د. أحمد فتح الله
أكاديميٌّ وباحثٌ لغويّ، من المملكة العربية السعودية
«إنّ معيار قبول الخبر، ومعيار رفضه لدينا، كما لدى كثيرٍ من المحققين المعروفين وهو منهج تاريخي رصين مُتَّبَع لم نبتدع فيه، ومعيارنا الخاص الذي طبَّقناه ضمن سقف هذا المنهج التاريخي العام، لا يرفض الرواية إلا إذا كان احتمال صدورها قريب من الصفر كما أوضحنا، وأما غير ذلك ففي الأمر سَعَة، وليس من اهتمام دراستنا هذه أن نبحث فيما يمكن الجزم بصدوره من الأخبار والروايات، بل نبحث عما يمكن الجزم باختلاقه ووضعه واصطناعه منها، حسب الأمارات القوية والدلائل الواضحة والقرائن المنهجية»([1]).
هذا النصّ هو من كتاب بعنوان «السيدة أمّ البنين بين الواقع التاريخي والمخيال الشعبي» (1441هـ ـ 2020م)، للباحث السعودي في التاريخ الأستاذ أحمد المطلق )من الأحساء). وحسب قرآتي وتتبعاتي لما كتب عن هذه المرأة الجليلة، إحدى زوجات الإمام علي بن أبي طالب(ع)، هذا الكتاب هو من أفضلها رصانةً وموضوعيّة. وأرى أنّ من حق الجمهور العام والخاص أن يطلع عليه لأهمية مضامينه وتعامله معها تحقيقًا. وهذا المقال هو مجرد عرض لمنهجه التحقيقي في البحث التاريخي كما سطره الأستاذ المطلق في الكتاب المذكور، على أمل تقديم قراءة أو عرض للكتاب في الأيام القادمة.
منهج البحث التحقيقي
يقول الكاتب في هذا الفصل من الكتاب المذكور([2]):
لقد جرى عدد من المحققين والمؤرخين على اعتبار مصادر ما بعد القرن العاشر الهجري غير جديرة بالاعتماد والاعتبار بصفةٍ عامةٍ، خاصة في أخبار واقعة الطف، إلا إذا نقلتَ تلك الكتب عن مصادر تاريخية معروفة([3])، فلماذا القرن العاشر الهجري بالذات؟
بادئ ذي بِدْء نتفق مع أولئك المحققين في أساس هذا الحكم بشكل عام، وذلك راجع إلى أسبابٍ كثيرة من أبرزها:
أن القرن العاشر الهجري كان فعلاً حداً فاصلاً مُمّيِزاً بين مرحلتين من مراحل تاريخ نصوص واقعة الطف، حيث شهدت أخبار الواقعة بعد القرن العاشر فجأةً بداية تضخم للنصوص وللأخبار، وإضافات وتفصيلات ظهرت ثم زادت عبر القرون الأربعة التالية، تلك التفصيلات والإضافات لم تعرفها مصادر ماقبل القرن العاشر، دون أن تُفصح هذه المصادر المتأخرة عن أُصولِ أخبارها ومدارك قَصَصِهَا, فبسبب هذا التغير والتضخم المفاجئ كان القرن العاشر هو المائِز حقاً بين الكم الروائي والكيف النوعي لأخبار الواقعة قبله وبعده.
هذا السبب الأول يُوَضّح لماذا كان القرن العاشر هو العلامة الفاصلة بين مرحلتين؟، أما الأسباب التالية فتُوَضّح لماذا لم نجعل لمعظم مصادر مابعد القرن العاشر قيمة تاريخية معتبرة مقارنة بالمصادر الأقدم؟
مصادر ماقبل القرن العاشر أقرب إلى عصر النص، ومع ذلك هذه المصادر المتقدمة ليست واحدة في درجة قوتها وثبوتها، حيث لا شك أنها كُلَّمَا ابتعدت عن القرون الهجرية الاولى واقتربت من القرن العاشر قَلَّت قيمتها واعتبارها، ما لم تُفصح تلك الكتب عن مصدر رواياتها، لأن التاريخ هو مادة نَصّية منقولة لنا عن المتقدمين الشهود على حوادث التاريخ، والمؤرخ يعمل على هذه المادة المتوفرة لديه بمناهجه وأساليبه ومهاراته، فإذا افتقد المؤرخ المادة التاريخية وأُعْدِمَ النص، فلا شك أنه يعمل على ظنون وترجيحات تبتعد به عن الواقع ـ كما وقع ـ بمقدار شح المادة النصّية لديه، ولهذا لم يكن لكتب مابعد القرن العاشر ذلك الاعتبار التاريخي، لأنها أبعد عن عصر النص، ورغم هذا البُعْد لم تُفصح أيضاً عن مصادر رواياتها التي زادت زيادة مفرطة وتغيرت نوعية نصوصها.
كان القرن العاشر الهجري بداية للعصر الصفوي، حيث ظهور الطقوس وتسليط الضوء على مواطن الاختلاف عن الآخر، لتتمايز الشخصية الشيعية بمقومات مستقلة محددة بسبب الصراع مع الطرف العثماني, وكان بداية كذلك للعصر الأخباري، حيث عاد الاهتمام بجمع واعتبار وتجميع الأخبار والروايات، وإعطائها قيمة كبرى مقارنة بظواهر الكتاب والعقل .
هذا الانفجار الطقسي والأخباري، جعل التركيز يشتد على إشباع الجانب العاطفي في الفعل التديني، والحاجة المُلِحَّة إلى تكييف الروايات لتخدم غَرَض الطقس، وتُوافق المرحلة، غَاضّين الطرف عن مدى تصوير تلك الأخبار والروايات للحقيقة التاريخية والحدث الواقعي كما حَصَلا فعلاً.
تلك المرحلة (الصفوية ـ الأخبارية) لكي لا نبخسها حقها، شهدت أيضاً جمعاً جاداً وتتبعاً حثيثاً للكتب والمخطوطات والنوادر، وخدمت علم الحديث والفقه أَيَّمَا خدمة، ولكن تَرَافَق مع هذه النهضة الحديثية الجادَّة ظهور روايات في الكتب والمصنفات لا تُسْنَد إلى أُصولها ومصادرها (خاصة في واقعة الطف), وإنما تُبدأ تلك الروايات بعبارات (رُوِيَ ـ يُقال ـ عن بعض المصادر ـ في بعض كتب أصحابنا ـ رَوَى أرباب المقاتل ـ وجدتُ في كتاب ـ قال الراوي ـ وفي كتاب عتيق ـ عن بعض الكتب ـ قال بعض العلماء ـ عن بعض من أثق به)، هذا وبين تلك الكتب وعصر النص المُؤَرَّخ له أكثر من ثمانمئة عام!
تحت قاعدة (لو كان لَبَان) نفقد ثقتنا التامة في أخبار ما بعد القرن العاشر التي لم تُسند إلى مصادرها، وذلك أن هناك تفاصيلاً كثيرة ظهرت في المصادر المتأخرة عن أحداث واقعة الطف دعت الحاجة بقوة إلى ذكرها في مصادر ما قبل القرن العاشر ـ التي اهتمت بجمع كل شاردة وواردة متاحة في متناول اليد من الأخبار ـ، ولكن هذه المصادر المتقدمة لم تفعل ذلك، لذلك عندما انفجرت تلك التفاصيل لتلك الأحداث في المصادر المتأخرة بلا أصل، كان الشك فيها أحرى وأقرب إلى الحقيقة والمنطق، مع أن أولئك المتأخرين يعلمون أهمية ذكر مصادرهم وكتبهم، التي نقلوا منها غير غافلين عن ذلك، ورغم ذلك لم يفعلوا.
اختلفت لغة وتعابير وتراكيب نصوص الواقعة ما بعد القرن العاشر الهجري بشكل واضح عن النصوص المتقدمة، وظهر عليها التكلف والصَّنْعَة([4])، والتأثر بلهجة العصر المتأخر، والتأمل فيها يُظِهر بوضوح أنها كانت نتيجة إنشاء وتأليف أخبار وقصص أكثر منها اكتشاف نصوص وكتب قديمة لم تصلنا.
يبقى سؤال يطرح نفسه، هل كل رواية وَرَدَت في كتاب متقدم قبل القرن العاشر الهجري نقبلها؟ وكل رواية وَرَدَت في كتاب متأخر بعد القرن العاشر الهجري نرفضها. ومتى كان التقدم أو التأخر في زمن كتابة الرواية دليلٌ على الصحة أو الضعف؟
في الحقيقة أن جزءً كبيراً من جواب هذا السؤال مضى في التفصيل السابق، عن سؤال لماذا القرن العاشر الهجري بالذات كان حداً فاصلا بين مرحلتين من مراحل تدوين الروايات التاريخية، خاصة في أخبار واقعة الطف.
ولكن نزيد إيضاحاً، فنقولُ جواباً:
1ـ ليس التقدم دليلاً على الصحة، ولا التأخر دليلاً على الضعف أو الاختلاق، ولكن كتب المتقدمين أقرب إلى عصر النص والحدث التاريخي، وكتب المتأخرين أبعد عن عصر النص، فإذا لم يذكر المتأخرون مصادرهم فهم لا شك أبعد عن الصحة من المتقدمين حتى لو لم يذكر المتقدمون مصادرهم.
2ـ عندما نقبل برواية واردة في مصادر المتقدمين فنحن لا نجزم بصحتها، فإنما هذا هو أول مرحلة من مراحل كون الخبر أقرب إلى الصحة، وليس هو الحَكَم الفاصل فذاك أمرٌ آخر، لأن معيارنا يعتمد على أضعف الإيمان في القبول للخبر، وليس من مواضيعه، هل جزماً صَدَر الخبر أو صَحَّت الرواية؟ بعبارة أُخرى إنما نرفض من الأخبار ما لو عرضنا ظروف صدورها على أي مدرسة تاريخية منهجية لرفضتها من البداية، نرفض ما يمتنع عبوره من أول باب من أبواب تحقيق التاريخ، ولكن أبواب ترشيح الأخبار بعد ذلك كثيرة، نرفض ما يكون درجة احتمال صدوره أقل من 1% أو قريب من الصفر، بناءً على قرائن يقبل بها كل عقلاء العالم إذا أفرغوا أذهانهم عن أي عاطفة أو إسقاطات مسبقة، أما لو كانت هناك من الأخبار ما يرتفع احتمال صدورها إلى مقدار 20% أو 50% مثلاً، فإننا لا نرفضها، ولا نجزم بأنها لا أصل لها، لأن الاحتمال وارد حتى لو كان ضعيفًا حسب القواعد المنهجية التي شرحناها، فلا نلوم الخطباء أو العلماء لو أوردوا أخباراً تاريخية من هذا النوع، الذي لا يمكن الجزم بصدوره ولكن فيه نسبة من احتمال الصدور معتبرة على الأقل، إنمّا نرفض ما لا يحتمل عقلاء المؤرخين المنهجيين صدوره.
3ـ إنما رفضنا أخبار المتأخرين فيما ينطبق عليه قاعدة (لو كان لبان)، نعني به الأخبار التي دعت الحاجة في موضوعها إلى نقل المتقدمين لها، وهم أقرب إلى عصر النص ومع ذلك لم ينقلوها، بعبارة أُخرى أن هناك من الدواعي والأسباب القوية ما يحكم العقل بلزوم نقل المتقدمين لهذه الأخبار، لأنها من صُلب اهتمام كتاباتهم، ولأنهم بذلوا كل ما قدروا عليه للإحاطة بأخبار هذه الواقعة، فكيف فات تدوينها عن المتقدمين؟ وجاء المتأخرون بتفاصيلها الكثيرة دون ذكر أُصولها ومصادرها.
4ـ نعذر المتقدمين في عدم ذكر مصادرهم أحياناً لأنهم أقرب إلى عصر النص، فتقصيرهم وإن كان تقصيراً إلا أنه أخف من تقصير المتأخرين فيما لو لم يذكروا مصادر أخبارهم، لأن المتأخرين عاشوا في ظروف معرفية يعلمون من خلالها أهمية ذكر المصدر المُوَثَّق، ومع ذلك لم يفعلوا في كثير من قصص وأخبار واقعة الطف، ومثل الشيخ المجلسي يعلم أهمية ذكر المصدر ولزوم ذلك، ومع ذلك أهمل كثيراً من مصادر أخباره في البحار التي تفرَّد بها في واقعة الطف، واكتفى بالقول «روى أصحابنا، أو رأيتُ في كتابٍ عتيق، أو في بعض الكتب المعتبرة» وكل ذلك يدل ـ ترجيحاً ـ على أن الشيخ ينقل عن موروث شعبي أو ينقل من كتب لا قيمة ولا أهمية لها، وذِكْر الاسم قد يُضْعِف من قوة الخبر واعتباره فاكتفى بالإبهام والإيهام([5]).
تعليق
في تعريفه ونقده لكتاب «معرفي ونقد منابع عاشورا» (مقدمة ونقد لمصادر عاشوراء)، يرى السيد عبد الله الحسيني، أنّه محاولة لمقارنة وتقييم وتصنيف مصادر انتفاضة عاشوراء، التي كتبت فيها الكتب من نهاية القرن الأول حتى القرن العاشر الهجري عن ثورة سيد الشهداء(ع)، ولأن الكتب التي كتبت بعد ذلك، وخاصة في العصر القاجاري، ليس لها قيمة تاريخية.
قام بالبحث في المصادر الأولية حتى القرن العاشر الهجري، ومن خلال الاطلاع على بياناتها، سرد محاسنها وأبرزها ونقاط ضعفها ونقائصها، مع الاعتقاد بأن بعض الأخطاء والانحرافات التي ظهرت في عاشوراء هي ولهذا السبب لا يزال أساس العديد من المصادر الخاصة بعاشوراء مجهولاً.
والجدير بالذكر أنّ الكاتب استعرض في الفصل السادس من الكتاب «التقارير الخياليّة»، و هي نوع من التقارير يعتمد على تحليل وتفسير وتوجيه واقعة عاشوراء، وهو موجود عند أهل السنة والشيعة. ويؤكد أنّ التقارير القصصية أدخلت بعض الأمور لأسباب خاصة، ولكن في هذه التقارير الخيال الذهني ناشئ عن دوافع سياسية وعرفانية وكلامية وعاطفية. وفي الكتاب تفاصيل مهمة.
يرى السيد الحسيني أن الدراسات التاريخية، كغيرها من العلوم، تقوم على أساليب ومبادئ خاصة لا يمكن قبولها والوثوق بها في النتائج التاريخية إلا من خلال اتباعها، ويؤكد على إن معرفة الظواهر التاريخية هي أكثر من أي شيء يتعلق بمعرفة مصادرها، ودرجة إتقان البيانات التاريخية وقوتها هي درجة استخدامها للمصادر، لذلك عندما لا تستفيد البيانات التاريخية من كثرة المصادر، فهى مجرد «قصة» أو حتى «أسطورة».
وختامًا، في «الصحيح من مقتل سيّد الشهداء و أصحابه(عم)»، يقول الشيخ محمد المحمدي الري شهري: »ويرى عدد من منشدي المراثي أنّ كلّ ما طُبع ونُشر فهو صالح للاعتماد، ولا يلحظون قيمة المصدر! إنّ الكثير من المعلومات العديمة الأساس والكاذبة […] تمتدّ جذورها إلى المصادر الضعيفة، ولذلك فإنّ معرفة المصادر هو أوّل الشروط لقرّاء المراثي الحقيقيّين، والذين يفقدون هذا الشرط لا يمتلكون صلاحية ذكر مصائب أهل البيت(عم) مهما بلغوا من الإخلاص([6]).
____________________________
([1]) أحمد المطلق، السيدة أمّ البنين بين الواقع التاريخي والمخيال الشعبي: 85 ـ 86.
([3]) ممَّنْ اعتمد هذا المنهج محمد الريشهري في «الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه»: 30، مركز البحوث مؤسّسة دار الحديث العلمية الثقافية، ط1، 1390هـ.ش.
([4]) يعني هي نصوص مخترعة مصطنعة بطريقة واضحة.
([5]) الفقرة الخامسة التي استعرضها المؤلِّف في الكتاب هي النصّ المقتبس الذي تصدَّر هذا المقال.
([6]) الريشهري، «الصحيح من مقتل سيد الشهداء وأصحابه» 1: 115.