أحدث المقالات

القضايا الاجتماعية للمرأة

على ضوء المدرسة الإسلامية والمدارس النسوية

د. مهدية السادات مستقيمي

ترجمة: فاطمة الموسـوي

إذا نظرنا إلى الإطار العام للنظريات المطروحة بشأن القضايا الاجتماعية للمرأة ومسيرة نشوئها وتبلورها في ظل الأطر الخاصة والثقافات المعينة، ثمّ أمعنا النظر في تعدّدية المذاهب والمدارس التي تهدف إلى توسيع دائرة القضايا الاجتماعية التي ينبغي للمرأة ممارسة نشاطها وحضورها الفاعل فيها، وعدنا قليلاً إلى أسس هذه المدارس والمذاهب ومبادئها، لاكتشفنا حقيقةً تفيد مدى تأثير هذه النظريات الفلسفية في تغيير وجهات النظر بشأن القضايا ذات الصلة بالمرأة في النطاق الاجتماعي.

وطالما كانت المرأة تشكّل نصف المجتمع البشري – من حيث السكان – بل قد تؤلّف تمام المجتمع بفضل ما تتحلّى به من مكانة تربوية ذات تأثير بالغ على الرجل الذي يؤلّف النصف الثاني للمجتمع، بات من الواضح أن يتمتع كلّ بحث للتطورات التي عاشتها المرأة في الإطار الاجتماعي بمميزاته وخصائصه المهمة في هذا المجال، وهنا تكمن أهمية التعرّف على النظريات الهامشية والسطحية والأسس والمبادئ التي تعرّضت لهذه القضية؛ ذلك لأنّ قضايا المرأة كافّة من قبيل إدارتها للشؤون الاجتماعية، مروراً بحقوقها ووظائفها الاجتماعية والسياسية، إلى جانب حقوقها وواجباتها الزوجية، إلى إدارتها للشؤون المنـزلية.. إنما تتأثر بالنظريات الاجتماعية التي أوردتها المدارس والمذاهب الفلسفية بهذا الشأن.

ومما لا شك فيه أنّ الكلمة الفصل في تقويم النظريات الاجتماعية في معالجتها لقضايا المرأة إنما تستند لدائرة المعرفة والإدراك التي تمثّل البنى التحتية للفكر البشري في الأصعدة والميادين كافّة، وعلى جميع المستويات التي تقع ضمن دائرة الفكر.

ومن بين الفلسفات التي تلعب دوراً بالغ التأثير في القضايا الاجتماعية للمرأة؛ فلسفة علم المعرفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، حيث تشكّل العناصر الرئيسية الإيجابية في تحديد الأنظمة الاجتماعية والأطروحات المتعلّقة بقضايا المرأة من جانب، وتؤثر في النظريات والأساليب والرؤى الفردية للمرأة من جانب آخر.

وتسعى المقالة التي بين أيدينا إلى تبيين النظريات الاجتماعية وما تعانيه من بعض المخاطر والمطبّات، إلى جانب استعراض رأي المدرسة الإسلامية وآراء سائر المدارس التي تنادي بسيادة المرأة في بعض المحاور المهمة المرتبطة بالقضايا الاجتماعية، كقضية اختلاط الرجل بالمرأة، والفصل بينهما في الوسط الاجتماعي، وحقوق المرأة، ومشاركتها في العملية التنموية، وممارستها للعمل خارج البيت، وما إلى ذلك من أنشطة يمكن أن تضطلع بها المرأة.

ولا يخفى أنّ هذه النظريات الفكرية تعدّ من الأبحاث الخطيرة التي حظيت باهتمام الإنسان على مدى الدهور والعصور.

 

دائرة تأثّر القضـايا الاجتماعيـة للمـرأة بالمذاهب الفلسفية

وثمرة الدراسات والتحقيقات في هذا المجال

لا يمكن إنكار تأثير الـنـزعات والمذاهب الفلسفية – بغض النظر عن مبادئها وأسسها – في القضايا الاجتماعية للمرأة، فالنظريات التي أفرزتها التحقيقات الأصولية التي تستهدف بيان الآلية الصورية والتحليل المنطقي للرؤى المطروحة بشأن مكانة المرأة، وتلك التي تمخضت عن التحقيقات القائمة على أساس تقويم قضايا المرأة، مضافاً إلى التحقيقات العملية التي تعرضت للوضع الراهن للمرأة إلى جانب تصوير الوضع المطلوب والسبل الكفيلة للوصول بالمرأة إلى الوضع الأفضل، تلك النظريات كلّها إنّما تستند إلى مذاهب فلسفية تتأثر – إلى حدّ بعيد – بالفرضيات والمبادئ التي تطرحها بشأن المرأة وقضاياها الاجتماعية، وبناءً على هذا، فإنّ إحدى القضايا المهمة التي ينبغي الالتفات إليها هي أنّ اختلاف الآراء ووجهات النظر بشأن قضايا المرأة في إطار النظريات والمناهج والقيم والمبادئ، لا يقتصر عليها في النظرة إلى مكانة المرأة ومنـزلتها وشأنها الاجتماعي وحقوقها وواجباتها وما إلى ذلك من الأمور المرتبطة بها، بل إنّ أغلب الاختلافات إنّما تفرزها – عادةً – الفرضيات والمبادئ الفلسفية والكلامية لهذه الأبحاث الاجتماعية. أمّا القضايا الرئيسية المرتبطة بالدائرة الاجتماعية لأنشطة المرأة وفعالياتها فيمكن تلخيصها في المحاور الآتية:

أ – مكانة المرأة ومنـزلتها بالنسبة لخالق الكون والوجود.

ب – حقوق المرأة بالنسبة لوجودها وشأنها.

ج – واجبات المرأة تجاه عالم الوجود وشؤونه.

فحدود تأثّر قضايا المرأة الاجتماعية تقع ضمن المحاور الثلاثة المذكورة.

على سبيل المثال، لو صنفنا الحقوق الاجتماعية للمرأة إلى نوعين هما: الحقوق الطبيعية والحقوق الاكتسابية (المكتسبة)، فإن الرؤى الفلسفية والكلّية ستلعب دوراً هاماً في تعيين حدود هذين النوعين وقيودهما.

ومما لا شك فيه أن جذور بعض الفوارق التي وضعت بشأن حقوق المرأة والرجل إنّما تعود في الواقع إلى أصل هذه النظرة، أو تلك التي تقول باختلاف حقوق المرأة عن الرجل، كما تخلص بعضها في نهاية المطاف إلى نتيجة تفيد عدم إمكانية تمتّع المرأة بذات الحقوق التي يتمتع بها الرجل.

والواقع أنّ الالتفات إلى طبيعة الثقافة والمجتمع والمدنية السائدة، وظروف تعدّد حيثيات واعتبارات قضايا المرأة، إلى جانب تداخل العلوم والمعارف البشرية، هذه الأمور برمّتها يمكنها أن توقفنا على مدى تأثيرها في هذا المجال، كما يمكنها في نفس الوقت أن تشير إلى الدقّة في كيفية ارتباط الرؤى بالأيديولوجيات، والفروع بالأصول في سائر مجالات العلوم الإنسانية، ومدى تأثر الدائرة الاجتماعية لقضايا المرأة بهذه الرؤى والنـزعات الفلسفية. أما دراسة هذه النـزعات الفلسفية المتعلقة بقضايا المرأة فإنها تنطوي على نتائج مفيدة يمكن خلاصتها بما يلي:

1-إنّها تسهّل عملية التعرّف على الحدّ الفاصل بين المبادئ والأسس الفلسفية للنظريات الاجتماعية المختلفة، والمبادئ والأسس الفلسفية للنظريات الدينية المعتمدة في هذا الشأن.

2- إنّها تسهّل تصنيف النظريات الاجتماعية على ضوء المبادئ والأصول الفلسفية، وتشخيص ما يترتب من فوائد يفرزها هذا النوع من التصنيف.

3-دراسة الجذور الفكرية والأصول الأساسية التي يعتمدها المنظّرون في نظرياتهم وأطروحاتهم، كونها تشكّل اللوازم الأساسية للنظريات الاجتماعية التي قد يغفل عنها المنظّرون أنفسهم.

4-بيان المبادئ الفكرية والأصول الأساسية للنظريات الاجتماعية المطروحة بهذا الشأن للقرّاء والمخاطبين الذين لا يسعهم إدراك صحّة وسقم أي موضوع إلاّ من خلال تصويب الرؤى والأطروحات الاجتماعية.

5-توضيح الجذور الفكرية والبنى الأساسية الفلسفية للنظريات الاجتماعية لمن يروم معرفة وتقويم علاقة هذه النظريات والأطروحات بسائر الأيديولوجيات المطروحة بهذا الخصوص.

6-الانعكاس غير المباشر لمسار التطوّر في المتطلّبات الفلسفية والأفكار التي تمثل البنى التحتية للفكر البشري.

7-السهولة في كيفية ترابط الأطروحات والنظريات الواردة بشأن القضايا الاجتماعية للمرأة بعضها ببعض على أساس ارتباطها بالأسس والمبادئ الفلسفية.

8-إيجاد الحلول والمعالجات العملية لتصحيح الآراء الفاسدة بشأن القضايا الاجتماعية للمرأة، من خلال تصوير عمق فسادها وانحرافها، مع الطعن فيها وتقديم البديل الصالح.

9-إيجاد الحلول العملية بالاستناد إلى وجهات النظر الصائبة بشأن القضايا الاجتماعية للمرأة، ومن ثمّ الخوض في تفاصيل وجهات النظر هذه والكشف عن عمق مبادئها وأصولها الفلسفية.

10-إعداد الإحصاءات والخطوط البيانية ليتسنّى من خلال اعتماد استقراء الاحتمالات التكهّن مستقبلاً ببعض النظريات التي تطرح بشأن القضايا الاجتماعية للمرأة على ضوء تطوّر النظريات الفلسفية.

 

دائرة تأثير الإدراك والفلسفة على القضايا الاجتماعية للمرأة

لقد أدّت كثرة المعلومات واتّساع الفرضيات وازدياد النظريات وتعدد المدارس العلمية والمذاهب الفلسفية إلى أن تتطلع البشرية إلى الآراء المختلفة بشأن قضايا المرأة الاجتماعية على ضوء أنواع التقنيات والمعارف السلوكية والصيغ والأطروحات الفكرية التي عالجت هذا الأمر. إلاّ أن المسألة التي ينبغي الالتفات إليها وعدم تجاهلها في هذا المجال هي دائرة تأثير الإدراك والفلسفة على القضايا الاجتماعية للمرأة.

ومما لا شكّ فيه أنّ تعدّد القراءات الثقافية والنـزعات الفلسفية الخاصة، وحتى النـزعات اللادينية، وأحياناً تأريخ وجغرافيا الأجواء السياسية والنهضات العلمية والثقافية والفلسفية، إنمّا تلعب دوراً خطيراً وبارزاً في تحديد كمية وكيفية الآراء التي تعالج القضايا الاجتماعية للمرأة.

والمراد بدائرة الإدراك والفلسفة المؤثرة على القضايا الاجتماعية للمرأة تلك المجالات والميادين التي تشمل الفروع المختلفة من قبيل فلسفة العلم، فلسفة السياسة، فلسفة الأخلاق، فلسفة التأريخ، فلسفة علم النفس، فلسفة الجمال والفلسفة السلوكية وما إلى ذلك من فلسفات. والواقع إنّ للآراء الوجودية – التي تنطوي على معارف تؤدي إلى حصول علم يقيني وضروري – تأثيراً معيناً على النظريات الاجتماعية المطروحة بشأن المرأة، بينما هناك تأثير من نوع آخر تلعبه الآراء الفلسفية الحسية والشكّية على تلك النظريات.

فهناك بعض المذاهب الفلسفية التي تُنكر معرفة العقل، في توجد مدارس فكرية قائمة أساساً على علوم المعرفة، والمرتكزة على أصالة العقل والنقل والدين، المستند بدوره عليهما. ومما لا شك فيه، هناك تأثيرات مختلفة باختلاف الأسس والأصول التي تنطوي عليها المدارس الفكرية، وبالتالي ما تسوقه من نظريات اجتماعية بشأن المرأة، فعلى سبيل المثال، ثمّة بون شاسع بين آراء من يقول بنسبية المعرفة في الأبحاث الفلسفية للعلوم والمعارف الدينية، ولا يقرّ بالمبادئ الفكرية المسوغة لاستمرار اجتهاد الفقيه واستنباطه للأحكام الشرعية المختصة بالمواضيع المستحدثة، ولا يتعامل مع آراء الفقيه إذا ما اعتمد نظريةً بشأن المسائل المستحدثة في مجال التطورات الاجتماعية لقضايا المرأة، وآراء من ينتمي إلى مدرسة فلسفية تثبت العلم والمعرفة وتعتمد عليهما في معظم الأمور ومختلف المجالات، كما يعتقد بضرورة ديمومة الاجتهاد في كل زمان، ويرى أنّ المجتهد إنّما يتحرك على ضوء دائرته الطبيعية والاجتماعية للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي، حيث يستفرغ ما في وُسعه لاستنباط أحكام المسائل المستحدثة على ضوء القواعد والأصول المنصوص عليها في الشريعة، فعلم المعرفة ليس منفصلاً عن علم الوجود، كما أنّ هذين العلمين لا ينفصلان قط عن القوانين الفرعية والجزئية المرتبطة بنظام الحقوق والواجبات.

فمن لا يؤمن بالغيب، ويراه نوعاً من الخرافة، من الطبيعي أن يحذف من حساباته القوانين الاجتماعية التي تعالج الشؤون المستقبلية قبل تحقّقها، وعليه فهو ينكر شطراً كبيراً خارج هذا العالم ويغفل حتى عن تصوّره. أمّا من يؤمن بالعقلانية المطلقة، ولا يرى من حدود في التعامل مع تلك العقلانية، فإنه لن يحيد عنها، بل لن يتخلّى عنها في الأحكام الجزئية والفرعية التي يعتقد بعقلنتها.

 

المكانة الاجتماعية للمرأة

على ضوء النظرة الإسلامية والنظرة القائلة بسيادة المرأة

من الخصائص المميزة لأصحاب نظرية سيادة المرأة ومساواتها مع الرجل الدفاع عن المرأة وحقوقها الاجتماعية أكثر من إحياء شخصيتها الاجتماعية وعلاقاتها الاجتماعية الصحيحة، فلا ينبغي للمرأة أن تكون أقلّ شأناً وأوطأ درجة من الرجل: ((إن القول بسيادة المرأة لا يمثل حركة فكرية واحدة، غير أن جميع القائلين بهذا الأمر – سيادة المرأة – يعتقدون بضرورة إدراك وفهم هذه الحالة السلبية، وهي الدونية في الشأن، والعمل على إزالتها، مع ذلك فهم لا يتفقون على تحديد العناصر التي تقف وراء هذه الشأنية المتنـزلة ولا على كيفية التوصل إلى تحرير المرأة من خلال إزالة تلك العناصر))([1]).

وعليه، فإنّ كافة دعاة سيادة المرأة يرون أنّ أهم قضاياها الاجتماعية إنما تكمن في مظلوميتها، غير أن البعض منهم كالجناح الراديكالي إنمّا ينظر إلى المرأة على أنها شريحة اجتماعية ويضيف: ((للنساء مصالح مشتركة، حيث عانين من ظلم الرجل واضطهاده، وعليه فانهنّ يؤلفن شريحة اجتماعية تقف على الضدّ من الشريحة الاجتماعية التي يؤلّفها الرجل))([2]).

أَمّا الاتجاهات الماركسية والاشتراكية واستناداً لأيديولوجياتها الفكرية المادية، فترى نفسها مضطرةً لعرض التحليلات الثنائية بشأن تحديد المكانة الاجتماعية للمرأة، فتطرح قضية الفوارق الطبقية إلى جانب قضية سيادة الرجل الممقوتة عالمياً – حسب زعم أنصار سيادة المرأة – حيث ينسجم هذا الطرح مع النظم الفكرية الماركسية. أَمّا النـزعة الاشتراكية فتطرح التفسير الاقتصادي لقضية المرأة: ((فعلاقة المرأة بالنظام الاقتصادي كعلاقتها بالرجل))([3]). إلاّ أنّ بعض أنصار مذهب سيادة المرأة يعترض على هذا التفسير الذي يقتصر على إبراز الطبقية الاقتصادية بين الرجل والمرأة، ذاهباً إلى نوع آخر من الطبقية على حد زعمه بين الرجل والمرأة، وهو الاعتقاد بأنّ الظلم الذي تفرزه ظاهرة سيادة الرجل وتسلّطه على المرأة كان وما يزال مقدّماً على الظلم الذي ينبثق من التفاوت الطبقي الاقتصادي الذي ينشأ في ظل النظام الاشتراكي في توزيع وسائل الإنتاج.

أمّا أصحاب نزعة سيادة المرأة من التيار الليبرالي فهم يشتركون مع سائر أنصار هذه القضية من خلال المطالبة بإزالة التمايز الطبقي بين الرجل والمرأة: ((فقد خاضوا في الدفاع عن حقوق المرأة على أَساس مبدأ المساواة الذي يصرّح بتمتع المرأة بذات الحقوق التي منحت للرجل))([4])، الأمر الذي جعلهم يرفضون القوانين والأنظمة الحقوقية التي اختصّت بالرجل ولم تصرّح بمثلها للمرأة، بل قد اندفع أنصار المساواة أبعد من ذلك فوقفوا بوجه القوانين التي شرّعت في إطار الدفاع عن مساواة المرأة ومنحها بعض الامتيازات، ثم بالغوا أكثر من ذلك، ولم يكتفوا حتى بالمساواة، فدعموا القوانين التي تمنع من الأصل مبدأ التمييز بين المرأة والرجل([5]).

أما أنصار هذا المبدأ المعاصرون، فهم يعتقدون بضرورة الفصل بين الجنسين، ويرون وجوب إقامة سدّ شامخ يفصل بين عالم المرأة وعالم  الرجل بالشكل الذي لا يمكِّن الرجل من اختراقه، ومن ثم، الاعتداء على حرمة عالم المرأة والنيل من كرامتها.

أمّا المرأة على ضوء الشريعة الإسلامية، فهي تتمتع بقيمة ومنـزلة وكرامة قلّما يمكن العثور على نظيرها في سائر المدارس والمذاهب الفلسفية، بل لعلّه يمكن القول: إنّ الإسلام كان الرائد في منح المرأة دورها اللائق في المجال الاجتماعي في ظل العدالة الإسلامية، بالشكل الذي يجعل من المتعذر مقارنة مكانتها تلك مع ما نصّت عليه سائر المدارس الأخرى.

بل لعلّنا لا نبالغ إذا قلنا: إنّ المحورَ الرئيسي والقسم الأعظم من التعاليم الإسلامية إنمّا اختص بالدفاع عن حقوق المرأة، ورفض مختلف أنواع الظلم والاضطهاد الذي يُمارس ضدها، إلاّ أنّ النظرية الإسلامية التي تتبنى حقوق المرأة إنمّا تدور مدار الأحكام الشرعية والقوانين الإلهية، على العكس من أغلب التيارات والاتجاهات التي تبنّت ذات الحقوق غير أنها لا تستند فيها إلى السماء،
فهي مثقلة بالشوائب والأوزار التي تجعل من السهل الطعن فيها وعدم الوثوق بمصداقيّتها.

ولم يكتف الإسلام في إطار دفاعه عن المرأة في إحقاق حقوقها فحسب، بل استهدف إشعارها بشخصيتها الحقيقية في الميادين كافة، سيّما على الصعيد الاجتماعي وبشكل مبرمج ومنظّم يبتعد عن كافة أشكال الحب والبغض والانفعال وما إلى ذلك من الاُمور الغريزية التي طغت على سائر المذاهب التي تعاملت مع الموضوع ذاته، فما زالت الآثار السلبية السيئة لبعض التيارات والاتجاهات الفكرية التي نادت بالدفاع عن حقوق المرأة تشاهد بوضوح في عالمنا المعاصر، فتصدّع كيان الأسرة، وتحطيم شخصية المرأة، وتحويلها إلى سلعة تجارية، وانهيار الأواصر والعلاقات العاطفية داخل الأسرة، وتشتتها الروحي، والحيرة والقلق الذي يلفّ أبناءها.. إنّما تمثل النتائج الطبيعية لما نادت به تلك المدارس والمذاهب الانفعالية، فالواقع أنّ العقيدة الإسلامية لا ترى ثمّة تضادّ بين الرجل والمرأة، وبالتالي فهي لا تزجّ بهما في منافسة غير عادلة، بل تراهما وجهين لعملةٍ واحدة، لذلك فالإسلام يسنّ القوانين والأحكام الشرعية في مرحلة العمل، كما تطرح القوانين الأخلاقية وتطرح الرؤية الكلية الرصينة التي تتكفّل بتنفيذ تلك الأحكام وتطبيقها على مستوى الواقع.

لقد مارست المدارس والمذاهب التي رفعت شعار مساواة المرأة مع الرجل نوعاً من التحقير والإهانة للمرأة باسم الدفاع عن حقوقها، وليتها اكتفت بهذا الحد، بل أخذت تهاجم القوانين والأحكام الإسلامية السامية التي تبنّت حقوق المرأة وعملت على تحريرها ومنحها ثقتها بنفسها، فقد صرّح أصحاب ذلك الشعار بعدم جدوى النظام الحقوقي للمرأة في الإسلام، ناهيك عن توجيه التهم والافتراءات والتشنيع على القوانين الإسلامية، الأمر الذي تتصاعد حدّته من حين لآخر للنيل من الشريعة السمحاء.

لا شكّ أن النظرة إلى المكانة الاجتماعية للمرأة انما تتبلور في ثلاثة عناصر:

1- النظرة إلى شأنها الحقيقي في المجتمع.

2- القوانين الحقوقية الاجتماعية من حيث الكمّ والكيف.

3- الوظائف القانونية والأخلاقية والإلهية في البيئة الاجتماعية.

أمّا توضيح الاختلاف بين المدرسة الإسلامية وسائر المدارس التي تنادي بسيادة المرأة في إطار النظر إلى القضايا الاجتماعية للمرأة ومكانتها ومنـزلتها في المجتمع، فإنما يكمن في أسس ومبادئ كل مدرسة بشأن المواضيع والمحاور المرتبطة بقضية المرأة، وكما أشرنا في المقدمة فإنّنا سنسلّط الضوء على كافّة المذاهب الفلسفية – وفي مقدمتها الفلسفة الإسلامية – لنتعرف على وجهات نظرها بشأن بعض المواضيع الاجتماعية الساخنة المتعلّقة بالمرأة، والتي ستؤدي في خاتمة المطاف إلى انفصال المدرسة الإسلامية التي تتميز بآرائها المستقلّة بهذا الشأن.

 

الاختلاط بين الجنسين

يمكن دراسة هذه القضية الاجتماعية على ضوء الآراء التي صرحت بها المدرسة الإسلامية، وسائر المدارس التي تبنت هذه المسألة على أساس المبدأ العام القائل بمساواة المرأة مع الرجل، فبعض هذه المدارس تستنكر – وبشدّة – قضية الفصل بين الجنسين، ولم تنفك منذ ظهورها ولحد الآن عن طرح بعض المفاهيم العصرية في إطار تحليل الأوضاع الاجتماعية للمرأة، غير أنّها تنادي باتّساع رقعة حقوق المرأة في ممارستها للنشاط الاجتماعي على الأصعدة والمستويات كافّة.

إنّ هذه التيارات تعتقد أنّ مبدأ سيادة الرجل أو الأب – سواء وفق المنظار الفلسفي والدائرة الاجتماعية أو على مستوى القضايا الأيديولوجية والفكرية والعلمية – هو الذي كان وراء إضعاف مكانة المرأة والحطّ من شأنها وهضمها حقوقها. إنهم يرفضون قضية وجود المرأة في المنـزل رفضاً قاطعاً ولا يرون للمرأة من حياة إلاّ بالمقدار الذي تمارس فيه دورها الاجتماعي خارج المنـزل، فقد صرح آندريه ميشيل في كتابه (الحركة الاجتماعية للمرأة) قائلاً: ((لقد سعت الاتجاهات المستغلّة للمرأة إلى فصل الحقل الخاص – المنـزل – عن الحقل العام – المجتمع – فمنحت الأولوية في الحقل العام للرجل، وساقت المرأة إلى الحقل الخاص. ولا ريب ولا شكّ أنّ هذا يمثل تمييزاً وعنصريةً سياسية تستتبع علاقة اجتماعية تفيد تبعية المرأة للرجل واستغلالها من قبله))([6]).

وبسبب هذه النظرة الضيقة التي ترى أنّ عملية إنقاذ المرأة من عبودية الرجل مرهونة بحضورها الفاعل في المجتمع، فقد طرح تساؤل بشأن ضرورة ممارسة المرأة لنشاطها الاجتماعي في المجالات التي ينشط فيها الرجل، وهو: هل ينبغي الفصل بين الرجل والمرأة في الأوساط الاجتماعية أم لا؟ قد يمكن القول ببساطة: إنّ أكثر الأوساط ترى أن الفصل بين الجنسين إنما يعود إلى الرؤية الاُحادية للرجل في هذا المجال، لا الرؤية الواقعية المطلوبة، الأمر الذي جعل الأصوات ترتفع من بعض الاتجاهات مطالبةً بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق كافة، ومن الطبيعي أن يترتب على تلك المساواة الحضور الفعال للمرأة إلى جانب الرجل في الميادين والمجالات كافّة.

إنّ تلك التيارات تعارض أي تحديد للمرأة، ولا شكّ أنّ الفصل بين الجنسين يمثّل تحديداً للمرأة وعقبةً أمام تطوّرها ورقيها، وهنا انبرت بعض الاتجاهات لتعمل على تحطيم تلك العقبات – وفي مقدمة هذه الاتجاهات، المذاهب الاشتراكية والماركسية والليبرالية والعلمانية – دون أن تكترث من قريب أو بعيد بالاتجاهات الدينية، وما تنطوي عليه من تعاليم أخلاقية بشأن مراعاة العفّة والورع والتقوى في اختلاط المرأة بالرجل وممارستها لدورها الاجتماعي، لقد بدت بعض المذاهب التي تتبنى فكرة سيادة المرأة منتقدةً حتى لعلوم الاجتماع: ((على أنها تناولت قضية الرجل بالبحث والدرس وخاضت في النظريات التي تضمّنت حقوق الرجل، غير أنّها أهملت أغلب الموضوعات والمسائل المرتبطة بالمرأة، ولم تولها أدنى اِهتمام))([7]).

وتضيف هذه المذاهب أنّ التصنيف السائد، وطبيعة توزيع العمل، واعتماد مصادر القدرة، إنما نُظم بالشكل الذي يحطّ من قدر المرأة ويجعلها أقل شأناً من الرجل، فيما يمكن للمرأة النهوض بمسؤوليتها التأريخية، وممارسة أنشطتها الاجتماعية حتى في الأوساط ذات الظروف القاسية والأجور الزهيدة.

والحال أنّ هناك من أنصار نفس هذا المبدأ – سيادة المرأة – من الذين يعتبرون أكثر تجدّداً وعصرنة من سابقيهم ممن ذهب إلى العكس من ذلك تماماً، فهم يؤمنون بالعزل والفصل بين الجنسين لأنّهم يرون بأنه يشكل العنصر المهم الذي سيجعل المرأة في مكانة أرفع، ويمنحها رقيّها وتطورها في حياتها الاجتماعية.

ويبدو أنّ هذه النظرية – التي تتبنى الفصل بين الجنسين – تلاحظ الآن بوضوح في مجتمعاتنا الإسلامية من خلال المقالات والخطابات التي أوردها غير واحد في الأوساط الاجتماعية، والحق أنّ ظاهر هذه النظرية يشبه إلى حدّ بعيد جوهر النظرية الدينية بشأن العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة، لكن هناك بوناً شاسعاً بين تلك النظرية – من حيث الرؤى ووجهات النظر والأهداف والصيغ التطبيقية – وما عليه الحال في النظرية الدينية، فالنظريات العلمانية التي تطرح هذا الأمر – عدم الاختلاط بين الرجل والمرأة – لا تلتفت البتّة إلى الأحكام الشرعية والتعاليم الدينية والوصايا الأخلاقية بشأن العلاقة التي يجب أن تحكم الجنسين، وإنمّا تنظر إلى تلك القضية من خلال بعض الخصائص التي تميز عالم المرأة، إلى الحد الذي جعل القائلين بتلك النظرية يعتقدون بضرورة تبلور الكفاح النسوي في ظل الجمعيات والمؤسّسات النسوية التي يمكنها أن تخدم المرأة في هذا المجال أفضل من الدين([8]).

كما تصرّح الحركات الأكثر عصرنةً الداعمة لسيادة المرأة ومساواتها للرجل بضرورة إدراك المرأة لخصائصها الذاتية ووثوقها بفكرها وعلمها وسعة أفقها.

أما النظرية الإسلامية التي تعرّضت لموضوع الفصل أو الاختلاط بين المرأة والرجل في الأوساط الاجتماعية، فقد تكفّلت ضمان الحقوق الإنسانية والطبيعية، وحتى الحقوق الخاصّة المرتبطة ببعض الخصائص الجنسية، إلى جانب حرصها التام على العناصر الأخلاقية وتوفير الأمن الفكري والروحي، وإشاعة مفاهيم العفّة والتقوى والورع، وفسح المجال أمام الرجل والمرأة لخوض المنافسة الشريفة العادلة والتسابق والمسارعة في الخيرات، فالنصوص الإسلامية صريحة في إرادة الفصل بين الرجل والمرأة في بعض الظروف الخاصّة، إلى جانب الحدّ من الاختلاط في الأوساط العامّة، والتي لا تستلزم أساساً تجاوز بعض الأصول الشرعية، وهذا ما يشاهد بوضوح في السيرة العملية للرسول الأكرم(ص).

إلاّ أنّ ما يجدر ذكره في هذا المجال هو أنّ هذه الوصايا والإرشادات الإسلامية لا تعني أنّ الرجل والمرأة – واستناداً إلى الفوارق التي تحكم طبيعتهما – لا يستطيعان أن يكونا معاً إلى جانب بعضهما بعضاً، أو حتى لا يمكنهما خوض المنافسة الشريفة معاً، بل الهدف منها تمهيد السبيل أمام سيادة العفّة، والأمن الفكري والاجتماعي، ومضاعفة مسيرة التسابق بين المرأة والرجل في الميادين التي ينشطان فيها معاً.

إنّ الإسلام حين ينادي بالفصل وعدم الاختلاط، لا يريد تكوين مفهوم التضادّ بين المرأة والرجل جنسيهما، بحيث يقف كلّ منهما بوجه الآخر، بل هدف الإسلام هو احترام الحقائق التكوينية والخلقية التي ضمنت لكل من الجنسين رقيّه وتكامله على ضوء ما أودع فيه، ولا تكتفي التعاليم الإسلامية التي تبنّت مفهوم الحجاب باقتصاره على ظاهر المرأة فقط، فكان لابد من التأكيد على جانب الحياء، وتوجيه السلوك، ورعاية الوقار في الوسط الاجتماعي، بما يضمن امتثاله ورعايته على مستوى الباطن والجوهر، الأمر الذي جعل التعاليم الدينية تؤكّد على مراعاة التقوى والعفة حين الاختلاط، فضلاً عن الحثّ على الفصل قدر المستطاع.

ولا يهدف الإسلام من هذا الفصل سوى احترام المرأة وحفظ أنوثتها والنأي بها بعيداً عن مطامع مرضى القلوب الذين يصوّبون سهام غرائزهم نحوها، وهذا ما صرّح به القرآن ليفصح عن حكمة تشريع الحجاب، فقال عزّ من قائل: >ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا<([9]).

فتأكيد الشارع على ممارسة المرأة لدورها الاجتماعي مع رعاية جانب التقوى والورع – كقولـه تعالـى: >وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَاب…<([10])، وسائر الآيات القرآنية الواردة بهذا الشأن من قبيل قوله: >ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ وإن يستعففنَ خير لهن<([11]) – يدلّ على أن الرجل والمرأة إنمّا يكونان أقرب للتقوى والورع والطهر الذي يمثل جوهر الشريعة بقدر رعايتهما للستر والحجاب، والابتعاد عن الاختلاط غير الضروري في الأوساط الاجتماعية.

فالنفس جوهرة مجرّدة في ذاتها، إلاّ أنها تحتاج إلى المادة في أفعالها؛ وبعبارة أخرى فالنفس الإنسانية ليست ذكراً ولا أنثى، غير أنّها لا تستغني عن الجسم المادي في نشأتها الحسّية حين ممارستها لحياتها الطبيعية والمادية، فقد يكون هذا الجسم المادي ذكراً أو أنثى.

لقد بلغ من تأكيد الإسلام على سلامة شخصية المرأة وحفظ حرمتها في الأوساط الاجتماعية إلى الحد الذي أوردت الكثير من النصوص في هذا المجال، منها: ما روي عن الإمـام الصـادق



(ع)



 أنـه قال: ((نـهى رسول الله(ص) أن يدخل الرجال على النساء إلاّ بإذنهنّ))([12]).

فالإسلام لا يكفّ عن توجيهاته وإرشاداته بالتحلّي بالأخلاق والآداب والعفّة في كل نشاط اجتماعي تمارسه المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، ولم يغفل عن تحديد الإطار العام الذي ينبغي للمرأة أن تقف عنده حين ممارستها للنشاط الاجتماعي: ((إنّ كل ما يجرّ إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه))([13]). فليس هناك من غبار على قضية ممارسة المرأة للنشاط الاجتماعي على ضوء النظرة الدينية، بل ورد الحث عليها من جانب السنّة النبوية الشريفـة، فقد روي ((أنّ رسـول الله(ص) خرج بالنساء في الحرب، فكنّ يداوين الجرحى و… ))([14])، وقد وفدت مجموعة من النساء على النبي(ص) في معركة خيبر، فتقدّمت ممثلتهن أم سلمة وقالت لرسول الله(ص): إنّا نريد أن نخرج معك في وجهك هذا، فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا([15])، فجزاهن النبي(ص) خيراً على هذا الحضور الاجتماعي والسياسي الفعّال إلى جانب الرجال، ثم أذن لهن بالاشتراك في المعركة، بل دعا رسول الله(ص) لأم سلمة حين حملت خنجراً، وانطلقت إلى الميدان دفاعاً عن الإسلام.

أَما التعاليم الدينية التي حثّت على الحضور الاجتماعي الفاعل للمرأة في ميادين العلم، وتعلّم العلوم والمعارف، فهي من الأمور التي لا تشوبها شائبة، فقد ورد في الحديث المأثور: ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة))، غير أنّ ما ورد التأكيد عليه في التعاليم الإسلامية أيضاً هو أنّ المرأة – وفي إطار ممارستها لوظائفها وحقوقها الاجتماعية – حتى في الفصول الدراسية وطلب العلم والمعرفة لابدّ أن تحافظ على حدود العفّة، وعدم انتهاك حرمة أنوثتها وتمهيد السبيل أمام وقوعها فريسةً لأطماع الرجال وشهواتهم.

فقد روي أنّ أبا بصير قال: كنت أقرئ امرأةً كنت أعلّمها القرآن، فمازحتها بشيء، فقدمتُ على أبي جعفر(ع) فقال: ((أي شيء قلت للمرأة؟)) فغطيت وجهي، فقال(ع): ((لا تعودن إليها))([16]).

إن الإسلام يولي عنايةً فائقة للتعقل وموزانة الأهم والمهم بعد تحديدهما، وهي القاعدة التي تمثل تقنيناً فقهياً بشأن المستحبات والوصايا الإرشادية للديانة الإسلامية. والإطار العام لهذه القاعدة يفيد ضرورة الاحتراز عند الإتيان ببعض المستحبات، من قبيل تعليم القرآن للآخرين في أجواء مختلطة، إذا كان ذلك المستحب يؤدي إلى الوقوع في فتنة وفساد، أو يفوت بعض الأمور المؤكدة في الشريعة، فتعليم القرآن على ضوء القاعدة المذكورة أمر مهم، إلاّ أنّ عدم الوقوع في الفتنة والفساد يشكّل أَمراً أهم، والعقل يدعو بدوره إلى تقديم الأهم علىالمهم. وهذا ما نلمسه بوضوح في السيرة العملية للنبي الأكرم(ص) حين أمر بتخصيص بابٍ لدخول النساء وخروجهنّ في مسجده.

 

وقفة مـع المباني الفلسـفية

للنزعات النسـوية بشـأن المـرأة وقضـاياها الاجتماعية

كما أشرنا سابقاً، هناك على الدوام مجموعة من المبادئ التصورية والتصديقية، والبنى الأساسية والأصول الموضوعة والمتعارفة، والفرضيات الفلسفية التي تؤلّف النظريات الفرعية والجزئية، وكل نظرية ليست بمعزل عن المبادئ الفلسفية، ولكلّ من المدرسة الإسلامية والاتجاهات التي تزعمت فكرة سيادة المرأة رأيها في الفلسفة الوجودية وعلوم المعرفة، والوجود والعدم، والواجبات والمحظورات، بالشكل الذي يميز المبادئ والأصول الأساسية لكل مدرسة عن المدرسة الأخرى.

على سبيل المثال، حين أكّد أنصار نزعة سيادة المرأة – الأكثر تجدداً من غيرهم – على ضرورة إقامة سدّ عظيم يشكّل حاجزاً بين عالم المرأة وعالم الرجل لا ينبغي اختراقه، فإنّهم إنّما توصلوا إلى ذلك من خلال أطروحاتهم الفكرية في علوم النفس والاجتماع، على أساس روحية المرأة والرجل وسلوكهما القائم على نظريات المدرسة السلوكية التي يتبنّاها أصحاب تلك النـزعة الفلسفية، فمن الخصائص التي يتميز بها أنصار هذه النـزعة: ((تأكيدهم على حفظ الخصائص النسوية بالاستناد إلى علوم النفس السلوكية، واعتقادهم بأنّ الاعتقادات كافة في العالم يمكنها أن توجد أنواعاً جديدة من الظلم والاضطهاد))([17]).

ويبدو أنّ المباني النظرية والبنى الفلسفية وعلوم المعرفة والفرضيات الفلسفية لعلوم النفس والاجتماع واللغة هي التي توجّه مثل هذه الأفكار وتقودها، وقد لعبت بعض فلسفات المعرفة والإدراك التي تخضع لعدد من النظريات والفرضيات دوراً مضطرداً في التأثير على هذه الأفكار، فقد ذهب علماء النفس الاجتماعي منذ عهد كورت لورين: ((إلى أنّ الأسلوب الأفضل في التعرّف على السلوك الاجتماعي هو ما يتوصّل إليه الذهن البشري من الظواهر العالمية دون إخضاع هذه الظواهر للدراسات العينية، فالسلوك الاجتماعي إنّما يتمّ التعرّف عليه من خلال الفهم والتصوّر…))([18]).

فالسلوكية من لوازم النظريات التي تنادي بالمساواة بين الجنسين – أو سيادة المرأة – حيث تنتمي إلى مدارس العلوم النفسية التي تعتبر أميركا اليوم إحدى قواعدها الرئيسية في العالم، ((حيث يعتقد أتباع المدرسة السلوكية أنّ الذهن ليس حقيقةً منفصلةً عن البدن، وليس هناك شيء مستقل اسمه الشعور والذهن، ولكلّ كائن حي سلوك في ظل الظروف والعوامل الفسيولوجية، وأعمال يقوم بها تتم عن طريق الدماغ))([19]).

((ويشير هذا الاصطلاح – أي السلوكية – إلى أطروحة تبنّتها المذاهب التجريبية الحديثة، ومدلوله يفيد أنّ كل اصطلاح وصفي في لغة العلوم بما فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية يرتبط بمفردات تبيّن الخواص التي يمكن مشاهدتها في الأشياء، الأمر الذي جعل من المتعذّر التكهّن بالتعامل مع القضايا والمشاكل الميتافيزيقية، فهي عبارة عن قضايا تفتقر للموضوعية الواقعية، حيث وردت بهيئة مركبة من العلوم النفسية والفيزيائية للمدرسة المعروفة – السلوكية – التي منحت الأصالة للسلوك))([20]).

وطالما كانت المدارس الفكرية المعاصرة التي تبنّت أطروحة المساواة، تتعاطى مع هذا الاتجاه الفلسفي وتتفاعل معه، كان من الطبيعي أن تولي هي الاُخرى الأصالة للسلوك أيضاً، اعتماداً على المدرسة السلوكية التي قالت بذلك.

ولا يراد به طبعاً مطلق السلوك، بل السلوك الذي يتأثر فقط بالعينيات والمحسوسات، ومن المسلّم به أَن الفيلسوف الذي لا يعتبر جوهر الفكر حقيقةً متعاليةً ومتمايزةً عن البدن، ولا يؤمن بوجود فطرة أصيلة مشتركة للمرأة والرجل، ويختزل تمام الأشياء في الطبيعة، سينساق قطعاً للاعتقاد بوجود الفارق الجوهري بين عالم المرأة وعالم الرجل حين يروم التمييز بين طبيعتيهما ووضعهما الجنسي والفيزيائي.

ولا ننكر – بالطبع – أبداً الفارق بين المرأة والرجل من حيث التأثير الفيزيائي والعضوي للبدن على المشاعر والأفكار، غير أنّ الذي نرفضه رفضاً قاطعاً المبالغة والإفراط في التأكيد على هذا الفارق، حيث تذوب في ظلّه الحقيقة الإنسانية المشتركة بين الرجل والمرأة. وبصورة عامّة يمكن القول: إنّ الذين يعتقدون بأصالة السلوك يعتقدون أيضاً بأصالة الحسّ والتجربة في إطار الفكر الفلسفي، وعلى ضوء هذه النظرة الفلسفية تعدّ التجربة من أقوى العوامل التي تحدّد النظرية الاجتماعية بهذا الشأن، ومن المسلّمات أن إحدى نتائج المذاهب الفلسفية إنّما تكمن فيما تتوصل إليه من معارف على أساس أصالة التجربة وأصالة الحسّ المفرط، والاعتقاد بالفوارق الجوهرية بين عالم المرأة وعالم الرجل.

لا شكّ أنّ اعتماد نظرية فرويد وأفكاره الفلسفية الباطلة هي التي حدت بأنصار مذهب المساواة وسيادة المرأة إلى طرح أفكارهم المنحرفة الفاسدة بشأن المرأة وقضاياها الاجتماعية، فالمعروف أنّ فرويد فلسف الوجود على أساس الغرائز، وفي مقدمتها غريزة اللبيدو والغريزة الجنسية([21]).

كما يعتقد بعض العلماء من أمثال إبراهام ماسلو – من علماء النفس المشهورين في أميركا – أن الحاجات الفسيولوجية والعضوية للبدن تلعب دوراً هاماً في تحديد السلوك والشخصية([22])، وهنا لابد من القول بأنّ سائر المنظّرين الذين سقطوا في وحل المدارس التي تنادي بالمساواة بين الجنسين إنّما تأثروا من قريب أو من بعيد بالفلسفات القائمة على أساس الحسّ والتجربة.

وفي الواقع، ثمّة مدارس فلسفية أخرى لا تكتفي بالحسّ والتجربة في رؤيتها لهذه المسألة، فمثلاً يعتمد بعض الفلاسفة من قبيل الفيلسوف الإنجليزي هوبز أسلوب القياس، رغم اتكائه على التجربة في المنطق. وكذلك الفيلسوف الأميركي وليم جيمز الذي يقول بأصالة التجربة، فيما ذهب جمع آخر من الفلاسفة وفي مقدمتهم عمانوئيل كانط إلى أصالة العقل في العلوم الإنسانية، إلى جانب دور الحسّ والتجربة في هذا المجال أيضاً([23]).

ولا تخلو هذه النـزعات التي تنادي بالمساواة من بعض وجهات النظر الاقتصادية التي تصبّ في صالح المرأة وتمنّيها كذباً وبهتاناً بالغد الأفضل، فهي تنمّق وتزيّن ظاهر نظريّاتها الاجتماعية بما يسيل له اللعاب ويخطف الأبصار، فيما تختزن في باطنها كلّ مفردات الضعف والخواء والبطلان([24]).

ومما لا شكّ فيه أنّ من يؤمن بالفلسفة الإسلامية ونظرتها المتينة بهذا الشأن لا يكلّف نفسه جهد ولا عناء إلقاء نظرة – ولو سطحية عابرة – على تلك النظريات الاجتماعية التي تعتمد الفلسفة العينية، والحسّ والتجربة بصورة مفرطة.

فضرورة الفصل بين الجنسين التي نادت بها بعض الاتجاهات القائلة بالمساواة، إنّما نشأت من هذه المقدمة التي تصرح بالفارق الكبير بين الجنسين على مستوى الذهن والثقافة واللغة والعلوم والآفاق الفكرية، بحيث يصبح لكلّ من الرجل والمرأة عالمه الذي يختص به ويميزه عن صاحبه.

وإذا حاولنا دراسة المقولة التي تنادي بضرورة انفصال بيئة المرأة عن بيئة الرجل ضمن نطاق فلسفة علوم المعرفة لأمكننا التوصّل – من خلال التحليل الهيكلي والأساسي – إلى كنه عددٍ من الفرضيات والمبادئ التي تأخذ بها جملة من التيارات المنادية بالمساواة، فالذي يعتقد بأن التغييرات في بعض الهورمونات الأنثوية والذكورية، والأوضاع الفسلجية والبيولوجية للجسم، ونوع الفعاليات الجنسية، والتفاوت في الحقيقة الذهنية واللغة والثقافة، والفوارق بين عالم المرأة وعالم الرجل، لابد أن يقول بنوع من أنواع نسبية المعرفة.

يقول أصحاب نسبية المعرفة في إطار استعراض أفكارهم: ((علم كل فرد نتيجة مزدوجة لما يمتلكه في الباطن ويكتسبه من الخارج من معارف، لذلك فإنّ معرفة الفرد للحقائق الخارجية لا تتبادر إلى الذهن كما هي حاضرة عنده، بل تحضر عنده بعد تركبها بقوالب ذهنية بصورة نسبية، والفرضيات والتصوّرات الذهنية هي الأخرى قوالب تتخذ شكلها النهائي من خلال تأثير الدوافع والعوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية))([25]).

فأولئك الذين يحدّون المعرفة بأصالة التجربة والحسّ، لابد أن يقولوا باختلاف القوالب الذهنية للمرأة والرجل، وذلك تبعاً لاختلاف الدوافع والعوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تكوّن تلك القوالب عندهما، وإنّ هذه الأفكار الفلسفية في دائرة نظرية المعرفة ستستتبع بنى فلسفية أخرى في دائرة علم الوجود، فإحدى اللوازم الحتمية للقول بهذا الأمر هي نسبية المعرفة وأنّ الحقيقة ليست إلاّ معرفة كل شخص، وهذا ما يمكنه بدوره أن ينطوي على مبادئ وقواعد فلسفية أخرى.

أما الفرضيات والأفكار الفلسفية لدعوى المساواة التي تتبناها الماركسية والاشتراكية والليبرالية بهذا الشأن فهي واضحة جدّاً من خلال أسمائها وعناوينها، فالفلسفات الماركسية والاشتراكية التي تعدّ من الفلسفات الإلحادية أسّست بنيانها على إنكار وجود واقع أو حقيقة سوى هذ العالم المادي المحسوس، ولا يمكن التوصل إلى الحقيقة والواقع إلاّ من خلال الحسّ والتجربة، وهكذا اصطبغت المفاهيم الفردية والاجتماعية جميعها في هذه المدرسة الفكرية بالصبغة المادية. ومن البديهي استناد قراءة هذه المدرسة لمسألة الاختلاط بين الجنسين إلى ذلك الاتجاه الفكري وأيديولوجيته؛ ((فوجهة نظر دعاة المساواة من الاشتراكيين هي السعي لترجمة المفاهيم على أساس تحليلاتهم الفكرية، وكأنهم لا يعترفون إلاّ بنظامين، هما: النظام الطبقي ونظام الهوية الجنسية، وعلى ضوء هذا الرأي، فإن الرجال في المجتمعات كافّة إنما يمارسون تسلّطهم على النساء، الأمر الذي يحتم على المرأة أن تعي وتفهم دوافع هذا التسلّط وكيفيته، ولا يهدف هؤلاء من ذلك إلاّ إلى بلورة نظرية لسيادة الرجل، حيث يتمّ على أساس هذه النظرية تيسير فهم الأوضاع التي تفيد تسلّط الرجل في ظلّ النظام الطبقي، وبذلك يتسنىّ لهم الدفاع عن حقوق المرأة في النظام الاجتماعي. أما النظرية الماركسية فقد سعت لتفسير العالم من خلال نظرية تحرير البروليتاريا أو الطبقة العاملة))([26]).

إنّ دعاة المساواة من الاتجاه الليبرالي واستناداً لهذه النـزعة يعتقدون أنّ: ((هناك قراءات مختلفة للذاتية الفردية، من الفردية الألمانية والفرنسية إلى الفردية الإنجليزية والأميركية، ومن الفردية الاحتكارية إلى الفردية التعددية، وكذلك الفردية في علوم المعرفة وما إلى ذلك من شؤون الفردية، فالعنصر المشترك في جميع هذه القراءات محورية الفرد وأصالته. طبعاً دعاة المساواة من الاتجاه الليبرالي يعارضون قضية الفصل بين الجنسين))([27]).

((إن القضية التي تحظى باهتمام دعاة المساواة الليبراليين أو الإصلاحيين في علم الاجتماع والقضايا الاجتماعية إثبات أن التفاوت بين الجنسين ليس ذاتياً بل اجتماعياً جنسياً))([28]). والأصالة في هذه المدرسة إنّما مُنحت للّذة والمنفعة. فاللّذة والمنفعة هي التي تحكم الروابط الجنسية، كما أنّ الحرية مطلقة، فليس هناك من حدّ للحرية سوى حرية الأفراد.

والذي نخلص إليه ممّا تقدم، عدم وجود أي مجال في الاتجاهات الليبرالية والاشتراكية والماركسية لرعاية الأخلاق والعفاف في قضية الفصل بين الجنسين أو الاختلاط بينهما.

فدعاة المساواة من الاتجاهات الليبرالية والاشتراكية والماركسية إنّما يتبنون الاختلاط حيثما كانت منافع المرأة ولذّاتها، في حين لا يتفقون والاختلاط إذا كان يشكّل خطراً على أهدافها وأغراضها، وعليه فهم يعتقدون بأنّ المرأة إنما يكتب لها النجاح إذا مارست دورها في الوسط الذي تسند إدارته وتنظيم شؤونه إلى المرأة نفسها، الأمر الذي يجعلها تحظى بمكتسبات أعظم في إطار منافستها للرجل. أمّا الأفكار الدينية فهي إلى جانب اهتمامها بالخصائص الشفافة واللطيفة المتعلّقة بجسم المرأة وروحها، تضع لها بعض القيود والحدود التي تضمن عفّتها وصونها من الفساد، حال خوضها مجال المنافسة جنباً إلى جنب مع الرجل، فالإسلام يرى المرأة والرجل وجهين لعملة واحدة، وبعبارة أخرى يراهما حقيقة واحدة ذات وجهين.

 

النظرة الفلسفية والاجتماعية للمدرسة الإسلامية

النظرية الاجتماعية الإسلامية هي النظرية التي تقابل النظريات الفلسفية المذكورة آنفاً بشأن الحضور الاجتماعي للمرأة في الأماكن العامّة والاختلاط والعزل بين الجنسين، والتي تتميز ببناءاتها وأسها المتينة.

فالإسلام يقول بوحدة جوهر الخلقة لدى الجنسين، فهما متساويان في الماهية والجوهر، وهما وحدة واحدة تأبى التجزئة والإنفصال، فليس هناك من فارق بين ماهية الرجل وحقيقته وماهية المرأة وحقيقتها، ويؤيد القرآن الكريم هذا المعنى حين يتعرّض لقضية الرجل والمرأة، ((لا تنظروا للرجل والمرأة على أساس جنسيتهما الذكرية أو الانثوية، فحقيقة الإنسان إنما تستند إلى روحه لا إلى بدنه، وإنسانيته بروحه لا بجسمه، وليس بروحه وجسمه معاً))([29]).

ويغدو العقل والتفكير – على ضوء النظرة الإسلامية – من مظاهر الروح المرتبطة بالقوة الناطقة والمدركة للإنسان، لا من مظاهر الجسم، وعليه فالتفاوت البدني لا يؤدي إلى أيّ تفاوت جوهري بين المرأة والرجل على مستوى الذهن واللغة والثقافة والمعرفة، لذا فالذي نخلص إليه هو أنّ المبادئ الإسلامية إنما تقف على الضدّ من مبادئ الفلسفات المعاصرة التي تنادي بالمساواة بين الجنسين، فهذه الفلسفات تؤمن بوجود تفاوت حقيقي بين عالمي المرأة والرجل، فيما يصرّح الإسلام بوحدة عالم الرجل والمرأة إلى الحدّ الذي يجعل من العبث التساؤل عن حقيقة هذين الجنسين، هل هما متساويان أم متمايزان؟ وذلك لأن ((حقيقة كل فرد روحُه، وما الجسم إلاّ أداة ووسيلة، وقد تكون هذه الأداة مذكرة تارة ومؤنثة تارة أخرى))([30]).

فالإسلام لا يرى في المرأة والرجل أكثر من حقيقة واحدة، لذا لا تصل النوبة لطرح عملية التساوي أو التمايز التي تتطلب وجود حقيقتين، فالبناء الرئيس للنظرية الدينية إنّما يثبت الأصالة في الإنسان لروحه، ولا تقتصر الأفكار الفلسفية التي منحت الأصالة في الإنسان لروحه على اختزال حقائق العالم وواقعياته في المادة والماديات، بل إنّ المجردات هي الاُخرى لا تشتمل على حقيقة وواقع إذا ما أخذت لوحدها، بل الأصالة فيها كالأصالة في الماديات.

المبدأ الفلسفي الآخر للنظرية الإسلامية في هذا المجال هو أنّ وسائل المعرفة البشرية لا تنحصر في الحسّ والتجربة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لأدّت الفوارق الفسلجية والبيولوجية المحسوسة إلى تباين معرفة المرأة تماماً عن معرفة الرجل، فيما الأمر ليس كذلك.

فالعقل النظري إحدى وسائل المعرفة في الفلسفة الإسلامية، وهو الذي يوصف بالفكر والعلم، وليس لـه ربط بكون الفرد ذكراً أو أنثى، إلى جانب ذلك هناك القلب الذي يتولّى مسؤولية الكشف والشهود، فهو الوسيلة الأخرى التي تتبناها المدرسة الإسلامية أداةً للمعرفة ووسيلة، وهو ما لا ربط له بدوره لا بالذكورة ولا بالأنوثة، فإذا كانت القضايا المرتبطة بالعلم – سواءٌ كان ذلك العلم حصولياً أو حضورياً – خاليةً من عنوان الذكورة والأنوثة، وأن الذي يتصف بالعلم الحصولي أو الشهودي لا تصدق عليه صفة الذكورة والأنوثة، كان من العبث طرح التساؤل الذي يقول: هل تتساوى المرأة مع الرجل في المعرفة والمفاهيم الذهنية أم لا؟ فمن الواضح عدم وجود أيّ فارق بين المرأة والرجل على مستوى المعارف استناداً للنظرية الإسلامية([31]).

فالنظرية الإسلامية في المعرفة ترى أنّ العلم حقيقة ثابتة مجرّدة وليست نسبية، ولذلك فإن الذكورة والأنوثة، والتجارب الخاصة للمرأة أو الرجل لا تغيّر من حقيقة المعرفة شيئاً، فإذا أراد الرجل والمرأة التوصل إلى معرفة نظرية أو عملية بما لديهما من عقل وقلب – بغض النظر عن التجارب والمهارات الفردية – وسلكا طريقاً واحداً واستندا إلى مدرسة نظرية واحدة، فإنّهما سيتوصلان حتماً إلى حقيقة واحدة لا أكثر، وعليه فقضية الاختلاط بين الجنسين التي تفسّرها أطروحة دعاة المساواة لا تنسجم قطّ وما صرحت به الأسس الفلسفية للأطروحة الإسلامية، فالوصايا الأخلاقية هي ضابطة المعارف الإسلامية والقرآنية في قضية الاختلاط بين الجنسين، وهذه بدورها تتطلّب ضمانة تطبيقية لا يمكن التكهّن بها إلاّ في ظل الدين والشرائع السماوية.

وعلى سبيل المثال، بعد أن حذّرت الآية القرآنية الكريمة من مغبة الإتيان بالأعمال التي تثير الشهوة والفتنة، ذكّرت بالعودة إلى الله والتوجه إليه والفوز بالفلاح: >وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ<([32]).

فهذه الوصايا والإرشادات الأخلاقية تتطلّب إيماناً بالمبدأ والمعاد وخالق الوجود الذي لم يخلق الناس عبثاً ولن يتركهم سدى، فهناك عالم آخر سترد إليه جميع الكائنات شاءت أم أبت.

المبدأ الآخر الذي تعتمده الأطروحة الإسلامية هو أنّ الإيمان يمثل حقيقة عينية، وليس من نوع الحقائق الذهنية والاعتبارية، وأن السبيل ممهدٌ أمام الجميع لبلوغ هذه الحقيقة العينية وإدراكها، فالتأمل في الفكر الإسلامي يقود إلى أنّ الفصل بين الجنسين يؤدي إلى الإبقاء على الروح الإنسانية بعيدةً عن الجاذبية الجنسية الناقصة، ويؤدي إلى انفتاحها على الجمال المطلق، دون الانهماك بالنظر إلى الجمال المحدود المشوب بالنقص، كما من شأنه أن يضاعف مسيرة الإنسان وانطلاقه نحو السعادة والكمال.

 

تمايز القوانين الاجتماعية للرجل والمرأة

 خـارج حدود الهوية

المسألة الأخرى ذات الصلة بالدائرة الاجتماعية لقضايا المرأة والتي وردت بشكل أبحاث مسهبة في الأوساط الدولية والحركات التحررية المهتمة بقضايا المرأة والجمعيات والمؤسسات النسوية الاجتماعية، هي قضية المساواة في حقوق المرأة وواجباتها في القوانين الاجتماعية وعدمها.

فهناك عدّة أسئلة تطرح نفسها في مجال القضايا الاجتماعية للمرأة من قبيل: هل كان السلوك المختلف للمرأة والرجل في إطار الفارق في الجنسية والفوارق الفسلجية، سبباً لتمتعها بحقوق ووظائف مختلفة في حين لا بد أن تكون للرجل والمرأة حقوقاً وواجبات متساوية تماماً في سائر المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و…، أم أنّه في غير المسائل المرتبطة بالفارق في الجنسية لابد من القول ببعض التفاوت بين الرجل والمرأة في البعض الآخر من القوانين؟ وهل يجب مراعاة المساواة بين حقوق المرأة والرجل في كافة الأصعدة والميادين؟

لا شك أنّ بحث تساوي حقوق المرأة والرجل من الأبحاث التأريخية القديمة، لكنّ أحد إشكالات هذا المبحث، يكمن في صحّة انحصار التفاوت في وضع القوانين الحقوقية والاجتماعية للمرأة والرجل خارج دائرة الفوارق في الهوية الجنسية وفساده، فبعض دعاة المساواة يعتقدون بضرورة تضييق دائرة التفاوت بين المرأة والرجل لتقتصر على التفاوت في الجنسية بينهما، وعليه فالتمييز في تشريع القوانين لا بد أن يقتصر فقط وفقط على هذه الدائرة المحدودة. ويستدلّ بعض المنظّرين على الادعاء السابق من خلال تأكيدهم على متطلبات الحياة، والرجوع إلى علم السلوك الاجتماعي، فيجعلون ذلك أنموذجاً للحياة الاجتماعية للإنسان.

أمّا وجهة نظر الإسلام بشأن هذه المسألة الاجتماعية فهي وجوب اتّباع النظريات والقوانين والتعاليم التي أمر بها الخالق بهذا الخصوص، الخالق الذي خلق الزوجية المتمثلة بالرجل والمرأة، فجعل أحدهما ذكراً والآخر أنثى، ولا يمكن الاقتصار بهذا التفاوت في الأحكام الاجتماعية على دائرة خاصة معينة، بل على الإنسان أن يقتفي آثار الشارع المقدس ويتعبّد بقوله حيثما صرّح بالتفاوت بين الجنسين، لأن الشارع هو الخالق، وهناك تطابق مطلق بين قوانين التشريع وقوانين الخلقة والتكوين.

إنّ أغلب الاتجاهات التي تنادي بالمساواة وإن صرّحت بالتفاوت في نطاق تلك الدائرة الضيقة التي تقتصر على الهوية الجنسية – الذكورة والأنوثة – إلاّ أنها تثبت ماهية متساوية تماماً لجميع القوانين المرتبطة بالمرأة والرجل (في الأمور التي لا ترتبط بالشؤون الفسلجية والوراثية الحاصلة بفعل الجينات).

وبالطبع، فقد أدّى اختلاف الآراء والأنظمة الفكرية لهذه الاتجاهات – التي تتبنى قضية المساواة – إلى اعتمادها صيغ عدّة وأطروحات متعددة بشأن هذا الموضوع، فالبعض يوكّد – بقوّة – على قضية متطلبات الحياة، بينما يعتقد البعض الآخر بأن التفاوت في العُرف بشأن توزيع العمل بين المرأة والرجل ليس له من ارتباط بجنسيتهما أو بمتطلبات الحياة، بل ينبثق من الاجتماع وتسلّط الرجال على المجتمعات البشرية.

ولا يقرّ دعاة المساواة – على ضوء الفلسفة الماركسية – بتوزيع الأعمال التي يضطلع بها الرجل لتأمين الأوضاع المعيشية للمرأة، ولا يرون لنظام الأسرة انسجاماً مع أسس نظرتهم الفكرية التي تنادي بالمساواة وقواعدها.

فهم يعتقدون بضرورة عدم تزعّم الرجل في القوانين الاقتصادية لشؤون المرأة الاقتصادية، وهذا هو الرأي السائد لدى أغلب الماركسيين ودعاة المساواة من الذين يعارضون بعنف أولئك الذين لا يأخذون بنظر الاعتبار النظريات التحقيقية في دائرة الروابط الأسرية والتفاوت بين الجنسين.

فقد كتب پاملا ابوت وكلرو الاس – من علماء الاجتماع الذين ينادون بمساواة المرأة مع الرجل – بهذا الشأن: ((إننا بحاجة إلى علم الاجتماع الذي حدّد هذه المجالات – أي مجالات التفاوت بين المرأة والرجل – ووضع بشأنها النظريات، كما أولى أهمية قصوى للنظام الجنسي – الذكورة والأنوثة – إلى جانب الطبقة والأصل والسن))([33]).

وعلى هذا الأساس، كان لابد لأنصار المساواة من الاعتقاد بضرورة تشريع القوانين الاجتماعية المتفاوتة تماماً بين المرأة والرجل. ومن المعروف أنّ الموضوع الذي يعالجه علم الاجتماع – أي الدائرة الاجتماعية وروابطها – ليس له من صلة بالهوية الجنسية، مع ذلك فإنّ بعض الاتجاهات التي تنادي بالمساواة ترى ضرورة إحياء حقوق المرأة، على أن التمايز الجنسي بين المرأة والرجل لا بد من التركيز عليه في غير دائرة التأثير الجنسي، وتشريع القوانين الاجتماعية التي تتناسب وجنس المرأة.

وهنا انبرى بعض المنظّرين الاجتماعيين للاعتراض بشدّة على وضع القوانين الاجتماعية المتفاوتة بين الرجل والمرأة خارج دائرة الجنس، فقد أكّد هؤلاء على متطلّبات الحياة، وأن دراسة حياة الحيوانات والرجوع إلى علم سلوك الكائنات والحركة التي تشهدها، سيمكننا من الظفر بالأنموذج الذي يحتذى به في الحياة للنهوض بالعلاقات الاجتماعية في المجتمعات البشرية، كما اعتقدوا أنّ ((تفاوت سلوك الحيوانات بين جنسي الذكر والأنثى إنما ثبت بصورة عامّة من ناحية انتقال الإيعازات الجنسية والوراثية – الجينات – المرتبطة بالجنس، وليس هناك من اختلاف في سائر النواحي التي لا ترتبط بالأمور الفسلجية والجنسية. وعلى ضوء هذه النظرية، يمكن للتركيز على متطلبات الحياة وأسسها القائمة على التفاوت بين المرأة والرجل تقوية الرأي القائل بأن الحياة الاجتماعية طالما كانت هكذا لدى الحيوانات فإنّ ماهية الأحكام والقوانين لابد أن تكون متساويةً بالنسبة للمرأة والرجل معاً، سوى القضايا المرتبطة بالأمور الجنسية وبقاء النسل، فإن التمايز في السلوك والاختلاف في القانون لا إشكال فيه))([34])، يرون هذا بينما لا يقولون بالتفاوت القانوني في القضايا التي ليس لها ارتباط بالمسائل المادية والوراثية.

أما الذي يستشفّ من روح المعارف الإسلامية فهو أنّ التفاوت بين المرأة والرجل ليس من قبيل التفاوت بين جنس الذكر والأنثى في عالم الحيوان مقتصراً على الامتياز في إطار السلوك والتصرّفات الجنسية، بل إن المرأة والرجل يشتركان في حقيقة واحدة وهي أصل الروح، فتكون الذكورة والأنوثة كاللباس الذي يضمّ روحيهما، ولذلك يمكن مشاهدة هذا اللباس الرجولي أو النسوي في بعض المظاهر السلوكية النابعة من الروح.

على سبيل المثال، يمكن للمرأة الكشف عن عقلها وفكرها الإنساني بعواطفها، بجمالية صوتها وسلوكها، وكيفية تحاورها..

وخلاصة القول: إنّ المرأة – بحكم أنوثتها – تستطيع أن تبدي ظرائف الحكمة في ظرائف الفن؛ أما الرجل – وبحكم رجولته – فإنما يبدي ظرائف الفنّ في الحكمة.

إن التأكيد على الحسّ والتجربة ومتطلّبات الحياة لغرض التعرّف على الأنموذج الاجتماعي الصحيح بالنسبة للمجتمعات الإنسانية.. هو الآخر ليس بضروري على ضوء النظرية الإسلامية، لا سيما إذا انطوى هذا الأنموذج على تمايز الإنسان عن الحيوان في الكيفيات الذهنية، فمبدأ انعكاس الحياة الحيوانية على الحياة البشرية مرفوض تماماً في الإسلام، حيث تعتقد المدرسة الإسلامية بأنّ حقيقة روح الإنسان مدعاة للتمايز الجوهري بينه وبين سائر الحيوانات، ولا يمكن لهذه الخلقة الإنسانية العجيبة أن تبحث عن مثلها وأنموذجها في المجتمعات الحيوانية، فقد هداها فاطرها في عالم التشريع إلى أفضل المثل والنماذج ذات الانطباق على الحقائق التكوينية، التي كشفت عنها الشريعة التامّة الكاملة.

فالتمايز التكويني بين المرأة والرجل لم يُهمل طرفة عينٍ في عالم التشريع، بل لقد ظلّ هناك تأثير عميق لهذه التكوينيات في الأحكام والقوانين الفقهية التي لا ترتبط بدائرة الجنس.

فالفوارق في القوانين الاجتماعية بالنسبة للرجل والمرأة في الإسلام لا تعني التمييز بينهما أبداً، بل غاية هذه الفوارق إعادة التوازن بين المرأة والرجل من ناحية الحقوق – وإن كانت لا تؤدي إلى المساواة في الحقوق – فقد قال سبحانه: >وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننـزّله إلاّ بقدرٍ معلوم<([35])، أي إنّ التفاوت بين المرأة والرجل – وهو نوع من التفاوت الآلي – إنّما نشأ من خزائن السماء والشريعة السمحاء، حيث تنـزل القوانين الاجتماعية والدينية من تلك الخزائن.

الدين الإسلامي المتكامل يشتمل على مشروع هداية حقيقي، وأنموذج تام يشير إلى أفضل نظام فكري وعملي في عالم التكوين، وطبق النظرية الإسلامية فإنّه لا ينبغي التعامل مع المثل والأسوة من خلال القياس والاستحسان والاستنتاج من الطبيعة، ونشأة الإنسان التي تستند إلى التطور الذي شهده الحيوان، هذه الأمور برمّتها مرفوضة من قبل الإسلام. نعم، هناك اشتراك بين الإسلام ودعاة المساواة في عدم المساواة بين الرجل والمرأة خارج قضية الجنس التي تحكم الرجل والمرأة، وهذه هي الفلسفة التي قامت على أساسها الأحكام الشرعية من واجبات ومحظورات، حيث يمكن تفسير الواجبات على أساس الوجودات، وتفسير القيم والمثل على أساس الواقعيات والحقائق. أما المبدأ الرئيسي الذي تفترق فيه المدرسة الإسلامية عن الاتجاهات التي تطالب بالمساواة، فهو أنّ أغلب الموجودات والمعدومات ليس فقط لا يمكن التوصّل إليها عن طريق الحس والتجربة فحسب، بل يعجز عن كشفها والتوصل إليها حتى العقل النظري والعقل العملي المتعارف لدى البشر، أي أنّ العقل الجزئي هو الآخر ليس له القدرة على كشف الموجودات والمعدومات جميعها وإدراكها، في حين ذهبت أغلب الاتجاهات التي تزعّمت قضية المساواة بين الجنسين إلى كشف الموجودات والمعدومات عن طريق التجربة والحسّ والعقل الجزئي.

ذهب أغلب المتكلمين والفلاسفة المسلمين إلى أنّ الوحي هو الذي تكفّل بتفسير أغلب الواجبات والمحظورات على أساس الموجودات والمعدومات التكوينية.

فالأفراد الذين لا يرون التفاوت بين المرأة والرجل إلاّ في الفوارق الفسلجية والجنسية وينكرون الفوارق الظريفة المتجلّية في الجوانب الروحية للمرأة والرجل، سيرون أنفسهم مضطرّين لحصر الموجودات والمعدومات في الأشياء التي توصلوا إليها عن طريق الحسّ والتجربة.

ولا شك أنّ النـزعات والتيارات التي منحت الأصالة للعمل أو الواقع أو السلوك.. إنّما ظهرت – كافّة – بصيغ فلسفية في بريطانيا وأميركا بوصفها أصداء وانعكاسات للمدرسة اللاأدرية، ولعلّ التحليل النهائي لجذور هذه النـزعات إنما يعود بنا إلى الفرضيات الفلسفية التي جاءت في فلسفة هيوم([36]). أما بعض النـزعات الفلسفية الناشئة من تيارات المساواة فإنما تعود إلى أنواع الفلسفة الشكّية.

والواقع أن تلك الطائفة من المنظّرين الاجتماعيين الذين يؤكّدون على إثارة المساواة وتكافؤ حقوق المرأة والرجل في علم السلوك الاجتماعي، لابد أن يكونوا – وعلى ضوء وجهة النظر الفلسفية – معارضين لأصالة الإنسان التي ترى أنّ نشأة الروح من الله، ولا يرون من تمايزٍ للإنسان عن الحيوان إلاّ في المسيرة التكاملية والطفرات التي أدّت إلى ظهوره، لأنّ من يقول بالتمايز الجوهري والحقيقي بين الإنسان والحيوان لا يمكنه أبداً أن يجعل متطلّبات الحياة والنماذج الاجتماعية مستمسكاً لإثبات بل لإقرار بعض النماذج السلوكية في المجتمعات البشرية.

في فلسفة الأخلاق والفقه والكلام، تؤيّد النظريات والفرضيات الفلسفية من قبيل الآراء التعريفية، والحسن الذاتي لأفعال الحق، وعينية الأحكام الفقهية، وعدم كونها اعتبارية، تؤيد أن أنموذجية أحكام الشريعة الإسلامية إنما صيغت على ضوء الحقائق التكوينية، ولكن لا يمكن لهذه الحقائق التكوينية أن تكون أسس الحياة البدائية لدى الحيوانات وسلوكها الاجتماعي أبداً.. فقد فرغ في العرفان النظري الإسلامي من مبحث انطباق التكوين على التشريع.

إن إدراك مفهوم النظم والوجود في الجملة، والنماذج الطبيعية في مقام الثبوت والواقع من الفرضيات والمبادئ المسلّمة في الفلسفة الإسلامية، ولكن لا يمكن اعتماد هذا المبدأ في مقام الإثبات أساساً لقياس منطقي لوضع الأحكام والقوانين الفقهية والحقوقية والاجتماعية و…

والآراء الفلسفية والعرفانية من قبيل الاعتقاد بتطابق قوس النـزول وقوس الصعود، والاعتقاد بترشحات الوجود وكيفية إرتباطاتها بالعوالم، والالتفات إلى أسرار الشريعة وأسرار الطريقة و… جميعها من القضايا التي تؤيّد الأطروحة الفلسفية التي تقول بأنّ الواجبات والمحظورات إنما شرعت على أساس الوجودات والعدميات، إلا أنّ مفكري الشيعة يرون تعذّر معرفة علل الشرائع إلاّ من خلال النص على العلّة، وعليه فمجرّد التشابه السلوكي بين حياة الإنسان والحيوان لا يمكنه أن يقدّم للبشرية أنموذجاً كاملاً تحتذي به في مسيرتها.

إنّ أسس المعرفة التي يعتمدها علم الاجتماع الإسلامي هي الأخرى صيغت على أساس الاستناد إلى وجود العلم القدسي والتعبّد بالعلم المطلق، أما أسلوب المعرفة في علم الاجتماع الديني فليس من قبيل أسلوب المشاهدة والتجربة واحتمال الخطأ، بل هو الأسلوب المستند على حقيقة الوحي، أي الاستناد والتعبّد بالمعارف التي يُتوصل إليها عن طريق الكشف والشهود، لا كلّ كشف وشهود، بل كشف النبي(ص) الذي يتلقّى الوحي الذي يمثل نوعاً من الاتصال العقلي القدسي بمعدن العلم المطلق، وصياغته في قالب أخبار دينية.

ومن المسلّم به أن المدارس والمذاهب التي تتعامل مع برمجة وتنظيم العلاقات والقوانين الاجتماعية المرتبطة بالرجل والمرأة على أساس علوم الحسّ والتجربة لا يمكنها أبداً ادّعاء بلوغ الكمال في علومها ومعارفها، ((فوجهة النظر الدينية تفيد الإخبار عن الناسوت والطبيعة، مروراً بدائرة الملكوت والجبروت، وانتهاءً باللوح المحفوظ والكتاب المبين وأمّ الكتاب والخزائن الإلهية وقوسي الصعود والنـزول و..))([37]).

ومما لا شك فيه أنّ المفكّر الإسلامي الذي يؤمن بالأطروحة الإسلامية يفكّر بطريقة تختلف تماماً عما يدور في أذهان سائر المفكّرين الاجتماعيين ممن ينتمون إلى مدارس ومذاهب أخرى، والأسس والمبادئ الفلسفية في علم الوجود والمعرفة هي التي تلعب دوراً مهماً ومؤثراً في تفسيره للتفاوت في القوانين الاجتماعية بين المرأة والرجل، وهذا التأثير من الشدة والدوام بحيث إذا أردنا أن نبين جميع الأفكار وارتباطها بالمفاهيم الواردة في هذه النظرية لتوجّب علينا استعراض كافة أصول المعارف الإسلامية وخصائصها، وهذا ما لا يسعه البحث.

((إنّ قراءة العلماء والمفكرين المسلمين للخلقة والنسل والمجتمع والتأريخ قراءة متكاملة، تثبت ممارسة جميع الأجزاء لأعمالها، بحيث ترتبط هذه الأجزاء مع بعضها ارتباطاً يأبى الانفصال، وهذه الرؤية منبثقة – بلا شك – من جوهر الفلسفة والحكمة الإسلامية، والمحور الأصلي للحكمة الإلهية بمعناها الأخص يؤكّد هو الآخر سلسلة المراتب وارتباطها في الموجودات))([38]).

وعلى ضوء هذه الرؤية، يقع النوع الإنساني في سلسلة مراتب الأجناس التي تمثّل النوع العالي والداني والسافل، والتي تؤلّف بمجموعها عالم الوجود.

المدرسة الإسلامية تنظر إلى الإنسان بوصفه نوعاً، والذكورة والأنوثة من العوارض الخارجة عن الذات الإنسانية، غير أنّ الذكورة والأنوثة تعتبر من العوارض اللازمة للذات وليست عرضية بالمعنى المفارق، لأن المفارقة نوع خروج عن طبيعة الشيء، وعليه فالأطروحة الإسلامية التفتت إلى التفاوت العرضي بين المرأة والرجل بنفس المقدار الذي اهتمت فيه بوحدة ذاتيهما وحقيقتهما التي تمثل نوعاً واحداً. وتفصيل هذا الموضوع يتطلب بحثاً مستقلاً لا يسعه المقام. وعلى حد تعبير فرويد: ((لا بد من الخوض في جميع المعارف على ضوء ما ورد في علم المعرفة، فهي تتناول المباني العلمية العالمية لكل نظرية يمكنها أن تمثل تأريخا كاملاً، ففي هذه الحالة يمكن التوصل إلى الإدراك التأريخي للموضوع الذي نريد التعرف عليه بصورة واقعية تامة))([39]).

وعليه فإذا ادعى منظّر اجتماعي مساواة المرأة للرجل في الحقوق في المـجالات كافّة، أو في الـمجالات التي لا ترتبط بالهوية الجنسية للرجل والمرأة، كان لا بد من سؤاله عن الأسس التي يعتمدها في معرفة العالم، وعن كيفية تفسيره للإنسان معرفيّاً، وعن مدى الأصالة التي يمنحها للروح، وعن تفسيره لنوعية ارتباط الروح بالبدن، فالذي لا يرى من فرقٍ في السلوك والمجالات – غير تلك التي ترتبط بالهوية الجنسية – بين المرأة والرجل فإنه إمّا لا يولي الروح أصالتها المطلوبة ويقتصر بالتفاوت على ما يشاهده في الفوارق المادية والكيميائية بينهما، أو أنه – وعلى ضوء فلسفته ونظرته للإنسان – يعجز عن تقديم بيان صحيح لعلاقة الروح بالجسم.

إن الروح وإن كانت تشكّل تمام حقيقة الإنسان في الفلسفة الإسلامية، إلاّ أنّها ليست بمعزل عن الجسم وتأثيره الآلي فيها.

فأحد البناءات الفلسفية للحكمة المتعالية للملا صدرا الشيرازي أنّ الروح جسمانية الحدوث، وفي الوقت عينه، الجسم هو الصورة الهابطة للنفس، وعليه فكلما كان الجسم ألطف كان تأثيره في الروح أعمق، وإن انعدم مثل هذا التأثير على دائرة ذات الروح، فالروح ليست ذكراً ولا أنثى إلاّ أنها حلّت في قالب قد يكون مذكراً أو مؤنثاً.

لقد عُرّفت النفس في الفلسفة الإسلامية جوهراً مجرداً في ذاته محتاج إلى المادة في أفعاله؛ أي أنّ النفس ليست مذكّرة ولا مؤنثة، إلاّ أنّها تحتاج في نشأتها الحسّية إلى الجسم المادي لممارسة دورها في الحياة الطبيعية والمادية، وهذا الجسم قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى.

وعليه، فلم لا يمكن تصور قبول الاسلام ببعض التفاوت الذي يتميز بالظرافة بين المرأة والرجل في القوانين الاجتماعية غير المرتبطة مباشرة بدور الهوية الجنسية وأحياناً ضمن هذا الإطار بصورة غير مباشرة؟ فالإسلام وحي الله، خالق الذكر والأنثى.

تؤمن الفلسفة الإسلامية بالحركة الجوهرية في عالم الوجود، فقضية الوجود وتشكيله وكيفية ارتباطه ومراتبه ودرجاته وسيلان حركته ليست بمعزل عن النظرية الاجتماعية للمدرسة الإسلامية فيما يخصّ القوانين الاجتماعية للرجل والمرأة، فهناك تبدّل في الحركة الجوهرية، حيث يمكن للجسم البشري أن يبلغ في حركته الجوهرية مرتبةً تؤهّله لتلقّي الروح، وهي المرحلة المتقدّمة في الخلق التي يعبر عنها القرآن بالخلق الآخر: >ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين<([40]).

((في هذا التبدّل والتحوّل إلى شيء آخر، ليس هناك من كلام في الذكورة والأنوثة، لأنّ هذا الكلام إنما يصحّ لو كان هذا التبدّل على نحو التجافي أو من قبيل التبدلات الكونية والمادية، فالبدن قد خُلق وتحول إلى صور مجردة، فليس هناك من فارق بين روح الرجل وروح المرأة، فالكلام ليس عن حركة زمانية أو مكانية، كما ليس الكلام عن حركة كمية وكيفية، كأن يتحرّك بدن المرأة أو الرجل ليصل إلى مقام الروح، بحيث يكون هناك مجال للذكورة أو الأنوثة في هذه الحركة، بل ليس من سبيل لهذه الحركة سوى لجوهر وجود الشيء، وجوهر الوجود ليس مذكراً ولا مؤنثاً، وعليه فليس هناك من فرق في مرحلة >ثم أنشأناه خلقا آخر… <))([41]).

ثم تحل هذه الروح في هذا الجسم وتتجلى في حركاته وسكناته، أما تفاوت الوسائل فليس بمعزل عن التأثير على النتائج، ومن الممكن أن يكون الشارع المقدس قد أوصى بعض الوصايا الخاصة لكل من هذه الوسائل.

من مجلة نصوص معاصرة – العدد الأول

الهوامش:



[1]) پاملا ابوت وكلروالاس، مدخل إلى علم إجتماع مذاهب المساواة: 15.

[2]) المصدر نفسه: 42.

[3]) المصدر نفسه: 43.

[4]) المصدر نفسه: 246.

[5]) المجلة الفصلية للجميعة الثقافية الاجتماعية النسوية 4: 139.

[6]) آندريه ميشل، الحركة الاجتماعية النسوية: 123، ترجمة عمر هما زنجاني زاده.

[7]) پاملا ابوت وكلروالاس، مدخل إلى علم اجتماع مذاهب المساواة.

[8]) صحيفة المرأة، الجيل النسوي الحديث في إيران، السنة الأولى: 173.

[9]) الأحزاب: 59.

[10]) الأحزاب: 53.

[11]) النور: 61.

[12]) الكليني، فروع الكافي 5: 528.

[13]) مسالك الأفهام، فاضل ميبدي.

[14]) وسائل الشيعة 11: 86.

[15]) المصدر نفسه 7: 674.

[16]) المصدر نفسه 13: 143.

[17]) الجديد في الأفكار، نظرة إلى مدرسة المساواة بين الجنسين: 2.

[18]) مجلة كيهان انديشه (فارسية)، محمد صادق رحمتي، مقالة علم النفس الاجتماعي المعاصر : 73.

[19]) ذبيح الله جوادي، ألف باء الفلسفة الحديثة: 26.

[20]) المصدر نفسه: 256.

[21]) علي أكبر سباسي، نظريات الشيخية: 26.

[22]) المصدر نفسه: 247.

[23]) تأريخ فلسفة الغرب.

[24]) جورج ريجرز، نظريات علم الاجتماع في العصر الراهن، ترجمة: محسن شلاش.

[25]) آية الله جوادي آملي، الشريعة في مرآة المعرفة: 272.

[26]) پاملا ابوت وكلروالاس، مدخل إلى علم اجتماع مذاهب المساواة: 260 ـ 261.

[27]) فصلية كتاب نقد، الإسلام والنظام في الليبرالية الرأسمالية: 11.

[28]) پاملا ابوت وكلرو الاس، مدخل إلى علم اجتماع مذاهب المساواة: 246.

[29]) آية الله جوادي آملي، المرأة في مرآة الجلال والجمال: 76.

[30]) المصدر نفسه: 77.

[31]) المصدر نفسه: 79.

[32]) النور: 31.

[33]) پاملا ابوت وكلرو الاس، مدخل إلى علم إجتماع مذاهب المساواة.

[34]) أسس الحياة في الفوارق بين الرجل والمرأة ـ فصلية فرزانه: 2 و3.

[35]) الحجر: 21.

[36]) أثين جيلون، نقد الفكر الفلسفي الغربي منذ القرون الوسطى حتى مطلع القرن الحاضر، ترجمة أحمد أحمدي: 270.

[37]) آية الله جوادي آملي، الشريعة في مرآة المعرفة: 215.

[38]) تقي زاده أرمكي، الفكر الاجتماعي لمفكري الإسلام من الفارابي إلى إبن خلدون: 105.

[39]) المصدر نفسه: 103.

[40]) المؤمنون: 14.

[41]) المرأة في مرآة الجلال والجمال، مصدر سابق.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً