عرض وتحليل للاتجاهات والمواقف والمنطلقات والانتقادات
حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا
بين يدي البحث
قبل أن نشرع بالحديث عن موضوع العلاقة بين المرأة والسلطة أو الشأن العام، من المناسب أن نمهّد لذلك ببعض الأفكار؛ بغيةَ التهيّؤ لتناول الموضوع بشكلٍ أفضل.
إنّ الموضوع الذي نريد أن نعالجه هنا هو بحقّ موضوعٌ شائك ومعقّد، إنّه يدور حول ثنائيّة المرأة والعمل السياسي والاجتماعي العام، أو بتعبير آخر: المرأة وتولّي الشؤون العامّة. وهو موضوعٌ تمّت إثارتُه في العقود الأخيرة، حيث تغيّرت الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة للمرأة نفسها في العالم.
إلا أنّ هذا لا يعني أنّه لم يكن قد تمّ تناول هذا الموضوع سابقاً، بل نحن نجد أنّه قد اعتنى الفقهاء في دراساتهم الفقهيّة بهذا الموضوع، أو على الأقلّ ببعض جوانبه الرئيسة تحت عناوين متعدّدة، سرعان ما يلاحظها المراجع للتراث الفقهي ويكتشف أنّها مبثوثة في كتب الفقهاء المسلمين، مثل:
- اجتهاد المرأة.
- تصدّي المرأة للمرجعيّة الدينيّة.
- تولّي المرأة منصب القضاء.
- وغير ذلك من العناوين والملفّات.
ولكي نستجلي المراد من مصطلح «الشؤون العامّة»، بإمكاننا القول: هي مختلف النشاطات العامّة الاجتماعيّة والسياسيّة، مثل: تولّي القضاء والمرجعيّة، ودخولها في الحياة السياسيّة، بلوغاً حتى تولّيها السلطة السياسيّة.
وسوف نتناول هذا الموضوع ضمن محورين رئيسيّين، هما:
المحور الأول: تقديم لمَحةٍ تاريخيّة عن الاتجاهات الفكريّة والاجتهاديّة في قضايا المرأة عند علماء المسلمين، منذ بدايات القرن العشرين إلى يومنا هذا. وفي هذا المحور سوف نركّز على توصيف الاتجاهات وآرائها ومناهجها في هذه القضيّة ضمن تحليلٍ تاريخيّ إجمالي للدواعي والأسباب.
المحور الثاني: ونتناول فيه وجهات النظر هذه، مع بعض أدلّتها، مكتفين بتعليقات بسيطة هنا وهناك.
المحور الأوّل
الاتجاهات في قضايا المرأة في القرن العشرين
إطلالة توصيفيّة مختصرة
تمهيد
أريد هنا أن أطلّ على الانقسامات الفكريّة التي شهِدتها الساحة الإسلاميّة منذ بدايات القرن العشرين إلى اليوم، لنرى كيف كان يفكّر العلماء والفقهاء والمفكّرون والمثقّفون المسلمون في هذه القضيّة الشائكة والحسّاسة، أعني قضيةَ المرأة؟ وكيف كانوا يتناولون هذه الموضوعات ويعالجونها؟
ويجب أن أشير إلى أنّني سوف آخذ هنا بعين الاعتبار المذهب الإمامي بالخصوص، كي لا يتّسع البحث كثيراً، ولا يتشعّب أو يطول.
في هذا السياق نجد أربعة اتجاهات أساسيّة في قضيّة المرأة، بل لو أمعنّا النظر فلربّما نجد أنّ مجمل الخلافات الفكريّة حول قضايا المرأة في العصر الحديث تعود إلى هذه الاتجاهات الأربعة، وتصبّ في فضاء واحدٍ منها.
هذه الاتجاهات المركزيّة في دراسة قضيّة المرأة هي([2]):
1 ـ الاتجاه التراثي النصّي، وهو الاتجاه الأسبق زماناً.
2 ـ الاتجاه العقلاني التفسيريّ.
3 ـ الاتجاه الحقوقي النقدي.
4 ـ الاتجاه العلمانيّ.
إنّ هذا الترتيب الذي اخترناه هنا لا يعني أيّ تحقيبٍ زمني بالضرورة، بمعنى أنّ هذا الترتيب يمكن فرضه ترتيباً زمنيّاً في ظهور هذه الاتجاهات، لكنّه لا يمثّل ترتيباً نهائيّاً، فلا يمكن القول بأنّ التيار الأوّل قد انتهى ولم يعد له وجود، بل جميع هذه التيّارات ما يزال موجوداًً إلى يومنا هذا، وأيّ باحثٍ اليوم يراجع الأعمال الفكريّة المتعلّقة بقضايا المرأة، فسوف يجد أنّ هذه القضايا هي عبارة عن مادّة التنازع بين هذه التيّارات الأربعة في الساحة الإسلاميّة.
الاتجاه الأوّل: الاتجاه التراثي النصّي
نبدأ الحديث عن الاتجاه التراثي عبر تقديم تحليل تاريخيّ عنه، ومن ثمّ نتحدّث عن منهجه، لننتقل إلى النتائج التي وصل إليها أصحاب هذا الاتجاه في ضوء المنهج الذي ساروا عليه، ونعرّف المصادر الأساسيّة لهذا الاتجاه.
أ ـ تحليلٌ تاريخيٌّ للإرهاصات والبدايات
يعتمد هذا الاتجاه على النصوص الدينيّة بالدرجة الأولى، ويُلاحظ أنّه كان قويّاً جداً في بدايات القرن العشرين، ولاسيّما فيما عُرف بقضيّة الحجاب، وهي مسألة اشتهرت في العالم الإسلامي، خاصّةً في تركيا وإيران، حيث كانت هناك اتجاهات سلطويّة تسعى ـ بشكلٍ أو بآخر ـ لخلع الحجاب ولو بالقوّة، اتجاهاتٌ تسعى للضغط بطريقةٍ أو بأخرى لمواجهة ظاهرة الحجاب، واعتبار نهضة الأمم والأوطان بتجاوز هذه الظاهرة والدخول في نمط حياةٍ جديدة.
لقد أراد المفكّرون والعلماء المسلمون أن يواجهوا هذه الظاهرة، فوقعت حالة التصادم بين التيارين: تيّار يواجه بعلمانيّته هذه الظواهر وعلى رأسها الحجاب، بوصفها ـ من وجهة نظره ـ العنصر الرئيس في حجب المرأة عن الحياة الاجتماعيّة، والمفتاح الذي من خلاله يُحكم على المرأة باعتزال الحياة العامّة، أو نهوضها ودخولها الحياة وانبعاثها الوجودي من جديد.
هذا كلّه يعني أنّ الصراع على الحجاب لم يكن سابقاً ـ والآن في بعض أوجهه ـ مجرّد صراعٍ حول اللباس أو حول خرقة تضعها المرأة على رأسها، وإنّما في عمقه نزاعٌ حول منح المرأة هويّةً جديدة ، كما يصرّح المتصارعون أنفسهم مثل الدكتور محمّد أركون، إنّ القضيّة هنا هي أنّنا لو قبلنا بالحجاب فهذا يعني قبولنا بهويّة خاصّة تصنع للمرأة، وهي هويّةٌ تقوم على تغييبها عن الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وأمّا إذا رفضناه فهذا يعني أنّ علينا الإذعان بامتدادات هذا الرفض، والمتمثلّة بحضور المرأة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة؛ فموضوع الحجاب ليس موضوعاً فقهيّاً ضيّقاً في هذا الصراع العنيف، بل له أوجهه الاجتماعيّة والسياسيّة الواضحة.
في ظلّ هذا الصراع الذي شهدته بدايات القرن العشرين، والذي كان يمثّل واحدةً من أمّهات القضايا المتنازع عليها حول قضيّة المرأة، سعى التيار التراثي النصّي للدفاع عن القيم والمفاهيم الإسلاميّة؛ ولذلك وجدنا أنّ الكثير ممّا كتبه كان يدور حول قضيّة الحجاب.
لقد تركت لنا دفاعيّات تلك الفترة مجموعًة ضخمة من الرسائل الفقهيّة وغير الفقهيّة، والتي عُرفت في حينه بـ «الرسائل الحجابيّة»، فعلى مستوى إيران مثلاً، جمع الشيخ الدكتور رسول جعفريّان عدداً كبيراً من هذه الرسائل في كتاب من عدّة مجلدات عُرِفَ باسم «الرسائل الحجابيّة»، أرّخ لنا فيه وقائع هذه المعركة الكبيرة ونصوصها.
انطلاقاً من موضوع الحجاب، نجد أنفسنا أمام موضوعٍ آخر، وهو خروج المرأة من البيت، وهذا ما يفسّر الجدل حامي الوطيس الذي شهدته تلك الفترة حول هذا الموضوع أيضاً؛ لأنّ مفهوم الحجاب تمّ ربطه بحجب المرأة في البيت وعدم خروجها، ومن ثمّ عدم تصدّيها للشؤون العامّة. إنّه ـ أعني خروج المرأة من البيت ـ موضوعٌ ربّما يُعدّ اليوم بديهيّاً بالنسبة إلى كثيرٍ منّا، لكنّه كان في تلك الفترة موضوعاً إشكاليّاً للغاية.
ومن الحجاب والخروج من المنزل، ننطلق نحو نزاع ثالث أوقع المفكّرين والعلماء والمثقّفين المسلمين في انقسامٍ شديد، وهو «المدرسة العصريّة»، إذ طُرح التساؤل الآتي: هل نسمح بتأسيس المدرسة العصريّة أو لا؟ والمعنيّ بالمدرسة العصرية هو المدارس الابتدائية والمتوسّطة والثانويّة.
إنّنا نتلقّى اليوم موضوع المدرسة العصريّة بكلّ وضوحٍ وبداهة، لكنّه في تلك الفترة كان موضوعاً معقّداً وإشكاليّاً، فقسمٌ كبير من العلماء ـ ومنهم كثيرون من أنصار هذا الاتجاه النصّي ـ رفضوا المدرسة العصريّة، واعتبروها نُسخةً عن الثقافة الغربيّة التي كانت تريد أن تستنسخ نفسها في وعينا وثقافتنا؛ لأنّها تؤدّي إلى إخراج المرأة، إذاً فالمدرسة العصرية النسويّة ـ فضلاً عن المختلطة ـ أمرٌ مرفوض؛ لأنّه يمثّل عمليّة استيرادٍ مُبرمج للثقافة الغربيّة ويجب أن نقف إزاءها، فإنّها تُخرج المرأة من حالة الحجاب ـ بالمعنى العام للكلمة ـ إلى حالة الحضور في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وهو أمرٌ مرفوض إطلاقاً.
ممّا أسلفنا يظهر لنا، أنّ الجدل الأساس كان يدور حول الحجاب والمدرسة العصريّة، وأمّا مسألة مشاركة المرأة في الحياة السياسيّة والاجتماعية عموماً فقد اعتبروه أمراً مرفوضاً جملةً وتفصيلاً؛ فمن وجهة نظرهم: خُلقت المرأة ـ من الناحية الفقهيّة والشرعيّة ـ لتكون في البيت، وهذا تركيبٌ فطريّ إلهي، فكما أنّ كلّ فردٍ من أفراد المجتمع له وظيفته، فهناك شخصٌ يعمل بالنجارة وآخر بالحدادة و..، فإنّ المرأة عليها أن تكون في المنزل، وعليها مجموعةٌ من المهامّ المقدّسة المطلوبة منها، والرجل يجب عليه أن يكون خارج المنزل، ليتحمّل مسؤوليّة مجموعةٍ أخرى من المهامّ المقدّسة المطلوبة منه أيضاً، والفِطرة هي التي رسَّمت لنا هذه المعالم، بل إنّ بعض أنصار هذا الفريق ـ مثل السيد حسن المدرّس ـ قالوا: ليس فقط المرأة لا يحقُّ لها أن تكون إماماً للمسلمين، أو مرجعاً عامّاً للأمّة، وليس فقط لا يحقُّ لها أن تكون قاضياً، أو أن تترشّح للانتخابات الرئاسية أو البرلمانيّة أو غير ذلك، بل لا يحقُّ لها أن تَنْتَخِب، استناداً ـ من وجهة نظرهم ـ إلى مجموعة غير قليلة من النصوص الموجودة في الكتاب والسُنّة.
ب ـ منهج البحث في الاتجاه النصّي
يمكنني أن ألخّص معالم المنهج النصّي في تناول قضايا المرأة في ثلاثة عناصر أساسيّة:
- اعتبار المشكلة من الخارج.
- التعبّد في النصوص.
- التركيز على الفوارق بين الرجل والمرأة جسديّاً، وروحيّاً، ونفسيّاً.
أوّلاً: اعتبار المشكلة من الخارج
ثمّة اتجاهان في الساحة الثقافيّة الإسلامية عموماً، ليس فقط في موضوع المرأة، بل في مختلف نواحي صراعاتنا الفكريّة:
الاتجاه الأول: اتجاهٌ يعتبر المشكلة من خارج المربّع دائماً، فإذا كانت المشكلة في خارج المربع، فالحلّ يكون من خلال بناء أسوارٍ لمنع المشكلة من اختراق مربّعنا الداخلي، وهذه نتيجة طبيعيّة لهذا الاعتقاد.
الاتجاه الثاني: اتجاهٌ يقف تماماً في مقابل الاتجاه الأول، حيث يعتبر المشكلة من داخل المربّع، ولهذا يُصبح الحلّ أصعب بكثيرٍ؛ لأنّ علينا أن نقوم بعمليّة تطهير داخلي، بدلَ تضييع الوقت في بناء الأسوار حول المكان الفعلي.
بل يمكنني القول بأنّ العلماء والمفكّرين والمثقّفين، لا يزال يتجاذبهم هذان الاتجاهان في جميع المجالات الفكريّة والثقافيّة، ففريقٌ يرى أنّه لا توجد عندنا مشكلة، وإنّما الإشكال في الخارج، إذاً، فالمطلوب هو إصلاح الجدران والأسوار في ما بيننا وبين الخارج، ورفع التحصينات الدفاعيّة، وتقوية المفاهيم الدينيّة نفسها، بل إنّ القيام بعمليّة نقدٍ داخلي يغدو هنا أمراً غير جائز؛ لأنّ ذلك يوجب ضعفنا أمام الهجوم الخارجي، فعندما يجدنا الطرف الآخر مشغولين بالنقد الداخلي، فسوف يقتحم علينا أكثر، وبهذا تكون الأولويّة للمواجهة الخارجيّة.
هذه هي رؤية الاتجاه الأوّل، أي الاتجاه النصّي هنا، وسوف نتعرّض للاتجاه المقابل عند الحديث عن «الاتجاه النقدي والتحليلي».
يعتقد هذا الفريق أنّ المشكلة تكمن في الخارج دائماً، ومنظومتنا الفكريّة ونصوصُنا ليست فيها مشكلة، حتى تفسيرنا للنصّ أيضاً ليس فيه مشكلة تُذكر، بل المشكلة المركزيّة في الغزو الثقافي الملعون الذي يداهمنا، وهذا يستدعي منّا أن نتمترس ونصوّب الأسلحة تجاهَه، ونطلق النار عليه.
ثانياً: التعبّد بالنصوص
يرى أنصار هذا الاتجاه ضرورة الاستناد بالدرجة الأولى إلى النصوص الدينيّة، ويقدّمون أنفسهم بوصفهم متعبّدين بالنصّ، وأساساً من وجهة نظر هؤلاء فإنّ الإسلام من التسليم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ..﴾ (آل عمران: 19)، فإسلام المرء بقدْر تسليمه وتعبّده، فإذا كان هناك نصّ، فعلى المسلم الحقيقي أن يتعبّد به ويسلّم له، والجدل مع النصوص ممنوع؛ لأنّ المسلم الحقيقي هو الذي لا يجد حرجاً في نفسه مما قضاه الله ورسوله، كما صرّح به القرآن الكريم: ﴿فَلاَ ورَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء: 65).
وعليه، تغدو المفاهيمُ التي باتت تروج اليوم في العالم وتتحدّث عن حقّ الإنسان في مناقشة الله، غيرَ إسلاميّة، فلا يوجد في الثقافة الإسلاميّة شيءٌ من هذا؛ لأنّ الإسلام مع أنّه يجيز للإنسان مناقشة أخيه الإنسان، والاعتراض عليه ضمن ضوابط معيّنة؛ أمّا إجراء مثل هذا مع الله سبحانه وتعالى فمرفوضٌ إطلاقاً ، بل الإسلام يركّز على أنّ وظيفة المؤمن الحقيقي هو التسليم لله سبحانه في كلّ الأمور، حتى يبلغ به مستوىً روحيّاً عالياً، بحيث لا يشعر في أعماق وجدانه وباطنه، بأيّ حرجٍ أو ضيق من وراء أيّ حكم أو قضاء يقضيه الله ورسوله فيه، هذا هو مبدأ النصّ والتسليم.
من هذا المنطلق بالذات، قام هؤلاء العلماء والمفكّرون بحَشد كميّةٍ كبيرة جداً من الروايات والنصوص الحديثيّة، دون البحث والتحقيق في أسانيدها أو مصادرها، ودون عرضها على القرآن، حيث لم يكن شيءٌ من هذا متداولاً في تلك المرحلة على مستوى هذه الموضوعات في الساحة الفكريّة العامّة، ثمّ قالوا بأنّ لدينا عدداً هائلاً من الروايات يحدّثنا عن نقصان عقل المرأة، بل يدعونا بصراحة إلى: «شاوِروهنّ وخالِفوهنّ»([3])، حتى أنّ الملا أمين الاسترآبادي (1031هـ)، استشهد بهذا النصّ لتكريس قاعدة كليّة اعتبر أنّ الله أنعم بها على الشيعة، حيث قال: «أقول: من جملة نعماء اللّه تعالى على الطائفة المحقّة أنّه خلّى بين الشيطان وبين علماء العامّة ليضلّهم عن الحقّ في كلّ مسألة نظريّة، ليكون الأخذ بخلافهم لنا ضابطة كليّة، نظير ذلك ما ورد في حقّ النساء: شاوروهن وخالفوهنّ»([4]).
إذن، حشَد هذا الفريق النصوص الحدیثیّة ـ وهی ليست بقليلة ـ دون أن ينقّحها ويغربلها أو يبحث فيها؛ إذ تلك المرحلة لم تكن مرحلة الغربلة والبحث العلمي بهذا المعنى، وإنّما كانت مرحلة حشد النصوص، وعلى المقلب الآخر وجدنا هذا الفريق لا يُسلّط الضوء على النصوص التي تتضمّن تأييداً للمشاركة السياسيّة والاجتماعيّة للمرأة، بل بقيت تلك النصوص غير مهتمّ بها علميّاً، إلى أن جاء الجيل اللاحق ليهتمّ بها كما سنرى أثناء عرض الاتجاهات اللاحقة.
من جهة أخرى، وجدنا علماء هذا الفريق يستعينون بالعلوم الحديثة لدعم نظريّتهم في التمييز بين الرجل والمرأة، منطلقين في ذلك كلّه من الشعور بأنّ هناك غزواً ثقافيّاً نتعرّض له، وعلينا أن نقوم بكلّ ردة فعلٍ تمنع حصوله.
ثالثاً: التركيز على الفوارق بين الرجل والمرأة جسدياً، وروحياً، ونفسيّاً
ركّز هذا الفريق من العلماء والمفكّرين عندما عالجوا قضية المرأة، على الفوارق بين الرجل والمرأة، وما زلنا نشهد هذا الحديث كثيراً على لسان أنصار هذا الاتجاه، وقد بدأت عمليّة المحاسبة هذه مستندةً إلى العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ومستعينةً بمنجزات الغرب نفسه، للقول بأنّ المرأة تختلف عن الرجل جسديّاً بكذا وكذا، وبأنّها تختلف عنه نفسيّاّ في كذا وكذا؛ لأنّ الفوارق هي التي ستبرّر فصل المرأة عن الرجل فصلاً تاماً، لكي نعطي للرجل مساحةً يشتغل عليها في حياته، وهي خارج المنزل، فيما نعطي المرأة مساحة تشتغل عليها في حياتها، وهي داخل المنزل؛ فالذي برّر هذا الفصل في الوظائف والمهامّ، والذي سمحَ بهذا الفَصل بين الرجل والمرأة هي الفوارق بين الرجل والمرأة جسديّاً وروحيّاً ونفسيّاً.. والتي أتت من الفطرة الإلهيّة التي زرعها الله سبحانه في الخلق.
لكن لماذا كانت فكرة الفطرة دائماً موجودة في أدبيّات هذا الفريق؟
لأنّ الطبيعة والتكوين كانت المستند الأساس عند الغربيّ للقول بتساوي المرأة والرجل في الحقوق والوظائف، فكان دائماً يقول بأنّ الطبيعة الإنسانيّة تتطلّب الحُرّية، وأعلى نسبة ممكنة من الصلاحيّات والحقوق للإنسان، مصوّرين هذا الأمر على أنّه استدعاءٌ تلقائيّ للتكوين الإنساني، وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى الوجوديّة التي نافح عنها «جان بول سارتر» وغيره، حيث كانت تتحدّث عن مساحة واسعة في هويّة الإنسان بوصفها هويّة مفتوحة، فليس هناك أمرٌ تكويني يفرض عليه هويّة معيّنة.
إذن، ركّز هذا الاتجاه في المقابل على مسألة الفطرة كي يثبت أنّ الفطرة ـ أي التكوين الإلهي للإنسان ـ يعطي خلاف ما يقوله الغربي أو المتأثّر بالغرب.
ج ـ نتائج ما توصّل إليه أصحاب الاتجاه التراثي النصّي
بعد مراجعةٍ سريعة في مُخرجات هذا الاتجاه، نستطيع أن نفهرس النتائج التي وصلوا إليها على الشكل الآتي:
1 ـ المرأة أضعف من الرجل تكويناً.
2 ـ إنّ عمل المرأة خارج المنزل يُفضي إلى الإخلال بالوظيفة التكوينيّة التي طُلبت منها، وهي عبارة عن الأمومة، والتربية وما شابه ذلك.
3 ـ تنسجم هذه التعاليم الإسلاميّة المميِّزة بين الرجل والمرأة، مع الفِطْرة، ولا تناقضها أبداً.
4 ـ تُمنعُ المرأة من الدخول في الحياة السياسيّة منعاً باتّاً، كما تُمنع من مطلق أنواع المشاركة السياسيّة، بما في ذلك الانتخاب، فضلاً عن الترّشح لتكون في منصبٍ مّا في دائرة من الدوائر الحكوميّة أو ما شابه ذلك. وهذا فصلٌ قانونيّ مهمّ جداً في هذا الإطار.
د ـ مصادر هذا الاتجاه
إنّ مصادر أفكار هذا الاتجاه كثيرة جداً، أبرزها:
كتب التفسير
كتب التفسير ـ خاصّة المتأخّرة منها ـ مليئة كلّها بما يؤيّد نظريّات هذا الاتجاه، وخاصّةً في هذه المواضع:
- عند التعرّض لتفسير آية القوامة: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..﴾ (النساء: 34)، حيث تؤسّس هذه الآية الشريفة مبدأ قوامة الرجل على المرأة مع اختلاف في معناها ونطاقها.
- عند التعرّض لتفسير آية الدرجة: ﴿..وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ..﴾ (البقرة: 228)، حيث تتحدّث الآية الشريفة من جهة عن تساوي الحقوق والوظائف بين الرجل والمرأة، لكنّها ـ من جهة أخرى ـ تؤكّد على تفوّق الرجال على النساء بدرجة، مع الاختلاف في معنى الدرجة ونطاقها.
- في تفسير آيات الإرث، حيث ورد في القرآن الكريم أنّ إرث المرأة نصف إرث الرجل في آيتين من سورة النساء: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ..﴾ (النساء: 11) و﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النساء: 176).
- عند تفسير آية الشهادة: ﴿..اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى..﴾ (البقرة: 282)، حيث تعتبر الآية الشريفة أنّ شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وهناك يبدؤون بالبحث في موضوع الفوارق الذهنيّة والعقليّة والنفسيّة وما شابه ذلك.
كتب الحديث
حشد أنصار الاتجاه النصّي الكثيرَ من الروايات المبثوثة في كتب الحديث عند المسلمين ـ سنّة وشيعة ـ لدعم اتجاههم، وتبدأ الروايات هذه ـ على اختلافها ـ من بداية الخلقة بأنّ حواء خُلقت من ضلع آدم، أو خُلقت من فاضل طينته، ولا تنتهي عند نقصان عقل المرأة أو نقصان إيمانها، وأكتفي بالإشارة إلى ثلاث روايات في هذا المجال:
الرواية الأولى: ما رواه الرواندي في كتابه قصص الأنبياء^، بسنده([5]) إلى وهب بن منبه اليماني: «أنّ الله تعالى خلق حواء من فضل طينة آدم على صورته، وكان ألقى عليه النعاس وأراه ذلك في منامه، وهي أوّل رؤيا كانت في الأرض..»([6]).
الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق في «كتاب من لا يحضره الفقيه» مرسلاً عن السکوني عن جعفر بن محمد، عن أبيه^: «أنّ عليّ بن أبي طالب× كان يورث الخنثى، فيعدّ أضلاعه فإن كانت أضلاعه ناقصة من أضلاع النساء بضلع ورث ميراث الرجل؛ لأنّ الرجل تنقص أضلاعه عن ضلع النساء بضلع؛ لأنّ حواء خُلقت من ضلع آدم× القصوى اليسرى فنقص من أضلاعه ضلع واحد»([7]).
الرواية الثالثة: وممّا يشهد على تطبيق هذه النظريّات المتّصلة بكيفيّة الخلقة، على الاختلاف في الأحكام والحقوق ما رواه الشيخ الصدوق أيضاً في كتابه «علل الشرائع»، حيث نقل بسنده([8]) إلى زيد بن سلام أنّه سأل رسول الله| : «..قال: فأخبرني عن آدم خلق من حواء أم خلقت حواء من آدم؟ قال: بل حواء خلقت من آدم، ولو كان آدم خلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء، ولم يكن بيد الرجال، قال: فمن كلّه خلقت أم من بعضه؟ قال: بل من بعضه، ولو خلقت من كلّه لجاز القصاص في النساء، كما يجوز في الرجال. قال: فمن ظاهره أو باطنه؟ قال: بل من باطنه ولو خلقت من ظاهره لا نكشفن النساء كما ينكشف الرجال، فلذلك صارت النساء مستترات. قال: فمن يمينه أو شماله؟ قال: بل من شماله، ولو خلقت من يمينه لكان للأنثى كحظ الذكر من الميراث، فلذلك صار للأنثى سهم وللذكر سهمان وشهادة امرأتين مثل شهادة رجلٍ واحدة. قال: فمن أين خلقت؟ قال: من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر. قال: صدقت يا محمد..»([9]).
ترتّب هذه الرواية حقّ الطلاق، والقصاص، ومسألة الإرث، وشهادة المرأة على مسألة خلق المرأة من الرجل.
إذن، يرى هؤلاء العلماء أنّ المرأة قد خُلقت من فاضل طينة الرجل أو من أحد أضلاعه، ويقرأون هذا على أنّه فارقٌ تكوينيّ أساسي بين الرجل والمرأة، وهو يسوّغ الخلافات بين الوظائف والحقوق.
وثمّة الكثير من مثل هذه القضايا، تناولتها الروايات الشريفة، تمثّل المنطلق الأساس لأفكار هذا الاتجاه، ولا ندخل في تفاصيلها الساعة بسبب ضيق المجال.
كتب الفلسفة والعرفان
لم تكن كتب الفلسفة والعرفان أيضاً خاليةً من أنصار هذا الاتجاه، حيث إنّ أغلبية الفلاسفة والعرفاء كانوا يناصرون هذا التوجّه العام، حتى أنّ بعض الفلاسفة والعرفاء المعروفين جداً مثل ملّا صدرا الشيرازي، وملّا هادي السبزواري لديهم آراء قد تعدّ اليوم متطرّفة في الدفاع عن هذا الاتجاه بشكلٍ أو بآخر، طبعاً هم عاشوا قبل هذا الصراع زمنيّاً، لكن نصوصهم تصبّ لصالح هذا الاتجاه.
بل نجد في الفلسفة الإسلاميّة، نقاشاً حول إنسانيّة المرأة، فلطالما كان ثمّة بحثٌ مدوّن إلى يومنا هذا حول ذلك، فهل هي إنسانٌ أو لا؟! وكذلك هناك بحث آخر عندهم، حول فلسفة خلقة المرأة، فلماذا خُلقت المرأة أصلاً؟ وهو بحثٌ طويل يراجع في مظانّه.
كتب الفقه
نجد الكثير من الأفكار التي تؤيّد هذا الاتجاه، مبثوثةً في الكتب الفقهيّة، وقد طرحت في مواضع مختلفة، ويمكن أن نشير إلى بعضها على الشكل الآتي:
- في كتاب الاجتهاد والتقليد، عند الحديث عن حق المرجعيّة للمرأة.
- في كتاب الشهادات، عند الحديث عن شهادة المرأة، وأنّها نصف شهادة الرجل.
- في كتاب القضاء، عند الحكم بعدم جواز تولّي المرأة للقضاء.
- في كتاب الديات، عند الحديث عن أنّ دية المرأة تساوي دية الرجل إلى الثلث، وبعده تصبح نصف دية الرجل.
- في كتاب الإرث، عند الحكم بأنّ إرث المرأة نصف الرجل في مواضع محدّدة.
والنتيجة: إنّ هذا التصّور/الرؤية/المدرسة ما يزال يحظى بأنصارٍ كُثر في الساحة الإسلاميّة، والثقافيّة، وله أدلّته ومبرّراته، ومنطلقاته، وهذه وجهة نظر تُحترم في هذا السياق.
الاتجاه الثاني: الاتجاه العقلاني التفسيري
نبدأ الحديث عن الاتجاه العقلاني التفسيري عبر تقديم تحليل تاريخيّ عنه، ومن ثمّ نتحدّث عن المحاولات والنتائج التي وصل إليها أصحاب هذا الاتجاه في ضوء المنهج الذي ساروا عليه، لنختم الحديث ببعض الشخصيّات البارزة فيه.
التحليل التاريخي لظهور الاتجاه العقلاني التفسيري
بدأنا نشهد ظهور تباشير اتجاهٍ جديد في نهائيات النصف الأول من القرن العشرين، وهو ما أسمّيه الاتجاه العقلاني التفسيري.
وربما يمكنني القول بأنّ هذا الاتجاه جاء استجابةً للتغيّرات التي شهدها العالم في القرن الأخير، حيث دخل مرحلة جديدةً من جوانب مختلفة، فقد اتّجه نحو الإنسان وجعله محوراً لكلّ شيء وكذلك طُرحت مفاهيم مثل حقوق البشر و.. بقوّة، إثر الحروب الداميّة التي خلّفت دماراً شاملاً في العالم بأكمله، فأصبح تساوي الإنسان في الحقوق مقدّساً لا يمكن النقاش حوله ونتيجة ذلك وجدنا علماء المسلمين أيضاً يتّجهون نحو إثبات انسجام الأحكام الإسلاميّة مع هذه المفاهيم، فظهرت محاولات ونظريّات جديدة في قضايا المرأة التي لطالما كانت من القضايا الأساسيّة التي تتعلّق بحقوق البشر والتمييز فيها، علماً بأنها لم تكن تخصّ الإسلام أو المجتمعات الإسلامية، بل إنّ قضيّة المرأة كانت قضيّة إشكاليّة في جميع الديانات وفي جميع الحضارات عبر التاريخ، إذ نجد نصوصاً في التوراة والإنجيل شكّلت معارضاً للثقافة المعاصرة.
محاولات الاتجاه العقلاني التفسيري
أضع محاولات هذا الاتجاه ضمن خطوات ثلاث، هي:
الخطوة الأولى : إعادة النظر في هويّة المرأة في التراث الإسلاميّ
بدأ هذا الاتجاه يفكّر بطريقة أخرى، فجعل هويّة المرأة حجر الزاوية في دراسته، كما نرى مع العلامة الطباطبائي الذي يُعتبر من رموز هذا الاتجاه، وكذلك الشيخ المطهّري.
لقد قالوا: إنّ هويّة المرأة والرجل هويّةٌ واحدة، لا يوجد اختلاف ذاتيّ بينهما، وأنّ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا..﴾ (النساء: 1) لا يعني أنّ المرأة خُلقت من الرجل، وإنّما يعني ـ حسب رأي هؤلاء العلماء ـ أنّها خلقت من جنس زوجها، أي خلقا من جنسٍ واحد، ومن طينةٍ واحدة.
إنّ حجر الزاوية في هذا التحوّل الذي بدأه هؤلاء العلماء، كان إعادة النظر في هويّة المرأة في موروثنا الإسلامي، وقد أثبتوا أنّ هويّة المرأة ليست ناقصة أو نصف إنسان، أو ثلاثة أرباع إنسان، فضلاً عن أن نقول ليست إنساناً كما تصوّره بعض الفلاسفة. كانت هذه الزاوية أساسيّة بالنسبة إلى أنصار هذا الاتجاه، ودافعوا عنها دفاعاً قويّاً.
إذن، من وجهة نظر أنصار الاتجاه التفسيري العقلاني، فإنّ المرأة تكويناً من حيث الهويّة والإنسانيّة، أو ما يسمّيه الفلاسفة بالصورة النوعيّة، واحدة مع الرجل، لا فرق بينهما في هذا الإطار.
نعم ثمّة فوارق جانبيّة، اهتم بها هؤلاء العلماء، إلا أنّهم قالوا: إنّ هذه الفوارق بين الرجل والمرأة لا ينبغي أن نبالغ بها، حدّاً نجعل من خلالها الرجل والمرأة نوعين من الخلق، كما فعل الفريق الأوّل، بل هما نوعٌ واحد، غاية الأمر ثمّة فوارق سطحيّة بينهما، وهذه الفوارق هي التي تسمح بتغاير الأحكام فيما بين الرجل والمرأة.
الخطوة الثانية: السعي لتقديم تبريرات عقلانيّة للفوارق الفقهيّة والشرعيّة
حاول أنصار هذا الاتجاه تقديمَ تبريراتٍ عقلانيّة للفوارق الفقهية والشرعية بين الرجل والمرأة، مثل:
- لماذا يحقّ للرجل أن يتزوّج بأربع زوجات، بينما المرأة ليس لها هذا الحقّ؟
- لماذا يثبت حقّ الطلاق للرجل، فيما لا يثبت للمرأة ذلك؟
- لماذا يملك الرجل حقّ الولايات العامّة دون المرأة؟
- لماذا يملك الرجل الولاية في المنزل دونها؟
لم يقف هؤلاء العلماء عند ظاهر النصوص مع أنّهم ـ مثل الفريق الأول ـ كانوا متعبدّين بها، بل استعملوا عقولهم في محاولة تجلية بعض حِكَم هذه النصوص، مقدِّمين بعض المبرّرات والتفسيرات العقلانيّة لذلك.
الخطوة الثالثة: فتح جزئي لباب الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة أمام المرأة
قام هؤلاء بالدفاع عن مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، لكن ليس بالحدّ الأعلى، فقد قالوا: لها أن تشارك، لكن ليس لها أن تشارك إلى الحدّ الأعلى، أي إنّهم فتحوا باب الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة أمامها، دون أن يعطوها حقّ تولّي كلّ المناصب، وأن تعمل في جميع مجالات الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، معتبرين أنّ هذا هو ما تفرضه طبيعة الفوارق القائمة، والنصوص الموجودة بين أيدينا، والتي يجب أن نلتزم بها.
التعريف بأبرز شخصيات الاتجاه التفسيري العقلاني
من أبرز شخصيّات هذا الاتجاه:
أ ـ العلامة الطباطبائي ومشروع الميزان في تفسير القرآن
من أبرز الشخصيات التي دافعت عن هذا الاتجاه، بحيث تعدّ رمزاً له، العلامةُ الطباطبائي (رحمه الله)، فكتابه «الميزان في تفسير القرآن» عبارةٌ عن موسوعة حافلة بمعتقدات هذا الاتجاه، مثل:
- مشاريع عقلنة التشريعات ـ إن صحّ التعبير ـ المتعلّقة بالمرأة.
- الدفاع عن الفوارق الموجودة في الشريعة.
- إثبات الهويّة الواحدة بين الرجل والمرأة.
- رفض المبالغة في الفوارق الموجودة.
- السماح للمرأة بممارسة الحياة السياسيّة والاجتماعيّة.
وغير ذلك ممّا نجده في طيّات كتبه.
لكن الطباطبائي لم يغيّر الأمور التي كانت ما تزال إلى تلك الفترة معدودة من الثوابت، حسب ما يستفاد من النصوص الشرعيّة، مثل:
- عدم استحقاق المرأة لتولّي القضاء.
- عدم جواز تولّيها للمرجعيّة.
- عدم استحقاقها تولّي المناصب السياسيّة العليا.
- كون شهادتها أقلّ من شهادة الرجل.
- كون إرثها نصف إرث الرجل في بعض الحالات.
- كون ديتها نصف دية الرجل في بعض المواضع.
فكلّ هذه الأمور بقيت قائمة عنده، ولم نشهد احتكاكاً بهذه الموضوعات لدى العلامة الطباطبائي، وكلّ القراءة التي قام بها العلامة بالنسبة إلى هذه الأحكام ـ ولاسيّما في الميزان ـ كانت ترتكز على مفهوم استدعاء الفطرة البشرية لهذا التمييز في الوظائف والحقوق.
ب ـ الشيخ المطهري وكتاب «حقوق المرأة في الإسلام»
يعتبر الشيخ مرتضى المطهّري من الشخصيات المعروفة في هذا الاتجاه، ومُنجَزه تركّز بشكل أكبر في كتاب «حقوق المرأة في الاسلام»، وهو كتابٌ مشهور لدى الباحثين.
حاول المطهّري في هذا الكتاب وغيره، الوقوف على كلّ مفردة من المفردات التي كانت محلّ الإشكال في الأوساط العلميّة آنذاك، لمحاولة تبريرها عقلانيّاً، مستنداً في ذلك إلى النصوص الشرعيّة، وإلى العقل والتحليل العقلاني، وإلى المعطيات العلميّة، وما شابه ذلك.
لقد رفض المطهّري بشكلٍ واضح فكرةَ خلق حواء من ضلع آدم، واعتبرها فكرةً يهوديّةً توراتيّة، تسرّبت إلى أذهان المسلمين بشكلٍ غير صحيح، متابعاً في ذلك أستاذه العلاّمة الطباطبائي.
وكانت إحدى النقاط المفصليّة عند الشيخ المطهّري، دفاعه المعروف والمشهور عن قضيّة كشف المرأة عن وجهها وكفّيها، وقد حصلت على إثر ذلك معركة كبيرة بينه وبين خصومه من بعض العلماء والباحثين، فكانت هذه منه خطوة متقدّمة في هذا الإطار.
ج ـ السيّد روح الله الخميني
وكذلك من الشخصيّات المعروفة في هذا الإطار الإمام الخميني، ففي الفترات الأولى ـ حسب ما يستفاد من نصوصه ـ لم يكن متحمّساً لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، إلى درجة كان غير متحمّس حتى لمشاركتها في الانتخابات، فضلاً عن الترشّح فيها، مثل السيد الشهيد الصدر تماماً، حيث إنّ هناك نصوصٌ قديمة عنه، تعبّر عن عدم تحمّسه لمثل هذه الأمور، لكن فيما بعد يبدو أنّ السيّد الخميني حصلت عنده وجهة نظر جديدة، وصارت عنده رؤية مختلفة، حیث بدأنا نشهد غزارة كبيرة جداً في نصوصه التي تدعم فكرة المشاركة الاجتماعيّة والسياسيّة للمرأة، بل قد رأينا تطبيقات عمليّة لهذا الموضوع.
د ـ الشيخ عبد الله جوادي الآملي
من الشخصيّات المناصرة لهذا الاتجاه، الشيخ الاُستاذ جوادي آملي حفظه الله، حيث يعدّ امتداداً لفكر العلماء الثلاثة (المطهّري، والطباطبائي، والخميني)، فنجد له كتاباتٍ مهمّة في هذا المجال، زحزحت الأوساطَ العلميّة والاجتماعيّة، فعلى سبيل المثال نجد لديه وجهة نظر يرى فيها أنّ المرأة يحقّ لها أن تكون مرجعاً للتقليد للنساء، فإنّ الأدلّة لا تمنع عن تقليد المرأة للمرأة، وغاية ما يستفاد منها، عدم جواز تصدّيها لمرجعيّة الرجال. وهذا ما يمثّل ثغرة في جدار موضوع المرجعيّة، باعتبارها شأناً من الشؤون العامة.
خلاصة نتائج ما توصّل إليه أنصار الاتجاه التفسيري العقلاني
يمكن تلخيص ما توصّل إليه هذا الفريق، على الشكل الآتي:
1 ـ ضرورة التركيز على النص القرآني، حيث اهتمّوا كثيراً بالموضوع القرآني بعد أن كان غائباً عن الساحة الفكريّة نسبيّاً.
2 ـ الاعتقاد بضرورة تصفية الأحاديث، حيث بدأوا يناقشون في الكثير من الأحاديث التي تتكلّم عن المرأة، ووجّهوا دعواتهم لإعادة النظر فيها وتصفيتها، لاسيّما من خلال العرض على القرآن الكريم، وهي الطريقة التي كان يعتمدها العلامة الطباطبائي عموماً في منهجه.
3 ـ اعتماد المنهج العقلاني في فهم النصوص، ومحاولة بناء منظومة في القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة للمرأة.
4 ـ إعطاء فسحة جديدة للمرأة، مخترقينَ بعض الفتاوى المحدودة هنا وهناك في هذا السياق.
الاتجاه الثالث: الاتجاه الحقوقي والنقدي
نبدأ الحديث عن الاتجاه الحقوقي والنقدي عبر تعريف إجمالي به ومنهجه العام، ومن ثمّ نتحدّث عن معالمه الأساسيّة، لنختم الحديث ببعض الشخصيّات البارزة فيه.
التعريف الإجمالي بالاتجاه الحقوقي والنقدي ومنهجه العام
الاتجاه الثالث هو الاتجاه الذي ظهر بشكل أساس منذ الثمانينيّات من القرن الماضي، ونطلق على هذا الاتجاه عنوان: الاتجاه الحقوقي والنقدي. وكما ذكرنا في بيان معتقدات الاتجاه النصي، هناك اتجاهان أساسيّان في الساحة الإسلامية الثقافية عموماً:
- اتجاهٌ يعتبر المشكلة من خارج المربع دائماً، وإذا كانت المشكلة في خارج المربع، فالحل يكمن في بناء أسوارٍ لمنع المشكلة من اختراق مربعنا الداخلي، وهذا هو الاتجاه النصّي الذي تقدّم ذكره.
- اتجاهٌ يقف تماماً في مقابل الاتجاه الأوّل، ويعتبر المشكلة من داخل المربع، وأصحاب هذا الاتجاه يرون أنّ الأولويّة تكمن في إعادة النظر في البنيات التحتيّة لأفكارنا ومعتقداتنا، فيجب أن نبدأ بهذه الأفكار ونصحّحها، ثم نقوم بعد ذلك ببناء الجدار من حولنا، للتحصّن من الهجمات الخارجيّة.
يُعتبر هذا الفريق هنا من أصحاب الاتجاه الثاني، حيث يعطي الأولوية للمواجهة الداخلية، ولذلك نجدهم لا يعتبرون المشكلة الأساسيّة في النقد الخارجي بل بالعكس تماماً، هذا النقد منبّهٌ على وجود الثغرات في أفكارنا ومعتقداتنا، وعليه يجب أن نعيد النظر في المنظومة المعرفيّة الموجودة عندنا، ثم نتجه إلى مكان آخر.
من هنا نرى كيف أنّ هذا الفريق يعتقد في مسألة المرأة بأنّه لابد من إعادة قراءة النصّ الديني المتعلّق بها من جديد؛ لأنّ المشكلة لا تكمن فقط في النقد الغربي والغزو الثقافي، بل في قراءتنا التي مارسناها للنص الديني المتعلق بالمرأة كذلك؛ لأنّها قراءة معوجّة وغير صحيحة بنظرهم.
المبادئ الأساسيّة للاتجاه النقدي التحليلي
سأكتفي بالإشارة إلى خمسة مبادئ أساسيّة لهذا الاتجاه:
المبدأ الأول: جعل الأحاديث تحت معاول النقد السندي والصدوري
يرى أنصار هذا الاتجاه أنّ الأحاديث تشكّل عنصراً أساسيّاً في تصوّراتنا الشعبيّة والثقافيّة عن المرأة، إذاً يجب أن نُخضع هذه الأحاديث لمجهر النقد، ونضعها على طاولة الجرّاح لنشرّحها؛ لنرى هل هي ثابتة حقاً أو لا؟
لا يمكن تبنّي هذه الأحاديث دون دراسة أسانيدها، ومصادرها، ونقدها؛ لنرى هل هي واردة في مصادر معتبرة أو لا؟ وهل يصحّ إسنادها للمعصوم أو لا؟ إذاً، فالخطوة الأولى عندهم هي نقد المصادر والأسانيد.
سنذكر على سبيل المثال، عملهم في الروايات المتعلّقة بعقل المرأة التي ربما تزيد عن عشرين رواية، حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أنّ هذه الروايات الكثيرة بعد دراسة أسانيدها ومصادرها، كلّها أو أغلبيّتها الساحقة غير صحيحة وفقاً لمعايير النقد السندي، وقواعد الصنعة الحديثيّة المرعيّة والمعتمدة في الاجتهاد الإسلامي، فهي إمّا لا أسانيد لها، أو أنّ مصادرها تعتبر مهملة عند العلماء، أو أنّ أسانيدها قابلة للمناقشة واكتشاف ثغرات فيها، وما شابه ذلك.
المبدأ الثاني: الاهتمام بالنقد المتني والدلالي إلى جانب النقد السندي
تقدّم هؤلاء العلماء خطوة أخرى إلى الأمام، حيث قالوا: يجب أن لا نكتفي بالنقد السندي، بل ينبغي أن ندرس مضامين الروايات أيضاً، لنرى هل هي مطابقة للقرآن أو لا؟ وهل تتطابق مع الوثائق التاريخيّة أو لا؟ وهل تناقض العقل القطعي أو لا؟ وهذا ما نسمّيه بالنقد المتني أو المضموني.
إنّ نقد المتن الحديثي، معركة ضخمة وقعت بين علماء المسلمين ـ سُنّة وشيعة ـ عبر التاريخ، بين من يركّز دائماً على نقد متون الأحاديث، بمثل أنّ هذا المتن يعارض العقل، أو يعارض قطعي السُنّة الشريفة، أو القرآن أو ما شابه ذلك، فيترك العمل بالرواية حتى لو كانت صحيحة السند، وبين من يكتفي بالنقد السندي.
ومن الذين يؤمنون بالنقد المتني، خاصةً على طريقة عرض الأحاديث على القرآن الكريم، العلاّمةُ الطباطبائي والسيد محمّد حسين فضل الله والشيخ محمّد مهدي شمس الدين والشيخ الصادقي الطهراني والسيد علي السيستاني والسيد هاشم معروف الحسني، حيث جعلوا القرآن الكريم المعيار الأساس لمعرفة المفاهيم الدينيّة، تمسّكاً بمسألة بيانيّة القرآن، وبالروايات الكثيرة التي تحثّ على لزوم عرض الحديث على الكتاب الكريم، ونكتفي بذكر بعض هذه الروايات المنقولة عن الأئمّة^:
1 ـ خبر السكوني، عن أبي عبد الله×، قال: «قال رسول الله|: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»([10]).
2 ـ خبر هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله×، قال: «خطب النبي| بمنى، فقال: أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»([11]).
3 ـ خبر أيوب بن راشد، عن أبي عبد الله× قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآنَ فهو زخرفٌ»([12]).
على أساس هذه الروايات وغيرها الكثير، على الباحث أن يدرس مضامين الروايات أيضاً بأن يعرضها على القرآن الكريم؛ ليرى هل تتوافق معه أو لا؟ فإذا كانت الرواية موجودة ـ ولو بسندٍ صحيح ـ في الكافي (شيعيّاً) أو صحيح البخاري (سنيّاً)، فهذا لا يعني بالضرورة أنّها صحيحة، بل على الباحث أن يعرض هذه الرواية على كتاب الله، فقد توافق كتاب الله وقد لا توافقه.
وإذا لاحظ الباحث الحصيف ظاهرة النقد المتني، فسوف يجدها حاضرة في الروايات غير الفقهيّة أكثر منها في الروايات الفقهيّة؛ ولعلّ السبب في ذلك أنّ الفقه يقوم أكثر من غيره على التعبّد، حيث يحتمل فيه وجود مصالح ومفاسد لا يطّلع عليها العقل البشري، مع علم الله تبارك وتعالى بها، بينما في الروايات غير الفقهيّة، مثل الأحاديث التي تتحدّث عن أحوال الكائنات أو المبدأ والمعاد أو الخصائص التكوينيّة للأشياء أو التاريخ أو ما شابه ذلك.. نجد فسحةً واسعة للنقد المتني.
ولكي تتّضح فكرة النقد المتني، أشير إلى روايةٍ تخالف القرآن ـ حسب رأي بعض العلماء ـ بينما هي رواية صحيحة حسب معايير النقد السندي، ولا نريد أن ندخل في مفاد هذه الرواية بالخصوص، ولكنّنا نستعرضها هنا، بوصفها أنموذجاً لمعرفة كيفيّة النقد المتني:
روي([13]) عن حريز بن عبد الله×، أنّه قال: كنت عند أبي عبد الله× فسأله رجلٌ، فقال له: جعلت فداك، إنّ الشمس تنقض([14])، ثمّ تركد ساعة من قبل أن تزول، فقال: إنّها تؤامر أتزول أو لا تزول([15])»([16]).
ينقل الراوي لنا حواراً بين الإمام× ورجلٍ لا نعرفه، يسأله عن سبب تغيّر سرعة الشمس ويقول: لماذا عندما تطلع الشمس من المشرق نراها سريعة، لكن عندما تقترب من الزوال، تبدو بطيئة، فكأنّما الشمس تطلع سريعاً، ثم تتباطأ؟
فأجابه الإمام×: لمّا تصل الشمس إلى قريب الزوال تؤامر، أي تحصل مشاورة بينها وبين الله ـ إن صحّ التعبير ـ في أن تزول أو لا؟ كأنّما هناك جلسة مناقشة يراد من خلالها اتخاذ القرار بالنسبة لزوال الشمس بأن تزول أو لا؟
وهنا يُعلَّق على هذا الحديث، بأنّه لا يمكن تصديقهُ حتى لو كان صحيح السند؛ لأنّه يتحدّث عن ظاهرة تخالف القضايا العلميّة القطعيّة؛ حيث إنّ الوقت بالنسبة إلى جميع النقاط في الكرة الأرضية ليس متساوياً، بل قد تكون ساعة الزوال في لحظة زمنية معيّنة بالنسبة إلى منطقة وفي الوقت نفسه، تكون ساعة الفجر بالنسبة إلى موضع آخر من الكرة الأرضية، فلا نستطيع أن نحصل على لحظة زمنية معيّنة، تكون فترة الانقضاض فقط أو تكون فترة الركود فقط، بل تجمع الشمس دائماً الحالات المتعدّدة اعتباراً من موقعها النسبي عن النقاط المختلفة من الأرض. إذاً، هذا الحديث مبنيّ على معادلة غير منطقيّة، فينبغي أن نضعه جانباً.
هذا التيار وأنصاره يركّزون على هذه القضيّة، فيدعون الباحثين للتركيز على دراسة متن الأحاديث إلى جانب دراسة أسانيدها ومصادرها، خاصةً في الأحاديث الإخباريّة مقابل الأحاديث الإنشائيّة، مثل الأوامر والنواهي و..؛ إذ تقِلّ فُرَص معرفة ملاكاتها، بخلاف الروايات الإخباريّة التي تتعامل عادةً مع قضايا واضحة وملموسة، فيمكن عرضها على القرآن والسُنَّة و.. لمعرفة مدى صحّتها.
المبدأ الثالث: فهم قضايا المرأة فهماً تاريخيّاً
اهتمّ هذا الفريق بمسألة تاريخيّة النصوص الواصلة عن المرأة، حيث قالوا: يجب أن نفهم قضيّة المرأة فهماً تاريخيّاً، بمعنى أنّه يجب أن نأخذ الأوضاع السائدة آنذاك في المجتمع الإسلامي عموماً وما يتّصل بالمرأة خصوصاً، كي نفهم النصوص الشريفة في ظرفها التاريخي.
وعلى سبيل المثال، نشير إلى مسألة الأمّية في المجتمع الإسلامي آنذاك وعند النساء خاصةً، حيث إنّ الأغلبيّة الساحقة من نساء الأمّة الإسلاميّة كانت أميةً، مثل أغلبيّة مجتمعاتنا قبل مئة عام، بل طبيعة الحياة وظروفها كانت تفرض ذلك؛ إذاً ففي مثل هذه الظروف التي كانت فيها أغلبيّة النساء أمّيات، لا نتوقّع من الإمام× أن يجيز تولّي مثلهنّ للشؤون العامّة في الحياة، لكن لو تغيّرت الظروف، وتبدلّت الأحوال، بحيث تغيّر وضع العِلم والتعليم في النساء، فصِرن في قمّة العلم بعد أن كنّ من الأمّيات، فإذا سُئل الإمام× في مثل هذه الظروف، فسوف يجيب بجواب آخر.
لا يختصّ موضوع الفهم التاريخي بقضيّة المرأة، بل إنّها معركةٌ كبيرة بين الباحثين، في كيفيّة فهم النصوص عموماً، حيث تغيّر الكثيرَ من الاجتهادات الدينيّة والفقهيّة.
ولكي تتّضح الصورة هنا أشير إلى مثالين فقهيّين:
المثال الأوّل: حرمة الشطرنج، فقد أفتى الإمام الخميني بحليّة الشطرنج، بعد أن كان يرى حرمته، ومبرّر ذلك فهمُه التاريخي لنصوص تحريم الشطرنج، مع أنّه ثمّة روايات صحيحة تدل على حرمة الشطرنج بعنوانه، لا بما أنّه من آلات القمار، لكنّ الفهم التاريخي هنا يتدخّل، ويغيّر الصورة.
يرى السيّد الخميني أنّ علينا أن نفهم هذه الروايات في سياقها التاريخي، حيث كانت الشطرنج في ذلك الزمان، رمزاً لآلات القِمار، فتحريمُها من قبل الإمام× لا يعني تحريمها بعنوانها، بل بوصفها من آلات القمار.
هذا فهمٌ تاريخي لهذه الروايات، حيث نأخذ كونها من أبرز آلات القمار زمنَ صدور النص، قرينةً على كون حرمتِها من جهة أنّها آلة قمار، مع عدم ما يدلّ على هذا النوع من الفهم في النصّ.
المثال الثاني: مسألة الزكاة، حيث نجد بعض الفقهاء المعاصرين يفهمون حصر الزكاة في تسعة أشياء معيّنة، وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم والنقدين، فهماً تاريخيّاً، ويرون أنّ وضع الزكاة لهذه التسعة كان لأنّها كانت تعتبر أصول الاقتصاد والموارد الماليّة للناس في ذلك الزمن، أمّا اليوم فقد تغيّرت الأوضاع وأنماط العيش، فلا ينبغي أن نقف عند هذه التسعة بالخصوص، بل نضع الزكاة على ما يعتبر من الأصول الاقتصاديّة في زماننا.
طبعاً من حقّ الآخرين أن يناقشوا هذا التفسير، بأن يقولوا مثلاً بأنّنا نجد في نصوص الزكاة بعض الرواة الذين كانوا من إيران ـ في حين كانت إيران بلد أرز آنذاك ـ وسألوا الإمام× عن هذه المسألة، لكنّه لم يقل تجب الزكاة في الأرز، فيكون هذا الفهم التاريخي حينئذ غيرَ صحيح.
المبدأ الرابع: التمركز حول الأدلّة الحقيقيّة
يوجّه هذا الفريق دعواته للمهتمّين بقضايا المرأة، أن يركّزوا في مثل هذه القضيّة الحسّاسة، على الأدلّة الحقيقيّة، تاركين بعض المقاربات التي تساعد على خلق جوّ مليء بالسلبيّة تجاه المرأة، فيجب أن نركّز على الأدلّة بدلاً مما نشهد الآن في الكتب الفقهيّة من التركيز على مثل:
- الاحتياط.
- الإجماع والشهرة.
- عادة المتشرّعة.
- سدّ الذرائع.
وما شابه ذلك.
المبدأ الخامس: كشف الملاك واستنطاق روح الحكم
اهتمّ الفريق الحقوقي النقدي، بمسألة كشف ملاكات أحكام المرأة؛ لأنّ الملاكات هي التي تستطيع أن تخرج الصورة عن حدودها الضيّقة لتوسّعها إلى تكوين صورة كاملة عن المرأة في الإسلام.
وقد انقسم علماء الإماميّة في هذا العصر ـ فيما يخصّ مسألة كشف الملاكات عموماً ـ إلى فريقين:
- فريق منهم يعتقد أنّه لا يمكن اكتشاف الملاكات في الشريعة كلّها من أوّلها إلى آخرها، لا في العبادات ولا في المعاملات، فلا داعي لأن ندخل في مثل هذه الموضوعات؛ لأنّها قضية مغلقةٌ بالنسبة إلينا، ولا نتمّكن من الخروج عن هذه القاعدة إلا في مواضع محدودة جدّاً؛ لمبرّرات خاصّة إضافيّة.
- فريق آخر يرى لزوم التفصيل بين العبادات والمعاملات والعلاقات والسياسات؛ لأنّ العبادات أمورٌ تعبديّة لا يمكن معرفة أسرارها، بخلاف المعاملات، حيث يمكن معرفة ملاكاتها، وكثير من قضايا المرأة يندرج في المعاملات، مثل: الشهادات، والقضاء، والحياة الاجتماعيّة والسياسيّة؛ إذاً، يمكن أن نفكّر ونصل إلى ملاكاتها.
وتعتبر هذه معركة كبيرة جداً، ويدافع كلّ واحدٍ من الفريقين عن رأيه فيها، ولا اُريد أن أدخل في تفاصيلها الساعة.
التعريف بأبرز شخصيّات الاتجاه النقدي الحقوقي
أ ـ الشيخ محمّد إبراهيم الجنّاتي
من أهمّ العلماء الذين تبنّوا الاتجاه النقدي الحقوقي، وأهمّ آرائه المتعلّقة بقضايا المرأة، هي:
- يجوز تقليد المرأة مطلقاً للرجال والنساء، فتكون المرأة مثل الرجل في موضوع التقليد.
- يمكن للمرأة أن تتولّى القضاء، وكلّ المناصب الإداريّة والسياسيّة والاجتماعيّة ولا فرق بينها وبين الرجل؛ لأنّه لا دليل على التحريم والمنع إطلاقاً.
- يثبت للمرأة حقّ العمل والعلم، ولا فرق بينها وبين الرجل من هذه الناحيّة.
- قرار زواج المرأة يكون بيدها مُطلقاً، سواء كانت باكرة أم غيرها، وحقّها الجنسي مثل حقّ الرجل تماماً.
ب ـ العلامة الشيخ محمّد هادي معرفت
يمكن أن نعتبر العلّامة الشيخ محمّد هادي معرفت (رحمه الله) من العلماء الذين تبنّوا هذا الاتجاه ودافعوا عنه، حيث نجد لديه آراءً تسمح لنا أن نصنّفه في الاتجاه النقدي الحقوقي، فمن جملة آرائه غير المتعارفة فقهياً، رأيُه بخصوص آية ضرب الزوجة: ﴿..وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ..﴾ (النساء: 34)، حيث يراها منسوخةً بالسنّة النبويّة، فلا يمكن العمل بها. وهذا الرأي مخالفٌ لمشهور العلماء، بل ربما يخالف إجماع العلماء، والله أعلم.
لكنّه رغم وجود آراءٍ كثيرة عنده في قضايا فقه المرأة بالخصوص، لم يقبل بتولّي المرأة للمناصب السياسيّة والقضائيّة.
ج ـ العلامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين
ويعتبر من الشخصيّات المعروفة في هذا الاتجاه، ولديه سلسلة معروفة حول المرأة، ومن آرائه البارزة، قوله بجواز تولّي المرأة الولاية العامّة.
د ـ العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله
وهو هنا أشهر من نار على عَلَم؛ حيث تحوّلت آراؤه في قضايا المرأة إلى سجالات طويلة، واشتهرت في العالم بالعربي بالخصوص، بما يغنينا عن الحديث عنه.
وثمّة كثير من العلماء يمكن أن نصنّفهم في هذا الاتجاه، نوكل البحث عنهم إلى مجال آخر، لكن لا بأس بالإشارة إلى توجّهات المرجع الديني المعاصر الشيخ محمّد إسحاق الفياض حفظه الله، حيث يذهب إلى وجود مجال لتولّي المرأة مناصب الإفتاء والولاية؛ غير أنّه في رسالته العمليّة ومواضع اُخَر من استفتاءاته ثمّة تحفظات في بعض الموارد.
الاتجاه الرابع: الاتجاه العلماني
الاتجاه الأخير هو الاتجاه الذي يعتقد بأنّ المرجع الوحيد في قضايا حقوق المرأة إنّما هو العقل. وأنّ النصوص التي وصلتنا في هذا السياق هي نصوصٌ تاريخيّة، كانت تستهدف وضع القوانين لمرحلة تاريخيّة معيّنة انتهى زمانها.
يعدّ هذا الاتجاه متطرّفاً في الساحة الدينيّة الرسميّة، وغالباً ما تميل إليه التيّارات العلمانيّة، ولو كانت متداخلة مع الجوّ الديني؛ ولذلك سمّيناه بالاتجاه العلماني.
يرى هذا الفريق، أنّ القوانين لا توضع على أساس الفوارق بين الرجل والمرأة، بل تقوم القوانين على أساس الأوضاع الاجتماعيّة، لا على أساس التكوين، ويرفضون نظريّة التناسب بين لوح التكوين والتشريع التي نظّر لها العلّامة الطباطبائي ومدرسته، مدّعين لزوم وضع القوانين وفقاً للأوضاع الاجتماعيّة للمشرَّع له، فإن كان له وضعٌ اجتماعي معيّن، مثلما إذا كان متعلّماً، تُسنّ له القوانين بما يناسب هذا الوضع المعيّن، وإن كان في ضمن ظروف اجتماعيّة مختلفة، فسوف تسنّ له قوانين مختلفة.
من هنا، وحيث إنّ المشرَّع له، لا يختلف في القرن الأوّل الهجري تكويناً عنه في القرن الرابع عشر الهجري، إلا أنّ أوضاعه الاجتماعيّة مختلفة، وهذا بنفسه يقتضي سنّ قوانين مختلفة في هاتين الفترتين، فليس المعيار في سنّ القوانين، الفطرة أو التكوين، بل المعيار هي الظروف الاجتماعيّة.
التعريف بأبرز الشخصيّات
من أبرز شخصيّات هذا الاتجاه:
أ ـ المفكّر الدكتور محمد أركون.
ج ـ المفكّر محمّد مجتهد الشبستري.
وغيرهم.
خلاصة المحور الأوّل
نستنتج ممّا تقدّم أنّ هناك أربعة اتجاهات أساسيّة في الساحة الفكريّة والثقافيّة اليوم، وقد قدّمنا لها تعريفاً اعتبرناه مدخلاً لتوضيح مسارات تفكير العلماء والمفكّرين في معالجة قضيّة «المرأة»، ومن ضمنها قضيّة الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة لها، وقد اكتشفنا من هذا العرض الموجز أنّ الخلافات الفكريّة ترجع إلى الأصول التي بُنيت عليها، وهذه الاتجاهات هي:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه التراثي النصّي الذي يغلب عليه الطابعُ الدفاعي.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاهٌ يجمع بين الاهتمام بالنصوص وتفسيرها وتحليلها، ويحاول تقديم مبرراتٍ عقلانيّة للأحكام، ونجد له بعض القراءات النقديّة للتراث هنا وهناك.
الاتجاه الثالث: وهو اتجاهٌ يركّز على حقوق المرأة أكثر منه على وظائفها، ويعتمد منهج النقد أكثر من اعتماده منهج الدفاع أو التفسير أو التبرير.
الاتجاه الرابع: وهو اتجاهٌ يرى المرجع في قضايا المرأة منحصراً بالعقل.
المحور الثاني
المرأة وتولّي الشؤون العامّة
نظرة خاطفة في أبرز المنطلقات والأدلّة والمناقشات
مدخل وإطلالة عابرة
يلاحظ المراجِعُ للساحة الفكريّة والثقافيّة وجودَ اتجاهين أساسيّين فيما يتعلّق بهذا الموضوع:
- اتجاهٌ رافض: وهو الذي يعتقد بأنّ الشريعة الإسلاميّة حظرت تصدّي المرأة لهذه الأمور بشكلٍ تامّ، ولم تعطها أيّ حقّ فيها، انطلاقاً من مبرّرات ذُكرت في محلّها، فليس للمرأة أن تكون فقيهة مجتهدة مقلَّدة، لا من قِبل النساء ولا من قِبل الرجال، وليس لها أن تتولّى القضاء حتى بين النساء، وليس لها أن تتولّى الولاية العامّة..، وثمّة خلافٌ بينهم في بعض المساحات الضيّقة، مثل دخولها في مجلس الشورى كمُمثِّل، أو تصدّيها لرئاسة الدولة (لو كانت الولاية العامّة أعلى من رئاسة الدولة) أو تصدّي وزارة من وزارات الدولة، ونجد بينهم ـ كما أشرنا إلى ذلك في المحور الأوّل ـ من يرى منع المرأة من المشاركة في الانتخابات فضلاً عن الترشّح فيها.
- اتجاهٌ مؤيّد: وهو يرى للمرأة حقّاً كالرجل في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة العامّة، مع بعض الاختلافات في نطاق هذا الحقّ ودائرته.
ولكي نخرج بتصوّر أكثر وضوحاً عن هذا الصراع، سوف نركّز في هذا المحور على أمرين:
الأمر الأول: لماذا رفض العلماء مثل هذه الولايات للمرأة، وما هي المبرّرات التي انطلقوا منها؟
الأمر الثاني: ما هي المناقشات وردود الأفعال النقديّة التي سجّلها المنتصرون لإعطاء المرأة حقّاً من هذا النوع؟
إنّ هذا موضوعٌ طويلٌ جداً، لكننّا سوف نشير إلى بعض معالمه الأساسيّة، وذلك من خلال استعراض أهمّ الإشكاليّات التي أعاقت السماح للمرأة بتولّي مثل هذه المناصب، ثم ذكر أبرز المناقشات التي سجّلت على هذه الإشكاليّات، حتى تصبح الصورة عن طبيعة الجدل الذي وقع في هذا الموضوع متّضحةً لنا.
والجدير بالذكر أنّه عندما نتحدّث عن المناقشات، فهذا لا يعني أنّنا نعتبرها صائبةً، بل إنّما نهدف الاطلاع واستشراف الموقف، وأمّا الوصول لمرحلة الحسم والبتّ، فهي من شؤون الباحثين والفقهاء، وبهذا نكِلها إلى مناسبة أخرى.
الإشكاليّات المعيقة للسماح للمرأة بتولّي الشؤون العامّة
سأكتفي بذكر خمس إشكاليّات في المقام؛ لأنّ أغلب ما قيل في هذا الموضوع يرجع إلى هذه الإشكاليّات الخمس.
الإشكاليّة الأولى : إشكاليّة القوامة والدرجة
ممّا استدلّ به على عدم استحقاق المرأة لتولّي الشؤون العامّة هي آية القوامة، حيث قالوا بأنها واضحة وصريحة في أنّ الرجال قوّامون على النساء. والقوامةُ تعني الرئاسة وتولّي الشؤون وما شابه ذلك، وهي قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وإن خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا أن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إنّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ (النساء : 34 ـ 35).
وبما أنّ الآية الشريفة عبّرت بالرجال والنساء، فهذا يعني أنّها تعبّر عن مبدأ عام في جميع شؤون الحياة، فلا تختصّ بالحياة الزوجيّة؛ لأنّه إذا كان المقصود الحياة الزوجيّة خاصّة، كان التعبير بالأزواج والزوجات أنسب من التعبير بالرجال والنساء لإرادة هذا المعنى، فيكون الرجال قوّامين على النساء في جميع الأمور، بما فيها الحياة الزوجيّة والحياة السياسيّة ومختلف مرافق الحياة.
لو قالت الآية الكريمة: الأزواج قوّامون على الزوجات، لكان يمكن أن ندّعي اختصاصها بمجال الحياة الزوجية، فتكونَ مبدأً في العلاقات الأسريّة وتنظيم الأسرة، لكن بما أنّ النص القرآني استخدم تعبيراً عاماً وقال: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، فهي ظاهرة في الشموليّة ولا دليل على التخصيص فيها أو التقييد.
فالآية واضحة ـ من وجهة نظرهم ـ في أنّها تؤسّس لولاية الرجال على النساء في جميع مرافق الحياة بما فيها الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والزوجيّة؛ فإذا أعطينا المرأة حقّ الولاية أو حقّ القضاء أو حقّ المرجعيّة أو ما شابه ذلك، يكون ذلك مناقضاً لمنطق الآية القرآنية الكريمة.
كذلك الحال في قوله تبارك وتعالى: ﴿..وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾( البقرة: 228)؛ لأنّها في البداية تقول: إنّ للمرأة مثل الذي عليها ثمّ تضيف ﴿لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي إنّ الرجال متقدّمون درجةً على النساء؛ فليس الرجال في صفّ واحد مع النساء، وإنّما هناك درجةٌ متقدّمة وعالية تشرف على الدرجة الدانية، وهذا معناه أنّ الأولويّة والتقدّم والقوامة كلّها من شؤون الرجال على النساء.
إذن، اعتبر هذا الفريق من العلماء، آيتي القوامة والدرجة دليلاً واضحاً وصريحاً على تأسيس مبدءٍ تشريعي عام في علاقة الرجال بالنساء في المجتمع، وهو مبدأ أولوية الرجال على النساء في جميع مرافق الحياة، حتى أنّ العلامة الطهراني (رحمه الله) اعتبر آية القوامة وآية الدرجة عمدة الدليل على حظر تدخّل المرأة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، وهو من الذين ناصروا منع دخول المرأة في البرلمان الإيراني، وكتب في ذلك رسالة معروفة منشورة.
القوامة والدرجة، نماذج من مداخلات المعارضين لحظر تدخّل المرأة
المداخلة الأولى: اختصاص آية القوامة بالحياة الزوجيّة
ثمّة قرائن كثيرة تشهد على أنّ هذه الآية تختصّ بالحياة الزوجيّة، فلا يثبت لها إطلاقٌ يشمل جميع حالات الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، فإذا أخذنا السياق العام لهذه الآية الشریفة بعين الاعتبار بملاحظة الآيات السابقة واللاحقة من جهة، ومن جهة أخرى لاحظنا تكملة الآية نفسها، سيتّضح لنا من خلال ذلك أنّ الآية تؤسّس مبدأ خاصّاً في دائرة الحياة الزوجية، فإنّ السياق العام لهذه الآية الشريفة يعلّل الحكمَ بأمرين:
- ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾: إنّ هذه العلة في نفسها مطلقة، بإمكانها أن تعمّ الحياة بجميع مرافقها.
- ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾: أمّا هذه العلّة فهي تخصّ الحياة الزوجيّة؛ لأنّ النفقة من شؤون الحياة الزوجيّة کما هو المعلوم من الشریعة الإسلامية، ففي الحياة العامّة يمكن للمرأة أن تنفق فيها، إذ الإسلام اعترف للمرأة بحقّ الملكيّة الخاصّة، ولا يوجد لدىه حظرٌ في ذلك؛ إذاً لا يمكن التمسّك بإطلاق هذه الآية لإثبات تقدّم الرجل على المرأة في جميع شؤون الحياة.
وكذلك تشهد تكملة الآية نفسها على اختصاصها بالعلاقات الزوجيّة، حيث تقول: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أنّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ إنّها تتحدّث عن الصالحات، وعن الزوجات اللاتي يخاف الزوج نشوزهنّ، وهذا يختصّ بالحياة الزوجيّة؛ لأنّ النشوز والهجران في المضاجع لا يتصوّر إلا بالنسبة إلى الزوج مع زوجته وبالعكس، ومن هنا نرى الفقهاء يلتزمون بأنّ هذه الآية واردة في علاقة الزوج بالزوجة، فهذا السياق بأكمله يتحدّث عن الحياة الزوجيّة.
هذا بالنسبة إلى الآية نفسها، وكذلك هناك قرينةٌ أخرى من خارج الآية، وهي الآية اللاحقة، حيث جاء فيها: ﴿وَإن خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إن اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ﴾ (النساء: 35) فإنّها صريحةٌ في أنّها تتكلّم عن الحياة الزوجيّة، وحالة الشقاق بين الزوج وزوجته، وهذا يؤيّد اختصاصَ الآية السابقة بالعلاقات الأسريّة، خاصّة أنّ الآية استخدمت الضمائر للتعبير عن الزوجين منذ البداية، حيث قالت: ﴿وَإن خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ وهذا يوحي بأنّه قد سبق الحديث عن الزوجين، فتكون قرينة إضافيّة لاختصاص آية القوامة بالحياة الزوجيّة.
وعليه، فبعد وجود هذه القرائن في الآية الكريمة وما بعدها من الآيات، لا ينعقد ظهورٌ في الشموليّة بالنسبة إلى ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾؛ إذ لا تتناسب إرادة الإطلاق مع وجود هذه القرائن المتعدّدة على اختصاصها بالحياة الزوجيّة.
إذن، لا نستطيع أن نطمئنّ بوجود إطلاق في الآية لما هو خارج الحياة الزوجيّة، وفي الوقت عينه لا نريد أن ننفي الاحتمال، لكن مع وجود ما تقدّم على هذه الآية من آيات تتحدّث عن العلاقة الزوجيّة، ومع وجود الشواهد من داخل الآية القرآنيّة نفسها، ومع وجود الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن الحياة الزوجيّة أيضاً، لا نستطيع أن نأخذ بإطلاق الآية، ونُغفل النظر عن سائر الجوانب المحيطة بالنصّ.
وعليه، فلا نملك دليلاً حاسماً على أنّ الآية بصدد تأسيس مبدأ عام خارج إطار الحياة الزوجية.
المداخلة الثانية: اختصاص القوامة بفرض الإنفاق
ثمّة إشكال آخر بالنسبة إلى دلالة هذه الآية الكريمة ، وهو أنّ القوامة هذه، مخصّصة بحال معيّنة، وهي حالة الإنفاق استناداً إلى التعليل الوارد فيها، حيث عللّت قوّامية الرجال على النساء بعنصرين:
العنصر الأوّل: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.
العنصر الثاني: ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾.
وعليه فإنفاق الرجال من أموالهم يشكّل عنصراً أساسيّاً لإثبات القوامة، فإذا فرضنا أنّ حالة الإنفاق هذه زالت، فليس من المعلوم أن تبقى للرجل ولاية حتى في البيت، فضلاً عن الولاية في جميع شؤون الحياة.
ولذلك قال بعض الفقهاء مستعنين بهذه الآية وبأدلّة أخرى معاً: لو امتنع الرجل عن الإنفاق عليها رافضاً ذلك، أمكن للزوجة حينئذ أن تأتي بخطوة الردّ، واختلفوا في ما هي هذه الخطوة؟ لكن أمكن لها على الأقل أن ترفع أمرها للحاكم الشرعي للمطالبة بالطلاق، وعند بعضهم أمكن حينئذ أن يطلّقها الحاكم الشرعي إذا امتنع الزوج عن الإنفاق، وهذا كلّه مربوطٌ بعنصر التعليل الموجود في الآية؛ لأنّ الحكم يدور مدار علّته.
وهذا بحثٌ معروف في علم أصول الفقه الإسلامي، تحت عنوان «العلّة تعمّم وتخصّص»([17])؛ لأنّ الحكم تابع لعلّته وجوداً وعدماً بمقتضى علاقة العليّة بينهما، فالتعليل يسمح بتضييق الحكم وتوسعته، وهناك مثالٌ معروف يستخدمه الأصوليون عادةً، وهو تعليل النهی عن أكل الرمّان بحموضته، فلو قال الطبيب للمريض: «لا يجوز أكل الرمان؛ لأنّه حامض»، فهذا معناه:
أوّلاً: إنّ كلّ شيء حامض لا يجوز أكله؛ لأنّ العلّة تعمّم.
ثانياً: يجوز أكل الرمان إذا كان حلواً؛ لأنّ العلّة تخصّص.
إذن، بما أنّ الآية الشريفة علّلت قوامة الرجال على النساء بإنفاقهم من أموالهم، فإذا ارتفع الإنفاق ترتفع القوامة أيضاً؛ لأنّ العلّة تخصّص دائرة الحكم في فرض زوالها، وهذا يعني أنّنا لو قبلنا أنّ الآية عامّة بالنسبة إلى الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، لكنّنا ننطلق من التعليل الوارد فيها ـ إذا تغيّر الوضع الاقتصادي للمرأة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وصارت المرأة جزءاً من عمليّة تداول النقد والمال في السوق ـ لنفي دلالتها على سلب المرأة حقّ التولّي؛ لأنّه إذا ارتبط شيء بآخر بنحو العليّة فعلينا أن نذهب خلف العلّة؛ لأنّ العلّة هي التي تعطينا الجواب النهائي في هذا الإطار.
إنّ هذه وجهة نظر مطروحة حتى بالنسبة إلى قوامة الرجل داخلَ الأسرة، لكن نحن باعتبار أنّ محلّ بحثنا هو تولّي المرأة للشؤون العامّة، لهذا لا نريد أن ندخل في الموضوع الأسري بالتفصيل.
ويجدر بنا أن نشير أيضاً إلى أنّ هذه الآية، بما تحمل من تعليل القوامة بإنفاق الرجل، تشكّل أحد الشواهد بالنسبة إلى الذين يصرّون على الفهم التاريخي لنصوص المرأة، حيث يقولون: إنّ الإسلام جعل الولاية للرجل على المرأة نتيجة خصوصيّة الإنفاق، فلو تغيّرت الحال الاقتصاديّة فمن غير المعلوم أن تبقى خاصّية القوامة هذه.
المداخلة الثالثة: اختصاص آية الدرجة بالحياة الزوجيّة، بل بالمطلّقات
أجاب الناقدون هنا بأنّ آية الدرجة خاصّة بالحياة الزوجيّة، بل هناك من يقول: إنّ هذه الآية تخصّ المطلّقات، فلا علاقة لها بالحياة الزوجيّة فضلاً عن الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمرأة، حيث تقول: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ولاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إن أَرَادُوا إِصْلاَحاً ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (البقرة : 228).
فإنّ الضمائر جميعها ترجع إلى ما جاء في أوّل الآية (وَالْمُطَلَّقَاتُ)؛ لأنّ الضمير ـ حسب قواعد اللغة العربيّة ـ يرجع إلى الأقرب، فإنّ الآية تريد أن تقول: إنّ بعولة المطلّقات أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً، وللمطلّقات مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وإذا أردنا توسعتها قليلاً نجعلها للزوجات، ولكن لا يمكن التوسعة أكثر من ذلك لتشمل الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمرأة.
إضافةً إلى ذلك، نلاحظ أنّ الآية التي قبلها، وهي: ﴿وَإن عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 227) تتحدّث عن الطلاق، وكذلك الآية التي بعدها تتحدث عن الطلاق، وهي: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ أن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة: 229).
إذن، آية الدرجة وقعت في سياقٍ يتحدّث عن موضوع الطلاق، وهذا يساعد على اختصاصها بقضيّة الطلاق نفسه، فيكون المقصود من الدرجة فيها أمراً يتناسب مع المطلّقات، وهو ليس إلا حقّ الإرجاع للرجل، فالآية تريد أن تقول: المطلّقة إذا طلّقت ليس بيدها حقّ الإرجاع، بل هذا الحق يخصّ الزوج، وهذه هي الدرجة التي تتحدّث عنها الآية؛ والدليل على ذلك ـ مضافاً إلى سياقها العام ـ تصريحُ الآية نفسها، حيث تتحدّث في بدايتها عن هذا الحقّ للرجل: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إن أَرَادُوا إِصْلاَحاً﴾، فيصبح معنى الآية حينئذ: الأزواج والزوجات يتساوون في كلّ شيء إلا في حقّ الإرجاع، فمن يملك إعادة إحياء الحياة الزوجية ـ بردّ الزوجة المطلّقة الرجعيّة إلى عُشّ الزوجيّة ـ هو الرجل.
وبهذا لا نستطيع أن نوسّع الدائرة لما هو أكثر من هذا الحدّ، بأن نقول: إنّ المقصود من الرجال في آية الدرجة مطلق الرجال، والضمير في ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ يعود إلى مطلق النساء، سواء كنّ مطلّقات أم غيرهنّ، وسواء كنّ زوجات أم غيرهنّ؛ لأنّ هذا الكلام يعني توسعةً في دلالة الآية أكبر بكثير ممّا تعطيه قواعد اللغة العربيّة والفهم العرفي.
اذن، لا يمكن التمسّك بآية الدرجة ـ كما ذكر مجموعة من العلماء ـ لنقول بأنّ الرجل له الولاية على المرأة، ولا ولاية للمرأة على الرجل مطلقاً في جميع شؤون الحياة، انطلاقاً من هذه الآية؛ لأنّها واضحة من سياقها وعوائد ضمائرها في اختصاصها بالمطلّقات.
المداخلة الرابعة: تنكير الدرجة
استخدمت هذه الآية القرآنية الكريمة صيغة النكرة: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، للتعبير عن التفاضل بين الرجال والنساء، فلم تحدّد ما هي الدرجة؟ إذاً، فأيّ مقدار يثبت فيه التفاضل الحقوقي بين الرجل والمرأة كافٍ في تحقّق عنوان «الدرجة».
ولم تبيّن الآية القرآنية نطاق هذه الدرجة، بل كلّ ما بيّنته أنّ هناك درجةً ما، يعلو فيها الرجل على المرأة، أمّا أن هذه الدرجة تمتدّ خارج إطار الحياة الزوجية أو أنّ مساحتها واسعة لا نهاية لها أو لا؟ فهذا غير واضح من الآية إطلاقاً.
والسبب في ذلك عندهم أنّ التنكير في مثل هذه الموارد يفيد الحدّ الأدنى، فلو كانت الآية (وللرجال عليهنّ الدرجة) كان من الممكن أن نحملها على مطلق الدرجة تمسكاً بالإطلاق، إذا قلنا: إنّ (الألف واللام) لبيان الجنس، لكن بما أنّ الوارد في الآية الشريفة ﴿درجة﴾ دون أن تحدّد نطاقها، فغاية ما تفيد أنّ هناك تفاوتاً ما، لذلك نأخذ بالقدر المتيقّن في دلالة الآية القرآنية الكريمة، وهذا ما يثبت وجود تفاضل في الحقوق بين الرجال والنساء، بأنّ الرجال أعلى درجة من النساء، لكن هل هذه الدرجة تطال الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة عامةً، بحيث لا يحقّ لها أن تكون أعلى منه في مجال التقليد أو في مجال الولاية العامّة أو مجال القضاء أو لا؟ فهذا غير معلوم من هذه الآية إطلاقاً.
الردّ المعاكس، تصريح النصّ القرآني بثبوت الولاية للمرأة
يرى الناقدون أنّ هناك نصاً قرآنيّاً يُثبت الولاية في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمرأة، دون أن يحدّد نطاقها، وهي قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 71)، حيث تدلّ على أنّ لكلّ شخص من المؤمنين والمؤمنات ولاية على الآخر، ونصطلح عليها بالولاية المتبادلة، أي ثبوت الولاية من الطرفين.
فیكون المقصود من هذه الولاية هو التدخّل المتبادل في الشؤون العامّة، ضمن ضوابط معيّنة بهدف تحقّق الأهداف السامية للإسلام، ولهذا تذكر الآية الشريفة مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا السياق، فعلى كلّ واحد من المسلمين أن يأمر أخاه المسلم بالمعروف، ويدعوه إلى الحقّ، ويتدخّل في شؤونه ضمن ضوابط معيّنة حُقّقت في محلّها، وبما أنّ الآية الشريفة عبّرت بـ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ فهذا معناه أنّ للرجال ولاية على النساء وللنساء ولاية على الرجال، كما أنّ هناك ولاية للرجال على الرجال وللنساء على النساء؛ لأنّ الآية بمقتضى إطلاقها مفتوحة على كلّ الدوائر.
إذن، تعطي هذه الآية نحوَ ولايةٍ للمرأة في الحياة العامة، باعتبار أنّها وردت في مساق الأمور العامة: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، ﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾.
وهذا ما يمثّل هجوماً معاكساً من قِبل الاتجاه النقدي، تمسّكاً بآية قرآنيّة تصرّح بوجود ولايات متبادلة بين النساء والرجال، بلا فرٍق بينهما.
تجدر الإشارة إلى أنّه لا يحتمل النسخ بالنسبة إلى هاتین الآیتین؛ لأن سياقهما هنا مختلفٌ تماماً، بينما لابدّ في النسخ أن تكون دلالة الآية الناسخة معاكسة تماماً للآية المنسوخة، فلا يمكن تصوّر النسخ إذا كانت إحداهما عامّة والأخرى خاصّة، أو كانت تختلف جهة البحث فيهما، ففي محلّ بحثنا بما أنّ هذه الآية تتكلّم عن الأمور العامّة، والأخرى تتكلّم عن الأمور الخاصّة، فلا يمكن تصوّر النسخ، فتكون آية القوامة مخصِّصة لآية ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ لأنّها خاصّة بالحياة الزوجيّة، فلا نستطيع أن ننسخ هذه الآية بآية القوامة، بل تبقى هذه الآية على شموليّتها في غير ما يدلّ عليه الدليل الخاصّ.
الإشكالية الثانية: مذاق الشريعة
تعرّض بعض الفقهاء لهذه الإشكاليّة عندما بحثوا في مسألة القضاء أو في مسألة المرجعيّة، حيث استدلّوا بمذاق الشارع على منع المرأة من تولّي القضاء أو المرجعيّة العامّة، ويقصدون بالمزاج، الروحَ الحاكمة على النصوص الشرعيّة، والتي تعرف بالأنس والممارسة، مثل الذي يدرس الأدب العربي ويستأنس بأشعار أبي العلاء المعرّي، فهو بعد مدّة من خلال ما اكتسبه من خبرة عن مزاجه ونمط تفكيره، يستطيع أن يميّز أشعاره عن غيره؛ لأنّ الإنسان عندما يعيش لفترة طويلة من حياته الأدبيّة معه، يشعر أنّ أبا العلاء المعرّي له مزاجٌ خاص، ونمطٌ خاص من التفكير والتعبير، فعندما يأتيه نصّ يُنسب إليه، يستطيع أن يميّزه عن غيره. وهذا شبيه بما قاله بعض العلماء من أنّ روايات نهج البلاغة كلّها صحيحة وإن لم يكن لها سندٌ؛ لأنّ نمط التعبير فيها واحدٌ، وهذه الوحدة تكشف عن أنّ المتكلّم واحد، بل مثله قيل في النصّ القرآني لنفي تحريفه بالزيادة.
يقول المستدلّ هنا: إنّنا لو جئنا إلى النصوص الشرعيّة من أوّل كتاب «الطهارة» إلى آخر كتاب «الديات»، وراجعنا النصوص التي تتعلّق بالمرأة، فإنّنا نستوحي مزاجاً عاماً للشارع بخصوص المرأة، وهو يقول: إنّ وظيفة المرأة هي الأمومة، وتربية الأولاد، والشؤون الداخليّة للمنزل، فلا يجوز لها التصدّي للشؤون العامة الذي يؤدّي إلى اختلاطها بالرجال، ومزاحمتهم في الأماكن العامّة.
ومن الذين استدلّوا بهذا الدليل على عدم جواز تولّي المرأة للمرجعيّة هو السيّد الخوئي، وننقل هنا نصّه الحرفي كي يتّضح الأمر أكثر، حيث يقول: «والصحيح أنّ المقلّد يعتبر فيه الرجوليّة، ولا يسوغ تقليد المرأة بوجه؛ وذلك لأنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أنّ الوظيفة المرغوبة من النساء إنّما هي التحجّب والتستر، وتصدّي الأمور البيتيّة، دون التدخّل فيما ينافي تلك الأُمور، ومن الظاهر أنّ التصدّي للإفتاء بحسب العادة جعلٌ للنفس في معرض الرجوع والسؤال؛ لأنّهما مقتضى الرئاسة للمسلمين، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً، كيف ولم يرضَ بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة، فما ظنّك بكونها قائمة بأمورهم ومديرة لشؤون المجتمع ومتصدّية للزعامة الكبرى للمسلمين. وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرّعة يقيّد الإطلاق، ويردع عن السيرة العقلائيّة الجاريّة على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً، رجلًا كان أو امرأة»([18]).
ولعلّه يمكنني أن أضيف: لو كان الشارع يريد مشاركة المرأة في الحياة العامّة، لكُنّا شاهدنا نصوصاً تحثّ على ذلك، في حين لا نجد مثل هذه النصوص، بل ما نراه هو على العكس تماماً.
إذن، نستنتج استنتاجاً تحليليّاً أنّ المزاج العام للشارع هو مزاج عدم خروج المرأة من المنزل، وليس المقصود منه عدم الخروج الجسدي، بل عدم تصدّيها للحياة العامّة خارج المنزل.
وكما نقلنا عن السيّد الخوئي نجد تركيزاً على مسألة صلاة الجماعة في كلمات الفقهاء في هذا الاستدلال؛ لأنّها أبرز مثال عندهم، حيث قالوا: إنّ إمام الجماعة يتمتّع بمكانةٍ اجتماعيّة عاليّة، خاصةً في الفقه الشيعي؛ لأنّه تُشترط فيه شروطٌ خاصّة مثل العدالة وما شابه ذلك، فعندما نجد الشارع يحكم باختصاص هذا المنصب بالرجل، نستنتج من ذلك حظر الشارع تصدّي المرأة للولاية على الرجل في الشؤون العامّة؛ لأنّه لو كان يجوز لها تصدّي الشؤون العامّة كان يجوز لها أن تتقدّم عليهم في صلاة الجماعة بالأولويّة، لكنّها لا تستطيع.
ويمكن التعليق على هذا الدليل، بأنّه أخصّ من المدّعى، حيث إنّ الذي لا يجوز على المرأة، هي إمامة جماعة الرجال، لكن يجوز تولّيها لإمامة جماعةٍ من النساء؛ إذن لا يُثبت هذا الدليل عدم جواز تصدّيها لمرجعيّة النساء وما شابه ذلك.
إذن، إنّ العمدة الأساسيّة الثانيّة التي نراها في سياق كلمات هؤلاء العلماء الرافضين، هي فكرة مذاق الشارع/روح الشريعة/مزاج الشارع بتعبيرات مختلفة.
المناقشات التي تسجّل على دليل مزاج الشريعة
توقّف الطرف الآخر عند هذه النقطة؛ لأهمّيتها، حيث تحتاج إلى استقراء جمیع النصوص الواردة بخصوص المرأة كي يتبيّن الإطار الذي يحكم الشريعة فيها، هؤلاء المناقشون قالوا: يمكن أن نضع علامة استفهام كبيرة على هذا الادّعاء، وهو أنّ مذاق الشارع هو بقاء المرأة في المنزل والاهتمام بالشؤون المنزليّة، فذكروا عدّة مناقشات في هذا السياق:
المناقشة الأولى: المفارقة أو التناقض الداخلي
من المفردات الأساسيّة التي استخدموها لاستنتاج مذاق الشارع، لزوم اهتمام المرأة بالشؤون المنزليّة، بينما لا نجد هذه المفردة حاضرة في الفقه الإسلامي أبداً، في حين لابدّ أن يستفاد المذاق من الأحكام الموجودة في الشريعة الإسلاميّة بالفعل.
إنّ الفقهاء کلّهم بمن فيهم الذين استدلّوا بهذا الدليل، لم يصنّفوا الاهتمام بالشؤون المنزليّة من وظائف المرأة من الناحیّة الفقهیّة، والغریب أنّ هذه الفكرة أساساً غير موجودة في الفقه الإسلامي إلا عندما طرحوا هذا الدليل، فحينما نرجع إلى كتاب «النكاح» و«الطلاق» وهما كتابان يهتمّان بالمسائل الزوجيّة، لا نجد شيئاً إسمه الشؤون المنزليّة، بل حتى تربية الأولاد ليست واجبة ـ فقهيّاً ـ على المرأة، بل هناك تصريحٌ بخصوص بعض الأمور مثل إرضاع الأطفال، حيث إنّ هؤلاء الفقهاء بأنفسهم يقولون بعدم وجوب الإرضاع على المرأة، وأنّ بإمكانها أن تطلب أجرة على ذلك من والد الطفل.
هذا يعني أنّ هناك تناقضاً داخليّاً في نظريّة مذاق الشريعة هنا، حيث ناقض المستدلُّ نفسَه؛ لأنّه من جهة قدّم مذاق الشارع على أنّه يتّجه بالمرأة نحو الداخل ويبتعد بها عن الخارج، ومن جهة أخرى عندما ندخل عالم الفتاوى نجد أنّهم لا يصدرون أيّ فتوى تتحدّث عن وظيفة ملزمة للمرأة ترتبط بالشؤون المنزليّة، وهذا ليس إلا تناقضاً في بيان المستدلّين، فمن جهة يقولون: لا يجب على المرأة شيء في المنزل، ومن جهة أخرى يقومون ببناء حكم فقهي الزامي يتعلّق بمرجعيّتها وقضائها وولايتها العامة في المجتمع على كون وظيفتها الاهتمام بالشؤون المنزليّة مع العلم بأنّهم في الفقه لا يقبلون بوجود أيّ وظيفة ملزمة لها في المنزل.
نعم يمكن أن يدّعي أحدٌ استحبابَ اهتمام المرأة بالشؤون المنزليّة، لكنّ المستحبّ لا يمنع عن شيء آخر، فمنع المرأة عن الشؤون العامة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة يحتاج إلى الدليل؛ لأنّ الاستحباب لا يدلّ على المنع.
وخلاصة المناقشة: كيف يمكن بناء حظر مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية والسياسية على افتراض وجود وظيفة لها في المنزل، مع قولهم بأنّ المرأة لا يجب عليها شيء في المنزل؟ فهناك شيء من التهافت بين الافتراضين من وجهة نظر الرافضين لفكرة مذاق الشريعة هنا.
المناقشة الثانية: عدم حرمة اختلاط الرجال والنساء فقهيّاً
إنّ المفردة الثانية التي استخدمها المستدلّ لاكتشاف مذاق الشارع، هو عدم الاختلاط بالرجال، لكنّ هذه المفردة أيضاً لا تقوم على أساس دليلٍ يمكن الدفاع عنه؛ لأنّ البحوث الفقهيّة مبنيّة على ضوابط دقيقة ومعيّنة، كما نراها حاضرة في جميع عمليات الاستنباط لدى الفقهاء، فلا يمكن خلط البحوث الفقهيّة مع الخطابة واللغة الخطابيّة، وعندما نراجع الفقه الإسلامي، حسب القواعد المقرّرة في الفقه الإسلامي، نجد أنّه لا يحرم الاختلاط بين الرجال والنساء في نفسه ما دام لم يُفضِ إلى محرّمٍ.
إذن، على صعيد الأحكام الإلزاميّة التي تترتّب عليها الحقوق والوظائف، لا نجد ما يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء، نعم، على صعيد الأحكام غير الإلزامية مثل المستحبّات والمكروهات يمكن أن نعتقد بكراهة الاختلاط أو استحباب عدم الاختلاط، لكن هذا لا يحقّق غرض المستدلّ هنا لاستكشاف مذاق الشارع لمنع تولّي المرأة للشؤون العامة.
وإذا انتقلنا من الاختلاط إلى الخلوة، نجد أنّ المعروف في الفقه الإمامي اليوم أنّ الخلوة في نفسها جائزة، خلافاً لمشهور فقهاء أهل السنّة، حيث يحرّمون خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية في نفسها، حتى لو لم يكن هناك أيّ محذور أو ريبة من وقوع محرّم، انطلاقاً من نصوص معتبرة عند أهل السنّة وردت في بعض الصحاح، لكن في الفقه الشيعي لا يوجد أيّ دليلٍ على هذه الحرمة، ولهذا نجدهم يفتون بجواز خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية ما لم يكن هناك خوف فتنة.
نعم، هناك روايات([19]) يُستوحى منها عدم جواز الخلوة، لكنّ الفقهاء يحملونها عادةً على محامل أخرى، نكتفي بذكر واحدةٍ منها، وهي ما نقله الشيخ النوري عن أمالي المفيد بسنده([20]) إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد×، قال: «قال رسول الله|: بينما موسى بن عمران× جالس إذ أقبل إليه إبليس إلى أن قال: ثمّ قال [له]: أوصيك بثلاث خصال يا موسى: لا تخل بامرأةٍ ولا تخل بك، فإنّه لا يخلو رجلٌ بامرأةٍ ولا تخلو به إلا كنتُ صاحبه من دون أصحابي..»([21]).
لكنّ الفقهاء عادةً إمّا يناقشون في سند هذه الروايات، أو يحملونها على محامل أخر، وعلى سبيل المثال نشير إلى ما ذكره السيد الخوئي في هذا الصدد بعد أن نقد الروايات الأخرى الواردة في هذا الموضوع، حيث قال: «وأمّا الروايات المشتملة على أنّ إبليس لا يغيب عن الإنسان في مواضع، منها موضع خلوة الرجل مع امرأةٍ أجنبيّة، فإنّ المستفاد منها أنّ الشيطان يقظان في تلك المواضع يجرّ الناس الى الحرام، فلا دلالة فيها على المدّعى. وعلى الجملة فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة، وإنّما النهي عنها للمقدّمية فقط. ويضاف الى جميع ما ذكرناه أنّ الروايات الواردة في النهي عن الخلوة بالأجنبيّة كلّها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء»([22]).
والسيد الخوئي نفسه من الذين يستدلّون بمذاق الشارع على عدم جواز تصدّي المرأة للشؤون الاجتماعيّة والسياسيّة!
إذن، لا محذور في الاختلاط من وجهة نظر فقهيّة، بل ولا محذور حتى بالنسبة إلى الخلوة بالمرأة الأجنبيّة على مستوى الفقه الإمامي.
وعليه، فبعد أن علمنا أنّ المستدلّين أنفسَهم لا يلتزمون بلزوم اهتمام المرأة بالشؤون المنزليّة، ولا يلتزمون بحرمة الاختلاط، بل لا يلتزمون بحرمة الخلوة مع المرأة الأجنبيّة في نفسها.. ينهار البناء الذي شيّدوه على هذه الأسس، فكيف يتمّ بناءُ منع المرأة من الحقوق الاجتماعيّة والسياسيّة العامّة على هذه الأسس المنهارة، إذاً، كان هذا الكلام أقرب إلى الحالة الأدبيّة منه إلى الحالة العلميّة الفقهيّة من وجهة نظر الناقدين.
المناقشة الثالثة: التورّط في محذور القياس
يعتبر القياس من وسائل الاجتهاد الأساسيّة عند مشهور علماء السنّة ـ عدا مثل المذهب الظاهريّ ـ والمقصود منه تسرية حكم منصوص في قضيّة معيّنة إلى قضيّة أخرى غير منصوص على حكمها لسبب ما من نوع التشابه أو غيره. لكنّ الفقه الإمامي ـ كفقه المذهب الظاهري ـ يعارض القياس أشدّ المعارضة، حتى أصبحت هذه المعارضة من شعار الإماميّة، وهناك روايات كثيرة([23]) تبلغ العشرات، نُقلت عن أئمّة أهل البيت^ يرفضون فيها فكرة القياس رفضاً تامّاً.
من وجهة نظر المناقش ما فعله المستدلّ من الاستدلال بمنع إمامة النساء للرجال في صلاة الجماعة على حرمة دخول المرأة في الشؤون العامة، هو من القياس المرفوض عند الإمامية.
فلنفترض([24]) أنّه قام الدليل على منع المرأة عن إمامة صلاة الجماعة للرجال، لكن هل هذا يعني أنّه لا تكون لها الولاية العامّة؟ هل هذا يعني أنّه لا يكون لها حقّ المرجعيّة؟ طبعاً لا ملازمة بينهما. فما فعله المستدلّ من تسرية حكم صلاة الجماعة إلى مطلق الشؤون العامّة ليس إلا من القياس الباطل؛ لأنّ هناك بوناً شاسعاً بين هذين الحكمين، ولا أولويّة في المقام، فإنّ مسألة صلاة الجماعة مسألةٌ عباديّة تتعلّق بالصلاة، بينما مسألة تولّي الشؤون العامّة تتعلّق بالمعاملات والحقوق، فلا يمكن سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر؛ لأنّه يحتمل أن تكون هناك خصوصية في مثل صلاة الجماعة، فرضت هذا الحكم بالنسبة إلى المرأة، وخصوصيّة العبادية في صلاة الجماعة يحتمل جداً أن تفرض لها وضعاً خاصاً، إذاً، أليس هذا هو القياس المنهيّ عنه؟!
بل احتَمَل بعض الفقهاء أن يكون الموضوع مرتبطاً بمسألة العفاف؛ لأنّ تقدّم المرأة أمام الرجل في الصلاة سجوداً وركوعاً، ربما يُفضي نوعاً إلى ما هو مخالفٌ لعفاف المرأة، كما ورد ما يؤيّد ذلك في مطلق صلاة المرأة، وهو ما نقله الكليني في كتابه الكافي بأسانيد([25]) عن زرارة قال: «إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها، ولا تفرج بينهما وتضمّ يديها إلى صدرها لمكان ثدييها، فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلّا تطأطئ كثيراً فترتفع عجيزتها، فإذا جلست فعلى أليتيها ليس كما يقعد الرجل، وإذا سقطت للسجود بدأت بالقعود بالركبتين قبل اليدين، ثمّ تسجد لاطئة بالأرض، فإذا كانت في جلوسها ضمّت فخذيها ورفعت ركبتيها من الأرض، وإذا نهضت انسلت انسلالاً لا ترفع عجيزتها أولاً»([26]).
فكما نرى، هذه الرواية التي نُقلت في كتاب الكافي، تركّز كثيراً على كيفيّة صلاة المرأة كي تكون متناسبة مع عفافها وسترها، فيحتمل كثيراً أن يكون الحكم بمنع إمامة النساء في صلاة الجماعة مرتبطاً بمثل هذه الجوانب، فلا علاقة له بالحياة الاجتماعيّة والسياسيّة كي يمكن تسرية الحكم من صلاة الجماعة إلىها.
فكيف يمكن أن ننتقل من مساحة عباديّة صلاتيّة حُظِر فيها تقدّم المرأة على الرجل في المكان، لنسرّيها إلى مساحة اجتماعيّة سياسيّة واسعة جداً، تختلف تمام الاختلاف عن هذه المساحة؟ فإنّ هذا ضرب من القياس أو التخمين من وجهة نظر الناقدين.
المناقشة الرابعة: عدم انسجام نظريّة مذاق الشارع في مدياتها
الإشكال الأخير الذي يسجّل على نظريّة مذاق الشريعة هو عدم انسجامها في مدياتها؛ لأنّ الفقه يجب أن يكون منسجماً في نفسه، فإذا أردنا أن نتحدّث بمنطق الأولويّة، وأنّ إمامة المرأة في صلاة الجماعة حرام إذاً فدخولها في الشؤون العامة حرام بقياس الأولويّة، فيجب أن نبقى مع هذا الاستنتاج حتى النهاية، ونحرّم جميع ما يؤدّي إلى ما يخالف تستّر المرأة، وجميع ما يؤدّي إلى خروج المرأة من الشؤون المنزليّة إلى غيرها.
لكنّنا لا نرى هذا الالتزام في فتاوى الذين طرحوا هذه النظريّة ولا غيرهم، وعلى سبيل المثال هؤلاء الفقهاء يجيزون أن تكون المرأة مالكةً لشركة متعدّدة الجنسيّات تتحكّم بمئات من الرجال بسبب قدرتها المالية والاقتصادية، أو تكون جماعة من النساء يملكن أكبر الشركات النفطيّة في العالم يتحكّمن برؤساء الدول ويأخذن بمفاصل الحياة السياسية نتيجة التحكّم في الاقتصاد.. إنّهم لا يرون في هذا أيّ إشكال فقهي؛ لأنّه ليس من تولّي الشؤون العامة، وإنّما هي حياة اقتصاديّة وملكيّة فرديّة خاصة، والفقيه لا يمنعها.
هذا يعني عدم الانسجام في النظريّة؛ لأنّه إذا كان منع المرأة عن إمامة صلاة الجماعة يمنع عن تولّيها الشؤون العامة، فيجب إذاً، منع المرأة من أن تكون نافذة اقتصادياً في المجتمع بحيث تؤثّر في الوضع الاقتصادي في المجتمع والذي يؤثّر بدوره في الحياة السياسيّة، فلماذا أخذوا بالأولويّة في مكان معيّن، ومنعوها عن ممارسة الشؤون العامة، ولكن في مكانٍ ثانٍ لم يقبلوا بها؟
وحريّ بالذكر، أنّني لم أرَ حسب مراجعتي المتواضعة ردوداً للذين يؤيّدون فكرة مذاق الشارع، على هذه المناقشات حتى الآن، وربما كان القصور من عندي.
إذن، فكرة مذاق الشارع أيضاً تعرّضت للنقد، كما تعرّض الدليل الأول له.
الإشكاليّة الثالثة: إشكاليّة السيرة المتشرعيّة
الدليل الثالث الذي يعيق السماح للمرأة بتولّي الشؤون العامة من وجهة نظر الرافضين، هي السيرة المتشرعيّة، حيث قالوا: نرجع إلى المسلمين والمتشرّعة في القرن الأول والثاني والثالث الهجري ـ عصر النص ـ أي القرون التي كان المعصوم حاضراً فيها في المجتمع، ثم نأتي إلى أذهان المتشرّعة في تلك القرون لنرى ما هو الذي كان متعارفاً عندهم؟ وكيف كانت رؤيتهم لموضوعٍ من هذا النوع؟
والجواب هو أنّ المتشرّعة وعامة المؤمنين الذين يتلقّون أحكامهم من الأئمّة×، كانوا لا يرون للمرأة حقّ الولاية لا في شأن التقليد، ولا في شأن الولاية العامة، ولا في شأن القضاء، والسيرة المتشرّعية دليل يكشف عن رأي المعصوم؛ لأنّه لو لم يكن هذا رأي المعصوم لما ترسّخت هذه الفكرة في أذهان أتباعه القريبين منه، والذين عاشوا معه سنين طويلة وهو لا يقبل بها؛ ونستكشف أنّ المعصوم هو منشأ السيرة ولو ـ أحياناً ـ من خلال أنّه لو لم يكن يرضى بهذه الفكرة كان يردعهم وينبّههم على أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، فنكتشف من ذلك أنّ هذه الفكرة هو رأي المعصوم، وأنّ هذا هو الموقف الشرعي في هذه القضيّة.
إذن، إنّ وعي المتشرّعة في القرون الثلاثة الأولى، وعيٌ رافضٌ لتصدّي المرأة للشؤون العامة، ونفس وجود هذا الوعي الإسلامي الرافض طيلة هذه الفترة الطويلة، ينبؤنا عن أنّ هذا هو رأي المعصوم نفسه، بل لو لم يكن المعصوم هو الذي أملى عليهم مثل هذا الوعي، لكان ينبغي أن ينبّه عليه، والمفروض أنّ المتشرّعة يأخذون دينهم من المعصومين^.
لا نتعامل في هذا الاستدلال مع النصوص الشرعيّة، بل نتعامل مع تحليل تاريخي، ونحاول أن نتنبّأ الموقفَ الحقّ الذي صدر عن المعصوم×، مع أنّه لا يوجد عندنا نصٌ صريح في الموضوع، فنستنتج من الحالة العامّة للمحيطين بالمعصوم خلال ثلاثمئة سنة ـ تقريباً ـ أنّ هذا هو قوله؛ لأنّه ما من دليل يوجب ترسّخ هذه المفاهيم في أذهان المتشرّعة، إلا ما تلقّوه من المعصوم.
وإذا صحّ دليل السيرة المتشرّعية فهو دليلٌ يقينيّ من وجهة نظر الفقهاء، ومن ثم فيختلف عن مثل دليل آية القوامة، حيث يمكن أن يقول أحد: إنّ التمسك بالظهورات من التمسّك بالظنون، بينما دليل المزاج العام أو دليل السيرة هو دليلٌ يقيني يقدّم على ظهور الآيات القرآنيّة.
المناقشات في دليل السيرة المتشرعيّة
أ ـ وجود عوامل أخرى لتحقّق السيرة المتشرعيّة
المناقشة الأولى التي سجّلها المدافعون عن حقوق المرأة في الشؤون العامّة على دليل السيرة المتشرّعية، ترتبط بتنقيح كبرى هذا الدليل ثمّ تطبيقها صغروياً.
ثمّة شيءٌ مهمّ جداً في دليل السيرة المتشرّعية، وهو أنّ هذا الدليل يقوم على مقاربة تحليليّة تريد أن تصل من المعلول إلى العلّة، والمعلول هنا هو الارتكاز المتشرّعي، أمّا العلّة فتحتمل فيها احتمالات:
الاحتمال الأول: أملى المعصوم× هذه السيرة عليهم، وأوجد فيهم هذا الارتكاز.
الاحتمال الثاني: لم تكن هناك احتمالية لتحقّق الحالات البديلة بسبب عدم توفّر المتطلّبات اللازمة.
إلى غير ذلك من الاحتمالات المعقولة في المقام.
ومن الطبيعي أنّ كثرة هذه الاحتمالات أو قلّتها تختلف من موردٍ لآخر، ولكي نثبت ونعيّن احتمالاً من هذه الاحتمالات المتعدّدة، علينا أن نبطل سائر الاحتمالات، فما دام احتمالٌ ما منها قائماً فلا نستطيع التأكّد من تعيّن احتمال خاصّ.
وعليه فإذا أردنا إثبات شرعيّة عادة من العادات التي كان يعيشها المتديّنون في القرون الأولى، يجب أن نتاكّد من أنّه لا يحتمل وجود سببٍ آخر قد أوجده غير المعصوم.
ونأتي هنا بمثال قريب زمنياً لتبسيط الفكرة: في بداية الثمانينیّات صار المتديّنون يربطون الياقة، ويضعون القميص فوق البنطال مع كُمّ طويل، وصارت هذه عادة لهم، وعليه فنستطيع أن نستنتج من وجود هذه الحالة ـ بعد رفض الاحتمالات البديلة ـ أنّ زعيم الجماعة الدينيّة هو الذي شجّع على ذلك.
وكذلك الفقيه يقول: إنّ أيّ ظاهرة اجتماعيّة تحدث في القرون الثلاثة الهجريّة الأولى، يجب أن نبحث عن أسبابها؛ لأنّه قد تكون هناك أسباب أخرى أوجدتها، فإذا لم نجد أيّ سبب آخر، فإنّ بإمكاننا القول بأن المعصوم هو الذي أملى عليهم هذه العادة وربّاهم عليها.
وبتطبيق هذه القاعدة العامّة على موضوعنا هنا، نرى أنّ عدم تدخّل المرأة في الشؤون العامّة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى كانت عادة سائدة، لكن لنرى هل الاحتمالات منحصرة في إملاء المعصوم أو أنّ هناك احتمالات أخرى تمنع الجزم بكونها ناشئة عنه×؟
حسب الوثائق التاريخيّة وبمقتضى الظروف القاسية آنذاك، كانت الأمّية سائدة خاصّة في جماعة النساء، وأساساً لم تكن الظروف والجوّ العام ليسمحان لها بالتعليم والتعلّم، فمن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن لا يقبل المتشرّعة بتصدّي المرأة للشؤون العامّة؛ لأنّه لا توجد إمرأة مؤهلّة للتصدّي؛ لأنّ الأمّية في تلك الفترة كانت سائدة بين النساء.
متى نعرف أنّ السيرة المتشرّعية تكشف عن رأي المعصوم؟ عندما تكون هناك في القرون الثلاثة الأولى نساء عالمات، فقيهات، لائقات بالتصدّي ـ علمياً ـ لمنصب القضاء، ومع ذلك ما كان المتشرعة ليقبلوا بتصدّيهنّ، في هذه الحالة كنّا نقول: يبدو أنّ الشريعة لا تقبل تصدّيهن، أما مع عدم وجود رقم يعتدّ به في النسوة اللواتي كانت عندهنّ حالة من الفقاهة والاجتهاد في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، فكيف نستطيع أن نقول: إنّ المتشرّعة كانوا يرفضون تصدّيهن، ولو كنّ عالمات ولائقات بمنصب القضاء؟! وبما أنّ هذه الحال لم تكن موجودة فلا نستطيع أن نتنبّأ بهذه النتيجة.
بعبارة موجزة: لو كان بين أيدينا في القرون الثلاثة الهجرية الأولى ظاهرة حوزات علمية نسوية، وخرّيجات حوزويّات وصلن إلى مناصب الفقاهة والاجتهاد التي تسمح في العادة بالتصدّي للقضاء والتقليد والإرجاع إليهنّ في المناصب، لو كان هذا متوفّراً، ومع ذلك كان المتشرّعة يرفضون تدخّل المرأة، كان يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً، أمّا مع عدم وجود ظاهرة من هذا القبيل، فلا نستطيع استكشاف موقف المعصوم.
وعليه، نحتمل احتمالاً كبيراً أنّ هذه الحالة المرتكزة في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، نشأت نتيجةَ عدم وجود ثقافة تعليميّة عامة للمرأة بسبب الظروف الاجتماعيّة وطبيعة حياة الناس في تلك الفترة وليس بسبب الدين نفسه.
ب ـ وجود أنموذج تاريخي لتصدّي المرأة في الشؤون العامّة
النقطة الأخيرة التي ذكرها المناقشون لنقد السيرة المتشرعيّة وجود أنموذج في التاريخ لتصدّي المرأة للشؤون العامّة، من الإفتاء والسياسة، منضمّاً إلى عدم ورود ردع من جانب المعصومين^، وهو عائشة زوج النبيّ‘، حيث تدخّلت في الشؤون السياسيّة، وتصدّت للإفتاء في عهد الإمام علي×، وهذا يعني أنّ الأئمّة^ لم يكن لديهم مشكلة مع تصدّي المرأة للافتاء وما شابه ذلك من الشؤون العامّة.
نعم، وردت نصوص من الأئمة^، يندّدون فيها ببعض أعمال عائشة، لكن لو راجعنا هذه الإشكالات بالتفصيل، لا نجد من بينها ما يتضمّن أنّ المرأة بما أنّها امرأة، لا يحقّ لها الخروج، بل إنّما كان الإشكال عليها إمّا من جهة أنّها زوج النبيّ، وزوجات النبيّ أُمِرن بالبقاء في البيت حسب النص القرآني([27])، أو من جهة أنّها خرجت على إمام زمانها، فلم يكن في لسان أئمّة أهل البيت النبوي أو في ثقافة المتشرّعة أنّ مطلق المرأة ليس لها حقّ الخروج، وإنّما كان التركيز على أنّ زوجات النبيّ‘ اُمرنَ أن لا يخرجن، فخرجت عائشة، فكان ذلك سبباً لإدانتها من قبل الأئمّة، لا حظر مطلق المرأة عن التدخّل في الشؤون السياسيّة.
يجب أن نفكّك المفاهيم عن بعضها، لنعرف الوجه الحقيقي للانتقادات التي وصلتنا من الأئمّة، فهذه الانتقادات التي سجّلت على خروج عائشة على الإمام علي× وتدخّلها في الحياة السياسيّة أو تصدّيها لشؤون الإفتاء كانت تدور حول محورين:
1 ـ الخروج على الإمام الحقّ خروجاً مسلّحاً، أي حالة البغي.
2 ـ الأمر القرآني الموجّه لزوجات النبيّ‘ بالبقاء في البيوت، حيث قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى..﴾ (الأحزاب: 33)، وهذا أمرٌ قرآني مُلزِم لنساء النبيّ بالبقاء في البيت وعدم الخروج.
من ناحية أخرى، لم نلحظ في الانتقادات التي سجّلها الأئمّة^، انتقاداً ذا طابعٍ كلّي، من نوع أنّ المرأة ليس لها الحقّ في أن تتصدّى لمثل هذه الأمور، إذاً كيف تصدّت عائشة؟ وإنّما كان الاعتراض هكذا: إنّ زوجات النبيّ اُمرن بالبقاء في البيت فلماذا خرجتِ؟ الإمام علي× هو الخليفة الحقّ بعد النبي‘ فلماذا خرجتِ عليه؟
إذن، إنّ طبيعة الإشكالات التي سجّلت على عائشة تعطي إيحاءً بأنّ المعصوم والمتشرّعة المحيطين به، ما كانت المشكلة بالنسبة إليهم في عدم استحقاق المرأة تصدّي الشؤون العامة بقدر ما كانت منع البغي، وخصوصية زوجات النبيّ، كما يظهر بمراجعة النصوص في هذا السياق.
وينقل لنا التاريخ ـ إضافة إلى قضيّة أمّ المؤمنين عائشة ـ وقائع أخرى عن النساء المعصومات أو القريبات من العصمة، يتدخّلن في بعض الشؤون السياسيّة وما شابه ذلك، لكنّها حالات محدودة وفي ظروفٍ خاصة، وكما بُحث مفصّلاً في علم أصول الفقه في مديات دلالة الفعل على الحكم الشرعي، فإنّ الفعل دليلٌ لبّي ـ غير لفظي ـ فلابدّ من أن يؤخذ القدر المتيقّن منه، فما دمنا نحتمل أن هناك ظروفاً معيّنة فرضت عليهنّ القيام بمثل هذه الأفعال، فلا نستطيع أن نتأكّد من دلالة الفعل على الجواز، فضلاً عن الاستحباب أو الوجوب. ومن هنا نحتمل في خصوص مسألة خروج السيّدة الزهراء÷ وكذلك السيدة زينب÷ أنّ هناك عنواناً استثنائيّاً فرَض عليهما التدخّل في مثل هذه الشؤون، خاصةً أنّ ما وصلنا من الوثائق التاريخيّة التي تنقل هذه الحالات، تشير إلى وقائع محدودة زمنياً، فلا نستطيع أن نستكشف قاعدةً عامّة، وهو أنّه لو لم تحصل هذه الاستثناءات الكبرى في الأمة كنّ سيخرجن أيضاً، ولذلك هذا الدليل ليس قوياً في مقابل الفقيه المدرسيّ هنا.
وكذلك على المقلب الآخر، لا يدلّ عدم خروجهنّ على الحرمة الشرعيّة في الخروج؛ لأنّ دلالة الفعل والترك صامتة من وجهة نظر الفقهاء نتيجةَ وجود احتمالات متعدّدة لتبريره أو تفسيره، فيحتمل أن يكون من جهة أنّه لا يحقّ للمرأة الخروج والتصدّي، ويحتمل أيضاً أن يكون عدم التصدّي من جهة عدم وجود الحاجة إلى ذلك أو كانت هناك ظروف موضوعيّة تستدعي عدم التدّخل، فالاحتمالات بابها مفتوحٌ، بخلاف ما إذا كان عندنا نص؛ لأنّ النصّ دلالته واضحة.
وكذلك لم نستدلّ بفعل عائشة؛ لأنّها ليست معصومة ـ لا شيعياً ولا سنياً ـ فلا يمكن الاستدلال بفعلها، بل نستدلّ بسكوت المعصوم× عن خروجها من حيث كونها امرأة، أو بسكوت المتشرّعة المعاصرين لها من جمهور الصحابة والمؤمنين من حيث كاشفيّته النوعيّة عن ذلك.
الإشكالية الرابعة: إشكالية نقصان عقل المرأة وعدم مشاورتها
من الإشكاليات الأساسية التي طرحوها لمنع المرأة من التدخّل في الشؤون العامّة، والتي اعتبرها بعض المراجع المعاصرين أهمّ دليل على عدم تصدّي المرأة للمرجعيّة والقضاء والولاية العامّة: ورود روايات كثيرة تتحدّث عن نقصان عقل المرأة ومخالفة رأيهنّ، حتى اعتبر الأمين الاسترآبادي ـ من رموز الإخباريين ـ مبدأ مخالفة المرأة عند المشاورة (شاوروهنّ وخالفوهنّ)، من النعم الإلهيّة التي تمكّن الإنسان من التمييز بين الحقّ والباطل كما أشرنا سابقاً.
هناك مجموعة من النصوص تتحدّث عن نقصان عقل المرأة وإيمانها، وعن مخالفتهنّ عند المشاورة بتعابير متعدّدة، قريبة من نوع:
لا أريد أن أدخل في تحليل مضامين هذه النصوص أو معالجة أسانيدها، فعلى أيّة حال هي نصوص عديدة، لا يمكن غضّ الطرف عنها بسهولة، والمستدلّ هنا يقول: إنّ هذه النصوص الكثيرة توحي لنا بأنّ الإسلام ينظر إلى المرأة على أنّها ذات عقل ناقص وإيمان ضعيف، بحيث تحسُن مخالفتها، فإذا كانت المرأة تتّصف بهذه الصفات في رؤية دينيّة، فكيف يمكن أن نقبل تصدّىها للمرجعيّة أو الولاية العامّة للأمّة؟ فهذا مثل فكرة تقديم المفضول على الفاضل في علم الكلام، حيث يكون أمراً مرفوضاً من وجهة نظر علم الكلام الإمامي، كيف يمكن أن نسمح لمن قالت الشريعة بأنّه ناقص العقل، بأن يتصدّى للمناصب العليا في الأمّة، وهي الولاية العامة وفروعها وشُعبها مثل ولاية القضاء أو المرجعيّة العليا التي تحتاج إلى أعلى مستويات العقل؟!
هذه النصوص توحي بأنّ الإسلام غير متحمّس إطلاقاً لما يتعلّق بتصدّي المرأة للشؤون ذات الطابع العلمي التي تحتاج إلى الإدارة والعقل وإحكام الأمور والمعرفة، كالمرجعيّة والقضاء والولاية العامة.
مناقشات الناقدين لدليل نقصان عقل المرأة
يعاني هذا الدليل أيضاً من مشاكل:
المناقشة الأولى: الضعف السندي وفقاً لقواعد النقد الرجالي والحديثي
إنّ الأغلبية الساحقة من هذه النصوص هو ـ وفق معيار النقد السندي عند كثير من العلماء ـ ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها. وهذه المناقشة صحيحة ثبتت في محلّها، لا نريد الدخول فيها بالتفصيل.
المناقشة الثانية: تضعيف درجة الوثوق من جهة ذكوريّة الراوي
إنّ جميع هذه الروايات رواها الرجال من أوّل سندها إلى آخره، وهناك قاعدة عامة في علم الحديث وأصول الفقه، وهي أنّ كلّ رواية يرويها من له مصلحة فيها، سوف تنخفض درجة الوثوق بها.
فإذا جاء شخصٌ يمتهن الصرافة، ونقل روايةً عن النبيّ أو الإمام، وقال سمعت الإمام أبا عبد الله× يقول: من ذهب إلى صرّاف، فله ألف ألف حسنة، مثلاً، يجب أن نضع علامة استفهام على هذه الرواية؛ لأنّها تصبّ في مصلحة الراوي، فعلينا أن نتريّث ونحتمل الكذب، فتنفخض درجة وثوقنا بها، فنحتاج إلى مزيد من الشواهد كي نحصل على الوثوق بصدور مثل هذه الرواية، وهذا أمرٌ منطقي ولا يختصّ بعلم الحديث أو أصول الفقه، فحتى علماء التاريخ يقولون به أيضاً.
إذن، في هذا المقام هناك خصوصيّة يجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، وهي عبارة عن أنّ رواة هذه الروايات من أوّل السند إلى آخره كلّهم رجال، ومن المنطقي أن يكون عندهم موقف سلبي حسب الثقافة العربيّة التي كانت سائدةً في القرون الثلاثة الهجريّة الأولى، فمن الممكن أن يكونوا وضعوا هذا الكمّ من الروايات ـ قرابة عشرين رواية ـ انطلاقاً من هذه الخلفيّة الثقافيّة التي كانت مرتكزة في أذهانهم آنذاك تجاه المرأة.
وعليه يجب أن لا نغترّ بكثرة هذه الروايات؛ لأنّ احتمال توفّر الدواعي لكذب هؤلاء جميعاً موجود، وهو المصلحة المشتركة للرجال.
يطرح السيد محمّد باقر الصدر مثالاً شبيهاً في هذا السياق، وهو الروايات التي تحصر فهم القرآن الكريم بأهل البيت^، بحيث لا يمكن الرجوع إلى القرآن إلا عبرهم، ويعلّق الصدر على هذه الروايات المتعدّدة بأنّه بعد مراجعة أسانيدها، نجد أنّ رواة هذه النصوص كلّهم من أصحاب النزعات الباطنيّة، وكانت هذه الفكرة من أفكارهم؛ إذاً نحتمل احتمالاً كبيراً أنّهم قد وضعوا هذا العدد من الأحاديث لكي ينتفع بها مذهبهم وتوجّههم.
وينبغي أن نشير في الختام إلى أنّ هذه القاعدة تؤثّر على من يرى حجيّة خبر الواحد على أساس الوثوق، أمّا من يرى المعيار في حجيّة الخبر، عنوان «الوثاقة» لرجال الأسانيد، مثل السيد الخوئي فتأثير هذه المناقشة عليه أقلّ عادةً.
المناقشة الثالثة: نقل أغلب هذه الروايات عن الإمام علي وسياقها الخاصّ
إنّ أغلب هذه الروايات التي تذمّ المرأة، مرويّة عن الإمام علي×، وهو ما دفع بعض العلماء إلى القول بأنّ الإمام لا يقصد من هذا الكلام بيان قاعدة عامّة حول المرأة بقدر ما يقصد التعريض بأمّ المؤمنين عائشة؛ لأنّ هذه الروايات بالخصوص نُقلت بكثرة وافرة، عنه، مع أنّه لا نجد مثل هذه الكثرة في سائر الموضوعات عنده، علماً بأنّه هناك موضوعات ربما تبدو أهمّ بكثير من هذا الموضوع، فهذه الكثرة من الروايات حول هذا الموضوع بالخصوص عن الإمام علي خاصّة تحتاج إلى مبرّر وتفسير.
من هنا، قالوا في توجيه هذه الظاهرة: يحتمل أنّ الإمام قد أشار بنحو القاعدة العامّة تعريضاً بالمصداق الذي كان في زمانه، وهي زوجة النبيّ‘ عائشة في خروجها عليه، فإذا صحّ هذا الاحتمال سوف تتغيّر رؤيتنا لهذه الروايات التي طرحت في المقام بالكامل.
المناقشة الرابعة: المناقضة الداخليّة في مديات فكرة نقصان عقل المرأة
المناقشة الأخيرة التي سجّلت على فكرة نقصان عقل المرأة، هي عدم الالتزام بكامل مدياتها في الفتاوى الفقهية؛ لأنّه لو صحّ أنّ المرأة عقلها ناقص ويلتزم الفقهاء بهذا، لماذا لا يجوّزون الرجوع إليها في التقليد، لكنّهم يجوّزون الرجوع إليها في مثل الطبّ؟! مع أنّه لو ثبت هذا النقصان في العقل فسوف تمتدّ آثاره إلى جميع المجالات التي تشتغل المرأة فيها، فما هو المبرّر العقلائي في التمييز بين المجالات؟! فإذا كانت هذه الفكرة تبرّر لنا منع المرأة قانونيّاً من تولّي منصب المرجعيّة أو الولاية العامّة أو القضاء، إذاً يجب أن نلتزم فقهيّاً بمنعها من أن تكون طبيبة متصدّية في المجتمع، وبمنع الناس من الرجوع إليها كما لا يجوز الرجوع إليها في الأمور الشرعيّة انطلاقاً من هذه الفكرة؛ لأنّ النصوص لا تتكلّم عن أمور الشريعة، بل تصف النساء بأنّهنّ ناقصات العقول، ولا تفصّل بين أمور الشريعة وغيرها.
ورغم هذا كلّه، لا يلتزم هؤلاء الفقهاء أنفسهم بهذه الامتدادات، فهل يقبلون منع الرجوع إلى المرأة في القضايا العلميّة أو الإداريّة أو الفكريّة والثقافيّة غير هذه الثلاثة، أي القضاء والمرجعيّة والولاية العامة؟ إنّهم يقولون: يجوز للرجل والمرأة الذهاب إلى الطبيبة ـ ضمن القواعد الشرعيّة ـ وكذلك يجوز للرجل والمرأة الذهاب إلى المتخصّصة في علم النفس، ويجوز لها أن تعطي رأيها ويجوز للآخرين أن يعملوا بوجهة نظرها ونصائحها، ويجوز لها أن تكون مديرة شركة وأن يعمل الرجال في الشركة نفسها وهكذا..
إذن، هذا التمييز بين هذه الدوائر الثلاث ـ أي القضاء والمرجعيّة والولاية العامّة ـ وبين سائر دوائر الحياة تمييزٌ غير مفهوم من وجهة نظر الناقدين، ومعنى أنّ الفقهاء قبلوا بالرجوع إلى أهل الخبرة، بلا فرق فيهم بين الرجل والمرأة، أنّهم لم يأخذوا هذه النصوص على أنّها نصوصٌ تؤسّس لمرجعيّة قانونيّة، تحظر على المرأة التدخّل في الحياة العامة، وهذه مشكلة كبيرة أمام تعاملهم مع قضايا المرأة.
الإشكالية الخامسة: الروايات الخاصّة المانعة عن تولّي المرأة للشؤون العامّة
الإشكالية الأخيرة التي طُرحت لإعاقة السماح للمرأة بالتدخّل في الشؤون العامّة، هي وجود روايات خاصّة تمنع عن تولّي المرأة القضاءَ والشؤون العامّة، لكنّ هذه الأشكاليّة أيضاً قد تعرّضت للنقد، تارة من جهة ضعف أسانيدها، وأخرى من جهة ضعف دلالتها، وثالثة من جهة اختصاصها بالقضاء وتولّي الشؤون العامّة، وعدم اشتمالها لمثل حقّ المرجعيّة وهكذا.
وأكتفي بالإشارة إلى بعض هذه الروايات في هذا المجال:
الرواية الأولى: النهي عن تولّي المرأة القضاء
ما نقله الشيخ الصدوق في حديث طويل، ذكره في باب النوادر، وهو آخر أبواب الكتاب بسنده([30]) إلى جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب×، عن النبي|، أنّه قال له: «يا علي أوصيك بوصية فاحفظها فلا تزال بخير ما حفظت وصيتي.. يا عليّ، ليس على النساء جمعةٌ ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة ولا عيادة مريض ولا اتباع جنازة، ولا هرولة بين الصفا و المروة، ولا استلام الحجر، ولا حلق، ولا تولّي (تُولَّى) القضاء ولا تستشار، ولا تذبح إلا عند الضرورة، ولا تجهر بالتلبيّة، ولا تقيم عند قبر، ولا تسمع الخطبة، ولا تتولّى التزويج بنفسها، ولا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنها الله وجبرئيل وميكائيل، ولا تعطي من بيت زوجها شيئاً إلا بإذنه، ولا تبيت وزوجها عليها ساخط، وإن كان ظالما لها..»([31]).
الرواية الثانية: تولّي المرأة للأمور يؤدّي إلى عدم الفلاح
وهي ما أورده البخاري في صحيحه عن أبي بكرة([32])، قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله| أيام الجمل، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله| أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»([33]).
وكذلك أورد ابن حنبل في مسنده عن أبي بكرة([34])، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة»([35]).
ونقل الترمذي في سننه عن أبي بكرة([36])، قال: عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله|، لما هلك كسرى قال: «من استخلفوا؟» قالوا: ابنته، فقال النبيّ|: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، قال: فلمّا قدمت عائشة ـ يعني: البصرة ـ ذكرت قول رسول الله|، فعصمني الله به»([37]).
خلاصة الكلام
تبيّن من خلال ما أسلفناه وجود خمس إشكاليّات أساسيّة في موضوع تولّي المرأة للشؤون العامّة، وترجع أغلبيّة المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع إليها، وهي:
1 ـ إشكاليّة آيتَي: القوامة والدرجة بين المؤيّدين والرافضين.
2 ـ إشكاليّة مذاق الشارع، وأنّه ميّال إلى بقاء المرأة داخل المنزل، وعدم الاختلاط.
3 ـ إشكاليّة الارتكاز والسيرة المتشرعيّة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى.
4 ـ إشكاليّة النصوص التي تؤسّس لمبدأ نقصان عقل المرأة وعدم مشاورتها وما شابه ذلك.
5 ـ إشكاليّة الروايات الخاصّة التي تمنع المرأة عن تصدّي هذه الشؤون.
وترجع أغلبيّة الأدلّة التي طرحوها في المقام إلى هذه الإشكاليّات الخمس، فإذا لاحظناها بين المؤيّدين والمناقشين، سوف تتّضح أمامنا الصورة وندرك المبرّرات التي دفعت عدّة من الفقهاء للإفتاء بمنع المرأة من هذه الثلاثة، وكذلك يتّضح لنا لماذا أفتى بعض الفقهاء المعاصرين والمتأخّرين بجواز تصدّي المرأة لمثل هذه الأمور؟
الهوامش
ــــــــــ
([1]) اُلقيت هاتان المحاضرتان في جامعة الزهراء في إيران، بتاريخ (17 ـ 18) ـ 4 ـ 2013م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرهما وتحريرهما، ثم راجعهما المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليهما بعض التعديلات والتوضيحات.
([2]) من اللازم أن اُرجع القارئ هنا لدراسة كانت أحد روافدي في هذا المحور الأوّل، وهي مقالة الاتجاهات الدينيّة في تاريخ ايران المعاصر، المواقف من مسألة المرأة، للشيخ مهدي مهريزي، بترجمتي شخصيّاً (حيدر حب الله)، والمنشورة في مجلّة: نصوص معاصرة، العدد السادس: 49 ـ 102.
([3]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة 1: 289.
([5]) والسند هو: عن ابن بابويه، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن شاذان، حدّثنا محمد بن محمد بن الحرث الحافظ، حدّثنا صالح بن سعيد الترمذي، عن عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب بن منبه اليماني.
([6]) الراوندي، قصص الأنبياء: 69 ـ 70.
([7]) كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 326.
([8]) والسند هو: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ضُرَيْسٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عُمَارَةُ السَّكُونِيُّ السُّرْيَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَاصِمٍ بِقَزْوِينَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ الْكَرْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ سَلَّامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يزيد بن سلام.
([9]) الصدوق، علل الشرائع 2: 470 ـ 471.
([13]) يقول الشيخ الصدوق عند ذكر طرقه إلى روايات زرارة: وما كان فيه عن زرارة بن أعين، فقد رويته عن أبي ـ رضي اللّه عنه ـ عن عبد اللّه بن جعفر الحميريّ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، والحسن بن ظريف، وعليّ بن إسماعيل بن عيسى كلّهم، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن زرارة بن أعين. وكذلك ما كان فيه عن حريز بن عبد اللّه فقد رويته بهذا الإسناد.
وطريق الطوسي لروايات حريز هو: وما كان فيه عن حريز بن عبد اللّه، فقد رويته عن أبي؛ ومحمّد بن الحسن ـ رضي اللّه عنهما ـ عن سعد بن عبد اللّه؛ والحميريّ؛ ومحمّد بن يحيى العطّار؛ وأحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد؛ وعليّ بن حديد؛ وعبد الرّحمن بن أبي نجران، عن حمّاد بن عيسى الجهنيّ، عن حريز بن عبد اللّه السّجستاني. ورويته أيضاً عن أبي؛ ومحمّد بن الحسن؛ ومحمّد بن موسى بن المتوكّل ـ رضي اللّه عنهم ـ عن عبد اللّه بن جعفر الحميريّ، عن عليّ بن إسماعيل؛ ومحمّد بن عيسى؛ ويعقوب بن يزيد؛ والحسن بن ظريف، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه السجستانيّ.
([14]) من الانقضاض أي يتحرّك سريعاً من انقضّ النجم وهو مضاعف من« قض» لا منقوص من قضى. وقال في الوافي: وفي بعض النسخ« تنقضى» من الانقضاء (تحقيق الكتاب).
([15]) من قوله: «ثم تركد ساعة» يحتمل أن يكون المراد بركود الشمس حين الزوال عدم ظهور حركتها بقدرٍ يعتدّ بها عند الزوال وعدم ظهور تزايد الظلّ حينئذ بخلاف الساعات السابقة واللاحقة، وعبر عن ذلك بالركود بناء على الظاهر وفهم القوم، وجذب الملك عبارة عن إرادة اللّه تعالى وخلق القوى فيها، وليس الباعث على الخروج من الظاهر الوقوف على قول الحكماء من استمرار وضع الفلك وغيره بل الباعث أن كل نقطة من مدار الشمس محاذية لسمت رأس أفق من الآفاق فيلزم سكون الشمس دائما لو سكنت حقيقة عند الزوال وتخصيص الركود بأفق خاصّ كمكّة أو المدينة مع بعده يستلزم سكونها في البلاد الآخر بحسبها في أوقات اُخر فإنّ ظهر مكّة مثلاً يكون وقت الضحى في أفق آخر فيلزم ركودها في ضحى ذلك الأفق ولا يلتزمه أحد فتأمل (سلطان). وقال الفيض ـ رحمه اللّه ـ الوجه في ركود الشمس قبل الزوال تزايد شعاعها آناً فآناً وانتقاص الظلّ إلى حدّ ما ثمّ انتقاص الظلّ إلى حدّ الشعاع وتزايد الظل وقد ثبت في محلّه أنّ كلّ حركتين مختلفتين لابدّ بينهما من سكون، فبعد بلوغ نقصان الظل إلى الغاية وقبل أخذه في الازدياد لابدّ وأن يركد شعاع الشمس في الأرض ساعة ثمّ يزيد وهذا ركودها في الأرض من حيث شعاعها بحسب الواقع وقد حصل بتبعية الظلال كما أن تسخينها وإضاءتها إنّما يحصلان بتبعيّة انعكاس أشعّتها من الأرض والجبال على ما زعمته جماعة. وهذا لا ينافى استمرار حركتها في الفلك على وتيرة واحدة. والمؤامرة: المشاورة، يعنى أنّها تشاور ربها في زوالها وذلك لأنّها مسخّرة بأمر ربها، لا تتحرّك ولا تسكن إلا بإذن منه جلّ وعزّ، وزمان هذا السكون وإن كان قليلاً جداً، إلا أنّ الشمس لما لم يحسّ بحركتها طرفي هذا الركود فهي كأنّها راكدة ساعة ما، وما جاء في أن لا يكون للشمس ركود يوم الجمعة معناه أنّهم لاشتغالهم باستماع الخطبة وتهيئهم للصلاة لا يحسّون به، بل يسرع مروره عليهم وتقصر مدته لديهم؛ لأنّهم في رخاء من العبادة وفي سرور من الطاعة ومدة الرخاء تكون قصراء عجلاء (الوافي)..(تحقيق الكتاب).
([16]) كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 225 ـ 226.
([17]) يمكنني أن أشير إلى بعض موارد استخدام هذه القاعدة في الكتب الفقهية مثل: كتاب البيع (للإمام الخميني) 1: 177، و2: ، 174؛ وكتاب الطهارة (للگلبايگاني): 27، 39؛ وكتاب الزكاة (للمنتظري) 3: 213؛ وضياء الناظر في أحكام صلاة المسافر: 164؛ وكتاب نكاح (زنجاني) 1: 166؛ وأنوار الفقاهة، كتاب النكاح (مكارم الشيرازي): 44؛ والأنوار البهية في القواعد الفقهيّة: 190؛ ودراساتنا من الفقه الجعفري 3: 280؛ و4: 100؛ والدلائل في شرح منتخب المسائل 3: 157؛ وفقه الصادق عليه السلام (للروحاني) 14: 120؛ ومنهاج الفقاهة (للروحاني) 1: 139.
([18]) موسوعة الإمام الخوئي 1: 187 ـ 188.
([19]) جمعها الشيخ الحرّ العاملي في كتابه « تفصيل وسائل الشيعة» والشيخ النوري في «مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل». فانظر: تفصيل وسائل الشيعة 20: 185، 324؛ ومستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 14: 264، 339.
([20]) والسند هو: الشيخ المفيد في أماليه، عن جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى اليقطيني، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سعدان بن مسلم.
([21]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 14: 266.
([23]) جمع الكثير منها الشيخ الحرّ العاملي في كتابه الفصول المهمّة في أصول الأئمّة 1: 531 وما بعد.
([24]) ثمّة كلام في أصل الحكم بمنع إمامة المرأة للرجال، يراجع في محله.
([25]) وهي: علي، عن أبيه، عن حماد بن عيسى ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر×.
([26]) الكافي (ط: الإسلامية) 3: 335 ـ 336.
([27]) وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وأَطِعْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 32 ـ 33).
([28]) یمکن الإشارة إلى: التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري×: 675؛ والكافي (ط: دار الحديث) 10: 565؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 390؛ وتهذيب الأحكام (تحقيق الخرسان) 7: 404؛ ومكارم الأخلاق: 201؛ وروضة المتقين 8: 105.
([29]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الكافي (ط: الإسلاميّة) 5: 322؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 390؛ وتهذيب الأحكام 7: 404.
([30]) والسند هو: حماد بن عمرو وأنس بن محمّد، عن أبيه جميعاً، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه.
([31]) كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 352 ـ 364.
([32]) والسند هو: حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة.
([33]) البخاري، الجامع الصحیح 7 : 91 ـ 92.
([34]) والسند هو: حدّثنا محمد بن بكر، حدثنا عيينة، عن أبيه، عن أبي بكرة.
([35]) مسند ابن حنبل 34 : 120.
([36]) والسند هو: حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثنا خالد بن الحارث، حدّثنا حميد الطويل، عن الحسن، عن أبي بكرة.