أحدث المقالات

النقد مهمة دائمة من العقلانية النقدية إلى نقد العقلانية

علي حرب – مفكر من لبنان

بعد كل هذا الكلام عن الحداثة والتحديث، ومنذ عقود، يخفق دعاة الحداثة في مشاريعهم للتحديث الفكري في العالم العربي، بقدر ما يشهدون على عجزهم عن تجديد العناوين وتطوير المفاهيم. ولا غرابة، إذ الواحد منهم تعامل مع الحداثة كأقانيم تُقدّس أو أصنام تُعبد أو مقولات تُؤلَّه، مما جعل الحداثي العربي يتصرّف كديناصور فكري بقوالبه المتحجّرة ومناهجه القاصرة وعقلانيته الأحادية الضيّقة. هذا في حين أن الحداثة هي فضاء مفتوح بقدر ما هي موقف نقدي وفكر إشكالي. الأمر الذي يعني التعامل معها بلغة الخلق والخرق والتغيّر، بقدر ما يجعلها قيد المراجعة الدائمة بمشاريعها وعناوينها ونماذجها، على سبيل التجديد والتطوير والإثراء.

ومن هنا شهد العالم الحديث موجات جديدة تحت عناوين ما بعد الحداثة، أو الحداثة السيّالة، أو الحداثة الفائقة. ومن هنا أيضاً ننتقل مع الموجات الجديدة بطفراتها المعرفية وثوراتها المنهجية وعوالمها الفكرية، من العقلانية النقدية إلى نقد العقلانية، ومن النظرية النقدية في المجتمع إلى اجتماعيات النقد، ومن نقد العقل إلى نقد النص. وما أحاوله هنا هو تناول قضية الحداثة وما يتصل بها من العناوين، كمسألة التجديد الفكري، وعلى نحوٍ تتداخل فيه الشهادة والتجربة من جهة مع التأمّل والتحليل النقدي.

 

بناء الموضوع

1- يمكن للتجديد الفكري أن يحصل من مداخل عديدة: قد يكون من جهة الموضوع، إما بتناول مواضيع جديدة ينبغي أن نحسن اختيارها وأن نعرف كيف نعمل على حصرها وتشكيلها، أو بالعمل على موضوعات قديمة ينبغي اعادة التفكير فيها بصورة مجدية ومنتجة، سواء باستخدام عدة جديدة في مقاربتها، أو بالدخول عليها من مداخل جديدة ومختلفة. وهكذا لقد تغيرت علاقتنا بالموضوع، بمعنى أننا نَخْلُق الموضوع بقدر ما نفكر فيه وننجح في معالجته، أو نُعيد خلقه أو تشكيله بقدر ما نُنشئ معه علاقات جديدة، أو بقدر ما نتعاطى معه بطريقة مختلفة.

وإذا كنت أعود إلى مسألة العقل، في كتاباتي ومساجلاتي، فلكي أتجاوز الطرق العقيمة في مقاربتها أو الاشكال القديمة في التعامل معها، محاولاً في الوقت نفسه اعادة ترتيب علاقتي بالعقل والعقلانية، كما سعيتُ هنا، وفي هذا الكلام الذي يُعدّ مدخلاً إلى تغيير علاقتي بمصطلح «الموضوع» نفسه من خلال اعادة التفكير فيه على نحوٍ مختلف. وهذه ليست مسألة هامشية، بل هي تقع في صلب الموضوع وفي صميم المُشكل. ولمزيد من الوضوح سوف أميّز بين نمطين من التعامل مع العقل الذي هو عنوان من عناوين الحداثة: كان القدماء والمحدثون عندما يريدون تناول العقل، يعمدون إلى شرح ماهيته أو تحليل مقوماته أو رسم حدوده ومعرفة إمكاناته، محاولين بالطبع استبعاد ما هو غير معقول من مجال العقل، لكي يتمكن المرء من حسن قيادة عقله كما فعل ديكارت، أو لكي يتمكن من استخدامه على نحوٍ مشروع كما فعل كنط. أما نحن أهل المعاصرة، فإن واحدنا يحاول انتهاك حدود العقل، بالقول إن اللامعقول هو قاع العقل وباطنه وحياته السرية. وإلا كيف نفسر أنه بعد كل هذه الأبنية المعرفية والصروح العقلانية، تنفجر العقلانيات، لكي تعيدنا، أحياناً، إلى ما تحت الصفر عقلياً. هذه واقعة لا يجدي نكرانها. وإنما العاقل هو من ينظر فيها، لكي يعيد ترتيب العلاقة بين العقل واللاعقل، بما يؤدي إلى الاعتراف باللامعقول للحدّ من تأثيره أو للسيطرة عليه. بهذا المعنى ليس المطلوب أن نُحسِن قيادة عقلنا، بل أن نحسن قيادة اللاعقل فينا، فهو الاصل والاساس، أكان هوى ورغبة، أم طيفاً وهواماً، أم أمراً وسلطة.

 

أسئلة الحقيقة

2- ما يحتجّ به الذين يرفضون نقد العقل الحديث ومن يقف في صفهم أو يحذو حذوهم، يمكن صياغتُه كالآتي: إن العرب لم يكتسبوا حداثتهم بعد، بل هم يعيشون حداثةً مشوّهة زائفة، ولذا فالمهمة الأساسية الملقاة على عاتق المثقف هي العمل على اكتساب القيم المركزية للحداثة وترسيخها، وليس القيام بنقدها وتفكيكها. هذا الموقف الذي يعترض اصحابه على نقد الحداثة وعناوينها، هو تكرار لنفس الموقف الذي يتردد عند معظم المثقفين العرب من دعاة الحداثة وأدعيائها. فهؤلاء يقولون بأن من ينتقد القيم المركزية للحداثة، التي لم تُكتسب بعد، يكتب خارج الموضوع، ويخرج من سياق الثقافة العربية، بل يعمل ضد المجتمع العربي.

ومعنى هذا الكلام أن الواحد منّا، نحن العاملين في قطاع الفكر، من الكتّاب العرب، إنما يكتب عربياً وينتمي إلى ثقافته العربية ويعمل من أجل مجتمعه، فقط عندما يأخذ بعقلانية ديكارت ونقدانية كنط، أو عندما يتحدث بلغة هيغل وماركس. ويكون على العكس من ذلك تماماً عندما ينفتح على نيتشه وهيدغر، أو يفيد من الفكر النقدي المعاصر لدى فوكو ودريدا ودولوز وسواهم من نقّاد الحداثة.

وفي رأيي أن هذا الموقف الذي يريد لنا أن نتعامى عن انجازات المعاصرة، أي الذي لا يريد لنا أن نواكب ما يستجد على صعيد الفكر أو أن ننخرط في المشكلات الفكرية الراهنة، إنما يستبعد بل يطمس السؤال الاساسي الذي هو سؤال التجارب المُخاضة والوقائع الصارخة: لماذا تعثرت مشاريع التحديث والتنوير والتغيير على ارض الواقع؟ لماذا فشلت الحداثة على يد دعاتها؟ والعقلانية على يدّ طلاّبها؟ والديموقراطية على يد حرّاسها؟ والعلمانية على يد كهنتها؟ بل لماذا يجري الآن تراجع عن اصلاحية محمد عبده وتنويرية طه حسين وعلمانية علي عبد الرزاق وديموقراطية حزب الوفد؟

هذه هي الأسئلة التي ينبغي مواجهتها. فليست المسألة مسألة قوى تقليدية نرمي عليها التبعية، ونتّهمها بعرقلة مشاريع التحديث والنهوض والتقدّم، كما نرمي التّبعة على الاستعمار والامبريالية، والنظام العالمي الجديد مؤخراً، لكي نتنصّل من المسؤولية ونهرب من مواجهة عجزنا وقصورنا. ومع ذلك لا أريد أن أتشاءم. فالمجتمعات العربية تشهد عمليات تحديث على غير صعيد تقوم بها قوى حيّة وفاعلة، بلا طبلٍ ولا زمر، أي من حيث لا يتوقع أصحاب النظريات وحملة الشعارات. فرافعو شعارات الأنوار والعقلانية، هم أنفسهم مارسوا الظلامية وتعاملوا مع الأشياء على نحو خرافي أو لاهوتي، وطلاّب التقدّم فشلوا في تحقيق التنمية وعادوا بالبلاد والعبادة إلى الوراء، وجماعات التحرير لم يحسنوا سوى انتاج الاستبداد في الداخل وقود البلاد إلى تبعية جديدة للخارج أسوأ من الأولى.

باختصار: إن النُخب المثقفة قد طالبت ودعت ونادت وروّجت وسعت وجرّبت وكدّست الدراسات والكتب، منذ عقود، من غير أن تنجح في ترسيخ القيم المركزية للحداثة، حداثة هيغل وماركس وانجلز ولينين. وهذا ما ينبغي تفسيره. فلن ننتظر قرناً آخر لكي نكتسب ما لم نكتسبه حتى الآن من قيم الحداثة. ثمة مجتمعات معاصرة، كانت أقل منا علماً وثقافة، وأقل تواصلاً مع الفكر الغربي، قد انتقلت بسرعة الضوء إلى صنع حداثتها، أو ما بعد حداثتها، سواء عن طريق المنتوجات المادية أو الرمزية، لكي تفرض نفسها على العالم وتساهم في لعبة الامم. أما نحن فلم ننجح بعد في الانخراط في اللعبة. وما زلنا أبعد من أن نؤثر في مجريات الأحداث والأفكار على النحو الذي يعود علينا بالنفع والخير، أو بالقوة والازدهار.

هذا السؤال الذي نهرب من الاجابة عليه. والقفز فوقه يحيل الكلام على ضرورة اكتساب قيم الحداثة إلى مجرد تكرار، أو إلى اعلان نوايا، أو يحيله إلى مهمة نضالية أثبتت التجارب أنها تتمّ دوماً على حساب الابداع الفكري والانتاج المعرفي، بل على حساب الابداع والانتاج في معظم الحقول والنشاطات.

 

لغة الفهم

3- لا أريد أن أغرق في هوامات الحداثة وأطياف المحدثين. فمطلوبي هو الفهم والمعرفة اولاً. وسأنطلق من تجربتي، انا الكائن الفرد، المحسوس، الذي رأى وعاين، وعانى وكابد، والذي جرّب واختبر، لكي أشخّض الواقع وأفهم ما يحدث، أو لكي أعقلن تجاربي وممارساتي.

وما أراه هو أن النهايات تؤول إلى عكس الارادات، وأن المطلوب هام وخطير، فيما الموجود هش وضعيف بل هزيل، وأن ما يُقال ويطرح من المقولات والشعارات، هو دوماً بخلاف أو على الضد مما يجري، بل هو حجب لما هو كائن أو تزييف للحقائق. هذا ما أحاول فهمه. ولهذا أعتبر أن مهمتي الأولى ليست عقائدية نضالية، بل هي معرفية بالدرجة الأولى.

وعليه لن أعاود الكرّة أو أجرّب المجرَّب. لن أسأل أسئلة الافغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان حول اسباب تقدم الغرب وتأخر الغرب. ولا أدعو دعوة الشميل وسلامة موسى ولطفي السيد إلى تبنّي عقيدة من العقائد الحديثة، سواء تمثلت بالتقدم أو بالتقنية أو بالليبرالية. وبالطبع لا أدعو إلى احداث ثورة على ما يفعل دعاتها من ماركسيين واسلاميين وقوميين.

إني لا أفكر كما يفكر هؤلاء وأولئك. وإنما افكر فيما استبعدوه من التفكير. وتفكيري يقودني إلى القول بأن مشكلتي ليست في أن أحافظ على هويتي، إذ أهل المحافظة لا يحسنون سوى انتهاك أو خسارة ما يريدون الحفاظ عليه. كذلك ليست مشكلتي في أن أقلّد الحداثة في طورٍ من أطوارها أو في نموذج من نماذجها أو في صيغة من صيغها. فالحداثي هو الذي يسهم في صنع حداثته، بقدر ما يؤثر في مجرى الأفكار والاحداث في هذا العالم. وأما التقليد فلا ينتج سوى تشويه للذات أو مسخ للغير. واخيراً فأنا أبعد ما يكون عن المطالبة بالانقلاب والثورة، لأن أهل الثورة لم يقصفوا بمدافعهم سوى الاهداف التي ناضلوا من أجل تحقيقها.

على كل حال نحن تعدّينا عصر النهضة والثورة والليبرالية والحداثة إلى ما بعدها. وهو عصر لم تعد تجدي فيه الاطروحات والنماذج في حدّ ذاتها، ولم تعد تهم التصنيفات الايديولوجية والتقسيمات المعرفية. وإنما المهم ان يسهم كل واحد في امتلاك القدرة على الخلق والابتكار في مجال من مجالات الحياة، وعلى النحو الذي يتيح له أن يقيم، مع زمنه وحاضره، علاقة فاعلة ومنتجة، عقلانية وعملانية في آن.

 

الخلق والإنتاج

4- إن الانطلاق مما حدث، سواء فيما يتعلق بتجربتي الفردية أو بالتجارب المجتمعية، قد جعلني أتحرر من الهواجس التحريرية وأتخفف من الاعباء النضالية، محاولاً بذلك اعادة الامور إلى نصابها. بمعنى أنني اعدت ترتيب العلاقة مع ذاتي ومهنتي، خارجاً على بداهة كوني مثقفاً يريد تحرير الناس أو تحديث المجتمع أو تثوير الثقافة. فأنا بصفتي أعمل في ميدان الفكر، عليّ أن أعمل بخصوصيتي وأن أنجح في مهمتي، بحيث أكون منتجاً للافكار لا مجرد مستهلك لها أو مروج، سواء تعلق الامر بنتاج العرب الاقدميين أم بنتاج الغربيين المحدثين أو المعاصرين، من غير أن أنكر أنني، بوصفي أحيا في هذا العصر وأنخرط في مشكلاته، أجد متعة في قراءة المعاصرين لا أجدها لدى الأقدمين.

وبناءً على ذلك، إذا جاز لي أن أحدد دائرة لعملي أو بؤرة مركزية لاهتمامي، أقول بأنني اعمل في ميدان الفكر، وفي مجاله الفلسفي بصورة خاصة، بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى، لغوية أو عرقية أو دينية أو جغرافية.

فعلاقتي بهذا المجال هي كعلاقة أرسطو به، أو ابن رشد أو ديكارت أو دولوز أو رورتي، وذلك بصرف النظر عن المعطيات التي يمكن أن أشتغل عليها أو النصوص التي أحاول قراءتها.

إذن أنا أتصرف كواحد من أهل الفكر، يرى أن الفكر مجالٌ رحب لا ينغلق تحت أي داع أو اعتبار، وأن عليه أن يعمل باستمرار على فتح الكوى وتشريع الابواب. من هنا لا أحصر اهتمامي بدائرة التراث العربي على طريقة المستشرقين. ولا أعتبر أن مهمتي هي الدفاع عن الفكر الاسلامي أو السعي إلى تجديده، على طريقة أهل الكلام واللاهوت. إني أتجاوز هذين الموقفين، معتبراً أن مهمتي هي تجديد الفكر وأدواته، كما كان يفعل المفكرون القدامى، أو كما يفعل المفكرون المعاصرون.

غير أنني اذ انتمي إلى المجال الفلسفي، لا أستبعد المجالات الاخرى. لا استبعد الكلام ولا الفقه أو اللاهوت. كما لا استبعد فلاسفة اليونان بحسب ما فعل بعض الاسلاميين القدامى؛ ولا أستبعد فلاسفة الغرب ومفكريه كما يفعل بعض الاسلاميين المعاصرين، كعلي سامي النشار ومحمد باقر الصدر، وسواهما من الذين يعتبرون أن الثقافة الاسلامية هي عالم قائم بذاته، مكتفٍ بذاته، يجدد نفسه بنفسه من غير أن يتفاعل مع العوامل الثقافية الاخرى. مثل هذه النظرة لا تؤيدها الوقائع، فضلاً عن أنها تؤول إلى جمود الفكر وعجزه عن الخلق والابداع.

بالعكس. إني اعتبر أن الفكر الفلسفي يتغذى ويتجدد بالانفتاح على كل فروع المعرفة وعلى كل التجارب والممارسات. بل يتغذى بالانفتاح على ما يستبعده الفلاسفة بالذات. ومثالي على ذلك أنني إذ أقرأ الفلاسفة الغربيين، ألتفت إلى ما استبعدوه من نطاق فكرهم الفلسفي، وأقصد بذلك الفلسفة العربية التي لم تُعامل من قِبلهم كجزء من تاريخ الفلسفة أو كعصر من عصورها.

وفي مثال آخر، فإني إذ أتكلم على مسألة الاختلاف، أقرأ النصوص لدى المحدّثين والفقهاء والمتكلمين والصوفية والفلاسفة، فضلاً عن النص القرآني، طبعاً بالاضافة إلى المفكرين المحدثين والمعاصرين الذين تناولوا العلاقة بين الهوية والمغايرة.

 

رهان الفكر

5- إذا كنت أنتمي إلى المجال الفلسفي، فلا يعني ذلك أنني أتماهى مع أصل معين أو أقيم في عصر معين من عصور الفلسفة. وإنما أنتمي إلى زمني وأنخرط في المشكلات المعاصرة وأقف على المستجدات الفكرية، خصوصاً على ما يُنتَج اليوم في مجال الفكر النقدي. ولا أعتقد أن مشكلاتنا الفكرية هي نفس المشكلات التي تعاطى معها ديكارت أو كنط أو ماركس. فبعد انهيار الماركسيات، مغرباً ومشرقاً، تغيرت الاشكالية، وأصبحت الماركسية هي مجال النقد والتفكيك.

وبعد تلوث البيئة لم تعد المشكلة الخُلُقية مطروحة بنفس التعابير التي كانت تُطرح فيها أيام كنط. وهذا شأننا مع ديكارت، فالعقلانية على ما مارسها فقدت الكثير من اجرائيتها، أعني من قدرتها على تفسير وقائع العالم ومجرياته.

 ثمة وقائع فكرية استجدت، سواء في العدّة المفهومية وفي طرق التفكير أو في حقول الفكر وفروع المعرفة، ولا يمكن لأحد القفز فوق هذه الوقائع بحجّة أننا لم نصبح بعد من أهل الحداثة. وما استجدّ يغير علاقتنا بالفكر نفسه، بقدر ما يغير صلتنا بالحقيقة والعقل وبسائر المفاهيم المتداولة في خطابات الحداثيين.

وهنا تكمن اهمية الفكر النقدي للحداثة. إنه يزودنا بترسانة مفهومية تتيح لنا تفكيك الآليات والقوالب والانساق التي تمثل عوائق تعيق عمل الفكر وتعرقل مهمة الفهم، أي تَحُول دون قراءة الحدث وتشخيص الواقع. هذا ما تتيحه الفلسفة النقدية المعاصرة لمن احسن قراءة ما حدث على صعيد الفكر: تفسير العجز وفهم المستعصي على الفهم، تسمية ما لا تجوز تسميته وانارة ما تمّ حجبه أو طمسه.

وأنا إذ أقرأ أهل الحداثة بعيني النقدية المعاصرة، لا أقف خارج الكتابة، بل أحاول أن أكتب ما لم ينكتب اي ما حاولت الكتابة تهميشه أو استبعاده. ولا اخرج على موضوع التفكير، بل احاول الدخول عليه والتعاطي معه بصورة مجدية ومنتجة. فالذين يقولون بالخروج على الموضوع، لن يحسنوا صنع حداثتهم، لأنهم يعتبرون الحداثة فكرة مسبقة أو حقيقية متعالية أو نموذجاً جاهزاً. باختصار انهم يرون إلى الحداثة بوصفها موضوعاً قائماً بذاته ينبغي تمثله والقبض عليه، فيما الحداثة هي ابنية وعلاقات تصنع باستمرار. انها موضوع لا ينفك يتغير ويتبدل، أو يتخلق ويتشكل.

بهذا المعنى ليست قراءة ابن سينا أو ديكارت أو هيغل هي عندي اولى من قراءة نيتشه أو هيدغر أو فوكو أو رورتي أو فاتيمو. بالعكس إن قراءة هؤلاء المعاصرين هي اكثر غنى وخصوبة، ومن ثم فهي اولى وامتع. هي أغنى لأنها تتيح لنا أن نقرأ المحدثين قراءة تجدد المعرفة بأعمالهم وبالمعرفة. وهي أولى لأنها تكشف لنا عن عجز العقلانيات الحديثة عن قراءة العالم وتشخيص الواقع. وهي أمتع بقدر ما تشعِرنا براهنيتنا، وتتيح لنا أن نحيا في زمننا ونشهد على عصرنا. وفضلاً عن ذلك، وربما الأهم من ذلك، ان قراءة الاعمال المندرجة تحت خانة ما بعد الحداثة، إنما تكشف لنا نحن العرب كيف أن قيم الحداثة تتجسد، عندنا، اجتماعياً وسياسياً، بنقائضها، بقدر ما تقدّم لنا اجابة على أسئلة من نوع: لماذا لم نصبح عقلانيين أو ديموقراطيين بعد كل هذه الخطابات على العقلنة والديموقراطية؟ بل لماذا تتراجع الديكارتية العربية عمّا كانت عليه أيام طه حسين؟ باختصار إن الفلسفة النقدية المعاصرة تجعلنا نفهم كيف أنه بعد كل هذه المساعي والمحاولات في التحديث والتنوير والتقدّم، لا نحسن سوى قلب الطاولة على رؤوسنا، وذلك بقدر ما تبيّن لنا كيف أننا تعاملنا مع العقل بصورة غير معقولة، ومع التنوير بصورة ظلامية، ومع الحرية بصورة استبدادية، ومع الحداثة بصورة تقليدية. ومن المفارفات أن نجد أن الذين أفادوا من منجزات الحداثة لم يكونوا من دعاتها أو المنظّرين لها، كطه حسين وسواه من الكتاب والمفكرين الذين تعاطوا مع الحداثة وشعاراتها معرفياً لا ايديولوجياً.

أما اصحاب الدعوات والايدلوجات، فقد كانوا الاقل انتاجاً وابداعاً، أو الاقل افادة واستثماراً، وذلك بقدر ما تغلّبت عندهم ارادة العقيدة على ارادة المعرفة، وارادة الهوية على ارادة الحقيقة.

وهكذا تعامل المثقفون العرب مع الأفكار الحديثة بمنطق الاستهلاك والترويج، في حين كان المطلوب هو الابتكار والانتاج أو اعادة الابتكار والانتاج. واعادة الانتاج، كما أفهمها وأمارسها، تقتضي التحرر من أطياف المحدثين والقدماء على السواء. انها تتطلب تفكيك عالم الحداثة الذي نحيا أزماته ومآزقه، أي تفكيك البنى والعلاقات التي أقمناها مع المفاهيم الحديثة، والتي أودت بالمثقفين المحدثين إلى الضعف والهشاشة أو إلى العزلة والهامشية، خصوصاً في العالم العربي.

هذا ما أحاول فعله: أن أسعى إلى صنع حداثتي، بالتحرر من أوهام الحداثة وتهويماتها العقائدية، وأن اعمل على صياغة عقلانيتي بتفكيك العقلانيات الحديثة للكشف عما تنطوي عليه من التعاملات الخرافية والآليات اللامعقولة.

ولا أميز في ذلك بين معطى عربي أو غربي، اسلامي أو اوروبي. وإنما أشتغل على كل الاعمال والكتابات. فأهمية من يشتغل بالفكر أن يعمل بخصوصيته، حتى يكون منتجاً للافكار والمفاهيم.

فأهمية افلاطون ليست في سعيه الايديولوجي لبناء مدينة فاضلة، بل في المفاهيم التي ابتكرها وفي الاشكالات التي أثارها. وأهمية ميشال فوكو، ليس مشاركته في التظاهرات من أجل تحسين السجون، بل في تحليله مؤسسة السجن، على نحوٍ أغنى مفهومنا للسلطة بقدر ما كشف عن العلاقة بين المعرفة والسلطة.

على هذا النحو أرى إلى مهمتي الاصلية، اي بوصفها مهمة معرفية بالدرجة الأولى. وأما مهمات النضال والتحرير فإني اتركها لغيري. بل إني اسعى إلى الكشف عما تنطوي عليه استراتيجيات التحرير من آليات خفية للسيطرة والإخضاع.

 

كسر القوقعة

6- إن عملية الإنتاج الفكري لا تتم بالطبع بسحر ساحر. وإنما هي انشاء لعلاقات جديدة مع الواقع والحقيقة ومع الفكر والذات. إنها فاعلية نقدية تتناول بالتشريح ما نحن عليه، أي ما نتداوله من الخطابات والمقولات، أو ما ننشئه من الابنية والمؤسسات أو ما ننخرط فيه من التجارب والممارسات. فالتنوير ليس مجرد استخدام للعقل، ولا هو مجرد تعلق بالعلم أو اقتناع بحتمية التقدم. انه في اساسه خروج من حالة العجز والقصور بالاشتغال على الذات واقامة علاقة نقدية معها. بكلام آخر: انه «انطولوجيا نقدية» للذات، بحسب تعبير ميشال فوكو، مآلها أن يصير المرء على غير ما هو عليه، سواء من حيث علاقته بذاته، أو بنظرائه، أو بمجتمعه وعالمه.

من هنا لم تعد تكفي خطابات التنوير وبيانات الحرية وادعاءات الحداثة والعقلانية، في مواجهة السلفية القديمة أو الحديثة أو حتى سلفية ما بعد الحداثة المسمّاة «اصولية». لا غنى عن تفكيك الخطاب التنويري والحداثي، للكشف عن الاصولية المحتجبة وراء دعوى التنوير والحداثة. فالحداثيون والاصوليون، كلاهما تعامل مع مقولاته بطريقة اصولية تقليدية. كلاهما تعاطى مع المسائل على نحوٍ ما ورائي جوهراني متعالٍ. باختصار كلا الفريقين، تعامل مع الأفكار كنماذج تامة أو كتصورات مسبقة أو كأحكام جاهزة للاقتباس والاكتساب، أو للتطبيق والتنفيذ. الكل أقحموا المفردات على الواقع، فكانت النتيجة أن مارسوا التنوير بطريقة تقليدية أثمرت ظلاماً واستبداداً. ولا عجب فالمتنور لا يقلد احداً، بل يسعى دوماً إلى الخروج من القوقعة، فيغامر ويختبر لكي يصوغ علاقته مع العالم بطريقة فذّة ومبتكرة.

 

عالمية المفكّر

7- من هنا إني أميّز بين الداعية والمناضل من جهة، وبين المفكر المنتج للمفاهيم من جهة اخرى. وهذه ليست مسألة هامشية، بل هي مسألة اوليها اهتماماً كبيراً. ذلك أن اكثر المثقفين العرب من حملة المشاريع النهضوية أو التحديثية، فشلوا في مساعيهم من اجل تقدم المجتمعات وازدهارها. وذلك بقدر ما تغلبت عندهم الهواجس النضالية على المهام المعرفية. وهذه ظاهرة في العالم العربي. لقد ازدهرت مهنة المثقف المستهلك للافكار والايدلوجات في غياب الانتاج الفكري.

معنى ذلك أن المثقفين كانوا يسعون إلى تغيير مجتمع يجهلونه، أي لا ينتجون حوله معارف وأفكاراً جديدة. وهنا يحلو لي أن أسأل: من الذي يعمل «ضد المجتمع»، الدعاة الذين أقحموا على الواقع الاجتماعي مقولات ونماذج بصورة ساذجة أو اعتباطية أو تعسفية، ام الذين يحاولون تفسير المآزق والكشف عن الإشكالية المتمثلة في عجز المثقف وفقدانه للمصداقية والفاعلية؟

لا شك أن عربياً ينتج معرفة، بالمجتمع، أكان مجتمعاً عربياً أم غير عربي، يخدم الفكر العربي والمجتمع العربي. في حين أن عربياً يتمسك بمقولاته على نحوٍ أصولي دغمائي، أكانت قديمة أم حديثة، لا يخدم لا الفكر ولا المجتمع. وشواهدي على ذلك أستمدها من علماء الاجتماع. وأول هذه الشواهد يقدمه لنا ابن خلدون. ربما كان ابن خلدون رجلاً عملانياً ينتهز الفرص، ولم تكن تعنيه القيم الجهادية أو المواقف النضالية، ولكن الاثر الذي تركه هو اغناء للثقافة العربية بقدر ما يضيف الجديد حول معرفتنا بالمجتمع البشري. وهذا شأن دوركايم. لم يكن ذا هموم نضالية، وإنما مارس مهنته كعالم للاجتماع بطريقة خلاقة بقدر ما توفر على درس الظواهر الاجتماعية. وهذا ينطبق بشكل خاص على ماكس فيبر الذي حذر عالم الاجتماع من أن يتحول إلى نبي أو ساحر أو داعية. وهذا ما نجده أيضاً عند عالم معاصر هو بيار بورديو.

فإن هذا الأخير، وإن كانت له مواقفه النضالية، فإنه لم يتناس مهمته المعرفية بالدرجة الأولى التي هي «الفهم». ولا شك أن العلماء الذين اشتغلوا على معطيات غربية أو خارج المساحة الغربية، قد ابتكروا وأنتجوا معارف اسهمت في تأسيس علم الاجتماع وفي توسيع حقوله وإثراء مفاهيمه، فخدموا بذلك خصوصياتهم الثقافية ومجتمعاتهم الوطنية، اي بقدر ما كانوا منتجين في حقول اختصاصهم وميادين عملهم.

أما المثقفون، عندنا، فقد عرقلت المهام النضالية فهمهم للمجتمع بقدر ما وقفت حائلاً دون تغييره، لأنه لا واقع يتغير، إن لم تتغير افكارنا عنه، اي علاقتنا به، إذ الفكر الفعال هو بوجه من وجوهه علاقة بالحقيقة وصلة بالواقع.

هذا الموقف النقدي من المثقف، كما مارس دوره، خصوصاً في لبنان والعالم العربي، جعلني انصرف عن المهام النضالية، لكي اهتم بنقد الأفكار في المقام الاول. فالمهمة عندي لم تعد نضالية تحريرية، وإنما مطلوبي الاول هو الفهم، اي مقاومة العماء الذي يحيط بنا، بإنتاج المفاهيم والصيغ التي تسهم في عقلنة النشاطات والسياسات والممارسات.

وأنا إذ أنخرط في هذه المهمة الفكرية، لا أميّز بين عربي وأجنبي، كما يفعل المثقفون العرب على وجه الاجمال. بالعكس: فكل الذين ينتجون معرفة أو يبدعون فكراً، هم سواء عندي أياً كانت جنسياتهم وخصوصياتهم الثقافية. هكذا تعامل العلماء والمفكرون مع انفسهم قديماً وحديثاً، كأفلاطون في الجمهورية المثلى، أو كابن خلدون في العمران البشري، أو كديكارت في قيادة العقل، أو ككنط صاحب الامر الاخلاقي الجازم، أو على الاقل كما فكر ابن رشد، الذي لم يميز بين أهل الفكر على أساس اللغة والملّة.

لا شك أن هناك بيئات ثقافية مختلفة وفضاءات عقلية متباينة. ولكن ذلك لا يجعلني أقيم حواجز بين العقول والأفكار. فالثقافات يخترق بعضها البعض على نحوٍ يجعلها تتفاعل بقدر ما تتجابه أو تتنافس. فكيف اذا كان الامر يتعلق بميادين الفكر وفروع المعرفة. ولو اقتصرت على مجال الفلسفة، أجد أن الامر يتعلق بسلسلة من الاشكاليات الفكرية أو الصيغ الوجودية، تبدأ مع بارميندس وتنتهي بنا نحن المعاصرين. وإنه لمن الخداع والتبسيط أن تقول مثلاً بأننا عندما نقرأ هيدغر إنما نتعاطى مع الآخر ثقافياً أو حضارياً، أو نقتبس من «ثقافة الغرب الأوروبي».

فأنا عندما أقرأ قولاً في الوجود لأفلاطون أو لابن سينا أو لديكارت أو لهيدغر أو لفوكو، أشعر أنني أقف في الميدان نفسه وأنتمي إلى الفضاء نفسه، كما أدرك بأنني ازاء نصوص وكتابات تخاطب عقلي بالدرجة الأولى. بهذا المعنى فالمفكر هو الذي يخرج على منطق الهوية والعقيدة، ويمارس خصوصيته على نحوٍ عالمي، بقدر ما يثير أسئلة الحقيقة، أو يبتكر صيغة فذة على صعيد العلاقة بالوجود، أو ينتج مفاهيم خارقة في قراءة العالم والتعامل معه.

 

الخلق والخرق

8- بالرغم من ذلك كله، لا أقول بأنني أحلّق في سماء متعالية على ارض الحدث أو مفارقة للواقع الذي نرسف فيه أو ننخرط في صناعته. فأنا أنتمي إلى لغتي وبيئتي، وأتجذر في ارضي وذاكرتي، واعيش في مجتمعي وبين اهلي. بكلمة: إني أجرّ ورائي كل تواريخي. وربما تعود بعض تصرفاتي إلى العصر الجاهلي، أو إلى أطواري البدائية السحيقة، من حيث أدري ولا أدري.

ولكني في النهاية لست نسخة عن أحد. فأنا إذ أنخرط في وسطي وعالمي، فإني فريد في تجربتي الفكرية، لا أشبه أحداً، بل إن لي خصوصيتي وأحديتي تماماً كما انني لست نسخةً عن احد في بصماتي وملامح وجهي.

وانا اذا أقرأ فلاسفة الغرب أو العرب، إنما آتي اليهم من ذاكرتي ولغتي، وأدخل عليهم بقدر ما استدخلهم، وأجدد فكري بقدر ما التهم نصوصهم وانتهك مقولاتهم بالتأويل أو التفكيك. وهكذا فالتجربة لا يمكن إلا أن تكون خاصة، فريدة، اي واحدة إحدى. وبقدر ما تتجلى، لدى المرء، فرادة التجربة واصالة الفكرة، إنما يبتكر ويجدد في مجال عمله، ويفرض نفسه على الغير، سواء كانوا من ابناء قومه وأهل ثقافته، أو كانوا ذوي انتماءات اخرى. وهكذا فالانتماء هو خاص، واللغة خاصة، وحتى المعطيات التي يجري الاشتغال عليها، لن تكون الا خاصة ومحدودة، اذ ليس بوسع المرء العامل في حقل من حقول الفكر، أن يلمّ بكل شيء أو أن يشتغل على كل المعطيات. ومع ذلك فالعمل الذي يتمتع بالفرادة والاصالة والجدّة، هو لكل الناس، سواء كان الأثر لأفلاطون أو لابن خلدون، لابن سينا أو لديكارت، لابن عربي أو لهيدغر.

بهذا المعنى أسعى إلى تجاوز الثنائيات السائدة على ساحة الفكر، كثنائية الاصالة والمعاصرة، أو التواصل والانقطاع، أو الاسلام والغرب، وسواها من الثنائيات القاصرة والخادعة، التي تعرقل عمل الفكر وتموّه حقيقة المشكلات. فالمهم عندي أن أجدد فكري. ولا فرق عندي أن أشتغل على الفارابي أو على ديكارت. وفي المقابل إن المقلد هو هو، سواء قلد الغزالي أو ديكارت، ابن خلدون أو دوركايم. إن المسألة ليست مسألة انتماء أو عدمه. إذ لا احد يعرى في النهاية من انتمائه. وانما المهم كيف يتعامل الواحد مع خصوصيته الثقافية أو انتماءاته المجتمعية؟ ثمة من يقيم علاقة تقليدية متحجرة مغلقة مع هويته وتراثه وثقافته الاصلية، سواء قلّد القدماء ام المحدثين. وفي المقابل هناك من يشتغل على هويته وانتماءاته، على نحوٍ يتيح له أن ينتج معرفة أو يبدع فكراً، هذا شأن الذين يمارس خصوصيته على نحو عالمي.

هذا هو الاهم والأولى للعامل في ميدان الفكر: المشاركة الفعالة والخلاقة في المشهد الفكري المعاصر.

ولهذا ينبغي زحزحة المشكلة، بمعنى أن المشكلة ليست في أن بعضنا يقيم داخل سياق ثقافته، وأن البعض الآخر يقع خارج السياق. فكلنا نسبح في عالمنا الثقافي. ولكن هناك من يجدد ويبتكر، بكتابة نص يمتاز بالقوة والاصالة. في حين هناك من يتكلم على المسائل على نحوٍ مكرر وهش هو أقرب إلى اللغو والهذر.

وهكذا إما أن نكون عرباً مبدعين نشارك في تشكيل الحياة الفكرية المعاصرة، أو نكون عاجزين مقلّدين مستهلكين. بهذا المعنى، وحده، نحن نكتب عربياً ونخدم مجتمعنا. بكلام أوضح إننا نجدد ثقافتنا وفكرنا، عندما نستطيع تحويل العجز إلى قدرة، بفتح نقاشات خصبة أو صوغ اشكالات حقيقية أو خلق مفاهيم خارقة.

هذه هي المشكلة: أن نكون منتجين في حقل الفكر لكي نسهم بصورة خلاقة وفعالة في المشهد الفكري المعاصر. والتفكير بجدية يبدأ بطرح أسئلة الحقيقة. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يبدو تجديد الفكر ممتنعاً؟ لماذا تستحيل الحرية استبداداً؟ لماذا تتقلص فسحة التنوير التي تشكلت مع مفكري عصر النهضة؟ والاجابة على مثل هذه الأسئلة تتطلب ممارسة فكرية جديدة نقوم من خلالها بنقد الخطابات المتداولة لتفكيك أجهزتها المفهومية وتعرية بداهاتها الخادعة. فبالتفكيك يصير الممتنع ممكناً.

9- على كل حال إن الفكر المعاصر، بما هو فكر نقدي لكل الموروثات الفكرية والفلسفية، قديمها وحديثها، قد فتح ابواباً امام الفكر العربي أتاحت امكانيات جديدة للتفكير. وليس صدفةً أن معظم المفكرين العرب المعاصرين قد ابتكروا وجدّدوا بقدر ما أفادوا من المنجزات الفكرية التي تحققت في العقود الأخيرة، كما نجد عند أركون والحابري والعروي والخطيبي وسواهم من المفكرين الذين هم ثمرة للفضاء العقلي المعاصر. ومثالي على ذلك أن كتاب الاستشراق لمؤلفه إدوار سعيد قد لقي صدى كبيراً جعله يترجم إلى عدد من اللغات، بقدر ما أفاد صاحبه من منهجية فوكو في تحليله للعلاقة بين السلطة والمعرفة. ولا أظن أن هناك عربياً أبدع فكراً جديداً، بالقفز فوق الترسانة المنهجية والمفهومية التي استخدمتها الفلسفة، بدءاً من منتصف هذا القرن، وبالتحديد لدى نقاد الحداثة ومشروع التنوير. ولهذا أقول لا يجدي نفعاً القفز فوق الوقائع الفكرية المستجدة. إنها تقدم ادوات فعالة في السير والتحليل، في الكشف والتعرية.

كذلك لا يجدي نفعاً أن نتبنى مواقف الغير ثم نتهمهم بالتغريب والانقطاع عن التراث. بذلك نكرر موقف الغزالي الذي أفاد من الفلاسفة ثم أنكر فضلهم وعمل على إدانتهم. ولا يجدي نفعاً أيضاً أن نلتف على الحقيقة كما فعل محمد عبده الذي لم يعترف بحقيقة الانجاز الغربي، بل حاول ردّه إلى تأثر الغرب بالاسلام. ولا يجدي نفعاً أن نستبعد فلاسفة الاسلام من دائرة الفكر الاسلامي بحجة أنهم خالفوا أصول الدين. وأخيراً لا يجدي نفعاً أن نفعل كما فعل هابرماس بالقول إن مشروع الانوار لم يكتمل بعد وما زال صالحاً في أسسه.

 

التجاوز والتركيب

10- أختم في النهاية بالقول: كي لا نغرق في التهويمات الايديولوجية، علينا الرجوع إلى ارض الحدث، اي إلى ما حدث على الصعيد الفكري. وما حدث هو تغير قد طاول وحوّل علاقتنا بالكلمات والأشياء، بالأفكار والوقائع. نحن إزاء نصوص واعمال فكرية لها وقائعيتها. ولا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها، سواء اعتبرناها تنتمي إلى الحداثة أو إلى المعاصرة وما بعد الحداثة.

فالحداثة هي في الأصل نقد متواصل. فديكارت انتقد من سبقوه. وكنط انتقد ديكارت. وهذا شأن هيغل وهوسرل، أو نيتشه وهيدغر، أو فوكو ودريدا ودولوز. وهكذا فقد أقام الفكر الغربي وما زال يقيم علاقة نقدية مع ذاته هي علاقة تخطٍ وتجاوز، أو تداخل وتخارج، أو تماهٍ وتغاير، أو تحويلٍ وتركيب لا شك أن المرحلة الأخيرة تميّزت بنقد الاسس نفسها واعادة تعريف الأشياء من جديد.

وهكذا لا يمكن لي أن أتغاضى عما حدث. ثمة اعمال فكرية ونصوص تفرض نفسها بالامكانات التي تقدمها لي. فأنا أقرأها وأفيد منها، التهمها وأتغذى بما ترفدني به، أتوسل بها وأوظف آلياتها. إنها مواد وعناصر، أو معطيات ومضامين، أو آليات وتقنيات، أو مساحات وفضاءات، هي متاحة لي من أجل تبديد الاوهام الخادعة وتجاوز الثنائيات المزيفة وتفكيك المقولات القاصرة، أو من اجل عقلنة معارفي وفهم ممارساتي واقوالي، محاولاً في النهاية أن أتحدث بلغتي، وأن أشكل نصي في غمرة انخراطي في تجربتي وفي أتون ممارساتي.

ولا شك أن تواريخي تسكنني وأن جذوري تحركني أو تتحرك فيَّ، لكي تنبت وتطلع من تحت الارض، بحيث أُنتج فكراً أسهم بواسطته في اغناء ثقافتي، أو لكي اخرج من الغيتو العقائدي وأطلع من العالم السفلي، فأخرق السقف المعرفي، واكتب بلغة عربية معاصرة اسهم بواسطتها بكتابة فلسفة معاصرة،. هذه هي مهمتي الأولى: أن أفكر وأنتج معرفة، أن أجدد في النص، أن أتقن عملي الفكري، متحرراً من الاوهام الايديولوجية والتهويمات التحررية. الا اذا كان المطلوب أن نرهن حاضرنا وفكرنا لزمن بعينه، سواء كان تراث القرن التاسع، أو تراث الانوار، أو تراث العصر الكلاسيكي، أو تراث العهد النبوي، كما يفعل المثقفون من عبدة الحداثة وعجزة الاستنارة وكهول التقدمية، على اختلاف منطلقاتهم ونماذجهم. والارجح ان هذا ما يريده هؤلاء المثقفون: لأن هذا وحده يفسر لنا لماذا يُنتج داعية التقدم والعقلانية والاستنارة، الظلامية والتقهقر والخرافة. هو الذي يفسر عجز الخطاب عندهم، اي ما تنطوي عليه كتاباتهم من الفقر والهشاشة، كما يفسر ما هي عليه حداثتهم من الزيف والتشوه.

 

نقلاً عن موقع مجلة نزوى الإلكتروني

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً