دراسة استدلالية في ضوء أصول الفقه الاجتهادي
الشيخ محمد إبراهيم جناتي(*)
أ ـ فصول الدراسة التمهيدية
نعيش اليوم فترة زمنية يسعى فيها الناس للوصول إلى فهم الأوامر والأحكام الشرعية تجاه أنواع الفن كما يجب فهمها من مصادر وأسس المعرفة، لا كما يمليه الذوق، وتفرضه الأمزجة أو العناصر الذهنية والخارجية، أو التي يقتضيها الاحتياط في مقام بيان الأحكام. ولذلك يجب على المعنيين الالتفات إلى هذه المسألة المهمة.
تدور مسائل وموضوعات هذه المقالة في المحاور التالية:
1ـ تعريف الفن.
2ـ الوجه المشترك بين جميع أنواع الفن.
3ـ مصاديق الفن.
4ـ من هو الفنان؟
5ـ العناصر المؤثرة في تكوين الفن.
6ـ شرائط الفنان الناجح.
7ـ الفنان في رؤية أئمة المسلمين.
8ـ منشأ الجمال.
9ـ الفن والجمال في رؤية الفقه الاجتهادي.
10ـ وجوب مراعاة الحدود الإسلامية في توظيف الفن.
11ـ الفن أداة لتطوير المجتمع وتحسين أدائه.
12ـ إساءة استغلال الفن.
13ـ منزلة الشعراء عند الأئمة المعصومين^.
تمهيد
إنّ الفن والإبداع والابتكار ظاهرة عالمية وإنسانية، كانت سائدة بين جميع الشعوب والأمم في جميع أبعاد حياتها، وعلى مرّ العصور، وستبقى مع بقاء الشعوب؛ إذ يجمع الكلّ على تحسينه والثناء عليه. وكما لا يمكن تجاهل مشاعر الإنسان وأحاسيسه وعواطفه ومدركاته كذلك لا يمكن تجاهل ما يتمخض عنه من إبداعات فنية، بوصفها تجسيداً لإنسانيته وحياته الاجتماعية.
وعلى أية حال فإن الإنسان في عملية التواصل مع أبناء جلدته من بني البشر بحاجة إلى توظيف بعض الأدوات والوسائط؛ ليوصل إليهم خبراته وعواطفه وهواجسه الذهنية. وإنّ واحداً من هذه الأدوات هو الفن. وبالالتفات إلى هذه الحقيقة فقد تفتق ذهن الإنسان الخلاق والوقاد بعد جهود علمية وعملية حثيثة ومستمرّة عن أساليب مختلفة ومتنوّعة، وطوّرها بالتدريج حتى بلغت مرحلة مرموقة، وشغلت حيزاً ممتازاً من حياة الإنسان.
تمثل الأعمال الفنية، في العصر الراهن، الأعم من الشعر والرسم والموسيقى والسينما وما إلى ذلك، أسلوب حياة الأمم والشعوب وحضاراتها. إنّ النبوغ الفني سلاح ماض في يد كل من يتمكن منه، وبمقدوره أن يوظفه لصالح شعبه في البعد المادي والمعنوي، كما يمكنه أن يتخذه وسيلة لإفساد شعبه والإضرار بأمته.
1ـ تعريف الفن
هناك نظريتان في تعريف الفن؛ فهناك من يذهب إلى عدم وجود تعريف للفنّ؛ وذلك لشدّة وضوحه، فهو يعرّف نفسه بنفسه؛ وهناك من يذهب إلى وجود تعريف للفن.
ومن وجهة نظرنا يمكن تعريف الفن بتعريفات مختلفة ومتنوّعة تبعاً لتركيبة المجتمع ونظرته إلى الفن. ومن ذلك:
أـ الفن هو السعي والمجهود الذي يهدف إلى خلق الجمال. وذلك عندما يحاول الإنسان نقل مشاعره وتجاربه إلى الآخرين في قالب جميل وممتع وجذاب.
ب ـ الفن جهد يبذله الإنسان في عملية إيجاد نماذج تدعو إلى السرور والبهجة والمتعة.
ج ـ الفن مجهود إنساني لتصوير التأثيرات الناشئة عن حقائق الوجود، والتي يستشعرها بكل كيانه ووجوده، حتى يجسّدها تجسيداً حيّاً ومؤثراً.
دـ الفن ليس مجرد إبداع يدوي حتى يمكن بيانه وتعريفه، بل هو ضارب بوجوده في أعماق النفس والوجود الإنساني، ولذلك فإن اللسان عاجز عن تعريفه ووصفه وبيان كنهه.
هـ ـ الفن سلم طوارئ في سماء الروح. والفن صرخة وفم الروح، التي تعبر من خلاله عما يعتلج في داخلها، كما تصدر الآهات والابتسامات واللعنات من الفم المعروف.
ز ـ الفن إبداع يُظهر المعاني والقيم، وحتى الحقائق الكامنة في الأشياء، ويعمل على إبرازها إلى الوجود.
ح ـ الفن عملية منبثقة من الوعي والإدراك الكامل لأمر تكون ثمرته الجمال.
ط ـ الفن سلسلة من العلامات والرموز التي تتجلى على هيئة جمال خاص وفريد من نوعه.
ي ـ الفن عمل ظريف وجميل ينبثق من روح طاهرة ومفعمة بالمشاعر والأحاسيس.
وليس بالإمكان عدّ أي واحد من هذه التعريفات تعريفاً منطقياً، بمعنى عدّه جامعاً ومانعاً. فمثلاً: عندما نسأل عن الجمال يمثلون لنا عن الجمال بالورد، في حين أنّ الورد يمثل مصداقاً للجمال، وليس الجمال نفسه. وعلى أية حال فإنّ الذي يمكننا قوله: إنّ الفن كيفية معنوية، يمكن التعرف عليه من خلال آثاره وخصائصه، دون ماهيته الحقيقية. وبعبارة أخرى: إنّ جوهر الفن حقيقة معنوية يدركها الإنسان بروحه على نحو غير اكتسابي، دون أن يتمكن من شرحها وتوضيحها، وإنما يعمل على توضيحها من خلال بيان خصائصها وآثارها وخواصّها وكيفياتها وكمياتها الظاهرية. وفيما يتعلق بظواهر الفن وخصائصه يمكن بيان الأمور التالية:
1ـ الفن إبداع، وخلق، وابتكار.
2ـ الفن حقيقة لطيفة، ودقيقة وموزونة.
3ـ الفن متعة للروح، وتطوير وتجلّ لها.
4ـ الفن عملية قلبية قبل أن يكون عملية ذهنية.
2ـ الوجه المشترك بين جميع أنواع الفن
إن الفن بجميع أقسامه وأنواعه يعبر عن حقيقة واحدة منبثقة عن أعماق الوجود التفكير. وعليه فإنّ لجميع أنواع الفن وجه مشترك واحد، وهو في الحقيقة أنواع لجنس واحد. أو بعبارة أخرى: أصناف تحت نوع واحد. وإنّ ذلك النوع ـ كما مرّ في تعريف الفن ـ عبارة عن جوهر معنوي لا يدركه غير الروح الإنسانية الحرّة، دون أن تقدر على وصفه بشكل خالص.
3ـ مصاديق الفن
إنّ مصاديق الفنّ عبارة عن: الموسيقى (الغناء والعزف)، والشعر، والكتابة، والنحت، والعمارة، والمسرح، والسينما، والخط، والتصوير، والأعمال اليدوية، والغرافيك، وما إلى ذلك.
4ـ من هو الفنان؟
إنّ عنوان الفنان يطلق على الشخص الذي يستطيع تجسيد الجمال والحسن الكامن من طريق الفن، سواء من طريق الأفلام أو الرسوم أو النحت أو الشعر أو الألحان الموسيقية أو فنون الكتابة أو ما إلى ذلك.
ومن باب المثال: إنّ الفنان الشاعر هو الذي يبرز المعاني الكامنة والمغلقة في قالب شعري فني، فيؤدي قدح زناده إلى إشعال شرارة في بيت من الشعر يتفاعل معه السامع، فتتحول تلك الشرارة حريقاً كبيراً في وجوده، كما صنع لبيد بن أبي ربيعة في النعمان؛ إذ غير رأيه في أعز ندمائه وحوارييه، فعمد إلى طرده، وأمره بعدم الجلوس معه على خوان واحد.
وإنّ الفنان الكاتب هو الذي يصوغ بقلمه المفاهيم الراقية والمعاني السامية والمطالب العلمية المهمّة في قالبه المختصر، ويعرضها بأسلوب شيِّق وبديع وجذّاب، ويقدمها للقارئ في حلة قشيبة من الحسن والجمال.
وإنّ الفنان المؤرِّخ هو الذي يبرز الوقائع والأحداث العالمية المهمة بقلمه البديع وبيانه الرشيق، ويقدِّمها للباحثين على طبق من الكلام الملهم.
وإنّ الممثل في المسرح هو الذي يجسّد الأحداث ويقرّبها للمشاهد وكأنها حقيقة ماثلة أمام عينه، فيتفاعل معها، وتحقق النتائج المرجوّة والمطلوبة من أقرب الطرق وأكثرها كيفية وتأثيراً.
وإنّ المطرب هو الذي يبعث الروح في الكلمات الشعرية ذات المضمون الجميل والمرغوب، فينعش الأنفس الذابلة والأفئدة الكئيبة، فيعمرها بالجذل والفرح والسرور؛ لما في صوته من الإيقاع العذب الذي يخاطب مسامع العاطفة، فيقشع خريف الذبول، ويحل محلّه ربيع الخضرة والإيناع والازدهار.
إنّ للصوت الحسن خصوصية حساسة ومرتبة مرموقة، ولذلك فإنه يشدّ إليه كل حبال الروح، ويجعلها طوع بنانه. إنّ النغمات والألحان والأصوات الملكوتية تشكل جزءاً من نطق الإنسان، وحيث إنها تخرج من الأوتار والألحان والنغمات المحللة فإنها تجذب النفس إليها. ولذلك تجد الإنسان أيّاً كان عرقه يطرب للصوت الحسن والجميل. ولكن يجب علينا أن نوظف هذه الأداة المهمة لصلاح وإصلاح الفرد والمجتمع، دون فساده وإفساده.
5ـ العناصر المؤثرة في تكوين الفن
إنّ العناصر المؤثرة في تكوين الفن عبارة عن:
أـ إيضاح خصائص الفن من خلال المقارنة بين أعمال الفنانين.
ب ـ بيان الفرق بين رؤية الفنانين من خلال النظر في أعمالهم. ومن باب المثال: من خلال دراسة أشعار مولانا جلال الدين الرومي ورباعيات الخيام يمكن أن نميز بين نوع العقيدة التي يذهب إليها كل واحدٍ من هذين الشاعرين.
ج ـ التعرّف على البيئة التي عاشها الفنان من الناحية الثقافية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية على طول التاريخ كي يتضح دور هذه الأمور في تكوين آثاره وأعماله.
دـ أثر وتأثير الشروط الجغرافية في تكوين الفن.
هـ ـ الدعامة الثقافية التي يستند إليها الفنان.
ومن باب المثال: من خلال دراسة أعمال حافظ الشيرازي يتضح لنا كيف أنه استفاد من ثقافة مَنْ سبقه من الشعراء الكبار والمرموقين، من أمثال: مولانا، والخواجو، وغيرهما، فأضاف بذلك ثراءً إلى شعره وفنه.
6ـ شروط الفنان الناجح
إنّ الفنان الناجح هو الذي تتوفر فيه الشروط التالية:
الأول: القدرة على استيعاب الحقائق، وتكوين رؤية واضحة عنها.
الثاني: القدرة على الإبداع، وأن يكون خلاقاً.
الثالث: امتلاك قريحة إظهار الفن على نحو كامل، أيّاً كان نوع الفن.
الرابع: الدقة عند القيام بالعمل.
الخامس: حسن الاختيار والانتخاب.
السادس: القدرة على إيجاد الانسجام بين نفسه وبين المحتوى والإطار الفني.
السابع: القدرة على التوفيق بين الفن والذهنية الإنسانية في كل عصر وزمان.
الثامن: إظهار نفسه بشكل طبيعي وعفوي، بعيداً عن كلّ أنواع التكلف. ومن باب المثال: لو أردنا عرض مسرحية أخلاقية فعلى الذي يؤدي دور الشخصية في تلك المسرحية أن يكون في واقعه على درجة عالية من الأخلاق في القول والعمل، وأن يخلو من كل أنواع التصنُّع والكلفة؛ ليتمكن من التأثير على المشاهد بالشكل المطلوب، وأن يكون مستغرقاً في الدور الذي يؤديه.
مسؤوليتان يضطلع بهما الفنان
كما قال بعض العلماء فإن لكلّ فنان مسؤوليتين؛ إحداهما: تجاه نفسه؛ والأخرى: تجاه الناس. أما المسؤولية الأولى فهي بأن يستلهم من عواطفه وانفعالاتها الداخلية. وأما المسؤولية الثانية فبأن يستلهم من المؤثرات والمتغيرات الاجتماعية. وعليه إذا لم تكن الأفلام والمسرحيات والمقطوعات الموسيقية والأشعار والأناشيد مفيدة وتربوية، ولم تكن تهدف إلى الإصلاح، كان الفنان مسؤولاً عنها.
7ـ الفنان في رؤية أئمة المسلمين
من الواضح للجميع أنّ الفن زينة للفرد والمجتمع، وأنّ الفنانين الملتزمين بالأخلاق هم من جملة ما يزين المجتمع، وأنّ أعمالهم الفنيّة أيّاً كان نوعها تبعث البهجة والمتعة في نفوس الناس، وتؤثر فيهم.
وعلى أية حال فإنّ الفنانين في المجتمع الإسلامي، منذ عصر النبي الأكرم‘ والأئمة^، كانوا يحظون بالاحترام والتقدير، بل وحتى التشجيع. ولذلك فإنّ الفنانين، سواء في عهد الصحابة أو التابعين أو الأجيال التالية، كانوا يتمتعون بمكانة مرموقة. وسأذكر في الفصول القادمة أنني أذهب إلى أنّ المجتمع الذي لا يمتلك فنانين ملتزمين هو مجتمع ذابل، ليس فيه شيء من الجمال والحيوية والزينة.
8ـ منشأ الجمال
إنّ منشأ الجمال وكل شيء آخر إنما هو الله تبارك وتعالى. ولكن علينا أن ندرك أنّ للجمال في عالم الوجود مراتب. أما الجمال المطلق فهو يخصّ الله تعالى، وإنّ الجميل بمعناه المطلق هو من جملة أسماء الله الحسنى. وليس هناك ما يخلو من الجمال. إنّ الفن الإنساني في إطار الزمن يسعى إلى فهم جميع الأفكار التي أودعها الله في عالم الوجود وجميع الكون على نحو شامل، ويحاول كذلك إدراك أبعادها. وعليه لا ينبغي التعجب من نظرية الفن التي تقرّب الناس من المنشأ والسبب الرئيس للفن والجمال، المتمثِّل بالله تبارك وتعالى.
إنّ الفنان الحقيقي والرئيس هو ذلك الوجود الذي خلق الكون على أجمل ما يمكن له أن يكون، والذي خلق الفضاء والنور والتناغم من خلال بذر المحبة والوئام؛ ليتمكن الناس من خلال ذلك التقرّب منه.
9ـ الفن والجمال في رؤية الفقه الاجتهادي
لقد تمّ التعرّض إلى الجمال في مصادر ومباني الفقه الاجتهادي. إنّ الإسلام، خلافاً للمذاهب الإنسانية، وحتى الأديان المحرّفة التي يسعى أتباعها إلى تحديد مساحة الدين بالأمور الشخصية والداخلية، علاوة على تحديد الوظائف الفردية والعبادية والاجتماعية، ينظر بإيجابية إلى مقولة الفن وإبداع الجمال من قبل الإنسان، شريطة أن لا تكون أداة للانحراف والفساد، بل يجب أن تكون وسيلة للصلاح والإصلاح. وقد اهتم القرآن الكريم، الذي يعدّ المصدر الأول من مصادر التشريع، وكذلك السنة، التي تمثل المصدر الثاني من التشريع، اهتماماً واضحاً بالفن والجمال. وقد بحث كل واحد من علماء المسلمين، كل وفقاً لمقتضياته وظروفه الزمانية، في أدلة ومدارك هذه المسألة، بل كان هناك منهم من يتمتع بموهبة فنية، وهناك حالياً الكثير من المنتسبين إلى الحوزة العلمية يتمتعون بالطاقات والمواهب الفنية والجمالية الخلاقة في هذا المجال.
وعلى أية حال فإن الفن والجمال مذكور في المصادر الدينية. وفيما يتعلق بالجمال، الذي هو موضوع الفن، يجب القول: إنّ الجمال بشكل عام على نوعين:
أـ الجمال في عالم الوجود.
بـ الجمال الذي يتم استعراضه في مسرح الأفكار الساطعة والإنسانية المتعالية.
هناك في القرآن الكريم آيات تتعرض إلى التعريف بالخلق من طريق الزينة والجمال، فيجسد للناس مشهد السماء وتزيينها بالكواكب، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ﴾ (الصافات: 6)؛ ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ (فصلت: 12)؛ ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ (الحجر: 16). وكذلك يدعو الله الإنسان ويحثه على النظر والتأمل والتفكر في جمال الخلق، إذ يقول: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ (ق: 6).
إنّ الذي نفهمه من خلال هذه الآيات وما يشابهها من الآيات الأخرى هو أنّ النجوم في مصنع الوجود، وفقاً للمقتضيات الطبيعية التي أودعها الله في وجودها، عبارة عن حقائق تتجلى في خريطة الهندسة العامة للوجود.
وهناك مواضع من القرآن الكريم يتمّ التعرّض فيها لجمال قوام الإنسان وهيئته، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)؛ ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ (غافر: 64)؛ ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: 7).
وقد تحدّث القرآن في عدد من الآيات عن جمال المشاهد الطبيعية في الأرض، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا﴾ (النمل: 50).
وقد جاء في المباني الفقهية أنّ التقوى لا تعني إعراض الإنسان عن الزينة، والابتعاد عن النعم المادية، وعدم الاستفادة منها، وذلك في معرض الرد على الذين تصوروا أنّ التقوى والتديّن يعني الهروب من جميع أنواع النعم المادية والزينة، إذ يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 33)؛ ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف: 31).
وقال الإمام جعفر الصادق×: «البس وتجمّل، فإنّ الله جميل يحبّ الجمال، وليكن من حلال»([1]). وقال أيضاً: «إنّ الله جميلٌ، يحبّ الجمال»([2]).
وعن رسول الله‘ أنه قال: «إنّ من أجمل الجمال: الشعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن»([3]). وعنه‘ أيضاً أنه قال: «اختضبوا؛ فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم»([4]).
وجاء أيضاً: «كان رسول الله ينفق على الطيب أكثر مما ينفق على الطعام»([5]).
وقد كان النبي الأكرم‘ يأخذ زينته لاستقبال ضيوفه، وعندما تعجّبت عائشة من فعل النبي ذلك قال لها‘: «إنّ الله يحب من المسلم أن يتزيّن لضيوفه»([6]).
وروي عن الإمام الرضا× أنه «إذا برز للناس تزيّنَ لهم»([7]).
وعنه× أيضاً أنه قال: «الشعر الحسن من كسوة الله، فأكرموه»([8]).
وعن الإمام الصادق× أنه قال: «من اتخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزه»([9]).
وجاء في الرواية أنّ أيوب بن هارون سأل الإمام الصادق×: كان رسول الله‘ يفرق شعره؟ قال×: «لا، وكان شعر رسول الله إذا طال طال إلى شحمة أذنيه»([10]).
وعن رسول الله‘ أنه قال: «من أمرّ المشط على رأسه ولحيته سبع مرّات لم يقاربه داء أبداً»([11]).
وقال الحكم بن عيينة([12]) في رواية: رأيت أبا جعفر× مرتدياً ثوباً أحمر، فأحددت النظر إليه، فقال×: «يا أبا محمّد، إنّ هذا ليس به بأس، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 32).
وقد تم التأكيد على تقليم الأظفار في الكثير من الروايات، ولكن جاء في بعضها أنّ الإمام الصادق× قال للنساء: «اتركن من أظافيركنّ فإنه أزين لكنّ»([13]). وإنّ (من) في هذه الرواية تبعيضية، أي: لا تبالغن في تقليمها فتبلغن اللحم.
وجاء في بعضها الآخر قول الإمام× للرجال: «قصّوا أظافيركم»([14]).
وقال الإمام علي×: «عليكم بحسن الخط، فإنه من مفاتيح الرزق»([15]).
وروي في رواية أخرى عن رسول الله‘ أنه قال: «حسن الخط من مفاتيح الرزق»([16]).
وخلافاً لرأي الذين يذهبون إلى اعتبار الفقه الاجتهادي مخالفاً لأنواع الفن يجب القول بأنّ روح الديانة تقوم على الجمال والزينة.
إنّ الفقه الاجتهادي هو مدرسة الروح والعواطف والمشاعر الطاهرة، وإنّ قوانينه منسجمة مع نغمة الفطرة الموزونة. علينا أن ندرك أنّ الوجود بجميع مظاهره الجذابة والممتعة التي تملأ الروح والنفس بهجة وسروراً وما فيها من الأسرار مظاهر من خلق الله تبارك وتعالى، وليس فيها قبح ونقص، قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾.
وقد اعتبر الله تبارك وتعالى الجمال من جملة الأدلة على وجوده. وقد خلق الله كلّ شيء في أحسن تقويم. واعتبر الزينة والجمال والاستقامة والنظم دليلاً على وجوده وعظيم صنعه. وبعد هذا الاعتقاد لا يسعنا القول بأن الإسلام بوصفه ديناً سماوياً يقف على طرف النقيض من كل مظاهر الجمال والفنون والأصوات العذبة، ويبرز إليها بالمخالفة والمحاربة.
إننا في مواجهة الظواهر الفنية إنما نستطيع تحريم أمر أو منعه وحظره بعد إدراك جميع أبعاده على نحو شامل وكامل، ثم الاطلاع على مصادره الشرعية بدقة. وفي مقام بيان الأحكام الشرعية يكون تحليل الظواهر أيّاً كان نوعها أيسر من تحريمها؛ وذلك لمطابقة الإفتاء بالحلية والإباحة للأصول والقواعد الأولية الواردة في مصادر الفقه الاجتهادي، بخلاف الإفتاء بالحرمة. فالقول بالحرمة هو الذي يحتاج إلى الدليل، على أن يكون ذلك الدليل معتبراً. ولكننا نجد الأمر الواقع ـ للأسف الشديد ـ على العكس من ذلك تماماً، حيث يعتبر القول بالحرمة حالياً مطابقاً للأصول الأولية، والقول بالحلية مخالفاً لها. وفي اعتقادي إنّ هذه الطريقة الاجتهادية لا تكدّر الوجه الناصع للفقه وتشوّهه فحسب، بل ستؤدي كذلك إلى النفرة منه والإعراض عنه، فإنّ هذا الأسلوب لا ينسجم مع روح الشريعة.
10ـ وجوب رعاية الحدود الإسلامية في توظيف الفن
إن الفنان وإن كان حراً في حقله ومجال عمله الفني، ويستطيع بيان مشاعره من خلال لغته الفنية، ولكن عليه في الوقت نفسه أن يراعي الحدود الإسلامية عند ممارسة الفن؛ وذلك لأن الذي يأخذ الأحكام الإسلامية في مجال فنه في إنشاد الشعر أو تلحينه أو في أي حقل فنيّ آخر سيغدو عمله أكثر جاذبية ورقّة. ولا شك في أن هذا النوع من الفنانين يعمل على تطوير ثقافة المجتمع الإسلامي ومبانيه، ويحظى باحترام خاص. وسنذكر الروايات الشريفة الواردة في مدح هذا الصنف من الفنانين في القسم الخامس من هذه المقالة إن شاء الله تعالى.
اجتناب الإفراط والتفريط في توظيف مظاهر الحياة
إن من البديهي أن كلّ هذه الزينة والجمال والجلال والإشراق الذي نشاهده في العالم المادي إنما خلق لكي ينتفع منه الإنسان من جهة، ولكي يكون سبيلاً لهدايته وبلوغ الحق، كما هو اختبار وابتلاء له من جهة ثانية. فالجمال في العالم والحياة المادية هو من جهة وسيلة لهداية الإنسان إلى منشأ الجمال والكمال في الوجود، ويعدّ من جهة ثانية السببَ في نزعة الإنسان نحو الجمال المعنوي واختياره له. ولذلك يجب علينا في توظيف واستخدام مظاهرالحياة أن لا نتجنَّب الطريق المستقيم، أو نخرج عن حدّ الاعتدال، ويجب علينا أن لا نقع في الإفراط والتفريط. إن الإفراط في التمتع بأنواع الجمال في الوجود إنما يحصل من خلال تجاهل الإنسان للحدود والقوانين الإلهية. والاستجابة لهوى النفس، وتوظيف الجمال في مجال الرذائل الأخلاقية، وتحويل كلّ ما يهدي إلى الله تعالى إلى عنصر يفصل بين العبد وخالقه. أما التفريط فبأن نتجاهل ونتعامى عن وجود كل هذه الأنواع من الجمال المحيطة بنا، وتحريم حلال الله، وأن نرى بلوغ التكامل المعنوي في ظل التنكر والهروب من لطف الله ورحمته ونعمته وفضله. وعليه فإن أنواع الفن والجمال مطلوبة على أية حال؛ لأن الفن مظهر للنبوغ، والعشق، ومحبة الإنسان للحقائق والأمور الواقعية. إذاً لا يجب تحديده وتقييده أبداً، إلا في المواضع التي يكون فيها إضرار بالمجتمع، وجرّ للأفراد نحو الانحراف والفساد والضياع.
وصف النبي الأكرم‘ بحسن الصوت
روي عن الإمام الصادق× أنه قال: «ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت»([17]). وجاء في رواية أخرى: «ما بعث الله نبياً إلا حسّن صوته وحسن صورته»([18]).
11ـ الفن أداة لتحسين المجتمع وتطويره
إنّ الفن أداة عامة وعالمية لتطوير المجتمع. ومن هنا فقد كان الفن على الدوام محط نظر واهتمام الفقه الاجتهادي. وعليه فإن الفن لا يمكن أن يكون هدفاً في حدّ ذاته، كما لا يمكن أن يكون وسيلة لإفساد المجتمع. اذاً الفن ـ أيّاً كان نوعه وشكله ـ إنما هو وسيلة وأداة. فالفنان وإن كان سعيداً بفنه فإن عليه أن يدرك أنه وسيلة، وعليه أن لا يتخذه أداة لفساد وانحراف الأفراد أو المجتمع. إذاً لا بد من توظيف لغة الفن، وخاصة الفن الاستعراضي، من أجل بيان الحقائق الدينية والمذهبية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية. إننا نذهب الى عدم حرمة أي مصداق من مصاديق الفن عبر الزمن إذا لم يكن أداة للحرام والفساد، حتى إذا كان في أصل نشوئه واختراعه وسيلة للإفساد والحرام. ومن باب المثال: كان النحت في الأزمنة السحيقة محرماً؛ وذلك لأنه كان يتم نحت التماثيل، ووضعها في مكان يدعى (محلة الهياكل)، ويطلبون منها العون، وبالتدريج تحول هذا إلى طقس عبادي، وأخذت هذه النصب والتماثيل والأصنام تُعبد من دون الله، ولم يكن لهذا الفن آنذاك من نفع سوى الفساد والانحراف، ولذلك كان محرماً. وأما حالياً، حيث تحول النحت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى فن من الدرجة الأولى، وليس فيه أية شائبة في توظيفه في الأمور المحرمة، فلا إشكال فيه من وجهة نظرنا؛ إذ إن الاختلاف في نوع الاستفادة منه، والتحول الجذري الذي طرأ علية عبر التاريخ، يؤدي قطعاً إلى تغيير حكمه من الناحية الشرعية. ومضافاً إلى قانون التحول في الاجتهاد يمكننا أن نستفيد حلية وإباحة هذا الفن من خلال بعض الأخبار والروايات؛ إذ يستفاد من بعض الروايات أنّ الصناعة إنما تكون محرمة إذا كانت متمحّضة للفساد، وأن تعليم وتعلم مثل هذه الصناعة، وأخذ الأجرة عليها، محرم، وأما إذا لم تكن متمحّضة لذلك، بل توقف الأمر على نوع الاستفادة منها، بأن تكون حلالاً وأداةً للصلاح أحياناً، وأداة للفساد والحرام حيناً آخر، وتكون عوناً للحق تارة، وعوناً للباطل تارة أخرى، من قبيل: السلاح، ونحو ذلك من الآلات التي تستخدم في وجوه الصلاح والفساد، فلا مانع من صنعه، وكذلك لا بأس في تعليمه وتعلمه، وأخذ الأجرة عليه. إن صناعة النحت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث تتوفر إمكانات الصلاح للمسلمين، لا يمكن عدها أداة للباطل والفساد، كما كان الأمر في الأزمنة الغابرة، بل أضحت مجرد وسيلة فنية، أو أنها في الأقل لم تعُد ممحضة للفساد، وعليه يمكن القول بإباحته استناداً لمصادر الفقه الاجتهادي، دون الحاجة إلى اللجوء إلى قانون تحول الاجتهاد تبعاً لتغير الزمان؛ لإثبات حليته وإباحته. وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الفنون الأخرى، من قبيل: المسرح، والسينما، وما إلى ذلك. فإذا كان موجباً للفساد وإشاعة الفحشاء وترويج ثقافة الابتذال والتفسخ الأخلاقي فهو مذموم ومحرم، وأما إذا كان يهدف إلى الصلاح وإشاعة الثقافة المعقولة والمنطقية فلا مانع منه.
12ـ إساءة استخدام الفن
وبالالتفات إلى ضرورة عدم اتخاذ الفن وسيلة وأداة للفساد علينا القول هنا ـ وللأسف الشديد ـ: إن هناك على طوال التاريخ الإنساني، وخاصة في أواخر العصر الأموي والعصر العباسي، وهكذا في هذا العصر في الغرب والشرق، مَنْ اتخذ الفن وسيلة للوصول إلى الأهواء والمطامع النفسية، واتخذوه غطاء لتحميل الكثير من الأمور القبيحة والسيئة. فهناك من استخدم الفنان في القضاء على القيم الروحية والمعنوية، وتوظيفه في الابتذال. وقبل انتصار النظام الإسلامي في إيران كانت السينما بؤرة لعرض أكثر الأفلام خلاعة، وتحوّل التلفاز، الذي هو أهم أداة لتثقيف الأُسَر، ونشر القيم الأخلاقية والتعليم في العالم، إلى مركز لترويج الفساد، وأداة لتفكيك البيوت وتحطيم كيان الأسرة. ولايزال الوضع كذلك في جميع بلدان العالم، باستثناء إيران. وبالالتفات إلى أن حكومتنا الراهنة تنتهج نظاماً إسلامياً، وأن رسالتها الأهم تكمن في نشر الثقافة الإسلامية، فإن الإذاعة والتلفاز يجب أن تعكس التعاليم الإسلامية في مختلف أبعاد الحياة. وهذه هي أفضل وسيلة لترويج الأحكام الإلهية. وإن دورها في مسألة التربية والتعلم أكبر من دور الأسرة والمدرسة والجامعة. وهذا أمر يلمسه الجميع، ولسنا بحاجة إلى إثباته.
لقد خلق الله الإنسان بغية إيصاله إلى الكمال، وجعل جميع ما في الكون من الظواهر وسيلةً لتكامله وفي خدمته. وعليه فإن جميع أنواع الفن ومظاهر الجمال في عالم الوجود أدوات يمكن للإنسان توظيفها في تكامله المعنوي والمادي، لا أن يتخذها وسائل للانحطاط والهبوط والانحراف والانحدار. إن الفن وليد التناغم والانسجام الوثيق بين المادة والصورة. وكلما كان هذا التلاحم أوثق كان الفن أكثر تكاملاً. ومن هنا كانت تطغى على بعض الفنون النزعة المعنوية، فتكون أقرب إلى الكمال من أنواع الفنون الأخرى.
إن أنواع الجمال الطبيعي والغريزي، الذي يمكن عدّ الألحان العذبة المصحوبة بالموسيقى منها، هي جزء من تلك الأدوات والوسائل التي يمكنها ـ مثل الكثير من مظاهر الوجود ـ أن توظف في الأمور الصحيحة والمفيدة والبناءة، كما يمكن توظيفها في الأمور الخاطئة والمنحرفة. والإنسان هو الذي يختار بين هذين النوعين من أنواع التوظيف، فيمكنه من خلال الاستضاءة بنور الوحي وهداية العقل الباطني أن يستخدم هذه الأنواع من الجمال والفنون في كماله الإنساني. وإن من جملة المعايير العامة في تحديد الطرق والأساليب الصحيحة في استخدام مظاهر الوجود، والتمييز بينها وبين الأساليب الخاطئة، هو تأثيرها في التقدم أو التخلف الأخلاقي والفكري والروحي والعلمي والثقافي والمعنوي للإنسان.
إن بإمكان الإنسان أن يتوصل إلى هذه الحقيقه من خلال الشريعة أحياناً (في غير المستقلات العقلية)، وغاية ما هنالك أن الحِكم والعلل والأسباب والمؤثرات الواقعية تخرج أحياناً عن متناول الفكر والعلوم البشرية، فيرى الإنسان ـ مثلاً ـ أنها منشأ الحسن والكمال والتقدّم، في حين تذهب الشرعية ووحي السماء؛ بسبب الإحاطة والشمولية في النظر إلى الواقع، إلى اعتبارها سبباً في التخلف والانحطاط. إذاً يجب أن تكون الأناشيد والأشعار والأنغام بحيث يمكنها تجسيد المشاعر الداخلية الحسنة والممدوحة، والتي تساعد على بناء الإنسان ودفعه إلى الخير، من قبيل: الأمل، والإيمان، والحنان، والبهجة، والعطف، ونصرة المحرومين والمستضعفين، والمقاومة، والإيثار، وما إلى ذلك، ليكون لها تأثير جيد على الفرد والمجتمع. إذاً على الفنان أن يسعى لتقديم أشعار مفيدة وبناءة للفرد والمجتمع. وعليه فإن الفطرة الأصيلة والعقل السليم ورسالة الشريعة تقضي على الفنان بأن يستخدم فنه من أجل تكامل الروح والفكر والثقافة والمعنوية لدى الفرد والمجتمع، ويتخذ الجمال وسيلة لإيصال رسالة القيم الأخلاقية والعرفانية والإنسانية إلى أعماق الأرواح البشرية، لا أن يتخذها وسلية للفساد والإضلال والانحراف وقضاء العمر في البطالة واجتراح المعاصي والذنوب والموبقات.
إن الغناء الحسن والموسيقى الجميلة والخط البديع وأي جمال آخر إذا كان فارغاً من الرسالة والمحتوى، ولم يكن بناءً، كان في حدّ ذاته منشأ للبطالة والعبثية واللهو واللعب، وبالتالي فإنه يفضي إلى الانحراف وذبول روح الفرد والمجتمع. ولذلك كان الفن من هذه الناحية واحداً من أدوات استعمار الشعوب. وكما ذكرنا سابقاً فإن الهدف الرئيس في نظام الخلق هو كمال الإنسان، وإن هذا الكمال يطرق مسامع الروح من خلال النداء، وإن أنواع النداء هذه يجب أن لا تختفي تحت بريق الأنغام والألحان والأوزان والأدوات؛ لأن هذه الأمور ليست غاية في حد ذاتها، بل الهدف والغاية هي المضامين الحسنة والبنّاءة، وإلا كانت منافية للهدف الرئيس.
وخلاصة القول: إن الإسلام لا يخالف الفن أيّاً كان نوعه، بل ويؤيِّده أيضاً، ولكن ضمن شروط معينة ويمكن لنا أن نجملها على النحو التالي:
1ـ أن لا يكون في الفن هدر للوقت ومضيعة للعمر دون فائدة.
2ـ أن لا يؤدي إلى الفساد والانحراف.
3ـ أن لا يؤدي إلى إثارة الشهوة وغلبة هوى النفس.
4ـ أن لا يؤدي إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل.
5ـ أن لا تكون فيه إعانة على الظلم وللظالم.
6ـ أن لا يؤدي إلى الإضرار بالآخرين.
ومما يدعو إلى السعادة والرضا أن نرى جميع أنواع الفن قد اتخذت مكانها وموقعها الجديد، وسلكت مساراً عقلائياً؛ إذ لم تعد الفنون مقصورة على اللهو وأفعال الحرام والأمور غير المشروعة. فالموسيقى مثلاً لم تعد تستخدم في مجالس القصف والسكر ورقص النساء فقط، بل قد تستعمل في الموارد المعقولة والحسنة أيضاً. تستعمل الفنون حالياً بوصفها أدوات ووسائل لعرض الأمور المفيدة والنافعة. وقد اتخذ الفنانون بعد انتصار الثورة الإسلامية خطوات كبيرة في تقريب الفن من الموازين الإسلامية، فأحدثوا بذلك إنجازاً عظيماً في جميع أنواع الفنون، الأعم من إنتاج الأفلام والرسم والشعر والغناء والكتابة، وخاصة في الموسيقى، وجعلوا من أعمالهم الفنية وسيلة للاستفادة الصحيحة والبناءة، ولم يتخذوه أداة للفساد. وبالتالي يجب أن يحدث هذا التحول بدوره تحولاً في نظرة الناس إلى الفن والفنان؛ وذلك لأن نتاج الفنان أضحى منسجماً مع الموازين الإسلامية والأهداف الثورية، وبدأ الفن ينشر الكثير من المفاهيم الإسلامية السامية في المجتمع. إذاً لابدّ من تشجيع الفنانين بمختلف الطرق؛ لما في هذا التشجيع من تأثير ملموس في تحسين أداء الفنان وتطوير نتاجه الفني. ولطالما ذكرت في محاضراتي ومقالاتي أن الفنان الملتزم بالأسس والمعايير الأخلاقية يعد زينة وحلية للمجتمع. فالمجتمع المفتقر إلى الفنان والمحروم من وجوده لا يحتوي على أية زينة؛ لأنّ الفن زينة للفرد والمجتمع. إن قائد الثورة المبدع يولي أهمية كبيرة للفنانين الملتزمين، وقد قال في ذلك: «إن أهل الفن يتمتعون بموهبة خاصة حرم منها سائر الناس».
13ـ منزلة الشعراء والمنشدين في الكتاب والسنّة
قبل الدخول في بيان منزلة الشعراء والمنشدين عند رسول الله‘ والأئمة^ أجد من المناسب التذكير بما يلي:
يشكِّل الشعر والأدب في كل شعب وأمة جزءاً من ثقافة ذلك الشعب وتلك الأمة. ومن هنا كان الشعر والأدب ـ قديماً وحديثاً ـ يتمتع بأهمية ومزية خاصة، حتى كان لهما دور رئيس في تكامل الفكر البشري وتطوير الثقافة والفن. ومن هذه الزواية فإنهما يشكلان جانباً من التاريخ أيضاً. وقد ميز القرآن الكريم في بيان بديع بين الشعراء المؤمنين الملتزمين والشعراء غير المؤمنين، الأمر الذي يثبت قيمة الشعر الهادف من وجهة نظر القرآن الكريم. وقد انعكست هذه المنزلة والاحترام الخاص الثابت للشعراء والفنانين الملتزمين والمتمسكين بالدين منذ عصر رسول الله‘ وأصحابه وأنصاره والتابعين لهم أيضاً، وقد تجلّى ذلك في الروايات والأحاديث الشريفة.
لقد كان النبي الأكرم‘ يولي الشعراء أهمية خاصة، وكان على الدوام يشجع الشعراء الذين ينشدون الشعر الصادق في تأييد ونصرة الإسلام والترويج للصفات الأخلاقية الحسنة. ومن هنا فقد غدا الكثير من أصحابه وأنصاره مضرباً للمثل في إنشاد الأشعار. وفي غدير خم، وبعد خطبة النبي الأكرم‘، كان حسان بن ثابت هو أول من أنشد أبياتاً في توثيق هذا الحدث التاريخي، فاستوجب تشجيع رسول الله‘ على ذلك. كما كان هناك شعراء آخرون من البارزين الذين أنشدوا الشعر في واقعة الغدير من الصحابة والتابعين، وهم: قيس بن سعد بن عبادة، وعمرو بن العاص، ومحمد بن عبد الله الحميري، والعبد الكوفي، وأبو تمام الطائي، وغيرهم، ممَّن روى أشعارهم الكثير من المؤرخين. ومن المناسب هنا أن نشير إلى قصة إنشاد حسان بن ثابت شعره في واقعة غدير خم: إن حسان بن ثابت شاعر رسول الله، والمتوفى سنة 40 أو50 أو 54 للهجرة، شاعر قدير، وكان هو أول شاعر يأذن له رسول الله‘ بتوثيق حادثة غدير خم نظماً، وقرأ ما قام بنظمه في هذه المناسبة بحضور النبي الأكرم‘.
وبعد أن أتم حسان بن ثابت قراءة قصيدته العصماء في الغدير سُرّ النبي الأكرم‘، وقال له: «لا تزال يا حسان مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».
وقد ورد شرح هذه القصة في كتاب الغدير([19]) على النحو التالي: استأذن حسان بن ثابت رسول الله‘ أن يقول شعراً في حادثة غدير خم، فأذن له رسول الله‘، فنهض حسان والتفت إلى كبار قريش وقال: أبدأ كلامي بشهادة النبي في الولاية، وقال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم يقول فمن مولاكم ووليكم إلهك مولانا وأنت ولينا فقال له: قم يا علي، فإنني |
بخمّ فأسمع بالنبيّ منادياً فقالو ولم يبدوا هناك التعاميا ولن ترى منّا في الولاية عاصياً رضيتك من بعدي إماماً وهادياً |
وأحياناً كان النبي‘ في الأسفار الطويلة يدعو حسان بن ثابت، فيقرأ الأخير علية علية أشعاره([20]).
أجل، إن اهتمام رسول الله‘ بالشعر والشعراء بلغ حدّاً عظيماً، حتى أنه عندما قرأ كعب بن زهير قصيدته اللامية في حضرة النبي الأكرم‘ في المسجد عمد النبي إلى بردته فخلعها عليه ووصله بها، وقد اشتراها منه معاوية فيما بعد بعشرين ألف درهم، وكان الخلفاء يرتدونها في أعياد الفطر والأضحى([21]).
وقال النبي الأكرم‘ لأحد الشعراء الذابين عن الإسلام والمدافعين عنه: «واهجُ المشركين، فإن روح القدس معك ما هجوتهم»([22]).
اهتمام الأئمة^ بالشعر
لقد كان للأئمة^ اهتمام خاص بالشعر، وكانوا يكرمون الشعراء الملتزمين والمتمسكين بالأخلاق. ومن هنا فقد عرف أنصارهم بقول الشعر في زمانهم، من قبيل: الكميت بن زياد الأسدي، وأبو هارون المكفوف، ودعبل الخزاعي، الذين حظوا بتشجيع من الإمام زين العابدين×، والإمام جعفر الصادق×، والإمام الرضا×.
ويجدر هنا أن نستعرض بعض الأمثلة على ذلك:
1ـ روى الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال عن أبي هارون المكفوف أنه قال: «دخلت ذات يوم على الإمام الصادق× فقال: أنشدني في الحسين×، فقرأت له بعض الأشعار، فقال الإمام×: أنشدني كما تنشدون، فأنشدت له كما أراد×، فقال: زدني»([23]).
2ـ دخل جعفر بن عمان، وكان شاعراً حسن الصوت، على الإمام الصادق×، فقال له الإمام: سمعت أنّ لك أشعاراً مؤثرة في الحسين×، فقال ابن عمان: أجل، فقال الإمام: اقرأها عليّ، فقرأ له تلك الأشعار بنغمة ونبرة حزينة، فتأثر الإمام×، وجعل يبكي، ثم قال له: «ألا فاعلم أنّ الملائكة المقربين قد سمعت كلامك، وبكت كما بكينا، وقد وجبت لك الجنة».
3ـ كان الكميت بن زياد الأسدي(126هـ) أحد الشعراء الكبار، وقد كانت أكثر قصائده وأشعاره في مدح بني هاشم والثناء عليهم، ولذلك عرفت أشعاره بالهاشميات. وقد قرأ أكثر أشعاره في مجلس الإمام زين العابدين× والإمام محمد الباقر× والإمام جعفر الصادق×.
جاء في كتاب «الشيعة والحاكمون»([24]): «كان الكميت بن زياد الشاعر الكبير يتمتع في المدينة باحترام خاص من قبل الإمام محمد الباقر×. وعندما قرأ قصيدته فرح الإمام، وقال له: «لو كان عندي مال لأعطيتك، ولكني أقول لك ما قاله رسول الله‘ لحسان بن ثابت: لا زلت مؤيَّداً بروح القدس ما دافعت عنا أهل البيت». وقد جمع الإمام الصادق أهل بيته يوماً وراء ستار، ودعا الكميت، وطلب منه أن يقرأ قصيدته، فامتثل الأمر، ولما بلغ قوله:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم | فيا آخراً أسدى له الغيّ أول |
رفع الإمام× يديه إلى السماء، وقال: «اللهم اغفر للكميت، وأعطه حتى يرضى».
4ـ كان دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت، وقد توفي عام 246هـ. قصد الإمام الرضا× عام 198 من طريق البصرة إلى مرو، وبقي هناك لعامين، ثم عاد إلى الوطن. توفي في بلدة طيب قريباً من الأهواز. روى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا عن عبد السلام بن صالح الهروي أنه قال: دخل دعبل في مرو ذات يوم على الإمام الرضا× فقال: أنشدت فيكم شعراً، فقلتُ: لا أقرأه على أحد حتى أقرأه عليك، فقال الإمام×: أنشدني، فقرأ عليه ذلك الشعر بصوت رخيم يشد العواطف ويثير الأشجان، حتى وصل إلى قوله:
أرى فيأهم في غيرهم متقسماً | وأيديهم من فيئهم صفرات |
فبكى الإمام، وقال له: صدقت يا دعبل.
لقد كان دعبل شاعراً مجيداً، وكان يحظى باحترام خاص من الإمام الرضا×، وكان كلما دخل على مجلسه أكرمه وأدناه وأجلسه إلى جانبه، وكان يشجِّعه كثيراً، ويخلع عليه الكثير من الهدايا والصلات.
5ـ جاء في كتاب (تاريخ النياحة)([25]) أنّ إبراهيم بن عباس (المنشد الشهير) دخل ذات يوم على الإمام الرضا، فقرأ قصيدته المعروفة، فأثر في جميع مَنْ كان في المجلس. وكان عبد الله بن الصلت يتمتع باحترام الإمام الجواد×، وقد طلب منه ذات يوم أن ينشد شعراً فيه وفي أبيه الإمام الرضا×.
إن أشعار مَنْ تقدم من الشعراء ذات جمال من الناحية اللفظية، وسمو من ناحية المحتوى، ورقة في المضمون. فإذا توفرت هذه الخصائص في شعر نفذ ذلك الشعر إلى أعماق الإنسان، وأثَّر فيه تأثيراً إيجابياً. وأما إذا لم يتوفَّر الشعر على هذه الخصائص، أو كانت ألفاظه جميلة ولكنها تشتمل على مضامين فاسدة، لم تكن تلك الأشعار مفيدة، ولم تؤثِّر في القلوب. روي في (عيون أخبار الرضا)([26]) عن الإمام الصادق× أنه قال: «من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة». وفي رواية أخرى قال: «ما قال فينا قائل بيتاً من الشعر حتى يؤيد بروح القدس».
وعندما نستعرض سيرة الأئمة^ نجد أنّ بعضهم قد نظم بعض الأشعار بنفسه، كما رويت بعض الأبيات عن الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسين’، بل هناك ديوان يحتوي على ألف وخمسين بيتاً من الشعر منسوبٌ إلى الإمام علي×، لكن هناك تشكيك في هذه النسبة.
عدم ذمّ القرآن للشعراء المؤمنين
إنّ الشعراء وإن وقعوا مورداً للذمّ في منطوق القرآن الكريم، إلا أنّ الله تعالى قد استثنى المؤمنين منهم، فلم يدخلهم في عداد الذين يتبعهم الغاوون، فقال: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً﴾ (الشعراء: 224).
إنّ هذا الاستثناء دليل على قيمة وأهمية الشاعر المؤمن والذي يعمل الأعمال الصالحة والخيرة.
وتوضيح الأمر من خلال الالتفات إلى الآيات المذكورة آنفاً هو أنّ الله قد قسم الشعراء إلى جماعتين وفئتين: فئة مذمومة؛ وفئة ممدوحة. ولكل من المجموعتين صفات وعلامات تخصّها.
أوصاف الشعراء الطالحين
1ـ اتباع الغاوين لهم ﴿يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ﴾.
2ـ انعدام الهدف ﴿أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾.
3ـ عدم مطابقة أفعالهم لأقوالهم ﴿يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾.
أوصاف الشعراء الصالحين
1ـ التحلي بالإيمان ﴿إِلا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
2ـ يؤثرون الأعمال الحسنة والصالحة ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
3ـ المداومة على ذكر الله تعالى ﴿وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً﴾.
4ـ مقاومة الظلم ونصرة المظلومين ﴿وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾.
وعلية فإن الشاعر المذموم في هذه الآيات هو الذي يصنف في دائرة الجماعة الأولى، دون الثانية.
جاء في تفسير الدرّ المنثور([27]) في هذا المجال عن سالم البراد أنه عندما نزل قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ﴾ جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت إلى رسول الله‘ يبكون، وقالوا: «يا رسول الله، لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء، أهلكنا؟»، فعندها نزل قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ (الشعراء: 224). ودعا لهم رسول الله‘، وقرأ عليهم الآية. وبذلك فقد استثنى الله تعالى المؤمنين الصالحين من غيرهم.
إذاً إن الذم الوارد في هذه الآية إنما هو ناظر إلى شعراء الجاهلية، وأيّ عصر آخر يسلك مسلك الجاهلية، دون الشعر الهادف الذي ينشده المؤمنون الذين يذكرون الله كثيراً. وعليه فإنه من وجهة نظر القرآن ليس كل شعر وشاعر ممدوحاً، وإنما القيمة الحقيقية للشاعر المؤمن بالله الذي يعمل الصالحات ويذكر الله كثيراً.
وعليه فإن الشعر من وجهة نظر الإسلام ليس مذموماً في نفسه، وإنما المذموم هو خصوص الشعر الذي يكون فيه ترويجٌ للفساد، وهتكٌ لأعراض الناس، ودعمٌ للظالمين، ومدحٌ للطواغيت والجائرين. وأما الشعر الذي ينشد من أجل الترويج للقيم الدينية والمذهبية والأخلاقية والاجتماعية، ورثاء الأئمة المعصومين^، وإشاعة الثقافة الإسلامية، فهو غير مذموم من الناحية الشرعية، بل إنّ الشرع يهتمّ به، ويوليه قيمة عالية. فقد جاء في النصوص الإسلامية أنّ هناك لكل بيت من الشعر البناء بيتاً في الجنة.
روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق× أنه قال: «من قال فينا بيت شعرٍ بنى الله له بيتاً في الجنة»([28]).
ونقل عنه× أيضاً أنه قال: «ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيّد بروح القدس»([29]).
وكان الإمام جعفر الصادق×يأمر شيعته بتعليم أولادهم الشعر، فقد روي في رجال الكشي عن الإمام الصادق× أنه قال: «يا معشر الشيعة، علـّموا أولادكم شعر العبدي؛ فإنه على دين الله»([30]).
وعليه فقد كان رسول الله‘ والأئمة المعصومون^ يهتمون بالشعر، ويشجعون الشعراء على نشر الحق([31]).
ومن هنا فقد أقبل الشيعة على إنشاد الشعر، وأبدعوا كثيراً من القصائد في مختلف المجالات، وألفوا الدواوين البديعة والراقية. وللتعرف بشكل كامل على شعراء الشيعة، منذ عصر رسول الله وحتى عصرنا الحاضر، يمكن الرجوع إلى كتاب الذريعة، للعلامة الطهراني، ومعالم العلماء، للعلامة محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني، وغيرهما.
ب ـ عودة إلى أصل الموضوع، مسألة الغناء
إن الغناء موضوع لم يخضع للبحث والدراسة. وإن من بين الموضوعات التي لم تبين حدودها وجوانبها بشكل كامل، ولم تخضع للبحث أو الدراسة الدقيقة، أو لم تبين بشكل واضح وخال من أي نوع من أنواع الإبهام والغموض هو موضوع الموسيقى([32]) الغنائية. وإنّ لعدم التبيين والغموض هذا عللاً وأسباباً يمكن إجمالها على النحو التالي:
1ـ امتزاج واقتران بعض أنواع الغناء في مجالس العصر الأموي والعباسي بالأمور المحرمة، من قبيل: اختلاط الرجال بالنساء من دون مراعاة الموازين الإسلامية، ورقص النساء أمامهم، وشرب الخمور والسكر والعربدة. وقد كان ذلك كافياً للمسلم الملتزم في الابتعاد عنها، والامتناع منها، دون حاجة إلى بيان حدودها بشكل كامل.
2ـ عدم اهتمام عامة الناس بموضوع الغناء، وقلة تأثيره في المجتمع آنذاك. فقبل اختراع المذياع والتلفاز وسائر الأجهزة الصوتية لم يكن لموضوع الغناء والأناشيد والقصائد الشعرية ذلك التأثير الكبير على ثقافة الناس وروحياتهم وأخلاقهم. ومن هنا لم تكن هناك حاجة ماسة وضرورة ملحّة لبيان أحكام وحدود موضوع الموسيقى والغناء على نحو دقيق، وبالشكل الذي يستشعره العلماء في الوقت الراهن، ولذلك فإنّ الذين كانوا يدركون مفهوم وحدود ذلك لم يبدوها بشكل تفصيلي مع بيان الشروط والضوابط، وأما اليوم، حيث أصبح هناك ارتباط وثيق بين الناس وهذا النوع من الفن، فقد تفاقم الشعور عند العلماء بضرورة تدوين مفهوم الغناء وبيان حدوده.
3ـ إن احتياط بعض الفقهاء في مقام بيان أحكام الموضوعات (التي لم تناف الشرائط الزمانية) أدت إلى عدم خضوع الآراء العلمية والدقيقة في معرفة الموضوعات والحوادث الواقعة للتمحيص على أساس المصادر المعتبرة، بعيداً عن المؤثرات الذهنية والخارجية. وبذلك تم الجمود على ظاهر الروايات، دون الالتفات إلى المجموعة الأخرى من الروايات المعارضة لها، بل ولم يُعَدْ النظر فيها.
إن الموسيقى الغنائية من المصاديق البارزة لما نقول؛ لأن الفقيه غير الخبير، والذي لا يعتمد على رأي المتخصص، لا محالة يسلك طريق الاحتياط في مقام الاستنباط، دون أن يعير كبير اهتمام لهذا الأمر. في حين أن الفقيه لو تخلى عن هذه الطريقة التي لم يعمل بها إلا في الأزمنة المتأخرة، ونظر في مجموع الروايات والأدلة بشأن هذه المسألة، ودرسها في ضوء آراء الخبراء، فإنه سيعمد إلى بيان حكم الموسيقى الغنائية على أساس الأساليب العلمية، ومناقشة جميع الأخبار والروايات بالالتفات إلى شرائط عصر صدورها، الذي هو أواخر العهد الأموي والعصر العباسي، إلى غير ذلك من القرائن الأخرى، ومن ثم يرتب أحكام ذلك على الصوت والغناء، الذي يذهب الشرع إلى حرمته.
الشعور بالمسؤولية تجاه التجديد في الفكر الديني
وعلى أية حال فقد بدأ العلماء والفقهاء حالياً، حيث تغيّرت الشرائط والظروف، يستشعرون بالمسؤولية تجاه الموضوعات والمسائل عامة البلوى، من قبيل: الموسيقى الغنائية وغيرها، فوجدوا ضرورة تجديد النظر فيها، ودراستها طبقاً للمصادر الشرعية المعتبرة والشروط الأخرى. وطبعاً ليس هناك إجماع من قبل العلماء على ذلك، وإنما يذهب إليه خصوص العلماء والفقهاء الواقعيين، الذين يدركون الحقائق الاجتماعية، ويعيشون الواقع الخارجي والمتغيرات الزمانية، وارتباط الفن بحياة الإنسان، والأخلاق والثقافة والمعتقدات، ولا يلجأون في الموارد التي لا يكون فيها دليل معتبر إلى الهجوم على كل ظاهرة جديدة أو جميلة أو عمل فني أو علم نافع بسلاح الحرام، أو القول بأنّ الاحتياط الواجب يقتضي تركه. فعلى الفقيه أولاً أن يثبت حرمة الموسيقى الغنائية من خلال الأدلة، وعليه ثانياً أن يناقش تلك الأدلة، ليتضح ما إذا كانت تلك الحرمة ثابتة للموسيقى الغنائية على نحو عام أو أنها ثابتة لها في بعض الموارد الخاصة. إن التجديد وفقاً لما تقدم قد لا يروق بعض أتباع الجمود وذوي النظرة السطحية، وقد تصدر عنهم ردة فعل تجاه هذه النزعة التجديدية، ولكن لا ينبغي الاستجابة لهم، وحصر الفقه في زاوية المناهج والسنن القديمة، بل يجب التحلي بالجرأة؛ لجعل الفقه مواكباً للشروط والمتغيرات الزمانية المعاصرة، وفقاً للمصادر الشرعية والحوادث الواقعة.
ليس المراد من التحقيق الفقهي في الموسيقى الغنائية أن نفسّر الأسس والمصادر الشرعية وفقاً لأذواقنا وأمزجتنا الشخصية، بل ينبغي أن يتم التحقيق فيها على أساس الموازين العلمية، بعيداً عن كل تصور ذهني، أو أحكام مسبقة، أو تأثر بالعوامل الخارجية، وما إلى ذلك من أنواع التساهل والتسامح. وحيث ننعم حالياً في بلدنا بأجواء ملائمة لإبداء الآراء الاجتهادية الجديدة في الحوزات العلمية، وتطبيق الأحكام الإسلامية ـ والحمد لله ـ، يتعين على الفقهاء:
أوّلاً: تحديد موضوعات الأحكام من خلال خبرته، أو من خلال الاستعانة بالمتخصصين في كل حقل من الحقول؛ إذ من دون التعرف على الموضوع لن يكون هناك إمكان لبيان حكمه، وعليه لابد من التعرف على الموضوع قبل تحديد حكمه. ومن هنا فإنني أذهب إلى أن معرفة المتغيرات المعاصرة من جملة الشروط التي يجب توفرها في مجتهد التقليد.
وثانياً: أن يبينوا أحكام الموضوعات الإلهية كما يجدونها في المصادر الشرعية المعتبرة من كتاب الله وسنة رسوله‘، دون خشية من إبداء الرأي على خلاف آراء المتقدمين والمتأخرين، قديماً وحديثاً؛ وذلك لأن آراء القدماء حول الموضوعات والمسائل إما أن تكون مطابقة لظروفهم الزمانية، بمعنى أنه لو تغيرت تلك الظروف لتغيرت آراؤهم على أساس المصادر، تبعاً لتغيّر الظروف، ولخرجوا بآراء مغايرة لآرائهم السابقة، أو أنه كان فهماً خاصاً من المصادر الشرعية المعتبرة، فلو أن مجتهداً عمد إلى الوصول إلى فهم آخر؛ بسبب تغير الموضوع من ناحية الأوصاف والخصوصيات، لن يكون موافقاً لآراء المتقدمين بطبيعة الحال، وخاصة في بعض الموارد التي يكون حكم الخبراء مؤيِّداً لرأيه.
دراسة مسألة الغناء وفقاً للأسس المعتبرة
يقوم سعينا على دراسة موضوع الموسيقى الغنائية من الزاوية اللغوية والعرفية، ومن خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بدقة وتخصّص، وإبداء الرأي الحاسم طبقاً للأدلة الاجتهادية. إن المسلمين المخلصين في غاية الشوق للتعرف على الأوامر الإلهية والأحكام الإسلامية كما أنزلها الله تعالى على نبيّه، والعمل بها على نحو ما أراده الله ورسوله، لا على نحو ما تقتضيه الأذواق أو الأساليب الاحتياطية لدى البعض في مقام بيان الأحكام. وكما قلت مراراً في حواراتي ومقالاتي ومؤلفاتي: إن الحقائق إذا تمّ بيانها بشكل مستدلّ، ومتطابق مع الشرائط الزمانية، ووفقاً للمصادر والمباني الشرعية المعتبرة، فإن المسلمين يذعنون لذلك، ويعملون على طبقها.
الموسيقى الغنائية ظاهرة إنسانية
إنّ الموسيقى الغنائية والأنغام العذبة والألحان السماوية ظاهرة إنسانية تعود في جذورها إلى بداية ظهور الحضارة والمدنية تقريباً. وقد استعملت هذه الظاهرة في جميع المجتمعات، سواء في الأفراح ومجالس اللهو والطرب والفساد أو في الأحزان ومجالس الحزن واللوعة والألم. ويجمع أتباع كل المذاهب والأديان على تحسينها، شريطة عدم كونها لهواً أو مشتملة على كلام باطل. ليس هناك في العالم أمة تخلو من الأصوات الحسنة، وهذا دليل على أن الموسيقى الغنائية حلال ومباحة، وأن الأصوات الحسنة من الأمور المحمودة وصفات الإنسان الفطرية. من الواضح أن الإنسان يتمتع بحواس متنوعة، وأن لكل حاسة متعتها التي تروقها وتخصّها؛ فالباصرة تجد المتعة والبهجة في النظر إلى المشاهد الجميلة والناضرة؛ والشامة تستمتع بالرائحة الزكية والمعطرة. واللامسة يلذ لها الإمساك بالأشياء الرقيقة. والسامعة يروقها سماع الأصوات العذبة والمتناغمة والحسنة والرخيمة، ولكن قد يكون هناك تشكيك ونسبية في البين، بمعنى أنه قد تشد بعض الأصوات الانتباه بنسبة أكثر من الأصوات الأخرى، فيكون مفهوم الصوت الحسن مفهوماً مشكِّكاً. كما يختلف الناس في حسن الصوت؛ فهناك من يمتلك صوتاً أجمل من غيره، فيكون أكثر تأثيراً على السامعين. وفي هذا السياق حيث تتمتع المرأة في الغالب بصوت أكثر رقة وعذوبة تكون لها جاذبية وتأثيرٌ أكثر.
عصر ظهور الموسيقی الغنائية
لا يمكن تحديد زمن ظهور الموسيقى الغنائية بدقة. ولكن يمكن القول: إنّ الموسيقى الغنائية فنّ، وإنه يعود في سابقته التاريخية إلى ظهور الإنسان في عالم الوجود؛ إذ لم يفترق الفن عن الإنسان، ولا الإنسان عن الفن. وربما كانت المرة الأولى التي أراد فيها الإنسان أن يؤكد كلامه من خلال رفع صوته، فلما وجد أن رفع صوته له تأثير أكبر على السامع تنبّه إلى أهمية ذلك، ومن هنا أخذ في تأثيره على الآخرين يلجأ إلى الفن، فبدأ بإنشاد الشعر، والإقبال على الرسم وكتابة الخط. وعليه فإن الموسيقى الغنائية قد ظهرت قبل ظهور الإسلام، وقد اتخذت أشكالاً متنوّعة على يد الفنانين عبر الزمن، وفي ضوء المتغيرات والشرائط الزمانية.
مخترعو الموسيقی الغنائية ودوافعهم
طبقاً لنقل رسائل إخوان الصفا([33]) فإن هذا الفن (الموسيقى الغنائية) وغيره من الفنون قد أبدعها الحكماء الإلهيون بحكمتهم ودرايتهم، ثم عمدوا إلى تعليمه الآخرين، ثم تركوه ميراثاً للعالمين.
ويقال: إنّ فيثاغورس، الفيلسوف والرياضي المعروف، طبقاً لمكاشفة، توصل إلى كيفية موسيقى الأفلاك، فقام بتطبيقها على الأرض، فأبدع الموسيقى الأرضية.
إن الدافع لإبداع الموسيقى الغنائية هو أن الناس في عصر الحكماء الذين أبدعوا هذا الفن كانوا مولعين بعلم الفلك والنجوم، وكانوا يعتقدون بأن للكواكب تأثيراً على حوادث العالم من الحسن والقبح والسعادة والشقاء، وبذلك شاع من طريق علم الفلك توقع بعض الوقائع السيئة في كل عام، الأمر الذي دعا إلى شيوع نوع من الجمود والجبرية في حياة الناس، فاختلّ بذلك معاشهم. ومن هنا عمد الحكماء الإلهيون؛ بغية خلق الحافز عند الناس، وبث الأمل في قلوبهم، إلى إبداع هذا الفن. إلا أن هذه الظاهرة قد تعرضت في الإطار الزمني إلى تحوّلات كمية وكيفية، وأفول وصعود. ولما كان للناس غايات متنوّعة فقد وظَّف كل واحد منهم هذه الأداة في الغاية الخاصة التي يرمي إليها، فظهرت أشكال متنوّعة ومختلفة من الموسيقى الغنائية؛ وأخذ البعض يوظفها في مجالس الفرح والسرور؛ ووظفها بعض في الحزن والمآتم؛ بينما وظفها الإلهيون وأصحاب النواميس والقوانين الإلهية قبل الإسلام في بيوت العبادة والمراكز والهياكل. إذاً لم يكن لدى هؤلاء من غاية وغرض سوى الصلاح وإصلاح الناس، إلا أن هذه الأداة تحولت عبر العصور إلى سوء استغلال السلاطين والمترفين، فحرفوها إلى مسير الفساد والإفساد، وأخرجوها عن مسار التكامل([34]).
قال فيثاغورس الحكيم: عند تتويج داريوش تم إرسال 360 غانية، بعدد أيام السنة، كـ (جوقة منشدة)، إلى المركز، فبدأن إنشاداً موحّداً بلحن غنائي([35]).
وقد كان هذا الأسلوب سائداً، منذ العهود القديمة في إيران، عند عقد مجالس السرور والاحتفالات. ففي العصر الساساني كان المنشدون يتحلقون حول معبد النار يومياً، ويرتلون مقاطع من (الأفستا)، يختارونها ويلحنونها لحناً غنائياً. وقد بلغت الموسيقى الغنائية ذروتها في عهد خسرو برويز، إذ كان يأخذ معه إلى الصيد ـ وفقاً للنقول التاريخية ـ ألفي منشد ومغنِّ. وكان الملوك الساسانيون يبذلون أموالاً طائلة على غناء مقطع شعري قصير([36]).
وقد تطرق الشعراء الإيرانيون الكبار، من أمثال: الفردوسي، ونظامي، في أشعارهم إلى الموسيقى في عصرهم. وقد خلد الفردوسي غناء وتلحين (باربد)، مطرب البلاط الساساني المعروف، في شعره وملحمته؛ إذ نقل عنه أن الملك الساساني كان كلما استمع إلى غنائه وعزفه ذهل عن نفسه، وسقط الكأس من يده([37]).
المنع من انتشار الموسيقى الغنائية
بعد ظهور الإسلام، ومخالفته الموسيقى الغنائية الشائعة بين أهل المعاصي والفجور، والتي كانت وسيلة للفساد وانحراف المجتمع، توقف هذا النوع من الموسيقى عن الانتشار، واتخذ منحى نزولياً. ولم يبقَ منه سوى الموسيقى الغنائية الهادئة في إطار الأشعار ذات المضمون الجيد، والتي كانت تنشد في مجالس الأعراس، وحداء الإبل؛ بغية تنظيم سيرها، وأنواع الرجز والنياحة، وأما النوع غير المرغوب به فقد أصابه الركود. وبالتدريج أخذت الموسيقى تسلك الطريق المطلوب والهادف والمناسب لها، فغدت جامعة للقيم والمناحي الإيجابية. وبذلك حصل إقبال من قبل المسلمين على هذا النوع من الموسيقى الغنائية، وهجروا الموسيقى الفاسدة والمفسدة والأناشيد المشتملة على ألفاظ باطلة وألحان مثيرة للشهوة. وبعد استيلاء الأمويين على مقاليد الأمور عادت الموسيقى الغنائية المستهجنة إلى الظهور، ومع امتزاجها بالمعاصي والأمور المحرّمة ساء المتدينون سماعها.
غضب ابن عباس علی يزيد
لقد غضب ابن عباس على يزيد؛ إذ كان يقضي أكثر أوقاته مع الغانيات والراقصات، وأغلظ له القول على ذلك وذمه. وقد كانت الغانيات، وأكثرهنّ من الجواري، يحيين مجالس اللهو والطرب والفجور التي يديرها الأمويون، وكن يؤدين مهمّتهن كل يوم في موضع خاصّ بهنّ. ولكن بعد استيلاء العباسيين على مقاليد الأمور اتسع نطاق الموسيقى الغنائية الخليعة، وشاعت على مساحة أكبر، فكان الموسيقيون والعازفون يحيون مجالس السمر بالألحان والأنغام والمقامات الإيقاعية المتنوعة، ويرفعون الإثارة إلى ذروتها من خلال الغناء الصاخب والرقص المثير([38]). وبذلك كانوا يبلغون قمة الإثارة من خلال الموسيقى الغنائية في مجالس الطرب والفجور، وتجمع الرجال المتهتكين والراقصات، وإقامة الليالي الحمراء، الأمر الذي كان يثير حنق المتدينين وغضبهم بشكل أكبر. وقد استمر الوضع على ما هو عليه من القبح فيما يتعلق بالموسيقى الغنائية إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية. وبعد انتصار الثورة الإسلامية عادت الموسيقى الغنائية المستهجنة أدراجها نحو الأفول، وسلوك قوس النزول. وفي مدة قياسية عادت الموسيقى الهادفة إلى مكانتها اللائقة بها، وسارت على النهج المطلوب من التكامل، واحتوت على المفاهيم الدينية والمذهبية والأخلاقية والعرفانية والاجتماعية والتربوية والثقافية السامية.
أول شعر ينشد بلحن غنائي
إن أول شاعر قرأ الأشعار في المدينة المنوّرة بلحن غنائي، مصحوباً بأداة موسيقية (الطبل)، هو طويس بن عبد الله، المكنّى بأبي عبد المنعم، والملقَّب بـ (طويس). وقد كان بارعاً في فن الموسيقى الغنائية، والضرب على الدف، في عصره. وكان بالإضافة إلى ذلك عالماً بالتاريخ والأنساب. ولد طويس في العام الحادي عشر للهجرة في المدينة المنورة، ونشأ فيها إلى حين خلافة مروان بن الحكم، ثم هاجر إلى (سويدا)، إلى الشمال من المدينة، وبقي فيها إلى عام 92هـ، حيث وافته المنية، ودفن هناك([39]).
وقد كان أول شعر ينشد بعد ظهور الإسلام بلحن غنائي هو البيت القائل:
قد براني الشوق حتى | كدتُ من وجدي أذوب |
الفرق بين الغناء والسماع
إن السماع مصطلح خاص يطلق على كل صوت حسن وجميل يستوجب استمتاع الفرد من ناحية حاسة السمع، ولذلك يطلق لفظ السماع على الغناء، كما يطلق لفظ الغناء على السماع.
ومن الجدير بالذكر هنا هو أن لفظ السماع وإن كان يُستعمل بديلاً عن الغناء، كما يستخدم لفظ الغناء بدلاً عن السماع ـ حتى أن الجوهري صاحب صحاح اللغة عدّ الغناء في ضمن أقسام السماع([40])، وقد استحسن الشيخ الأنصاري نظريته، وقال: إن هذا التفسير هو الشائع عند أهل العرف ـ، فإن مصطلح السماع قد وضع بلحاظ حال السامع، في حين لوحظ عند وضع مصطلح الغناء حال المنشد والمغني. وعليه فإنه وإن كان هناك اختلاف بين السماع والغناء من الناحية المفهومية، ولكنهما متَّحدان من الناحية المصداقية، وانطباقهما على المصداق الخارجي. ولذلك قال ابن منظور المصري: «المسمّعة: المغنية».
الفرق بين الغناء والموسيقى
ليس الاختلاف بين العنوانين المذكورين عند المتقدمين من العلماء في المفهوم، ولا في المصداق، فكلاهما يطلق على معنى واحد. فالغناء كلمة عربية، في حين أن الموسيقى كلمة يونانية. وقد تمّ التصريح بذلك في رسائل إخوان الصفاء([41])، حيث جاء فيه: «الموسيقى هي الغناء، والغناء هو الموسيقى». وعليه ليس هناك أي اختلاف بينهما. إلا أن العلماء في العصر الراهن يستعملون الموسيقى في الأصوات الخارجة من أدوات الطرب، وهو أخص من مفهوم الغناء. وهذا ما تمّ التصريح به في المعجم الوسيط أيضاً.
ولكننا إذا أردنا بيان النسبة المنطقية بين هذين المفهومين لوجدنا أن النسبة القائمة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل غناء هو موسيقى، وليست كل موسيقى غناء.
ولكن جاء في المعجم الوسيط: الموسيقى لفظ يوناني يطلق على فنون وأصوات مختلفة، كما يطلق على أنواع آلات الطرب، وإن علم الموسيقى هو العلم الذي يبحث في أصول الألحان والأنغام، وكيفية تركيب أجزائها، وانسجامها مع بعضها، أو بعكس ذلك، بمعنى بيان أحوال عدم التناغم والانسجام فيها، وكذلك أحوال الأزمنة التي تفصل بين النغمات والألحان؛ ليعلم من خلال ذلك كيفية تركيب الألحان مع بعضها. ويطلق الموسيقار على من يتخصص في فن الموسيقى. وقال العلامة واللغوي الإيراني الكبير دهخدا، في معجمه، في باب حرف الميم: الموسيقى علم يبحث في أحوال النغمات وأزمنتها، وهو يشتمل على فنين:
1ـ معرفة كيفية الانسجام بين النغمات، وبالعكس. ويسمّى هذا القسم من الفن بـ (الألحان).
2ـ معرفة أوزان الأزمنة الواقعة بين أجزاء وفواصل النغمات. ويسمّى هذا القسم من الفن بـ (الإيقاع).
غياب لفظ الموسيقی الغنائية في الأدبيات الإسلامية
لم يرد لفظ الموسيقى في الأدبيات الإسلامية وكلمات الفقهاء المتقدمين. إن لفظ الموسيقى معرّب عن اليونانية. أجل، جاء في بعض الأحاديث والروايات الإسلامية لفظ المعازف، ويراد منها آلات الطرب وأدواته.
عدم اقتران الموسيقی الغنائية بالكلام والآلات في بدء ظهورها
لم تكن الموسيقى الغنائية في بدء ظهورها مقرونة بالآلات والأدوات، ولكن المبدعين؛ حيث أدركوا دورها وتأثيرها المهم في تحسين الإنشاد، عمدوا إلى ضم الكلام والأدوات إليها. وقد بلغ تأثير إدخال الأدوات والآلات في الأغاني حدّاً استحال بعده تجريد الغناء عنها، وأصبحت جزءاً منها.
حكم الموسيقی من وجهة نظر علماء المذاهب الإسلامية وغيرهم
للفقهاء وعلماء المذاهب الإسلامية آراء واتجاهات متنوعة في ما يتعلق بالموسيقى الغنائية. وسنعرض في ما يلي إلى أهم تلك الآراء:
1ـ حرمتها في نفسها، حتى وإنْ لم تقترن بالمعاصي والأمور المحرمّة. وقداختار هذا الرأي أكثر فقهاء الشيعة، وأبو حنيفة إمام المذهب الحنفي، ومالك بن أنس الأصبحي إمام المذهب الحنبلي، وأبو الفرج ابن الجوزي(597 هـ) في كتاب تلبيس إبليس([42]).
2ـ إباحتها وحليتها في نفسها ما لم تقترن بالمعاصي والأمور المحرّمة. وهو اختيار الشيخ الطوسي في الاستبصار([43])، والمحقق السبزواري(1090هـ) صاحب كفاية الأحكام([44])، والملا محسن الفيض الكاشاني(1091هـ) صاحب كتاب الوافي([45]). وقد اختار الشيخ الأنصاري هذه النظرية في كتابه القيّم «المكاسب»([46])، ثمّ طرح أربعة عناوين في هذه المسألة، وهي: لهو الحديث، وقول الزور، والباطل، واللغو. ثم قال: المستفاد من الأدلة أنه إذا صدق أحد هذه العناوين المذكورة على مورد كان حراماً، وإن لم يكن من الموسيقى الغنائية، وإذا لم يصدق فلا يحكم بحرمته، وإن كان من الموسيقى الغنائية.
وهذا الكلام منه يثبت عدم حرمة الغناء في ذاته ونفسه. أجل، قال الشيخ الأنصاري في نهاية بحثه: إن الغناء لا يتحقق في الخارج دون واحد من هذا العناوين المذكورة، وخاصة في ما يتعلق بلهو الحديث. وعليه فإنه يذهب إلى صدق عنوان اللهو حيثما صدق عنوان الغناء، فهما متحدان في المصداق الخارجي، رغم اختلافها من ناحية المفهوم. وهذا هو تشخيصه الموضوعي. ولكنه في أصل المسألة يقول بعدم حرمة الغناء الذاتية. ولذلك إذا توصّل فقيه، من خلال خبرته، إلى تحقق الغناء دون أيّ واحد من هذه العناوين المتقدمة كان الغناء حلالاً ومباحاً، حتى من وجهة نظر الشيخ الأنصاري([47]).
وقد ذهب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلى عدم حرمة الغناء في نفسه، حتى إذا كان مقروناً بآلات الطرب؛ إذ يقول: «الغناء، سواء رافقه آلات الطرب (الموسيقى) أم لا، مباح، مالم يستخفّ السماع إلى حدّ يخرج معه من الكمال، فهو إذ ذاك غير مشروع»([48]).
وقال الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الشريف، في كتاب الفتاوى الواضحة([49]): اتفق الفقهاء على إباحة الموسيقى الغنائية في موارد الحثّ على الجهاد في سبيل الله، وحج بيته الحرام، وكذلك في الأفراح، من قبيل: الأعراس، وعودة الغائب من السفر، وأيام الأعياد، وما إلى ذلك.
ثم أضاف: وأما الروايات الدالة على حرمة الموسيقى الغنائية فعلى فرض صحتها يجب تقييدها وصرفها إلى موارد الغناء المقرون باللهو والفسق والفجور، وفي غير هذه الصور فهي غير محرمة سماعاً وتعلماً. ثم قال: هذا ما عليه أكثر الفقهاء.
وقال الأستاذ عبد الرحمن الجزيري الحنفي في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»: الموسيقى الغنائية، التي هي ترجيع الصوت وتلحينه في الحلق، مباح، ولا إشكال فيه، ولكنه يقترن أحياناً بأمر يؤدي به إلى الكراهة أو الحرمة. إذاً ليس سبب الإشكال في الموسيقى الغنائية نفسها، بل هو الأمور التي تقترن بها.
وقد ورد ما يقرب من هذا المضمون في شهادات فتح القدير أيضاً، ثم قال: إن ما ذهب إليه أبو حنيفة من كراهية الغناء، واعتبار سماعه من الذنوب، محمول على نوعه المحرّم([50]).
وقال مؤلف كتاب الدراسات الإسلامية: إنّ مقتضى الأصل الشرعي في كل شيء وعمل هو الإباحة. وهذه قاعدة أصولية تسالم عليها جميع الفقهاء منذ عصر الصحابة والتابعين؛ بغية التسهيل على الناس، والابتعاد عن الشدة في أمر الدين. وإن القول بإباحة وحلية سماع الغناء وآلات وأدوات الموسيقى إذا لم يكن بقصد اللهو واللغو والإغراء بالمعصية والمنكر ودخول النساء على الرجال وغلبة الشهوة واللذة على السامعين مستفادٌ من هذه القاعدة. فأولاً: إنّ الأحاديث المروية في مسألة الغناء محل إشكال ومناقشة. وثانياً: إن السماع الذي لايؤدي بالسامع إلى المنكر يوجب رقة القلب والشوق إلى الله تعالى، ويثير الأحزان والأشجان، ويعمل أحياناً على معالجة الأمراض العصبية والنفسية. وهو من الأمور التي تريح القلب في الحالات العادية من جميع أنواع الحزن والكآبة والقلق والتعب([51]).
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى إباحته. ثم قال: قال الغزالي: ليس هناك نص على تحريم السماع، ولا قياس.
وقال الفاكهاني: لا أعلم من كتاب الله والسنة الصحيحة ما يدل على حرمة الملاهي، فليس هناك سوى ظواهر عمومات يستفاد منها الحرمة، وهي ليست أدلة قطعية([52]).
وقال ابن حزم الظاهري، الإمام الثاني للمذهب الظاهري: إن الذي يتخذ الموسيقى الغنائية وغيرها وسيلة إلى المعصية فهو فاسق. وأما إذا اتخذها وسيلة لإعداد الروح إلى طاعة الله، والنشاط لفعل الخير، فهو من أهل الطاعة والإحسان، وعد عمله حقّاً، ولم يكن باطلاً. وأما إذا لم يتخذها وسيلة للطاعة، ولا وسيلة للمعصية والتمرد، كان عمله لغواً، ولكنه يقع مورداً للعفو([53]).
وقد ذهب إلى إباحة الموسيقى الغنائية في نفسها كلٌّ من: محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي، وأبو طالب المكي صاحب «قوت القلوب»([54])، والعلامة عبد الغني النابلسي مؤلف كتاب «إيضاح الدلالات في سماع الآلات»، وشهاب الدين عمر السهروردي صاحب كتاب «عوارف المعارف»، وابن القيسراني صاحب كتاب «السماع»، وابن حجر الهيثمي في كتاب «كفّ الرعاع عن محرمات اللهو والسماع»، وأبو حامد محمد الغزالي صاحب «إحياء العلوم»([55])، وابن خلدون في مقدمة تاريخه، وابن عبد ربه الأندلسي في كتاب «العقد الفريد»، والنويري في «نهاية الإرب»، وأحمد بن محمد الأصفهاني صاحب كتاب «طبقات الخطباء وطبقات البلغاء»، ومحمد بن أحمد الأبشيهي المصري صاحب كتاب «المستطرف في كلّ فن مستظرف»([56])، وأحمد بن يحيى الراوندي، وابن بطلان البغدادي، وصاحب كتاب «تقويم الصحة».
الذهاب في مسألة الغناء الی أبعد من ذلك
لقد ذهب الأصفهاني والأبشيهي والراوندي([57]) في حكم الغناء إلى أبعد من ذلك. ومن المناسب هنا أن نتعرض إلى آرائهم في هذا المجال:
رأي الأصفهاني في الغناء
ذهب الأصفهاني إلى اعتبار الغناء ظاهرة مقَّدسة، وواجبة الاحترام. وأنشد في ذلك قائلاً:
حكم الغناء تسمّع ومدام لو أنني قاضٍ قضيت قضية |
ما للغناء مع الحديث نظام إن الحديث مع الغناء حرام([58]) |
رأي الأبشيهي في الغناء
ذهب أحمد بن محمد أبو الفتوح الأبشيهي المصري إلى الاعتقاد بوجود فوائد للموسيقى الغنائية؛ إذ يقول: إنّ الموسيقى والألحان هي مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس. ثمّ قال: وزعم أهل الطب أنّ الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق، فيصفو له الدم، وتنمو له النفس، ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخفّ له الحركات، ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على أثر البكاء، حتى يرقص ويطرب. ثمّ قال: وزعمت الفلاسفة أنّ النغم فصل بقي في النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان، على الترجيع، لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحنت إليه الروح. ثمّ أضاف: ألا ترى إلى أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنّموا بالألحان، واستراحت إليها أنفسهم؟! وليس من أحدٍ كائناً من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه. ثمّ قال: وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق، من اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض، والتجاوز عن الذنوب، وقد يبكي الرجل بها على خطيئته. ولأهل الرهبانية نغمات وألحان شجية، يمجِّدون الله تعالى بها، ويبكون على خطاياهم، ويتذكرون نعيم الآخرة. ثمّ قال: ولو لم يكن من فضل الصوت الحسن إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب، من مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا صيد، إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح، ما خلا السماع([59]).
رأي الراوندي في السماع
ذهب الراوندي إلى وجوب السماع. فقد روى عنه قبش في «ربيع الأبرار» أنه قال: «اختلف الناس في السماع؛ فأباحه قوم؛ وحظره آخرون. وأنا أخالف الطريقين، فأقول: هو واجب».
رأي ابن بطلان البغدادي في الغناء
إن ابن بطلان البغدادي، مضافاً إلى قوله بإباحة الغناء، يقول: «إن الموسيقى الغنائية شفاء للأسقام وكل ما تتعلق به النفس».
رأي ثالث في الغناء
وأما الرأي الثالث فهو القول بكراهة الغناء. وهو مذهب فقهاء البصرة والكوفة على نحو العموم، سوى عبد الله بن الحسن الحنبلي؛ إذ ذهب إلى القول بإباحة الغناء([60]).
رأي أفلاطون في الغناء
نقل قبش في «ربيع الأبرار»([61]) عن أفلاطون أنه قال: «من حزن فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا حزنت خمد نورها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرّها اشتعل منها ما خمد».
رأينا في الغناء
ومن وجهة نظرنا فإن الغناء بمعناه اللغوي، الذي هو عبارة عن الأصوات الحسنة، والأشعار ذات المفاهيم السامية والمضامين النافعة في البعد الأخلاقي والاجتماعي والعرفاني والثقافي والتربوي، حلالٌ ومباح، ولا إشكال فيه من ناحية الأدلة الشرعية.
وأما الغناء بمعناه الشرعي، الذي هو عبارة عن الأصوات اللهوية، من قبيل: ألحان أهل الفسق والفجور، والأنغام المثيرة للشهوة، وذات الكلمات الفاحشة والباطلة([62])، فهو حرام؛ وذلك لأن الغناء الذي هو موضوع حكم الحرمة في المباني والمواد الأساسية والعناصر الاستنباطية هو الغناء بمعناه الشرعي، دون معناه اللغوي. وسنأتي على دليل ذلك في القسم الثالث من هذه المقالة.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى مسألة، وهي أن البعض حاول أن ينسب لنا ـ جهلاً أو خبثاً ـ القول بحلية الغناء بقول مطلق، في حين أن أبحاثنا، سواء في المحاضرات أو المقالات، لم تكن في الغناء بقول مطلق، وإنما تدور أبحاثنا حول مصاديق الغناء وأقسامه. وقد ذهبنا في بحوثنا، من خلال الالتفات إلى مجموع الأدلة، إلى تحريم الغناء إذا كان مشتملاً على لهو وكلام باطل. وذهبنا أيضاً إلى حلية ما كان مشتملاً على المضامين السامية أو الكلمات النافعة والمفيدة. وهو رأي يذهب إليه جميع الفقهاء. نعم، هناك اختلاف في وجهات النظر حول تحديد بعض مصاديق الغناء، الذي هو مفهوم عام؛ فقد يذهب بعض الفقهاء إلى اعتبار بعض المصاديق من الغناء اللهوي؛ بينما يذهب آخرون إلى اعتباره من مصاديق الغناء غير اللهوي. وإن هذا النوع من الاختلاف يعمّ جميع أنواع المصاديق في المفاهيم العامة، ولا يختص ببعض مصاديق الغناء.
إن الموسيقى الغنائية التي تبث من الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإن كان أكثرها يخلو من الإشكال؛ لأنها ذات غرض صحيح يميّزها عن ألحان أهل الفسوق، وهي ذات مضامين ومفاهيم عرفانية وأخلاقية واجتماعية وثقافية وتربوية عالية، ولكن هناك شبهة في بعضها، الأمر الذي أدى إلى ظهور الاختلاف في وجهات النظر؛ فذهب فقيه إلى اعتبارها من نوع الغناء بمعناه الشرعي فحكم بحرمتها، بينما ذهب فقيه آخر إلى اعتبارها من نوع الغناء بمعناه اللغوي فحكم بحليتها وإباحتها؛ وفي مثل هذه الموارد يجب على كل فقيه أن يعمل على طبق رأيه، ولا يمكنه أن يفرض رأيه، دون مستند ودليل، على غيره من الفقهاء. وعلى أية حال حيث أذهب شخصياً إلى اعتبارها من مصاديق الغناء بمعناه اللغوي فقد حكمت بإباحتها. وحتى على فرض الشك والتردد بين كونها من الغناء بالمعنى اللغوي أو الغناء بالمعنى الشرعي لابد من الحكم بالإباحة، طبقاً لقاعدة وأصل البراءة، حيث تجري البراءة في الشبهات المصداقية، كما سيأتي شرحه في القسم التالي. وهذا ما أجمع عليه الفقهاء قاطبة، سواء في ذلك الأصوليون والأخباريون، وبمقتضى جريان البراءة يحكمون بالحلية والإباحة.
إنّ الروايات المروية عن النبي الأكرم‘ ناظرة إلى هذا القسم من الغناء؛ إذ يقول: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن»([63])، وقال أيضاً: «تغنوا بالقرآن، فمن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا»([64]).
لقد تمّ التأكيد في الإسلام على تلاوة القرآن الكريم بصوت عذب، وتقطيع حزين مطابق لألحان العرب. وقد أوصى بذلك رسول الله‘ والأئمة المعصومون^؛ إذ طالبوا القارئ بمراعاة القواعد الموسيقية الأعم من مدّ الأصوات وترجيعها وما إلى ذلك. وقد كان إيمان أكثر المشركين وأهل الكتاب والكافرين بسبب تأثرهم بالنغم القرآني المؤثِّر. وقد أسلم الكثير من أهل المدينة بتأثير صوت مصعب بن عمير عند تلاوته للقرآن الكريم. وهنا يجدر بنا استعراض بعض الأحاديث الواردة في تلاوة القرآن بصوت حسن وجميل:
1ـ روى أبو بصير عن الإمام الباقر× أنه قال: «ورجّع بالقرآن صوتك، فإن الله عز وجل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً». وهي صحيحة السند والدلالة([65]).
وقد روى الإمام الصادق× عن رسول الله‘ أنه قال: «لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن»([66]).
وروى البراء بن عازب عن رسول الله‘ أنه قال: «زينوا القرآن بأصواتكم»([67]).
ونقل عن الإمام الصادق× أنه قال: «كان علي بن الحسين أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه ويستمعون قراءته. وكان أبو جعفر× أحسن الناس صوتاً»([68]).
وفي رواية أخرى: «كان علي بن الحسين× يقرأ القرآن، فربما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته»([69]).
أسلوب الأئمة^ في قراءة القرآن الكريم
كان أسلوب الأئمة^ في قراءة القرآن الكريم يعتمد على مدّ الصوت وتجويده، بشكل كانت قراءتهم تعدّ من أحسن وأفضل القراءات.
قال معاوية بن عمار: سألت الإمام الصادق×: الرجل لا يرى أنه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته؟ فقال: لا بأس به، إن علي بن الحسين× كان أحسن الناس صوتاً بالقراءة، فكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار. وقد روي مثل ذلك عن سائر الأئمة^.
العناصر المؤثرة في بنية القرآن الكريم
هناك ثلاثة عناصر أدت إلى جعل القرآن الكريم مؤثراً، وهي: الأسلوب، والنظم، واللحن.
أـ الأسلوب: وهو العنصر الذي يتكفل بتكوين الكلام. وهذا ما يتمتع به القرآن الكريم؛ وذلك لاستفادته من أوزان الشعر وأنغام السجع، ومع ذلك فلا هو بالشعر، ولا هو بالسجع.
ب ـ النظم: وهو العنصر الذي يتكفل بعمليه الربط بين الكلمات والمفردات وتنظيمها على نحو مناسب.
ج ـ اللحن: وهو الصوت الذي ينشأ ويتكوّن بفعل وتأثير العنصرين المتقدّمين، أي الأسلوب والنظم. ولذلك فإن القارئ إذا كان عالماً بالعناصر والأسباب المتقدمة، وعمد إلى مراعاتها عند القراءة، كان تأثيره على السامع واضحاً.
ويتوجَّب على القرّاء المصريين قبل أن يتم قبولهم في المعاهد القرآنية أن يحصلوا على شهادة من دارالفنون؛ لضمان معرفتهم وإدراكهم لأنواع النغمات والألحان، حتى يتمكن من قراءة القرآن على أحسن الألحان والأنغام. إن تعلم فنون الموسيقى يعدّ مقدمة للتمكن من قراءة القرآن بمختلف القراءات. إذاً علينا أن لا نقرأ القرآن بنغمات ناشزة وغير موزونة، وعلينا أن لا نعرِّض هذه المعجزة الإلهية العظمى لأساليب تقليدية وغير مرغوبة.
نظرية تحريم الغناء، الشواهد والأدلة
لقد تمسك القائلون بحرمة الغناء لذاته بالإجماع والكتاب والسنة. وإليك أدلتهم على النحو التالي:
1 ـ الإجماع، مطالعة نقدية
قال السيد علي الحائري في قسم المتاجر من كتاب رياض المسائل: كما قال بعض الفقهاء: هناك إجماع من قبل علماء الإسلام على حرمة الغناء، وهو إجماع معتبر([70]).
وقال الملا أحمد النراقي في كتاب مستند الشيعة: ربما أمكن القول؛ بسبب عدم الخلاف، بل وللنقل الإجمالي على حرمة الغناء: إن القول بحرمة الغناء قد بلغ حدّ الاستفاضة. بل يمكن القول: إن حرمة الغناء قطعية، بل هي من ضروريات الدين([71]).
وقال صاحب الجواهر: لم أرَ من خالف في المسألة، بل فيها كلا قسمي الإجماع: المنقول؛ والمحصل. من هنا يمكن القول بأن حرمة الغناء من ضروريات المذهب([72]).
ويمكن رد هذا الإجماع المزعوم في هذه المسألة، بما يلي:
أولاً: بعد وجود مختلف الآراء، ووجود من يذهب إلى عدم حرمة الغناء في نفسه، كيف يمكن ادعاء إجماع العلماء قاطبة على حرمة الغناء؟!
وثانياً: لقد ثبت في الأصول أن الحجية والاعتبار يثبت للإجماع التعبدي، دون الإجماع المدركي؛ لرجوع حجيته إلى مدركه، وهو إذا كان تاماً فلا يكون بسبب الإجماع نفسه. وفي ما يتعلق ببحث الغناء فإن مستند ومدرك الفقهاء هو الآيات والروايات، ولذلك يجب علينا، بدلاً من التمسك والاستناد إلى الإجماع، أن نرجع إلى مستندهم من الآيات والروايات حتى نرى ما إذا كان فهمهم الاجتهادي صحيحاً أو لا؛ فإذا ثبت لدينا صحة ذلك الفهم نكون في الحقيقة قد قبلنا بنظرية الحرمة دون الرجوع إلى الإجماع؛ وإذا لم يثبت لدينا صحة ذلك الفهم، ووجدناه مخدوشاً، لم يكن هناك مجال للاعتماد على نظريتهم.
وثالثاً: إن ملاك حجية الإجماع التعبدي عند علماء الشيعة هو كاشفيته عن رأي المعصوم، دون أن تكون هناك مزية للإجماع نفسه. وليس من المعلوم أن يكون الإجماع في الموارد المتقدمة كاشفاً عن رأي المعصوم×. وإننا قد تعرضنا في البحوث الأصولية لنقد جميع طرق وأساليب الفقهاء في كشف الإجماع التعبدي عن قول المعصوم×، وأشكلنا عليها، إلا أن شرح ذلك خارج عن نطاق بحثنا في هذه المقالة([73]).
2 ـ الآيات القرآنية
أما الآيات التي تم الاستناد إليها في إثبات الحرمة للغناء فهي:
أـ قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: 31). وإن الاستناد إلى هذه الآية يقوم على تطبيق (قول الزور) على الغناء، وهو بحاجة إلى دليل وإثبات.
ب ـ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: 5). والاستناد إلى هذه الآية قائم أيضاً على تطبيق (لهو الحديث) على الغناء، وهو بحاجة إلى إثبات أيضاً.
ج ـ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 13). وإنّ الاستناد إلى هذه الآية إنما يكون تاماً إذا انطبق عنوان اللغو على الغناء، وهذا ما يحتاج إلى إثبات.
دـ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ (الفرقان: 72). وهنا نحتاج في الاستناد إلى هذه الآية إلى إثبات صدق (الزور) على الغناء أيضاً([74]).
لم يشتمل أي من الآيات الكريمة التي تمّ الاستناد إليها في إثبات حرمة الغناء على لفظ الغناء، ولم تتعرض لمفردة الغناء بشكل صريح. وإنما تحتوي على عناوين عامة يمكن تطبيقها على أنواع الغناء. فمثلاً: حيث يكون الغناء مشتملاً على كلام باطل ولغو وضالّ، أو يغدو نفس الغناء عملاً باطلاً وزوراً ولهواً ولغواً، صدق عليه عنوان قول الزور واللغو واللهو. ولكن من خلال ظاهر ومنطوق هذه الآيات لا يمكن استفادة حرمة مطلق الغناء، دون الرجوع إلى الروايات. وإن أهمّ وجه في الاستناد إلى هذه الآيات على حرمة الغناء روايات وردت في تفسير تلك الآيات. إذاً لا بد من ملاحظة بيان تلك الروايات في ما يتعلق بالغناء.
3 ـ الأحاديث الشريفة
إن من بين الروايات التي تعرضت لموضوع حرمة الغناء ما يلي:
1ـ رواية أبي بصير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، حيث روى عن الإمام الصادق× أنه قال: «هو الغناء»([75]). ولكن هذه الرواية غير معتبرة؛ لضعف سندها؛ لوقوع (دَرَست) في جملة رواتها، وهو مجهول ولم يوثَّق في الكتب الرجالية.
2ـ رواية زيد الشحام عن الإمام الصادق× أنه قال: «المراد من قول الزور في الآية الشريفة: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: 30) الغناء»([76]). وهذه الرواية لا تصمد أمام النقد؛ لكون بعض رواتها مجهول الحال، فلا تكون معتبرة.
3ـ خبر الوشاء القائل: سمعت الإمام الرضا× يُسأل عن الغناء؟ فقال: هو قول الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ (لقمان: 60)([77]).
4ـ رواية مهران بن محمد([78]) عن أبي عبد الله الصادق× قال: «الغناء مما قال الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ (الحج: 30). وهي ضعيفة بمهران بن محمد.
5ـ في تفسير علي بن ابراهيم القمي عن الإمام× تطبيق قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ على الغناء([79]).
6ـ عن أبي الصباح الكناني عن الإمام أبي عبد الله الصادق×، في قول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ (الفرقان: 72)، قال: الغناء([80]). وهي تامة من ناحية السند، ولكن هناك مَنْ ناقش في دلالتها؛ لأنها لم تمنع من الغناء، وإنما تدل على أن المؤمنين لا يجلسون في مجالس الظلم والزور.
7ـ عن أبي ربيع الشامي، عن أبي عبد الله× قال: سئل عن الشطرنج والنرد؟ فقال×: «لا تقربوهما»، قلت: فالغناء؟ قال×: «لا خير فيه، لا تقربه»([81]). وهي غير معتبرة؛ لوجود الضعف في سندها.
8ـ عن يونس قال: سألت الخراساني [يعني الإمام الرضا×] عن الغناء؟ وقلت: إن العباسي ذكر أنك ترخِّص في الغناء، فقال: «كذب الزنديق، ما هكذا قلت له. سألني عن الغناء، فقلت: إن رجلاً أتى أبا جعفر صلوات الله عليه فسأله عن الغناء، فقال×: يا فلان، إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، قال×: قد حكمت»([82]).
9ـ قال محمد بن عمرو بن حزم: دخلت على أبي عبد الله× فقال: الغناء، اجتنبوا الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء اجتنبوا، فضاق بي المجلس وعلمت أنه يعنيني([83]). إن ظاهر كلام الإمام× يوحي بأنّ قول الزور مرادف للفظ الغناء، أو أن مفردة الغناء من مصاديق قول الزور. وقال بعض: إن الظاهر من عنوان الزور هو القول الباطل، وليس كل باطل محرم([84]).
10ـ عن محمد بن أبي عباد قال: سألت الإمام الرضا× عن السماع؟ فقال: لأهل الحجاز [في نسخة: العراق] فيه رأي. وهو في حيّز الباطل واللهو، أما سمعت الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ (الفرقان: 72).
وهذه الرواية مطلقة، فتقيد بالروايات الدالة على حرمة الغناء إذا كان مقروناً بالأمور المحرّمة([85]).
11ـ عن زيد الشحام عن الإمام الصادق× أنه قال: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تجاب فية الدعوة، ولا يدخله الملك»([86]).
إن هذه الرواية والروايات التالية لا تدل على حرمة الغناء؛ لعدم اشتمالها على النهي، وإنما هي تحذر من عواقبه المضرة، بالإضافة إلى ضعف سندها.
12ــ عن الحسن بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر»([87]).
13ـ روى ابن مسعود عن رسول الله‘ أنه قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء النبات»([88]).
14ــ روى ابن أسامة عن الإمام الصادق× أنه قال: «الغناء عشّ النفاق»([89]).
15ــ عن الحسن بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله»([90]). وفي رواية أخرى قال: «ولا تدخلوا بيوتاً الله معرض عن أهلها»([91]). وفي حديث آخر: «شرّ الأصوات الغناء»([92]).
16ــ قال الإمام الباقر×: «الغناء أشرّ ما خلق الله»([93]).
17ـ قال الإمام محمد الباقر×: «لا يحل بيع الغناء ولا شراؤه، واستماعه نفاق، وتعليمه كفر»([94]). ويدل هذا الحديث على مبغوضية الغناء من الناحية الشرعية، ولكنه داخل في عمومات وإطلاقات باب الغناء التي لا تأبى عن التخصيص أو التقييد، إلا إذا ادُّعي أن سنخ هذا العموم والإطلاق للقرينة الداخلية يأبى عن التخصيص والتقييد. ولكن مهما كان الأمر فإن الذي يحول دون التمسك بدلالة هذا الحديث هو ضعف سنده.
18ــ سأل رجل الإمام الصادق×: في جواري منزل تغني فيه الجواري، ويضربن على الأعواد، ويسمع صوتهنّ في بيت الخلاء، فأطيل الجلوس فيه، فهل يجوز لي ذلك؟ فقال الإمام×: «لا يجوز لك ذلك»، فقال الرجل: إنما أذهب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة، دون قصد السماع، فيقع ذلك عرضاً، فقال الإمام×: أما سمعت قول الله تعالى؛ إذ يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ([95]).
19ـ سئل ابن مسعود عن لهو الحديث فقال: «هو والله الغناء»([96]).
20ـ في وصية النبي الأكرم‘ لعلي×: «ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو، وطلب الصيد، وإتيان السلطان»([97]).
نتائج البحث في الروايات
كما تقدم أن ذكرنا فإننا إنما نجد أصرح العبارات في تحريم الغناء في الروايات، وأما الآيات التي يستند إليها في هذا المجال فهي تعتمد إلى حدّ كبير على الروايات الواردة في تفسيرها.
وأما عمدة الروايات الواردة في حرمة الغناء فهي التي تقدم ذكرها، وهناك أيضاً روايات أخرى أنكرت مسألة الغناء، إلا أننا نجد أنفسنا في غنى عن ذكرها بأجمعها، ونكتفي بما تقدم؛ إذ يمكننا أن نصل إلى النتيجة المطلوبة من خلالها.
إن أغلب الروايات المتقدمة تشكو من ضعف السند، ولم يسلم منها إلا الحديث السادس (رواية أبي الصباح)، فإنها صحيحة من الناحية السندية، ويمكن الاعتماد والاستناد إليها.
إشكال آخر علی الروايات
وعلى فرض صحة وتمامية هذه الروايات من ناحية السند والدلالة، فإنها في غالبها تعرضت للنقد والإشكال. إذ ذهب البعض إلى دلالتها على حرمة التغني، دون السماع، كالرواية السابقة على وجه الخصوص؛ إذ يبدو ـ بحسب الظاهر ـ أن النهي عن التقرب من الغناء والشطرنج والنرد هي من قبيل النهي في قوله تعالى: ﴿لا تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾. وعليه يكون النهي فيها نهياً عن الفعل والعمل، دون السماع، إلا إذا ادُّعي وجود ملازمة بين الأمرين، غير أنهم لا يرتضون هذا النوع من الملازمات.
وفي المجموع فإنّ التواتر الإجمالي والمعنوي في هذه الروايات يمنح المحقق والباحث في موضوع الغناء يقيناً بأن الإسلام ينكر الغناء ويمنعه، وأن المعصومين^ قد نهوا عنه، وإنْ لم يبيّن مفهوم مصداق الغناء في أية واحدة من هذه الآيات والروايات بشكل واضح. وإن أهم شيء في بحث الغناء هو التعرُّف على مصداق الغناء المحرم والممنوع في لسان الروايات. وإن كل الإبهام والغموض إنما نشأ في الحقيقة من هذه الناحية.
نقد كلام المحقق الأردبيلي
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد([98]): «لم أرَ رواية صريحة تدل على حرمة الغناء». فإن كان مراده من ذلك أنه ليست هناك رواية تحدِّد موضوع ومصداق الغناء بشكل صريح كان كلامه صحيحاً؛ وأما إذا كان مراده أنه لم ترِدْ حرمة الغناء في أية رواية صحيحة ومعتبرة، حتى ولو على نحو الإجمال، فلا يمكن قبول كلامه؛ وذلك لكونه منقوضاً برواية أبي الصباح. وقد ادّعى صاحب الجواهر([99])، وصاحب الإيضاح([100])، تواتر الروايات الدلة على حرمة الغناء.
إن ما تصوره البعض، من أن الآيات المعتمدة في مسألة الغناء قد فسّرت في بعض الروايات بغير الغناء، وعليه فإن ذلك يؤدي إلى حصول التعارض بين طائفتين من الروايات، الأمر الذي يحول دون الاستدلال والتمسك بها، تصور خاطئ؛ وذلك لأن عنوان (قول الزور) و(لهو الحديث) و(اللغو) عنوان عام، وليس هناك مانع أن تدل رواية على بعض المصاديق بينما تحمل رواية أخرى على مجموعة أخرى من المصاديق.
وكما ذكرنا سابقاً فإن أصل حرمة الغناء مستفاد إجمالاً من هذه الروايات. ولكن ما هو الغناء المحرم؟ وهل الغناء من مقولة الكلام أم من مقولة الكيف العارضة على الصوت؟ وهل يخص التغني أم أنه يشمل الاستماع إلى الغناء أيضاً؟ وهل موضوع الحرام في الغناء هو مجرد الصوت أم أنه مقرون بشيء آخر يجعل منه لهواً أو كلاماً باطلاً؟ إنها أسئلة وأمور يجب بحثها والإجابة عنها.
أدلة القائلين بحلية الغناء في نفسه
وقد تمسك الذاهبون من الفقهاء إلى حلية الغناء ذاتاً وفي نفسه بروايات، منها:
1ـ في قرب الإسناد روى علي بن جعفر، عن أخيه، قال: «سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال×: لا بأس به ما لم يُعْصَ به»([101]).
2ـ روى الأعمش عن الإمام الصادق× أنه عدّ من جملة الذنوب الكبيرة «الملاهي التي تصدّ عن ذكر الله، كالغناء، وضرب الأوتار»([102]).
وفي هذه الرواية عُلِّقت حرمة الملاهي على الوصف، الذي هو عبارة عن الصد والمنع عن ذكر الله. وقد ثبت في محله أنّ الحكم إذا عُلِّق على الوصف كان ذلك مشعراً بعلّية الوصف لذلك الحكم. وعليه فإن الغناء حرام لأنه ينسي الإنسان ويلهيه عن ذكر الله، فإذا لم يُنْسِ الإنسان ويلهِه عن ذكر الله لم يكن محرَّماً.
3ـ سأل رجلٌ الإمام علي بن الحسين زين العابدين× عن شراء جارية لها صوت؟ فقال×: «ما عليك لو اشتريتها فذكَّرتك الجنة»([103]).
وقد أورد الشيخ الصدوق هذه الرواية، ولما كان من القائلين بحرمة الغناء الذاتية فقد عمد إلى توجيهها، دون أن يقدم سنداً أو دليلاً على هذا التوجيه، وصرف هذه الرواية عن ظاهرها.
4ـ الروايات التي تدل بقول مطلق على جواز شراء الجارية المغنية، فمنها: قال الدينوري: قلتُ لأبي الحسن×: «جعلت فداك، فأشتري المغنية أو الجارية تحسن أن تغني أريد بها الرزق لا سوى ذلك؟ قال×: اشترِ، وبِعْ»([104]). إلى غير ذلك من الأحاديث.
وهذه الرواية تشمل بمقتضى إطلاقها ما لو كان مقدار من الثمن في قبال غناء الجارية. وعليه فمع العلم بأن زيادة قيمتها إذا كانت من أجل حسن صوتها كان ذلك دليلاً على إباحة الغناء وحليته في نفسه، ما لم يقترن بالأمور المحرّمة. وتحمل الروايات الواردة في المنع من بيعهنّ وشرائهن على هذه الغاية.
5ـ الكثير من الروايات الواردة في كتاب «دعائم الاسلام»([105])، والتي نحجم عن ذكرها في هذه المقالة؛ فراراً من محذور الإطالة.
6ـ الروايات التي تجيز الغناء في الأعراس، والتي سنأتي على ذكرها في البحوث القادمة تحت عنوان (مستثنيات الغناء المحرم). وليس هذا الاستثناء من جهة اشتماله على اللهو واللغو وقول الزور، وإنما لاستناده إلى أمر معقول، وهو الفرح والسرور. وعليه فإن الغناء في نفسه ليس محرماً، إلا إذا كان مقروناً باللهو والفساد. وإن هذه الطائفة من الأخبار تعارض الطائفة الاخرى من الأخبار، التي تمسك بها القائلون بحرمة الغناء في نفسه وذاته.
آراء العلماء في الروايات والأخبار
قال العاملي صاحب مفتاح الكرامة: أحصيت الأخبار المتعارضة فوجدت أن مستند القول بإباحة الغناء في نفسه اثنا عشر حديثاً، وأن مستند القول بحرمة الغناء في نفسه خمسة وعشرون حديثاً.
وذهب ابن الجوزي، صاحب كتاب تلبيس إبليس، إلى أن الأخبار المتعارضة في هذا الباب في المصادر الحديثية عند أهل السنة أكثر من الروايات التي عدها صاحب مفتاح الكرامة من المصادر الشيعية. وعلى أية حال فقد قال الشهيد الثاني في المسالك حول اختلاف الأخبار: هناك روايات صحيحة في كلتا الطائفتين المتعارضتين، ولابد من الجمع بينهما.
وقد نقل الشيخ يوسف البحراني، صاحب كتاب الحدائق الناضرة، كلتا الطائفتين من الأخبار بالتفصيل، وأخذ بالأخبار الدالة على حرمة الغناء في نفسه، وأجاب عن الأخبار الدالة على إباحته.
كما ذكر ابن الجوزي من علماء أهل السنة في كتاب «تلبيس إبليس» كلتا الطائفتين من الأخبار أيضاً، وذهب إلى القول بحرمة الغناء في نفسه.
أسباب ترجيح أخبار المنع من الغناء على أخبار جوازه، ونقدها
لقد تمسكوا لترجيح أخبار المنع من الغناء على أخبار الجواز بأمور، منها:
1ـ معارضة الروايات الدالة على إباحة الغناء في نفسه مع روايات تدل بظاهرها على الحرمة، وقد تمسك بها القائلون بحرمة الغناء.
وهذا الوجه قابل للنقد، ولا يمكن جعله دليلاً على ترجيح أخبار المنع على أخبار الجواز؛ أولاً: لأن أكثر الروايات المانعة من الغناء ناظرة إلى الغناء الذي كان شائعاً في العهدين الأموي والعباسي، الذي كان مصحوباً بمجالس الفحش والخمور ورقص النساء؛ لأن الألف واللام في كلمة (الغناء) الواردة في هذه الروايات هي للعهد، أي الغناء المتعارف والمعهود عند أهل المعاصي والذنوب، والذين يقيمون (الليالي الحمراء). وعليه لا يمكن اعتبار هذه الروايات دليلاً على حرمة الموسيقى ذات المحتوى النافع والمضامين الأخلاقية، بعيداً عن ارتكاب المعاصي والذنوب. وهذا ما يذهب إليه كلٌّ من: الشيخ النراقي، والكاشاني، والمحقق السبزواري، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
وثانياً: بغض النظر عمّا تقدم يجب تقييد أخبار المنع بالأخبار المقيدة والمشروطة بما إذا كان الغناء مصحوباً باللهو والفجور، دون غيره؛ وذلك لأن مقتضى بعض الروايات أن الموسيقى الغنائية ما لم تكن من اللهو فلا بأس بها. وإن ترجيح الطائفة الأولى على الطائفة الثانية ـ كما تقدم أن ذكرنا في الروايات المتعارضة في البحوث الأصولية ـ إنما يتم إذا لم يكن بالإمكان الجمع بينهما بالجمع الموضوعي للإطلاق، وتقييد العام بالخاص، والمجمل بالمبين. وبعبارة أخرى: الجمع الدلالي العرفي (حمل الظاهر على النص)، وكذلك الجمع الحكمي (الفصل بين الأخبار المتعارضة من خلال الدليل). ولكن في ما نحن فيه يمكن الجمع الموضوعي؛ لأن الروايات الدالة على حرمة الغناء في نفسه إما عامة، أو مطلقة، وإن الروايات الدالة على إباحة وحلية الغناء في نفسه إما خاصة أو مقيدة. ومن الواضح أنه لا تعارض بين العام والخاص، والمطلق والمقيد؛ وذلك لأن الخاص يشكل قرينة على عدم إرادة العموم من اللفظ العام، وعدم إرادة الإطلاق من اللفظ المطلق. ومع افتراض عدم تمامية هذا الجمع أمكن الجمع بينهما من خلال الجمع الدلالي؛ لأن الروايات التي تنهى عن الموسيقى الغنائية بالنهي العام لها ظهور في الحرمة، في حين أن الروايات الدالة على الجواز إذا لم تكن مصحوبة بالمعاصي هي نصّ في الجواز، وبذلك نرفع اليد عن ظهور الطائفة الأولى، وتحمل؛ بقرينة الطائفة الثانية، على الكراهة. وهذان الجمعان بين الروايات موضع تأييد جميع الأصوليين والمحققين في أبواب الفقه.
2ـ إن الروايات الدالة على منع الغناء أكثر من الروايات الدالة على الجواز والترخيص.
وهذا الدليل أيضاً لا يوجب ترجيح أخبار المنع على أخبار الترخيص؛ وذلك:
أولاً: إن عدد روايات الجواز والترخيص ليست قليلة.
وثانياً: إن هذا النوع من الترجيح مخالف للقواعد الأصولية؛ إذ لم يذهب أيٌّ من الفقهاء إلى اعتبار كثرة إحدى الطائفتين من مرجِّحات تقديمها على الطائفة الأخرى.
3ـ إن القول بإباحة الموسيقى الغنائية إذا لم تكن مصحوبة باللهو مخالفٌ لكتاب الله.
وهذا الدليل قابلٌ للنقد أيضاً؛ إذ ليس هناك في القرآن أي تصريح بذلك، سوى الآيات المشتملة على اللهو واللغو وقول الزور، وهي لا تكفي للحكم بالحرمة.
4ـ موافقة الروايات الدالة على الجواز وإباحة الغناء في نفسه لأبناء العامة.
وهذا الدليل قابل للنقد أيضاً؛ وذلك:
أولاً: إن المشهور بين أهل السنة هو حرمة الغناء، فقد حكم جميع الحنابلة والأحناف والمالكيّة بحرمته.
وثانياً: إن الحمل على التقية إنما يكون عند عدم إمكان الجمع بين الروايات. وأما إذا أمكن الجمع بينها فلن يكون هناك مبرِّرٌ لحمل الروايات الدالة على جواز وحلية الغناء في نفسه على التقية. وحيث يمكن في ما نحن فيه الجمع بين الروايات بالجمع الموضوعي والدلالي لا يكون هناك معنى للحمل على التقية.
5ـ بلوغ الروايات الدالة على حرمة الغناء حدّ التواتر، دون الروايات المعارضة.
وهذا الدليل غير تامّ أيضاً؛ وذلك لتضعيف أكثر هذه الروايات. بل ادّعى بعض العلماء، من أمثال: المحقق الأردبيلي، أنه لا يوجد فيها رواية صحيحة. هذا بالإضافة إلى أن الروايات الدالة على حلية الغناء في نفسه ليست بالقليلة.
خلاصة القول
يمكن القول أساساً بعدم وجود تعارض بين هذه الروايات المذكورة؛ لأن كل واحدة من هاتين الطائفتين ناظرة إلى مورد خاص؛ فالطائفة الأولى ناظرة إلى الموسيقى الغنائية المصحوبة بالمعاصي والمحرمات، في حين أن الطائفة الثانية ناظرة إلى الموارد التي لا تكون فيها الموسيقى مقرونة بأمثال هذه الأمور. إذاً لا يوجد تعارض في البين.
نقد نظرية الشيخ الأنصاري
لقد أوضحت نظرية الشيخ الأنصاري في معرض بيان حكم الموسيقى الغنائية من وجه نظر علماء المذاهب الإسلامية. وقد كان رأي الشيخ أن الغناء في نفسه ليس حراماً، ولكن حيث إنه لا ينفك عن اللهو فإنه يحرم من هذه الناحية. إلا أن هذا الرأي الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري موضع إشكال عندنا؛ لأن عدم انفكاك اللهو عن الغناء أمر ليس له موضع إلا في تصوّر الشيخ، فهو وإن كان فقيهاً لا يشقّ له غبار في فهم واستنباط المسائل الشرعية طبقاً للكتاب والسنة، ولكن هل يمكن لنا قول الشيء ذاته في حقه في شأن فهم المسائل العرفية والموضوعات البعيدة عن دائرة خبرة من كان على شاكلته؟ وعليه فإننا لا نرتضي ما قاله الشيخ من عدم انفكاك اللهو عن الغناء؛ وذلك:
أولاً: لا يوجد هناك مستند لكلامه. ولا يؤيِّد أهل الخبرة صحته، بل إنهم يذهبون إلى العكس من ذلك تماماً.
وثانياً: إن المصادر وأسس المعارف الإسلامية من الكتاب والسنة، التي سيأتي بيانها في البحوث القادمة([106])، تدل على ضرورة التفريق في الحكم بين الغناء اللهوي وغيره، بأن يحكم على الأول بالحرمة، وعلى الثاني بالحلية والإباحة.
وثالثاً: إن استثاء بعض أنواع الغناء من الحرمة، من قبيل: الغناء في الأعراس، وحداء الإبل، دليلٌ على أن الغناء على قسمين: لهوي؛ وغير لهوي. وإن هذا الاستثناء في حقيقته يحكي عن أن الحكم متعلق ببعض أنواع المستثنى منه، وليس جميع الأنواع.
ورابعاً: إن الأحاديث التي سيأتي بيانها في البحوث القادمة تدل على جواز التغني في قراءة القرآن، وقد عبرّ عن هذا الجواز أحياناً بتجويد الصوت، وأحياناً بترجيعه، وأحياناً بالتغني بالقرآن الكريم.
طرق تحديد الغناء المحرم
علينا قبل بيان رأينا في حكم الموسيقى الغنائية أن نبين مسألتين:
الأولى: يجب تحديد مفهوم الغناء ومصداقه من الطرق الممكنة؛ إذ ما لم يتّم تحديد مفهومه ومصداقه لن يتمكن الفقيه من بيان الحكم الشرعي بصراحة؛ لأن بيان الأحكام منوط بالتعرف على الموضوعات مفهومياً ومصداقياً. وربما كان أهم تعقيد وعقبة في معرفة حكم الغناء بشكل دقيق هو تحديد مفهومه ومصداقه.
الثانية: إذا خفي معنى ومفهوم لفظ من الألفاظ وجب قبل كل شيء تحديده من خلال الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله‘، فإن لم يتضح معناه من هذا الطريق وجب المصير إلى زمن نشوء ذلك اللفظ، والعرف الذي كان سائداً آنذاك، فإذا لم يتضح المعنى من هذا الطريق أيضاً وجب الرجوع إلى المعاجم اللغوية. ونحن لا نرى لفظ الغناء استثناءً من هذه القاعدة، إلا أن أكثر العلماء المسلمين لم يراعوا هذه القاعدة في لفظ الغناء؛ إذ عمدوا إلى تحديد معنى ومفهوم الغناء المحرم من خلال الرجوع إلى اللغة، قبل الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، والعرف العام. وقاموا في هذا السياق بالبحث والتحقيق اللغوي بشأن مفهوم الغناء.
إلا أننا نرى عدم تمامية جميع التعريفات التي قدمها علماء اللغة للغناء؛ لأنها لم تحل المشكلة من الناحية المفهومية، بل زاد بعض تلك التعريفات من غموضها، ولم يكن أيٌّ منها فنياً أو دقيقاً، ولا يعّد بياناً منطقياً ومفيداً؛ إذ لا يمكن الوصول من مجموعها إلى معرفة جامعة ومانعة لمفهومها، في حين أن المعرِّف (بالكسر) ينبغي أولاً: أن يكون أجلى من المعرَّف (بالفتح). وثانياً: أن يكون جامعاً للأفراد، ومانعاً من دخول الأغيار. ولا شيء من تلك التعريفات حاوياً لهذه الخصائص.
كما أننا نذهب إلى عدم تمامية العرف في تحديد معنى الغناء، إذ لا نحصل من خلاله على تعريف جامع ومانع أيضاً. ولذلك لا بد لنا في تحديد معنى الغناء ومفهومه من سلوك طرق أخرى. وإن أهم مشكلة في تحديد حكم الغناء تكمن في تحديد مفهومه ومصداقه. وإن أهل اللغة وعلماء الاصطلاح لم يقدِّموا مفهوماً واحداً وجامعاً للغناء في كتبهم. ولإثبات هذا المدّعى من المناسب أن نستعرض كلماتهم في شأن مفهوم ولفظ الغناء.
1ـ تعريفات اللغويين
1ـ الغناء: الصوت. وهو التعريف الذي ذكره أحمد الفيومي في كتابه «المصباح المنير»([107]). وكما ترون فان هذا التعريف قد أثار تساؤلات أخرى، في حين أن تعريف اللفظ يراد منه إيضاح مفهوم ذلك اللفظ، وليس زيادته غموضاً. فهل مراد الفيومي من الصوت كل ما يخرج من الفم من الأصوات؟ فعندها يكون الكلام والتثاؤب حراماً أيضاً؛ لانطباق التعريف عليه. وهذا ما لا يمكن قبوله بحال. أو أن مراده من الصوت هو ما كان غناءً، وعندها فإن هذا التعريف يستلزم الدور الصريح؛ إذ لم يستفد في تعريف اللفظ المبهم من مفردة واضحة وبينة، فلا ينفع هذا التعريف إلا من كان يتصور أن الغناء من أنواع المعادن أو الجمادات، فنوضح له أن الغناء إنما هو من مقولة الأصوات.
وعلى أية حال فإنه لا يمكن أن يكون هذا التعريف تعريفاً فنياً ودقيقاً ومنطقياً ومبيناً وجامعاً ومانعاً.
ولكن من المستبعد أن يكون مراد أحمد الفيومي مطلق الصوت الخارج من الحلق، والشامل لجميع كلام الإنسان، بل يحتمل أن يكون مراده الصوت الحسن، وهو ما يدل عليه مفهوم الصوت، أو أن مراده هو الصوت المطرب الذي يستحوذ على مداركه ومشاعره.
2ـ الغناء من الصوت. وهو التعريف المذكور في كتاب مقايس اللغة([108]).
3ـ رفع الصوت.
4ـ مدّ الصوت. وهو الذي ذكره الشيخ الأنصاري، ناسباً إياه إلى بعض كبار أهل اللغة.
5ـ الغناء: الصوت المطرب. وقد نسب هذا التعريف إلى ابن إدريس في السرائر، وفخر المحققين في الإيضاح.
6ـ حسن الصوت. وهو مختار المحقق السبزواري في كفاية الأحكام. ويستفاد هذا التعريف من فحوى كلام العارف الكبير الفيض الكاشاني صاحب كتاب الوافي.
7ـ الغناء من الصوت ما مدّ وحسن ورجع. وهو تعريف العلامة الفيروزآبادي في كتاب القاموس([109]).
8ـ تحسين الصوت وترقيقه. وقد نقل هذا التعريف ابن الأثير في كتاب النهاية([110]) عن محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي.
9ـ الغناء: تحسين الصوت والترُّنم به. وهو التعريف المنسوب إلى الحنابلة (أتباع أحمد بن حنبل الشيباني).
10ـ الغناء: مدّ الصوت وموالاته. وهو التعريف الذي ذكره ابن منظور المصري في «لسان العرب»، وابن الأثير في «النهاية»([111]).
11ـ الغناء: ترديد الصوت بالألحان. وقد ذكر هذا التعريف عبد الرحمن الجزيري في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»([112]).
12ـ مدّ الصوت بالحركات وتحسينه، والترنُّم بالكلمات، موزونة كانت أم غير موزونة، وسواء أكان مصحوباً بالآلات أم بدونها. وقد نقل هذا التعريف عن كتاب «المعجم الوسيط».
13ـ رفع الصوت وموالاته. وقد ذكر هذا التعريف ابن الأثير في النهاية.
14ـ الغناء بكسر الغين من السماع. وهو تعريف الجوهري في «صحاح اللغة»([113]). وقال: المسمعة: المغنية([114]).
نقد التعريفات اللغوية
إن هذه التعريفات المختلفة، المنقولة عن علماء اللغة والفقهاء، بالالتفات إلى اختلافها الكبير، وما يكتنفها من الإبهام، وما يلاحظ فيها من الغموض، لا يمكنها تحديد موضوع الحكم الشرعي. فإن كانت هذه التعريفات في مقام بيان المعنى العرفي واللغوي فمن الواضح أن العرف العام لا يطلق الغناء على رفع كل صوت، كما لا يطلقه على كل صوت حسن، أو مدّه، أو ترقيقه، أو موالاته، بل قد يراه قبيحاً ومستهجناً في الكثير من الموارد. إذا كانت التعريفات المتقدمة في مقام بيان ماهية الغناء وتمييزه عن سائر الماهيات الأخرى، مثل: النور، والجسم، وما إلى ذلك، تبقى هذه التعريفات غير منطقية، ولا دقيقة، ولا علمية، ولا فنية، ولن تعدو كونها مجرد شرح للاسم واللفظ لا أكثر؛ إذ لابد في التعريف المنطقي من مراعاة شرط الجامعية والمانعية، وكون المعرِّف أجلى من المعرَّف، وهذا ما لم يتوفر في التعريفات المتقدمة؛ إذ لا شيء من هذه التعريفات قادر على تحديد موضوع ومفهوم الغناء المحرَّم، ولا يمكن الحكم بالحرمة على أساس أيّ واحد منها؛ إذ لم يتم المنع والنهي عن قراءة القرآن الكريم والمراثي بصوت حسن أبداً، بل ورد الأمر بذلك، وقد كان الإمام زين العابدين× يتلو القرآن بصوت جميل يشدّ إليه كل من يسمعه. إذاً ليس كل صوت حسن وجميل مصداقاً للغناء المحرم في الفقه الإسلامي.
تعاريف أخرى للغناء
وإذا تجاوزنا التعاريف المتقدمة نصل إلى طائفة أخرى من التعاريف هي أكثر تفصيلاً إلى حدٍّ ما مما تقدم، مثل:
15ـ الصوت المشتمل على الترجيع. والترجيع يعني ترديد وتحريك الصوت داخل الحلق ورفعه وخفضه. وقد نقل هذا التعريف عن العلامة الحلّي في «القواعد».
وقال ابن الأثير في النهاية: الترجيع يعني تقريب وتوالي عدد حركات الأصوات. وقد جاء في توصيف قراءة رسول الله في يوم فتح مكة أنه كان يرجِّع في قراءته. ومن هذا القبيل الترجيع في الأذان.
وقال ابن المغفَّل في وصف صوت النبي الأكرم‘: إن النبي كان يمدّ صوته عند القراءة ويرفعه ويخفضه، وقد لوحظت منه تلك الحالة في ذلك اليوم فقط؛ وذلك لأنه كان راكباً على ناقة وهي تسير به، فكانت حركة الناقة هي السبب في ترجيع صوته الشريف.
قال ابن منظور المصري في «لسان العرب»: ترجيع الصوت: ترديده في الحلق، كقراءة أصحاب الألحان. والترجيع: ترديد القراءة، ومنه: ترجيع الأذان. ورجّع الرجل وترجّع: ردّد صوته في قراءة أو أذان أو غناء أو زمَر أو غير ذلك مما يترنم به.
وجاء في كتاب «المعجم الوسيط»: الترجيع عبارة عن ترديد الصوت في الحلق ومدّه بالحركات.
16ـ الغناء من الصوت ما طرب به. وهو التعريف الذي ذكره العلامة الفيروزآبادي في كتاب «قاموس اللغة»([115]). وكذلك في كتاب المنجد.
وقال العلامة إسماعيل الجوهري في كتاب «صحاح اللغة»، في ذيل مادة (طرب): التطريب مدّ الصوت وتجويده.
وقال أحمد الفيومي «في المصباح المنير»: طرب في صوته: مدّه ورجعه. كما جاء في معنى الطرب الأقوال التالية:
أـ مجرد السرور والفرح.
ب ـ ظهور حالة في النفس يفقد الإنسان معها اعتداله وتوازنه الطبيعي.
ج ـ ظهور حالة في الإنسان تثير فيه الحماسة والشهوة.
دـ ظهور حالة في الإنسان تفقده توازنه، سواء كان ذلك بسبب حزن أو فرح. وهو قول ابن قتيبة والزمخشري في أساس البلاغة. وقريب من هذا المضمون ما أورده العلامة إسماعيل الجوهري في صحاح اللغة. وربما أراد الشاعر هذا المعنى عندما رأى خفة من شيخ، فأنشد قائلاً:
أطراباً وأنت قنسري | والدهر بالإنسان دواري([116]) |
فلو كان المراد من الطرب مجرد الحزن أو الفرح الاعتيادي لما كان هناك موضع للدهشة من الحالة التي اعترت الشيخ. وفي هذا المعنى قال النابغة الجعدي:
وأراني طرباً في إثرهم | طرب الواله أو كالمختبل |
وقال ابن منظور المصري في «لسان العرب»: التطريب في الصوت: مدّه وتحسينه. والمراد من الطرب خفة تعتري عند شدّة الفرح أو الحزن والهمّ. وأكثر ما يُستعمل في الفرح. وهذه الحالة تسمّى عندهم بـ (الوجد) أو (الشوق الكامل)، كما قال بذلك ابن سيده.
وقال إسماعيل بن حماد الجوهري في كتاب «صحاح اللغة»: الطرب حالة روحية تعتري الإنسان لحزن أو فرح. والتطريب في الصوت يعني مدّة بالحركات وتحسينه.
وقال ابن فارس: طرّب في صوته: مدّه وحسّنه.
وقال ابن منظور المصري: التطريب في الصوت: مدّه وتحسينه. وطرّب في قراءته: مدّ ورجّع.
وقال الجوهري في «صحاح اللغة»، في ذيل مادة (طرب)، والزمخشري في أساس البلاغة([117])، والفيروزآبادي في القاموس المحيط([118])، والطريحي في مجمع البحرين([119])، وأحمد الفيومي في المصباح المنير([120])، في تعريف الطرب، أنه خفة تعتري الإنسان لشدة حزن أو سرور.
ويجدر بنا هنا بيان هذه المسألة، وهي أن المراد من الطرب هو الطرب بالقوة، وليس الطرب بالفعل؛ وذلك لأنه لو كان المراد هو الطرب بالفعل فما أكثر الأصوات التي لا تطرب لسبب من الأسباب، مع أنها في بعض الموارد تحتوي على لهو وألفاظ باطلة هي قطعاً من المصاديق البارزة للغناء. كما قال الشيخ الأنصاري: المراد من الطرب هو الذي يكون مطرباً لشخص القارئ أو السامع على نحو الإجمال، أو أن تكون له شأنية الإطراب عند عدم المانع([121]).
وقال المحقق الكركي: كلما مدّ في الصوت ورجع على نحو مطرب يكون من غناء اللهو([122]).
وباختصار فإن الذي يستفاد من كلمات العلماء هو أن الطرب حالة وخفة خاصّة تعتري الإنسان عند سماع قطعة غناء لهوي أو موسيقى، يفقد معها توازنه واعتداله، ويغدو مثل السكارى، الذين لا يعون شخصيتهم الواقعية.
17ـ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب([123]). وهو المعنى المنقول عن العلامة فخر الدين الطريحي في «مجمع البحرين»، والأستاذ أحمد الفيومي في «المصباح المنير»، والمحقق الكركي في «جامع القاصد»، والنراقي في مستند الشيعة([124]). وهو المشهور بين الفقهاء.
18ـ الغناء: مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب([125]). وهو الذي ذكره المحقق الحلي، والعلامة في التحرير([126]) والإرشاد([127])، والشهيد الأول في الدروس([128]).
19ـ مد الصوت أو رفعه، المشتمل على الترجيع أو بدونه.
20ـ الصوت المشتمل على الترجيع والإطراب أو أحدهما.
21ـ مدّ الصوت أو رفعه، المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يسمى في العرف غناء وإن لم يطرب. وهو الذي اختاره الشهيد الثاني(966هـ)([129])، والطباطبائي في رياض المسائل([130])، وكذلك الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة([131]).
22ـ ترجيع الصوت ومده. وهو الذي ذكره العلامة الحلّي في كتاب «القواعد»([132]).
نقد المجموعة الثانية من التعريفات
أضيف إلى هذه الطائفة من التعريفات التعبير بـ (الترجيع والإطراب). ولكنها حتى في هذه الحالة ليست بياناً لمعنى الغناء؛ إذ ربما لا يشتمل الكلام على ترجيع وإطراب ومع ذلك فإنه يحتوي على آثار سلبية، ويُعدّ من الناحيه الشرعية غناءً محرماً، من قبيل: ألحان وأنغام أهل الذنوب والمعاصي. ولربما كان الكلام يحتوي على ترجيع وإطراب ومع ذلك لا يكون من الغناء الحرام، من قبيل: قراءة التواشيح والمدائح في ولادة المعصومين^.
وسيبدو النقص ظاهراً على هذه التعريفات عند مقارنتها بالتعريفات الأخرى التي سنأتي على ذكرها.
وقد جاء في الأحاديث الواردة في مصادرنا الحديثية الأمر بالترجيع، الذي هو ترديد الصوت في الحلق.
فقد روي عن الإمام محمد الباقر× أنه قال: «رجّع بالقرآن صوتك، فإن الله يحبّ الصوت الحسن»([133]). وإنه× إنما أمر بالترجيع لأنه يساعد على تحسين الصوت. وفي ما يتعلق بالصوت المطرب يجب القول: إنه لم يستعمل في معنى الطرب أبداً. وعلينا أن ندرك أن كل صوت يعدّ وفقاً لأسس الفقه الاجتهادي من الغناء، سواء أكان لفرح أو حزن، فهو حرام. فمن غير الصحيح حصر الغناء المحرّم بالفرح، والقول بأنّ الاستماع إلى كلّ صوت يفرح المرء لسماعه فهو محرم. ومن هنا فقد ذكرت مراراً وتكراراً، سواء في الحوارات أو المقالات، أنه ليس في سماع الأنغام، من قبيل: الموسيقى الإيرانية الأصيلة، التي تمنح الإنسان شعوراً بالسعادة والسرور والفرح، وتساعده على إزاحة التعب، ليحلّ محله هدوء النفس، إشكال.
قال الإمام الخميني& في تعريف الغناء في كتاب «المكاسب المحرمة»: «إنه صوت الإنسان الذي له رقة وحسن ذاتي ولو في الجملة، وله شأنية إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس»([134]).
وكذلك قال في تحرير الوسيلة: «وليس هو مجرد تحسين الصوت، بل مدّه وترجيعه بكيفية خاصة مطربة، تناسب مجالس اللهو ومحافل الطرب وآلات اللهو والملاهي»([135]). وكذلك أجاب في عام 1367هـ. ش عن استفتاء تقدم به أحد المسؤولين في وزارة الإرشاد قائلاً: «الموسيقى المطربة حرام، والأصوات المشكوك فيها، والتي لم يتم التأكد من إطرابها، فلا مانع منها». وهو وإن ذكر كلمة (المطرب)، ولكنني أعتقد أنه& يذهب إلى أن مجرد فرح الإنسان لسماع الموسيقى لا يقوم دليلاً على الحرمة، وعليه فإني أستبعد أن يكون سماحته يذهب إلى حرمة سماع الصوت الجميل.
وفي أجوبته التي أجاب بها عن أسئلة أخرى في ذات التاريخ حدد سماحته ملاك تحديد الصوت المطرب بالعرف. ومع الالتفات إلى تغير حكم العرف تبعاً لتغير الزمان والمكان فإن حكم الموسيقى في الإباحة والحرمة يتغير تبعاً لذلك. ولذلك قلنا مراراً: إن الحكم إذا قام على العرف تغيَّر بتغيُّره. فمثلاً: في عصر النبي كان سكوت الفتاة عند الخطوبة في الزواج دليلاً على رضاها، وأما في العصر الراهن فإن سكوت الفتاة لا يعبّر عن رضاها بالضرورة، بل لا بد من سماع تصريحها بالقبول، فلربما كان سكوتها دليلاً على عدم رضاها.
مجموعة أخرى من تعريفات الغناء، ونقدها
23ـ الصوت الموزون المفهم المحرِّك للقلب. وقد اختار هذا التعريف الفقيه الشافعي الكبير أبو حامد محمد الغزالي([136]).
ولكنه عرضة للنقد أيضاً؛ فإنّ الكثير من الأشعار ذات مضمون صحيح ونافع، وتحرّك القلب، ومع ذلك لا تندرج تحت مفهوم الغناء.
24ـ الإنشاد. وهو الذي نسبه الملا أحمد النراقي في كتاب «المستند» أيضاً.
والإشكال على هذين التعريفين واضح، ولا حاجة إلى بيانه.
26ـ التصنيف. وقد نسب هذا المعنى إلى الفرس. وهي الطريقة التي يتغنّى به الأرذال والأوباش.
وهو قابل للنقد؛ إذ لم يرِدْ الغناء مرادفاً ومساوياً للتصنيف إلا في بعض الموارد، حيث ينطبق عنوان الغناء على التصنيف. كما عبر بذلك عن الغناء، وهو عبارة عن الشعر الذي يقرأ مصحوباً بالآلات الموسيقية([137]).
27ـ الدوبيتي. وهو الذي نقله الفقيه الكبير الملا أحمد النراقي عن الجوهري في «صحاح اللغة»، ونسبه إلى نوع من الموسيقى الإيرانية.
والإشكال على هذا المعنى واضح أيضاً؛ وذلك:
أولاً: لأن الدوبيتي ليس مساوياً للغناء؛ لإمكان أن يكون الصوت غناءً ولا يكون من الدوبيتي في شيء.
وثانياً: إن المراد من الدوبيتي وزن مستحدث، ابتكره الشاعر الإيراني الشهير جعفر بن محمد السمرقندي(330هـ)، وهو المعروف بـ (الرودكي)، ثم طوَّره أصحاب الفن من بعده، فبلغوا بأنواعه إلى ما ينيف على الأربعة آلاف نوع. كما سار عليه شعراء العرب. وعليه فإن الدوبيتي واحد من الأوزان الشعرية التي قد تكون مطابقة للطريقة الغنائية، وقد لا تطابقها.
28ـ الإيقاع.
وهذا التعريف ليس كافياً أيضاً؛ إذ قد جاء الإيقاع بمعنى التربيع أو الدوبيتي، ولذلك قد لا يكون هناك اختلاف بين الإيقاع والدوبيتي. وعلى أية حال فقد استعمل الإيقاع بمعنى النغم، وقسم من التصنيف أيضاً([138]).
29ـ الصوت الذي يتم ترجيعه في الحلق، كما هو سائد عند أهل المعاصي والمفاسد. وقد اختاره الشيخ الأنصاري، وارتضاه في هذا العصر أولئك الذين ذهبوا إلى اعتبار الغناء من مقولة الكيفيات العارضة.
30ـ الصوت الذي يتم ترجيعه في الحلق ويعدّ لهواً، والذي يشتمل على ألفاظ وتعابير هي من قول الزور والكلام الباطل.
وهذا أيضاً محل قبول الذين اعتبروا الغناء من مقولة الكلام.
31ـ الجمال الذاتي للصوت.
هذا التعريف غير تام أيضاً؛ وذلك لأن جمال الصوت هو من الهبات الإلهية، مثل: جمال الوجه والأخلاق التي ورد الثناء عليها في كلمات جميع العلماء، سواء في ذلك المتدينين وغيرهم.
32ـ الصوت الذي يؤدي إلى تغير حال الإنسان السوي، ويخرجه من الحالة الطبيعية.
وهذا التعريف قابل للنقد والإشكال أيضاً؛ وذلك لعدم شموله لألحان أهل المعاصي والذنوب، مع أنها من أقسام الغناء قطعاً.
33ـ الغناء المقرون بالحرام، كأن يقرأ في مجالس الخمور والرقص. وقد اختار هذا التعريف كلٌّ من: الفيض الكاشاني؛ والمحقق السبزواري.
إلى غير ذلك من المعاني الأخرى التي ذكرها أرباب اللغة للغناء، ولا نجد داعياً إلى ذكرها، فقد اتَّضح أنّ أيّاً من هذه التعريفات لا يستطيع تحديد مفهوم الغناء المحرّم، ولا يمكن الحكم بالحرمة على أساس أيّ واحد منها. وعليه لا بد لتحديد مفهوم ومعنى الغناء وتحصيل معرفة جامعة ومانعة في ما يتعلق بالغناء من اللجوء إلى طريقة أخرى.
2ـ معرفة الغناء من خلال العرف
من المناسب أن نتحدث عن العرف الذي يعتبر واحداً من طرق التعرف إلى الغناء. وعليه لابد لنا من تقديم مقدمة في شأن مفهوم الغناء.
لا شك في أن العرف يعدّ مرجعاً في تحديد بعض الأحكام. فقد ذهب فقهاء وعلماء أهل السنة، وخاصة أبو حنيفة، إلى اعتبار العرف بوصفه واحداً من مصادر العلوم الإسلامية. وقد أقام عليه الكثير من الأحكام الاجتهادية. وقد تم التمسك لحجية واعتبار ذلك بوجوه، منها:
أولاً: الآيات، وهي:
1ـ قوله تعالى: ﴿وَعلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 223)، بمعنى أن العرف هو المتَّبع في ذلك.
وبهذا المعنى فإن الاستدلال بهذه الآية والآيات التالية على اعتبار العرف لا يكون تاماً.
2ـ قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19).
3ـ قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 236).
4ـ قوله تعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ (الأعراف: 199).
وثانياً: الروايات، ومنها:
1ـ روى المؤرخون أن زوجة أبي سفيان شكت إلى الرسول زوجها، وقالت: إنه لا ينفق عليها وعلى أولادها، فقال لها النبي الأكرم‘: «خذي من ماله سرّاً ما يكفيك وبنيك»([139]).
2ـ وفي رواية عن البراء بن عازب بشأن ناقة له أتلفت زرع آخرين، وجاء فيها: «دخلت حائطاً فأفسدته، فسأل النبيُّ‘ عن العادة السائدة في حفظ البساتين، فقيل له: إن على أهل البساتين حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل، فقضى رسول الله‘ بذلك؛ اعتباراً بالعرف والعادة»([140]).
3ـ وفي رواية: «إن النبي ردّ فاطمة بنت جحش في بيان مدّة الحيض إلى عادة نسائها»([141]).
4ـ قال شريح القاضي في عصر عمر بن الخطاب للنسّاجين: إن عرفكم معتبر عندكم([142]).
5ـ قال الشهيد الأول في كتاب القواعد: «نفقة الزوجة والأقارب تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه؛ وذلك لعدم توقُّف معرفة شيء منها على وقوعه من جهة الشرع، وأما ما ورد في بعض الروايات مما تشعر بتحديد مقدارها فناظر إلى المقدار المتعارف في زمن صدورها. وعليه لا تصلح بياناً عاماً على ذلك. وكذلك تقديم قول الزوج على قول الزوجة في الرواية في الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق فالمتبع هو عادة الزمن عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول، وأما في زماننا، حيث لا يوجد مثل هذا العرف، فيجب تقديم قول الزوج»([143]).
وعلى أية حال فقد تم تحديد بعض الشروط لاعتبار حجية العرف. ومن ذلك:
1ـ استمراره من عهد رسول الله‘ إلى زماننا.
2ـ شيوع ذلك العرف في جميع البلاد.
3ـ عدم مخالفته للنص.
وعليه إذا لم يتمّ إحراز استمراره أو شيوعه في جميع البلاد، أو كان مخالفاً للنصّ، لن يكون ذلك العرف معتبراً.
قال ابن قيم الجوزية: إذا جاءك رجل من غير بلدك واستفتاك فلا تفته استناداً إلى عرف بلدك، بل أجبه استناداً إلى عرف بلده([144]). كما يجب عدم الإفتاء طبقاً لما هو وارد في الكتب، فحيثما أفتى على طبقها مع وجود الاختلاف في العرف والأحوال والعادات والشروط الزمانية والاجتماعية كان ضالاًّ ومضلاًّ.
إن العرف والعادة قائمة في حياة الناس، وهي موجودة بين الشعوب، حيث تسود ظاهرة تقليد الآباء والأجداد في تكوين الإنسان، وتتغير طبقاً لتغير الظروف الزمانية والمكانية.
ولكن من وجهة نظر الشيعة لا يعدّ العرف دليلاً مستقلاًّ في قبال الكتاب والسنة والإجماع والعقل، بل إن اعتباره منوط بكاشفيته عن إمضاء الشارع، وفي هذه الصورة فإنه يندرج تحت إطار السنة([145]).
ومهما كان فإن العرف والعادة وإن لم يكونا من وجهة نظرنا مصدراً وأساساً للمعرفة في قبال الكتاب والسنة، ولكنهما يوظفان في الموارد التالية:
أـ الكشف عن مراد المتكلم.
ب ـ الكشف عن الحكم الشرعي.
ج ـ تحديد أو تنقيح الصغريات وصولاً إلى موضوعات الأحكام الكلية.
في تحديد موضوعات الأحكام، من قبيل: تحديد الفقير الذي لا يملك قوت سنته، الذي جعله الشارع موضوعاً لجواز دفع الزكاة إليه، وفي ما يتعلق بتحديد مؤونة السنة، لابد من الرجوع إلى العرف. وفي هذا السياق لابد من الالتفات إلى اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
تنقيح محل البحث
نعود إلى أصل موضوع البحث، وهو تحديد الغناء من خلال العرف. فقد حاول بعض العلماء تحديد الغناء من طريق العرف. ومن بين هؤلاء: صاحب كتاب جواهر الكلام، حيث قال في كتابه القيم: «الغناء كيفية خاصة موكولة إلى العرف»([146])؛ والمحقق الأردبيلي، حيث قال في كتابه: «إن ما يراه العرف غناءً فهو حرام، وإن لم يكن مطرباً، وكان خالياً من الترجيع([147]). وكذلك الشهيد الثاني في المسالك([148])، والشيخ يوسف البحراني في كتاب الحدائق الناضرة([149])، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع([150]).
ولكن علينا أن ندرك أنه لا يمكننا من خلال العُرف أن نحدِّد معنى محدداً وأمراً ثابتاً؛ لأن الغناء مطروح في العرف الخاص، وهو يتغيّر على الدوام في ظل تغيّر الظروف الزمانية والمكانية والثقافية والاجتماعية وأوضاع الناس وأحوالهم. وقد ذهب صاحب الجواهر إلى أن العرف مختلف ومشتبه، وعليه لا يمكن اعتباره ملاكاً في تحديد الحرمة. ومن هنا فإننا نذهب إلى عدم إمكان تحديد الغناء المحرم من هذا الطريق، كما هو الحال بالنسبة إلى اللغة؛ إذ كما تلاحظون فإن هناك اختلافاً حتى في عرف البلد الواحد، فما هو الظنّ في عرف البلدان؟!
وخلاصة القول: إن موضوع الغناء، كما ذكر المحقِّقون والباحثون، غير ثابت من وجهة نظر العرف، وهناك اختلاف كبير في تحديده. ومن هنا لم يستطيعوا التوصل من خلاله إلى تعريف جامع ومانع. وعليه لابد لنا في تحديد معنى الغناء من الرجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله‘.
3ـ معنی الغناء في الكتاب والسنة
يمكننا تحديد مفهوم الموسيقى الغنائية من خلال المباني التي يقوم عليها الفقه الاجتهادي، وهي الكتاب والسنة؛ إذ طبق الإمام الصادق× (اللغو) في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 2؛ لقمان: 3؛ الحج: 30)، و(اللهو) في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾، و(قول الزور) في قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، على الغناء([151]).
كلمة (اللغو)
يطلق اللغو على العمل أو الكلام العبثي الذي لا ينطوي على أي نفع أو فائدة. وهو ما ذكره ابن منظور المصري في تفسير مفردة اللغو([152]). كما أطلقت أيضاً على الباطل، والقبيح، والكذب.
وفي كتب علماء اللغة ذكرت لكلمة اللغو المعاني التالية:
أـ الباطل. وهو الذي ذهب إليه ابن منظور المصري في «لسان العرب»([153])، والعلامة مرتضى الزبيدي في كتاب «تاج العروس»، مادة لغو. وفسّروا بها قول الله تعالى، إذ يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ (الفرقان: 72).
ب ـ الأمر الذي لا نفع فيه.
ج ـ ترك الأمر، كما في قولك: (لغيت هذا).
دـ التكلم دون تفكير أو تدبّر.
هـ ـ إبطال شيء، كما في قولك: (لغيت ذاك الشيء).
كلمة (اللهو)
قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: «اللهو: ما يشغلك عمّا يهمّك، ولهو الحديث: الحديث الذي يلهي عن الحق بنفسه، كالحكايات الخرافية، والقصص الداعية إلى الفساد والفجور، أو بما يقارنه، كالتغني بالشعر، أو بالملاهي والمزامير والمعازف، فكلّ ذلك يشمله لهو الحديث»([154]).
وقال الطبرسي: أكثر أهل التفسير على أنّ المراد من لهو الحديث هنا هو الغناء([155]).
وقال ابن منظور المصري: اللهو: ما لهوت به، ولعبت به، وشغلك، من هوى وطرب ونحوهما. قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ (الأنبياء: 3)، أي متشاغلة عما يدعَوْن إليه من ذكر الله، ومشغولة بالأمور الباطلة، كما جاء في سورة المنافقون: ﴿لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ﴾ (المنافقون: 9).
ومن المناسب هنا أن ننقل رواية رواها الإمام الصادق× عن النبي الأكرم‘ في شأن اللهو، أنه قال: «كل لهو المؤمن باطل، إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، ورميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنهنّ حقّ»([156]).
ولكن لا شك في عدم اقتصار اللهو الحق على هذه الأمور الثلاثة، بل إن كل ما فيه غرض عقلائي فهو حقّ، ولا يعدّ من اللهو الحرام.
كلمة (الزور)
قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: «أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، فيشمل الكذب وكل لهو باطل»([157]).
وقال العلامة الطبرسي في مجمع البيان: «روى أصحابنا أن الغناء وكل كلام لغو داخل في قول الزور»([158]). وهناك من ذهب إلى أنها تعني الكذب. وهناك من ذهب إلى أنها تعني بيوت العبادة عند اليهود والنصارى. وقال مجاهد: الزور الغناء، وهو المروي عن الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق’. وإن أصل الزور من التزوير، وإظهار الباطل في صورة الحق([159]).
وعليه وفقاً لمباني الفقه الاجتهادي فإن الموسيقى الغنائية الشرعية، التي اعتبرت موضوعاً للحرمة، هي التي فسرت على أساس المعنى الشرعي، الذي هو مزيج من الغناء الذي يكون لهواً ولغواً (إذا كان من مقولة الكيف المسموع)، والكلمات الباطلة (إذا كان من مقولة الكلام)، لا على أساس المعنى اللغوي، الذي هو بسيط، ويعني الصوت الحسن. وعليه لا حاجة لنا في تعيين معنى الغناء إلى الرجوع إلى كتب علماء اللغة والعرف؛ لإمكان تحديد معنى الموسيقى الغنائية بشكل واضح من خلال الرجوع إلى مباني الفقه الاجتهادي. ومن هنا فإننا لا نرى تمامية رأي العلماء والفقهاء الذين حاولوا تحديد معنى الغناء من خلال الرجوع إلى علماء اللغة أو العرف، ونجده قابلاً للنقد.
تبعات عدم التفكيك بين المعنى اللغوي والشرعي
إنّ عدم الدقة الكافية من قبل المحققين والمنظرين في الفصل بين المعنى اللغوي والشرعي للغناء وبعض الأمور الأخرى أدى إلى ظهور الاختلاف في كلماتهم حول تعريف هذه المفردة، وتحوّل مفهوم بهذه البساطة والوضوح إلى أكثر الموضوعات الاستنباطية معضلة وإشكالاً. حتى أصبح مثالاً يضرب في مورد إجمال مفاهيم الألفاظ. فكلما تعّسر الوصول إلى مفهوم كلمة من الكلمات قيل: إنّ مفهوم هذه الكلمة مجمل شأنه شأن مفهوم كلمة الغناء. ولكن بعد التفكيك بين المفهوم اللغوي للغناء ومفهومه الشرعي، الذي هو موضوع الحرمة، ترتفع الإشكالات والإبهامات التي اكتنفت تعريف اللغويين والفقهاء لهذه المفردة بشكل كامل.
نتيجة الأقوال
إن الذي يمكن لنا أن نستنتجه مما تقدم هو أن المفهوم الاصطلاحي للغناء في الشريعة الإسلامية، الذي هو موضوع الحرمة، يختلف عن مفهومه اللغوي والعرفي. وكما تقدم أن ذكرنا فإن علماء اللغة يعتبرون مطلق الصوت المرتفع، والصوت الجميل، ومدّ الصوت، وترجيعه، وترديده، وموالاته، من الغناء. ولكن وفقاً للأدلة التي قدمناها فإن كلمة الغناء التي هي موضوع الحرمة قد استعملت في المفهوم الأخصّ. فمن جهة مدحت الروايات الصوت الحسن والقراءة الجيدة، بل وكذلك الترجيع أيضاً، ومن جهة أخرى حرمت الغناء، وهذا دليل على أن الغناء المحرم شرعاً هو أخص من الغناء بمفهومه اللغوي.
الغناء المحرم والغناء المباح
علاوة على ذلك فإن روايات حرمة الغناء، والاستدلال بالآيات على حرمة قول الزور واللهو واللغو، تثبت صراحة أن ملاك حرمة الغناء من وجهة نظر الإسلام هو انطباق أحد هذه العناوين المذكورة عليه. وعليه إذا أخذنا الغناء بمعناه اللغوي سيكون الغناء على قسمين:
1ـ الغناء المحرم من الناحية الشرعية، وهو المشتمل على اللهو واللغو والكلمات الباطلة وقول الزور.
2ـ الغناء غير المحرم من الناحية الشرعية، وهو مطلق الغناء. وربما كان أولئك الذين ذهبوا إلى عدم حرمة الغناء في نفسه، بل وجدوا أن حرمته معلولة للعوارض الخارجية، قد أخذوا معناه اللغوي بنظر الاعتبار.
وأما إذا أخذنا الغناء بمعناه الفقهي والروائي والشرعي فعندها لا يكون للغناء نوعان وصورتان، بل سيكون الغناء حراماً بقول مطلق، وربما كان الذين ذهبوا إلى حرمة الغناء في نفسه قد أخذوا المعنى الاصطلاحي والروائي بنظر الاعتبار.
عدم وجود تعارض بين المعنى اللغوي والشرعي
ليس هناك تعارض بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للغناء؛ وذلك لأن المعنى اللغوي عام، وهو كل غناء، في حين أن المعنى الاصطلاحي نوع خاص من الغناء، وهو الغناء المشتمل على اللهو أو الكلمات الباطلة. وعليه فإن الشرع لم يؤسِّس في الحقيقة والواقع لمعنىً جديد للغناء، بل حدّد الشارع موضوع الحرام بعد إضافة قيد إلى المفهوم والمعنى اللغوي للغناء.
إذا لم يتمّ التمييز بين المعنى اللغوي والعرفي للغناء ومفهومه الاصطلاحي الشرعي بشكل صحيح فإن الخلط بينهما يمكنه أن يخلق إبهامات وإشكالات كثيرة. كما أن الكثير من الإبهامات والتخبطات التي وقع فيها المتشرعون والمتفقهون من غير المتتبّعين في هذا المجال ناشئ عن هذه الحقيقة. ولو أنهم نظروا في مجموع روايات الصوت والقراءة والغناء، وقارنوا بين موارد المدح والذم، والتفتوا إلى أن روايات المعصومين^ قد صدرت في عصر كان فيه الغناء من الناحية العملية في دوائر السلاطين والمترفين وأهل الفسوق، وكان مصحوباً باللهو واللغو والمعاصي، وقد كان بيان الأئمة^ في حرمة الغناء منصبّاً على المصاديق الخارجية للغناء، دون إرادة معناه اللغوي، كما هو واضح من الاستدلالات الكامنة في نفس الروايات، لارتفع الإبهام، ولما اضطروا إلى استثناء قراءة القرآن أو التواشيح والمدائح والمراثي والمارشات العسكرية والأشعار الحماسية والحربية في عصر النبي الأكرم‘ نفسه، أو الأشعار المفيدة والنافعة، أو غناء النساء في الأعراس، وإخراج ذلك عن مفهوم (الغناء) بأمور متكلفة، ولعلموا أن جميع هذه الموارد؛ حيث لم تكن من اللغو واللهو وقول الزور في شيء، فإنها خارجة عن موضوع الغناء، لا أنها من الغناء الشرعي، وأنها استثناء من موارد الحرمة المذكورة.
عدم تمامية كلام السبزواري والأردبيلي
إن ما قاله المحقق الأردبيلي في كتابه القيّم «شرح الإرشاد» من «أن الرثاء على الإمام الحسين× مستثنى من الغناء المحرم»، وكذلك ما قاله المحقق السبزواري صاحب كتاب «كفاية الأحكام»، من أن قراءة القرآن بصوت حسن مستثنى من حرمة الغناء، غير مقبول؛ لأن خروجهما عن موضوع الغناء إنما هو من باب التخصُّص، دون التخصيص، فإنهما ليسا من الغناء موضوعاً، ولا يقومان على اللهو واللغو. ولذلك ليست هناك حاجة إلى الاستناد إلى مثل هذه الأدلة لإثبات جواز الغناء والصوت الحسن في المراثي أو قراءة القرآن الكريم.
بيان أدلة جواز الغناء في المراثي
1ـ عدم وجود دليل على حرمة الغناء والصوت الحسن.
2ـ مساعدة الغناء في البكاء على الإمام الحسين×. ولا يخفى ما في ذلك من الثواب.
3ـ شيوع هذا النوع من المراثي الغنائية منذ عصر المشايخ إلى يومنا هذا، مع عدم ظهور أي إنكار من قبل الفقهاء على هذا النوع من الغناء.
4ـ عموم أدلة المراثي.
5ـ عدم وجود علة تحريم الغناء، التي هي الطرب والسرور، في المراثي؛ وذلك لأن المراثي تدعو إلى الحزن والغم والأسى، دون الفرح والطرب.
إنّ هذا الأدلة التي ساقها القائلون بها لإثبات جواز الغناء في المراثي قابلة للنقد والإشكال. هذا إذا لم نقل: إن المراثي خارجة عن الغناء موضوعاً، لا أن حكم الغناء فيها خارج عن حكم أصل الغناء.
نقد الأدلة المتقدمة
1ـ نقد الدليل الأول
إن إطلاق أدلة حرمة الغناء يشمل المراثي أيضاً. وعلى فرض انصرافها عنها فهو انصراف بدوي. وقد ذكرنا في أبحاثنا الأصولية مراراً أن الانصرافات البدوية غير معتبرة.
2ـ نقد الدليل الثاني
إن الغناء لا يمكنه أن يكون عاملاً مساعداً في البكاء على الإمام الحسين× أبداً؛ وذلك لعدم إمكان الجمع بين الغناء الذي يؤدي إلى الطرب والفرح وبين المراثي التي تؤدي إلى الحزن والبكاء والأسى.
3ـ نقد الدليل الثالث
أولاً: مع وجود الدليل القطعي على حرمة الغناء لا يصلح أن يكون شيوع الغناء في المراثي، وكونه متعارفاً، دليلاً على جوازه.
وثانياً: هناك تشكيك في تحقق الغناء في الكثير من المراثي. ولذلك لم يحكم بحرمتها، لا أن موضوع الحكم بحرمة الغناء محرزٌ ومع ذلك لم يحكم بحرمته.
4ـ نقد الدليل الرابع
ليس هناك تعارض بين أدلة حرمة الغناء وأدلة استحباب المراثي؛ وذلك لحكومة الأدلة الأولى على الأدلة الثانية. وبذلك تضيق دائرة الأدلة الثانية، وتختص بما إذا لم تكن على نحو الغناء. وقد ذكرنا في البحوث الأصولية بالتفصيل أن الدليل الحاكم ينظر على الدوام إلى موضوع حكم الدليل المحكوم، ولكنه لا يلغيه، وإنما يعمل على تضييقه أحياناً، وتوسيعه في أحيان أخرى. والحاصل هنا هو التضييق. إلا أن التفصيل في هذا الموضوع، وشرح الفرق بين الدليل الحاكم والوارد، والتخصيص والتخصُّص، خارج عن نطاق هذه المقالة([160]).
5ـ نقد الدليل الخامس
إنّ عدم وجود سبب تحريم الغناء، الذي هو السرور والطرب، في المراثي يؤيد رأينا، دون الرأي المخالف؛ وذلك لأنه يدلّ على خروج الغناء موضوعاً عن المراثي، وليس من ناحية الحكم فقط.
وعليه لا يمكننا أن نقبل استثناء الغناء في المراثي وقراءة القرآن من حكم الحرمة انطلاقاً من الأدلة المتقدمة، وإنما يمكننا أن نقول بجواز ذلك إذا أخرجناه عن الغناء موضوعاً، وإلا لن يكون بإمكاننا استثناؤه من حكم حرمة الغناء. وإن الذي استثني من الغناء هو الأعراس، والحداء؛ وذلك لعدم اعتباره موضوعاً للغناء المحرم. وسيأتي شرح ذلك.
التحديد الدقيق لمعنى الغناء المحرم
إن الغناء المحرم في مصطلح الفقه الإسلامي وعناصر استنباطه (من الآيات والروايات) هو الغناء الذي يشتمل على واحد من الشروط التالية:
1ـ الغناء المشتمل على اللهو أو اللغو أو قول الزور والباطل الذي يتناسب ومجالس اللهو والطرب، أي أن لا يكون نفس الغناء مشتملاً على قيمة صحيحة وآثار نافعة أو مفيدة، سواء أكان ذلك الغناء مصحوباً بالقول والكلام أم لم يكن كذلك، من قبيل: كلمات القرآن والحديث.
2ـ الغناء والصوت المشتمل على ألفاظ ومطالب ومفاهيم تدل على اللهو واللغو والباطل، سواء أكان نفس الغناء مشابهاً لغناء أهل الفسوق أم لا، أي من الممكن أن يكون الإنشاد مثيراً للشهوة، ومشتملاً على ألفاظ ومفاهيم ساقطة، ولكن يؤدّى بصوت اعتيادي ومتوسط، بل قد يكون خشناً وفظّاً، ومع ذلك يكون محرَّماً؛ لاحتوائه على المفاهيم الممنوعة والمحتويات المحظورة.
3ـ الغناء المشتمل على ألحان أهل الفسوق والعصيان.
إن ألحان أهل الفسوق وإن كانت في العادة من اللهو واللغو والباطل، إلا أن لهذا التعبير خصوصية، وهي أن نفس اللحن، حتى إذا لم يكن مشتملاً على لهو، يكون حراماً؛ لمجرد انتسابه لأهل الفسوق؛ وذلك لأن هذا الموضوع نظير للتشبُّه بالكفار.
روى الإمام الصادق× عن رسول الله‘ أنه قال: «اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسوق وأهل الكبائر»([161]). وإنّ لحن أهل الفسوق والكبائر هو الذي قال عنه الإمام الصادق×: «والله ما سمعته أذناي قط».
4ـ الصوت والغناء الذي يبعد الإنسان عن ذكر الله عزوجل. روى الأعمش عن الإمام×، في بيان الذنوب الكبيرة، أنه قال: «والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله، كالغناء، وضرب الأوتار»([162]). وقد علقت هذه الرواية حرمة (الملاهي) على وصف (الصد عن ذكر الله)، وقد ثبت في محله أنه كلما علق حكم على وصفكان ذلك مشعراً بعلّية الوصف لذلك الحكم، أي إن علة حرمة الملاهي بشكل عام، وكذلك الغناء، إنما هو صدّه عن ذكر الله. وعليه كلما كان الغناء وسائر الألحان وأنواع الموسيقى غير مانع أو صادّ عن ذكر الله لم يكن محرَّماً، ولم يكن داخلاً في دائرة الغناء، فضلاً عما إذا كان ذلك الغناء داعياً إلى ذكر الله تعالى.
ذهب بعض العلماء والعرفاء من أهل السنة والشيعة إلى تعليل إباحتهم الصوت الجميل بكونه يذكر الإنسان بالله سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا مراراً أن ليس هناك أي إشكال شرعي في الغناء القائم على الأغراض والغايات الصحيحة، والمشتمل على أساليب متقنة ومختلفة عن ألحان أهل الفسوق واللهو والباطل، ومتضمِّناً للمفاهيم الأخلاقية والعرفانية والمذهبية والدينية والاجتماعية والثقافية والتربوية السامية، وتعد روح المجتمع للتخلق بالأخلاق الحميدة، وإحلال المفاهيم الدينية والعقائدية في القلوب، وتعزيز المقاومة والمواجهة وصد العدوان عن الأوطان والأديان، وتحول دون انجراف الأجيال إلى الأغاني الفاسدة والمفسدة، والألحان المثيرة للشهوة، بل إن هذا النوع من الغناء ممدوح وجيد.
الموسيقى والأغنية التقليدية
كما أن بعض أنواع الموسيقى، من قبيل: الموسيقى التقليدية، التي تمنح الإنسان شعوراً بالسعادة، وتساعد على تهدئة أعصابه، ولا يستمع إليها إلا لهذه الغاية، دون قصد إلى الطرب واللهو، ليس فيها أي إشكال من وجهة نظرنا. وهذا ما ذهب إليه السيد الخوئي أيضاً([163]).
ولو أشكل بأن الروايات قد استعملت لفظ الغناء في معناه العرفي واللغوي، وإن العرف واللغة تطلق الغناء على كل صوت ونغم ولحن مطرب ومهيّج ويروق النفس، وقد ذهبت الروايات إلى اعتبار هذا النوع من الأصوات من (قول الزور) بشكل مطلق، سواء أكانت ذات مضامين ومفاهيم سامية أم لم تكن كذلك.
فإننا نقول في الجواب: لقد مدح الصوت الحسن في المصادر والنصوص الإسلامية، بينما وقعت الأصوات والألحان المقرونة باللهو والكلمات الباطلة مورداً للذم والاستنكار.
ويجدر بنا أن نذكر هنا ـ من باب المثال ـ بعض الأحاديث الواردة في مدح الصوت الحسن:
روى الإمام الصادق× عن النبي الأكرم‘ أنه قال: «إنّ من أجمل الجمال الشعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن»([164]).
وروى الإمام الصادق× عن النبي الأكرم‘ أنه قال: «لم تعط أمتي أقل من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ»([165]).
ورأى الإمام الصادق× أبا هارون المكفوف يوماً، وكان مغنياً، فسأله: هل عندك جديد من الشعر؟ فقال: نعم، فقال×: أنشدني، فأنشده بشكل عادي، فقال الإمام×: اقرأ كما تقرأ للناس، فقرأ كما يقرأ للناس، فاستحسنه الإمام([166]).
وأساساً لم يحرِّم الإسلام الشعر الذي يروق الإنسان ويطرب له.
وقد ورد في الأحاديث التي تقدم ذكرها أن الله يحب الصوت الحسن، وأن الصوت الحسن من نعم الله سبحانه.
وقد جاء في المصادر الروائية في الإسلام، الشيعية منها والسنية: «ما بعث الله نبياً إلا أنه كان حسن الصوت»([167]). وقد ذكر المؤرخون أن معجزة النبي داوود× كانت صوته العذب والجميل.
تأثير صوت النبي داوود×
ذكر أبو الفتح أحمد بن محمد الأبشيهي المصري([168]) «أنّ داوود عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوماً في الأسبوع، وتجتمع عليه الخلق، فيقرأ الزبور بتلك القراءة الرخيمة. وكان له جاريتان موصوفتان بالقوة والشدّة، فكانتا تضبطان جسده ضبطاً شديداً؛ خيفة أن تنخلع أوصاله ممّا كان ينتحب، وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته».
قال ابن ابي الحديد في وصف جمال صوت النبي داوود×: «إن داوود أُعطي من طيب النعم ولذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه وهو في محرابه، والوحش تسمعه، فتدخل بين الناس ولا تنفر منهم؛ لما قد استغرقها من طيب صوته»([169]).
وقد وصف الإمام علي×داوود× بأنه قارئ أهل الجنة([170]).
لا يوجد أي إشكال في سماع الصوت الحسن، بل هو أمر مرغوب ومستحسن. ولكن ينبغي الالتفات إلى أنه يجب أن لا يؤدي هذا الكلام إلى جرأة بعض الجهلة، فيتصورون عدم وجود إشكال في الألحان ذات اللهو واللغو والمفسدة، أو جواز تلك الموسيقى التي يعرفها الفاسدون والفسقة. وكذلك بعض الأغاني التي تبث عبر الإذاعات الأجنبية التي لا تهدف لغير اللهو والعبث. بل إن هذه الأغاني هي المصداق البارز للغناء المحرم في المصادر الإسلامية، وهو الذي يُراد منه الفساد وإثارة الشهوة، وإهدار الوقت والطاقات، وحرف العواطف، وتدمير الأعصاب، وتخدير الأجيال، وخاصة الشباب المسلم.
هل الغناء من مقولة الكلام أم الكيف العارض على الصوت؟
هناك مَنْ قال بأن الغناء من مقولة الكلام؛ استناداً إلى الروايات التي فسّرت (قول الزور) و(لهو الحديث) بالغناء([171]).
أي إن السبب الذي يؤدي إلى حرمة الغناء هي كلمات اللهو واللغو والباطل الذي يشتمل عليها الغناء، وإلا فإن الغناء في حدّ ذاته لا يكون حراماً. وعليه يكون موضوع الحرام في المسألة مورد البحث مركَّباً من أمرين:
1ـ الغناء.
2ـ الكلمات والألفاظ المشتملة على اللغو والباطل.
ونتيجة هذا القول: إن المطالب النافعة والمفيدة والتربوية والبناءة إذا قرئت بطريقة جميلة ومنغمة لم تكن غناء محرّماً، بل إذا كانت مجرّد غناء، ولم يكن فيه لغو ولهو، لم يكن غناءً من الناحية الشرعية.
وهناك رواية أخرى في تأييد القول الذي يذهب إلى اعتبار الغناء من مقولة الكلام، وهي رواية حماد بن عيسى، التي جاء فيها: إن الإمام الصادق× قال: إن قول (أحسنت) لمن يغني هو عين الغناء([172]).
وطبقاً لهذا الحديث نجد الإمام الصادق× يطلق الغناء على الكلام الباطل الذي يُراد منه تأييد الحرام، حتى وان لم يؤدَّ بصورة غنائية.
ولتأييد هذه النظرية يستند إلى كلام الإمام علي بن الحسين زين العابدين× في مرسلة الفقيه، الذي أجاب به عن سؤال شخص سأله عن الجارية المغنية، حيث يقول: «لا بأس لو اشتريتها فذكرتك الجنة»([173]). ومن هنا يتضح أن الغناء المحرم هو خصوص الكلام المشتمل على اللهو والباطل.
وهناك من ذهب إلى اعتبار الغناء من مقوله الكيف والنغم العارض على الصوت، وترجيعه في الحلق بحيث يعد لهواً وباطلاً. وبناءً على هذه النظرية يكون موضوع الحرام مركباً من أمرين:
1ـ الغناء.
2ـ قراءته على نحو لهوي.
وقد تمسك هؤلاء بدليلين:
الأول: إن غناء اللغو واللهو، وإن لم يشتمل على المفاهيم الباطلة وألفاظ المعصية، هو من مصاديق قول الزور، ويكون مشمولاً لقوله تعالى: ﴿الذين لا يشهدون الزور﴾. لكن حتى على هذه النظرية لن يكون كل غناء وصوت محرم؛ لأن مستند القائلين بهذه النظرية هو الآية القائلة بأن (الزور) حرام، والزور هو موضوع الحكم بالحرمة، مع ضمها إلى الرواية التي تعتبر الغناء أحد مصاديق الزور. وعليه فإن شرط حرمة كل غناء هو تطبيق عنوان الزور واللهو عليه([174]). وكلما كان الغناء ذا قيمة بلحاظ نفس اللحن أو المحتوى والألفاظ والمفاهيم، وكان نافعاً للمجتمع، لم يصدق عليه عنوان الغناء، الذي هو موضوع الحرمة من الناحية الشرعية.
الثاني: عن ابن فضال، عن يونس بن يعقوب، عن عبد الأعلى قال: «سألت أبا عبد الله× عن الغناء؟ وقلتُ: إنهم يزعمون أن رسول الله‘ رخص في أن يقال: جئناكم جئناكم، حيونا حيونا نحييكم، فقال×: كذبوا»([175]). فإن تكذيب الإمام إذن رسول الله‘ لهم بترديد تلك العبارة لم يكن بسبب اشتمالها على اللهو والباطل؛ وذلك لعدم احتوائها على شيء من ذلك، وإنما سبب التكذيب يعود إلى اللحن الخاص الذي استعمل حين أداء تلك العبارة. إذاً لهذين الدليلين يعد الغناء من مقولة الصوت على نحو لهوي، وليس من مقوله الكلام.
وعلى أية حال ليس هناك من الناحية العلمية فرق بين هاتين النظريتين، فسواء أكان الغناء من مقولة الكيف العارض على الصوت أم من مقولة الكلام يعتبر الغناء المحرم من الناحية الشرعية هو ما ينطبق عليه عنوان اللهو واللغو والزور، فإذا لم ينطبق عليه ذلك لم يكن محرَّماً من الناحية الشرعية.
نظرية السيد الخوئي والإمام الخميني والشيخ الأنصاري
من المناسب هنا أن نتعرض إلى آراء بعض الفقهاء في هذا المجال:
رأي السيد الخوئي
قال السيد الخوئي&: إن تحقق وصدق الغناء في الخارج يتوقف على أمرين:
1ـ كونه مادة غنائية وكلاماً مشتملاً على اللهو والباطل.
2ـ اشتمال هيئة الصوت وصورته على الترجيع ومدّ الصوت.
فلو غاب أحد هذين الأمرين لم يتحقق الغناء. ومن هنا لا يصدق الغناء على تحسين الصوت وتجويده عند قراءة القرآن، وكذلك الصوت المتعارف بين أرباب المنابر، حيث جرت العادة بينهم على ذكر مطالبهم بلحن يرجِّعون فيه. وأضاف، في مقام استثناء المراثي: إنها خارجة عن تعريف الغناء موضوعاً لا حكماً، أي إنه مستثنى من باب التخصُّص، دون التخصيص؛ لأن مادة الغناء في المراثي ليست من اللهو والباطل([176]).
إلا أنّ هذا الرأي قابل للنقد والإشكال؛ وذلك لأنّ مادة الغناء ليس لها دخل في تحقق وصدق الغناء. فقد اتفق علماء اللغة على أن الغناء من مقولة الكيف العارض على الصوت، أعم من أن يكون مع الصوت المجرد أو أن يكون مصحوباً بصوت الآلات الموسيقية.
رأي الإمام الخميني
لا يرى الإمام الخميني& دخلاً لمادة الصوت في تحقق وصدق مفهوم الغناء. ولذك فإنه لا يرى فرقاً في تحقق الغناء بين أن يكون الكلام مشتملاً على باطل أو حق، أو أن يكون حكمة أو قرآناً أو رثاءً؛ وذلك لأنه لا يوجد للغناء في الشرع حقيقة شرعية حتى يكون تدخل المادة والكلام مفروضاً في مفهومه وتحققه. ثم أضاف قائلاً: إن ما يقال من أن الغناء من حيث المفهوم مختلف عن قول الزور، ولكنه داخل فيه تعبداً، كلام عجيب للغاية([177]).
رأي الشيخ الأنصاري
يتضح من صدر كلام الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب أنه يرى الكلام الباطل دخيلاً في تحقق ظاهر الغناء؛ إذ يقول في الكتاب المذكور: «فيختص الغناء المحرم بما كان مشتملاً على الكلام الباطل، فلا يدل على نفس الكيفية، وهو لم يكن في كلام الباطل»([178]). ويستفاد من هذا الكلام أن تحقق ظاهرة الغناء منوط بالكلام الذي يكون مشتملاً على الباطل، فإذا لم يكن الكلام مشتملاً على باطل، وكان مجرد تغنٍّ، لم يكن حراماً.
وأما ذيل كلامه فيستفاد منه أن الغناء من مقولة الكيف المسموع العارض على الصوت، وأن ليس هناك دخل للكلام في تحققه، إذ يقول: «وبالجملة فكل صوت يعدّ في نفسه، مع قطع النظر عن الكلام المتصوّت به، لهواً وباطلاً فهو حرام»([179]).
ويستفاد من كلامه هذا أن الكلام واللفظ ليس له دخل في تحقق مفهوم الغناء.
ج ـ حكم الآلات الموسيقية
ليس في صوت الآلات التي يستخدمها الفنانون لنظم الأناشيد المفيدة في البعد الأخلاقي والاجتماعي والعلمي والثقافي والديني المحلل إشكال أيضاً؛ إذ إن الأمر في هذه الصورة ـ كما يقول الإمام الراحل ـ أن المعنون يشترك مع الآلات في الحكم، فكلما كان تنظيم الآلات مستخدماً في الأناشيد النافعة والمباحة كانت حلالاً، وكلما استخدمت في اللهو، ولم تكن فيها أية فائدة، كانت محرمة.
وعلى أية حال فإن استخدام الآلات الموسيقية ليس حراماً في نفسه، وإنما يحرم إذا اقترن استخدامها بأحد عناوين اللهو أو اللغو أو الباطل.
إنّ هذا الحكم لايختص بآلات اللهو، بل يشمل حتى صوت الإنسان وغيره. وقد ذهب الأنصاري في «المكاسب المحرمة»([180]) إلى أن حرمة استخدام آلات الموسيقى من حيث كونها آلات لهو، لا من حيث إنها مجرد آلات. كما أنه وغيره من الفقهاء المتقدمين لم يفتحوا باباً خاصاً لها، بل بحثوها ضمن مبحث الغناء والملاهي، الأمر الذي يدل على عدم حرمة استعمالها في نفسها.
والمسألة الأخرى التي يجدر بحثها هنا هي أن الآلات الموسيقية في الجمهورية الإسلامية في إيران تعنون بعنوان الآلات المشتركة، فإن بيعها وشراءها ـ كسائر الآلات المشتركة ـ ليس فيه أي إشكال. وأما عدم جوازها من قبل الفقهاء المتقدمين فيعود سببه إلى أنّ هذه الآلات لم تكن تستخدم سابقاً إلا في أمور اللهو واللغو والمعاصي. ولم تكن فيها أية منفعة محلَّلة. وأما قد أخذت تستعمل حالياً في غير اللهو، وبدأت تشتمل على أناشيد ذات مضامين مفيدة وأخلاقية واجتماعية ودينية ومذهبية وما إلى ذلك، فيمكن القول بجوازها؛ وذلك لتغير الصفات والخصائص.
وإنما ذهب الشيخ الأنصاري إلى حرمة شرائها وبيعها لأنه عدها من أقسام ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلا الحرام، وفي زمنه لم تكن مورداً للاستعمال الحلال والمباح. وعندها لا نتردد نحن أيضاً في حرمته، وإنما الكلام في حكمها اليوم، حيث أصبحت لها منفعة محلَّلة، فإنها تعدّ من الآلات المشتركة، فلا إشكال في بيعها وشرائها. كما نشاهد اليوم في الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية استعمال الآلات الموسيقية في تنظيم الأناشيد النافعة والمناسبة.
لسنا نشكّ في أن الجهود المبذولة من قبل العاملين في الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية الإسلامية قد ساعدت في وضع أهدافها على المسار الصحيح. كما لا شك في أن ما قدمته حتى الآن كان مفيداً ونافعاً إلى حدٍّ ما، ويحظى بأهمية خاصة، أي إنها جامعة للقيم والنواحي الإيجابية، وطاردة لكل الأمور السلبية. ومن هنا فقد اتخذت الإذاعة والتلفزيون قالباً مناسباً ومطلوباً في جميع الأبعاد والأصعدة. ولو أن شخصاً قارن هذه المؤسسة الراهنة بما كانت عليه قبل الثورة سيتضح له أن التغيُّر الذي حصل من الناحية الكمية والكيفية يفوق حدّ التصوّر، وسيصدِّق ما قلناه من دون أدنى شك. وبالتالي فإن التغير والتحول الذي طرأ على الإذاعة والتلفزيون في البعد الكمي والكيفي كانت له نتائج جيدة وإيجابية. وهي عبارة عن:
1ـ تعزيز البرامج الدينية والمذهبية والعلمية والثقافية.
2ـ إحلال الثقافة الإسلامية الإيرانية في الكثير من الأعمال الفنية، بدلاً من الثقافات الأجنبية.
3ـ إعطاء المبدعين المخلصين والملتزمين أهميتهم وقيمتهم.
4ـ ظهور الطاقات المتخصصة والخلاقة بفعل التشجيعات والحوافز.
5ـ إعطاء الأهمية القصوى للكيفية.
6ـ تعزيز البرامج الفكاهية ذات البعد السياسي، والتسليات لليافعين والشباب والناشئين وغيرهم.
وعلى أية حال فإن هذا التحول الكبير والنافع في برامج الإذاعة والتلفزيون، في بعدَيْه الكمي والكيفي، على يد المسؤولين الذين يتمتعون ببعد النظر والعمق والذوق السليم والقريحة الممتازة قد تكامل بالتدريج، وعبر ثلاث مراحل، الأمر الذي يدل على درايتهم وتدبيرهم الصحيح. وإن تلك المراحل عبارة عن:
المرحلة الأولى: تقليص نقاط الضعف في برامج الإذاعة والتلفزيون، التي كانت موجودة في الفترة السابقة أيضاً.
المرحلة الثانية: تغليب الجوانب الإيجابية على الجوانب السلبية.
المرحلة الثالثة: إلغاء أكثر الجوانب السلبية.
وطبعاً بعد النجاح الذي تحقق في هذه المرحلة تكون الأرضية معدّة للدخول في المرحلة الرابعة، والتي هي عبارة عن إلغاء الجوانب السلبية بضربة واحدة، وبشكل نهائي وحاسم، وعرض جميع أنواع البرامج بشكل نموذجي، وعلى نحو يمثل الإطار الإسلامي المطلوب.
وإن وصيتي لتحسين برامج الإذاعة والتلفزيون بشكل أفضل هو أن تضاعف الجهود في عملية الإبداع، سواء في المحتوى أو في الأبعاد الكيفية والتطبيقية، والسعي إلى جعل البرامج في الظروف الراهنة أكثر هدفية ونموذجية مما هي عليه حالياً، وذلك بأن يتم الإعداد لمشاريع تعليمية وتربوية، وبرامج مفعمة بالمضامين، وعروض جذابة وممتعة، وأن يبتعدوا عن التكرار المملّ ويتجنبوا عرض النماذج البالية والفاسدة للمحتوى، والخالية من النفع والفائدة؛ بغية صيانة الشباب واليافعين، وحمايتهم من الانزلاق نحو الفنون المبتذلة والمفسدة. فلو فقدت الإذاعة والتلفزيون جاذبيتها، أو خلت من جاذبيتها أصلاً، فإن أفراد المجتمع، ولا سيما الشباب، سينحرفون تلقائياً نحو النماذج الضالّة والمدمّرة، كما هو حاصل في البلدان النامية. وعلى هذا الأساس فإن المسؤولية الملقاة على عاتق هؤلاء مسؤولية كبيرة، وعليهم أن ينجحوا في تحمّل أعبائها.
حكم الموارد المشكوك فيها
بغية إكمال هذا البحث علينا أن نشير إلى حكم الموارد المشكوك في أمرها. ففي بعض الموارد لا يستطيع الفرد تحديد ما إذا كان المقطع أو الإنشاد من الغناء أو ليس من الغناء بضرس قاطع، فما هو حكم الشرع في مثل هذه الموارد؟ وهل يمكن أداؤه وسماعه أم لا؟
في الموارد التي تكون الشبهة فيها موضوعية أو مصداقية، حيث لا يكون موضوع حرمة الغناء محرزاً، يكون ذلك من الناحية الشرعية، ومن وجهة نظر العلماء في كافة المذاهب الإسلامية، خالياً من الإشكال؛ وذلك لشمول قاعدة الحلية والبراءة له.
توضيح ذلك: كلما تعلق الحكم بالحرمة بموضوع، وتمّ التشكيك في تحقق ذلك الموضوع، فإن مثل هذا الشك في فرض المسألة يعود إلى رجوع الحكم إلى المكلَّف أم لا؟ وعليه فإن الشك يقع حينئذٍ في أصل تحقق التكليف. وقد اتفقت كلمة جميع الأصوليين على أن الشك إذا كان في أصل التكليف كان التكليف منفيّاً بواسطة أصل البراءة. وفي فرض المسألة حيث إن الغناء، الذي هو موضوع الحرمة، غير ثابت أو محرز فعندها نقول؛ اعتماداً على أصل البراءة: لا إشكال في سماعه. وأما في موارد الشبهة المفهومية فإن الحكم في مسألة الغناء كذلك؛ إذ قال العلماء الأصوليون: كلما كان لموضوع حكم الحرام مفهوم وقدر متيقن ثبت الحكم بالحرمة على القدر المتيقن، دون غيره. فيكون غير المتيقن والمشكوك محكوماً بالإباحة والحلية. والقدر المتيقَّن من الحرام في مورد الغناء الألحان المثيرة للشهوة، وذات المحتوى الباطل، وأما غير ذلك فهو مباح. وعليه ستكون جميع الموارد المشكوك والمشتبه بها محكومة بالإباحة والحلية.
إيضاح الشبهة المصداقية والمفهومية
من المناسب هنا أن نتناول الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية بالشرح والتوضيح، فنقول: إن الشبهة المصداقية والموضوعية تتحقق في مورد يكون فيه مفهوم الكلمة واضحاً، إلا أن أحد مصاديقها يكون مورداً للشك والشبهة، من قبيل: كلمة العالم، والفاضل، والمتقي، وما إلى ذلك، فإن هذه الكلمات والألفاظ واضحة من ناحية المفهوم، ولكن قد يشك في شخص أنه يحقِّق مصداق ذلك المفهوم أم لا؟ وكذلك الماء المطلق، الذي هو واضح من ناحية المفهوم، ولكن قد يشك في بعض أصناف الماء، كالماء المشوب بشيء من الطين، وكونه من مصاديق الماء المطلق أم لا؟ وكذلك الماء المضاف، فهو واضح من ناحية المفهوم، ولكن قد يشك أحياناً في بعض مصاديقه، وهل هو من مصاديق الماء المضاف أم لا؟ إن هذا الشك وهذه الشبهة تسمّى في مصطلح علماء الأصول بـ (الشبهة المصداقية). أما الشبهة المفهومية فتكون في كلمة غير واضحة المفهوم، من قبيل: كلمة المغرب، حيث إن مفهومها غير واضح، فهل المراد منها غروب الشمس واحتجابها عن الأنظار أم المراد منها زوال الحمرة المشرقية التي تظهر بعد اختفاء الشمس؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى كلمة الصعيد؛ إذ لا يعلم ما إذا كان المراد منها مطلق ظاهر الأرض أم التراب الخالص؟ وعلى أية حال ففيما يتعلق بالبحث الراهن، الذي هو الشك في تحقق موضوع الغناء المحرَّم، سواء أكانت الشبهة موضوعية ومصداقية أم مفهومية يحكم فيه على الغناء بالحلّية والإباحة.
الأغاني المستثناة من الحرمة
هناك من فقهاء الشيعة، الذين قالوا بتحريم الغناء في نفسه، مَنْ استثنى بعض الموارد، وعدّها جائزة، وهي:
1ـ الغناء في الأعراس. وقد استثناه العلامة في «تذكرة الفقهاء»([181])، و«القواعد»([182])، والمحقق في «المختصر النافع»([183])، والشيخ الطوسي في «النهاية»([184])، والشهيد الأول في «الدروس»([185])، والشهيد الثاني في «المسالك»([186])، والمقدس الأردبيلي في «مجمع الفائدة والبرهان»([187]). كما ذهب الشيخ الأنصاري([188])، والإمام الراحل، إلى حلية غناء المغنيات في الأعراس إذا لم يكن مصحوباً بحرام آخر([189]). وارتضى صاحب الجواهر استثناء الغناء في الأعراس، ولكنه رأى أن الأنسب أن يكون المغني امرأة، لا رجلاً([190]).
وذهب السيد الخوئي أيضاً إلى إباحة الغناء في الأعراس للنساء والرجال، شرط عدم اقترانه بحرام آخر([191]).
وقد ذهب الشيخ الطوسي في «النهاية»([192])، والعلامة الحلي في «تذكرة الفقهاء»([193]) و«قواعد الأحكام»([194])، والشهيد الأول في «الدروس»([195])، والشهيد الثاني في «مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام»([196])، إلى جواز الغناء غير المقرون بالحرام.
أما فقهاء أهل السنة فإنهم، علاوة على ما تقدم، ذهبوا إلى إباحة الموارد الأخرى، من قبيل: غناء الحجيج، والأناشيد الحماسية، والتغني بأشعار الزهاد، وقد أطلقوا على هذا النوع من الأغاني مصطلح الزهديات، وأناشيد الأعراب، حتى وإن كانت مصحوبة بالدفوف، واستثنوا جميع ذلك من الغناء المحرَّم([197]).
الروايات التي أباحت الغناء في الأعراس
هناك أحاديث رويت في استثناء الغناء في الأعراس. ومن ذلك:
1ـ عن الحميري، عن علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى بن جعفر× قال: سألته عن الغناء في عيد الفطر والأضحى وأيام الفرح والسرور؟ فقال: «لا بأس به ما لم يعص به»([198]).
وقد حملها صاحب الجواهر على التقية، أو أنها خاصة بالأعراس والأعياد المذكورة، أو قراءة الأشعار([199]). ولكن هذا الحمل لا يخلو من النقد والإشكال؛ وذلك:
أولاً: إن المذاهب الأخرى لا ترى حلية الغناء، باستثناء الشافعية.
وثانياً: إن الغناء المراد من الرواية ليس هو الغناء بمعناه الشرعي، الذي هو موضوع الحرام؛ لعدم قيامه على اللهو، وإنما هو قائم على السرور والفرح، ولا بأس به.
2ـ روى الراوندي في النوادر عن الإمام موسى بن جعفر×، عن آبائه، أن الأنصار قالوا لرسول الله‘: ماذا نقول في زفاف نسائنا؟ فقال‘: قولوا: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، لولا الذهبة الحمراء ما حلّت فتاتنا بواديكم»([200]).
وكانت صفية بنت عبد المطلب وبعض نساء بني هاشم وأزواج النبي قد غنَّين في عرس السيدة خديجة وفاطمة. ويجدر هنا أن نذكراً بعضاً من المقاطع التي تغنَّت بها السيدة صفية عند زفاف السيدة خديجة إلى بيت رسول الله‘:
جاء السرور مع الفرح أنوارنا قد أقبلت لو أن يوازن أحمد بخديجة نبت الكمال |
ومضى النحوس مع الترح والحال فيها قد نجح بالخلق كلهم رجح وبحر نايلها صفح([201]) |
كما ترنمت السيدة أم سلمة زوج النبي الأكرم‘ في عرس السيدة فاطمة الزهراء÷ بالأبيات التالية:
سرن بعون الله جاراتي واذكرن ما أنعم ربّ العلى فقد هدانا بعد كفر وسرن مع خير النساء في الورى يا بنت من فضله ذو العلى |
واشكرنه في كل حالات من كشف مكروه وآفات وقد أنعشنا ربّ السماوات تفدى بعمات وخالات بالوحي منه والرسالات([202]) |
كما قرأت بعض نساء النبي الأخريات أشعاراً في مجالس الأعراس.
وقد قرأت معاذة أم سعد بن معاذ أشعاراً في هذا المضمون([203]).
وقال النبي الأكرم‘ لأسماء، وكانت تغني في الأعراس: يجب أن يخلو شعركنّ من الباطل.
وعندما زفت السيدة فاطمة الزهراء÷ إلى بيت أمير المؤمنين× أمر النبي‘ بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار بمواكبة السيدة فاطمة، وأن يفرحن، ويرجزن، ويكبِّرْن، ويحمدن، ولا يقلن ما لا يرضي الله([204]).
إن السرور والفرح والإنشاد والأشعار في الأعراس سائد في جميع المجتمعات والأمم، ولكن يجب اجتناب قراءة الأشعار المبتذلة، والتي تحتوي على المفسدة.
وعلى أية حال فإن المستفاد من عناصر الاستنباط هو أن العرس ينبغي أن يقام له ضجيج، وأن تولم فيه وليمة.
نقل الشيخ الطوسي([205]) والبيهقي([206]): «اجتاز رسول الله‘ في عقد، وسمع صوتاً، فقال: هذا حسن للنكاح، لا للسفاح. ثم قال: أشيدوا بالنكاح وأعلنوه بينكم، واضربوا عليه بالدف، فجرت السنة في النكاح بذلك».
ونقل الشيخ الصدوق في كتاب «الأمالي»([207]) بإسناده عن الصنعي بن عبد الرحمن بن محمد، عن علي بن هبار، رواية تدل على جواز ضرب الدف في الأعراس والأفراح.
نظريّة المحقق محمد حسن النجفي
اختار صاحب الجواهر، في بحث الإشهاد عند العقد، وهل هو واجب أو مستحب؟ الاستحباب، ثم قال: بل بمقتضى ظاهر الحديث فإن إعلان العرس مستحب؛ لأنه أصرح من الإشهاد. ووفقاً لنظريته هذه تمسك بجملة «أعلنوه بينكم» المذكورة في الرواية([208]).
وهنا يجدر بنا أن نذكر مسألتين، وهما:
1ـ إن صاحب الجواهر، مضافاً إلى الجواز المستفاد من قاعدة التسامح في أدلة السنن وروايات من بلغ، ذهب إلى استحباب الإعلان.
وأنا لا أقبل بهذا الاستحباب؛ وذلك لأننا قلنا في أبحاثنا الأصولية: إنّ مفاد قاعدة التسامح في أدلة السنن، المستفاد من روايات من بلغ، ليس حكماً فقهياً حتى يثبت من خلاله استحباب شيء، وإنما مفادها حصول المكلف على الثواب بسبب انقياده، حيث يباشر العمل بمجرد بلوغه الثواب عليه.
وكذلك روى القاضي النعمان المصري في كتابه بإسناده عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «إنه‘ مرّ ببني زريق، فسمع عزفاً، فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، نكح فلان، فقال‘: كمل دينه، هذا النكاح لا السفاح، ولا يكون نكاح في السر، حتى يرى دخان أو يسمع حسّ دفّ، وقال: الفرق بين النكاح والسفاح ضرب الدفّ»([209]).
ولذلك فقد ذهبنا إلى جواز التصفيق والتصدية للرجال والنساء في الأعراس، بل اعتبرناه أمراً حسناً، وذلك لتأكيد الروايات على إعلان العرس والجهر به بين الناس إذا لم يكن مقروناً بأيّ شيء محرَّم. ومن هنا فليس في الطواف بموكب العرس في الشوارع إذا لم يكن مخلاًّ بالموازين الشرعية أي إشكال؛ لأن هذه الطريقة هي من أفضل الطرق للإعلان الذي حثت عليه الروايات.
رأي الترمذي في السنن
روى الترمذي في سننه عن رسول الله‘ أنه قال: «فصل ما بين الحلال والحرام الدفّ والصوت في النكاح»([210]).
رأي الشهيد الثاني حول الغناء في الأعراس
استدل الشهيد الثاني في المسالك في باب النكاح على استحباب الإعلان في الأعراس بحديث مروي في دعائم الإسلام، مع أنه لا يذهب إلى اعتبار عمل المشهور برواية ضعيفة موجباً لزوال ضعفها([211]). وقد نقل أن النبي‘ كان يكره النكاح دون إعلان وصوت. بل ونقل بيت الشعر الذي يقرأ في الأعراس، وهو: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم.
كما ذكر صاحب الجواهر هذه المسألة في بحث الغناء من كتاب المكاسب المحرمة في كتاب التجارة([212]).
استحباب الوليمة في الأعراس
يستحب في العرس أن تقام وليمة ودعوة. ومضافاً إلى الرواية المتقدمة فقد نقل عن الإمام الباقر× أنه قال: «إن الله عز وجل يحبّ إهراق الدم وإطعام الطعام»([213])؛ وقال: «إن الله يحب إطعام الطعام وإراقة الدماء»([214]). وقد ذبح النبي الأكرم‘ كبشاً في زفاف السيدة فاطمة الزهراء÷([215])، وقال: «إن من سنن المرسلين الإطعام عند التزويج»([216]).
وقال الإمام محمد الباقر×: «الوليمة يوماً أو يومين مكرمة، وثلاثة أيام رياء وسمعة»([217]).
توقيت الزفاف والعرس
وردت روايات حول الوقت المناسب للعرس والزفاف. ويحسن بنا التعرض لها ها هنا:
قال الإمام محمد الباقر×: «إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها بالنهار؛ فإن الله جعل الحياء في العينين. وإذا تزوجتم فتزوّجوا بالليل؛ فان الله جعل الليل سكناً»([218]). وقال الإمام الرضا×: «إن الله جعل الليل سكناً، ومن السنة التزويج بالليل، وإطعام الطعام»([219]).
وروي عن الإمام الصادق× أيضاً أنه قال: «زفوا عرائسكم ليلاً، وأطعموا ضحىً»([220]). وقد ذكرت بعض الروايات الأفراح وإقامة الحفلات أيضاً([221]).
وإن من بين الأخبار التي تمسك بها بعض الفقهاء؛ لإثبات عدم البأس في إقامة الفرح في المناسبات التي تقتضي ذلك، الرواية المروية عن الإمام الصادق×، إذ قال: «إنه‘ مرّ بقوم من الزنج، وهم يضربون بطبولهم ويغنون، فلما رأوه سكتوا، فقال‘: خذوا يا بني أرفدة [جنس من الحبش يرقصون] في ما كنتم فيه، ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة»([222]).
تاريخ نشوء حداء الإبل
يعود تاريخ الحداء إلى ما قبل ظهور الإسلام. وإن أول من لعب دوراً في نشوئه هو مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من أجداد رسول الله‘. وهنا يجدر بنا أن نستعرض الرواية المنقولة في كتاب المستطرف([223])، وهي كالتالي:
«عن النبي الأكرم‘ أنه قال: أتدرون متى كان الحداء؟ قالوا: لا، بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله، قال: إنّ أباكم مضر قد خرج في طلب مال له، فوجد غلاماً قد تفرّقت إبله، فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام بالوادي وهو يصيح: وا يداه، وا يداه، فسمعت الإبل صوته، فعطفت عليه، فقال مضر: لو اشتقّ من الكلام مثل هذا لكان كلاماً تجتمع عليه الإبل، فاشتقّ الحداء». ومن هنا فإن مضر بن نزار هو أول من أبدع الموسيقى الغنائية الخاصة بالحداء.
حكاية من كتاب (گلستان) لسعدي الشيرازي
في سفري إلى أرض الحجاز كنت برفقة جماعة من الشباب. وكثيراً ما كانت هذه الجماعة تترنم بأبيات بديعة، حتى مرّ عابد في سبيله. وإذ كان جاهلاً بما يعانيه الشباب من الوجد والألم فقد أنكر عليهم ما هم فيه، ومضى الحال على ما هو عليه حتى بلغنا نخلة بني هلال، فخرج غلام أسود من حي العرب، وأخذ ينشد نشيداً شجياً حنت إليه الطير في السماء، فرأيت ناقة العابد قد طربت ورقصت، حتى أسقطت العابد، ويممت شطر الصحراء، فأنكرت على الشيخ أن لا يطرب لما طربت له البهيمة([224]).
إن المشهور بين الفقهاء هو استثناء حداء الإبل من حكم الغناء. وقد نسب المحقق في الشرائع([225])، والمحقق الكركي في كتاب جامع المقاصد([226])، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام([227])، وفي شرح اللمعة الدمشقية([228])، والنراقي في مستند الشيعة([229])، والأردبيلي في شرح الإرشاد([230])، والعاملي في مفتاح الكرامة([231])، والسبزواري في كفاية الأحكام([232])، وصاحب الجواهر([233])، والمجلسي الأول في كتاب الحج، نسبوا استثناء الحداء من الغناء المحرم إلى أكثر الفقهاء.
وعلى أية حال فقد كان الحداء شائعاً في عهد رسول الله‘. وبناء على نقل ابن منظور المصري فإن الحداء لا يختص بالإبل، وإنما كان العرب يترنمون به في أوقات فراغهم، ولكن عندما نزل القرآن الكريم كان النبي‘ يفضِّل ألحان العرب عند قراءة القرآن، ويرجِّحه على قراءة الركبان([234]). ولكنه لم يبيِّن طريقة جديدة أو نمطاً خاصاً لكيفية الترنم بالقرآن.
وأما الرواية التي قال فيها النبي الأكرم‘ لعبد الله بن رواحة، وكان ذا صوت جميل جدّاً: «حرّك بالقوم، فاندفع يرتجز، وكان يجيد الحداء» فلا تصلح دليلاً على استثناء الحدي من حرمة الغناء؛ وذلك:
أولاً: إنها ضعيفة السند.
وثانياً: إن الرجز غير الحداء.
وقد وردت في سنن البيهقي([235]) رواية تجيز الحداء.
ويرِدْ عليها نفس ما ورد على الدليل المتقدم؛ إذ يرد عليها أولاً: إنها ضعيفة السند؛ وثانياً: هي كذلك ضعيفة الدلالة؛ إذ ليس فيها ما يدل على أن الحداء الذي أجازه النبي كان من نمط الغناء.
إلا أن الذي يسهل الأمر في ما يراد من حداء الإبل أن الغناء بالمعنى الشرعي هو موضوع الحكم الشرعي، وليس الغناء بمعناه اللغوي. وإن الحداء من الغناء بمعناه اللغوي فلا يكون حراماً من الناحية الشرعية([236]).
تنويه
إن الذي يدرك ما تقدم لن يضطر إلى تكلُّف استثناء الغناء في الأعراس وحداء الإبل، وإخراجه عن الغناء المحرَّم؛ وذلك لأن الغناء في الأعراس وحداء الإبل؛ حيث لا يدخل في اللهو واللغو وقول الزور، خارج عن الغناء المحرّم موضوعاً. ولذلك فإننا قد أشكلنا على كلام الملا أحمد الأردبيلي في شرح الإرشاد، والمحقق السبزواري في كفاية الأحكام، في استثناء الغناء في المراثي وقراءة القرآن والغناء في الأعراس من ناحية الحكم، دون الموضوع. وقد تقدم بيان ذلك بالتفصيل في ذيل تعيين الغناء من الكتاب والسنة.
حكم أجرة المغنية في الأعراس
لا يوجد أدنى إشكال في الأجرة التي تأخذها المغنية في الأعراس. ومن المناسب هنا أن نتعرض لبعض الروايات الواردة في هذا الشأن:
1ـ قال الإمام الصادق×: «أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي يدخل عليها الرجال»([237]).
2 ـ وروي عنه× في رواية أخرى أنه قال: «المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها»([238]).
3ـ وفي رواية ثالثة: سئل عن كسب المغنيات؟ فقال×: لا بأس به للنساء اللاتي يدعين إلى الأعراس»([239]).
ونستنتج من هذه الروايات بوضوح أن غناء المغنية للنساء في مجالس الأعراس لا إشكال فيه، وكذلك الكسب الذي تحصل عليه كأجر على غنائها، فهو حلال أيضاً([240]).
والمسألة المهمة الأخرى هي أنه ليس في رقص النساء للنساء ورقص الرجال للرجال، كما في مجالس الأعراس وغيرها من مجالس الفرح والسرور، إشكال في نفسه؛ وذلك لقيامه على السرور والفرح، وليس على اللغو والباطل([241]).
وكذلك ليس في إنشاد النساء والرجال جماعة، كما هو متداول في إذاعة وتلفريون الجمهورية الإسلامية في إيران، ويعبَّر عنه بالإنشاد الجماعي، إشكال من وجهة نظرنا. وهذا هو رأي السيد الخوئي& أيضاً([242]).
التنويه بمسألة
أما المسألة المهمة فهي أن الاستماع إلى اللحن المباح إذا اقترن بفعل الحرام كان حراماً؛ لاقترانه بالحرام، من قبيل: أن تعزف الموسيقى في مجلس تحضر فيه النساء، ويختلطن بالرجال، دون مراعاة الموازين الشرعية، أو أن يقوم الحاضرون في المجلس إلى جانب عزف الموسيقى بمعاقرة الخمر. ففي هذه الصورة يحرم حضور هذا المجلس من الأساس، وبتبع ذلك يحرم الاستماع إلى الموسيقى في مثل هذا المجلس. ومن هنا قال العالم الكبير الإمام محمد حسين كاشف الغطاء، والفيض الكاشاني صاحب «كفاية الأحكام»: إن الغناء في نفسه حلال ويمكن القول: إن الغناء الذي حُرِّم في زمن صدور الروايات هو الغناء الذي كان يتخذ وسيلة لاختلاط الرجال والنساء، وشرب الخمور، والرقص، وأما إذا كانت الموسيقى غاية وهدفاً، ولم تكن وسيلة، كما هو الحال في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية الإسلامية في إيران فلا يكون مشمولاً للحكم المذكور. إذاً ليس الأمر بأن كل صوت وغناء محرم، كما تصوّر البعض. وإن القدر المتيقَّن من الغناء الحرام الذي ورد في الروايات هو الموسيقى والغناء اللذان شاعا في العصر الأموي والعباسي، وكانا يتخذان ذريعة للهو، واختلاط الرجال بالنساء، والسكر، والخنا، والتكلم بالباطل، واللغو والعبث، والمشاهد المثيرة للشهوة.
إنّ سبب ذهاب البعض إلى تحريم الأصوات الحسنة، وبعض الأمور الأخرى، دون دليل إنما هو فهم خاطئ لروح الشريعة وأسس الدين المبين. وقد تبنّاه بعض المتظاهرين بالقداسة من الجهّال، أو أولئك الذين يحاولون إرضاء العامة، فيلبسون الإسلام لبوساً لا يتناسب وقامته، فيخرجون بأحكام تنفر منها الطبائع السليمة.
نموذج في هذا المجال
اشتركتُ في حفل عقد بمناسبة مولد الإمام الرضا×، فوجدت مدّاحاً يقرأ بعض الأشعار بصوت جميل للغاية، شدّ الناس إليه وهو يصوّر لهم مدى عظمة الإمام بأسلوبه وتقطيع أصواته البديع، وفجأة هتف فيه أحد الحاضرين، من الذين كنت أعرف حدود معلوماته ومستواه العلمي، قائلاً له: صه، إنّ هذا غناء، ألم تعلم بأنّ الغناء محرّم؟! فتعجبت من موقفه، وكيف أنه حكم بالحرمة على مثل هذا الصوت الجميل، دون مراجعة وعلم بمصادر الأحكام وأسس المعرفة، ودون إحراز الموضوع؟! مع أنّ ذلك الصوت لم يكن من الغناء بالمعنى الشرعي، الذي يشكل موضوعاً للحكم بالحرمة؛ إذ لم تكن ألفاظه من قول الزور واللهو، ولا صوته على هيئة اللهو وألحان أهل الفسوق والعصيان، ولا يدعو إلى الفساد والضلال.
وفي الختام علينا أن ندرك أنه كما لا يمكن تحليل حرام الله لا يمكن تحريم حلاله أيضاً، فقد جاء في الحديث: «المحرّم حلال الله كالمستحلّ حرام الله».
الهوامش
___________________________________________
(*) أحد مراجع التقليد في إيران، وفقيه بارز، عرف عنه دراساته في الفقه المقارن وتاريخ الاجتهاد ونظرياته التجديدية والنقدية.
([1]) وسائل الشيعة 5: 6، ح4، طبعة مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
([4]) الطبرسي، مكارم الأخلاق: 69.
([8]) من لا يحضره الفقيه 1: 76، ح329.
([9]) المصدر السابق: 75، ح328.
([13]) من لا يحضره الفقيه 1: 74، ح316.
([15]) بحار الأنوار 44: 231؛ كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2: 71، ح1775.
([17]) الوافي 5: 240، باب ترتيل القرآن وحسن الصوت.
([18]) الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار.
([22]) الجرجاني، دلائل الإعجاز: 13؛ الغدير 2: 6.
([23]) الصدوق، ثواب الأعمال؛ ابن قولويه، الكامل: 33.
([24]) راجع: كتاب الشيعة والحاكمون.
([26]) عيون أخبار الرضا: 70 ـ 71.
([27]) تفسير الدر المنثور، ذيل قوله تعالى: ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون﴾.
([31]) راجع: الكتب المؤلفة في أخبار الشعراء وأحوالهم.
([32]) يطلق الموسيقار على الشخص الذي يعزف على الآلات الموسيقية. كما يطلق الغناء على الألحان المتركبة من بعضها. ويطلق اللحن على النغمات المتلاحقة. وتطلق الأنغام على الأصوات المنسجمة والمتناغمة (راجع: رسائل إخوان الصفاء 1: 88).
([33]) رسائل إخوان الصفا 1: 182.
([34]) مروج الذهب 2: 192؛ ترجمة تاريخ اليعقوبي 2: 188.
([35]) مذكرات فيثاغورس الخاصة بأسفاره: 37، ترجمة: يوسف اعتصامي.
([37]) مجلة بررسي هاي تاريخي، العام الثاني، عدد أرديبهشت، سنة 1341هـ ش.
([38]) الأغاني 18: 30؛ تاريخ الموسيقى في الشرق الأوسط: 184.
([39]) وفيات الأعيان، 1: 400؛ الأغاني، 4: 219؛ ابن عبد ربه،العقد الفريد.
([41]) رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء 1: 88.
([47]) من وجهة نظرنا فإنّ عدم انفكاك اللهو عن الغناء موضع نقد وإشكال، كما سيأتي شرح ذلك في القسم الخامس من هذه المقالة.
([48]) محمد حسين كاشف الغطاء، رسالة (سؤال وجواب): 116.
([49]) محمود شلتوت، الفتاوى الواضحة: 413.
([50]) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 2: 42.
([51]) المستطرف في كلّ فن مستظرف 2: 315.
([52]) الدراسات الإسلامية: 59.
([53]) ابن حزم الظاهري، المحلّى 5: 60.
([56]) المستطرف في كلّ فن مستظرف 2: 315.
([57]) لابد من الالتفات إلى أن هؤلاء العلماء الثلاثة وإن ذهبوا إلى أهمية الغناء، ولكنهم إنما أرادوا بذلك الغناء المجرّد من اللهو والكلام الباطل، والذي لا يحتوي على أية مضامين فاسدة؛ وذلك لاتفاق كلمة الجميع على بطلان هذا النوع من الغناء وحرمته. بل إنّ مرادهم الصوت الحسن والمقرون بالكلمات ذات المضامين السامية والمفاهيم البناءة التي تذكر الإنسان بالله تعالى.
([58]) أحمد قبش، مجمع الحكم والأمثال: 393.
([60]) ابن الجوزي، تلبيس إبليس: 228.
([61]) أحمد قبش، ربيع الأبرار: 559.
([62]) هذا القسم هو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والجمع بين الأدلة، والذي سيأتي في مبحث طرق تمييز الغناء.
([67]) بحار الأنوار 9: 191، ح2.
([72]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 22: 44.
([73]) للحصول على معرفة كاملة بذلك راجع: كتاب (منابع اجتهادي أز ديدگاه مذاهب إسلامي)، للمؤلف.
([74]) سيأتي بيان معنى الزور واللغو واللهو تحت عنوان (معنى الغناء في الكتاب والسنة).
([76]) وسائل الشيعة 17: 303، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح2؛ الكافي 6: 435، ح2.
([77]) وسائل الشيعة 17: 306، ح11؛ الكافي 6: 432، ح8.
([78]) وسائل الشيعة 17: 305، ح7؛ الكافي 6: 431، ح5.
([80]) وسائل الشيعة 17: 304، ح3؛ الكافي 6: 431، ح6.
([81]) وسائل الشيعة 17: 320، ح10؛ معاني الأخبار: 224، ح1.
([82]) وسائل الشيعة 17: 306، ح13؛ الكافي 6: 435، ح25.
([83]) وسائل الشيعة 17: 309، ح24.
([84]) المكاسب المحرّمة 1: 203.
([85]) وسائل الشيعة 17: 308، ح19؛ عيون أخبار الرضا 2: 128، ح5.
([86]) وسائل الشيعة 17: 303، ح1؛ الكافي 5: 307.
([87]) وسائل الشيعة 17: 307، ح16؛ الكافي 6: 433، ح16.
([90]) وسائل الشيعة 17: 307، ح16؛ الكافي 6: 433، ح16.
([91]) وسائل الشيعة 17: 306، ح12؛ الكافي 6: 435، ح25.
([92]) وسائل الشيعة 17: 309، ح: 22؛ المقنع: 154.
([97]) وسائل الشيعة 17: 314، ح8؛ من لا يحضره الفقيه 4: 265، ح824.
([98]) شرح الإرشاد، كتاب المتاجر، القسم الرابع.
([101]) وسائل الشيعة 17: 122، ح5؛ قرب الإسناد: 121.
([103]) وسائل الشيعة 17: 123، الباب 16، ح2؛ من لا يحضره الفقيه 4: 42، ح139.
([104]) وسائل الشيعة 17: 123، الباب 16، ح1.
([106]) صحيحة علي بن جعفر، وسائل الشيعة 17: 122؛ وموثقة أبي بصير، المصدر السابق؛ ورواية الصدوق، المصدر السابق.
([109]) القاموس، مادة: غني وطرب.
([110]) ابن الأثير، النهاية 3: 391.
([112]) الفقه على المذاهب الأربعة: 421.
([114]) المصدر السابق 3: 1232.
([115]) قاموس اللغة: 4: 371، مادة غنى.
([116]) من قصيدة عبد الله العجاج بن رؤبة التميمي.
([118]) القاموس المحيط 1: 101.
([129]) شرح اللمعة 3: 212؛ مسالك الأفهام 2: 165.
([131]) الحدائق الناضرة 18: 101.
([134]) المكاسب المحرمة 1: 201.
([137]) راجع: كتاب فرهنگ معين.
([138]) لغت نامه دهخدا؛ وفرهنگ معين.
([139]) صحيفة أمان، العدد 164.
([142]) عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري، تأليف العلامة بدر الدين.
([144]) أعلام الموقعين 3: 89، دار الفكر.
([145]) لقد استعرضنا أدلة القائلين باعتبار العرف بالتفصيل في كتابنا «منابع اجتهاد أز ديدگاه مذاهب إسلامي»، وعمدنا إلى نقدها، فراجعوه؛ بغية الاطلاع على أبعاد المسألة وتفاصيلها.
([147]) مجمع الفائدة والبرهان 8: 57.
([149]) الحدائق الناضرة 18: 101.
([151]) وسائل الشيعة 17: 303، ح2، 9، 29، و219، ح21، و122، ح5.
([154]) الميزان في تفسير القرآن 16: 209 ـ 210.
([156]) بحار الأنوار 64: 216، ح30؛ الكافي 5: 50، ح13.
([157]) الميزان في تفسير القرآن 14: 371، و18: 345.
([158]) تفسير مجمع البيان 7: 181.
([160]) بغية الاطلاع الكامل على مسألة الورود والحكومة والتخصيص والتخصُّص يمكنكم الرجوع إلى كتاب «أدوار اجتهاد أز ديدگاه مذاهب»، للكاتب.
([161]) وسائل الشيعة 6: 210، الباب 24، ح1.
([163]) رسالة منية السائل: 179.
([165]) أصول الكافي 2: 615، ح7.
([166]) انظر: ثواب الأعمال؛ ابن قولويه، الكامل: 33.
([167]) أصول الكافي 2: 616، ح10، و5: 240، باب ترتيل القرآن وحسن الصوت. وفي ربيع الأبرار للزمخشري: «ما بعث الله نبياً إلا أنه حسن صوته وحسن صورته».
([168]) المستطرف في كلّ فن مستظرف 2: 315.
([169]) شرح نهج البلاغة 9: 231.
([170]) نهج البلاغة، الخطبة 161.
([171]) وسائل الشيعة 17: 33، ح2، و306، ح11.
([173]) من لا يحضره الفقيه 4: 34، وسائل الشيعة 12: 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح2.
([174]) تقدم بيان معنى اللغو في قسم تعيين معنى الغناء من خلال الكتاب والسنة.
([175]) وسائل الشيعة 17: 228، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح15.
([176]) الشاهرودي محاضرات في الفقه: 238.
([177]) المكاسب المحرمة 1: 203.
([178]) المكاسب 2: 10، الطبعة الجديدة.
([187]) مجمع الفائدة والبرهان 8 ـ 9: 59.
([189]) الخميني، المكاسب المحرمة 1: 232.
([198]) وسائل الشيعة 17: 122؛ قرب الإسناد: 121.
([200]) بحار الأنوار 103: 40، ح16.
([202]) المصدر السابق 43: 115.
([204]) المصدر السابق: 115؛ تفسير أبي الفتوح 8: 310.
([205]) الأمالي: 519، طبعة مؤسسة بعثت.
([207]) الصدوق، أمالي 2: 132، طبعة النجف الأشرف.
([211]) مسالك الأفهام، مستحبات باب النكاح؛ مجمع الزوائد 4: 288.
([216]) المصدر السابق 100: 278.
([218]) المصدر السابق: 273 و278.
([219]) المصدر السابق: 278؛ تفسير العياشي 1: 370.
([220]) من لا يحضره الفقيه 3: 254.
([223]) المستطرف في كلّ فن مستظرف، الباب 68، قسم الصوت الحسن: 315.
([224]) (الحكاية السادسة والعشرون من كتاب گلستان سعدي).
([227]) مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام 1: 129.
([230]) شرح الإرشاد، كتاب المتاجر.
([232]) كفاية الأحكام، المقصد الثاني، كتاب التجارة.
([233]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 22: 51.
([234]) لسان لعرب 1: 135. (لم نجده في مادة (حدا) من لسان العرب، المترجم).
([236]) تقدم تفصيل ذلك تحت عنوان: مفهوم الغناء في الكتاب والسنة.
([237]) وسائل الشيعة 17: 121، الباب 15، ح3.
([239]) وسائل الشيعة 17: 120، الباب 15، ح1.
([240]) ذكرنا في اللقاء الصحفي الذي أجرته معنا أسبوعية (كيهان هوائي) في العام المنصرم عدم البأس برقص النساء للنساء والرجال للرجال في الأعراس.
([241]) وهذا هو رأي السيد الخوئي& أيضاً (راجع: رسالة مُنية السائل: 180، الطبعة الثالثة، شهر آذر، عام 1370هـ ش) .