أهمِّية التاريخ
ينقل ابن خلدون (٧٣٢ ـ ٨٠٨هـ) في مقدمته حول التاريخ وأهميته قائلاً: “اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبيت يقضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا ولم يعرضوا على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سيروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط..”([1])
وآلية تعاملنا وتعاطينا مع التاريخ هي “إن التاريخ عبارة عن فهم الماضي؛ لإفادة الحاضر، والتخطيط للمستقبل، وقد عبر السخاوي عن هذا المعنى بقوله: “إنه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيف؛ بل عما كان في العالم”([2]).
تكمن أهمية التاريخ في معرفة التالي
1ـ التجارب البشرية واستخلاص السنن التاريخية منها، والتي هي بمثابة قوانين اجتماعية تكشف لنا كيف يمكننا قيادة محيطنا بأقل الأخطاء، والنهوض به وفق تلك القوانين، فهي ترسم لنا المسارات ونهاية كل مسار ونتائجه، ليحقق الإنسان باختياره المسار الأكثر فائدة للإنسان والمجتمع. فقراءة التاريخ ضرورة حضارية لفهم الإنسان من خلال تاريخه، فما الحكمة ـ كما يقول ابن خلدون ـ سوى المرتبة العليا في مجال المعرفة، والمعرفة الحقة هي معرفة الإنسان بذاته.
2ـ تكشف لنا بعدين:
البعد الأول متحرك تتعلق ملابساته بالزمان والمكان، نستطيع الاستفادة غالبا منه معرفيا، كون هذا البعد ليس بعدا ثابتا، ولكنه متحرك تحت مظلة الثوابت، وشكل تجربة بشرية فتحت لنا باباً للفهم والإدراك.
فهو أداة للكشف عن صراعات المجتمعات البشرية، وما يترتب على ذلك من قيام الدول المختلفة، وما ينشأ عن ذلك من الدول ومراتبها كما يرى ابن خلدون.
البعد الثاني بعدا ثابتا، وهو الذي يشكل القانون والمسار الذي يتحكم بالمجتمعات عبر التاريخ.
3ـ العبرة التي تعني الاستفادة من التجربة ومراكمتها، وليس فقط الاتعاظ منها، فالعبرة تكون على مستويين:
الأول فردي: وهو المستوى الذي يشكل حركة الاتعاظ، والمراجعة الفردية في علاقته مع الله وعلاقته مع ذاته ومع مجتمعه والمحيط.
الثاني اجتماعي: متعلق بالاستفادة من التجارب البشرية في كافة الأصعدة ومراكمتها، فطبيعة المجتمعات متحركة وحراكها يكون بالعقل، واكتشاف القوانين التي تحكمها كقوانين عامة ثابته ذات أصالة خارجة عن التاريخ والزمان والمكان.
4ـ تكشف قراءة التاريخ آليات تفاعل العقل مع النص، ومساحات التطبيقات العملانية له، وكيفية التعامل مع النصوص عبر الزمن، لتتكشف لنا قوانين تصب في صالح قراءة واعية للدين، ومراكمة له ومطورة لفهمه وليس له.
سلبيات القراءات العصبوية (مذهبية ـ قومية ـ عرقية ـ طائفية… الخ) أنها تحجبنا عن حقائق تاريخية كثيرة، ولا تعكس لنا الواقع، وقد تشوه الحقيقة وقد تعكسها خاصة فيما يتعلق بقراءة تاريخ الأديان والشخصيات الدينية.
اضافة الى أن قراءة التاريخ ليس لاستحضاره في واقعنا كما هو، بقدر ما هو من الاستفادة من أحداثه للخروج بقوانين شريطة قراءته قراءة علمية.
وعدم مسؤوليتنا أبدا حين قراءة التاريخ عن استجرار الإشكاليات إلى واقعنا المعاصر، ولا محاسبة شخصياته التاريخية أو الحكم عليها، وقد حدد القرآن أنها أمم مضت لها ما كسبت وأننا لسنا مسؤولين عما فعلوا وكسبوا([3])، بل مسؤولين فقط عن قراءة تاريخيهم وأخذ العبر والاستفادة منها، لعدم تكرار الأخطاء، وبناء مجتمعات يحكمها العدل، فالعدل أصل، غيابه يجعل من الحياة غابة.
إن حركات التاريخ الكبرى على قسمين:
1ـ قسم يعالج أمورا وقتية آنية عارضة للناس كأفراد ومجتمعات.
2ـ قسم يعالج القضايا الوضعية الإنسانية، الكرامة، الحرية، طبيعة الحكم وعلاقته بالناس العاديين، كم في الحكم من الإنسانية والصنمية التي عبر عنها الرسول ص بالكسروية والقيصرية([4])..
ففي القسم الأول خاصة بزمان ومكان محدد غير عابر للزمن، وخاص بمجتمعات ذلك الزمان وإشكالياتهم الخاصة.
وفي القسم الثاني لا ينقضي بانقضاء وقته، لأنه يباشر وضعية إنسانية عابرة للزمان والمكان، وعلى مدى التاريخ فالناس كانوا ومازالوا في حبهم وخوفهم وآمالهم يتوقون للكرامة والحرية والعدالة، لأنها قيم ثابته راسخة في فطرة الإنسان بما هو إنسان دون تمييز في ذلك بين عرق، ومذهب، وطائفة، وجغرافيا. فثبات القيم لا يعني استجرار آليات تطبيقها عبر التاريخ، بل يعني ابتكار الآليات التي تناسب الزمان والمكان في تطبيق هذه القيم التي تعني كل إنسان.
فحركات التاريخ التي تتعامل مع الأصول الوضعية للإنسان وقيمه الثابتة الحقيقية غير الاعتبارية، لا تنحصر بجيل، بل تغدو عنصرا ثابتا في ضمير الإنسان والأمم، لتنبعث في كل عصر حينما تتوافر الظروف لانبعاثها، وفي كل جيل لتحقق نفس الأهداف كالحرية، والكرامة، والعدالة، والمساواة.
أوجه القراءة المقاصدية للتاريخ
للقراءة المقاصدية التاريخية وجهين:
الأول: هي قراءة المقاصد الحراكية لكل شخصية رمزية وشخصية لها قدسيتها على حدة، والغوص التاريخي في تلك الفترة الزمنية أي قراءة منفصلة.
والثاني: قراءة المقاصد الحراكية لتلك الشخصيات باتصالها بمن سبقها، الذي يسبقه وبمن تلاها، أي قراءة متصلة للحراك المقاصدي للشخصيات الرمزية والمقدسة واحدا تلو الآخر.
وبالطبع هذه الجنبتين للقراءة المقاصدية للحراك التاريخي ستكون مخرجاتها هائلة جدا على صعيد الفهم خاصة للنص الحديثي، وعلى الصعيد الاجتماعي أيضا ولتطويرالفقه الاجتماعي تطويرا يسد ثغرات الفقه الفردي. بل سيرتقي بمستويات الحراك الاسلامي العام.
وقد شكل موضوع المرأة عبر التاريخ هاجسا بنيويا في التفكير، دفع كثير من النساء والرجال للبحث حول شخصية المرأة وحقوقها وواجبتها ووظيفتها، وكان الدين اللاعب الرئيسي في تشكيل هذه الشخصية، إضافة للعادات والتقاليد التي طغت عليها روح ذكورية نابعة من مفهوم القوة والضعف، ومفهوم الجمال والغريزة، هذه المفاهيم التي لعبت دورا هاما أيضا في زاوية النظر إلى شخصية المرأة وبناء مكونتها وخلق صورتها بشكل متجدد عبر التاريخ من حيث المظهر لا الجوهر.
فالأصل هو في تضافر الجهود والأدوار بين المرأة والرجل، ليتحقق التكامل سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو الاجتماعي، ولعل هناك بعض التشابكات والمشتركات في تلك المستويات، لكن هذا لا يمنع من وجود خصوصيات في كل مستوى، وخاصة في المستوى الاجتماعي، الذي يعتمد غالبا على الكفاءة لا على الولاية، ولا على التفوق الجنسي للذكر.
أحاول في هذا الأوراق المحدودة الانطلاق في رحلة معرفية لا أدعي فيها عصمة الأفكار ولا معصوميتها من النقد، ولا ادعي فيها امتلاك الحقيقة الكاملة حول موضوعة المرأة من خلال النموذج الذي سأستقريه وهو السيدة فاطمة(ع)، بل هي محاولة معرفية للفهم والتنقيب في البنية المعرفية والفكرية حول هذا شخصيتها بعد وفاة النبي ص ومواقفها، كونه الدّور الأبرز في تاريخ السيدة(ع)، فلولا هذا الدور البارز لكانت طمست الأحداث وحُرّفت وبقيت طي التاريخ وضمن تزييفات التاريخ وكتبته أتباع السّلطة، ومحاولة تفكيك تشابكاته، وفهم معطياته المعرفية والفكرية، لرسم خارطة طريق توضح معالم وجانب من جوانب شخصية المرأة، وتعيد النظر في فهم حقيقة دورها في الفضاء الاجتماعي خاصة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والأخص في حال توافر نفس الظروف العامة بعناوينها الكلية للسيدة الزهراء ع، لرفع التعطيل المشين الذي وقع بحقها، بل تعطيل سوء الفهم في كافة الاتجاهات.
الحق والحقوق وتاريخية حقوق المرأة
تكمن المشكلة في انجرارنا لصراع ليس من بيئتنا الثقافية والمعرفية وإن توافق معه في الظواهر والمعطيات، وفي طبيعة الظلم الذي وقع على المرأة، كتفاعل غير متكافئ مع القضايا الحقوقية والتشريعية، والمفروض أن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تتضافر الجهود كافة بين المرأة والرجل في رفع الظلم الفردي والاجتماعي عن كليهما، وفي تحقيق العدالة في حقهما، لا أن يتم تقسيم المجتمع إلى ذكور وإناث، وبالتالي تفكيك الجهود والطاقات والمساعي، وضرب مبدأ الولاية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون في ذلك من خلال شعارات المساواة والحقوق، دون أدنى مراجعة وفهم للمفاهيم ودلالاتها ولطبيعة الحقوق والمساواة التطبيقية المراد تحقيقها وفق هذه الشعارات، فنحن كبشر لا نختلف فطريا في الميل للحرية وتحقيق العدالة، لكننا نختلف في فهم مراد الحرية ودلالاتها وتطبيقاتها وهذا ينطبق كذلك على مفهوم العدالة، وهذا الاختلاف اختلاف معرفي مبنائي ناشئ عن عدة أسباب أهمها المعرفة ومصادرها، والتي تشكل بنية الإنسان الفكرية والعقدية وتنظم بعد ذلك أفكاره وسلوكه وعواطفه.
فالفرد نواة الأسرة والأسرة نواة المجتمع، والإسلام أولى أهمية قصوى لبناء الفرد كإنسان وكجنس (امرأة ورجل) ورسم خارطة الحقوق الواجبات وفق بعدين:
الأول: حقوق طبيعية وعلى ضوئها واجبات طبيعية؛
الثاني: حقوق تشريعية وعلى ضوئها واجبات تشريعية؛
وهناك بعد ثالث وهي الحقوق القانونية الاعتبارية التي تنتظم فيها حياة الإنسان وفق تشخيص عقلائي يتم اعتباره والأخذ به، لكنه يجب ألا يتناقض ويتقاطع مع المقاصد الكلية للشريعة، التي هي واقعا مقاصد السماء لا الأرض، وأهمها العدالة والكرامة الإنسانية ومنظومة القيم الثابتة.
وعلى ضوء ذلك نتوقع ألا تكون التشريعات معيقة لوظيفة المرأة والرجل سواء الوظيفة القائمة على أساس البعد البيولوجي الطبيعي، أو تلك المعنية بالدور الفردي والأسري والاجتماعي، بل هي مدعمة ومرسخة ودافعة لها، وإلا تصبح كالسالبة بانتفاء الموضوع.
أما المرأة فالثابت الأصل لها كنوع بغض النظر عن جنسها وبالتساوي مع الرجل، هي مسؤوليتها أو ما يطلق عليه قرآنيا مبدأ الاستخلاف كوظيفة وكحق تترتب عليه واجبات وحقوق، والمسؤولية أو الاستخلاف فيه جوانب ثابتة متعلقة بتكوين كل جنس متناسب مع وجوده الدنيوي كالأمومة والزوجية، وما يتطلبه ذلك من تجهيزات جسدية وحقوق وظيفية لكل منهما، تترتب عليها أيضا واجبات وظيفية، فالحقوق والواجبات وظيفتها آلية لتعين كل طرف على أداء وظيفته الاستخلافية فتتزن الأمور بعدالة دون ظلم، وجانب متغير وتغيره يكون بتحقق شرطين ذكرناهم آنفا، وكل وفق قابليته ومرتبته الوجودية وسعيه.
إذن لدينا بُعْدان في شخصية المرأة
1ـ بعد وظيفي ثابت، وله متعلقات ثابتة؛
2ـ وبعد وظيفي متغير، وعلى ضوئه تتغير الفوقيات وفق الزمان والمكان.
وأهم العقبات المعيقة لأداء الواجب الاستخلافي، عقبتان رئيسيتان تتفرع عنهما عقبات فرعية:
العقبة الأولى: داخلية أو داخل دينية
بمعنى زاوية النظر للمرأة في الشريعة، وطريقة استقراء النصوص الدينية، وآليات هذه الطريقة. وأين موقع القرآن كمرجعية معرفية تشريعية تقنينية معصومة فيها.
العقبة الثانية: خارج دينية
وهي الإحلال الثقافي، وقدرته على اختراق المفاهيم، وقدرته على الإقناع والإحلال نتيجة غياب المشروع.
فالأصل في توزيع المهام وإقرار الحقوق والواجبات، هو تحقق الاستحقاق والقابلية لكل حق وواجب ووظيفة، على مستوى القوة، أما على مستوى الفعل فتتسع القابلية، وعلى ضوئها تتسع سعة الحقوق والواجبات وفق مبدأ الكفاءة والجهد المبذول والسعي والجد والاجتهاد، وهنا لا فرق في ذلك بين رجل ومرأة، لأن لكل امرئ ما سعى.
وهنا في موضوع الاستحقاق نحن أمام عدة أبعاد:
ـ بعد فردي متعلق بذات الشخص رجل وامرأة؛
ـ بعد أسرى متعلق بكليهما؛
ـ بعد اجتماعي متعلق بالبيئة الحاضنة لكليهما في العمل الاجتماعي خارج نطاق الأسرة، وخارج نطاق ذات الفرد.
وفي كل بعد هناك حقوق وواجبات منفردة وأخرى مشتركة وأخرى وظيفية متعلقة بالمؤسسة الأسرية، وثالثة حقوق وواجبات متعلقة بالعمل الاجتماعي، وهذا لا يتعلق في أغلبه إلا بالكفاءة والاستحقاق والسعي وبذل الجهد. فحينما يساوى بينهما في المبدأ الإنساني وفي كثير من العناوين العامة الكلية، إلا أنه في التقنينات والتشريعات التفصيلية تكون المرجعية هي العدالة وليست المساواة، لوجود اختلاف واقعي بيولوجي بينهما.
فعلى مستوى الفرد لا يفرق الله تعالى في قضية الاستخلاف بين الذكر والأنثى، بل يعتبر كلاهما مسؤولان في موضوع الاستخلاف، ومسؤولان أمام الله، وأن معيار التفاضل بينهما هو التقوى:
سورة الحجرات، آية 13: “يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
ويقول الله تعالى أيضاً في سورة النساء، آية 7: “لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والْأَقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً”.
ويقول تعالى في سورة النساء، آية 32: “ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً“
ويقول عزّ وجل في سورة الأحزاب، آية 35: “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِماتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ والْقانِتِينَ والْقانِتاتِ والصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً”.
وأجلى آية في البعد الاجتماعي والعمل الاجتماعي، وفيها أيضاً يكمن البعد الفردي والأسري: قوله تعالى في سورة التوبة، آية 71: “والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
فالإسلام تناول منظومة الحقوق والواجبات والضوابط المُقَنِّنَة لها، والخاصة بالرجل والمرأة، تارة لم يفرق بينمها في الحقوق والواجبات والوظيفة، وتارة فرق بينهما بحيث يكون المعيار العدالة لا المساواة.
بالتالي نحن أمام معضلة المشروع البديل، الذي عليه أن ينظم وجوده من خلال النظر لكل من المرأة والرجل في منظومة مترابطة حقوقيا، فلا نعزل المرأة ونقنن لها منظومة حقوق وواجبات مستقلة، ولا كذلك الرجل، بل الارتباط بينهما ارتباطاً وظيفياً تكاملياً، وليس مستقلاًّ، فهناك ترابط وتكامل في الأدوار، وهناك روابط علائقية بينهما تترتب عليها مجموعة حقوق وواجبات، والنهوض بمشروع كهذا بات حاجة ملحة، في ظل انفتاح الساحات على كل المشاريع الأخرى والتي يعد أخطرها تجريد المرأة من وظيفتها الاستخلافية، تحت شعارات التحرير والحقوق، و تحويلها إلى أداة إفساد اجتماعي، وهدم منهجي للقيم وأداة للفتنة، ونكون بذلك أمام تحدي كبير يعطل نصف المجتمع ويؤدي مع التقادم لحرف الإنسانية بما هي إنسانية عن حقيقة بشريتها وآدميتها التي كرمها الله.
وهو ما يدفعنا لفهم أهمية النّموذج في الحياة البشرية، بل ودوره الهام في ظل صراع النّماذج، خاصّة إذا قدّم هذا النّموذج بديل صالح يحاكي الزمان والمكان، ويصمد أمام النماذج الأخرى، بل يشكل لها قلقا معرفيّا بعد أن يجرد كل ثغراتها ويوضّح مثالبها، ليكون هو الأقوى حجة، والأكثر إقناعا من الناحية المعرفية والقيمية والحضارية. وهذا يتطلب إعادة النظر في آليات استقراء النماذج التاريخية، ومحاولة الانفتاح على المناهج المتطورة في قراءة التاريخ وشخصيّاته دون تحيّزات معرفية أو تحيّزات بيئية تؤثر على آليّات القراءة المتطوّرة للنموذج، والتي يفترض أن يقدم من خلالها بديلا صالحا صامدا أمام كل التحدّيات وتعقيدات العصر وإشكاليّاته.
تعريف النموذج
تكمن أهمية التعريف في تحديد دلالات المصطلح وتشخيصها لرفع اللّبس المعرفي وبيان مراد المُتَكلّم، فأكثر المعارك المعرفيّة كانت أحد أهم إشكاليّتها عدم وضوح المصطلح والمفهوم محل البحث. فاللغة والكلمات والمصطلحات وطريقة استخدامها هو ما يحدد نجاح حل الإشكاليات وتشخيصها، وبلورة الموضوع بطريقة تعكس مُرادْ الباحث. وأهم التعاريف التي يمكن أن توضح معنى مفهوم النّموذج هي:
ـ إطار مرجعي، وصف لشيء ما، أو شبيه، منهج مقترح للبحث، تمثيل دقيق للشيء المطلوب دراسته، صورة تبيّن كيف يعمل نظام ما، نظرية تفسر تركيب أو بنية شيء ما([5]).
ـ النموذج تمثيل للواقع يحاول تفسير ظاهرة من ظواهر هذا الواقع، وهو أبسط منه لكنه قريب من كماله لدرجة يحقق معها الهدف الذي بني من أجله([6]).
ـ ضرورة منطقيّة ووسيلة تفسيريّة تساعد على استخلاص النتائج الصحيحة، تصغير للحقيقة، في صورة بسيطة متلاحمة تستمد أصولها من الحقيقة، تمثيل مبسّط للظاهرة، وشامل لها في آن واحد([7]).
فالنموذج يتيح للباحث فرضا يقابله بالواقع، وهو سابق على النظرية، بل مقدمة للوصول إليها، ويساعد النموذج الباحث على الاستنتاج، على أن تفترض علاقة تمثيل أو ارتباط بين بعض المظاهر في الواقع، وبين النّموذج الذي يراد تقديمه كمرجعية معيارية صالحة وبديلة.
والنموذج الذي أعنيه في هذا البحث، هو نموذج تاريخي، ولكن ليس توقيفي، بمعنى لا يتوقف عند ذلك الزمن والشخص المراد دراسته، بل يحاول انتزاع السّمات العامة في حراكه وكلامه ومقاصده، خاصة في البعد الثابت لتلك السّمات التي تعبر الزمان والمكان ويمكنها أن تشكل نموذجا بعكس حقيقة يمكن الاستفادة والإفادة منها. خاصة إذا كانت تلك الشّخصية لها اتصال ـ وفق مرجعيتي المعرفية ـ بالسّماء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كشخصيّة السّيدة فاطمة(ع) التي تربّت في حضن الوحي، حيث هي ابنة النبي ص وابنة السيدة خديجة ا ع، وزوجة أمير المؤمنين علي ع، الذي يعدّه بعض المسلمين خليفة وبعضهم إماما معصوما، وفي كلتا الحالتين هو شخصية لها وزنها الديني والتشريعي، وأم الأئمة الإثني عشر ع، بالتالي تكون السيد فاطمة(ع) قد تغذّت من حضن السّماء التشريعات والقيم والتعاليم والمبادئ التي تخص كل إنسان بشكل عام، وكل مسلم بشكل خاص.
ويمكن تقديم النموذج بعدة طرق أهمها اليوم وسائل الاتصال، لأن لوسائل الاتصال تأثيرها القوي، خاصة إذا تم استخدامها في صناعة رأي عام، من خلال حملات إعلامية منظمة، تهدف لإيصال رسائل وقيم في وعي المُتَلّقي، مع تركيز هذه الرسائل والقيم باستخدام طرق متنوعة ومع التّكرار غير الواضح ترتسم الصورة المراد رسمها في وعي المُتَلَقّي وتَحُل مكان الصورة النمطية القديمة، وهناك نظريات مهمة طرحت حول قوة تأثير وسائل الاتصال أهمها:
نظرية التقَمُّص الوجداني
صاحب هذه النظرية هو الباحث الأمريكي “دانيال ليرنر”([8]) الذي اهتم بدراسة العلاقة بين وسائل الإعلام والتغيير الاجتماعي والثقافي، ودور هذه الأخيرة في التنمية القومية لاجتياز المجتمع التقليدي، إذ قدمت نظريته تأثيرات معينة لدور وسائل الإعلام في الإقناع والتأثير على الأفكار والاتجاهات والقيم. و الأفكار التي صاغ بها ليرنر نظريته في مجملها، كانت حصيلة الأبحاث التي أجراها مع بداية الخمسينات على ست (6) دول في الشرق الأوسط هي: تركيا، إيران، مصر، سوريا، لبنان و الأردن([9]). وأهم جزئية في هذه النظرية هي “التقمص الوجداني” الذي يعمل على إعادة صياغة النموذج وطرحه للمتلقي، وبالتالي يقوم من خلال هذا النموذج بتغيير كثير من المفاهيم والقيم وتغيير مرجعيتها المعرفية، “وحسب لينر فان التحضر هوا تجاه عقلاني من نمط الحياة التقليدية إلى نمط الحياة الجديدة،تزداد فيه مساهمة الأفراد، أي أن التحضر يحدث أولا: لأن المدن وحدها طورت المهارات والثروات، التي تميز الاقتصاد الصناعي (المدينة تتسع لتشمل القرى)، ويضيف ليرنر إن التحضر المتزايد يؤدي إلى زيادة المعرفة، وتعلم القراءة والكتابة مما يزيد من الإقبال، والتعرض لوسائل الإعلام الذي تزداد معه عملية ركز عليها ليرنر في نموذجه وهي” التقمص الوجداني” الذي يعني تصور الفرد لنفسه في مواقف و ظروف الآخرين، أو الحالة الذهنية والنفسية التي تعيشها الشخصية الحركية، وكل ما سبق يؤدي إلى زيادة في المشاركة الواسعة البارز المهمة والمقدمة للمجتمع الحديث.
إن أهم ما اعتقده ليرنر في نظريته هو أن خاصية التقمص الوجداني وانتشارها في أوساط أفراد المجتمعات النامية، من شانها أن تؤدي إلى عصرنتها، و رأى أن وسائل الإعلام قادرة على خلق هذه الخاصية السلوكية، كما أنها قادرة على تأدية وظيفة “مضعف الحراك ” التي تساهم بشكل كبير في إحداث التنمية والإسراع من مراحل تجاوز الحياة التقليدية”([10]). وعملية التقمص الوجداني تعني تصور الفرد لنفسه في مواقف وظروف الآخرين.
والآخرين هنا تعني النموذج والمثل الأعلى الذي يقدمه الاعلام، ليصبح مرجعية معيارية سلوكية في لاوعي الجمهور. فمع تكرار ظهور هذا النموذج في الوسائل الاعلامية، يرتبط وجدان الناس به وتبدأ عملية التقمص التي تعني تماما تقليده كمرجعية، ومحاولة سلوك نفس المنهج ونمط التفكير والحياة، وبالتالي تبدأ ترددات هذا التقمص بالشياع في المجتمع، وتدريجيا يتم تجاوز المجتمع التقليدي والانتقال به في عملية تحديث وتنمية وتطوير يرسم معالمها أصحاب القدرة والمكنة والنفوذ. وبذلك تهدد الهويات الخاصة، وتهدد منظومة القيم والمعايير الثابتة، تحت شعار تجاوز المجتمع التقليدي، مع عدم تعريفهم لمفهوم التقليدية وحدودها ومعالمها، ومع إيمانهم بنسبية الحقيقة والقيم والمعايير، وبذلك يتم تدريجيا التجاوز والتبديل لهوية المجتمعات، ومن ثم السيطرة عليها من خلال لا وعيها.
وعادة كان القرآن في أكثر من مورد وبشكل واضح يقدم لنا دوما النموذج من خلال سماته العامة، ويضع معاييره لكل نموذج حتى يتسنى تطبيق تلك المعايير في كل زمن مهما اختلفت المصاديق. فنجده يقدم نموذجه للخير والشر، ونموذجا للكمال ونموذجا للنقص، نموذجا للعفة والحياء ونموذجا مقابلا لهما.
وما يلفت فعلا أن هذه النماذج مجتمعة تقوم على محور وهو ثبات المرجعية المعيارية من جهة، ووجود مرجعية واحدة ثابتة تمثل قطب الرحى لكل هذه المعايير، وهو التوحيد.
وتكمن أهمية هذا القطب في ثبات الغاية والهدف ووضوح علة العلل، حتى مع تعدد السبل للوصول إلى تلك الغاية وعلة العلل، إلا أن ثبات مرجعية المنظومة المعيارية والقيمية وكمالها وعصمتها وإحاطتها وعدم محدوديتها، هو ما يضمن وجود قواعد وقوانين صالحة لكل زمان ومكان مهما اختلفت المصاديق والأمثلة.
وهو ما يخلق لدى الإنسان الهدفية وحس المسؤولية الفردية والاجتماعية. ويضمن من جهة أخرى تشكل النماذج الصالحة البشرية بصورة عملية وحسية تؤكد قدرة الانسان على التطبيق والسير وفق هذا النموذج.
ولكن في المقابل أيضا وضح الله أن هناك من أقسم أن يقعد للبشر على صراطه المستقيم ليحرفهم عن النموذج الالهي ويقدم لهم نموذجا مقابل تماما للنموذج الالهي، وفي عكس اتجاهه، فالنموذج الالهي يركز على أبعاد الانسان المعنوية والمادية، ويبقي الانسان في حالة اتصال مستديم بالسماء، بينما نموذج إبليس يركز على البعد المادي للإنسان بالتالي يقطع اتصاله المعنوي بالسماء ويبقيه رهينة الأرض والمادة والحس والغرائز، فتتغير مرجعيته المعيارية ومنظومته القيمية من السماء إلى الأرض.
وهنا بعد أن كان الله محور لهذه المنظومة، بات الانسان محورها، هذا الانسان المحدود، وغير المحيط، والذي يفتقر غالبا للعدالة والانصاف. هذا التحول الجوهري يؤدي بالتتابع إلى تبدل المرجعية المعيارية للقيم والأخلاق، وبالتالي تصبح النماذج نسبية خاضعة لتشخيص عقل الإنسان المحدود، لذلك نجد معضلة عدم ثبات النماذج وخضوعها غالبا لأهواء ومعايير أصحاب القوة، والنفوذ السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. وكلما امتلك هؤلاء القوة والفاعلية، كلما استطاعوا تعميم نماذجهم، ولكن يحدث ذلك عندما تضيع بوصلة الإنسان وينجذب ماديا وحسيا للنماذج وفق أسس خاطئة ومفاهيم منحرفة عن دلالاتها الصحيحة، فغياب الله عن التشخيص يؤدي للعمى عن السبيل الصحيح.
فضلاً عن عدم وجود البديل الصالح كنموذج مقابل يحاكي إشكاليات العصر ويتحدث لغتها وهمومها، إما لتقصير في تشكيله، أو لخلل في تقديمه، أو لقصور في فهمه.
السيدة فاطمة(ع) والقراءة الشّائعة
وأعني بالقراءة الشّائعة أي القراءة التّقليدية غير الخاضعة للتمحيص القرآني والرّوائي، بل لا أبالغ إن اعتبرت القراءة الشّائعة هي قراءة شعبويّة من جهة، وقبلية من جهة أخرى.
فالشّعبوية هي ما ارتكز في ذهن عوام النّاس عن شخصيّة المرأة من خلال ما توارثوه غالبا عن الآباء من عادات وتقاليد، وبالتّالي باتت الشّخصيّة المرتكزة في الذّهن العام والتي يرغب أن يراها الجمهور ويسمع عنها، هي القراءة التّعطيليّة لشخصيّة السّيدة فاطمة ع، وهي قراءة تجعل من السّيدة فاطمة(ع) أسطورة خارج بشريّة بحيث يصبح اتّباعها أمْراً خارجاً عن قدرة الإنسان العادي، لأن هناك من يُصِرّ على إبقاء قراءة الشّخصية العظيمة لفاطمة(ع) رهن التاريخ والعادات والتقاليد، لا رهن الحقيقة والواقع، وهذه القراءة التّعطيلية تركّز في الأعم الأغلب على السّتر والحجب والانعزال، وهو ما لا يتناسب أبداً مع كثير من والروايات والمواقف التّاريخية التي ترسم صورة مغايرة لشخصية السّيدة فاطمة(ع)، ودورها الفاعل في المجتمع، والمتكامل مع سترها وعفافها بحيث لا تعارض في البين. والقَبَلِيّة أقصد بها القراءة التي تؤثر عليها ثقافة القبيلة في نظرتها لدور المرأة وشخصيتها وزاوية نظرها في هذا الموضوع، وتخضع كل النصوص لتأويلها ووجهة نظرها لأن ذلك يخدم خلفيتها البيئية.
وكنموذج تاريخي يصلح تقديمه في كل زمان وفق السمات العامة للنماذج، والتي تتجلى فيها فاطمة(ع) كنموذج بشري قابل للتطبيق، خاصة وفق عناوينه العامة الكلية، التي تتعلق في الحياء والعفاف، وأبعاد هذه القيم في شخصيتها وكيف تبلورت كنموذج مرجعيته السماوية طغت على كل المرجعيات التي عاصرتها ع. ومع اجتماع مقومات الاغراء الدنيوي من موقع اجتماعي ونسب عائلي، ومعاصرة نماذج أرضية جاذبة حسيا، إلا أن هذا البعد المادي الحسي تنحى جانبا أمام عظمة النموذج السماوي، وهيبة المعنى الذي تمكن في جوارحها وجوانحها. السيدة فاطمة(ع) لم تكن امرأة عادية، كانت ذات موقع اجتماعي مهيب، هي ابنة خاتم الأنبياء محمد ص وزوجة أول الأوصياء الإمام علي(ع) وأم الأئمة ص وموقع كهذا لا يمكن أن يتم إلا لشخصية وصلت مقاما معنويا وحسيّا في الدّنيا يؤهلها لتكون النموذج القابل للتطبيق والذي يحاكي إرادة السّماء على الأرض، وهنا يتجلى بأجلى الصور قيم عظيمة عاصمة للفرد والمجتمع، وهي قيمتي العفة والحياء، عفة فاطمة(ع) النفسية الجوانحية عن غير الله وحياءها جوارحياً أمام الله. وكلتا القيمتين كانتا تغذي إحداهما الاخرى، فكلما عفت النفس عن غير الله كلما تجلى ذلك حياء جوارحياً أمام الله، والعفة هنا لا تقتصر على الستر الظاهر، لأن أساس النموذج الالهي يغذي الظاهر والباطن والجوارح والجوانح، بالتالي اتباع هذا النموذج عليه أن يعطي أثره في البعدين الجوارحي والجوانحي.
وهو ما يعني أن ستر وعفة الجسد وسيلة لازمة وضرورية ومتلازمة مع عفة الروح والمعنى، فإن لم تتحقق عفة الروح والجوانح، فإن الستر الجوارحي سيحقق غاية خارجية وهي عفة المجتمع، لكن لن يحقق على مستوى الفرد المراد الحقيقي من هذا الستر وهو التكامل المعنوي والروحي. ولأن الإسلام اعتنى بالفرد كما اعتنى بالمجتمع، فكذلك اعتنى بتكامل الفرد في مستواه المادّي والمعنوي، فالستر كمال ظاهري يتكامل فيه كل من المجتمع والفرد، إلا أن الكمال الروحي يتكامل فيه الفرد خاصّة لأنه خاص بين الله والفرد نفسه.
فأن تعيش المرأة عفتها عن غير الله فهذا يعني ألا يتحقق الحياء إلا من الله، ولكن أيضا لا يعني أن تَعِفْ عن الله أي أن تُحوّل عِفّتها النفسية والجسدية إلى انعزال وعدم القيام بوظيفتها الاستخلافية ودورها اتجاه الحق والعدل، فيصبح بذلك عفاف تعطيلي لا حركي متفاعل.
وهذه العفة الإيجابية المتصلة بالله، لن يستطيع في هذا الحال أي نموذج آخر أن يجذب المرأة مهما كانت فاعلية جاذبيته الحسية، لن يستطيع تعويضها أو أن يحل محل نموذج الله تعالى.
لذلك كانت السيدة فاطمة(ع) النموذج العملي الذي يربط المرأة بحقيقة العفة والحياء، ولقوة هذا النموذج استطاع أن تكون له السيادة على النماذج الأخرى الأرضية الجاذبة ماديا في ذلك الزمان. ونحن في حضرة هذه المرأة العظيمة نحتاج أن نقدم هذا النموذج ليس بصورة منكسرة كما عادة يقدم نموذج المرأة في الاسلام حينما نتحدث عن قيمة الحياء والعفاف، بل إن قيمة العفاف والحياء فيهما من القوة والفاعلية ما تحمي صاحبها وتقوي شكيمته وروحه لمواجهة الباطل بثوب الحق.
فنموذج السيدة فاطمة(ع) هو نموذج نضالي في مواجهة الباطل، ومع ذلك كانت سمة هذا النموذج النضالي العفاف والحياء، والعفاف والحياء هنا تمت بلورتهم في البعدين المادي والمعنوي، والستر البدني هو صورة واحدة من الصور الكثيرة التي تشكل مشهد الحياء والعفاف، وعلينا أن نقدم المشهد كاملا وليس مقتطعا حتى لا يحدث الخلل. فلا القيم حينما تتمثل في سلوك إنسان دون تحقق الستر ستحقق الأثر الواقعي في النفس وإن حققت بعدا من الأبعاد الأخلاقية الاجتماعية، ولا الستر منفرداً دون تحقق القيم سلوكياً سيحقق الكمال على مستوى الفرد وإن حصن المجتمع، فالأصل النجاة بالنفس وتحقيق كمالاتها، لأن حفظ النفس وكمالها حتما سيحقق الكمال الاجتماعي، ولكن العكس ليس حتميا.
فالإصلاح الخارجي (القوم، المجتمع) متوقف على الاصلاح الداخلي(النفس). لذلك كانت قيم كالعفاف والحياء قيم فاعلة بشكل عميق في الاصلاح شريطة أن يتحقق ذلك على مستوى الجوانح والجوارح بشكل متكافئ، يرفد كل منهما الآخر في مسيرة تكامل النفس الإنسانية.
فالجهاد عادة له أبعاد أهمها:
1ـ البعد الداخل نفسي (الجهاد الأكبر)؛
2ـ البعد الخارج نفسي (جهاد أصغر).
البعد الداخل نفسي: هو جهاد الفرد الأكبر في تهذيب النفس والسلوك وفق إرادة الله تعالى، هذا التهذيب يتطلب علم ومعرفة وفهم وإدراك، فلا يمكن أن تنطبق قوى النفس مع إرادة خالقها إلا إذا أدركت ما يريده الخالق منها، وفهمت وتعلّمت وتبصّرت، ومن ثم حلّت المعرفة في قواها الداخلية لتنضبط بضوابط الخالق. وهنا تتحقق أو لمراتب الجهاد وهو التبيين للنفس.
البعد الخارج نفسي، وهو إدراك الإنسان للواقع الخارجي، وفهمه للأحداث، وللمجتمع، ولعصره ومتطلباته، وقدرته على تشخيص الواقع وتحديد الخلل، ومن ثم تشخيص العلاج المناسب، وهذا يتطلب متابعة علمية وسياسية واجتماعية وإلماماً مستديماً بالواقع الخارجي ومجرياته كافّةً. وحينها يستطيع الإنسان مع معيه وإدراكه أن يمارس دوره في جهاد التبيين المعرفي بكافة أشكاله في أسرته ومجتمعه وعبر كل الوسائل المتاحة ليكون سفيرا لله في خلقه.
ولو سلطنا الضوء أكثر على شخصية السّيدة فاطمة(ع) لدورها البارز والمحوري بعد وفاة النبي(ص)، فهي كنموذج لا يمكن أن يخضع في قراءته للشعبوية أو القبلية أو حتى المذهبية ولا للقراءات التعطيليّة كافة، بل هو نموذج يمكنه أن يتسيد مجتمعاتنا بطريقة عصرية للجيل تجمع بين الأصالة والخلود، وتقدم بديلا حضاريا يجيب على كل تساؤلات كثيرة إشكاليّة وملتبسة حول المرأة ودورها ووظيفتها وأفقها، ويمنحها أمنا فكريا وعاطفيا ونفسيا وسلوكيا بما يغنيها عن النماذج الفاسدة. خاصة أن دورها جاء في طول دور والدتها السيّدة خديجة(ع)، وجاء دور السيدة زينب(ع) في طول دور كل من السيّدة خديجة والسيدة فاطمة الزّهراء(عما).
فخديجة(ع) جاهدت بمالها من أجل تقوية الأوتاد الأساسية للإسلام المتمثلة بالتوحيد والنبوة في أرض الجزيرة العربية التي كانت وثنية بشكل عام، بينما السيدة فاطمة(ع) ناضلت من أجل تمكين إتمام الحجة وإكمال النعمة التي تمثلت بولاية الإمام علي ع، وتذكير القوم بعهودهم و مواثيقهم لله ولرسوله، بينما السيدة زينب(ع) كان دورها البطولي في تظهير حقيقة نهضة كربلاء التي أحد أهم أهدافها إعادة إحياء الدين وأركانه ومنظومة قيمه وحدوده إلى الواجهة مجددا، أي هي أكملت المسار النضالي في وجه من أراد حرف الدين وتمييع مقاصده وحقيقته، على خطى جدتها ووالدتها.
ففاطمة(ع) تربت في كنف الوحْي، ونهلت من معين الإسلام في كل أبعاده، وأدركت مبكّراً عظم المسؤولية الموكلة على أسرتها وعليها، فتعلمّت وعرفت، إلا أن المسؤوليّة العظيمة التي جلّت شخصية فاطمة(ع)، وأبانت معارفها وأحقيّتها العلمية والمعرفية وقوة بصيرتها، هي مواقفها الصريحة في وجه الانقلاب الذي وقع في سقيفة بني ساعدة، وفي وجه المحاولات البِكر الأولى في الانحراف عن المسار المرسوم لإكمال الدين وإتمام النّعمة، وفي محاولات تشويه وتزوير حقائق من الشريعة حضرت لها دلائل قوية قرآنية وهي مسألة الإرث. فكانت المهمّة عظيمة جداّ، فحجم التضليل الذي مورس بعد وفاة النبي ص كان كبيراً فكان على فاطمة(ع) أن تمارس دورها في التوضيح وجهاد التبين، لموقعها في المجتمع الإسلامي، وقربها من النبي(ص)، ومعرفة هذا المجتمع لموقعها من النبي(ص)، وحجم تأثيرها في وعي المسلمين وتتحمل في سبيل ذلك العناء الكثير، فاطمة(ع) التي لم تعتد الوقوف على المنبر وتوجيه خطاب لكل المسلمين، ولم تعتد ـ لأنها لم تحتاج ـ أن تقف وتخطب في الملأ، إلا أنها عندما وجدت أن مسار الإسلام وتضحيات والدها خاتم الأنبياء باتت على المحك، وهو لم يبرد جسده في قبره، يتوقف بجله على دورها في التبيين وكشف الحقيقة، وتوضيح الزّيف الذي مارسته السّلطة، كانت في المقدمة، ولم تتوان، ولم تؤثر خِدْرَها الذي اعتادت عليه على خِدْر الإسلام وشريعة النبي ص والدها، وهو ما يعكس وعيا وبصيرة قادرة على تمييز الأولويّات، حينما تتزاحم بين المهم والأهم، وحينما تتزاحم الضّروريّات، لترجّح بينها، وهذا التّرجيح في الشريعة يحتاج فهما عميقا لها، وفقها في أحكامها، لذلك فإن جهاد التبيين لا يمكن أن يقوم به إلا من فهم الشريعة واستطاع أن يشخص الواقع الخارجي فيطبّق الموضوع على مصداقه الخارجي بشكل سليم.
تجليّات المسار الجهادي للسيدة فاطمة الزهراء(ع)
المرحلة الأولى
مرحلة تظهير الحقيقة وتثبيتها، من خلال ممارسة معارضة سياسية بطرق تتناسب وظروف ذلك الزّمان وكان ذلك عبر:
1ـ الذهاب مع أمير المؤمنين علي(ع) إلى بيوت الرموز الإسلامية، والتذكير بالعهد؛
2ـ اختيار المسجد النّبوي في الاتصال بالناس، وهو المسجد الذي تختمر فيه نضالاتهم وحكاياتهم وذكرياتهم مه النبي(ص)، وما يعنيه ذلك من إثارة وشحن عاطفي كبير لتهيئة النفوس لقبول الحقيقة؛
3ـ طريقة دخول إلى المسجد وتعمّدها السيّر بين الجموع بنفس طريقة مشية والدها النبي(ص)، فحينما تعالت الأصوات بالبكاء لأن مشيتها ذكرتهم بمشية نبي الله(ص)، فهو يطرح سؤال: ألم تكن السيدة الزهراء(ع) تسير مع النبي ص في معاركه فكان المسلمون يرونها ويرون طريقة مشيتها؟ والجواب بالتّأكيد بنعم، فالمسلمون شاهدوا السيدة فاطمة(ع) مرارا وتكرارا، وهو ما يدلل على أن السيدة الفاطمة قد تكون تعمّدت إظهار مشيتها ومطابقتها مع مشية والدها لتثير في الجموع الشجون وتستثير عواطفهم وذكرياتهم وعهودهم التي ما لبثت أن انقلبت كلها والرسول ص لم يدفن بعدك
4ـ اعتلائها لمنبر والدها(ص)، وهو حدث لم يكن قد وقع قبل ذلك، وبدئها بخطاب وجه للمسلمين حيث كانت المرأة الأولى التي تعتلي منبر النبي ص في مسجده وتخطب بجموع المسلمين، وهو ما له دلالة عميقة لو تمت قراءته في ذلك الزمان وملابساته، وهو ما يعطي للأمر في نفوس المسلمين أهمية عظمى، ويدلل على أهمية ما يُراد قوله وتبيينه، وأهمية الأحداث والتداعيات السياسية والدينية التي سيتم تداولها وتصحيح مساراتها؛
5ـ منهجها الذي اتبعته في مخاطبة القوم، حيث افتتحت بأنّةٍ أجهش القوم على أثرها بالبكاء، ثم انتظرت هدوء فورتهم، فافتتحت الكلام بالثناء على الله تعالى والصلاة على النبي ص أبيها حيث عاد القوم للبكاء، فأمهلتهم إلى أن أمسكوا وأكملت، فاستخدمت بذلك أهم عوامل الخطاب التواصلي مع القوم، حسيّاً ومعنوياً وكذلك أهم من كل ذلك تركيبة الخطاب اللغوية ودلالاتها السياسية والمعنوية والثقافية والعقْديّة، حيث أهم ما شمل عليها خطابها(ع):
- الثناء والحمد لله تعالى وتوارد نعمه وأهمية شكر المنعم؛
ـ كلمة التوحيد” لا إله إلا الله”، آثارها الحقيقية وما يجب أن يترتب عليها من آثار معنوية وسلوكية وعقديّة؛
ـ التذكير بنبوة النبي محمد(ص)، وأسباب بعثته كنبي(ص)، وما كان الأثر الكبير المترتب على نبوة النبي محمد ص كخاتم للأنبياء من إظهار الحقيقة كاملة، والتبيين الكبير لشريعة الله، وإزالة كل الأغلال والشبهات وغيرها،
ـ توجيه الخطاب للجموع من المسلمين، وتظهير حقيقة مسؤوليتهم اتجاه الله ونبيه، وأهمية القرآن كمرجعية معرفية معصومة من الزلل والتحريف؛
ـ ثم سردت وظيفة الإيمان والعبادات، وكثير من الأخلاق السلوكية وآثارها على النفس الإنسانية وعلى السلوك الفردي والنظم الاجتماعي؛
ـ ثم ذكرّت بنسبها وموقعها القريب من النبي(ص)، ونفت عن نفسها الشطط والغلط، وركزت على صلة النبي ص بعائلتها، فيها وبزوجها أمير المؤمنين ع، وذكرّت بما فعله النبي ص من بداية دعوته حتى رحيله، وكيف رسخ مبدأ التوحيد، وأبان الشريعة الإسلامية وقوانينها بل طبّقها ما أوتي من سعة وقت ومكان، بل ذكّرتهم بحالهم قبل مجيد والدها من فساد وفتنة واحتراب وشرذمة، وحالهم بعد مجيء النبي ص؛
ـ ثم بدأت بتجلية الانحراف متكئة على مرجعية القرآن الكريم ومجليّة لمظاهر الانحراف في وجه السلطة السياسية دون خوف من قول الحقيقة، ولا وجل من تبيين الشريعة، وتجلية انحراف القوم بالدليل والبرهان القرآني والعقلي.
إن مسار السيدة فاطمة الزهراء(ع) في تبيين الحقيقة وتجليتها ومعارضتها للسلطة السياسية كان مسارا تصاعديّا اتكأ على تذكير المسلمين بما ورد بالقرآن الكريم الذي هو بين ظهرانيهم، ومرجعيتهم المعرفية المعصومة، ومجمع عليها المسلمين، وهي بذلك أسست لمنهج المحاججة ومرجعية تلك المحاججة الأولي المعصومة من الزلل والتأويل والتدليس. هذا فضلا عن أن نموذج السيدة الزهراء(ع) في المواجهة ضد الانحراف، يوضح أن من يجب أن يتصدى لقول الحقيقة ومواجهة الانحراف عليه أن يكون ممتلئا معرفيا ومدركا لشريعة الله ودينه وأبعادها، بل مدركا لحقيقة التوحيد، وليس المطلوب طبعا أن يكون بنفس مرتبة الزهراء ع، وهو لا يتحقق إلا لمن وفقه الله، بل لا أقلا الإحاطة بالأولويات والكليات، وفهم المجتمع وواقعه ونقاط ضعفه وقوته، وفهم التاريخ وتجلياته، وامتلاك القدرة في محاججة الآخر بالدليل والبرهان وبالكلمة الطيبة العامرة بقوة الحق والمنطق، دون مداراة على حساب الحقيقة.
إلا أنه وللأسف تم تغييب دور الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ع، من خلال قراءة شخصيّتها التعطيلية التي تصدّت لها أغلب المنابر في طرح شخصية منكسرة للسيد الزهراء، وليس شخصية نضالية ثائرة على الباطل، ومنتفضة للحق، شخصية تم رسم معالمها على أحاديث ضعيفة، وقراءة فقهية غالبا تأثرت بالبيئة والقبليات والرؤية التقليدية للمرأة هذا فضلا عن العرف الذي شكّل جدلية بين الفقهاء. وهو ما ترك المجال مفتوحا لنماذج سلبية نسائية خاصة بعد تمدّد الحركة النسويّة الراديكاليّة، بالتمركز في وجدان النساء خاصة المقهورات والمستلبات منهن، والتي كانت ردود أفعالهن إما راديكاليّة ضد الدّين، أو صامتة لعدم امتلاكهن القدرة المعرفية في صد هذه الحركات ومواجهتها بحجة و قوة المنطق، مع غياب النموذج الصالح سواء التاريخي أو النموذج العصري، بسبب إما ضعف المخرجات النسائية في التعليم وخاصة في مجالي الفكر والعلوم الإنسانية وفي المجالات السياسيّة، أو بسبب ظاهرة التّنَحّي بحجج فقهية تحتاج إعادة نظر سلبت الساحات العربية والإسلامية من طاقات تم تعطيلها بتقديم قراءة تعطيلية من داخل الجسد الديني للمرأة ووظيفتها، ودورها، وحدود هذا الدّور. ولكن كيف يمكن من خلال هذه القراءة السريعة معالجة حال ما عليه المرأة اليوم خاصة في وطننا العربي والإسلامي؟
العُرْف والاجتهاد وأثرهما على فهم النصّ
مقدّمة
إن المستقصي لحقيقة وضع المرأة في الدول العربية والإسلامية يجد إن القضية برمتها تعود بأصولها إلى فهم الدين وليس إلى الدين، إضافة إلى مدى تأثر الفقيه أو المجتهد بالعرف والعادات والتقاليد أي بالبيئة المحيطة به في فهمه لأحكام الدين وخاصة الأحكام الخاصة بالمرأة وخاصة تلك المتعلقة بالعمل السياسي، ولذلك نجد تباين في آراء الفقهاء حول موضوعة المرأة إضافة إلى تباين المدارس الفقهية والفكرية في الحوزات العلمية، وبالطبع هناك أسباب أخرى تعود إلى علم أصول الفقه وهو بحث بعيد عن ما نريد تسليط الضوء عليه وهو فهم الدين ودور البيئة في هذا الفهم. بل لكي نحدد أكثر علينا أن نسلط الضوء على أثر العرف في فهم النصوص الخاصة بالمرأة وخاصة الأحكام الخاصة بعملها السياسي.
يعتبر العرف من أوائل القوانين التي عرفتها البشرية حيث كان “بمنزلة القانون المكتوب لدى الأمم والشعوب المختلفة”([11])
ومع مرور الزمن اتخذت الأعراف قوة ملزمة في التعامل الاجتماعي لدرجة اصطباغها بصبغة القانون مع تقادم الأيام. إلا أن بعض هذه الأعراف تشتمل على بعض التجاوزات على ما جاءت به الشريعة الإسلامية ونتيجة اندماج هذه الأعراف في عقلية الشعوب حتى باتت جزء لا يتجزأ من طريقة التفكير وثقافة المجتمعات المتوارثة حتى ظن الكثيرين أنها من شرع الله تعالى فاختلطت ثقافة الأعراف بالثقافة الدينية النقية مما يتطلب جهود صادقة وحثيثة في بدء عملية فصل لكل الشوائب التي تعدت على الشريعة وخلطت الحق بالباطل.
وقد سلك الشارع المقدس مسلكا اتسم بالتدرج والعمق في المعالجة وقد حددت الشريعة الإسلامية الإطار العام الذي لا ينبغي للأعراف أن تتجاوزه مهما بلغت درجة تأصلها في النفس.
تعريف العرف
عرف العرف على أنه ما استقر الناس عليه من قول أو فعل مطلقا. ويعرف عبد الوهاب خلاف (العرف): فيقول “هو ما تعارف عليه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك”. وهو قريب من تعريف الدكتور عبد العزيز الخياط، حيث يقول: “العرف ما اعتاده الناس، وساروا عليه في شؤون حياتهم”.
أما المراد بالنصوص في هذه الدراسة هو آحاد نصوص الكتاب والسنة.
أركان العرف
أولاً: الركن المادي للعرف (ركن الاعتياد) ـ الشروط
1ـ أن تكون العادة عامة: والمقصود أن يكون الخطاب في العادة المعنية موجها ً إلى مجموعة من الأشخاص غير معينين بذواتهم بل بصفاتهم
2ـ أن تكون العادة قديمة (شرط المدة): بمعنى تواتر الجماعة على تطبيق هذه القاعدة دون اعتراض على مدى فترة زمنية تكفى لتحقيق معنى الاطراد، ويوفر المدة المعقولة.
3ـ أن تكون العادة ثابتة (مستمرة / مكررة): أي أنه يشترط اطراد التطبيق، بحيث يتم استخدام هذه العادة باستمرار كلما قامت شروط تطبيقها (أي الثبات في تطبيق القاعدة بما يستبعد معه الانقطاع)
والمقصود بالتكرار هو تكرر وتتطابق وقائع معينة وبذات الشروط، فقيام واقعة واحدة فلا يكفي لتحقيق شرط التكرار.
4ـ ألا تخالف العادة النظام العام: المقصود هو ألا تخالف العادة قاعدة قانونية آمرة، أو مجموعة الأفكار والمبادئ والمصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان الجماعة.
ثانياً: الركن المعنوي للعرف (ركن الاعتقاد)
هو شعور الناس بأن هذه العادة (الركن مادي للعرف) أصبحت ملزمة لهم (أي أن مخالفتها تستوجب الجزاء).
بذلك، فان الاعتقاد بإلزامية العرف هو ما يميزه عن العادة الاتفاقية (التزاور / العزاء / تقديم الهدايا بالمناسبات الاجتماعية)([12]).
تقسيمات العرف وأنواعه
ينقسم العرف من جهة سببه أو موضوعه إلى: عرف قولي وعملي، وكل منهما ينقسم إلى عام وخاص، كما ينقسم من حيث الصحة إلى صحيح وفاسد.
تقسيمه إلى عرف عملي وقولي
1ـ العرف العملي: الذي يصدرون عنه في قسم من أعمالهم الخاصة، كشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات أي هو ما جرى عليه الناس وتعارفوه في معاملاتهم كتعارف الناس على البيع بالتعاطي، دون صيغة لفظية محددة.
2ـ العرف القولي: (الحقيقة العرفية): يعطي الألفاظ عندهم معاني خاصة تختلف عن مداليلها اللغوية، وعن مداليلها عند الآخرين من أهل الأعراف، كإطلاق العراقيين لفظة الولد على خصوص الذكر بينما يطلق في اللغة على الأعم من الذكر والأنثى. أي كاستعمال بعض الألفاظ والتراكيب في معان غير معانيها التي وضعت لها في أصل اللغة، بحيث يصبح ذلك المعنى العرفي متبادرا إلى الذهن دون الحاجة إلى قرينة أو تفسير عقلي، نظرا لتعارف الناس عليه واعتيادهم عليه([13]).
التقسيم الثاني باعتبار الشيوع
1ـ العرف العام: ويراد به العرف الذي يشترك فيه غالبية الناس على اختلاف في أزمانهم وبيئاتهم وثقافاتهم ومستوياتهم، فهو أقرب إلى ما أسموه ببناء العقلاء. وينتظم في هذا القسم كثير من الظواهر الاجتماعية العامة وغيرها، أمثال رجوع الجاهل إلى العالم، وعدم نقض اليقين بالشك، وعادة التدخين والتعارف على تسمية الأسماء.
2ـ العرف الخاص: وهو العرف الذي يصدر عنه فئة من الناس تجمعهم وحدة من زمان معين أو مكان كذلك أو مهنة خاصة أو فن، كالأعراف التي تسود في بلد أو قطر خاص، أو تسود بين أرباب مهنة خاصة أو علم أو فن; ويدخل في هذا القسم كثير من عوالم استعمال الألفاظ وإعطائها طابعاً خاصاً له تميزه عند أهل ذلك العرف، وقسم من المعاملات التي يتميزون بها عن غيرهم من أهل الأعراف الأخر، كما ينتظم في هذا أنواع السلوك التي تتصل بآداب اللياقة وأصول المعاشرة.
(ويقول ابن عابدين: والخاص في بلدة واحدة، يثبت حكمه على تلك البلدة فقط..)
التقسيم الثالث له من حيث اعتبار الشارع له
1ـ العرف الصحيح: وهو ما تعارفه الناس وليست فيه مخالفة لنص ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة، كتعارفهم إطلاق لفظ على معنى عرفي له غير معناه اللغوي، وتعارفهم وقف بعض المنقولات، وتعارفهم تقديم بعض المهر وتأجيل بعضه، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من ثياب وحلوى ونحوها يعتبر هدية وليس من المهر([14]). “فهو الذي أقره الشارع بأن يأتي الحكم على وفقه ومقتضاه([15]) ومثاله فرض الدية على العاقلة والتي كانت موجودة قبل الإسلام فلما جاء لم يلغها.
2ـ العرف الفاسد أو الملغي(غير المعتبر): وهو الذي يتعارف بين قسم من الناس، وفيه مخالفة للشرع كتعارفهم بعض العقود الربوية، أو ارتياد الملاهي، وشرب المسكرات وغيرها مما علم من الشارع المقدس الردع منه وكالعادات التي كانت منتشرة في الجاهلية وأتى الإسلام على خلافها.
مجالات العرف
ومجالات العرف ثلاثة:
1ـ ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه، مثل الاستصناع وعقد الفضولي.
وإنما يكشف منه مثل هذا الحكم بعد إثبات كونه من الأعراف العامة التي تتخطى طابع الزمان والمكان لنستطيع أن نبلغ بها عصر المعصومين ونضمن إقرارهم لها لتصبح سنة بالإقرار… ويدخل ضمن هذا المجال كل ما قامت عليه سيرة المتشرعة أو بناء العقلاء، أو قل كلما كان من الأعراف العامة التي تتسع بمدلولها لمختلف الأزمنة والأمكنة بما فيها عصر المعصومين.
2ـ ما يرجع إليه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها إلى العرف مثل لفظ الإناء والصعيد، ونظائرها مما أخذ موضوعاً في ألسنة بعض الأدلة والظاهر إن بعض الأحكام إنما وردت على موضوعات عرفية فتشخيص مثل هذه الموضوعات مما يرجع به إلى العرف. وفي هذا القسم نرى تفاوت الأحكام بتفاوت موضوعاتها الناشئ من اختلاف الأعراف باختلاف الأزمنة والبيئات، فمصاريف الزكاة التي ذكرتها الآية المباركة أكثر مواضيعها عرفية.
فالفقير ـ وهو من لا يملك قوت سنة قوّة أو فعلاً ـ تتفاوت مصاديقه بتفاوت الأعراف في تحديد القوت، وفي سبيل الله يتفاوت بتفاوت درجة حضارة الأمة ومستواها، فالأمة التي تحتاج إلى صنع مركبة فضائية ـ مثلاً ـ لضروراتها الحضارية التي لا تتنافى مع الشريعة، أو التي تستخدم لخدمة الدين وتركيز مبادئه كالتي تستعمل في البث التلفزي إذا استخدمت برامجه في خدمة الإنسان ورفع مستواه الخلقي والاجتماعي إلى ما تريده له الشريعة في تعاليمها الخالدة، أقول: هذه الأمة ـ فيما أتخيل ـ لا تخرج في صنعها لها على موضوع (سبيل الله) المأخوذ في مصاريف الأموال الزكوية، والمقياس فيه هو سد حاجة عامة مشروعة، فما انتظم في هذا العنوان كان سبيلاً لله وهكذا…
3ـ المجال الذي يرجع إليه لاستكشاف مرادات المتكلمين عندما يطلقون الألفاظ سواء كان المتكلم هو الشارع أم غيره، وينتظم في هذا القسم بالنسبة إلى استكشاف مرادات الشارع ما يرجع إلى الدلالات الالتزامية بالنسبة لكلامه إذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية، كحكم الشارع مثلاً بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خل الملازم عرفاً للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه، كما ينتظم فيها كلما يصلح أن يكون قرينة على تحديد المراد من كلامه، وهكذا.
أما بالنسبة إلى استكشاف مرادات غيره فيدخل ضمن هذا القسم منه كلما يرجع إلى أبواب الإقرارات والوصايا والشروط والوقوف وغيرها، إذا استعملت بألفاظ لها دلالاتها العرفية، سواء كان العرف عاماً أم خاصاً([16]).
هل العرف أصل؟
فهل يعتبر أصلا من الأصول التي يمكن الاعتماد عليها في استنباط الاحكام الشرعية. ومن هذه المجالات يستكشف أن العرف ليس أصلاً بذاته في مقابل الأصول.
أما ما يتصل بالمجال الأول فواضح لرجوعه إلى السنة بالإقرار، لان المدار في حجيته هو إقرار الشارع له، لبداهة أن العرف لا يكسبنا قطعاً بجعل الحكم على وفقه، فلا بد من رجوعه إلى حجة قطعية، وليست هي إلا إقرار الشارع أو إمضاءه له، والإمضاء إنما قام على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف. فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلاً، وهما حكمان عرفيان، ولم يمض جميع ما لدى العرف من أحكام، بل لم يمض أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلاً في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة.
أما المجالان الآخران، فلا يزيد أمرهما على تشخيص صغريات السنة حكماً أو موضوعاً، وقد مضى القول منا أن كل ما يتصل بتشخيص الصغرى لمسألة أصولية، فهو ليس من الأصول بشيء، فعد العرف أصلاً في مقابل الأصول لا أعرف له وجهاً.
حجِّيته وأدلتها
وما ذكر من أدلة حجيته لا يصلح لإثبات ذلك، والأدلة التي ساقوها على الحجية هي:
1ـ رواية عبد الله بن مسعود السابقة: “ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن”(192) وفيه: “فما رأى المسلمون… وقد استدل السرخسي بها في (المبسوط) على ذلك، يقول: “وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير، لقوله(ص): (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، كما استدل ابن الهمام بها على ذلك”([17]).
ويرد على هذا الاستدلال: ما سبق إن أوردناه على الرواية من كونها مقطوعة، واحتمال أن تكون كلاماً لابن مسعود لا رواية عن النبي(ص)، وهي لا تصلح للحجية، بالإضافة إلى أن العرف لا علاقة له بعوالم الحسن لعدم ابتناه عليها غالباً، وما أكثر الأعراف غير المعللة لدى الناس، والمعلل منها ـ أي الذي يدرك العقل وجه حسنه ـ نادر جداً، فالاستدلال ـ لو تم ـ فهو أضيق من المدعى، وحتى في هذه الحدود الضيقة، لا يجعله أصلاً مستقلاً وإنما يكون من صغريات حكم العقل لما مرّ من أن هذا الحديث لا يزيد على كونه تأكيداً لحكم العقل، أو أنه من أدلة الإجماع، فتكون المسألة على تقديرها من صغريات حجية الإجماع.
2ـ قولهم: “إن الشارع الإسلامي في تشريعه راعى عرف العرب في بعض أحكامه فوضع الدية على العاقلة واشترط الكفاءة في الزواج… إلخ”([18]).
والجواب عنه: إن الشارع لم يراع العرف بما أنه عرف، وإنما وافقت أحكامه بعض ما عند العرف فأبرزها بطريق الإقرار، ولذلك اعتبرنا إقراره سنة، وفرق بين أن يقر حكماً لدى أهل العرف لموافقته لأحكامه وبين أن يعتبر نفس العرف أصلاً يرجع إليه في الكشف عن الأحكام الواقعية، فما أقره من الأحكام العرفية يكون من السنة وليس أصلاً برأسه في مقابلها.
3ـ قولهم: “إن ما يتعارفه الناس من قول أو فعل يصير من نظام حياتهم ومن حاجاتهم، فإذا قالوا أو كتبوا فإنما يعنون المعنى المتعارف لهم، وإذا عملوا فإنما يعملون على وفق ما تعارفوه واعتادوه، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقضي به عرفهم; ولذا قال الفقهاء: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. وقالوا: إن الشرط في العقد يكون صحيحاً إذا اقتضاه العقد وورد به الشرع أو جرى به العرف”([19]).
وهذا الدليل لا أعرف له محصلاً، فكون ما يتعارفه الناس يصبح من نظام حياتهم لا يصلح دليلاً لاستكشاف الحكم الشرعي منه، وليس عندنا من الأدلة ما يسمى بنظام الحياة، والذي نعرفه من أنظمة الحياة التي تعارف عليها الناس أن بعضها ممضىً في الإسلام فهو حجة، وبعضها غير ممضىً فهو ليس بحجة ولا يسوغ الركون إليه، وكم من العادات والأعراف التي كانت سائدة في الجاهلية قد استأصلت في الإسلام وبعضها مجهول الحال لعدم الدليل عليه نفياً أو إثباتاً، ومثل هذا محكوم بالإباحة الظاهرية.
هذا إذا أريد من العرف العرف في مجاله الأول، أي العرف الذي يراد معرفة حكم الشارع منه، أما إذا أريد منه العرف في مجاليه الآخرين ـ أعني ما أوكل الشارع تحديد موضوعاته إليه، أو ما استكشف منه مرادات المتكلمين ـ فهو وان كان حجة ـ بمعنى انه المرجع لتحديد المراد أو تشخيص الموضوع ـ إلا أنه لا يشكل كبرى كلية تقع في طريق الاستنباط ليكون أصلاً في مقابل الأصول، وإنما وظيفته تنقيح الصغريات لموضوع الحكم الكلي، أو الصغريات لقياس الاستنباط، وحال الثالث منه في بعض صوره حال مباحث الألفاظ في تنقيح الظهور للسنة أو الكتاب.
ولعل مراد العلامة الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي من قوله: “والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق”([20])، هو هذا القسم ـ أعني خصوص الذي يستكشف منه مرادات الشارع فيما يصلح أن يكون قرينة عليها.
وبهذا ندرك أنه لا موضع للإطلاق في أمثال هذه الكلمات التي اشتهرت على ألسنة كثير من الفقهاء والحقوقيين: “العرف في الشرع له اعتبار” “العرف شريعة محكمة”. “التعيين بالعرف كالتعيين بالنص”. “الثابت بالعرف كالثابت بالنص”. “العادة محكمة”، وأمثالها من التعميمات التي لا تستند بعمومها على أساس. (197)
ومما سبق نجد أن العرف ليس أصلا بذاته مقابل الأصول العملية الأخرى المستخدمة في استنباط الأحكام الشرعية ولا يعد حجة إلا بإقرار الشارع له، ومع ذلك نجد أن صورة المرأة تسربت في الأعراف والموروث إلى الفقه وقد قال في ذلك الشيخ محمد مهدي شمس الدين: “فقد جرى كثير من الفقهاء في فقه المرأة على العمل بما روي من النصوص، من دون احتراز عن الأحاديث الضعيفة، ومن دون محاكمة لمتون الأحاديث المعتبرة. وقد اعتبروا العرف مرجعا في فهم كثير من النصوص، وهو عرف لم يثبت أنه بجميع تفاصيله كان سائدا في عهد النبي(ص) والأئمة المعصومين عليهم السلام، ليصلح مرجعا في فهم النصوص. من المعلوم، إجمالا في بعض الحالات، وتفصيلا في بعض الحالات، أن بعض عناصر هذا العرف تكون من العادات والأعراف الدخيلة المستحدثة، التي لم يضعها الشرع، وإنما أنتجها الإرث الثقافي الذي تأثرت به المجتمعات الإسلامية نتيجة لتفاعلها مع أهل الأديان والثقافات الأخرى، وهذا النوع من الأعراف لا يصلح مرجعا لفهم النص الشرعي”. هذا إضافة إلى أن بعض الأعراف نتيجة تكرارها المستمر إلى عهدنا اليوم وخاصة تلك المتعلقة بموضوعة المرأة ونتيجة تراكمها عبر الزمن في الإرث الثقافي والفكري للأجيال المتعاقبة شكلت مقدسا لا يمكن الانفكاك عنه فكريا وثقافيا حتى بات عرفا ملزما على نحو الإلزام الشرعي أي أخذ صبغة الإلزام الشرعي وبات يشكل بعداً شرعياً عند الكثير من الفقهاء ولدى شريحة كبيرة من المشرعة. ومثال ذلك موضوع بحثنا حول الحقوق السياسية للمرأة ودورها في الحياة السياسية. فأحكام الفقهاء المتعلقة بهذا الموضوع تأثرت إلى حد كبير بالبيئة المحيطة بالفقيه والأعراف السائدة في زمانه خاصة أن هذا الموضوع لم تشخصه الشريعة بشكل واضح نتيجة انشغال الرسول(ص) بتأهيل المجتمع على كافة المستويات مع أن حركته بالنسبة للمرأة كانت واضحة في نقلها بالتدريج من مجتمع الجاهلية إلى مجتمع الإسلام والارتقاء بها إلى مكانة أعلى ولكن كان ارتقاء تدريجياً يتناسب مع قابليات المجتمع وسعة أفقه رغم أن الإسلام كان حازماً في أمور كثيرة تخص المرأة كانت تمارس ضدها في الجاهلية ولكن فيما يخص عمل المرأة السياسي فالبيئة المحيطة برسول الله(ص) والظروف التي واجهها لم توفر الأرضية لعمل المرأة السياسي بشكل واضح يفهمه كل الناس ولكن كان تحرك المرأة في هذا الاتجاه غير واضح المعالم للكثيرين نتيجة تأثرهم الكبير بشخصية الرسول وانصياعهم وراءه دون وعيهم لمقاصد حركته. وإن كان العرف مما يهتدى به لتحديد بعض الألفاظ أو مراد المتكلمين في حال إطلاق الألفاظ فإن ما وقع به الكثير من الفقهاء هو وقوفهم فقط على المكان الذي وصل به رسول الله بالمرأة وعصره فقط واعتبروا أن هذا أقصى ما أراده الرسول للمرأة في عصره ولم يتخطوا في فهمهم أكثر من هذا الحد في كثير من أحكام المرأة ولم تدرس مقاصد حركة الرسول بالنسبة للمرأة وانتقال المرأة على يده من عصر الجاهلية إلى عصر الإسلام الذي يعتبر العصر الذهبي للمرأة واقتصروا بفهم الحركة على ما وصل إليه الرسول في عصره فقط بالنسبة للمرأة واعتمدوا في تفسير بعض الألفاظ المطلقة في بعض النصوص الخاصة بالمرأة على عرف ذلك الزمان ولم يأخذوا بحسبانهم حركية الزمان والمكان والتي تؤثر في إبراز ظروف جديدة يكون لها مدخليه في استنباط الفقيه.
وضع المرأة ما بعد رسول الله
لقد تراجعت مسيرة المرأة وحركتها تراجعا كبيرا بعد عصر الرسول وانكمش دورها حيث انعزلت عن المشاركة الميدانية في مختلف المناحي الاجتماعية، وأصبحت السمة الغالبة على وظيفة المرأة هو دورها الأسري فقط بحيث لا يتعدى ذلك خروجها خارج المنزل وتوالت الأزمنة على حالها هذا بحيث أصبحت وظيفتها من الناحية العرفية مقتصرة فقط على الرعاية الأسرية. وفي هكذا بيئة ثقافية وعرف اجتماعي توالت تأويلات البعض من الفقهاء حول موضوعة المرأة حيث نجد أن الكثير من الأحكام الخاصة بالمرأة متأثرة إلى حد كبير بأعراف زمن الفقيه، حتى أضحت السمة الغالبة على الأحكام هي السمة الغالبة لذلك المجتمع في فهمه لموضوعة المرأة. والمشكلة تكمن أن تلك الأحكام تم تعميمها إلى الأزمنة اللاحقة رغم تغير الظروف وتبدل الأعراف حيث أن الأعراف بطبيعتها متبدلة ومتغيرة بشكل عام، فطبقت تلك الأحكام على أزمنة لاحقة لها دون مراعاة التغير الذي وقع وعدم تناسب تلك الأحكام لزمان آخر ومكان مختلف بأعرافه وحيثياته. وقد انعكس ذلك على ثقة المسلم بقدرة الإسلام على مواكبة الكثير من التغيرات والإجابة على الكثير من التساؤلات المطروحة على بساط البحث.
فوضع المرأة بعد الرسول(ص) تعرض إلى نكسة خطيرة أدى إلى تغييب دورها الفعال في المجتمع والاقتصار على دورها داخل الأسرة مع ما لهذا الدور من أثر عظيم على بناء النواة الاجتماعية إلا أن حصر دورها بهذا الدور فقط أدى إلى غياب النظرة الأخرى في المجتمع وتأصيل الفكر الذكوري وتغييب نصف المجتمع عن النهوض به على كافة المستويات والأصعدة وما ساعد على ذلك هو موقف الفقهاء في كثير من القضايا الخاصة بالمرأة وخاصة تلك المتعلقة بعملها السياسي، حيث اعتبر الفقهاء نتيجة تأثرهم بالأعراف والبيئات المحيطة لهم خروجها للعمل في هذه الميادين سببا في مفسدة المجتمع بسبب اختلاطها بالرجال واضطرارها في هكذا مجالات للاحتكاك بهم.
“وتأثر الفقيه بموروثه الاجتماعي وأعراف بيئته أمر ملازم لعملية تأويل النصوص، فالفقه لا يكون فقها إلا إذا أدرك المجتهد طبيعة الواقع وملابساته، وراعى أعرافه وعاداته. بيد أن ذلك كله لا ينبغي أن ينازل النصوص وإطلاقيتها، المفارقة لكل الأعراف وتقلباتها، الحاكمة عليها والمهيمنة على تصويبها. على هذا ينبغي التمييز والتفرقة بين الاجتهاد البشري النسبي المحكوم بظرفيته وبيئته من جهة، وبين النص الثابت المفارق لكل ظرفية وبيئة”([21]).
وتشير رقية العلواني إلى أن التأويلات والأفهام البشرية لأي نص هي حصيلة ثلاثة عناصر متضايفة:
1ـ النص ذاته؛
2ـ الموروث الثقافي لقارئ النص؛
3ـ المجتمع بظروفه المتقلبة المتغيرة.
وما تعانيه المسائل الاجتهادية خاصة تلك التي تتعلق بالمرأة على وجه الخصوص هو نتيجة وجود اتجاهين تحكما في مختلف الآراء والفتاوى:
الاتجاه الأول: هو اتجاه ينظر بقدسية غير قابلة للنقد إلى فتاوى واجتهادات العلماء السابقين ويريد لهذه الفتاوى أن تكون قابلة للتطبيق رغم اختلاف الظروف والأعراف واختلاف الزمان والمكان إلا أنه ينظر بقدسية إلى فتاوى ذلك الفقيه خاصة إذا كان الفقيه مبدعا ومؤثرا في حركة الاجتهاد، مما يجعل عند أصحاب هذه النظرة فتاواه غير قابلة لإعادة النظر. مما أضفى على الرؤية الإسلامية نوع من التحجر أضحت معه النظرية الإسلامية نتيجة هذا الاتجاه عاجزة عن مواكبة التطورات الحاصلة في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه اتسم بالرفض المطلق لكل ما هو قديم دون الأخذ بعين الاعتبار الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان وهي نصوص واضحة الظهور في المعنى وثابتة لا تتأثر بالتغيرات الزمانية والمكانية وليس للأعراف مدخلية في توضيحها، وهو ما قد يكون له نتائج سلبية عظيمة على إفراغ الإسلام من محتواه الثابت غير المتغير مما ينعكس سلبا على حركة الإسلام الفكرية المتطورة..
“والفيصل في هذه القضية أو غيرها، ينبغي أن يكون النص المطلق المفارق للزمان والمكان والأعراف، وعلى المجتهدين توجيه الاهتمام نحو الربط بين النص والواقع المتغير، فالفقه يرتكز على دعامتين: فقه النص وفقه الواقع بكل محاوره المتعددة التي تفرز السؤال الفقهي. والنصوص القرآنية التي تشكل المرجعية المعصومة للمسلم، وإن كانت لا تفرق في الخطاب بين الرجل والمرأة في الاستخلاف، والقيمة الإنسانية، والجزاء والمسؤولية، ووحدة الأصل والمآل، والحساب والمساواة، إلا أن تلك المساواة ذات مفهوم أصيل نابع من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، موظفا لتحقيق مقاصدهما”([22]).
2ـ الاجتهاد والنصّ
رسمت لحركة الانسان الأرضية المتمثلة ببعدها المادي والمعنوي خريطة صاغت له كل أساسيات العيش التي تحفظ له مقوماته الإنسانية، وعلى رأسها الكرامة وبما يتناسب معها افقاً وهدفاً ووعياً.
حيث مكنت له في الأرض وجعلته المسيطر على الكون سيطرة في طول السيطرة الإلهية لا في عرضها، ولذلك جاءت التشريعات السماوية وفقاً وطبقاً للمصلحة والمفسدة المتعلقة في البعد الانساني بجانبية المادي والمعنوي، وبما يتواءم مع كينونته البشرية وتركيبته وموقعه الكوني في عالم الطبيعة، حيث أنه المالك الوحيد للقدرة والارادة والاختيار والحرية بين المخلوقات وهو المعني في التصرف بهذا الكون، لذلك كان لابد من خريطة سلوكية منهاجية ترسم له معالم الطريق في كيفية التعاطي مع نفسه ومع مجتمعه ومع الطبيعة ومع خالقه لكي تتسم تحركاته بالاتزان حتى لا يختل النظام الكوني الذي يعتبر الإنسان فيه المحور بل والمحرك له في كافة الاتجاهات، والقادر على الهيمنة والسيطرة عليه وإخضاعه لخدمته.
ولهذه التشريعات بعث الأنبياء وأهم وظيفة أنيطت بهم هي تربية وتعليم وتزكية الناس بما أقرته الشرائع السماوية، لرفع الجهل عنهم والارتقاء بهم إلى حيث الكمال الذي فطروا على السعي إليه فتستقيم أمورهم الدنيوية وتنهض آخرتهم بالنعيم.
وبما أن التشريع الاسلامي هو تشريع خاتمي وعالمي فهو إذا لا بد له أن يكون صالحاً لكل الأزمنة والأمكنة مهما ابتعدت به عن عصر التشريع والنبوة، خاصة أن النبوات ختمت بالنبي محمد(ص)، وعليه يكون لابد من استمرارية القراءة الدينية للتشريع الاسلامي من قبل متخصصين قادرين على استنطاق الاحكام الشرعية بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة وتحديده لتطبيق النظرية الاسلامية في حياة الفرد والمجتمع، تطبيقا عمليا يتواءم والأهداف التي شرعت لأجلها التشريعات الاسلامية الخاتمة واهمها السعادة في الدارين. كما لدينا متخصصين في الطب والهندسة وغيرها من التخصصات التي تنهض بالمجتمعات والدول نهضة عمرانية وتهتم بالانسان من النواحي المادية والمعنوية.
والحكم الشرعي هو: التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان، والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليس هي الحكم الشرعي نفسه([23]).
لذلك انبرى الانبياء والاوصياء الذي نصبوا من بعدهم بتعليم أصحاب القابيلات فنونا تؤهلهم وترتقي بقدراتهم لقراءة النص الديني واستنطاقه لمعرفة الحكم الشرعي القادر على تحديد المصلحة في السلوك الانساني على الأرض، كقدرة الطبيب على تشخيص العلة في جسد المريض ومعالجتها بطريقة تتناسب وجسده وطبيعة مرضه.
فتخرج من هذه المدرسة الاسلامية العظيمة مجموعة كبيرة من الأفراد أطلق عليهم اسم العلماء المجتهدين أو الفقهاء الذين امتهنوا مهنة لا تقل اهميتها عن مهنة الطبيب، وهي امتلاك ملكات خاصة في استنطاق الحكم الشرعي لتمكين النظرية الاسلامية من التطبيق في الواقع الإنساني.
فلقد انبثقت مقولة الاجتهاد من رحم قراءة النص، حيث كان للاجتهاد دورا بارزا في حراكية النص الديني عبر الزمن وفي المكان، “ولم يولد الاجتهاد إلا على أساس قراءة النص الاسلامي ضمن حركته في الواقع المعاش قراءة واعية لثوابت النص وحدود الفهم المتغير لأهدافه ومقاصده، بهدف الاستجابة لإشكاليات الواقع وتكييف متغيراته واحتوائها ضمن الفضاء المعرفي الاسلامي”([24]).
تعريف الاجتهاد
أـ المعنى اللغوي
الاجتهاد من الجهد بفتح الجيم أو ضمها، والجهد بمعنى القدرة والسعي والمشقة([25]). أو هو: “بذل الوسع للقيام بعمل ما”([26]).
قال أهل اللغة بأن الجهد (بفتح الجيم) بمعنى السعي أما الجهد(بم الجيم) فتعني الوسع والطاقة، أما جمهور الأصوليين، وعلى غرار المعجميين العرب، فيعتقدون اأن الكلمة مفتوحة ومضمومة ذات معنى واحد، ونسبو الاجتهاد إليها وفسرها بالوقوع في المشقة من جراء الكلفة بحمل شيء ما، و جد في الأمر وبالغ فيه، وكذلك قالوا: الجهد لا يكون إلا في الأشياء التي فيها ثقل، كأن نقول اجتهد فلان ورفع حجر ثقيل، ولا يقاتل اجتهد في حمل ورقة مثلا أو غصن أوزهرة. فالمعنى اللغوي للاجتهاد هو أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة([27]).
ب ـ المعنى الاصطلاحي
والمعنى الاصطلاحي لا يبتعد غالبا في هيئته عن المعني اللغوي، حيث يعرف الاجتهاد اصطلاحيا على أنه: “استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي، أو تحصيل الظن بالحكم الشرعي عن طريق الدليل المفصل، أو تحصيل الحجة عن طريق الدليل([28]).
ويعرف الشاطبي(٧٩٠م) ـ وهو من كبار علماء أهل السنة (إبراهيم بن موسى الشاطبي) ـ الاجتهاد في كتبه الموافقات بالقول:”هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بحكم شرعي”([29]).
ويعرف الآخوند الخراساني الاجتهاد على أنه: “استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، لأن معيار الحكم هو تحصيل الحجة على الحكم، ومن هذا الباب يكون تحصيل الحجة على الحكم ـ وإن كانت من الظنون ـ اجتهادا، سواء كان تحصيل العلم الوجداني والقطع بالحكم الشرعي، أو تحصيل الحجة على غرار الأمارة المفيدة للظن الفعلي أو حتى الظن النوعي”. ومعنى (الظن النوعي): ان الامارة تكون من شأنها ان تفيد الظن عند غالب الناس ونوعهم. واعتبارها عند الشارع انما يكون من هذه الجهة، فلا يضر في اعتبارها وحجيتها الا يحصل منها ظن فعلي للشخص الذي قامت عنده الامارة، بل تكون حجة عند هذا الشخص أيضا حيث إن دليل اعتبارها دل على أن الشارع انما اعتبرها حجة ورضي بها طريقا لان من شأنها أن تفيد الظن وان لم يحصل الظن الفعلي منها لدى بعض الاشخاص. ولقد نحى المجتهدون المتأخرون هذا المنحى للآخوند الخراساني (1839م ـ 1911م)([30]) في تعريفه للاجتهاد، فقالوا: “الاجتهاد ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية، أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية”([31]).
ويعرف الشهيد مرتضى مطهري (1919م ـ 1979م)([32]) الاجتهاد على أنه القدرة على تكييف المتغيرات واستيعابها وتوفير الأحكام الشرعية للمكلفين بما ينسجم مع روح الاسلام ومقاصده ويجسد أطروحته ونظرياته في الحياة وصلاحيته لإدارة شؤونها المختلفة([33]).
نظرية الاجتهاد
تبدأ عملية الاجتهاد الحقيقي حينما نقوم بإعمال النظر في مسلمات العلم الأساسية وفي النتائج الأعم للعلم، وحيث نقوم بالتأمل في النموذج الاستنباطي السائد في مجال الاجتهاد الفقهي فذلك يعني التأمل في النموذج الاستنباطي السائد في مجال الاجتهاد الفقهي فذلك يعني التأمل في مسلمات عملية الاجتهاد الفقهي المعمول بها([34]).
وكبريات مسائل الاجتهاد تتصل بثلاثية هي:
1ـ الموضوع: وهو المجال المادي للعمل الاجتهادي
2ـ المنهج: وهو المجال التصوري للعمل الاجتهادي
3ـ الذات: وهو المجال المعرفي (الإبستمولوجي) الداخلي للفقه والفقيه([35]).
وهناك من يرى ان عملية تحول النظرية الاجتهادية إلى واقع عملي ملموس تختص بثنائية هي:
1ـ المنهج
2ـ بذات الفقيه ودرجة وعيه وتعامله مع الأدلة والنصوص الشرعية([36]).
شروط الاجتهاد
ولا يستطيع التصدي لهذه المسؤولية العظيمة المرتبطة بالسلوك العملي للفرد والمجتمع كونه مرتبط بشكل فطري بجهة تشريعية إلا من تجتمع فيه مجموعة من الشروط التي تجعله مؤهلا لممارسة هذا الدور الخطير في المجتمع.
وقد كان لشروط الاجتهاد مسيرة تاريخية تطورت بها الشروط بتطور الحاجات والموضوعات وتعقيدها وتغير الزمان والمكان مما راكم تاريخيا المعارف والعلوم وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى تطور العمل الاجتهادي وتزايد حاجة الناس للإجابة عن كثير من التساؤلات التي طرحت نفسها على الساحات.
وهذا أدى إلى تطور النظر إلى مسألة الاجتهاد وجعل الحاجة ملحة لتطور شروط الاجتهاد بطريقة تغطي الحاجات التي اصبحت ملحة على الساحات الإنسانية إضافة إلى ضرورة التماهي بين الطرح الفقهي ولغة العصر ومتطلباته المتغيرة والمتجددة بشكل متسارع.
فلو تتبعنا شروط الاجتهاد منذ نشأتها بشكل موجز وسريع إلى الآن سنجد هناك تطوراً واضحاً في شروط الاجتهاد.
يقول الشريف الرضي (969م ـ 1015م)([37]) للمجتهد شروطاً منها:
1ـ إحاطته بجميع الأصول والمصادر الفقهية
2ـ إحاطته بمنهج استنباط الأحكام من الكتاب والسنة
3ـ إلمامه باللغة العربية بحسب الحاجة
4ـ أن يتصف بالعدالة والدين والورع
أما العلامة الحلي فقد أمضى هذه الشروط وأضاف عليها شرطا خامسا وهو الإحاطة بجميع العلوم التي ترتبط بشكل أو بآخر بإقامة الدليل من المسألة الفقهية.
وأضاف الشيخ البهائي شرطين آخرين هما:
1ـ الاستئناس بلغة الفقهاء، بمعنى أن يكون ملما بأسلوبهم في التعبير والبيان حتى يخبر طريق الاستدلال.
2ـ فن إرجاع الفروع إلى أصولها.
أما الشهيد الثاني زين الدين بن علي الجباعي العاملي (911هـ ـ 965هـ)([38]) في كتابه القضاء من شرح اللمعة الدمشقية فقط أطلق على شروط الاجتهاد بالمقدمات الستة وهي على النحو التالي:
1ـ علم الكلام
2ـ علم أصول الفقه
3ـ علم النحو
4ـ علم الصرف
5ـ علم اللغة
6ـ شروط أدلة المنطق([39]).
ولقد اعتبر الإمام روح الله الخميني (1902م ـ 1989م)([40]) من الفقهاء التجديديين والمتطورين الذين تركوا بصماتهم واضحة على تطوير مسألة الاجتهاد والنهوض بها بطريقة واكبت الظروف الزمكانية، حيث حدد معالم واضحة لشروط الاجتهاد تناغمت مع التطورات الطارئة على الساحة الإنسانية حيث اعتبر الإمام الخميني أن “من شروط خصائص المجتهد الجامع هي المعرفة بأساليب التعامل مع مكائد الثقافة المسيطرة على العالم وتضليلاتها، وامتلاك الوعي والبصيرة في الشؤون الاقتصادية، والاحاطة بكيفية التعامل مع النظام الاقتصادي المسيطر على العالم، ومعرفة أنماط السياسة وحتى الساسة…فالمجتهد ينبغي أن يتحلى بالفطنة والذكاء والفراسة اللازمة لقيادة المجتمع الاسلامي الكبير بل وحتى المجتمعات غير الإسلامية”([41]).
ولعل تصدي الإمام الخميني لمسألة الدولة الاسلامية ونجاحه في ذلك نهض بتفكيره في شروط الاجتهاد بما يتناسب والتطورات المتلاحقة لقيام ونجاح الثورة الإسلامية مع أن الإمام الخميني كان من السباقين في الفكر التجديدي وتطوير آليات ومناهج التدريس والاستنباط الفقهي وله صولاته وجولاته في هذا المضمار. ولعلنا في بحثنا سنسلط الضوء على أبرز النظريات التي طرحت في مضمار تطوير مسألة الاجتهاد من حيث المفهوم والآليات المنهجية والوظيفة خلال العقود الأخيرة من عمر الحوزة العملية.
ولقد كان للشهيد محمد باقر الصدر (1935م ـ 1980م)([42]) رأيا بارزا في تطور حركة الاجتهاد حيث قال: “إن حركة الاجتهاد تتحدد وتكسب اتجاهاتها ومعالمها على أساس عاملين وهما: عامل الهدف، وعامل الفن، ومن خلال ما يطرأ على هذين العاملين من تطور أو تغيير تتطور الحركة نفسها.
وأقصد بالهدف: الأثر الذي تتوخى حركة الاجتهاد ويحاول المجتهدون تحقيقه وإيجاده في واقع الحياة. وأريد بالفن: درجة التعقيد والعمق في أساليب الاستدلال التي تختلف في مراحل الاجتهاد تبعا لتطور الفكر العلمي”([43]).
وظيفة الاجتهاد
يعتبر الاجتهاد من الوظائف المهمة والخطيرة في الحياة البشرية لما له من صلة فطرية يرتبط بها الانسان بطريقة بديهية تلقائية ليشبع شعوره الفطري بالحاجة للارتباط بجهة غيبية قادرة حكيمة وعارفة، يريد كإنسان أن يحوز على رضاها من خلال القيام بطقوس معينة يعتقد انها تقربه من هذه الجهة لذلك هو دائم السعي إلى كل من يربطه بهذه الجهة ويخبره عن كيفية الوصول لها ونيل رضاها.
وبما أن الحدود والاحكام الشرعية هي امور غير متاح فهمها للجميع ، وتحتاج إلى علم خاص وقدرات وملكات خاصة لكي تنهض وتوضح الاحكام الشرعية وهو ما لا يتوفر إلا في نفر من الناس هم المجتهدون الذين حملوا على عاتقهم مهمة إيصال المراد الالهي من الاحكام الشرعية المنصوص عليها في النصوص القرآنية أو الحديثية عبر آليات عمل معينة إلى الناس ليتوافق سلوكهم في مختلف مجالات الحياة والشريعة الاسلامية.
وللاجتهاد وظيفة مهمة في حياة الإنسان نورد أهمها أثرا في ساحات الحياة البشرية من خلال ما طرح من آراء في هذا الصدد لعلماء ومفكرين.
يقول الشهيد محمد باقر الصدر عن وظيفة الاجتهاد: “تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الاسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها”([44]).
والاجتهاد هو(القوة الفعالة التي تستطيع قيادة مثلث(الفرد، المجتمع، السيادة “النظام والدولة”) وتشرح لهم وظائفهم وتكاليفهم في جميع المناسبات الحياتية الواسعة.وهو وسيلة لتبيين التكاليف الدينية فيما يتعلق بالافراد والنظام الحاكم من أجل تحقيق غايات الدين وأهدافه، وهو يحدد مسار الحوادث الواقعة من منظار الدين، وهو يكون في القسم المتحول والمتغير من الحياة وليس القسم الثابت، فهو الناطق باسم الدين)([45]).
ولعل تساؤلا يمكن أن يطرح نفسه على ساحة الفكر الإنساني: كيف يمكن للاجتهاد أن يلعب دوره الالزامي على ساحات العمل البشرية أي كيف يلزم الاجتهاد الفقهي الإنسان والفرد المسلم بالقيام بما يستخرجه من أحكام شرعية من النصوص المعتبرة وفق الآليات الاجتهادية المعتبرة؟
أساس الإلزام بالنسبة للمسلمين
الإنسان مخلوق كرمه الله تعالى عن باقي مخلوقاته وكان مصداق هذه الكرامة الإلهية أن جعله مخلوق حر ومريد ومختار.
فهو حر في اختياره لما يريد من منهج حياتي ولكن هذه الحرية ضبطت بمجموعة من الضوابط النفسية والاخلاقية التي ان التزمها الانسان حققت له السعادة الدنيوية والاستقرار النفسي التي هي الباب للدخول إلى السعادة الاخروية.
وحيث ان المجتمع له عناصر يتكون منها كمركب اجتماعي له مقوماته بحيث تتناغم العناصر مع المقومات بطريقة تبني العلاقات في هذا المجتمع على اسس سليمة ووفق رؤية كونية هادفة يكون فيها الانسان المحور والعامل الاساس في دفع المسيرة نحو الهدف تاريخيا.
والمجتمع حسب رؤية الشهيد محمد باقر الصدر له 3 عناصر:
1ـ الطبيعة
2ـ الإنسان
3ـ العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بالطبيعة من جهة وبأخيه الانسان من جهة اخرى
وهذه العلاقة هي العنصر المتغير الذي تختلف على اساسه المجتمعات الانسانية كون طريقة ترتيبها وبائها تختلف من مجتمع إلى آخر.
وبما أن هذه العناصر هي مكونات المجتمع إذا لا بد أن يكون لها صيغة تربطها بعضها ببعض وقد أسس الشهيد محمد باقر الصدر صيغتين تربط هذه العناصر بعلاقات ولكل صيغة اسلوبها وخارطة طريقها نحو تحقيق أهدافها العليا.
والصيغتان هما:
1ـ الصيغة الرباعية.
2ـ الصيغة الثلاثية.
1ـ الصيغة الرباعية
هي الصيغة التي تربط بين أطراف ثلاثة هم الطبيعة والإنسان مع الإنسان ولكنها تفترض طرفا رابعا وبعدا رابعا للعلاقة الاجتماعية، وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في إطار المجتمع بل خارج عن إطاره، ولكن الصيغة الرباعية تعتبر هذا الطرف مقوما من المقومات الأساسية للعلاقة الاجتماعية رغم أنه خارج عنها وهذه الصيغة الرباعية هي التي طرحها القرآن الكريم تحت عنوان الاستخلاف.
2ـ الصيغة الثلاثية
هي صيغة تربط بين الإنسان والإنسان والطبيعة ولكنها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع ـ أي الله تعالى ـ فتجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع وبهذا تتحول نظرة كل جزء إلى الجزء الآخر داخل هذا التركيب وهذه الصيغة.
وبالمقارنة بين هذه الصيغتين يحدث تغييرا نوعيا في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها.([46])
ولعل بعد هذه المقدمة نستطيع أن نعرف في المجتمع الاسلامي ما يلزم المسلمين في اتباع ما أقرته الشريعة في الفقه الاسلامي الذي اعتنى و راعى السلوك الانساني وفق صيغ عملانية تتناسب كل زمان ومكان هو ارتباطه بالبعد الرابع في الصيغة الرباعية لتركيبة المجتمع أي الله تعالى وفق ضوابط واربتاط هذه العلاقة بمبدأ الثواب والعقاب كقانون إن التزم بما يريده الخالق باختياره الانساني أثيب وإن خالف عوقب وهو حق للخالق والمستخلف على مخلوقه ومن استخلفه على الأرض.
ولما لمبدأ الثواب والعقاب من أثر نفسي رادع وملزم للانضباط ينعكس على وجدان المسلم ويرتبط بفطرته التي فطر عليها.
لذلك نجد أن العقيدة في الاسلام والتي محورها التوحيد هي التي رسمت الخطوط الاولى في حياته ، فأسست أسس المعرفة الإنسانية وضبطت علاقاته بعد نظمها بينه وبين الله تعالى.
ولذلك يعتبر أساس الالزام للمسلمين بالشريعة هي العقيدة وليس الفقه.
“ويمكن البحث عن أساس الالزام بالنسبة إلى المسلمين من خلال نظريات خمس وهي:
أولاً: نظرية حق الطاعة
ثانياً: نظرية الابتلاء
ثالثاً: نظرية الولاية
رابعاً: نظرية الحقوق العامة
خامساً: نظرية المصلحة العامة”([47]).
أولاً: نظرية حق الطاعة
لابد هنا من التنظير أولا لحق الطاعة وما يلزم الشخص أن يطيع جهة بعينها دون غيرها.
إن الانسان بطبيعته الانسانية يميل إلى شكر من أنعم عليه بنعم مادية في هذه الدنيا بل تجده في حراكاته الحياتية يميل قلبيا وعقليا إلى من أفاض عليه بالعلم او المعرفة أو حتى بخدمات إنسانية تزيل العقبات من دربه وتسهل عليه حياته حتى يصبح لديه شعور نفسي اتجاه المتفضل عليه يلزمه أخلاقيا ونفسيا بأن يطيعه فيما يريد ويميل حتى في كثير من الاحيان إلى افكاره وآرائه تأثرا في ما قدمه له من خير ونعم وخدمات.
وهذا الأمر بذاته حسن يستحسنه العقل ويستطيع أن يشخص حسنه من قبحه ، والعقل عقلان عقل نظري وعقل عملي والنظري يجسده الحكمة النظرية والعملي تجسده الحكمة العملية.
“ونظرية حق الطاعة تبتنى على أن العقل العملي يحكم بوجوب طاعة المولى، ويستند العقل العملي في حكمه على تصور خالق يرجع إليه الإنسان في الخلق والوجود وبما أن وجود الإنسان يستند إلى الله، وهو المالك فمن حقه توجيه التكليف إلى العباد ومن وظيفة العبد إطاعة التكاليف الموجهة إليه من منطلق حكم عقلي مستقل بذلك([48]).
ثانياً: نظرية الابتلاء والتكليف
إن العقل يرشد الإنسان إلى الهدفية في كل تصرفاته، حيث اننا لا يمكن أن ندعي أن نيوتن حينما رأى التفاحة تسقط من الشجرة وبدأ يدرس الاسباب وأجرى لذلك عدة تجارب أنه فعلا ذلك عبثا دون هدف او غاية أو دون إرادة له حركته نحو هدف اندفع إليه برغبة للتعرف على أسباب سقوط التفاحة.
كما أننا لا يمكن في عالم اليوم الذي تتسابق فيه الالكتشافات التكنولوجية أن ذلك يحدث عبثا دون هدف يراد له التحقيق من قبل ناشديه، لذلك ايضاً لا يمكننا أن ننكر هدفية خلقنا وعدم عبثيتها وإلا ما هي الفائدة الحقيقية من وجودنا على الأرض؟
إذا عملية الخلق لا يمكن ان تتم اعتباطا وعبثا، “ونظرية الابتلاء تعني بتفسير خلق الإنسان بالدرجة الاولى ومن ثم تبيين التكاليف الموجهة إلى الإنسان من قبل الشريعة. وعملية خلق الانسان لا يمكن أن تتم اعتباطا وعبثا، وانطلاقا من وجود إرادة واعية تستند إليها عملية الخلق (الإرادة الإلهية).وبما أن خلق الإنسان عمل واع فيعني أنه عمل هادف في الوقت نفسه ، فما هو الهدف الذي ينشده خلق الإنسان؟
إن الهدف الذي تنشده عملية الخلق لا يخلو من صورتين:ما هو عائد إلى الله، وما هو عائد إلى الانسان.
أـ ما هو عائد إلى الله
والمقصود بالهدف العائد إلى الله تبارك وتعالى هو ان تعود عملية الخلق بفائدة إلى الله تعالى، وبما أن رجوع الفائدة إلى الله ليس له جدوى منطقية، كونه غنيا عن الفوائد، والفائدة تفترض فيها مسبقا الحاجة والنقص فهذا الاحتمال غير وارد.فلا يمكن أن تتم عملية الخلق لهذه الغاية.
ب ـ ما هو عائد إلى الإنسان
والمقصود بالهدف العائد إلى الانسان هو أن تعود عملية الخلق بفائدة إلى الانسان، ورجوع الفائدة إلى الإنسان، ورجوع الفائدة إلى الإنسان له جدوائية كما أنه ينسجم مع الصفات الإلهية التي يعتقد بها المسلم، ومن هذه الصفات أنه تعالى فياض، وخلق الإنسان من فيوضاته.
وبما أن الخلق ينشد الفائدة الراجعة إلى الانسان، فما هي الفائدة أو الفوائد التي يمكن أن تعود إلى الإنسان من خلال عملية الخلق؟
ومن هنا، يلزم وجود التوجيه ، والتوجيه هو إراءة الطريق الذي يتم من خلال دائرتين:
الأوّل: العقل الذي تم تزويد الانسان به؛
الثاني: الشرع.
وبما أن الكمال هو الغاية والوصول إليه يتوقف على التوجيه، والتوجيه يتم من خلال العقل تارة ومن قبل الشرع تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين يترتب على التوجيه التكليف، فيلزم التكليف من اجل الوصول إلى الهدف والغاية القصوى من الخلق.
وبناءا عليه يلزم على المسلم الالتزام بالشرع ولاتكاليف الشرعية لأنه يؤدي إلى تحقيق الغاية من خلقه.
ثالثاً: نظرية الولاية
تقوم هذه النظرية على إثبات الولاية لله ولمن جعل له الولاية من قبله تعالى، والولاية تستدعي الطاعة، فكما أن الله له ولاية تكوينية على جميع المخلوقات بما فيه الانسان وبموجبها يستطيع التصرف اللامحدود في الخلق وشؤونه، كذلك فإن لله تعالى ولاية تشريعية على الانسان تستدعي التقنين والتشريع منه تعالى والانقياد والطاعة من العباد.والولاية ثابتة أساسا لله تعالى وينتقل منه إلى كل من جعل له الولاية، والولاية المجعولة على هذا الأساس تشمل الرسول والإمام والفقيه”([49]) وفق مجموعة من الاثباتات التي لسنا الآن بصدد البحث فيها لأنها ليست محل بحثنا.
رابعاً: نظرية المصلحة العامة
إن المجتمعات البشرية قائمة على مبدأ المصالح المشتركة “الصالح العام” وهذه المصالح هي من حقوق الناس التي تحال إلى الحكم والدولة وتكون هذه الجهة مؤتمنة على أمانة المحافظة على تلك الحقوق واستيفاؤها والحيلولة دون تعرضها للخطر من أي جهة كان.
إن الدولة التي هي الجهة المعنية باستيفاء الحقوق والموكلة بالحفاظ عليها لها سلطة شأنية لجهة صون تلك الحقوق وتستطيع اللجوء إلى القوة المحمية بالقانون عند تعرض تلك المصالح للخطر.
غير أن الإلزام الذي تفرضه الدولة على المواطنين وتطلب التقيد بما يصدر عنها من أوامر ونواهي بغرض الحفاظ على المصالح العامة لا يختص بالحكم الاسلامي ولا المجتمع الاسلامي وإنما له صفة عامة يمارس ضمن قواعد الحكم وسلطة القانون.وأساس الإلزام هذا راجع إلى البناء العقلائي القاضي بحماية الصالح العام ودرجة الإلزام تخضع بدورها لاعتبارات عقلائية وتؤخذ بعين الاعتبار المصلحة المعينة وما توفر من مصالح.إضافة إلى الالزام الذي لا يفترض فيه طرف يلزم بل ذات تلتزم ولكن لا يلغي وجود طرف يرعى الالتزامات ويحاسب المخالف والمعتدي.
خامساً: نظرية الحقوق العامة
إن الحقوق العامة التي أشرنا إليها في أبحاث سابقة من شأنها أن تولد إلزاما مترابطا بتلك الحقوق كي يصار به إلى المحافظة عليها.
ومذى أهمية تلك الحقوق تحدد درجة الإلزام ونوعية الخطوات المطلوبة لصون تلك الحقوق.ولا شك بأن الحفاظ على الحقوق يحتاج إلى جهة مسؤولة عن صونها والدفاع عنها واستيفاؤها في المجتمع.وهذه الجهة هي الدولة التي تستطيع ان تفرض إلزامات ناشئة عن تلك الحقوق على المجتمع والأفراد على السواء، كما أن من شأن تلك الحقوق أن تفرض إلتزامات على المجتمع والأفراد.
ولكن هذا الإلزام كسابقه لا ينحصر بالمجتمع الاسلامي ولا الحكم الاسلامي، وإنما هو عام يدور مدار الحقوق العامة سواء كان مصدرها الدين أو المجتمع.كما أن درجة الإلزام تدور أيضا مدار الحقوق نفسها قوة وضعفا.ويأتي هنا أيضاً ما ورد حول مبدأ الالتزام في الحقوق العامة بحذافيرها.
أما أساس الإلزام لغير المسلمين فمجاله الفقه وليس العقيدة، وذلك لعدم اعتقاد غير المسلم بما يعتقده المسلم، ومن هنا لابد من أساس فقهي للإلزام، ويمكن تقريب الالزام على اساسين مختلفين، أي من خلال الفقه التقليدي المبني على تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، كما يمكن أن نوجه الإلزام والالتزام على مبدأ المواطنة بتخريج فقهي يلائم الاعتبارات الفقهية.
1ـ أساس الإلزام والفقه التقليدي
يرى الاتجاه التقليدي أن أساس الالزام يمكن أن يوجه من خلال اعتبارين اثنين:
أـ عقد الذمة: وهو العقد الذي يتم بين الذمي وبين الحكم الاسلامي وبموجبه يتحول الذمي إلى رعايا دار الاسلام، يجعل له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وهو نوع من “العقد الاجتماعي” الذي يفرض على الذمي الاتزام خارج دائرة معتقداته الدينية بموجب عقد قوامه الإرادة المنفردة من جهة الذمي لريعاية ضوابط الاسلام في الشرع الاسلامي.تتوجه بموجب هذا العقد تكاليف إلى الذمي نتيجة التزامه مراعاة الشريعة الاسلامية، وكون العقد تم أساسا بموجب مبدأ “التراضي”.ويلزم هذا العقد الطرف الثاني “الحكم الاسلامي” توفير مستلزمات الحياة الاجتماعية لغير المسلمين، وفي ظل القوانين والتشريعات الاسلامية.
ب ـ الاستئمان: وأما أساس الإلزام بالنسبة للمستأمن ولزوم الالتزام بالقواعد الشرعية والاسلامية المرعية الاجراء في ظل الحكم الاسلامي فيرجع أساسه إلى الأمان الممنوح له من قبل الدولة الاسلامية في مقابل التزامه باقواعد المعمول بها في الدولة الاسلامية.فالأمان الممنوح من قبل الحكم الاسلامي يعطي للمستأمن حق الاقامة والرعاية في ظل الحكم الاسلامي ويجعل له حقوقا ويطلب منه مراعاة وتطبيق القوانين المرعية الاجراء.من هنا، فإن أساس الإلزام بالنسبة للذمي والمستأمن معا بحسب هذا الاتجاه هو الالتزام الذي يقطع هؤلاء على انفسهم مقابل الدولة الاسلامية، وما يترتب عليه من ثبوت الحق لهم في الرعاية من جانب الدولة الاسلامية.
2ـ أساس الإلزام ومبدأ المواطنة
إن لاعتبارين الاخيرين ليس لهما مبرر ولا وجود في عالمنا المعاصر الذي يرى تنظيم العلاقات بين الدولة والناس المقيمين في إقليم الدولة على “أساس المواطنة” لا غير. من هنا، ينبغي أن يتجه الفقه الاسلامي ضمن قواعده العامة والخاصة للبحث عن اعتبارات جامعة لتفسير “الالزام” في ضوء الفقه والحكم الإسلاميين. كما ان الاعتبارين السابقين، أي “نظرية المصلحة العامة” و”نظرية الحقوق العامة”، قادران من حيث المبدأ على تفسير الالزام على اساس اسلامي، ولكنهما يحتاجان إلى تعميق نظري وبلورة عملية من خلال التنظير والممارسة، وهما من مسؤوليات الفقهاء والمفكرين والحكام في العالم الاسلامي.
كما يمكن أن ننطلق من اعتبار آخر لتفسير الالزام وهو مبدأ “حقظ النظام العام”، حيث إنه من الواجبات الأساسية في الشرع الاسلامي.حيث لا يجوز الاخلال بالنظام العام تحت أي ظرف من الظروف.
وعليه، فإن المجتمع الذي يخضع لقوانين اسلامية تحافظ على النظام العام، إضافة إلى ملاكات أخرى تستدعي الالتزام بتلك القواعد والقوانين بالنسبة إلى المسلم، فإن هناك مصالح عمومية أساسها حفظ النظام العام، وحفظ هذه المصالح ليست مختصة بالملتزم بالاحكام الاسلامية بل يجي على كل عضو في هذا المجتمع سواء أكان منتمياً إلى الاسلام أم لم يكن منتمياً إليه.
حيث يرى العديد من المتكلمين وعلماء أصول الفقه أن قاعدة حفظ النظام العام أساسها العقل العملي، ولها صلة قربى بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين.
وعليه، فلا فرق جوهري بين الالتزام العقلي والعقلائي(الاجتماعي والأخلاقي) الذي هو الاساس في رعاية القوانين السارية المفعول في الدول المختلفة بالنسبة إلى القميمين فيها، وبين الإلزام لغير المسلمين في الدولة الاسلامية.فإن كان أساس الالزام هو عنصر المواطنة فهو أيضاً في الحقيقة نوع من الإلزام العقلائي ـ الإنساني (الاجتماعي ـ الاخلاقي)، الذي ليس له جذور عقدية”([50]).
فالاجتهاد هو يمثل الضوابط القانونية والاجتماعية والتكاليف الشرعية التي تراعي مسائل مهمة قد تكون من اكثر المسائل المتفق عليها بين من يؤمن بالصيغة الرباعية للمجتمع ومن يؤمن بالصيغة الثلاثية:
1ـ حفظ النظام العام.
2ـ المصلحة العامة.
3ـ الحقوق العامة.
الاجتهاد ودَوْره في فهم النصّ
بعد انتقال الرسول(ص) إلى الرفيق الأعلى بدأت الصراعات السياسية تأخذ منحى آخر بعيدا عن الدين والاجتماع وتكرست هذه النظرة تدريجيا وليس دفعيا إلى أن وصل الأمر إلى نشوء دول باسم عوائل نظرا لشخصنة الصراع السياسي والابتعاد عنه شيئا فشيئا عن الدين والاجتماع، ففي عهد الرسول والخلفاء الراشدين كان يطلق على الدولة القائمة اسم الدولة الإسلامية، ولكنها بعد ذلك نشأت تحت مسميات عائلية كالدولة الأموية نسبة لتولي بني أمية للسلطة والدولة العباسية نسبة لتولي بنو العباس لها وهكذا، وقد يعتبر هذا مؤشرا على اتخاذ السياسة منحى بعيدا عن روح الدين كما كانت في عهد الرسالة المحمدية، وأدى ذلك إلى ابتعاد الكثير من الفقهاء في ذلك العصر عن الخوض في غمار السياسية حتى لا تتلوث قلوبهم وأفكارهم بمكرها وخدعها، وحتى لا يتم استخدامهم بتعسف من قبل السلطة التي كانت تشتري الوعاظ والفقهاء وتجير تأويل الأحاديث وتفسير القرآن لصالح بقائها واستمرارها في الحكم، بل تدفع لهم من أجل وضع أحاديث ونسبها إلى رسول الله(ص) أو إلى صحابته العدول وغيرهم، لكي تبرر وجودها الظالم البعيد عن روح الإسلام ويقول د. نوري جعفر في كتابه فلسفة الحكم عند الإمام علي ص 45: “فقد لوثت السياسة.. فئة خاصة من رجال الدين، وأغدقت عليهم الجاه والمال والنفوذ والألقاب لمعاونتها في تثبيت مظاهر الفساد في الحكم، وإيجاد مخارج “شرعية” لموبقات الحاكمين من جهة، وصرف الناس عن التحدث عن اعتداء الحكام على مبادئ الدين ـ وإلهائهم بوعظ تافه لا يمس جوهر الدين ـ من جهة أخرى”. وأدى ذلك كما ذكرنا آنفا إلى ابتعاد الكثير من الفقهاء والعلماء عن العمل السياسي. ومع مرور الزمن أصبحت العقيدة المنتشرة بين الفقهاء وخاصة فقهاء الإمامية نتيجة الظلم والعزل الذي مورس بحقهم من قبل الحكومات المتتالية هي فصل الدين عن السياسة، فلم نجد أصلا أي تأصيل نظري للفكر السياسي ولثقافة بناء الدولة في الإسلام، وهذا أدى بطبيعة الحال إلى عزوف الفقهاء عن الخوض في السياسة ظنا منهم أنها ملوثة للدين وأن الدين خارج عنها وليس له شأن بها، معتمدين في ذلك على الحركة الظاهرية للأئمة عليهم السلام، رغم أن عصور الأئمة عليهم السلام كانت عصور استثنائية في الظلم والاضطهاد فبالتالي كانت ممارستهم للعمل السياسي ممارسة سرية وغير علنية إضافة لسلوكهم منهج التقية في كثير من الأحيان حفاظا على النظرية الإسلامية من الانحراف بعد أن انحرفت على المستوى العملي، وحفاظا على شيعتهم وأتباعهم من الملاحقة والقتل. إلا أن غياب التأصيل النظري للعمل السياسي وعلاقته بالدين أو علاقة الدين بالسياسة أدى إلى عدم وضوح الرؤية في التفسير التاريخي لمسيرة الأئمة وحركتهم عند الكثير من الفقهاء خاصة الإمامية منهم. فكرس ذلك إلى الفهم الذي يدفع باتجاه عزل الدين عن السياسة، بل عزله عن المجتمع والنظرة للتشريع وللفهم الديني نظرة ذات نزعة فردية، مما أدى إلى غياب الرؤية الفقهية الخاصة بالعمل السياسي بشكل عام وأهلية المرأة للعمل السياسي بشكل خاص. أما بالنسبة لعلماء الجمهور (السنة) فإن خوضهم في غمار التجربة السياسية التي عزلت المرأة عن العمل السياسي نتيجة طغيان العرف والعادات الجاهلية على الفهم الديني الصحيح أدى إلى تكريس نظرتهم في عدم أهلية المرأة للعمل السياسي.
ولقد انعكست عملية العزل السياسي والطائفي للمدرسة الإمامية مدة طويلة من الزمن على حركة الاجتهاد عندهم والتي ظهرت نتائجها لاحقا مع تجربة التطبيق الإسلامي المعاصرة، حيث نأت حركة الاجتهاد بنفسها عن تمثيل هيئة المجتمع بسبب تركيزها على صورة الفرد التي تهمه في حركته العامة.
وقد أثر ترسخ النظرة الفردية للشريعة إلى طريقة فهم النص الشرعي أيضا، فمن ناحية أهملت في فهم النصوص شخصية النبي أو الإمام كحاكم ورئيس دولة، فإذا ورد النهي عن النبي مثلا كنهيه أهل المدينة عن منع فضل الماء، فهو إما نهي تحريم أو نهي كراهة عندهم، مع أنه قد يكون لا هذا ولا ذاك، بل قد يصدر النهي من النبي بوصفه رئيسا للدولة، فلا يستفاد منه الحكم الشرعي العام، ومن ناحية أخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه، ولهذا سوغ الكثيرين لأنفسهم أن يجزئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له)([51]).
وحسب رؤية الشهيد الصدر كما يحللها المفكر إبراهيم العبادي([52]) “أن على الفقيه أن يأخذ بنظر الاعتبار حالة الأمة بالحساب وليس حالة الفرد فحسب، وأن يستوعب غايات التشريع ومقاصد الشريعة، وينفتح في الوقت نفسه على التجربة البشرية. هذا إضافة إلى إلحاح الشهيد الصدر على العامل الزماني لاقتضائه عنصر التجديد في الموضوعات والحالات السابقة ودفعه بالكثير من الإشكاليات الجديدة، فلكل مرحلة زمنية متطلباتها التي تفرض على الفقيه التعامل معها وإيجاد الحلول لها”([53]).
هذا إضافة إلى حرص الشهيد الصدر على تحرير الفقيه من (خطر الذاتية) حيث يقول أن الخطر يشتد ويتفاقم (عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة، وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعا مخالفا كل المخالفة لطريقة النصوص في علاج تلك القضايا، كالنصوص التشريعية والمفهومية المرتبطة بالجوانب الاجتماعية من حياة الإنسان)([54]).
الأسباب الأربعة لخطر الذاتية كما يراها الشهيد الصدر
1ـ تبرير الواقع: وهي المحاولة التي يندفع فيها الممارس بقصد او بغير قصد إلى تطوير النصوص وفهمها فهما خاصا يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص منها.
2ـ دمج النص في إطار خاص: وهي دراسة النص في إطار فكري غير إسلامي، وهذا الإطار قد يكون منبثقا عن الواقع المعاش وقد لا يكون. فيحاول الممارس أن يفهم النص ضمن ذلك الإطار المعين فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله.
3ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه: وهو عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي، وهذه العملية كثيرا ما ترتكب في نوع خاص من الأدلة الشرعية وهو (التقرير)، ونعني به سكوت النبي أو الإمام عن عمل معين يقع على مرأى منه ومسمع سكوتا يكشف عن سماحه به وجوازه في الإسلام.
4ـ اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص: وهو الاتجاه النفسي للباحث فإن للاتجاه أثره الكبير على عملية فهم النصوص، وهذا الموقف النفسي الذي تفترضه ذاتية الممارس لا موضوعية البحث لا يقتصر تأثيره على إخفاء بعض معالم التشريع، بل قد يؤدي أحيانا إلى التضليل في فهم النص التشريع، والخطأ في استنباط الحكم الشرعي منه([55]).
وهذه العناصر الأربعة كما يقول المفكر إبراهيم العبادي في كتابه الاجتهاد والتجديد والتي يراها الشهيد الصدر منبع الخطر على ممارسة الفقيه لعملية الاجتهاد وتحتاج إلى درجة عالية من الحيطة والحذر للتخلص منها، تظهر آثارها في الجوانب الاجتماعية والأحكام المتعلقة بالحكومة وإدارة الدولة، خاصة حينما تجد الحاجة فعليا إلى تحديد الموقف الإسلامي أو بناء النظرية الإسلامية المطلوبة في مجال محدد وإذا لم يكتسب الممارس خبرة وافية في فهم النص بشروطه الموضوعية وظروفه التاريخية والاجتماعية ومتطلبات الواقع المعاصر الذي لا بد من اخذ حيثياته بالحسبان، فإن الحالة الذاتية للفقيه ستنعكس سلبا في اكتشاف الحكم الشرعي المناسب.”
وهو ما نراه جليا في الأحكام الخاصة بالمرأة وخاصة في المجال السياسي وفي مجال حراكها الاجتماعي. لذلك نجد أن حركة الاجتهاد في الآونة الأخيرة بدأت تتباين بين الحوزات وتأخذ منحى مختلف بين المدارس الإسلامية فنجد فقهاء جبل عامل يختلفون عن نظرائهم في قم وعنهم في النجف.
إن جل الاهتمام تمركز حول عملية الاجتهاد لأنه “القوة الفعالة التي تستطيع قيادة مثلث (الفرد، المجتمع، السيادة “النظام والدولة”) وتشرح لهم وظائفهم وتكاليفهم في جميع المناسبات الحياتية الواسعة. إن الاجتهاد وسيلة لتبيين التكاليف الدينية فيما يتعلق بالأفراد والنظام الحاكم من أجل تحقيق غايات الدين وأهدافه، فإذا كان الاجتهاد غافلا عن قضايا الإنسان المعاصر، يكون قد ألغى فلسفته الأساسية، لأن فلسفة الاجتهاد هي تحديد مسار الحوادث الواقعة من منظار الدين، والحوادث الواقعة هي مختلف قضايا حياة الإنسان المعاصر، فالاجتهاد أساسا يكون في القسم المتغير والمتحول من الحياة وليس في القسم الثابت، وهذا القسم المتغير يجب أن يظهر الدين وجوده وقدراته في القيادة والإرشاد والإجابة)([56]).
ويقول السيد محمد حسين فضل الله (1935م ـ 2010م)([57]) في حواره حول المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية (إن الفقيه لا يستطيع في المرحلة الحاضرة أن يعيش خارج نطاق قضايا عصره، باعتبار أن قضايا العصر حتى في الأمور الفقهية تمثل موضوعات الأحكام التي يحتاج المجتهد أن يستنبطها، وأن يحددها كمنهج إسلامي في الحياة، لذلك فإن الفقهاء لا بد أن يواجهوا الأسئلة الكثيرة من مقلديهم حول القضايا السياسية وحول الموقف من قضايا الانتخاب.. مما لا يمكن أن يجيبوا عنه بجواب سريع على الطريقة التي كانوا يجيبون عنها في الماضي، باعتبار أن حياة الناس قد ارتبطت ارتباطا عضويا يوميا بكل الواقع المعاصر، وأصبحت مسألة الكيان الإسلامي والكيان الشيعي بشكل خاص في نموه وتطوره وحيويته وقوته وعزته يرتبط بطبيعة العلاقات مع هذا النظام أو ذاك النظام….. لذلك فإن الفقيه حتى في دائرته الفقهية لا يستطيع أن يبتعد عن قضايا العصر، وإذا كان معزولا عن مسألة الاجتهاد فتكون أكثر القضايا التي يعيشها الناس لا يملك عنها جوابا، لأنه لا يملك معرفة فيها ولذلك ينعدم دوره كمرجع حتى في المسائل الفقهية”.
ولعل نظرة بسيطة وعابرة إلى وضع المرأة الإيرانية قبل نهوض الدولة الإسلامية ونجاح الثورة في إيران ووضعها بعد ذلك يسلط الضوء على أهمية مشروع التجديد الذي نهض به الإمام الخميني رجل الدين في مسيرة الاجتهاد عند الإمامية، وخاصة فيما يتعلق بفقه المرأة وممارستها لوظيفتها في الإصلاح والتغيير وبناء المجتمعات، بل أهليتها لذلك.
ويقول المفكر إبراهيم العبادي في كتابه الاجتهاد والتجديد بهذا الصدد: “لقد استهدف الإمام تفعيل الاجتهاد وجعله منهجا زمنيا يقرأ النصوص ويجد لها فهماً شرعياً لا يجمد النص عند فهم معين أو قراءة بذاتها، وإنما يتجاوز ذلك إلى أخذ ظروف الواقع والأوضاع الزمانية والمكانية والتغيرات الكيفية للموضوعات ومقاصد وروح التشريع، إضافة إلى النظرة المستقبلية وعالمية الشريعة ومتطلبات مجتمع معاصر يعج بالكثير من المشاكل والقضايا التي لم تكن مطروحة في وقت سابق على صعيد الاهتمام في الدوائر العلمية، وعند تحليل هذه الرؤية نجد أنها تتجه في كلياتها إلى ثلاثة عناوين رئيسية:
أوّلاً: موقع الفقيه فيما يمثله بالنسبة إلى الإسلام كعقل مؤهل للتعامل مع منظومة التشريع الإسلامية وكنائب عن الأمة يقوم بوظيفة إمدادها بالرؤية الفقهية الجاهزة التي تمكنها من العمل في ظل الظروف والأوضاع المختلفة.
ثانياً: منهج الاجتهاد القادر على تكوين عقليات فقهية ملمة بتفاصيل الواقع المحلي والعالمي، فهو يشدد بشكل خاص على إلزامية التوفر على وعي شامل ورؤية متكاملة في القضايا الحياتية المختلفة، لتصبح رصيدا يضاف إلى المنهج العلمي المتعارف، لذي يستطيع من ألم به الإلمام الكافي أن يصبح قادرا على التعامل مع النص الشرعي واستنباط الرأي الفقهي، ولا يمكن تفكيك هذه العلاقة الضرورية بين القدرة على الاستنباط ووعي الواقع الخارجي لا بشكله البسيط السابق المرتبط بقضايا الفرد، بل بقضايا الدولة والمجتمع.
ثالثاً: وتأسيسا على النقطتين الأولى والثانية فإن القضية باتت مرتبطة بمصير الإسلام، وقدرته على تسيير شئون الناس، ذلك إن معنى خاتمية الرسالة الإسلامية وأهليتها لإدارة الحياة، تتطلب تنجيزاً فعلياً على المستويات كافة، والفقهاء وحدهم المؤهلون لإعداد الشريعة للتطبيق، ومد الخطاب الإسلامي بالمعارف الحيوية والضرورية، التي تمكنه من إثبات ذاته في دنيا اليوم المتلاطمة، وفي إعادة الثقة للإنسان المسلم قبل التوجه إلى الآخر، والاجتهاد هو الوسيلة التي أتاحها الإسلام للكشف عن الأحكام في مدى حركة الزمان والبيئات المختلفة، وتطور الحياة في اتجاه تصاعدي، دون جمود ولا توقف، وعكس ذلك الانحباس في الحدود التقليدية للاجتهاد وإهمال مصالح الإسلام، والتراجع عن مبدأ (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم)، لأن منهج الاجتهاد التقليدي لم يستوعب بعض الوقائع ولم يكتشف لها الحكم المناسب”.
وفي مسألة توجه المسلم للآخر في حال بقي الاجتهاد على حالته التقليدية فإن أخطر ما يكون هو توجه المرأة للفكر الآخر الذي استطاع أن يواكب الحياة رغم أنه يقوم على فكر غير سليم في الحياة ولكنها وجدت في هذا الحضن الفكري إجابة على كثير من أسألتها إلا أنها إجابة آنية غير متعمقة ولا تنظر للجوانب السلبية البعيدة المدى فيها، فقد سلطنا الضوء آنفا على وضع المرأة الغربية ومع ذلك نجد الكثير من النساء المسلمات تبنين النظريات الغربية الخاصة بالمرأة لأنها لم تجد في حضن الإسلام النظري والمتمثل بشخصياته الفقهائية إجابة على الكثير من أسئلتها بل ما وجدته تهميشا وإقصاء لدورها الإنساني نتيجة النهج التقليدي في عملية الاجتهاد، وما يخص دورها وحدوده، و بالرغم من أن مسئولية الفقيه المستمرة هي في بيان الحكم الشرعي للموضوعات الحادثة والمستجدة إلا أن سبب التخلف هذا يعود إلى “الاستغراق في أحكام القضايا القديمة والمشاكل التي كان يعيشها مجتمع سابق بظروف مختلفة عن مجتمعنا المعاصر، حتى أننا نجد بعض الفقهاء الكبار يعرف عن أحكام العبيد والإماء أكثر مما يعرف عن قواعد التأمين، لعدم إحاطته بالأوضاع القانونية للتأمين مما يجعله يصدر الأحكام على أساس الافتراض لا على أساس الحكم الواقعي، وهكذا نجد أن الذهنية الفقهية لا تزال خاضعة للتأثيرات التقليدية مما يؤدي إلى المزيد من الصعوبات الفكرية التي تواجه الفقيه المسلم في ملاحقة الوضع المتحرك والمتطور” السيد محمد حسين فضل الله (علامات استفهام على طريق حركة القوة في الدولة الإسلامية) بحث مقدم إلى المؤتمر الرابع للفكر الإسلامي المنعقد في طهران([58]).
ويقول المفكر إبراهيم العبادي في نفس كتابه السابق: وقد لخص الإمام الخميني أصداء هذه الشكوى التي انطلقت على شكل قضية حيث دفع بها بقوة إلى الأوساط العلمية عندما عمم موضوع تأثيرات الزمان والمكان على مجمل القضايا الفقهية حيث قال: “فالزمان والمكان عنصران أساسيان مصيريان في الاجتهاد، فظاهر القضية التي كان لها حكم معين في السابق، قد ينطبق على قضية أخرى ولكن هذه القضية الأخرى ذات نفس الظاهر، قد تستلزم حكما جديدا لوقوعها في ظل المعادلات الحاكمة على سياسات نظام ما، واقتصاده ونظمه الاجتماعية، أي أن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تجعل نفس موضوع القضية الأولى ينطبق في الظاهر على موضوع القضية الثانية، يستلزم حتما حكما جديدا. فالمجتهد يجب أن يكون محيطا بالقضايا المعاصرة، ولا تستسيغ الجماهير والشباب وحتى العامة أن يقول مرجعها الديني ليس لي رأي في القضايا السياسية”([59]).
وهذا ينطبق على موضوعة المرأة، حيث كما أسلفنا الذكر فإن وضع الحكومات فيما بعد الخلافة الراشدة أطر العمل السياسي على الرجل فضلا عن المرأة وابتعد الكثير من الفقهاء عن العمل السياسي وعزلوا أنفسهم عن الاجتماع وأصبحت النظرية الدينية مقتصرة على العبادات وبعض الأمور الفردية أو أن الفقيه أصبح موظفا في البلاط وبالتالي تأثرت رؤيته الفقهية بما يريده الحاكم ليجير بذلك أحكام الشريعة لصالح بقاءه رغم استبداده على الناس فيبرر الواقع ويخدر الشعب دينيا من خلال هؤلاء الفقهاء فكان النصيب الأكبر في العزل عن الحياة السياسية للمرأة، وجاء المجتهدون بعد ذلك ليدرسوا حركة الأئمة في هكذا ظروف فلم يأخذوا في حسبانهم مسألة الزمان والمكان التي طرحها الإمام الخميني مما أدى إلى وقوع المحظور في إقصاء السياسة عن الدين أولا ومن ثم عزل المرأة عن هذا العمل ثانياً.
خاتمةٌ
ومما سبق يتبين الأسباب الجوهرية التي تكمن وراء الجمود الذي أحاط بحركة المرأة بعد عهد النبوة وما تعرضت له المرأة بشكل خاص من إجحاف جاء حصيلة فهم الدين من الفقهاء الموكلين بعملية استنباط الأحكام الشرعية الخاصة بالمكلف.
لذلك نجد حاجة ملحة في كافة المذاهب الإسلامية لإيجاد حركة تجديد لعملية الاجتهاد تبتعد عن الإفراط والتفريط تتسم بالموضوعية والحيادية والجدية وتستهدف معرفة الواقع الديني والحكم العملي في كل قضية من القضايا، خاصة فيما يتعلق بالمرأة وبالأخص ما يتعلق بدورها وحدوده، ويجب أن تكون هذه الحركة نابعة من الوسط الديني نفسه لما لهذا الوسط من مصداقية يفتقدها غيره بالإضافة إلى عمق نظرته الدينية وسعة وشمولية نظرته وإدراكه لمكامن الخلل في عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام متظافراً في جهوده الاجتهادية مع المثقفين والمفكرين والأكاديميين في كافة التخصصات، حتى يكون الفقيه مطلّعا على كافة التغيرات المحيطة ومظاهرها العلمية، بل نحن بأمس الحاجة إلى علماء لهم القدرة والجرأة في نفس الوقت على مواجهة الموروثات والأعراف الاجتماعية البعيدة عن روح الإسلام، ولا يتم ذلك إلا من خلال التدرج في طرح ما هو جديد والعمل على النهوض بقابليات المجتمع الفكرية والثقافية والدينية لتصبح أكثر قدرة على المراس العملي لما هو جديد بل أكثر تقبلا له حتى لا يتم رفض أي إصلاح من قبل المجتمع بالتالي تضيع الحركة الإصلاحية برمتها بين صراخ الغوغائيين.
ويبقى أيضاً هناك دورٌ كبيرٌ موكلٌ للمرأة نفسها في النهوض بمستوى وَعْيها وإدراكها لذاتها ولدورها في هذه الحياة المترامية الأطراف إضافة إلى قناعتها بقدراتها ومواهبها وعدم خوضها غمار التجربة الحياتية ومتطلباتها خاصة في المجال الثقافي والفكري، إلا بعد أن تقف على ارض صلبة في المعرفة وبناء الذات وأن تنطلق من روح العدالة والاتزان بحيث تمارس كافة أدوارها باتزان دون أن يطغى دورا على آخر وأن تراعي في ذلك الحدود الشرعية الثابتة في الحشمة والحجاب لكي لا تعطي الذرائع للمتربصين بها لمنعها باسم الدين أن تمارس حقها الذي فرضه الدين ولكن فرضه وفق أسس وشروط إن لم تتوفر استخدمن كذريعة لإقصائها ومنعها، إذ أن الشريعة الإسلامية فرضت الحجاب والحشمة على المرأة للخروج خارج المنزل لتمارس دورها الريادي في قيادة المجتمع على كافة المستويات حتى لا تكون المعول الذي يهدم في وقت رسم لها الإسلام صورة مشرقة في بناء المجتمعات الإنسانية بناءً متوازناً على أسس قيمية وأخلاقية تقودها العفة وتنهل من نبع الحياء روافدها.
______________________________
([1]) الذخائر 153 تاريخ ابن خلدون، ج١، ص ٧، الهيئة العامة لقصور الثقافة،
([2]) راجع: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ؛ الجاحظ السخاوي ص١٠٠
([3]) تلك أمم قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. البقرة ـ ١٣٤
([5]) كتاب البحث العلمي، أساسياته النّظرية وممارسته العملية ـ المبحث الأول تعريف النّموذج، ص ٢٨٨.
([8]) Daniel Lerner (1917 ـ 1980) [1] was an American scholar and writer known for his studies on modernization theory. Lerner’s study of Balgat Turkey played a critical role in shaping American ideas about the use of mass media and US cultural products to promote economic and social development in post ـ colonial nations.[citation needed] He، along with Wilbur Schramm and Everett Rogers، were influential in launching the study and practice of media development and development communication.
([9]) https://www.wiziq.com/…/509789 ـ محاضرة ـ 5 ـ نظريات ـ الاتصال ـ ppt
([11]) أثر العرف في فهم النصوص د.رقية طه جابر العلواني
([12]) د. مشاعــل عبد العزيــز الهاجــري، نظرية القانون
([13]) د.رقية طه جابر العلواني، مصدر سابق
([14]) مصادر التشريع الإسلامي: ص124.
([15]) د.رقية طه جابر العلواني مصدر سابق.
([16]) الفقه المقارن ـ محمد تقي الحكيم
([17]) سلم الوصول: ص322 نقلا عنهما)
([18]) (مصادر التشريع: ص124)
([19]) (المصدر السابق، والظاهر أن الاستدلال به كسابقه للأستاذ خلاف) .
([20]) (مصادر التشريع: ص125) .
([21]) د.رقية طه جابر العلواني ـ مصدر سابق
([22]) د.رقية طه جابر العلواني ـ مصدر سابق.
([23]) الشهيد محمد باقر الصدر ـ دروس في علم الأصول ـ دار التعارف ـ ص 256
([24]) الاجتهاد والتجديد ـ إبراهيم العبادي ـ دار الهادي ـ ص 14
([26]) الشهيد محمد باقر الصدر ـ مصدر سابق ـ ص 250
([27]) الفقه والاجتهاد عناصر التأصيل والتجديد والمعاصرة ـ د.علي رضا فياض
([28]) د.علي رضا فياض ـ مصدر سابق
([29]) الموافقات الجزء الرابع ص 114
([30]) الملا محمد كاظم الخرساني، فقيه وأصولي ومرجع تقليد للشيعة، وزعيم ديني وسياسي في عهد الحركة الدستورية.
([32]) عالم دين وفيلسوف إسلامي ومفكر، وعضو مؤسس في الثورة الإسلامية في إيران، ومن المنظّرين للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
([33]) الاجتهاد والتجديد ـ دراسة في مناهج الاجتهاد عند الامام الخميني والشهيدين المطهري والصدر ـ إبراهيم العبادي ص76 ـ دار الهادي
([34]) فلسفة الفقه دراسة في الأسس المنهجية للفقه الاسلامي ـ محمد مصطفوي ص 72 ـ اصدارات مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي
([36]) ابراهيم العبادي ـ مصدر سابق ـ ص 28
([37]) أبو الحسن، السيد محمد بن الحسين بن موسى، ويلقب بالشريف الرّضي، شاعر وفقيه من فقهاء بغداد، وإمام من أئمة العلم والحديث والأدب، وهو الذي جمع نهج البلاغة.
([38]) من كبار العلماء الشيعة المسلمين، وأعيان الطائفة وهو أول من صنّف في علم الدّراية عند الشيعة، وأول من كتب الشرح المزجي في الفقه الشيعي.
([39]) الفقه والاجتهاد ـ عناصر التأصيل والتجديد والمعاصرة ج1 ـ د.علي رضا فياض ـ مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي
([40]) رجل دين ومرجع وفيلسوف شيعي مسلم، ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية عام 1979م.
([41]) من بيان الإمام الخميني إلى المراجع والعلماء والحوزات العلمية ـ رجب 1409 ه ـ 1989م
([42]) مرجع ديني شيعي مسلم، ومفكر وفيلسوف إسلامي عراقي، يعد من أبرز مؤسسي حزب الدعوة الإسلامي، له مؤلفات عديدة أهمها الأسس المنطقية للاستقراء. تم إعدامه من قبل نظام الإجرامي نظام الطاغية صدام حسين بتهمة العمالة والتخابر مع الخارج.
([43]) الشهيد محمد باقر الصدر ـ بحوث اسلامية ـ دار الكتاب العربي ص 65
([44]) السيد محمد باقر الصدر ـ الاتجاهات المنستقبلية لحركة الاجتهاد، مجلة الغجير (بيروت) العدد الأول(ديسمبر 1980 صفر 1401 ه)
([45]) إبراهيم العبادي ـ مصدر سابق ـ ص 29
([46]) الشهيد محمد باقر الصدر ـ المدرسة القرآنية ـ ص 98 ـ دار الكتاب الاسلامي
([47]) فلسفة الفقه ـ دراسة في الاسس المنهجية للفقه الاسلامي ـ محمد مصطفوي ـ ص 152 ـ مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي
([51]) الشهيد محمد باقر الصدر ـ الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد
([52]) معاصر، مفكر إسلامي عراقي.
([54]) اقتصادنا للشهيد محمح باقر الصدر ص 404
([56]) إبراهيم العبادي ـ مصدر سابق
([57]) مرجع وعالم دين مسلم من لبنان، ومن رموز حركة إصلاح التراث الإسلامي
([58]) مقالات المؤتمر الرابع، ص 283، 1986م ـ 1407هـ
([59]) الإمام الخميني ـ من بيانه إلى المراجع والعلماء والحوزات العلمية ـ رجب 1409 هجرية ـ 1989م