلسوفاً وفقيهاً. قرأ الفلسفة عند الحكيم المشهور في ذلك الزمان آغا بزرك حكيم، من هنا لا يستطيع أحد أن يقول: إن الحاج الشيخ غلام حسين المحامي إنما اعتقد بالإصفهاني لأنه لا يعرف الفلسفة، فعندما حضر المحامي درس الميرزا الإصفهاني وأدرك مكانته العلمية؛ أخذ على نفسه حضور دروس العقائد وبحث الخارج على يديه، لقد كان خبيراً وعميقاً في أفكار الميرزا ومشروعه النقدي للفلسفة، ورأيه في عدم التقليد في المسائل الحكمية والفلسفية.

إن الأشخاص الذين تلمّذوا على يد الميرزا الإصفهاني في الدورات الأولى أغلبهم من فحول علماء حوزة خراسان، كلّهم من الأساتذة المتمرّسين، ومن جملتهم الأستاذ آغا بزرك حكيم، والحاج الفاضل الخراساني ممن أدرك الشيخ أسد الله عارف اليزدي، وقد أذعن الجميع بنظريات الميرزا الإصفهاني، بعد أن بانت صحّتها لهم، وذلك عقب مُباحثات طالت سنوات عدّة، في جلسات متعددة.

كان آية الله المحامي أحد العلماء المتثبّتين؛ فلم يكن يأخذ الأمور على عواهنها أو يقبل المسائل بسهولة وعجلة وابتسار، بل ربما انتظر شهراً يناقش ويناظر، حتى أن الميرزا الإصفهاني ربما صار غاضباً من كثرة مداخلاته، وقد نقل الثقات قصصه في تلك الدروس، والتي تنمّ عن روح متوثبة واستقلال في الفكر واجتهاد في الفعل العقلي.

هذا هو آية الله المحامي، العالم العقلاني النقّاد، صاحب العقل النشط والفعال، البحاثة ذو الصبر الكبير، والمستشكل اللدود، وقد توفرت مثل هذه الخصوصيات أيضاً في درس (المنظومة) بصورة واضحة كما أشرنا إلى ذلك([9]).

الميرزا جواد آغا الطهراني 1989م ــــــــــ

ولد العالم الفاضل التقي، الحاج الميرزا جواد آغا الطهراني الخراساني عام 1283 هـ ش، في طهران بين عائلة متديّنة، ثم رحل إلى النجف الأشرف بعد أن أنهى المقدّمات في قم وطهران، ونهل من فيض كلّ من الأساتذة: 1 ـ آية الله الشيخ مرتضى الطالقاني، العالم العامل الفاضل (1362هـ). 2 ـ آية الله الشيخ محمد تقي الآملي، العالم العامل، شارح «منظومة السبزواري» (1391هـ).

ثم رجع إلى طهران؛ تنفيذاً لوصية والدته، شادّاً الرحيل إلى مشهد المقدسة وهو في سن الثلاثين بعد إقامةٍ قصيرة في طهران، وفي بداية الأمر استفاد من دروس المغفور له الحاج الشيخ هاشم القزويني، ثم حضر دروس البحث الخارج في الأصول والفقه والعقائد عند آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني، وكان يحضر دروس الأستاذ إلى آخر يوم في حياة الأخير، وهو 19 ذي الحجة 1365هـ، أي ما يقرب من عشر سنوات تقريباً؛ فتعلّم المباني الأصولية للميرزا النائيني، وكذلك فقه ومعارف أهل البيت E. ثم لازم الميرزا الإصفهاني عدّة سنوات في بداية فترة تفتّح شخصيته العلمية والأخلاقية، وقد ترسّخت أسس هذه المدرسة فيه إلى درجة أنه ظلّ جاهداً في شرح معالمها وترويج أفكارها قدر الجهد والمكنة إلى آخر لحظة في حياته، وكانت دروسه وكتاباته في التفسير وتقرير بحث العقائد تقوم دائماً على أساس أفكار الأستاذ الإصفهاني، من هنا، عدّ واحداً من مروّجي «التفكيك» ودعاته، وركناً من أركان مدرسته.

خدم الحاج الميرزا جواد آغا الطهراني الحوزة العلمية والمجتمع الديني في مشهد سنوات طويلة (40 سنة تقريباً)، واستمرّ يُلقي دروس الخارج في الفقه والأصول لسنوات، وكان من أسلوبه أنه عندما يوجّه نقداً لبعض آراء العلماء والفلاسفة الكبار كان يذكر أسماءهم بأدب وتواضع وتوقير، مُتجنباً تحقير الآراء أو تقزيم الأفكار.

كان عاملاً بوظيفته في التأليف والكتابة، آخذاً بنظر الاعتبار مسؤوليته الدينية والاجتماعية، ومن عادته أنه لم يضع لنفسه ألقاباً كبيرة في مؤلّفاته، بل لم يكن ـ أحياناً ـ يكتب اسمه بتمامه، فقد كان يكتفي بالتعبيرات التالية: تاليف «ج ـ زارع»، أو «ج»، أو «جواد»، وفي الفترة الأخيرة كان يكتفي بـ«جواد الطهراني».

ومن جملة آثاره المطبوعة:

1 ـ فلسفة بشرى واسلامى، في بيان مبادئ المدرسة الشيوعية والمادية ونقدها، وكان هذا الموضوع ضرورياً آنذاك.

2 ـ عارف وصوفى جه مي كويند؟ في بيان مبادئ المعتقدات الصوفيّة وتحليلها ونقدها نقداً علمياً، وهو كتاب منصف واستدلالي،يشتمل على بحوث ومسائل مفيدة،يجدر بأهل الفكر في المسائل الاعتقادية أن يطلعوا عليها بدقّة، ودون أفكار مسبقة، وأن يتأملوا في مروياته، وهو من الكتب الكلاسيكية للمدرسة التفكيكية.

3 ـ ميزان المطالب، في جزءين، يشتمل على المباحث الاعتقادية على أساس القرآن والحديث، وفيه نقل ثم نقد لآراء أخرى.

4 ـ آيين زندكى ودرسهاى اخلاقى اسلامى، في بيان الأخلاق الإسلامية على أساس الأحاديث والآيات.

من الوظائف اللازمة والضرورية لعلماء الدين والوعاظ الاهتمام بأمور المسلمين، سيما المحرومين والمحتاجين منهم، فإذا لم يهتمّ عالم الدين والواعظ الروحي بهذا الأمر فسوف ينفصل عن سيرة النبي 2 والائمة الطاهرين E تلقائياً، ومن ثمّ يتحوّل إلى تاجر محترف، لا وارثاً لرسالة الأنبياء E والمعصومين E، رضي بذلك أم لم يرض.

إلى أيّ شيء يُدعى الإنسان الغارق في مستنقع الحرمان والتشتت، لا يستطيع تلبية حاجاته الحياتية الضرورية؟! إذهب إلى كوخ من أكواخ إحدى العوائل المحرومة الفقيرة وجرّب أن تعيش ـ ولو شهراً واحداً ـ ظروف حياتهم، اجعل أبناءك وبناتك وصغارك في ظروف مشابهة لتلك التي يعيشها أولادهم وصغارهم، يقاسوا ليالي الشتاء الباردة كما يقاسي الفقراء، جرّب أن تكون يوماً دون دواء أو طبيب، جرّب أن تعيش مستأجراً أو بدون زوجة، في ذلك الوقت فقط سوف تعرف طعم الحياة، وهل يكون العمل بالأحكام ميسوراً أو لا.

هذا إذا غضضنا النظر عن الحرمان المعنوي، أي الحرمان من التعليم والتربية، بل وحتى تعلّم الآداب الدينية والمسائل الشرعية، وحيازة كتابين أو ثلاثة من الكتب الدينية كالقرآن والرسالة العملية.. فإذا لم يتعامل الإنسان مع أخيه المحروم، ولم يعلم من أخباره شيئاً، خلافاً لتعاليم النبي 2 والأئمة الطاهرين E، ولم يهتم لما يقاسونه من آهات وآلام، وكان يقضي أغلب أوقاته مع المرفهين والأغنياء المترفين حسب الاصطلاح القرآني، فكيف يمكنه إدعاء الانتساب إلى دين الله وسيرة
الأنبياء E والأوصياء E؟! وما هو الدليل على ذلك؟

إن تناول أحوال الميرزا جواد آغا الطهراني ـ وهو من علمتُ أنه كان يتفقّد أحوال المحرومين والفقراء في مشهد ـ تجدّد إحياء المشاعر والانفعالات الكامنة.

وليس الغرض ـ كما هو واضح ـ ممارسة شرح عام، فجميع ذلك استثناء؛ فقد كنا نعرف بعض علماء الدين من الذين اقتدوا بسلوك الأنبياء E
والأوصياء E كانوا يعتبرون آلام المحرومين آلامهم؟

وعلى كلّ حال، فكل من كان على هذه الشاكلة فهنيئاً له مريئاً، ومن لم يكن كذلك فتعساً له وسحقاً، كائناً من كان، وبالأخص الوعّاظ وعلماء الدين، فطبقاً لمبدأ: «الاهتمام بأمور المسلمين» المنصوص عليه في الروايات يخرج هؤلاء عن الساحة الاجتماعية الإسلامية؛ فمن أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم.

لقد كان الميرزا جواد آغا الطهراني مهتمّاً اهتماماً جدياً بالمسائل الاجتماعية وقضاء حوائج المسلمين ورفع مشكلات الإخوة والأخوات في الدين، فلم يمنعه التدريس والتأليف والعمل العلمي أبداً عن الاهتمام بمسؤوليّته الاجتماعية، وكان يُذكّر تلاميذه وأصدقاءه دائماً برعاية التقوى وتأمين حاجات الناس؛ فقد تأسّس أول مركز صحيّ خيري في مشهد باسم «درمانكاه خيرية بينوايان» بأمره وإشارته وتعاونه مع جمع من أصدقائه الأطباء عام 1334 ش/ 1955م، وكان يشترك كلّ أسبوع ليلةً واحدة في جلسة الإدارة، ولم يكن يقبل الحقوق الشرعية، وإذا ما وجدت فإنه يؤثر بها المحتاجين، وفي بعض الأحيان كان يجلس بالقرب من الفقراء بمعيّة أصدقائه ويطعمهم بيده…

… وقد التحق عدة مرات بجبهات القتال (بعد الثورة الإسلامية) لتشجيع الكهول للدفاع عن الإسلام وحدود الوطن الإسلامي([10]).

الشيخ محمد باقر الملكي ولد 1324هـ ــــــــــ

الشيخ محمد باقر الملكي من العلماء الفضلاء المتقين، ومن خدمة الدين والمسلمين. ولد سنة 1324هـ في قصبة «ترْك» من توابع «ميانة» في آذربيجان، واكتسب علوم العربية والمنطق والأصول «القوانين»، والفقه «الرياض» عند العالم الجليل السيد الكاظمي التركي (1353هـ)، وهو من أفاضل تلامذة الآخوند الخراساني.

كتبوا في سيرة السيد الملكي: قدم إلى مشهد المقدسة سنة 1349هـ ودرس السطوح العالية عند الأستاذ فاضل خويش، وآية الله الشيخ هاشم القزويني (1380هـ)، ثم درس علوم الفلسفة والمباحث الاعتقادية عند العلامة النحرير آية الله الشيخ مجتبى، واشترك ـ بعد ذلك ـ في درس الخارج لزعيم الحوزة العلمية آنذاك في مشهد آية الله الميرزا محمد آغا زادة الخراساني (1356هـ)، واستفاد من بعض مباحث الفقه، ودورةً واحدة في أصول الفقه، ودورةً كاملة في العلوم والمباحث المعرفية عند آية الله العظمى الميرزا مهدي الغروي الإصفهاني ـ أعلى الله مقامه ـ (1365هـ)، وكان يفتحر بتحصيل إجازة الاجتهاد والإفتاء ونقل الحديث منه، وقد أيّد هذه الإجازة أيضاً آية الله العظمى السيد محمد حجة الكوهكمري (1372هـ).

كتب الميرزا الإصفهاني في هذه الإجازة: «لقد نال مرتبة الفقهاء والمجتهدين، ذوي الدقة في النظر، ولا بد من شكر الله سبحانه على هذه النعمة والكرامة؛ لأن طلاب العلم كثيرون والذين يصلون إلى هذه المرتبة قلّة، وقد أجزتُه برواية كل ما لديّ من إجازةٍ في الرواية والنقل، أي كتب الدعاء والحديث والتفسير وغيرها، خصوصاً «الصحيفة السجادية»، «نهج البلاغة» والكتب الأربعة ـ وهي مدار علوم الدين ـ: «الكافي» و«الفقيه» و«التهذيب» و«الاستبصار»، وكذلك المجاميع الروائية المتأخرة، أي «الوافي» و«الوسائل» و«البحار»، وكتب المؤلّفين الأخرى للشيعة، وكلّ ما رواه علماؤنا عن أهل السنّة…n.

كان هذا العالم الفاضل من المحقّقين في المسائل الاعتقادية والمعرفية وفي المباحث النظرية، وقد استطاع بذوقه المعرفي وبالاستفادة من أساتذة المدرسة التفكيكية الكبار أن يبلغ هذه المبادئ والأساسيات ويعتقد بها، وكان مهتمّاً بنشرها والبرهنة عليها في دروسه وآثاره القيمة، وما زالت دروسه وكتاباته تصبّ في الاتجاه نفسه، ويعتبر وجوده غنيمةً للمهتمّين بهذا الشأن، وما زال هُناك ـ الآن([11]) ـ جمع من الفضلاء المحصّلين في الحوزة العلمية بقم يظهرون السرور الروحي والرضا العقلي بدروسه في العقائد؛ حيث يتعلّمون منه بعض الملاحظات الدقيقة العقدية التي تنسجم مع القرآن والفطرة، وهذا كلّه من بركات أنفاس أمثال الميرزا الإصفهاني والشيخ مجتبى القزويني الخراساني، وقد أدّى الشيخ محمد باقر الملكي وظائفه ومسؤلياته الاجتماعية والسياسية، فبعد أن أمضى ثلاثة عشر سنة في حوزة مشهد، واستفاد فيها من العلماء الكبار، رجع إلى محلّ ولادته ليقوم بوظيفته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتربية الناس، وكان يوصل بعد الحرب العالمية الثانية، عندما ظهر البلاء الذي أصاب آذربيجان ـ ومن موضع ديني ومستقل ـ كان يوصل المساعدات الكثيرة للناس لحفظ أرواحهم وأموالهم، وظلَّ مشغولاً بأداء وظائفه هناك لستة عشر عاماً، ثم جاء عام 1337ش/1958م إلى الحوزة العلمية في مدينة قم وسكن فيها، إلا في أوقات الصيف وبعض المناسبات الدينية الخاصّة؛ حيث كان يُسافر إلى منطقته للتبليغ.

سيرة حياة هذا العالم العامل دوّنها ولدهُ الفاضل السيد علي الملكي وسلّمنيها، إن هذه السيرة وبعض المذكّرات الأخرى التي وردت في مقدّمة «تفسير فاتحة الكتاب» كانت هي المرجع لي فيما دوّنته هنا، وقد أفرد السيد علي الملكي خصوصيات حياة أبيه ونشاطاته في مختلف جوانب عمره مع ذكر بعض الشواهد، ونحن نقوم هُنا بذكر خلاصة ذلك.

1 ـ السعي في مساعدة المحرومين. 2 ـ السعي في الأمور ذات المنفعة العامة. 3 ـ التصدّي للمفاسد الاجتماعية عن طريق تقوية البنية الاعتقادية والإيمانية للناس، والتصدي الشديد للمخطئين. 4 ـ التصدّي لعدوان رجال السلطة والمفترين. 5 ـ مواجهة الخرافات وركيك الأفكار على المنابر أحياناً، وهي أفكار تثار عادةً باسم الدين. 6 ـ الأخذ بعين الاعتبار الكرامة الإنسانية وحرمة الأفراد، والتواضع للناس. 7 ـ الالتفات لمشاكل المسلمين وأخبار البلدان الإسلامية، والكره الشديد للصهاينة. 8 ـ شدّة التعبّد بالأحكام الدينية والعمل بالعبادات، والاستمرار على قراءة الأدعية المخصوصة، سيما «الصحيفة السجادية». 9 ـ الاهتمام بإقامة المراسم والمجالس الحسينية وتعظيمها. 10 ـ رعاية البساطة في نفقات الحياة، والاحتياط في أخذ الحقوق الشرعية، والتركيز على الزهد والحياة البسيطة، وعدم الالتفات إلى الامكانات الدنيوية، والابتعاد عن الألقاب والأسماء، وجميع ذلك يمكن أن يكون قدوةً للآخرين.

عندما جاء الشيخ محمد باقر الملكي إلى قم لفت انتباه آية الله العظمى السيد البروجردي ـ رضوان الله عليه ـ وبعد أن سكن المدينة، قام بتدوين البحث الخارج في الأصول وتعليم تفسير القرآن الكريم ومعارف المبدأ والمعاد، وعمد إلى تربية بعض الطلاب الأفاضل.

أمّا أعمالة العلمية فهي: 1 ـ «بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام» (الطهارة والصلاة)، في مجلّد واحد، طبعة بيروت، 1400هـ، وطبعة قم، 1402هـ. 2 ـ «تفسير فاتحة الكتاب»، طبعة قم، دار القرآن الكريم، 1413هـ. 3 ـ «توحيد الإمامية». طبعة طهران، 1415هـ. 4 ـ «مناهج البيان في تفسير القرآن»، تفسير الجزء 29، 30. 5 ـ «تفسير القرآن الكريم». دوّن منه أربعة أجزاء. 6 ـ «الرشاد في المعاد». 7 ـ دورة كاملة في «الأصول» لآية الله الميرزا الإصفهاني. 8 ـ رساله اى درباره «حبط وتكفير»، رسالة في الحبط والتكفير. 9 ـ رساله اى درباره خمس «رسالة في الخمس». 10 ـ رساله أى درباره «أحكام ميّت» رسالة في أحكام الميت، وهناك رسائل ومدوّنات أخرى…

جميع هؤلاء العلماء العظماء من أصحاب المنهج التفكيكي في العلوم والمعارف، ولكن يجب أن نشير إلى أن الثلاثة الأوائل من أركان هذه المدرسة وأعمدتها، وكانوا أصحاب رؤية ومنهج فيها في القرن الرابع عشر الهجري، أما البقية فكانوا من المعتقدين بها ومروّجيها ومدرّسيها على اختلاف مراتبهم.

وفي الختام لا بد أن نشير إلى عدّة نقاط على الرغم من ذكرنا بعضاً منها سابقاً:

1 ـ تأكيد المدرسة التفكيكية على «الحفظ» لا «الحذف». إن التفكيكيين لا يرون هجران الفلسفة، والتنحّي عن درسها وقراءتها، بل لا بد أن نؤكّد ـ كما أشرنا إلى ذلك في عدّة أمكنة ـ أن هناك فروعاً علمية كثيرة دخلت الساحة، وعلى هذا الأساس يجب على الطلاب والفضلاء المستعدّين الاطلاع على المباني والمفاهيم والمصطلحات الفلسفية والفلسفية ـ العرفانية في «الحكمة المتعالية»، أي العرفان العقلي والعقليات العرفانية، وكذلك الاستفادة منها، لكن بشروط، ومن هذه الشروط التي أشار إلى قسمٍ منها بعض الكبار الذين لا ينتمون إلى هذه المدرسة:

أ ـ وجود أستعداد ذاتي للطلاب.

ب ـ أن يكونوا مطلعين على «المحكمات الإسلامية» في أصول العقائد ـ ولو إجمالاً ـ قبل الدخول في قراءة الفلسفة والعرفان.

ج ـ أن يقترن تحصيل العقليات والمعارف العقلية بالتقوى والتواضع، بل وحتى الرياضات وجهاد النفس والهوى وإن كان بنحو الإجمال.

د ـ أن يكون المعيار هو «الاجتهاد العقلي»، دون الدعوة للتقليد الأعمى، وأن لا يكونوا مرعوبين بالأسماء والشهرة، والوصية الدائمة هي: «التفكير الاجتهادي» و«الرأي المستقل».

هـ ـ مراجعة الآراء المنقولة في المصادر الأساسية.

و ـ «التأويل» مبدأ غير معروف، فلا بد أن يُنظر اليه دائماً بشك وارتياب، ومن اللازم كشف مضرّاته العقدية والعلمية والعقلية والشرعية، إضافةً إلى كشف الأحاديث المانعة عنه مع شرحها وتحليل حكمتها.

ز ـ تدريس تاريخ الفلسفة والعرفان، لا تاريخ الفلاسفة والعرفاء فقط، ونمط تبلور النظريات في مصادرها الأولية، والأمكنة التي نشأت فيها، والمسير التطوّري للمسائل الفلسفية والعرفانية، نعم، يجب أن لا يُتسامح في ذلك أبداً.

ح ـ وعلى ضوء ما ذكرنا، لا تعدّ التفكيكية إقصاءً للفلسفة، فقد كان أستاذنا وكذلك أساتذته الآخرون في الفلسفة والعرفان، كأغا بزرك حكيم الشهيدي والشيخ أسد الله عارف اليزدي، كانوا من أركان الدرس الفلسفي والعرفاني في الحوزة العلمية في مشهد.

من جهة أخرى، تعدّ مدرسة التفكيك حفظاً؛ أي أنّها حافظة لحدود العقائد الوحيانية وعلم القرآن، وترى ذلك فرضاً لازماً، لهذا فهي لا تساوم على هذه الحقائق بأيّ وجه من الوجوه.

2 ـ للمدرسة التفكيكية التي تفصل بين العقيدة والمعرفة الناتجة عن الوحي القرآني وأصول تعاليم المعصومين E وبين المعطيات الفكرية والاصطلاحات الفلسفية والعرفانية، لهذه المدرسة أتباع كثر في حوزتي قم ومشهد و.. ومن بين العلماء وطلاب العلوم الإسلامية وأصحاب الفضل والأساتذة وطلاب الجامعات… وقطعاً، هناك من يؤمن بهذه النظرية في البلدان الإسلامية الأخرى… بل يجب القول: إن هذا هو المذاق الطبيعي للإسلام والمسلمين من أوائل نزول الوحي وحتى العصر الحاضر.

3 ـ ثمّة نتاجات علمية ذات أهمية يمكن وضعها في سياق الحركة التفكيكية من عدة جهات، ومن جملتها كتاب «كفاية الموحّدين»، في أصول الاعتقاد، من الكتب المدوّنة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، بقلم العالم الملتزم جامع المعقول والمنقول السيد إسماعيل العقيلي النوري النجفي (1321هـ)، وقد امتدح العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني هذا الكتاب([12]).

*    *     *

الهوامش



(*) صاحب كتاب mالحياةn، أهمّ شخصية تفكيكية معاصرة، له عدة كتب، منها: علم المسلمين، والمدرسة التفكيكية، والاجتهاد والتقليد في الفلسفة و..



[1] ــ لا بد من الإشارة هنا إلى أن اليقظة الإسلامية الأخيرة والتحاق منطقة خراسان بها، قد أخذت مادّتها وأساسها من تدخّل الشيخ.

[2] ــ تأمل في هذين التعبيرين: «التفكير الاجتهادي» و«الممارسة الفكرية» جيداً، وحاول أن تغوص فيهما بعمق، ولا تغفل عن «بناء عقلك» ولا عن «صيرورتك المعرفية»، ولا تخشَ أحداً أو تهابه؛ لأن الله أعطاك عقلاً وفكراً، ولا تكن مقلّداً لأستاذ أو فيلسوف، ولا تترك مشعل «التفكير المستقل» و«الاجتهاد المعرفي» أبداً.

[3] ــ استفدنا هنا من مدوّنات ولده حجة الإسلام الحاج الشيخ حبيب الله الأحمدي الخراساني أيضاً.

[4] ــ وقد استفاد حجة الإسلام المحقق المتتبع صاحب الآثار والتأليفات القيمة السيد الحاج الشيخ عزيز الله العطاردي الخبوشاني القوجاني من السيد الحاج الأكبر حافظيان ـ أخ المترجَم له ـ في كتابة سيرة حياة السيد حافظيان.

[5] ــ كان المرحوم الحاج حافظيان (1362 ـ 1322ش) من السادات الكبار، ومن الصالحين في مشهد المقدسة.

[6] ــ أو سرينغار، العاصمة التاريخية لكشمير، تقع على جانبي نهر«جهلمُ»، وهي من أشهر المصايف في الشرق. انظر: «دايرة المعارف فارسي».

[7] ــ ذكر العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني شرحاً مختصراً لحياة آية الله الميرزا علي أكبر النوقاني في كتاب نقباء البشر 4: 1586.

[8] ــ يعمل الآن مدرساً في الحوزة العلمية بقم، وولده الآخر هو العالم الفاضل حجة الإسلام الشيخ مرتضى المحامي، من الفضلاء والمدرسين العظام في الحوزة العلمية في مشهد المقدّسة. اللهم وفّق الجميع لما تُحبّ وترضى.

[9] ــ من جملة الفلاسفة المشهورين: آغا بزرك حكيم الشهيدي، وابنه المغفور له الميرزا مهدي الشهيدي مدرّس الفلسفة، والحاجي فاضل الخراساني المعروف و..

[10] ــ استفدنا في كتابة هذه السيرة مما خطّته يراع الفاضل حجة الإسلام الشيخ علي أكبر إلهي الخراساني.

[11] ــ هذا الكلام كان قبل وفاة الملكي، وقد توفى قبل سنوات قليلة (التحرير).

[12] ــ الطهراني، نقباء البشر 1: 151.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً