أحدث المقالات

أ. نبيل علي صالح(*)

الخلاصة

في التاريخ مواقع وأفكار وذكريات تبقى مع الزمن في حركته وسيرورته المستمرة، لا تغيِّرها الأيام، ولا تؤثِّر فيها السنون؛ كونها ترتبط في العمق بقِيَم ومُثُل عليا جاءت بها الرسالات والأنبياء، ملبِّيةً نداء الفطرة عند الإنسان في سَعْيه الدائب وبحثه الدائم للوصول إلى الكمال الممكن له. وهو كمالٌ يتطلب وجود نماذج عملية حيّة يراها المرء أمامه فكراً وحركةً، فيقتدي بها، ويسير على خطاها، ويستلهم منها الدروس والعِبَر على كلّ المستويات والصُّعُد الخاصة والعامة.

وفي تاريخنا الإسلامي ـ الذي هو في أساسه تاريخ الرسالة الإسلامية، التي شكَّلت من خلال قِيَمها وأخلاقياتها وأحكامها وسلوكيات رموزها الكبار جوهر حركة الناس ومحور وجودهم وحياتهم ـ مثَّل أئمة أهل البيت^ مشهداً ناصعاً بارزاً للإسلام المحمدي الأصيل، وامتداداً للرسالة في حركة الزمان، بل كانوا نجوماً زاهرةً ساطعة يُستَهْدى بها في ليالي الزمان والحياة.

وفي بحثنا هذا سنتحدَّث بإسهابٍ وتدقيقٍ وصفيٍّ تحليليٍّ عن حياة وفكر أحد أئمّتنا الأطهار، وهو الإمام الحسن×، سبط الرسول الكريم|، وابن أمير المؤمنين الإمام عليّ×، حيث سنحاول تقديم صورةٍ، تدّعي الوضوح الفكري والتحليل الموضوعي، عن مجمل حياته التاريخية التي عاش فيها الأصالة الرسالية والعمق الإنساني والوَعْي السياسي العملي، خصوصاً تحليلنا لحقيقة «إشكالية» صلحه مع معاوية، الذي بقي في وَعْي الكثيرين صلحاً مثيراً للقلق، ومحفِّزاً للكثير من الهواجس والتساؤلات النقدية حتّى أيامنا هذه.

أوّلاً: التاريخ بين رؤيتين

تاريخ الأئمّة كثابتٍ موضوعيّ

التاريخُ ليس حالةً جامدة، ولا صخرة صلبة صامتة، ولا واقعة أو حَدَثاً مرّ في حركة الزمن، وانقضى وقته، وانتهَتْ مفاعيله. التاريخُ روحٌ مستمرّة، وتحوُّلاتٌ وذكريات متواصلة، نتجَتْ عن حركة الإنسان في محيطه خلال الزمان. والتاريخُ أيضاً دروسٌ وعِبَر دائمة، وآفاقٌ متحرّكة مفتوحة على وَعْي القِيَم والمبادئ العليا التي جسَّدَتْها كثيرٌ من شخصيات التاريخ ورموزه ورجالاته الكبار في مواقع الفعل والحضور والتحدّي. والتاريخُ أيضاً حكايا وقصص الناس العاديين الذين عاشوا مراحل زمنية تاريخية سابقة، في سَعْيهم وحركتهم وسِجالاتهم وتفاعلاتهم وصراعاتهم للعيش والتواجد الفاعل والمنتج في بيئتهم ومحيطهم البشري والطبيعي، في مدى استثمارهم لمواردهم وإمكاناتهم وقدراتهم الذاتية، في ما قدَّموه وأنتجوه من رأسمالٍ بشريّ مادّي وتراثٍ معنويّ وقِيَمي وثقافي، بقي يعيش ويتحرّك في واقع المجتمعات والحضارات، وفي مختلف تطوّرات حياة الناس الوجودية المستقبلية.

ولكنّ التاريخَ أيضاً هو تاريخُ قادةٍ وأئمّةٍ ورجالاتٍ عظامٍ مقدَّسين، كانوا نماذج عليا ومنارات سامقة في الفكر والمعرفة والعطاء القِيَمي الإنساني النبيل، أرادهم الله تعالى أن يكونوا في مواقع القدوة والأسوة للبشريّة في كلّ ما يتعلّق بالحياة، في آدابها ومبادئها وقِيَمها الإنسانية على مستوى التعامل الحقّ والسلوك المجتمعي البشريّ الصحيح المتوازن.

ولكنْ كيف يمكننا، نحن أبناء العصر الحاضر، أن نستحضر أحداث التاريخ وشخصيّاته؟ بمعنى كيف يمكن التعامل الإيجابي الفعّال والمنتج مع مواقع التاريخ ورموزه؟

في الواقع، بالنسبة إلى تاريخنا الإسلامي، وهو موضوع دراستنا هذه، يرى المدقِّق والمراجع له وجودَ إشكالية حيوية يثيرها الأسلوب والسبيل المنهجي والعملي في طبيعة التعاطي مع قضايا هذا التاريخ (وبكلّ ما يحتويه من أحداث وذكريات، وبخاصّة منها ما يتعلق بالرموز والشخصيات والقادة المؤثِّرين) في كثير من مفاصله الهامة، من خلال أنه ينطلق ضمن أجواء ضاغطة تتأسَّس على رؤيةٍ ضبابية مختنقة في الجانب الذاتي من التاريخ النظري والعملي، في ما هو الاستغراق (المنتفخ) ـ إذا صحّ التعبير ـ في داخل الساحة التاريخية، والمعبّأ بكلّ ذاتيات هذا التاريخ الزاهي والمتألّق، في التركيز على الصيغة التاريخية الميكانيكية الخطابية الجامدة التي لا تنتج إلاّ الانحراف والتحريف في الفكر والممارسة، والفقر في الاغتناء المعرفي الحضاري والإنساني.

وطالما أننا نتحدّث عن تاريخنا العربي والإسلامي، الذي يختزن الماضي في أحد أبعاده، فإننا نعتقد أن الحديث عن الماضي ـ والبحث العلمي الموضوعي في حيثياته ومضامينه الواقعية ـ لا يعني مطلقاً أننا نريد «سَحْب» تجربة الماضي إلى الحاضر، وفرضها عليه بالقوّة، بل المسألة ترتبط بحركة الثابت والمتغيِّر في بُعْده الزماني، الذي هو كلٌّ متفاعل ومتكامل مع حركة كلّ الموجودات الأخرى، على أساس أننا نريد أن نحلِّل التاريخ الماضي بحَسَب قضاياه وأهدافه وإنجازاته؛ ليكون لنا كسبنا العاقل الهادف، وتاريخنا الفاعل الذي نصنعه بفكرنا وعلمنا وكسبنا الحياتي، يقول تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 134). وهو تاريخٌ ينبغي لنا أن ندرسه بوَعْيٍ متفتّح، وذهنيّة متبصّرة، ونحاول إخراجه من دائرة الجمود في قوالبه الجاهزة والمعدّة مسبقاً في إطارات معيّنة، لنطلقه في الدائرة الموضوعية الثابتة كأساسٍ من أسس بناء النهضة الإسلامية المنشودة، وإنجاز مشروعنا (ووَعْينا) الحضاري الإسلامي.

من هذا المنطلق تتحدّد أمامنا مسألة مهمّة جداً، وهي أننا عندما نريد دراسة سيرة الأئمة^ ـ وهم أئمّةٌ معصومون مقدَّسون في البُعْد الديني ـ فإنه يجب علينا أن نعي حقيقة الزمن الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي عاشوا فيه، وكانت تعاصره تجربتهم فكراً وعملاً، وطبيعة ممارساتهم وأعمالهم وإنجازاتهم وعطاءاتهم ومواقفهم؛ وذلك بهدف الاستفادة المباشرة منها في الحاضر والمستقبل، باعتبارهم أئمة القلوب والحياة، وليسوا أئمة الأجهزة والأجساد. الأمر الذي يلزمنا مُسْبَقاً بضرورة التعاطي مع هذا البُعْد الزمني التاريخي من موقع العبرة والدرس العقلي، وبحسٍّ موضوعيّ هادف، بما يجعلنا ننفتح على كلّ حياة الأئمّة^، لا على أساس أنهم رجالٌ معصومون فقط، (تماماً كما يفعل الكثيرون من خلال تقديس الأشخاص وتضخيمهم من جهةٍ، وتغييب منهجهم ورسالتهم وأفكارهم من جهةٍ أخرى)، ولكنْ أيضاً على أساس أنهم رجالُ حياةٍ رساليّين وعمليين، كانوا أصحاب منهج حياة وعمل وطروحات فكرية وتنظيم اجتماعي إنساني هادف لبناء الواقع على قِيَم الرسالة الإسلامية، قِيَم الحقّ والعدل والحرّية، وعلى أساس أنهم رموز يمثِّلون أطروحةً قيادية أصيلة، سياسياً واجتماعياً وفكرياً؛ حيث إننا نريد أن نستفيد من أفكار الأئمّة^ وقِيَمهم ـ ونستلهم رسالتهم المقدّسة، ونعي أدوارهم وفكرهم الرسالي الإنساني ـ في حجم الأبد والإنسانية كلّها، لا في حجم اللحظة المحدودة والآنية الزائلة، بما يسهم في إنماء بواعث الحركة الفكرية والحضارية الفاعلة لأمّتنا الإسلامية في حركتها الراهنة في دائرة الصراع الحضاري، في ما يمكن أن يقدِّمه (تراثنا وفكرنا الإسلامي النقي والأصيل الذي مثَّله أئمّتنا^ من إضاءاتٍ متنوّعة في خطّ الرسالة والفعل الثقافي الإنساني المنفتح والمنتج، وهو أمرٌ مشروط بالوَعْي النقدي لهذا التراث التاريخي؛ لنكون قادرين على صياغته كمشروع استنهاض حضاريّ للمستقبل..

في دراستنا هذه سنسلّط الضوءَ الفكري والمعرفي التحليليّ على أحد رموز ورجالات وقادة هذا التاريخ والتراث الإسلامي، الذي عاش في مفصلٍ هامّ حَرِجٍ ومتشابكٍ من تاريخنا الإسلامي وتاريخ أهل البيت^ بالذات، وهو الإمام الحسن بن عليّ المجتبى×، الذي أحاطَتْ بحياته× الظروف الصعبة والتحوّلات السياسية المعقّدة، بما يستدعي دراستها وتدقيق بعض محطّاتها ومعطياتها وحيثياتها التي التبست على الكثيرين، حيث عانى الإمام من خلال ذلك الالتباس وسوء الفهم (وبعضه كان مقصوداً وممنهجاً بطبيعة الحال) من المظلومية التاريخية في أمور ونواحي عديدة، وخاصةً لجهة واقعة صلحه× مع معاوية بن أبي سفيان، والتي حاول من خلالها بعض الجَهَلة والكَذَبة إيهام الناس بأنّ الإمام الحسن× رجلَ سلامٍ، وليس رجل حربٍ، وأنه رجلُ مساوماتٍ، ولهذا تنازل لمعاوية، ووقَّع معه اتفاقيّة استسلامٍ، وليس اتفاقية سلام!

إذن كانت المرحلة التي استلم فيها الإمام الحسن× مهامّه كإمامٍ للأمّة، بعد استشهاد والده أمير المؤمنين الإمام عليّ×، حافلةً بالتوتّرات، ومشحونةً بالفتن والمؤامرات والتناقضات، ومليئةً بالصراعات السياسية والرؤى المتضاربة الناجمة عن بقاء عقول الجاهلية الأولى مسيطرةً على كثيرٍ من الوجهاء والزعامات وقيادات الأمّة، ممَّنْ سيطرَتْ عليهم نزعة حبّ الدنيا والتملّك والتسلّط على الآخرين، بما يعني أن المعاناة بدأَتْ مع إمامنا× منذ اللحظات الأولى لتسنّمه قيادة الأمّة التي أوصى له بها جدّه الرسول الكريم|، حيث جاء عن الإمام عليّ×: «يا بنيّ، إنه أمرني رسول الله| أنْ أُوصي إليكَ وأدفع إليكَ كتبي وسلاحي، كما أوصى إليَّ ودفع إليَّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمُرك إذا حضركَ الموتُ أن توصي بها إلى أخيك الحسين×»([1]).

