الشيخ حسين علي المنتظري(*)
تمهيد ـــــــ
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: 192ـ195].
لم أكن أعتزم الخوض في هذا البحث العلمي؛ وذلك لأنّ الإجابة عن الشبهات تندرج في وجوبها تحت عنوان الواجبات الكفائيّة، وقد قام بأعباء الإجابة الكثير من الفضلاء، ولكن بعد أن وجّهت إليّ هذه الأسئلة من قبل أشخاص من الداخل والخارج وجدتُ ضرورة ذكر بعض الإجابات باختصار.
حقيقة الوحي شرح وتفكيك ـــــــ
إنّ المراد الجدّي لسماحة الدكتور سروش في ما يتعلق بموضوع البحث وإن كان مبهماً، ولكن نقول بشكلٍ عام: إنّ كلّ بيان حول الوحي ـ الذي يعدّ الأساس لجميع الأديان الإلهيّة ـ إذا أدّى إلى مفهومٍ خاطئ ـ مهما كان ذلك المفهوم غير مقصود للمتكلم ـ قد يسهم في إضلال السامع والمتلقي، فإما أن يؤمن بمضمونه ويعتقده، أو يتهم بالكفر والفسق وأمثالهما، وكلا الأمرين مذموم؛ ولذلك أذكر بعض الحقائق بشأن الوحي، ربما كانت هي المرادة من كلام الدكتور سروش، أو أسسها العامة.
وقبل التطرّق لآيات القرآن والأحاديث الشريفة في هذا المجال، أرى من اللازم التذكير بمسألتين مؤثرتين في بيان حقيقة الوحي وشرح معناه:
1 ـ المراحل الثلاث لنظام الوجود ـــــــ
طبقاً لما هو مبيّن في الحكمة والفلسفة الإلهيّة، وتشهد له الأدلة النقليّة، وتؤيّده إدراكاتنا ومعلوماتنا، فإنّ للوجود ثلاث مراحل:
1 ــ مرحلة الموجودات المحسوسة والطبيعيّة، التي تتكون من المادّة وتخضع لأحكامها، مثل: الأجسام التي لها جرم ومادّة وأحكام، من قبيل: الرائحة واللون والحجم، ويمكن لنا أن ندركها بحواسنا الخمسة الظاهريّة، وهي جميع الأشياء والأمور المحيطة بنا، ونتمكن من لمسها وشمّها وما إلى ذلك.
2 ــ مرحلة الموجودات المثاليّة والخياليّة، التي وإن كانت فاقدة للوجود المادي، إلا أن لها أحكاماً شبيهة بأحكام المادة، وتدرك بالحسّ الباطني، من قبيل: قوّة الحسّ المشترك والخيال والمخيّلة؛ كالصور الذهنيّة للأشياء الجزئيّة الغائبة عنا، ولكن نحمل عنها صورة في مخيلتنا، وندركها بصورة الحسّ المشترك، كصورة شخص زيد الذي رأيناه أمس، أو رائحة أو طعم الوجبة التي تناولناها قبل يوم، أو ما نراه في عالم الرؤيا ممّا له (بحسب المصطلح) تجرّد برزخي.
فما هو موجود في هاتين المرحلتين ويمكن إدراكه يعدّ بأجمعه من الأمور الجزئيّة.
3 ــ مرحلة الموجودات العقليّة، والتي هي من الأمور الكليّة والمحيطة والمجرّدة من المادّة وأحكامها، ولا تدرك إلا بقوّة باطنيّة أقوى من سائر القوى الإدراكية الأخرى، وتعرف بأسماء، مثل: العقل والقلب والروح والصدر والفؤاد، وما إلى ذلك مما يسمى بذلك بلحاظات واعتبارات مختلفة.
إنّ الموجودات في هذه المراحل الثلاث كما تترتب على بعضها، ويكون لذاتها ترتب حقيقي وخارجي؛ فإنّ لإدراكها ـ الذي له اتحاد معها بنحوٍ من الأنحاء ـ ترتباً على بعضها أيضاً، ويوجد بينها تقدّم وتأخر ذاتي.
2 ـ تجرّد العلوم والمعارف الإنسانيّة ـــــــ
لما كانت العلوم والمعارف ـ خاصّة ما كان منها مرتبطاً بمعرفة المبدأ والمعاد والمبادئ العالية لنظام الكون ومنازل السلوك المعنوي ـ أموراً مجرّدة عن المادّة فلا يمكن للإنسان الحصول عليها إلا من طريق تجاوز عالم المادّة والطبيعة، والاتصال بمراحل ما بعد الطبيعة، وإنّ هذا الاتصال هو في واقعه نوع من تجرّد النفس عن المادّة، وهو بنفسه مفهوم مشكك بحسب ظهوره شدّة وضعفاً.
وبشكلٍ عام فإنّ هذا الاتصال وما يتعقبه من الإدراكات إنما يمكن من خلال طريقين أساسيين:
3 ـ العلوم الاكتسابيّة والعلوم الكشفيّة ـــــــ
أ ــ يتوصّل الإنسان أحياناً إلى شيءٍ باختياره وإرادته وتفكيره، من خلال تحصيل أجزائه الذاتيّة أو عوارضه أوعلته أو دليله، وهي طريقة أكثر الناس في تحصيل العلم والإدراك، وطبعاً إنّ الإنسان في مثل هذه الحالة، وإنْ كان يفكر بإرادته واختياره، ويعثر في ذهنه على الأجزاء والعوارض والمقدّمات، ويقوم من خلالها بالتعريف أو تأليف القياسات، إلا أنّ الفكر ليس هو العلة الإيجاديّة التامّة للوصول إلى المطلوب العلمي، بل هو مجرّد علة إعداديّة للوصول إلى المطلوب، غير أنّ الظهور القهري للعلم والإدراك يعود إلى المبادئ الغيبيّة المجرّدة عن المادّة بالكامل؛ فهي تستند إلى الحقّ تعالى وعالم القدس المنزه عن المادّة، وهو ما صرّح به الحكيم السبزواري& في منظومته قائلاً:
والحقّ إن فاض من القدس الصور وإنمــــــــــا إعــــــــداده من الفكــــر
ومقتضى التحقيق أن لا يكون تفكيرنا للوصول إلى النتائج هو السبب المولد، كما أنه ليس العلة الإيجاديّة التامّة كما ذهب المعتزلة، ولا هو عديم التأثير أصلاً للوصول إلى النتائج العلميّة، وإنما يؤدّي إلى ذلك بحكم العادة والتعاقب الاتفاقي للأمور، كما ذهب الأشاعرة، بل إنّ تأثير التفكير في حصول العلم حالة برزخيّة بين هذين الأمرين نطلق عليها اسم التأثير الإعدادي.
ب ــ وأحياناً لا يتوصّل الإنسان إلى الشيء عن طريق التفكير وتحصيل أجزائه وعوارضه أو علته أو دليله، وإنما يحصل للإنسان العلم به من دون إرادته واختياره، كمن يملك قوّة حدس أو إحساساً إدراكيّاً قويّاً؛ فتتضح له علة الشيء أو دليله تلقائيّاً، ومن دون إمعان النظر، وهذا الطريق لتحصيل العلوم والمعارف التي تعدّ من المواهب والنعم الإلهيّة التي ينعم الله بها على من يستحقها تسمّى إصطلاحاً بالكشف بمعناه الأعم، الذي يشمل الوحي والإلهام أيضاً، وطبعاً هناك أسماء خاصّة مختلفة بلحاظ المراتب المختلفة لهذا الطريق.
4 ـ المبدأ الغيبي لإفاضة العلوم ـــــــ
في كلا طريقي تحصيل العلم والكشف يكون المفيض الحقيقي للعلوم والمعارف مبدأ غيبي وغير بشري، وفي الواقع فإنّ العلوم تأتي من الخارج إلى الداخل، وكما قال صدر المتألهين&: <فتكليم الله عباده عبارة عن إفاضة العلوم على نفوسهم بوجوهٍ متفاوتة كالوحي والإلهام والتعليم بواسطة الرسل والمعلمين>([1]).
لابد من الالتفات إلى وجود الكثير من الحقائق الدقيقة هنا، فحينما يقال: في كلا الطريقين يتمّ ترشح العلوم من الخارج إلى الداخل، لا يعني ذلك اتحاد الواهب للعلم والموهوب له، واتحاد الفاعل والقابل في رتبةٍ واحدة؛ فإنه وإن كان يحصل هناك اتحاد بين الفاعل والقابل بنحو من الأنحاء في هذا المجال، ولكنه هو الاتحاد المصطلح عليه باتحاد الحقيقة والرقيقة، والمطلق والمقيّد، والمحيط والمحاط، والنصّ والحاشية، ويحمل هذان على بعضهما أحياناً بملاك هذه الوحدة، وإنّ حملهما على بعضهما لا يكون بالحمل الشائع، وعلى أساس اتحاد أمرين متكافئين في الرتبة، وإلا كان لازم ذلك أن يتحد فاعل العلم وواهبه، والواجد له مع القابل والآخذ الذي هو فاقد للعلم بطبيعة الحال، وبذلك يكون هذا الاتحاد بينهما ووضعهما في رتبةٍ واحدةٍ مستلزماً لاجتماع النقيضين.
5 ـ التفاوت الجوهري بين طريق العلوم الكسبيّة والكشفية ـــــــ
وعلى كلّ حال فالفرق الأساسي القائم بين هذين الطريقين إلى العلم هو:
1 ــ يتدرّج أسلوب التفكير في المراحل والمراتب العلميّة من الأسفل إلى الأعلى، أي أنّ الإنسان، وفقاً للترتيب المشار إليه في المسألة الأولى، يواجه المحسوسات في المرتبة الأولى، ثمّ يحصل له بها إدراكٌ حسيٌّ، ثمّ خياليٌّ، وبعد ذلك يدركه عقليّاً، ويصل من المحسوس الجزئي إلى المعقول الكلي، ولكن في الطريقة الثانية يكون الأمر معكوساً؛ حيث يدرك الإنسان بقلبه وعقله المعنى الغيبي الموجود في عالم العقل منذ البداية، ويدرك المراتب العليا بالكشف المعنوي، وفي المرتبة الثانية يتجلى له ذلك المعنى في مرتبة الخيال بالكشف الصوري، وبصورة تخيّلية متناسبة لذلك المعنى، ويدركها في قالب شكلي أو ألفاظ وعبارات صوتيّة مشابهة لما يُرى في عالم الرؤيا، ومن ثمّ تدرك وتتحقق بصورة محسوسة.
2 ــ يسبح المفكر أثناء عملية التفكير في عباب أفكاره بحثاً عن الحقيقة، ومن هنا فإنه يسند المعلومات والمعارف الفكريّة إلى نفسه، فيقول: أنا أفكر ومن خلال تفكيري أصل إلى هذه النتيجة، وطبعاً يمكن تطرّق الخطأ إلى هذا الأسلوب؛ لأنّ الفكر والمفاهيم الذهنيّة غير الحقيقة المبحوث عنها، وعليه فقد توافق المفاهيم تلك الحقائق وقد تخالفها، ولكن في طريقة الكشف لا يكون هناك حجاب بين المكاشف وبين الحقيقة المنكشفة، وبحسب المصطلح فإنه يدرك عين الحقائق بالعلم الحضوري، وإذا كان الكشف كشفاً حقيقيّاً، وليس تخيّلياً وظناً، فلا يمكن تطرّق الخطأ إليه؛ إذ في عمليّة الكشف تتجلى للمكاشف عين الحقيقة الخارجيّة وتحضر عنده، وليس صورتها الذهنيّة، ولا معنى للخطأ في الحقيقة الخارجيّة.
3 ــ في طريقة التفكير هناك مسرح لإعمال الإرادة والاختيار، حيث يسعى المفكر بإرادته للحصول على العلة أو الدليل، فيرتب معلوماته وينظمها للوصول إلى المجهول الذي يبتغي اكتشافه، ولكن في ما يتعلق بطريقة الكشف لا مسرح ولا دور للاختيار والإرادة، حيث تلقى العلوم إلى المكاشف بشكل قهري، دون أن يكون له إرادة حيالها، ولذلك فهو يسند ما تجلى له إلى أمرٍ غيبي، يتمثل في الحقّ تعالى أو أمرٍ خفيّ آخر. ولو فتح باب التفكير والإرادة والاختيار في طريقة الكشف، وكانت جميع المراحل، حتى مرحلة الخيال والمثال وتصوير المعنى العقلي وقولبتها في ألفاظٍ وعباراتٍ مثاليّة وخياليّة مخصوصة، تخضع لاختيار وتفكير المكاشف والموحى إليه والملهَم، لكان إسناده بذلك القالب المخصوص إلى الله، أو أيّ مبدأ غيبي آخر تناقضاً واضحاً؛ وذلك أنّ قوام طريق الكشف والشهود بنوع من غياب الذات والفناء، وتنزل الحقيقة المكشوفة من دون الاستناد إلى التفكير، فتهبط من الأعلى إلى الأسفل، وأما في القولبة والتصوير الإرادي والاختياري فهناك مسرح للتفكير وإمعان النظر، ومن البديهيّ أنه كلما فتح الباب أمام التفكير والتدبّر، انحسر دور الكشف والشهود والوحي والإلهام، وكان الطريق معبّداً أمام الوقوع في الخطأ، وعاد الأمر إلى المفكر نفسه وأسند إليه، وقال بعض أهل المعرفة في هذا المجال: «إذا كان الحقّ هو المكلم عبده في سرّه بارتفاع الوسائط كان الفهم يستصحب كلامه فيكون عين الكلام منه، عين الفهم منك لا يتأخر، فإن تأخر فليس هو كلام الله»([2]).
خلاصة القول: إنّ بين التفكير والكشف في تحصيل العلوم اختلاف عميق، فما يحصل من خلال التفكير، وإن كان يقود إلى نوعٍ من رفع الحجب عن وجه الحقيقة، إلا أنه في الوقت نفسه يسدل عليها حجباً أخرى، فلا تدرك الحقيقة إلا من طرفٍ، أما الكشف فيحصل من طريق صقل الروح ورفع الحجب الماديّة عن بصيرة القلب ، حتى تتجلى الحقيقة من تلقاء نفسها ومن دون اختيار المكاشف، وتنطبع من خلال العلم الحضوري على صفحة النفس بعد أن تنزل من سماء النفس، لتملأ وجود الإنسان الجدير بها تماماً من قمّة عقله إلى أخمص حسّه وخياله.
6 ـ الشعاع اللامتناهي لقدرة الموحي ـــــــ
خلاصة القول: إنّ القوّة التي تنزل الحقيقة والمعنى العقلي بالكشف المعنوي، وتميط اللثام بشأنها عن مرتبة عقل النبي الأكرم’، هي التي تنزلها بالكشف الصوري وتطبعها على صفحة عالم الخيال والمثال والحس، ولا يعني هذا أن تلك القوّة حاضرة في أدنى مراتب الوجود، وأنّ النبي ’ هو الذي يعطيها مضمون الوحي وشكله، وأنه من دون ذلك لا يسع الناس فهم وإدراك ذلك المعنى العقلي السامي، فهل يعجز مبدأ الغيب ـ الذي يرسل الوحي، ويكشف للنبي المعنى والمضمون بالكشف المعنوي ـ عن تنزيل ذلك المعنى وإدخاله في وعاء خيال النبي بالكشف الصوري، وجعله قابلاً لفهم الجميع؟ وهل قدرة النبي في هذا المجال ـ وعلى مستوى الوحي ـ أكثر من قدرة مبدأ الوحي الغيبي؟ وهل يجهل ذلك المبدأ علم النبي وثقافة الناس الذين نزل الوحي لتكاملهم، خاصّة مع افتراض أنّ النبي كان قبل ذلك أميّاً لم يقرأ ولم يكتب؟
7 ـ أفضليّة النبي ’ على جبرائيل في قوس الصعود ـــــــ
ومن الطبيعي أن هذا الأمر لا يتنافى مع كون النبي الأكرم’، من حيث الرقي والتكامل الذي بلغه في قوس الصعود، قد نال مقاماً أسمى من مقام جبرائيل×، حتى قال جبرائيل: <لو دنوت أنملة لاحترقت>؛ وذلك لتمتع النبي والمكاشف من حيث تنوّع الحالات التي تطرأ عليه بمقام القبض والبسط، إذن فتلك القوّة الغيبيّة المحيطة بنظام الخلق يمكنها تنزيل ذلك المعنى العقلي بمهارة، وجعلها بمستوى فهم الجميع، وأن يكون ذلك النصّ، والمرتبة المنزلة التي تكون في متناول أيدي الناس، منصّة لانطلاق التأويل وبلوغ باطن ذلك المتن ومضمونه العميق، فيطوى قوس صعود الوحي من خلال ذلك لمن هو بمنزلة الأولياء والصالحين ممن يكون على مستوى التأويل واجتياز ظاهر النصّ إلى باطنه.
8 ـ الوحي بين دوري: الفاعل والقابل ـــــــ
وبشكل عام فإنّ المكاشف وإن كان يجني ثمار ما يزرعه، وكما قال بعض: <فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه>([3])، ولكن بالنظر إلى إطلاق الحقّ تعالى وعدم محدوديّة وجوده، وكون نفس المكاشف محدوداً ومقيّداً ومتناهياً؛ فالمحوريّة والدور الأساس الذي يكون لكلّ مكاشف وشاهد وصاحب وحي وإلهام في تقبّل الحقيقة إنما هو دور القابل، وليس دور الفاعل والمؤثر، أو كلا الدورين في رتبة واحدة، حتى يلزم منه، إذا اعتبرنا النبي’ بشراً، أن يكون الكتاب الذي أنزل عليه بشريّاً أيضاً، وأنه’ كان مؤثراً في تصويره وإضفاء صبغته عليه، أو الانفعال بحالاته النفسيّة من الفرح والحزن؛ فينعكس ذلك على صياغة معناه، بل على العكس، فإنّ ذلك المعنى والصورة الحاصلة في عالم العقل وخيال المكاشف وصاحب الوحي والإلهام هو الذي يجعله فرحاً أو حزيناً بنحوٍ مناسب للصورة والمعنى، وأساساً فإنّ الحالات النفسيّة التي تشغل النفس وتصيبها بالغفلة، كالفرح لشيءٍ أو الحزن بسببه ـ من الصفات الإضافيّة ذات الطرفين؛ فلابدّ أن يكون هناك شيءٌ لتفرح النفس أو تحزن بسببه ـ لا تتناسب وحالة الكشف، خاصّة إذا كان تامّاً ونبويّاً، لتلعب تلك الحالة دوراً في التأثير على تلك الحقيقة المكتسبة، وإن كان من الممكن أن يكون موضوع تلك الحقيقة المنكشفة شاغلاً للذهن قبل عروض حالة الوحي والانكشاف، أو ظهور الفرح والحزن بسببها.
ومجرّد كون الوحي أمراً حادثاً لا يسوّغ ـ انطلاقاً من قاعدة <كلّ حادثٍ مسبوق بالمادّة والمدّة> ـ القول بضرورة أن يكون الوحي مسبوقاً بالمادة والمدّة، وأن يتأثر الوحي بسبب ما يحيط بالموحى إليه من الظروف الماديّة؛ وذلك لأنّ الموحي هو الله القديم الأزلي، والوحي، وإن كان متوقفاً في تحققه الخارجي على الموحى إليه أيضاً، وأنه مسبوق في نظام الوجود بالمادّة والمدّة، أي بوجود آبائه وأجداده الطاهرين، إلا أنّ الوحي بما هو ظاهرة إلهيّة مجردة يلقى من الأعلى إلى الأسفل، ولا يكون مصبوغاً بصبغةٍ ماديّة أبداً.
9 ـ تجرّد الوحي وشروطه الماديّة ـــــــ
ينزل الوحي بطبيعة الحال منسجماً مع الواقع الحضاري للمجتمع، وموافقاً للغة التي يتخاطب بها أفراده، فيكون تابعاً لها، إلا أنّ هذه التبعيّة تبعيّة شكليّة وظاهريّة، وليست جوهريّة، على النحو الذي أشير إليه، وربما كان هذا هو المراد من التبعيّة المذكورة، وإنّ هذه التبعيّة من قبيل تبعيّة العلم للمعلوم؛ فالعلم بالشيء كما هو مطابق له، إلا أنّ خصائص المعلوم ـ من قبيل الجوهر والعرض والثابت والمتغيّر ـ لا تؤدّي إلى أن يتحوّل العلم إلى جوهر أو عرض أو ثابت أو متغيّر؛ وعليه فإن الثقافة واللغة، وإن كانت تؤطر الوحي بأطر شكلية، إلا أنها لا تقيّد محتواه بنطاقها الضيّق، وإلا لما كان بإمكان الوحي أن يسهم في توسيع أفق تلك الثقافة ورقيّها العلمي، ولما حدث أيّ تكاملٍ في الأمم التي بعث فيها الأنبياء^، وقد كانت قبل البعثة ترسف في أبشع أغلال الجهل، والحال أنّ الهدف من الوحي هو الارتقاء العلمي والثقافي الذي هو بمنزلة العقل الفاعل للمجتمع، وهذا ما يشهد له الواقع وتدعمه التجارب.
علاوة على ذلك فإنّ الأمر إذا كان على هذه الشاكلة فكيف كان يمكن التأويل الذي هو عكس التنزيل، فهو انتقال من ظاهر الوحي ومتنه إلى باطنه وعمق معناه؟ إن دقة التعبير بـ (الإنزال) و(التنزيل) و(النزول) ومشتقاتها بالنسبة إلى متن الوحي تكمن في عدم التأطر في هذا الإطار الضيّق، ومن دون أن يطرأ عليه أيّ تغيير.
إذاً فالخلاصة أنّ النبي الأكرم ’ قد ترعرع في فضاء الوحي والعلوم الغيبيّة، وكان قابلاً للوحي ومتأثراً ومنفعلاً به، وليس فاعلاً ومنتجاً له، وكما تقدّم فإنّ لازم القول باتحاد الفاعل والقابل واعتبارهما شيئاً واحداً في الرتبة محذور عقلي، وهو القول باجتماع النقيضين، وليس هناك محذور أخلاقي، كاتباع الوحي للهوى؛ ليتمّ رفعه بمثل القول بالعصمة ونحوها.
10 ـ عدم قبول العلم الحضوري للخطأ خلافاً للعلم الحصولي ـــــــ
لا فرق في هذا الأمر بين المسائل الدينيّة البحتة، مثل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وبين مسائل هذا العالم والمجتمع الإنساني؛ إذ في الكشف والوحي هناك نوع من اجتياز أفق عالم المادة والهيمنة عليه، والإشراف بالعلم الحضوري على الزمان والمكان، ولا يحتمل الخطأ في العلم الحضوري؛ لأنّ هذا الاحتمال مشروط بحصول اثنينيّة لا توجد إلا في العلم الحصولي والمفهومي: إحداهما: الصورة والمفهوم الذهني؛ والثانية: حقيقة وواقعيّة تحكي عنها تلك الصورة وذلك المفهوم، فإن تطابق الحاكي والمحكي كانت تلك الصورة وذلك المفهوم صادقاً وحقاً، وإلا كان كاذباً وباطلاً، ومثل هذه الأثنينيّة لا وجود لها في العلم الحضوري، فانكشاف الأمر دائر بين النفي والإثبات، أي أن الكشف إما موجود أو غير موجود، فإن وجد لم يتطرق إليه الخطأ والاشتباه، وإن الانكشافات التي يقال: إنها باطلة وغير صحيحة يراد منه عدم وجود الانكشاف أساساً، وأنه كان مجرّد إدعاء أو توهّم أو تخيّل للانكشاف، أو أنه كان كشفاً ناقصاً وغير مكتمل، وإلا فإنّ الانكشاف ـ بأي مقدارٍ تحقق ـ يطابق الواقع بذلك المقدار على نحوٍ تلقائي، ولا يعقل الخطأ بالنسبة إلى الوحي النازل على من ثبتت نبوّته في ما يخبر عنه من الأمور الاجتماعيّة والأرضيّة؛ إذ لو أمكن الخطأ على ما يكشف عن النبوّة ممّا يُعدّ معياراً لصحّة وبطلان سائر الانكشافات فكيف يمكن الاعتماد عليه والوثوق به، وكيف يكون كشفه عن المسائل الدينيّة البحتة، مثل: صفات الله، وهي أعمق وأدق، غير قابل للخطأ، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى الانكشافات الدنيويّة؟ فأين مكمن الفرق بينهما، حتى تكون لأحدهما ضمانة وعصمة من الخطأ دون الآخر؟!
11 ـ عدم إمكان الخطأ في مجال الوحي والرسالة ـــــــ
أجل، لو تحدّث النبي عن أمر لا صلة له بالغيب، وكان خارجاً عن رقعة الرسالة والهداية، فهناك من ذهب إلى احتمال تطرّق الخطأ إليه، وهذا ما قصده بعض العلماء والعرفاء الذين أجازوا الخطأ على الأنبياء والمعصومين^ في الأمور الدنيويّة، إلا أنّ هذا يخرج عن كونه وحياً أو إلهاماً، ويكون أجنبيّاً عن بحثنا؛ فالنبيّ والمعصوم إذا حصل على شيءٍ من طريق الغيب والوحي فهو علمٌ أسمى من العلوم البشريّة، ولا يقبل الخطأ، والمراد بالخطأ هو الخطأ الواقعي، بمعنى عدم مطابقة المراد الجدّي للواقع، لا ما يعدّه البشر خطأً، وهو ما يصطلح عليه حاليّاً بـ (تعارض العلم والدين)، والذي يحتاج بدوره إلى مساحةٍ أخرى من البحث في طول هذه المباحث. ونحن نعتقد أنّ الذي يمكنه الاتصال بما وراء الطبيعة، والحصول على العلوم والمعارف الدينيّة السّامية، يمكنه الحصول على العلوم والمعارف الدنيويّة من نفس المصدر بطريق الأولويّة؛ وذلك لعدم وجود حدّ بين هذين النوعين من العلوم والمعارف ليقال: إنّ النبي والمعصوم إنما يتوصّل إلى النوع الأول دون الثاني، وإن كان منصب النبوّة والرسالة يستدعي أن يوجّه النبي| الناس برؤية ملكوتيّة نحو الغيب، ويحررهم من ربقة التعلقات الماديّة والدنيويّة، فلا ينصبّ همّه على بيان شؤون هذا العالم وإعماره، خصوصاً وأنّ الناس بلحاظ توجههم إلى أمور دنياهم وتعلقهم بالماديات، وميلهم إلى تلبية حاجاتهم ورغباتهم المادية، يهتمون بها، من دون حاجة إلى توجيهٍ من النبيّ في هذه الشؤون.
12 ـ اختلاف الخطأ الواقعي عن الخطأ في الفهم ـــــــ
بالالتفات إلى ما قيل فإننا نذهب إلى استحالة الخطأ الواقعي في الوحي، حتى بالنسبة إلى الموارد المحدودة المرتبطة بشأن هذا العالم، وأما ذلك الجزء الذي يعدّ خطأ من وجهة نظر البشر، مثل: (السماوات السبع)، التي طبّقها بعض المفسرين السابقين على النظريّات القائمة على هيئة (بطليموس)، فهي في الحقيقة خطأ في الفهم، وتفسير خاطئ لها في مقام الكشف عن المراد الجدّي للمتكلم حدث بعد عصر النزول، وليس خطأ واقعاً في الوحي؛ ليقال: إنّ إحدى الطرق المتنوّعة لدفع هذا الإشكال والتخلص منه هو القول بأنّ المعنى من الله، واللفظ من النبي ’، إلى غير ذلك من الحلول الأخرى التي لا تقلّ فساداً عن القول بخطأ الوحي.
13 ـ من ضمان تطابق الحقيقة والصورة ـــــــ
قد يقال: صحيحٌ أنّ الكشف والشهود علم حضوري بالحقيقة، ولا يمكن فيه الخطأ، ولكن لبّ الكلام أنه ما هي الضمانة لكون العلم الحصولي، والصورة والمعنى الذهني، الذي ينطبع في ذهن المكاشف بعد حالة الوحي، يطابق العلم الحضوري؟ وبعبارةٍ أخرى: ما الذي يضمن صحة تحوّل العلم الحضوري إلى علم حصولي ومطابقتها لبعضها، والتقاط الذهن للصورة الصحيحة عن الحقيقة المشهودة والعصمة في بيان معلوماته؟
هل ضمان التطابق في مقام الثبوت أو الإثبات؟ ـــــــ
نقول في الإجابة عن هذا التساؤل: ما هو المراد من هذهِ الضمانة؟ هل المراد منها الضمان بلحاظ عالم الثبوت والواقع ونفس الأمر؟ أي أن السؤال في الحقيقة هو عن العلة والسبب في عصمته عن الخطأ، سواء أكانت تلك العلة وذلك السبب معلوماً لنا أو خافياً علينا؛ أو أن المراد من تلك الضمانة بلحاظ عالم الإثبات والعلم، وبالنظر إلى العلم بعدم خطأ المكاشف والموحى إليه في حكايته للحقيقة المنكشفة؟ أي أن السؤال عن ماهية ذلك الأمر الذي ندرك بواسطته عدم اشتباه وخطأ ذلك الشخص في ما أخبر به وحكاه؟ وبعبارة أخرى: هل السؤال عن علة ذلك الضمان أو عن دليله؟
إن كان المراد منه هو البحث عن علة الضمان بحسب عالم الثبوت والواقع، فجوابه كما تقدمت إليه الإشارة سابقاً هو أن المبدأ الغيبي، الذي يزيح الحجب من خلال كشفه المعنوي والصوري عن الحقيقة، هو الذي يلقي مفهوماً وصورة مطابقة لتلك الحقيقة على ذهن المبدأ القابل، وهو الشخص المكاشف والموحى إليه، ويبقيه عنده، قال تعالى ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ [الأعلى:6]، وفي الحقيقة إن ذلك المفهوم والصورة الذهنية هي الحقيقة المنكشفة من قبل المبدأ الغيبي، والتي ضعفت بسبب ارتفاع حالة الكشف والشهود، ورجوع المكاشف إلى حالته الاعتيادية، وفقدت أثرها الغيبي والخارجي المتحقق حالة الكشف، وتحولت إلى علم حصولي وصورة ذهنية ومفهوم، وهذا أمر وجداني يدركه المكاشف تلقائيّاً، كالأمور التي نراها في المنام؛ فنشعر بسعادة أو حزن، وتبقى في أذهاننا في اليقظة عنها صورة غير ذات أثر، ولكنها عين تلك الحقيقة المنكشفة لنا في المنام بالعلم الحضوري، أو الأشياء التي نشاهدها بأعيننا، ثم ندركها بعد إغماض أعيننا من خلال تصورها واستحضار صورها من مخزونات ذهننا وخيالنا، فالذي يتمّ إدراكه في الحالتين أمرٌ واحد بحسب الحقيقة، سوى أنّ الأوّل بسبب الحضور يكون عينيّاً وذا أثر، في حين يكون الآخر ذهنيّاً وعديم التأثير بسبب غيبته.
وعليه فإنّ الحقيقة المكتسبة بالكشف والصورة الذهنيّة المتحدة معها تكون عند مقام النبوّة الشامخ والعقل الكلي محفوظة من أن تطالها يد الوهم والخيال، وتكون مطابقة للواقع.
وللتوضيح أكثر حول هذه المسألة ينبغي الرجوع إلى مباحث العلم والوجود الذهني في كتب الفلسفة.
وإن كان المراد من ذلك السؤال البحث عن الدليل وسبيل العلم بعدم خطأ المكاشف في الحكاية عن الحقيقة التي يدعي أنه حصل عليها بالعلم الحضوري فجوابه: أما بالنسبة إلى النبي ’ والمعصوم× المبحوث عنه في المقام فالدليل الذي أثبت عصمته هو الدليل الذي يثبت عدم خطئه في الحكاية عن الحقيقة المنكشفة له، وصدقه في الإخبار عنها.
14 ـ حقيقة الوحي في القرآن الكريم ـــــــ
بعد أن قدمنا تحليلاً مجملاً عن معنى الوحي وحقيقته نشير إلى بعض الآيات والروايات ذات الصلة بهذا الموضوع، فنقول: إن كل من يتدبر بدقة في أسلوب القرآن الكريم يدرك أنه بألفاظه وتعابيره وحي وكلام الله النازل من ناحيته، وأن النبي الأكرم’ هو المتلقي للوحي والمأمور بإبلاغه.
ونظراً إلى عصمته وأمانته التي تمّ أثباتها في محله فإنّه ’ ليس له في البين من دور سوى الوساطة في إبلاغ كلام الله، لا أن تكون ألفاظ القرآن من صنعه ’، وإليك بعض آيات القرآن الكريم:
14 ـ 1 ـ عدم إطلاق القرآن على صرف معانيه ـــــــ
1 ــ يقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾]الشعراء: 192ـ195[، والمراد بالضمير في قوله: إنه وبه هو القرآن، وقوله: ﴿بِلِسَانٍ﴾ متعلق بـ ﴿نَزَلَ﴾، والقرآن اسمٌ للألفاظ الخاصة التي تتضمّن المعاني المخصوصة، ولا يقتصر القرآن على خصوص المعاني. ومما يؤيّد ذلك ويؤكده، ونزل على وزانه، قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل:102]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[يوسف:2]، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾[الرعد:37]، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾ [طه:113]، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الشورى:7]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف:3]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر:27ـ28].
وتدلّ هذه الآيات أنّ القرآن بقالبه وألفاظه العربيّة إنما هو وحيٌ من الله نزل على النبيّ الأكرم ‘.
2 ــ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾[القيامة:18].
إنّ المخاطب في هذه الآية بقوله ﴿فَاتَّبِعْ﴾ هو رسول الله ‘، وهي تدلّ بوضوح على أنّ الوحي والقرآن قد قرئ على النبي الأكرم ‘، والقراءة من شؤون الألفاظ دون المعاني.
14 ـ 2 ـ عدم إطلاق التلاوة على صرف معاني القرآن ـــــــ
3 ــ يقول تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران: 108؛ الجاثية: 6].
والتلاوة هي القراءة المتتالية والمتعاقبة، وقد أمر بها بالتفصيل، وقد وردت من عالم العقل والعقل البسيط والإجمالي للنبي ‘ إلى فضاء خياله وعالم مثاله، فتليت هناك بالتفصيل، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾.
4 ـ يقول تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 3ـ5].
وهذه الآيات صريحة في أنّ ما يبرزه النبي الأكرم ‘ عن الله تعالى في قالب الألفاظ والعبارات ليس سوى الوحي الذي ألقيَ إليه، وقد علمه إياه جبرائيل، ولم يكن للنبي ‘ أي دور في صبّ الوحي بقالبه اللفظي.
14 ـ 3 ـ نسبة إنزال القرآن إلى الله دون النبي ’ ـــــــ
5 ــ يقول تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام:19].
ويدلّ اسم الإشارة على أنّ هذا القرآن، الذي بلغ الناس، لم يكن لإرادة النبي ‘ واختياره أي دخل في صياغته وتصويره.
6 ــ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [المائدة:67].
تدلّ هذه الآية على أنّ الذي نزل من قبل الله على النبيّ الأكرم ‘ هو الذي يجب أن يبلغه إلى الناس، لا ذلك الذي صاغه النبي ‘ وهبط بمستواه ليناسب فهم الناس.
7 ــ يقول تعالى:﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه:2]
8 ــ يقول تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ [الإسراء: 106]
9 ــ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ﴾ [مريم: 97]
10 ــ يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1]
11 ــ يقول تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ [الأعلى:6]
12 ــ يقول تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]
13 ــ يقول تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 1ـ3]
هذه بعض الآيات التي وردت في هذا السياق، وبشكل عام فإنّ الآيات التي جاءت بلفظ (نزل) تدل على أن إنزال القرآن ليكون بمستوى فهم الناس لم يكن من قبل النبي ‘، وإنما هو أمر خارج عن حدود اختياراته، وقد تكفلت به جهة غيبيّة، ولذلك لا يمكن العثور على آيةٍ واحدةٍ تنسب إنزال القرآن للناس إلى النبي ‘ أوعرفته كفاعل للوحي ومصدرٍ له.
ولو فرضنا جدلاً أنّ ألفاظ القرآن كانت من صنع النبي وصياغته، ومع ذلك قرأها للناس على أنها من قبل الله، يكون ـ والعياذ ـ بالله كاذباً؛ حيث نسب فعله إلى الله تعالى.
14 ـ 4 ـ دلالة الآيات المصدّرة بلفظ (قُلْ) على المدَّعى ـــــــ
وهكذا هي الآيات المصدّرة بأمر ﴿قُلْ﴾، حيث تأمر النبي ’ بإخبار الناس بما يُذكر بعدها، فإنها تدلّ على عدم تدخل النبي ’ في صياغة قوالبها اللفظيّة؛ إذ ليس من المنطقي أن يصوغ النبي ’ العبارة ثمّ يأمر نفسه بقولها.
ولو كان النبي ’ هو الذي صاغ ألفاظ الوحي، لكي يجعلها مناسبة لفهم الناس، فما معنى الحروف المقطعة التي تفتتح بها بعض السور والتي لم يرد حتى الآن تفسير قاطع بشأنها؟ فإذا قلنا بأن للألفاظ مبدأ غيبي أمكن القول بأنّ هذه الحروف من أسرار الله، وأنها رموز بينه وبين نبيّه، وفي غير هذه الصورة تبقى هذه الحروف مبهمة.
15 ـ حقيقة الوحي في السنّة الشريفة ـــــــ
وأما الروايات الواردة في هذا الموضوع فهي كالآتي:
1 ــ عن الإمام الرضا×، في الجواب عن الفرق بين الرسول والنبي والإمام، أنه قال: <إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرائيل، فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه، نحو؛ رؤيا إبراهيم×: والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع؛ والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص>([4]).
وقريب من هذا المضمون الرواية الأولى والثالثة والرابعة من المصدر نفسه.
2 ــ وروي أنه سأل الحارث بن هشام رسولَ الله ’: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: <أحياناً مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّ عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال؛ وأحياناً يتمثل ليّ الملك رجلاً فيكلمني، فأعي ما يقول>([5]).
ويتضح من هذه الروايات ونظائرها أنّ النبي الأكرم ’ لا يتدخل في صياغة القوالب اللفظيّة للوحي، بل إن الألفاظ كالمعاني تصل إليه عن طريق مبدأ غيبيّ، وأن القول بأنّ النبيّ فاعل للوحي يستلزم، مضافاً إلى ما تقدم من محذور اجتماع النقيضين، محذور التقليل من شأن وقداسة الوحي، وذلك أنّ النبي وإن كان قد بلغ مقام ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾، إلا أنه لم يبلغ المقام المطلق للحقّ تعالى، ولم يصل إلى مرتبة وجوده اللامتناهي، ولن ينالها أبداً، وطبعاً لا تكون للوحي المستند إليه تلك القداسة والنزاهة وعلو المرتبة الثابتة للوحي المستند إلى الله تعالى، ومن هنا كان أصحاب النبيّ الأكرم ’ يسألونه أحياناً: <هل ما تقوله هو عن الله أو من عندك؟>، فإن قال لهم: بل هو من عند الله وأنه وحيٌ كانوا يذعنون له طائعين، وإلا وجدوا في الأمر سعة لأنفسهم، وأشركوا النبي في آرائهم.
الهوامش
(*) أحد مراجع التقليد في إيران، ويعدّ من أبرز فقهاء الحركة الإصلاحية الدينية، له مساهمات في الفقه الإسلامي.
([1]) الشواهد الربوبيّة، المشهد الخامس، الشاهد الأول، الإشراق السادس.
([2]) الفتوحات المكيّة، الباب 166.
([4]) أصول الكافي 1: 176، كتاب الحجّة، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث، الحديث 2.
([5]) صحيح البخاري، بدء الوحي، ح2؛ صحيح مسلم، قريب من هذا المعنى، باب عرق النبي في البرد وحين يأتيه الوحي 4: 1816، الحديث87.