وبعد استشهاد أمير المؤمنين الإمام عليّ×، في المسجد، على يد عبد الرحمن ابن ملجم، خطب الإمام الحسن× خطبةً قال فيها: «أيّها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني فأنا الحسن بن محمدٍ رسول الله|، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير…، إلخ»([2]).

وبعد ذلك قام ابن عبّاس ودعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا وبايعوه، قائلين: «ما أحبَّه إلينا وأحقَّه بالخلافة»([3]). وبلغ عدد المبايعين للإمام الحسن أكثر من أربعين ألف إنسان([4]).

وهكذا بدأت فترة إمامة الإمام الحسن×، والتي يمكن تقسيمها إلى مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى: بعد شهادة أبيه× واستلام الإمام الحسن× الخلافة لمدّة سبعة أشهر؛ والمرحلة الثانية: هي فترة أو مرحلة الصلح مع معاوية إلى حين شهادته المباركة.

وسنحاول دراسة هاتين المرحلتين، وعموم حياة وفكر الإمام الحسن×؛ لنستخلصَ العِبرَ والدروس التي يمكن أن تصلح لحاضرنا الذي نعاني فيه من وجود تحدِّياتٍ كبرى ذاتية وموضوعية فرضَتْ أثقالها، وركَّزَتْ قواها على مستوى السياسة والاقتصاد والواقع الثقافي وغيرها؛ وأنْ نقف بوَعْيْ في النّهاية أمام ما كان يميز تلك الفترة التاريخية الخطيرة، التي تصارعت فيها تيّاراتٌ وقوى سياسية واجتماعية كثيرة، كان هَمُّ غالبية أصحابها ورموزها الوصول إلى مواقع القوّة والنفوذ، حتّى على حساب رسالة وقِيَم الإسلام نفسه.

ثانياً: الإمام الحسن(عليه السلام) في مهد النبوّة، أخلاق الرسالة الأصيلة

وعندما نأتي لندرس ونحلِّل حياة إمامنا الحسن× فإن علينا أن ندخل إلى مناخه النفسي الداخلي، حيث أنه وُلِد في حضن الرسالة وبيت النبوّة ومهبط الوحي([5])، الأمر الذي هيّأ له أجواء ومعايير وخصائص التربية الروحية والأخلاقية الرسالية الرصينة، التي تجلَّت في سلوكه النبيل وتعامله الإنساني الرفيع، مع نفسه ومع الآخرين.

وقد ظهرَتْ نتائج وآثار هذا الإعداد التربوي والتهيئة الروحية السامية (التي تلقّاها من جدّه الرسول الكريم وأبيه أمير المؤمنين) في مستقبل الدعوة الإسلامية، وفي عمق أحداثها وتحوُّلاتها الجسام.

لقد عاش الإمام الحسن× مسؤولية الرسالة الإسلامية في كلّ مراحل حياته، وعندما أصبح شابّاً كان يقف دَوْماً إلى جَنْب أبيه الإمام عليّ× في كلِّ ما يقول ويقرِّر ويفعل ويتحرّك وينطلق، فاشترك معه في جميع حروبه، وواجه كلّ مواجهاته وصراعاته مع القاسطين والمارقين والناقمين على الدولة و«فكرة» الإمامة. وكانَ× يتوجَّع ويعاني مما كان يعانيه والده×، من مصائب ومحن، ويتألّم لآلامه، وخصوصاً أنه كان يرى بأمّ عينيه كيف كان معاوية يبثّ دعاته ودعاياته وأضاليله، ويغري القادة من جيش أبيه بالأموال والمناصب، حتّى أنه فرَّق أكثرهم. وبعد استشهاد الإمام عليّ× بقي الحسن× ـ وهو الإمام مفترض الطاعة وواجب الاتباع ـ وحيداً في مواجهة تلك الأعاصير بين المتخاذلين وفلول الخوارج المارقين وتحدّيات القاسطين.

إن الأحداث والصراعات والحروب والفتن التي عايشها الإمام الحسن×، منذ أيام والده الإمام علي×، أكسبَتْه خبرةً ووَعْياً، وأعطَتْه قدرةً عملية على النفاذ إلى الحقائق، ومعرفة كيفية التعامل مع الوقائع والأشخاص والتيّارات. وهذه الخبرات لا تأتي إلاّ بالتجربة والمعايشة والمماحكة. وهذا ما توفَّر له من خلال أنه شارك في كثيرٍ من أحداث الفترة التاريخية التي كان فيها والده الإمام عليّ× حاكماً للدولة، وقائداً للأمّة، وعلى رأسها أحداث ووقائع الصراعات والحروب التي شارك فيها أيضاً إمامنا الحسن إلى جانب والده’، في حروب البصرة والنهروان وصفّين، التي اندلعت لإخماد نيران الفتن؛ حرصاً على الإسلام والمسلمين.

كان الإمام الحسن×، إذن، ملتصقاً بوالده أمير المؤمنين الإمام عليّ× في كلّ حركاته ومواقفه وتحدِّيات حكمه السياسية والأمنية والاجتماعية المعروفة. وكان والده× يعتمد عليه في إنجاز كثيرٍ من أعماله، وتنفيذ خططه وبرامجه وتوجيهاته؛ لأنه كان محلّ ثقته بعلمه وخبرته وعقله وروحيته وإخلاصه ولباقته. وكان الناس يسألون عليّاً× عن كثيرٍ من الأمور والشؤون والقضايا المتعلِّقة بالإسلام في طبيعة أحكامه ومفاهيمه فكان× يشير إلى ابنه الحسن أن اسألوه، فلديه ما يحلُّ مشاكلكم، ويعرِّفكم الحقّ كما هو. وهنا يروي لنا كبارُ ثقات التاريخ ومحدِّثيه وكَتَبَته كثيراً من الروايات والأحاديث حول عمق روحانيته وعبادته وعظمة أخلاقه وسموّه ونبله وطهارته ونقائه، فها هو الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين× يصف الإمام الحسن× بكلّ دقّةٍ وإيجازٍ بليغ: «كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم، وأفضلهم؛ كان إذا حَجّ حَجّ ماشياً، وربما مشى حافياً؛ وكان إذا ذكر الموتَ بكى، وإذا ذكر القبرَ بكى، وإذا ذكر البعثَ والنشورَ بكى، وإذا ذكر الممرَّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العَرْضَ على الله (تعالى ذكره) شَهِق شَهْقةً يُغشى عليه منها. وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربِّه عزَّ وجلَّ، وكان إذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله تعالى الجنّة، وتعوَّذ به من النار»([6]).

ويُروى عنه× أنه كان إذا دخل المسجد، ووقف ببابه مُستأذِناً، رفع رأسه، وقال: «إلهي ضيفُك ببابك، يا محسنُ، قد أتاك المسيء، فتجاوَزْ عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك، يا كريم»([7]).

ومما يحدِّثنا التاريخ أيضاً عن سموّ أخلاق الحسن× أن رجلاً شاميّاً رآه راكباً، فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن× عليه، وتبسَّم، وقال: «أيُّها الشيخ، أظنُّكَ غريباً، ولعلّك شبَّهت، فلو استعتبتَنا أعتبناك، ولو سألتَنا أعطيناك، ولو استرشدتَنا أرشدناك، ولو استحملتَنا حملناك، وإنْ كنتَ جائعاً أشبعناك، وإنْ كنتَ عرياناً كسوناك، وإنْ كنتَ محتاجاً أغنيناك، وإنْ كنتَ طريداً آويناك، وإنْ كانَ لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرَّكْتَ رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كبيراً»، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفةُ الله في أرضه، اللهُ أعلمُ حيث يجعلُ رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوكَ أبغضُ خلق الله إليَّ، والآن أنتَ أحبّ خلق الله إليَّ، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم([8]).

إنّ هذا الوَعْي والموقف القرآني الكبير الذي عبَّر عنه الإمام الحسن× استند إلى روحٍ رسولية وقرآنية مطهَّرة تشبَّع بها، وتسري فيه، في كلّ حركة وجوده. ومَنْ غير أهل البيت يلتزمون ويطبِّقون ويمثِّلون أجمل تمثيل خطّ القرآن في سياق حياتهم وعلاقاتهم ومعائشهم؟! يقول تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فُصِّلت: 34)، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (البقرة: 237).

وهذا الموقف الإنساني الرسالي النبيل يفترض أن يشكِّل بالنسبة إلينا في هذا العصر، وفي كلّ عصرٍ، درساً تاريخيّاً مهمّاً وبليغاً، على مستوى ضرورة اتباع هذا النهج المتين، وتمثُّل قِيَم هذه الأُسوة الحسنة التي جسَّدها أئمة أهل بيت النبوة^ في كلّ مجالات الحياة، من خلال أن نتحرَّك بوَعْي ما تحرَّكوا، وننفتح إنسانياً كما انفتحوا على الحياة والإنسان كلِّه.

وبالنظر إلى ذلك يمكننا أن نقول بأنّ الإمام الحسن× جسَّد واقعاً أصالة الحال النبوي والعلوي والفاطمي في كلّ حركةٍ من حركاته، وفي كلّ سكنةٍ من سكناته. وكان ـ في كلّ حالاته الروحية ـ نموذجاً ومثلاً أعلى في عبادةِ الله والإخلاص له، والعمل الدائم والدؤوب لنيل رضاه.

وعن الإمام عليّ بن موسى الرضا’، عن آبائه، قال: «لمّا حضرت الحسن بن عليّ بن أبي طالب الوفاة بكى، فقيل له: يا بن رسول الله، أتبكي ومكانك من رسول الله| الذي أنتَ به، وقد قال فيكَ رسول الله| ما قال، وقد حجَجْتَ عشرين حجّة ماشياً، وقد قاسمْتَ ربَّكَ مالك ثلاث مرّات حتّى النعل والنعل؟! فقال×: «إنّما أبكي لخصلتين: لهَوْل المَطْلَع وفراق الأحبّة»([9]).

ثالثاً: دَوْر الإمام الحسن(عليه السلام) في الحياة الإسلاميّة

الولاية الحَقّة وصلح الخيار الصعب

قلنا سابقاً: إنّ الإمام الحسن× تولّى إمامة المسلمين ورئاسة الدولة وقيادة الأمة بعد استشهاد أبيه المرتضى×، في الواحد والعشرين من رمضان سنة 40هـ، وكان× في السابعة والثلاثين من عمره الشريف. ودليلُ إمامته: ما نصَّه أمير المؤمنين× على خلافة ابنه الحسن الزكيّ، حيث سلَّمه مواريث النبوة؛ ولاحقاً اجتمع عليه أهل الكوفة وجماعة المهاجرين والأنصار وبايعوه بالخلافة، بالإضافة إلى توفُّر جميع متطلّبات الخلافة فيه، من العلم والتقوى والورع والشجاعة والحزم والجدارة. وهكذا تسابق الناس إلى بيعته في الكوفة والبصرة، كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه×. وحين بلغ نبأ البيعة معاوية وأتباعه ومريديه انطلقوا يعملون بكلّ ما يملكون من أدوات المكر والخديعة والدهاء؛ للتشويش على بيعة الحسن، ومحاولة إفسادها، وإيقاف تمدُّدها وشعبيتها الجارفة.

قام معاوية ـ وهو الحاكم الطاغية الباغي والمعتدي([10])، وغير الشرعيّ الذي حوَّل الخلافة إلى ملكٍ عَضُوض ـ بمحاولاتٍ كثيرة لكسب ودّ الزعامات والوجوه المؤثِّرة في الرأي العام وسَيْر الأحداث في داخل العراق وخارجه، من خلال دفع الأموال لشراء الذِّمَم، وتنويم الضمائر، وتهديد الناس، ومنح العطايا والهدايا، وإطلاق الوعود الرنّانة، وإطلاق مختلف أنواع الإغراءات المادّية والمعنوية.

ولتنفيذ سياسته الماكرة تلك عمل معاوية على تشكيل جماعاتٍ وشبكاتٍ واسعة من الجواسيس والعملاء وخَوَنة الضمير والدِّين، في شتّى أرجاء الدولة، وخاصّة في العراق. ولكنْ سرعان ما انكشفَتْ تلك السياسة الماكرة والخبيثة، حيث وجدنا أن الإمام الحسن× يرسل رسائل عديدة إلى معاوية (الرجل الخارج عن شرعيّة القانون وإجماع الأمّة والمسلمين) يدعوه فيها إلى وجوب الامتثال للبيعة، وترك سياسة المؤامرات، والتخلّي عن عقلية التفرُّد والانشقاق، والالتزام بموجبات الانتماء الشرعي للأمّة. ولكنّ معاوية كان يرفض باستمرارٍ الخضوع لمنطق البيعة وإجماع الأمّة، معتبراً أنه رجلُ القيادة الأوّل، بل إنه حاول إغراء الإمام الحسن× بأن ينضوي تحت جناحه، على أن تكون الخلافة له من بعده.

لكنّ الحسن× رفض هذا التصوُّر والوَعْي الزائف، وأجاب معاوية ـ على أحد كتبه ورسائله ـ ببلاغةٍ تنمّ عن إصرارٍ وحَزْمٍ شديدين: «أمّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك، تذكر فيه ما ذكَرْتَ، وتركْتُ جوابك خشية البَغْي، وبالله أعوذُ من ذلك، فاتَّبِعْ الحقَّ تعلم أنّي من أهله، وعليَّ إثم أنْ أقولَ فأكذب… والسلام»([11]).

وبالنظر إلى ما تقدَّم، كان من الطبيعي أن يزداد الموقف بينهما تباعداً، وبالتالي حدّةً وتوتُّراً، وأن تبقى أجواء التوتُّر مشحونةً وقائمةً؛ ليحدث الصدام الحَتْمي بين فصيلين وطرفين: طرفٍ يحظى بشرعية القانون وإجماع الأمّة روحياً ومعنوياً ودستورياً؛ وطرفٍ ثانٍ فاقدٍ للشرعية والإجماع، ما عدا ما كان يعتبره ويعتقد به من شرعية القوّة والبطش والفساد والتضليل وشراء الذِّمَم والضمائر. هؤلاء فقط كان معاوية (ممثِّل وزعيم الطرف الثاني) يحظى بموافقتهم وإجماعهم، حيث كانت تصلهم الهدايا وصُرُر المال والهبات والرشاوى، وكلّها كانت منهوبةً من بيت مال المسلمين. إنهما خطّان ومنهجان مختلفان ومتناقضان في التفكير والوَعْي والسلوك والمقاصد العليا؛ أحدهما إمامٌ للقلوب؛ والآخر يريد أن يكون إماماً للأجساد!

ويظهر أمام أيّ مراجعٍ للتاريخ، وخاصّة تاريخ تلك الفترة، أنّ الإمام الحسن×  ـ وإنْ بدا مقتنعاً بضرورة القضاء على رأس الفتنة والإفساد والبَغْي ـ لم يستبعد خيار الحوار ومنطق التفاوض من ذهنه، بالرغم من معرفته الكاملة والدقيقة والعميقة بطبيعة وماهية أصحاب هذا النهج الدنيوي وأغراضهم وغاياتهم القائمة على الغدر والخيانة والتآمر على البلاد والعباد؛ إلاّ أنه حاول أن يتعاطى مع مجريات الأحداث والتحوُّلات المتسارعة بما يتناسب مع ما نشأ وتربَّى عليه من أخلاقيات وفضائل وتقوى في كنف جدِّه وأبيه وأمّه^، وخصوصاً أنه إمام الأمّة وممثِّل الرسالة في مواقع القيادة الأولى، وبالتالي لا بُدَّ أن يدرس ويستنفذ كلّ الخيارات والإمكانات والسُّبُل الممكنة والمتاحة، سلميّةً كانت أم حربيّةً، لمواجهة أيّ خَلَلٍ أو ترهُّلٍ أو صراعٍ «فتنوي» داخل الأمّة يستهدف رسالتها وقِيَمها الرسالية الرصينة والمعيارية، كالحقّ والعدل.

في هذا السياق قام الإمام الحسن× بدعوة معاوية للكفّ عن سياسة الدسّ والفتنة، والامتناع عن أساليب العدوان والظلم والتجاوز، وطلب منه إعلان الطاعة للحكومة الشرعية، ممثَّلةً بولاية الإمام الحسن×. ولكنْ ـ وكما هو متوقَّعٌ ـ رفض معاوية بيعة الإمام الحسن، معلناً انشقاقه عن إجماع الأمّة، وممتنعاً عن الاستجابة لدعوة الحقّ والشرعية، فكتب ردّاً على دعوة الإمام الحسن قائلاً: «إنّ أمري وأمرك شبيهٌ بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله|»([12])، بما يعني أنّ معاوية أغلق باب الحوار، ورفض الخضوع للإجماع، وألزم الجميع بالاحتكام لطريق القوّة ولغة العنف، والإصرار على إنهاء الأزمة بحدود السيوف وأنصال الحراب!

طبعاً لم يكن معاوية في نفاقه ودَجَله، وفكره المنحرف، وعدائه لرسالة الإسلام، وسلوكه العدواني المتسلِّط، وعمله الدائم على إعادة إحياء مظاهر الجاهلية الأولى، لم يكن هذا الرجل غريباً عن وَعْي الإمام الحسن×، لكنّ الإمام أراد أن يقيم الحجّة كاملةً، قبل إعلان الحرب على معاوية، فكان يكتب إليه ـ كما قلنا ـ المرّة بعد الأخرى، يدعوه إلى ضرورة الاحتكام للشرعيّة والقرآن وجمع كلمة المسلمين وتوحيدها، ولكنّ معاوية كان يكرِّر الرفض على الدوام، بحيث إنه لم يترك للإمام أيّ عذرٍ أو حجّة.

بعد ذلك، بدأ كلُّ طرفٍ يحشد عسكريّاً وسياسيّاً ضدّ الطرف الآخر، وخصوصاً بعد ورود أنباء للإمام عن وجود تحرُّكات أمويّة باتجاه العراق، حيث كان معاوية قد طلب قبل ذلك من زبانيته وجماعاته وعمّاله في الولايات الإسلامية تعبئة المقاتلين والجُنْد وإرسالهم إليه؛ لكي يستغلَّ الأوضاع المضطربة في العراق، ويبدأ بالهجوم على الكوفة، ويسقط حكومة الإمام الحسن×، في حال فشل مخطَّطه الرامي للسيطرة على الخلافة بأساليب المكر والدهاء التي عُرِف بها، الأمر الذي دفع الإمام الحسن ـ بعزيمةٍ صلبة ـ لتحشيد القوى، وبدء الاستعدادات لمواجهة العدوان والتمرُّد والانشقاق على الدولة، وذلك في اللحظة الحاسمة. وها هو× يذيع للناس أوّل بيانٍ من بياناته التي يدعوهم فيها للاستعداد لمواجهة العدوان، وحشد طاقاتهم وإمكاناتهم في سبيل الدفاع عن الدين ورسالة المسلمين، التي يريد معاوية إسكات ممثِّلها الشرعي وصوتها النبويّ المتمثِّل في إمامة الحسن×، وإعادة المجتمع إلى عصر الجاهلية حيث العصبيّات والاحتكام للقوّة وهيمنة الغرائز الأولى، بما يعني أنه يريد القضاء بصورةٍ نهائية على آخر خطوط الدفاع عن قِيَم الإسلام ومبادئه الجوهريّة. يقول×: «أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وسمّاه كُرْهاً…»، ثمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين: «﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، فلَسْتُمْ، أيُّها الناس، نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون… اخرجوا، رحمكم الله، إلى معسكركم بالنخيلة؛ حتّى ننظر وتنظروا، ونرى وتروا»([13]).

ولكنّ الناس والأصحاب لم يستجيبوا أو يلبُّوا للأسف نداءَ ودعوة الإمام×، بل ركنوا وسكتوا ووقفوا موقف التخاذل من قائدهم وإمامهم مفترض الطاعة، والذي سبق لهم أن بايعوه وعاهدوه عندما طلب منهم أن يخرجوا معه لقتال معاوية الباغي والطاغي والمنشقّ عن الصفّ الإسلامي، بما كان يستدعي إزاحته وإزالة غطاء شرعية القوّة والغصب التي كان يتغطّى بها.

ولا بُدَّ لنا هنا من الوقوف قليلاً؛ لنوضّح أسباب هذا الابتعاد والتقاعس والانكفاء عن تلبية نداء الحسن× ودعوته الناس للجهاد معه، وتحمل مسؤولياتهم التاريخية وواجبهم الشرعي الديني في الذَّوْد عن حياض الإسلام والمسلمين!

في الواقع هناك عوامل أساسية نظنّ أنها أسهمَتْ بقوّةٍ في وصول الأمر إلى هذا المستوى المنحدر والخطير من تفشّي اللا أُبالية وانعدام المسؤولية الرساليّة عند الناس، وتثاقلهم (عن النهوض إلى حدّ العجز في مواجهة دسائس ومخطّطات معاوية)، وانغماسهم في ملاحقة ما تدنّى من أغراض وغايات وطموحات دنيوية محدودة زائلة([14]). ومن هذه العوامل والأسباب: الحالة العامّة التي كانت مهيمنةً على المجتمع الإسلامي آنذاك، وهي حالة التشتُّت والضياع والانقسام وتفشّي الصراعات والفتن؛ حيث إن هذا المجتمع قد أُنهك من الحروب والمؤامرات، ودفع أثماناً باهظة في هذا الطريق، وهو يبحث عن استقرارٍ سياسيّ واجتماعيّ حقيقيّ، وهذا المجتمع ذاته هو الذي أنتج وأفرز جيش الإمام الحسن×([15])، الذي كان سيسير به لمواجهة جيش معاوية.

وبالعودة إلى الفترة التاريخية التي حَكَم فيها أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب× نجد أنّ سلوك أهل الكوفة معه آنذاك في أواخر خلافته ورئاسته للدولة كان يعكس عجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم ومواثيقهم تجاه الولاية لعليٍّ×، وعدم مقاومتهم وصمودهم في حربٍ يمكن وصفها بأنها كثيرةُ الشبهات، بالنسبة لهم طبعاً، وطويلة الأَمَد، ومعدومة الغنائم.

ويبدو أن هذه الأجواء ذاتها تكرَّرَتْ لاحقاً مع الإمام الحسن×، حيث أظهر أهل الكوفة مجدَّداً أنهم لا يريدون قتال معاوية، ولهذا بدأ الحسن× يفكِّر مليّاً في جدوى ومآلات حربٍ غير مكتملة العناصر لتحقيق النصر، ومعدومة شرائط التواجد الفاعل والحاسم من جهة الحكومة الشرعية، التي لم تكن تملك جيشاً قويّاً متماسكاً ومتوازناً يدافع عن شرعيّة حضورها في جسم الأمّة.

لقد كان واضحاً أن الإمام الحسن× كان يملك القوّة المعنوية والروحية والرغبة العملية في حسم المعركة ميدانياً ضدّ معاوية وجيشه، ولكنه كان يعي في الوقت نفسه تآكل مقوّمات النصر المادية في صفوف جيشه ومجتمعه، وقبلها كان يدرك أيضاً أن للحرب تَبِعاتٍ سلبيّةً وأثقالاً وتكاليف باهظةً ينبغي تحمُّلها في ظل ظروف معقّدة وصعبة، وإنهاكٍ مجتمعيّ كبير عاشَتْه الأمّة آنذاك، بما يعني أن المجتمع لن يكون قادراً على تحمُّل عبء صراعٍ حربيّ جديد سيكون مُكْلِفاً جدّاً. ولكنْ لمّا كان مجتمع الكوفة غيرَ راغبٍ أصلاً بسلوك طريق الحرب ـ وهو أساساً غيرُ قادر على إدراك حقيقتها ومغزاها واشتراطاتها وفلسفتها ـ فلا يمكن (عند ذلك) أن نتوقَّع من الإمام الحسن× أن يعلن حرباً بمفرده، أو حتّى ببضعة آلاف من الجند غير الأوفياء والضعفاء في معنوياتهم، والمتثاقلين في حركتهم، والمذبذبين في انتمائهم، مزَّقتهم الأهواء والشهوات، وشتَّتَتْهم الدعايات المضلِّلة التي كان يقوم بها معاوية وزبانيته، الذين كانوا يركزون على استغلال نقاط الضعف في خصومهم، واستغلال كلّ ما من شأنه أن يوهن العزيمة، ويكبِّل الإرادة، ويشلّ القوى فيهم.

وفي هذا المجال يتحدَّث الإمام الحسن× عن هذا الموضوع مُحلِّلاً وشارحاً، في نصٍّ تاريخي عميق الدلالات الفكرية والعملية، يبين مدى حرص الإمام الشديد على الإسلام والمجتمع الإسلاميّ في كلّ خطوةٍ كان يخطوها، ويشرح طبيعة التغيُّرات التي جَرَتْ على المجتمع والناس آنذاك، حيث هيمنة الهوى وسطوة الدنيا، ويحذِّر الناس من مغبّة البقاء في مستنقعات الذلّ والهوان، ويحثّهم على العودة إلى الله، وإظهار ولائهم للرسالة الإسلامية وقِيَمها، وأن هذه المسؤولية تقتضي الدفاع والقيام والتضحية، لا الوقوف في موقع وموقف التخاذل والضعة والهوان، يقولُ×: «إنّا والله لا يثنينا عن أهل الشام شَكٌّ ولا نَدَمٌ، وإنّما كنّا نقاتل أهلَ الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجَزَع. وكنتُم في مسيركم إلى صفِّين دينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليومَ ودنياكم أمام دينكم. ألا وقد أصبحتُم بين قتيلين: قتيل بصفِّين تبكون عليه، وقتيلٍ بالنهروان تطلبون ثأره، وأما الباقي فخاذلٌ، وأما الباكي فثائرٌ. ألا وإنّ معاوية دعانا لأمرٍ ليس فيه عزٌّ ولا نصفةٌ؛ فإنْ أردتُم الموتَ ردَدْناه عليه، وحاكمناهُ إلى الله عزَّ وجلَّ بظُبى السيوف؛ وإنْ أردتُم الحياةَ قبلناه، وأخَذْنا لكم الرضى، فناداه الناس من كلّ جانبٍ: البقيّة البقيّة، وأمضى الصّلح»([16]).

وهذا النصّ واضحٌ في معانيه، وكاشفٌ عن عمق الوَعْي التاريخي للإمام الحسن، الذي نجد لديه رغبةً وتأكيداً على ضرورة ووجوب شنّ الحرب ضدّ القاسطين. أما ما كان يمنعه عن سلوك طريق الحرب، ويدفعه خطوةً إلى الوراء؛ لعدم المباشرة باستخدام القوّة ضدّ معاوية، فهم الناس من مجتمع الكوفة، ممَّنْ تثاقلوا ورفضوا القيام والنهوض والمضيّ وراء الإمام×. وقد ألمح الإمام الحسن× إلى هذه النقطة في قوله: «رأيتُ هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون»([17]).

ويذكِّرنا هذا الموقف بمواقف سابقةٍ كثيرة([18])، أشار إليها الإمام عليّ×، نذكر منها قوله×: «والله، إني سلمتُ الأمرَ لأنّي لم أجِدْ أنصاراً، ولو وجدْتُ أنصاراً لقاتلتُه (يقصد معاوية) ليلي ونهاري، حتّى يحكم الله بيننا وبينكم»([19]). ويبدو أنّ هذا النوع من التعاطي السلبي ـ من قِبَل الجماهير ـ مع قياداتها (التي لا تتَّخذ أيّ إجراءٍ ضدّها) يُعَدّ أمراً نادراً في أدبيّات العمل السياسي، حيث جَرَت العادةُ أن يعاني الناس ويدفعوا تكاليف كبيرة جرّاء أهواء قياداتهم وسلوكياتهم وأوامرهم وهَوَسهم بالسلطة والنفوذ، ولكنّ الأمر هنا، عند الإمام عليّ والإمام الحسن’، هو معاناتهم من جماهيرهم، والشكوى شبه الدائمة من تقاعس الناس وتخاذلهم، وحديث الأئمّة× الدائم عن «قلّة الناصر والمعين»، في سابقةٍ تاريخية ملفتةٍ للغاية!

نعم، هنا تتظهَّر أمامنا إشكالية «اجتماعية ـ سياسية» كبرى، رُبَما كان من النادر حدوثها في حركة تاريخ الأمم والشعوب، وهي أن زعيم الأمّة أو القائد (والإمام مفترض الطاعة) هو الذي يتوجَّع ويعاني ويشتكي من شعبه ومجتمعه وجماهيره التي انتخبَتْه وبايعَتْه طَوْعاً على كلّ شيء، حرباً وسلماً، ولكنها لم تلتزِمْ ولم تنفِّذْ أيّ شيءٍ مما سبق أن عاهدَتْ عليه، بل تراها تتمرَّد وترفض قرار الإمام× في استعادة المبادرة، والدفاع عن الإسلام بمعناه الرسالي المحمديّ الأصيل.

وهكذا بدأت المحنةُ تتفاقم، وتتسارع أحداثُها وتحوُّلاتها، وانطلق معاوية         ـ الذي كان قد عرف مواطن الضعف الحقيقية في جيش إمامنا الحسن× ـ راسماً في ذهنه خطّةً جديدة، تتمحور حول عقد اتّفاقِ صلحٍ مع الحسن×، والاستجابة للشروط التي يريدها. وإذا ما برزَتْ معارضة الإمام الحسن لتلك الخطّة فإن أحبولةً ودسيسة جديدة كانت يجري حياكتها ونسجها حول قادة جيش الإمام والمبرَّزين فيه، بحيث ستكون كافيةً لإسقاط هذا الجيش ـ المضعضع أساساً ـ من فوره.

ويذكر الرواة أن معسكر النخيلة كان يستقبل الوافدين إليه من الكوفة؛ للانضمام إلى الجيش، الذي تحرَّكت طلائعه لملاقاة جيش الشام، وكانت حناجر الخطباء الصافية قد بُحَّتْ وهي تستنهض وتحرِّض العامّة، وتلهب بهم الحماس للالتحاق بالطلائع الزاحفة([20]).

ولكنّ الذي حَدَث ـ وكان الإمام قد توقَّعه ـ هو أن بوادر القلق والفتن والاضطرابات بدأت تنطلق وتتحرَّك مفاعيلها وتأخذ مجراها إلى جيش الكوفة، الذي كان يعجّ بالمنافقين والمتاجرين من أصحاب (ما يمكن أن نسمِّيه في عصرنا الراهن) ثقافة «الاسترخاء والتعب». وكانت الشائعة الكاذبة التي أطلقها معاوية ـ وبدا أن جيش الإمام الحسن المُنْهَك والهَرِم كان ينتظرها بفارغ الصبر؛ إذ إنه فقد الإحساس الحقيقي الذاتي بحرارة الرسالة، مفضِّلاً الاسترخاء والاستكانة على العمل الرسالي في الدفاع عن قِيَم الإسلام ـ تقوم على «أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فلِمَ تقتلون أنفسكم…»([21]). وسرَتْ هذه الشائعة بين صفوف الجيش الحَسَنيّ سريان النار في الهشيم؛ فبين مصدِّقٍ لها؛ وآخر مكذِّب؛ وبين مَنْ يحاول إثباتها… ولم يحاول القائدُ عبيد الله التأكُّد من كذب هذه الشائعة، وبُعْدها عن الواقع؛ لأنّ الإمام الحسن× كان مشغولاً ـ في تلك الأثناء ـ ببَعْث الرُّسُل إلى الأطراف، وتهيئة الكتائب اللاحقة بالطلائع، ومكاتبة معاوية بالحرب، وبعث الحماس بخطبه اللاهبة المحرِّضة على القتال، ولم يكتب في صلحٍ، ولم يكن من رأيه ذلك([22]). وكان القائد عبيد الله أوّل مَنْ تأثَّر سَلْباً بتلك الشائعة، وخضع لها، وخصوصاً بعد أن وصلته رسائل([23]) معاوية، وهي تحمل في داخلها شتّى ألوان المُغْرَيات([24]).

وهكذا بدأَتْ ـ مع استجابة القائد الخيانية لنداء معاوية ووقوعه في حبائل كذبه ومغرياته ـ مظاهرُ التفكُّك والتشرذم بالظهور على السطح، والإمام الحسن× لا يزال على موقفه الصلب والمتماسك ضدّ معاوية، والرسل لا تزال تأتي من المدائن بقرب تحرُّك الإمام نحو المعركة الفاصلة.

وتصل أنباء استسلام عبد الله لعدوِّه إلى المدائن، ويشيع جوٌّ من المحنة في النفوس، كما هو الحال في مسكن، ويشعر الإمام بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس إليه، وأخصّهم به، وتتسرَّب إليه أنباء عن مكاتبة بعض رؤوساء الأجناد والقوّاد لمعاوية، وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والمواعيد. ويقف الإمام أمام هذه النكبات والمحن المتتالية متطامناً على نفسه، ناظراً في أمره، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة؟([25]).

هذا كلّه دفع الأوضاع إلى مرحلة الخطر، وبدء اشتعال شرارة الصدام، وخاصّة عندما عرف الإمام بحقيقة العدد الكبير لجنوده ممَّن فرّوا والتحقوا بجيش معاوية، وهو رقمٌ وصل إلى حدود ثمانية آلاف رجل. إنه رقمٌ كبير، بل مفزع([26]).

وإذا أخَذْنا بعين الاعتبار أن التعداد العامّ لجيش الكوفة لم يكن أكثر من اثني عشر ألف رجل يمكننا تفهُّم حجم تلك الصدمة الكبيرة والمرارة النفسية الصعبة التي عاشها الإمام الحسن×.

وهو رقمٌ لا يعدل شيئاً ـ في حجم القوّة المادّية العددية ـ تجاه عدد جيش معاوية، الذي وصل حدود ستّين ألف مقاتل، يضاف إليهم ثمانية آلاف رجلٍ من جيش الإمام الحسن× كان قد فرّوا والتحقوا بمعسكر جيش معاوية.

وهكذا، فإنّ الإمام الحسن× عاش ظروفاً صعبة ووقائع مريرة في التجهيز لقتال معاوية، بل أصبح في موقفٍ محيِّرٍ وموقعٍ صعبٍ للغاية، وبدأ جدّياً يفكِّر بأسلوبٍ مختلف، أي بدأ بالبحث عن مخرجٍ مناسب لهذا المأزق والأزمة الخطيرة التي تسارَعَتْ تداعياتها السلبيّة ضدّه بالذات، حتّى وصلَتْ إلى قوى جيشه في المدائن. فهل يستمرُّ في تمسُّكه الشديد بمنطق إنهاء الفتنة والأزمة في ساحة الحرب أم أنه لن يجد  ـ وهو الإمامُ المعصوم والحاكمُ الشرعيّ البصير برسالة أمّته وواقعها، والحريصُ كلّ الحرص على مجتمعه، والمؤتمنُ على الناس والموارد والثروات ـ سبيلاً إلاّ اتخاذ قرار الصلح مع معاوية؛ اتقاءً لنار فتنةٍ وصَوْناً وحَقْناً لدماء المسلمين؟!

أجل، إن الخيار، والقرار الذي سيعقبه، صعبٌ، بلا شَكٍّ! ولكنّ الإمام الحسن× لم يكن في وارد تبنّي أيّ قرارٍ قبل قيامه باختبار نوايا جيشه، والتأكُّد من حقيقة بصيرة ووَعْي هذا الجيش، وكشفه أمام مرآة ذاته، وإزالة أقنعته المزيَّفة([27])؛ ليظهر ـ كما هو في حقيقته ـ جيشاً محطّماً مشتّتاً منهزماً، غير قادرٍ على مواجهة تحدّيات أمّته وتحمُّل مسؤولياته في الذَّوْد عن مبادئ الرسالة التي كان يمثِّلها آنذاك إمامهم الحسن×!

في هذا المفصل الخطير وقف الإمام الحسن× خطيباً أمام جيشه: «ألا وإنّ معاوية دعانا لأمرٍ ليس فيه عزٌّ ولا نصفةٌ، إنْ أردتُم الموتَ ردَدْناه عليه، وحاكَمْناه إلى الله عزَّ وجلَّ بظبى السيوف، وإنْ أرَدْتُم الحياة قبلنا، وأخَذْنا لكم الرضا… فناداه الناس من كلّ جانب: البقيّة البقيّة، وأمضى الصلح»([28]). وهنا يمكن أن نكتشف ماهيّة الواقع الحقيقي للجيش، الذي ادّعى قادتُه أنهم جندُ الإمام الحسن× المطيعون والمضحّون. فالجيش الذي يطلب الاسترخاء والراحة، ويرضى بالبقاء أسير الاستكانة والخنوع، من خلال طلبه الإمضاء على الصلح مع معاوية، ليس جيشاً عقائدياً رساليّاً للأسف، ولا يصلح أن يتسمَّى بكونه جيش الإمام الحسن×.

وبالإضافة إلى معاناة الإمام من هكذا جيشٍ مفكّك منتهك القِيَم الرسالية، فقد كان الإمام الحسن× يشتكي دَوْماً من مجتمع الكوفة نفسه (وهو الحاضن الفعلي لجيشه). وها هو× يتحدَّث في كلمةٍ عن أحوال هذا المجتمع، وذلك الجيش المتهالك، يقول×: «كرهْتُ الدنيا، ورأيْتُ أهلَ الكوفة قوماً لا يثقُ بهم أحدٌ إلاّ غُلب، ليس أحدٌ منه يوافق الآخرَ في رأيٍ ولا أهواء، مختلفين، ولا نيّةً لهم في خَيْرٍ ولا شرٍّ، لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً، فليت شعري لمَنْ يصلحون بعدي، وهي أسرع البلاد خراباً»([29]). إذن، كيف يثق الإمام الحسن بأهل مدينةٍ تملك سجلاًّ أسود وخلفيّةً تاريخيةً مظلمةً في التعاطي السلبيّ مع أمير المؤمنين الإمام عليّ×، وهي قد خذلَتْه في أكثر من منعطفٍ تاريخي حاسم، سواء في موقعة صفِّين أو في ما بعدها؟!

هذه هي إذن أجواء ما قبل صلح إمامنا الحسن× مع معاوية، وعلى هذه الخلفية كانت تتحرّك طريقه. وهي خلفيّةٌ تاريخية إشكالية، يجب تدقيقها ودراستها موضوعيّاً في حجم القضايا والظروف الصعبة والمقعدة التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي آنذاك، بحيث إن هذا كلّه هو الذي جعل الإمام× يختار هذا السبيل الوحيد الباقي أمامه؛ اتقاءً لشرور الحرب التي كان سيخسرها حَتْماً بمعايير الواقع المادّي، في ظلّ وجود جيشٍ منهزم نفسيّاً في داخله قبل أن تقع المعركة، وها هو يعبِّر عن ذلك بقوله: «ما أرَدْتُ بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيْتُ تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال»([30]). وبالنظر إلى وجود دَعَواتٍ لمتابعة الحرب من قِبَل بعض أنصار وأصحاب الإمام الحسن×([31]) وقف× قائلاً: «يا قوم، قد ترَوْنَ خلاف أصحابكم، وأنتم قليلٌ في كثير، ولئن عُدْتُم إلى الحرب ليكونن أشدّ عليكم من أهل الشام، فإذا اجتمعوا وأهل الشام عليكم أفنوكم. واللهِ، ما رضيتُه، ولا هويتُه، ولكنّي مِلْتُ إلى الجمهور منكم؛ خوفاً عليكم»([32]).

وصل الإمام الحسن إلى قناعةٍ بصعوبة ـ أو رُبَما استحالة ـ النصر على معاوية، مع بروز وتزايد الصعوبات والمعيقات والموانع العسكرية والاجتماعية والنفسية السلوكية لدى أتباعه وشيعته بالذات؛ فالمناخ الاجتماعي العامّ غير مستعدٍّ لتحمُّل أعباء الحرب التي تفرض مناخاتٍ وأجواء يفقد الناس معها وضوح الرؤية، ويعجزون عن تحديد حقائق الأشياء؛ وجيش الإمام× ـ كما قلنا ـ مختَرَقٌ وضعيف ومشتَّت الأهواء، بما يعني أن مواجهة جيش معاوية الجرّار والمدرَّب بهكذا جيشٍ مهزومٍ نفسياً وغير وفيٍّ أو مخلصٍ لقيادته ستعني الانتحار الحقيقي.

انطلاقاً مما تقدَّم، قرَّر الإمام الحسن× مباشرةً الصلح مع معاوية، وابتدأ عامٌ جديد، أطلقوا عليه عام الجماعة. وكان الأولى أن يُسمّى، كما قيل، بعام المحنة أو عام الخيارات الصعبة.

وهذا «الصلح» الذي أبرَمَه الإمام الحسن× مع معاوية قد أحاطه الإمام× بشروطٍ مهمة، تسلِّط الضوء على أصل الخلاف والشقاق الذي وقع في جسد الأمّة، وتجعل الإمام× في موقع القوّة دائماً، ومعاوية في موقف الضعف، سواء على المدى القريب أو البعيد، وسواء وفى معاوية بشروط الصلح أم لم يَفِ بها؛ حيث إن عدم الوفاء سيفضح معاوية ويعرِّيه، ويشكِّل انتصاراً لخطّ أهل البيت× على المدى البعيد.

طبعاً لم تذكر لنا المصادر التاريخية ـ بحَسَب ما يقول العلاّمة السيد محمد جواد فضل الله([33]) ـ نصّاً صريحاً ومتناسقاً لكتاب الصلح، الذي يعتبر الوثيقة التاريخية لنهاية مرحلةٍ من أهمّ مراحل التاريخ الإسلاميّ في عصوره الأولى.

ولا نعرف سبباً وجيهاً لهذا الإهمال.

وقد اشتملَتْ المصادر المختلفة على ذكر بعض النصوص، مع إهمال بعضٍ آخر.

ويمكن أن يؤلّف من مجموعها صورة الشروط التي أخذها الحسن على معاوية في الصلح، وقد نسَّقها بعضُ الباحثين وأوردها على صورة بنودٍ عديدة، هي:

1ـ أنْ يعمل معاويةُ بكتاب الله وسنّة رسول الله|، وسيرة الخلفاء الصالحين.

2ـ ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحدٍ من بعده عَهْداً.

3ـ الناس آمنون حيث كانوا، في العراق والشام والحجاز وتهامة.

4ـ أمان الشيعة وأصحاب عليٍّ× على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.

5ـ أن لا يبغي للحسن، ولا لأحدٍ من أهل بيته، غائلةً، سرّاً وعلانيةً، ولا يخيف أحداً منهم.

6ـ أن تكون الخلافة للإمام الحسن× من بعده، فإنْ حَدَث به حَدَثٌ فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد بها لأحدٍ.

7ـ أن لا يسمِّيه أمير المؤمنين.

8ـ أن لا يقيم عنده شهادةً.

9ـ أن يضمن نفقة أولاد الشهداء من أصحاب الإمام عليّ×.

10ـ تركُ سبِّ الإمام عليّ×، والعدول عن القنوت عليه في الصلاة.

11ـ أن لا يتعرَّض لشيعته بسوءٍ، ويصل إلى كلّ ذي حقٍّ حقَّه.

طبعاً، لم يلتزم معاوية لاحقاً بأيّ بندٍ من تلك البنود أو الشروط([34])، بل عمل على خلق أجواءٍ سياسية ومجتمعية مضادّة لهذا الصلح، إلى أن دخل الكوفة معلناً خرقه وتحلُّله من تلك المعاهدة، بعد موافقته عليها.

يقول: «إني كنتُ شرطْتُ شروطاً، ووعَدْتُ عدةً؛ إرادةً لإطفاء نار الحرب، ومداراةً لقطع هذه الفتنة؛ فأما إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة، وأمنّا من الفرقة، فإنّ ذلك تحت قدمَيّ. إني والله ما قاتلتكم لتصوموا، ولا لتصلّوا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا؛ إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتُكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم كارهون»([35]).

وفعلاً انطلق معاوية من فوره لتنفيذ مخطَّطه وسياسته المرسومة مسبقاً، والتي بدأها من خلال نقل مركز وعاصمة الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وإطلاق يد جيشه لتشديد قبضته على أهل الكوفة، وإثارة أجواء ومناخات الفَزَع والهَلَع في نفوسهم، وتعميم حالةٍ من التوتر والعنف والإرهاب النفسيّ والسلوكيّ منقطع النظير.

أما الإمام الحسن× فقد تحدَّث في مسجد الكوفة قائلاً: «إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنّة نبيِّه|، وليس الخليفة مَنْ سار بالجَوْر؛ ذلك ملك ملكاً يتمتَّع به قليلاً ثمّ تنقطع لذَّته، وتبقى تبعته، ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾»([36]). ويتَّضح من هذا الخطاب المقتضب البليغ أن الإمام يقدِّم معاوية للناس في العالم الإسلامي بصفته وحقيقته الذاتية، من حيث إنه ملكٌ جائر ظالم مغتصب. كما ويشير في الوقت نفسه ـ كما يروي بعضُ المؤرِّخين في الرواية السابقة ـ إلى أنّه× وأخاه الحسين× هما الشخصان الوحيدان على الأرض اللذان جدّهما نبيّ الإسلام|، يقول×: «إنّ اللهَ قد هداكُمْ بأوَّلنا محمّد، وإنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي، فترَكْتُه لصلاح الأُمّة، وحَقْن دمائها»([37]).

وبالعودة إلى بنود ما يُسمَّى بــ «اتفاقية الصلح»، التي مزَّقها معاوية بمصالحه ونَزَواته وجاهليّته الأولى، فإننا نجد أنّ الإمام أدخل في هذه الاتِّفاقية كلَّ ما من شأنه إنقاذ ما تبقّى من قِيَمٍ ورأسمالٍ وإمكاناتٍ روحيّة ومادّية في الأمّة، وقد نجح× فعلياً  ـ على سبيل المثال ـ في منع معاوية رسميّاً وقانونيّاً من تكريس التداول الوراثي للحكم والسلطة، وهو أمرٌ كان معاوية يتطلَّع دَوْماً إلى ترسيخه وتثبيت أركانه ومواقعه المنهجية السياسية في جسم الخلافة والسلطة كحالةٍ قانونية دائمة.

وقد يقول قائلٌ هنا بأن معاوية قد تمكَّن لاحقاً من فرض ابنه يزيد حاكماً على المجتمع الإسلاميّ بسلاح السيف والقهر والغصب!

وهذا صحيحٌ، ولكنّ الإمام الحسن لم يسمح من خلال الصلح بأن تتحوَّل الخلافة إلى ملكيّةٍ وراثية، حيث تمكَّن من خلال هذا الصلح من كشف ألاعيب معاوية وفضح أساليبه الملتوية المزيَّفة حول السلطة والحكم، كما استطاع إسقاط أقنعة ودسائس الحكم الأموي ـ العائدة في جذورها وأصولها إلى عهد الجاهليّة الأولى التي حاربها بشدّةٍ رسول الله| ومن بعده الإمام عليّ× ـ أمام الناس والرأي العام كله، ومنعه (منع معاوية) من قوننة هذا النَّمَط من الحكم أو الوراثة السياسية، وإثبات الحقّ الشرعي لآل بيت الرسول^ في الخلافة والولاية والحكم الشرعي، وأن معاوية وأصحابه لا يصلحون للحكم وإدارة شؤون الأمّة مطلقاً، وأن طاعتهم لا تجوز أبداً، والدليل هو هذه الممارسات والفعال السيِّئة والمظالم المرتكبة من قِبَلهم بحقّ المجتمع والأمّة ككُلٍّ، والتي بدأ الناس يشعرون بثقلها وقسوتها حتّى قبل استلامهم للسلطة، ولاحقاً زادَتْ وتصاعدَتْ مع اغتصابهم للحكم الشرعيّ، وبدء عهد الظلم والانحراف الكبير.

وفي هذا الوقت بالذات كان بمقدور واستطاعة الإمام الحسن× ـ وتلك الكوكبة من رجالات العهد الإسلاميّ الأوّل، رجالات الرسالة الأوائل ممَّنْ تتلمذوا على يدَيْه× ـ أن يوجدوا في داخل التكوين الثقافي والسياسي للأمّة وَعْياً حركياً معارضاً فاعلاً منتجاً مضادّاً للنهج الأمويّ الجاهلي في الروح والفكر والممارسة. وقد فعلها× مع نجاحه في إبقاء روح الوَعْي والتمرُّد والتغيير حيّةً متَّقدةً ومنافحةً عن الحقّ الإسلامي والحقوق الإسلامية في امتداد الأجيال اللاحقة كلِّها. وهذا هو الأمر الذي تمسَّك به وعمل عليه الإمام الحسن× من خلال الصلح نفسه، وهو أنه كان يريد للأمّة الرسالية (ولخطّ المعارضة فيها على وجد التحديد) أن تبقى للمستقبل، من خلال الأجيال الواعية القابضة بقوّة الوَعْي الفعّال على قِيَم الحقّ والعدل والإنسانية.

ولعلّنا لا نبالغ كثيراً إذا ما اعتبرنا أن ثورة كربلاء (واقعة الطفّ النهضوية) كانت قابعةً بالوجود القويّ (بالقوّة) في قلب ووَعْي الحسن× عند صلحه مع معاوية. أي إنه إذا كان الإمام الحسين× فجَّر ثورته بالدم الزاكي (المسفوح على امتداد كلّ هذه المساحة التاريخية والقِيَمية والحضارية والإنسانية) فإن الإمام الحسن× فجَّر قبله ثورةً صامتة في وجدان الأمّة، مهَّدَتْ الطريق (وهيَّأَتْ الأجواء) المناسِبة لتجذُّر (ونموّ وتعملق) ثورة الإمام الحسين× في واقع الفعل التغييري العمليّ للأمّة.

وقد بدأت الحالة العامّة آنذاك وكأنّ هناك تخطيطاً مدروساً ومنظّماً قام به الإمام الحسن× في ما يخصّ التمهيد الشعوري والفكري والدعائي للأحداث والتحوّلات المفصلية التي كانت ستشهدها الأمّة لاحقاً([38])، وبخاصّة ثورة الإمام الحسين× في كربلاء العزّة والكرامة.

وبالنظر إلى تلك الوثيقة (وثيقة الصلح)، وإلى النتائج الإيجابية الكبيرة التي أفضَتْ إليها ـ على مستوى حفظ قِيَم الرسالة ومصلحة الأمّة ككُلٍّ ـ فقد تناولها وأشار إليها كثيرٌ من الأئمّة^؛ وها هو الإمام محمد الباقر× يتحدَّث عنها قائلاً: «واللهِ، الذي صنعه الإمام الحسن بن عليّ× كان خيراً لهذه الأمّة ممّا طلعَتْ عليه الشمس»([39]). وبالفعل كانَ الخَيْرُ فيها ومنها، رغم ما تبدو ظاهريّاً من أنها لصالح معاوية؛ لأنها فجَّرَتْ في داخل نفوس كثيرٍ من أبناء الأمّة وَعْياً سياسياً، ومعارضةً فكريّة وحركيّة متنامية للنهج الأموي الظالم والمنحرف مع تتابع الأيام والأجيال([40])، جعلَتْ أجيال الأمّة قادرةً على الوقوف الفاعل في وجه الانحرافات والمظالم، وتفعيل نهج الجهاد ضدّها، والمنافحة عن الحقّ الإسلامي في مدى الأيام اللاحقة. كما استثمر الإمام أجواء الصلح الملائمة؛ لنشر فضائل أهل البيت، وتعرية الحكم الأموي من الشرعية، وقام بنشر الوَعْي في صفوف المسلمين، حتّى أصبحوا يميِّزون بين منهجين: منهج الاستقامة على خطّ الرسالة بقيادة أهل البيت^؛ ومنهج الأمويين المنحرف([41]).

وأما في خارج الحكم، وبعد أن وقع الصلح، وقرَّر الإمام الحسن× الخروج من الكوفة نحو المدينة، فقد مارس الإمام كافّة صلاحيّاته ومهامّه الإمامية، حيث كان يرعى ويسعى لتدبير شؤون الناس والمجتمع بكلّ ما كان يحتاج إليه. فهو إمامٌ يعيش عمق مسؤوليات الإمامة والرسالة خارج الحكم، بنفس الروحية والوَعْي والمسؤولية التي تفرض عليه أن يعيشها داخل الحكم. فالقضيّة هنا هي أن تولّي الإمام للسلطة والحكم ليس له من غايةٍ أو غرضٍ سوى إحقاق الحقوق، والإشراف على مسؤوليات السلطة ونشر العدل والأمان بين الناس. وفعلاً قدَّم الإمام الحسن× ـ وهو خارج الحكم السياسي ـ أمثولةً حيّةً للأخلاق والفضائل والقِيَم الإسلامية والعلم الغزير، بحيث إنه استطاع أن يملأ العالم الإسلاميّ بعناصر وسمات شخصيّته الإسلامية الفذّة.

ونحن عندما ندرس هذه الشخصية التاريخية العظيمة، وبعض تفاصيل الحركة التاريخية له× ـ وحتّى لغيره من رجالات تاريخنا العظام ممَّنْ كان لهم تأثيرٌ نوعي إيجابيّ، وحضورٌ فاعل في حركة التاريخ والحضارة الإسلامية ـ فإن الغاية من ذلك كلّه هي أن نرتبط ارتباطاً وثيقاً حقيقياً واعياً بقِيَمهم، ونقتدي بهَدْيهم، ونرسِّخ إيماننا بولايتهم الحقّة، التي ينبغي أن تتجلَّى ـ في علاقتنا بأهل البيت^ ـ في التأكيد على ضرورة الالتزام النوعي بالإسلام الروحي والمفاهيمي كلِّه، في عقيدته وشريعته ومنهجه على مستوى التطبيق العملي في الحياة؛ وأن لا يكون هذا الالتزام والارتباط بأهل البيت^ نَمَطاً أو شَكْلاً من أشكال الالتزام النفسيّ التقليدي، أو نوعاً من الاستغراق في ذواتهم، بعيداً عن مفاهيم الرسالة وحرارة قِيَمها وأصالة الإسلام في الوَعْي، وأن لا يكون التزام الشخص الذي جاء فأعطى ثمّ طواه الزمن في واقع النسيان الأبديّ، بل يعني أن قضية الإسلام كانت هي قضيّة الأئمّة الأولى، والموقع الأساس لحركتهم في الحياة، سواء كانوا في داخل الحكم أو خارجه؛ باعتبار أنهم امتدادٌ طبيعي لرسالة الإسلام، وهم المؤتَمَنون على استكمال مفاعيلها وتطبيق قِيَمها، وأن إمامتهم تمثِّل ـ على الدوام ـ الحضور المتحرِّك للإسلام في مدى الحياة كلِّها، وتمثِّل أيضاً إمامة الإسلام.

ولذلك كان عملُهم الرساليّ متركِّزاً ـ في هذا السياق ـ في أن يجعلوا الناس مرتبطين بالإسلام، ومتمسِّكين بنهجه المتين على مستوى القِيَم والأحكام والمبادئ؛ ليكون الله تعالى هو كلّ شيءٍ في العمق الوجودي للإنسان في الحياة، وأن تكون ولايتنا الصحيحة ـ التي تستمدّ وجودها وتألُّقها وزخمها من الله تعالى ـ هي ولاية اتِّباع أساليبهم، وتمثُّل قِيَمهم، وتطبيق مناهجهم، التي كانوا يؤكِّدون فيها باستمرارٍ على أنه لا يوجد هناك خطٌّ للولاية خارج نطاق الإسلام في طبيعة قِيَمه الفكرية والروحية والأخلاقية.

وهذا هو الأمر الجَوْهري الذي يمكن أن نستهديه ونستوحيه من خلال دراستنا لحياة الإمام الحسن× وفكره. فقد كان الإنسانَ والإمامَ الرساليّ الذي عاش الإسلامَ حركةً دائبة في قلبه وعقله ووَعْيه، والتزم خيار الأمّة في سلوكه السياسي، وقدَّم مصالح الرسالة على كلّ المصالح الآنيّة الخاصّة، وحافظ بعقله وقلبه على أصالة العقيدة ومبادئ الإسلام الصحيح؛ حيث كان× امتداداً رساليّاً طبيعيّاً لحركيّة النبوّة والإمامة، وكان همُّه الأساسي دائماً هو أن تكون كلمة الله تعالى هي العليا.

أجل، هذا هو الإمام الحسن×، خيرُ خَلَفٍ لخير الأسلاف، فسلامٌ عليه يوم وُلِد، ويوم استُشْهِد، ويوم يُبْعَث حَيّاً، مع الملائكة المقرَّبين، والأنبياء والأئمّة المعصومين، والصالحين والقدِّيسين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.

الهوامش

(*) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر العربيّ والإسلاميّ. من سوريا.

([1]) الفضل بن الحسن الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى 1: 207، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1970م.

([2]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 170، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 16: 30 ـ 31، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، ط2، 1967م.

([5]) مهبط الوحي وبيت الرسالة هذا، نشأ فيه وتغذَّى منه الإمام الحسن× غذاء الروح والعقل والوَعْي والقِيَم والفضائل الإنسانية؛ تغذّى من أخلاقِ النبوّة وسماحة صاحبها جدِّه الرسول|، فورث× عنه| هَدْيه وأدبه وهيبته وسؤدده، ممّا أهَّله للإمامة التي كانت تنتظره بعد أبيه×، وقد صرَّح بها جدُّه في أكثر من مفصلٍ ومناسبةٍ وواقعةٍ، حينما قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، اللهمّ إنّي أحبُّهما فأحبَّ مَنْ يحبّهما» (راجع: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 44: 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2008م؛ وراجع: مسند الإمام أحمد بن حنبل 3: 231، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط1، 2001م). كما وتربّى تحت ظلال الوصيّ (الأب) عليّ بن أبي طالب×، وفي رعاية (الأمّ) الزهراء÷، ليأخذ من نبع الرسالة كلَّ معانيها ومعاييرها وخصائصها الذاتية والقِيَمية والنفسية والشعورية، ومن ظلال الولاية كلَّ قِيَمِها، ومن رعاية العصمة كلَّ فضائلها ومكارمها.

([6]) بحار الأنوار 43: 331.

([7]) المصدر السابق 13: 339.

([8]) محمد بن عليّ بن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 4: 19 ـ 20، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1956م؛ وانظر أيضاً: رسول جعفريان، الحياة الفكرية والسياسية لأئمّة أهل البيت^ 1: 115، دار الحقّ، بيروت، ط1، 1994م.

([9]) محمد بن يعقوب الكليني، كتاب الكافي 1: 461، مطبعة الخيام، قم ـ إيران، 1983م.

([10]) من الطبيعي أن نؤكِّد هنا على أننا عندما نتحدّث ونحلِّل «نقدياً» كثيراً من الانحرافات وأعمال الفساد وشنائع الارتكابات والمظالم التي تضجّ بها مسيرة تاريخنا العربي والإسلامي (والتي قام بها أشخاصٌ محسوبون على فرقةٍ من هنا وجماعةٍ من هناك)، سواء كانت انحرافات فكرية أم سياسية أو غير ذلك، فإنّ هذا النقد الذي نسلِّط من خلاله الضوء على مكامن التاريخ الأسود فكراً وأشخاصاً وأحداثاً، ونوجِّهه باتجاه تلك الرموز أو المواقع الدينية والسياسية التاريخية، لا يستهدف وحدة المسلمين بالمطلق، وليس له من غرضٍ سوى البناء الواعي على قِيَم الحقّ والحقيقة الغائبة أو المغيَّبة أو التي أُريد لها أن تُطْمَس بالأضاليل والدعايات والتشويهات، بل نحن نريد التأكيد على أن توحُّد المسلمين ووحدة كلمتهم التوحيدية وتكاملهم ورصّ صفوفهم لن يكون ممكناً (وراسخاً وصلباً) ما لم ينجز المسلمون جميعاً مشروع النقد العلمي والموضوعي لتاريخهم كلِّه، والعمل على مساءلته ومراجعته، مع قناعتنا أن هذا المطلب يقتضي منا أوّلاً أن نعمل على إنتاج مفهوم توحّد المسلمين حول قضاياهم الكبرى، من خلال إنتاج الإسلام المحمدي الأصيل في نفوسهم والتزاماتهم، وأن لا يفكر الشيعيّ شيعيّاً والسنّي سنيّاً، بل أن يفكروا جميعاً بالإسلام كمسلمين، من حيث امتداد الإسلام في مفاهيمه الواسعة، من خلال الصورة القرآنية والصورة النبويّة فيما هو صحيحٌ في السنّة والشيعة. وعندما نتحرَّك على هذا السبيل الموضوعي لا بُدَّ أن ننتج الإسلام وَعْياً نهضوياً، بحيث نعي ونتحسَّس الإسلام في المذهب، ولا نتحسَّس المذهب في الإسلام، من دون إلغاء الانتماءات المذهبية المتنوِّعة التي تشكِّل حالةَ غنىً وإضافةً نوعية طالما استلهَمَتْ قِيَم الحقّ والعدل والإنسانية ومصلحة الإسلام والمسلمين. ونحن عندما نتحرّك ونسير في هذا الطريق سنواجه حَتْماً انحرافاتٍ كثيرةً موجودةً في تاريخ هذا الطرف أو ذاك، والواجب الشرعيّ الأخلاقي والعلمي يلزمنا جميعاً بضرورة التحرُّك لمواجهتها وتعريتها وكشف نقائصها وفضح مسؤوليها، بصرف النظر عن بنيتها الانتمائية الذاتية الطائفية أو المذهبية، فالحقّ أعلى وأوجب أن يتبع ويستهدى به. من هنا، الانحراف أو (التحريف) لا انتماء ولا مذهب له، وهو ليس حالةً شيعيّة، ولا سنّية، ولا حتّى دينيّة إسلاميّة عامّة. الانحراف إرادة فاعل تاريخي مصاب بهَوَس التسلُّط والجفاف الأخلاقي وانعدام الضمير والوجدان الديني. ويزيد أو معاوية مثلاً ـ وغيرهما من طغاة التاريخ وكبرائه الذين أضلُّوا السبيل ـ لا يمثِّلون إسلاماً «سنّياً»، ولا إسلاماً «شيعياً»، وليس لهم من انتماءٍ فعليّ على الأرض سوى انتمائهم إلى أنانيتهم وغرائزيتهم ومصالحهم ومكاسبهم الخاصّة، وانتمائهم إلى حزب «الملك العضوض»، أو حزب الأنانية والهَوَى الشخصيّ. كذلك الإمام الحسن× ليس حالةً شيعية، ولا إماماً شيعياً، بل هو شخصيّةٌ إسلامية، وإمامٌ مسلمٌ يمثِّل الإسلام والمسلمين جميعاً، ولا يختصّ بفئةٍ أو مذهبٍ أو جماعةٍ أو تيّار. ومن هذا المنطلق نقول بأننا معنيون جميعاً ـ سنّةً وشيعةً ـ بنقد وتحليل وعقلنة تاريخنا، وتدقيق كلّ مواقع التشكيك والانحراف فيه، وهي كثيرةٌ بطبيعة الحال، في داخل فكرنا وثقافتنا؛ وأن نعمل على تنقيتها من كلّ ما يشوبها (يشوب مواقع التاريخ) من عصبيّاتٍ وتشويهٍ وانحرافٍ وتزييفٍ وبهتانٍ، وأن لا نخاف في ذلك لومة لائمٍ؛ لأن الحقيقة هي الغاية والمطلب، وقد تكون جارحةً وصعبةً، ولكنّها حَتْماً نافعةٌ ومفيدة، وصالحةٌ للحياة أبداً ومطلقاً.

([11]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 16: 37.

([12]) أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، أنساب الأشراف 2: 31، تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر، دمشق، 1997م.

([13]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 16: 38.

([14]) يحضرني هنا ـ وأنا أكتب هذه الدراسة عن الإمام الحسن× ـ حديثٌ معروفٌ ومشهور عن سيد الشهداء الإمام الحسين× يقول فيه: «الناسُ عبيدُ الدنيا، والدينُ لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّتْ عليهم معايشه، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون». ويبدو أن حبّ الدنيا ـ الذي هو، كما يقول الرسول الكريم|، رأس كلّ خطيئةٍ ـ عندما يهيمن على الناس، ويتعمّق في النفوس والقلوب، يحوِّلهم إلى أدواتٍ لتنفيذ رغبات الجَسَد ومختلف قواه الغضبية والشهوية، بل قد يغيِّرُ من قناعاتهم ورُبَما اعتقاداتهم، ويتحكَّم في خياراتهم، ويحوِّر سلوكياتهم؛ ليصبح هذا الحبُّ الرغبوي الذاتي هو السبب الكامن وراء كلّ ما حدث وما يمكن أن يحدث من كوارث ومصائب وخسائر قد تنـزل بالناس وتحدق بهم في قِيَمهم ومعايشهم وخياراتهم ومختلف مفردات حياتهم. وهذه سُنّةٌ تاريخية وناموس حياتي محقَّق، وقد تحدَّث عنها القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته الكريمة، حدث سابقاً ويحدث اليوم وغداً وفي قادمات الأيام، إذا ما توفَّرَتْ شروطه ودوافعه ومناخاته. والمسلمون الذين عاشوا سابقاً مع الأئمّة الكرام^ ـ وحتّى أصحابهم والكثير من شيعتهم ومواليهم ـ ليسوا بِدْعاً من الناس، وليسوا بمعزلٍ عن الخضوع للدنيا وزخارفها، والوقوع تحت وطأة براثن الشطط والخطأ وارتكاب المحرمات!

([15]) كان جيش الإمام الحسن× مكوَّناً من جماعاتٍ متعدِّدة التوجُّهات والانتماءات والنـزعات والميول العاطفية والعملية، تشكِّل بمجملها خليطاً غير متجانسٍ من البشر، من ذوي الأهواء المتضاربة المصالح؛ لتتجمَّع فيه (في هذا الجيش) نوايا غير سليمة وغاياتٍ خاصّة وأغراض متناقضة، ويمكن تصنيفه ـ بحَسَب كثيرٍ من المؤرِّخين ـ إلى الفئات التالية:

1ـ الخوارج: وهم الذين خرجوا عن طاعة الإمام عليّ×؛ نكثوا بيعته، وحاربوا خطّه، وناصبوه العداء، حتى قتلوه في محراب المسجد وهو يصلّي صلاة الفجر. وهؤلاء وجدوا في الإمام الحسن× حلاًّ وَسَطاً، فانضموا إليه لمحاربة معاوية.

2ـ الفئة الممالئة للحكم الأموي: وانقسمت إلى قسمين، الأوّل: هم الذي كانوا ينتمون إلى مصالحهم الخاصّة، حيث لم يجدوا في حكومة الإمام الشرعيّة ما يرضي مطامعهم، ويشبع نَهَمهم للثروة والجاه الفارغ؛ الثاني: وهو القسم الذي كان يحقد حقداً أعمى على الحكومة الشرعيّة في الكوفة، مقيماً كلّ مواقعه وسياساته على حساباتٍ شخصية ضيقة، بعيدةٍ عن الدين والرسالة.

3ـ الفئة المتأرجحة: وهذه الفئة لم يكن لها أيّ مسلكٍ معيَّن ومستقلّ، وإنما كانت تتحرّك دَوْماً لتأمين سلامتها وخلاصها الفردي، حتّى بالتنسيق والتكامل مع أيّ طرفٍ كان، بصرف النظر عن المبادئ العليا.

4ـ فئة المتعصِّبين والقبلية السياسية.

5ـ الهَمَج الغوغاء.

6ـ القلّة المؤمنة الملتزمة والمخلصة.

([16]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 406.

([17]) أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوري، الأخبار الطوال: 220، تحقيق: عبد المنعم عامر، مراجعة: جمال الدين الشيال، دار إحياء الكتب العربي، القاهرة، 1960م.

([18]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 11: 29.

([19]) المجلسي، بحار الأنوار 44: 147.

([20]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 16: 46.

([21]) المصدر نفسه..

([22]) محمد جواد فضل الله، صلح الإمام الحسن: أسبابه، نتائجه: 74، دار الغدير، بيروت.

([23]) يقول له معاوية في إحدى رسائله: «إنّ الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلِّمٌ إليَّ، فإنْ دخَلْتَ في طاعتي كنتَ متبوعاً، وإلاّ دخَلْتَ وأنتَ تابعٌ». (راجع: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 16: 42).

([24]) طبعاً، لم يكُنْ هذا القائد (عبيد الله بن العبّاس) هو الوحيد الذي فَرَّ إلى معاوية، بل خرج برفقته عددٌ غير قليلٍ من القادة والزعماء والجُنْد.

([25]) السيد محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة 4: 22، دار التعارف، بيروت، 1983م؛ وراجِعْ أيضاً: الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 145، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، بيروت، 1995م.

([26]) يقول اليعقوبي في تاريخه: «إن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن عبّاس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار (وسار) إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد على محاربته». (أحمد بن اسحاق اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي 2: 214، مطبعة مكتبة الغري، النجف الأشرف، 1940م).

([27]) كان جيش الكوفة مكوَّناً من بقايا جيش الإمام عليّ×، ولذلك فقد بدا ـ كما ذكَرْنا في المتن العامّ ـ جيشاً متعباً ومنهكاً من جرّاء الصراعات والحروب التي خاضَها، الأمر الذي جعله يعطِّل كل خطط ودعوات الإمام الحسن× للقتال. ويذكر الرواة أن قادة الجيش كانوا يقابلون دعوة الإمام لقتال معاوية في الشتاء بقولهم: «صبّارة القرّ»، وفي الصيف: «حمّارة القيظ»! تخيَّلوا إلى أين وصلت الأمور بهؤلاء؟!

([28]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 204؛ ورواها أيضاً كلٌّ من: الطبري في تاريخه؛ وابن خلدون في مقدّمته.

([29]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 204.

([30]) أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوري، الأخبار الطوال: 221.

([31]) طبعاً كان هناك أشخاص وأتباع للإمام الحسن× من شيعته ومؤيِّديه، لاموه وعتبوا عليه؛ بسبب توقيعه لوثيقة الصلح مع معاوية، ومن أهمّهم: الصحابيّ الجليل حجر بن عديّ، الذي عُرف بالتقوى والورع والبأس والعلم والفقاهة، وكان من خيرة أعيان رسول الله|، وصحابة الإمامين علي والحسن’. وقد توجَّه حجر في خطابه إلى الإمام الحسن×: «أما والله، لقد ودَدْتُ أنك متّ في ذلك، ومِتْنا معك، ثمّ لم نَرَ هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما أرغمنا بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا»، فأجابه الإمام×: «أني قد سمعْتُ كلامك في مجلس معاوية، وليس كلّ إنسانٍ يحب ما تحبّ، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعَلْ ما فعَلْتُ إلاّ إبقاءً عليكم». (انظر: أحمد بن أعثم الكوفي، كتاب الفتوح 4: 161 ـ 166، تحقيق: علي شيري، دار الأضواء، بيروت، ط1، 1991م). وكان من الأتباع والأصحاب أيضاً عديّ بن حاتم الطائي، زعيم بني طيّ في الكوفة، وكان من الشاكّين في ذلك (الصلح)، فقال له الإمام الحسن×: «يا عديّ، إنّي رأيت هوى معظم الناس في الصلح، وكره الحرب، فلم أُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيتُ دَفْع هذه الحرب إلى يومٍ ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأنٍ». (راجِعْ: الدينوري، الأخبار الطوال: 203). ومنهم أيضاً: مسيّب بن نجبة الفزاري، زعيم بني فزارة في الكوفة، فقال له الإمام الحسن×: «يا مسيّب، إنّي لو أرَدْتُ بما فعلتُ الدنيا لم يكن معاوية بأصبر منّي عند اللقاء، ولا أثبت منّي عند الحرب، ولكنّي أرَدْتُ صلاحَكم وكفَّ بعضكم عن بعضٍ؛ حتّى يستريحَ بِرٌّ أو يُستراح من فاجرٍ». (راجِعْ: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 4: 8).

([32]) محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2: 268، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1965م.

([33]) السيد محمد جواد فضل الله، صلح الإمام الحسن: أسبابه، نتائجه: 125.

([34]) يورد البلاذري (صاحب كتاب أنساب الأشراف) ما مفاده: إن معاوية لم يلتزم بأيٍّ من التعهُّدات التي تعهَّد بها على نفسه أمام الإمام الحسن×، وأمام جماهير المسلمين، بالعكس قام بقتل خيرة الصحابة (حجر بن عديّ)، ولم يعهد بانتخاب الخليفة إلى شورى المؤمنين، وفرض ابنه يزيد والياً وأميراً على الناس من بعده، وفوق ذلك ارتكب جنايةَ قتل الإمام الحسن× بعد أن دسّ السمّ له في طعامه. عن كلّ هذا يتحدَّث الحسن البصري ـ في هجاء وفضح أفعال معاوية، وقتله حجر بن عديّ ـ قائلاً: «أربع خصالٍ كُنَّ في معاوية، لو لم تكن فيه إلاّ واحدةٌ لكانت موبقةً: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتّى أخذ الأمر من غير مشورةٍ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة؛ واستخلافه بعده ابنه يزيد سكّيراً خمّيراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير؛ وادّعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله|: «الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر»؛ وقتله حجراً، فيا ويلاً له من حجرٍ، ويا ويلاً له من حجرٍ وأصحاب حجر». (راجِعْ: ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 242؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 16: 193).. ويبدو لنا أن تلك الارتكابات المشينة لم تكن مَحْضَ صدفةٍ شخصية، أو نزوعاً مؤقَّتاً، بل كانت سياسةً منظَّمة وممنهجةً وراسخةً في وَعْي ولا وَعْي معاوية وعموم النهج الأموي، لها قواعدها وأسسها وركائزها عندهم، والتي يمكن ضبطها في ما يلي:

1ـ اعتماد معاوية على عناصر فاسدة مفسدة ومجرمة ذات سجلّ أسود، وغير ملتزمة بأيّ قيمةٍ إسلامية، بحيث إنها كانت لا تحسب حساباً سوى لمصالحها ونَزَواتها، وكانت تحقِّق ذلك بكلّ الطرق والأساليب الملتوية وغير الشرعية، وعلى حساب مصالح الأمّة وثرواتها ومواردها.

2ـ مطاردة القيادات والصحابة الشريفة والمؤمنة في شتّى أنحاء ومواقع الأمّة، ومحاولة استرضائها أو القضاء عليها، معنوياً أو عضوياً، فقط لأنها قيادات تنتمي لخطّ أهل البيت ولمنهج الرسالة المحمدية الأصيلة المتناقضة في العمق مع الخطّ والمنهج الأموي.

3ـ التضييق والضغط الرمزي والمادّي على عموم شيعة الإمام عليّ×، بالقوّة والكبت والتضليل، وإثارة أجواء القلق والاضطراب الدائم بين صفوفهم، حتّى وصل الأمر إلى هدم دُورهم وتشريدهم من مساكنهم، ونهب أموالهم وأرزاقهم والقضاء على محاصيلهم وثرواتهم، وإعطائها نحلةً لزبانية الخطّ الأموي وعملائه ومرتزقته.

4ـ محاولة شراء ذِمَم (وأصوات وضمائر) الوعّاظ والدُّعاة الموالين للسلطة المركزية، وتحريضهم على تشويه تاريخ وصورة الإمام عليّ× ـ وعموم أهل البيت^ ـ بين الناس، وقيامهم بسبّ وشتم وصيّ الرسول وخليفته وصهره أمير المؤمنين× على منابر الجوامع والمدارس الدينية والمجالس الخاصّة والعامّة، إلى جانب اختلاق الأحاديث ووضع الروايات وتحريف الأسانيد وتلفيق السِّيَر التي تمدح معاوية وحزبه وخطّه.

5ـ إنفاق ثروات الأمّة وموارد المسلمين، وتضييع حقوق الناس وتبذيرها على الشهوات والغرائز، في أماكن اللهو والفجور والطغيان النفسي، وشراء الذِّمَم، وبذل الأموال الطائلة في سبيل إخضاع الزعامات والقيادات القبلية، وزيادة انحرافها، وكسب تأييدها وولائها، واتّقاء شرورها الممكنة.

([35]) البلاذري، أنساب الأشراف 2: 46؛ أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: 44، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

([36]) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: 47.

([37]) المصدر السابق: 48.

([38]) لقد استطاع أهل البيت^ ـ في تنوعُّ مهمّاتهم وأدوارهم الرسالية التي أدُّوها والتزموها في كلّ تاريخنا الإسلامي ـ النفاذ إلى عمق الأحداث والظروف الاجتماعية والسياسية التي مرَّتْ على الأمّة. كما قاموا بدراسة الظروف والأحداث وتحليل معطياتها واستيعاب ملابساتها واستخلاص العِبَر والدروس منها، بما يضمن استمرارية الرسالة في الأمّة، ويحفظ لها كلّ مقومات النهوض والارتقاء الرسالي الإنساني. وهذا الأمر هو الذي اختلط على كثيرٍ من الباحثين والدارسين (لتاريخ الإسلام وتاريخ أهل البيت بالذات)، ممَّنْ اعتبروا أن هناك خطّاً وأسلوباً حسنياً مختلفاً عن خطٍّ وأسلوب حسيني، فالحسن مسالمٌ والحسين عنيفٌ، والحسين يؤمن بالقوّة كخطٍّ أصيل، بينما الحسن يعتمد سبيل الرفق والسلام فكراً ونهجاً؛ ولكنّ المسألة لا تُقاس على هذا النمط من التفكير الحَدِّي، فالأئمة على نهجٍ واحد في العمق الديني والاستراتيجي إذا جاز التعبير، ما يختلف عندهم أو ما يتنوَّع هو الطرق والوسائل المعبِّرة التي تفرضها وتحدِّدها طبيعة الظروف السائدة، بمعنى أن هناك ظروفاً خارجيّةً موضوعيّة تحيط بطبيعة العمل الرسالي كانت تستلزم الدراسة والتحليل على حركة الزمان بكلّ أبعاده؛ لأن الإسلام دين خاتم ورسالة خاتمة، ولهذا فهو ليس ديناً يحدق في اللحظة القائمة أو في المدى القريب فقط، وهذا يتطلَّب منه أن يرصد نتائج أيّ فعلٍ أو عملٍ أو أسلوبٍ أو حركةٍ في الحاضر؛ باعتبار أن آثارها ومآلاتها ونتائجها ستظهر في المستقبل. من هنا كان لأهل البيت^ أدوار متنوِّعة تحقِّق كلّها وحدة الغاية الرسالية التي كانت تجمعهم وتوحِّدهم على صيانتها من العبث والانحراف والتضليل، الذي كانت تمارسه وتنتهجه نهجاً منظَّماً السلطات الرسمية الحاكمة على امتداد تاريخنا العربي الإسلامي، والتي كانت تريد صناعة إسلامٍ رسميّ وعظي مدجَّن، ينحصر دَوْره في الطقوس والولاءات والتطبيل والتزمير للنُّخَب الحاكمة، ولا يتطلَّع أبداً ـ وهو دين الحياة ـ إلى خارج حدود المسجد في الحقوق والبناء المجتمعي الأخلاقي والإنساني المتين.

انطلاقاً ممّا تقدَّم، نحن لا نوافق كلّ مَنْ يقول بوجود نهجين (حسني وحسيني) متناقضين أو متعاكسين؛ لأن القضية تتَّصل بظروف العمل على الأرض في طبيعة وَعْي الثوابت والمتغيِّرات، التي يمكن أن ترسم خطّة التحرُّك والسَّيْر في هذا السبيل أو ذاك. ولذلك نقول بأن الصلح الحسني هو صلحٌ حسيني بامتيازٍ، والثورة الحسينية هي ثورةٌ حسنيّةٌ بامتيازٍ. فالحسين× كان حسنياً في مرحلة الحسن×، الذي لو عاش مرحلة وظروف الحسين× لكان حسينياً ثورياً. ولذلك كانا يتحرّكان حيث تكون للإسلام والمسلمين مصلحةٌ عليا، سِلْماً كان الطريق أم حَرْباً.

نستنتج أنه بالرغم من تنوُّع الظروف التاريخية الموضوعية التي أحاطَتْ بطبيعة عمل كلّ إمام×، فإن هذا التنوُّع في الواقع العملي الخارجيّ كان يترافق مع تنوّع داخلي في طبيعة الاستجابة والفعل، ولم ينطلق أبداً من حالات مزاجية طارئة، بل كان منهجاً مدروساً يرتكز على معطيات الإسلام وقواعده من حيث هو خطّةٌ وحركةُ نهجٍ عملي للواقع في كلّ خلفياته وأبعاده وظروفه وقضاياه؛ لأن الحالة المزاجية للشخص غالباً ما تنشأ من طبيعة الجوّ والبيئة التي يعيشها هذا الشخص، وهذا مما قد يؤثِّر سَلْباً على حركتنا وفكرنا، في ما نحبّ ونكره، وفي ما نؤيِّد ونعارض، وفي ما نتحرَّك فيه. ولذلك علينا ـ وهذه عبرةٌ ودرسٌ عملي ـ أن ننطلق في كلّ أعمالنا وعلاقاتنا وآليات تعاملاتنا من قاعدةٍ واضحة، ومن مفاهيم بيّنةٍ في الرؤية والتصوُّر والعمل للقضايا الأساسية التي يفترض أن نلتزمها التزامنا بالإسلام. وحركة أهل البيت^ هي المدرسة النوعية الكبرى والحركة التاريخية الوحيدة في تاريخنا الإسلامي التي تمثِّل ومثَّلت هذا الخطّ العملي لأسلوب الدعوة والعمل في القرآن الكريم، والدعوة في أخلاقياتها العملية، وفي حركتها الرسالية الإنسانية، في قضايا الحياة والصراع، في ضرورة أن يتثقَّف المجتمع إسلامياً، بحيث ينطلق من عمق المصادر الإسلامية الأصيلة؛ ليكون الإنسان المسلم منفتحاً على الحياة والناس من موقع الأصالة والوَعْي المنتج، لا من حالةٍ غرائزية أو حالةٍ غوغائية لا قيمة ولا معنى لها.

([39]) الكليني، كتاب الكافي 8: 330.

([40]) يروي المؤرِّخون أحاديث ووقائع عديدة عن انحرافات الأموية العنصرية وتحريفاتها ومظالمها، وهي التي شكَّلت في تاريخنا العربي الإسلامي ظاهرةً سياسية خطيرة تستَّرَتْ بالإسلام؛ لتحقيق مآربها الخاصة، ونَزَوات رموزها ومطامعهم في الحكم والسيطرة والنفوذ. وكان حكم الأمويين الإمبراطوري (الذي أُنشئ في العام 661م) إيذاناً ببداية عملية بناء الحكم الامبراطوري العضوض، وترسيخ الحكم الفردي الملكي، ونهاية النـزعة الإصلاحية الإسلامية التي اتَّسمَتْ بها أيّام الإسلام الأولى، والتي تميَّزَتْ بإعلان المساواة والمشاركة في الحكم بالتعبير المعاصر. وبالعودة إلى مؤسِّسي «الأموية» فإن هؤلاء لم ينسوا أبداً التغييرات التي طرأت على حياتهم ومواقعهم ونفوذهم، وتأثُّرهم السلبي بها، وخسارتهم لكثيرٍ من مواردهم ومواقعهم المادية والمعنوية، والذي ترافق مع تعملق موقع بني هاشم وتعاظم دورهم، حيث كانت الرئاسة والزعامة الاجتماعية والسياسية منوطةً بهم دائماً، وإليهم كانت ترجع العرب لحلّ مشاكلها وفضّ نزاعاتها وخصومات القبائل والعشائر، فهم كانوا محور وأساس النشاط والفاعلية في قريش، وقريش هي مركز الثقل والحركة بين القبائل العربية، وعلى مرّ التاريخ كانت تعود تلك النـزعات القبلية الأموية للظهور مجدّداً، وكان شيوخ الأموية يفصحون بين الفينة والأخرى عن مخطّطاتهم، ويبرزون علناً طبيعة نواياهم. ولعلّنا نذكر هنا ما قاله أبو سفيان للعبّاس، وهو ينظر بحرقةٍ وغصّةٍ إلى جيش الفتح الإسلامي: «أصبح ملك ابن أخيك عظيماً»، يعني نظرتهم لم تتغيَّر، بل ظلّوا ينظرون إلى الدين والرسالة نظرةَ مغانم وسلطة ونفوذ ورئاسة وموارد وأرزاق. وها هو معاوية يرث هذه الخصلة السيئة نفسها من أبيه، ويتحدّث قائلاً: «وإنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يومٍ خمس مرّات، أشهد أن محمداً رسول الله، فأيّ عملٍ يبقى بعد هذا، لا أمَّ لك، إلاّ دفناً دفناً»، أي إنه (معاوية) لم يعُدْ يحتمل ولم يعُدْ يطيق أن يسمع اسم محمّدٍ العربيّ الهاشميّ يُنادى به على المنابر خمس مرّاتٍ في اليوم الواحد. (راجع: أبو القاسم عليّ بن الحسن، تاريخ دمشق 6: 407، دار الفكر للطباعة والنشر، دمشق، 1995م؛ وراجِعْ أيضاً: راضي آل ياسين، صلح الإمام الحسن: 235، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، ط4، 1979م).

([41]) شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيّات المشاهير والأعلام: 71 ـ 77، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1987م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً