ترجمة: علي فخر الإسلام
تمهيد ــــــ
من البديهي أن البشر مختلفون من حيث الجسم والشكل، وهم أكثر تمايزاً من الناحية الروحية والعقلية. لذا يعدّ ذلك التوهم المبنيّ على جعل الناس ذوي اتجاه فكريّ واحد من السخافة بقدر غباء توهّم جعلهم نسخةً واحدةً من حيث الطول والشكل.
فكما لا يمكن لأي عاقل أن يتصوّر وجوب انتعال البشر نفس النوع من الحذاء، وارتدائهم المقاس عينه من اللباس، وتمتّعهم بالطول ذاته من القامة، فإنه لا ينبغي لأيّ عاقل أن يتصوّر تمكّن البشر من الفهم والتحليل بالطريقة ذاتها، بل حتى أن يتّبعوا فكراً واحداً. وعليه عندما ينادي القرآن الكريم بالوحدة فمن المسلَّم أنه وسّع دائرتها حتى تستوعب كافّة النِّحَل التي دعاها إليها، وإلا لكانت دعوته للوحدة مقولة غير معقولة؛ إذ عندما يُطلق لفظ (الإنسان) على أفراد فينبغي أن يكون مجال (الإنسانية) من السعة بمكان لتشمل جميع الأفراد بمختلف ألوانهم وأشكالهم، مستوعبةً كافّة طاقاتهم ومضامينهم، وإلا لزم خروج بعض أفراد الموضوع منه.
النصوص القرآنية ومبدأ الوحدة، مقاربة تحليليّة ــــــ
وبناءً على ما سبق تجب مقاربة الآيات القرآنية حول الوحدة من جديد، والبحث فيها؛ لنتبيّن مدى استيعابها، حتى تعدّ الدعوة للوحدة أمراً واقعياً ومقبولاً عقلاً، وإلاّ كانت فاقدةً للزخم اللازم ما يجعل الحديث عنها كلاماً غير معقول.
ومن الآيات التي يُتَمسَّك بها في لزوم الوحدة أو وجوبها هي الآية (103) من سورة آل عمران، والتي من المناسب التدقيق فيها وفي الآيات التي تسبقها وتليها، فلعلّها ترشدنا إلى لحلول الكفيلة بتحقيق الوحدة، فتُخرِجَها من صورة شعار يرفع، لتتحقق عملياً على أرض الواقع.
لدراسة الآية (103) التي تعتبر من آيات الوحدة المحوريّة، التي يُشعّ فيها قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً﴾، علينا دراسة الآيات التي تسبقها إجمالاً، ومن ثمّ نلقي نظرة على الآيات التي تليها أيضاً.
نزلت الآيات الأربع (من 98 حتى 101) من السورة في شاس بن قيس اليهودي، الذي أثار حسده ما وجد من ائتلاف حميم ودافئ بين قبيلتي الأوس والخزرج، فدفع شابّاً يهودياً ليحضر مجلسهم، مذكِّراً إياهم بحروبهم الطويلة في أيام (بعاث)، واستطاع بألاعيبه الخاصة وخبثه الشديد أن يوقظ في ذاكرتهم تلك الأحداث مرة أخرى، مثيراً عصبياتهم القبليّة ونعراتهم العشائرية، التي انبعثت من جديد، فوقفوا في وجوه بعضهم، وتبادلوا الشتائم، وحدّدوا اليوم التالي للبدء بالحرب مجدّداً، وعرض قدراتهم.
وصل الخبر إلى رسول الله(ص)، فأتى في اليوم التالي عند الوقت المناسب، يرافقه أصحابه؛ ليخمد نار الفتنة بكلامه اللطيف الأخلاقي، الذي أطفأ نائرتهم([1]).
بعد انطفاء نار النزاع نبّه القرآن الكريم المسلمين في الآية (100) من سورة آل عمران إلى ضرورة التزام اليقظة والحذر من مؤامرات أهل الكتاب، فلا ينقادوا لأيِّ قول، يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ﴾.
من المسلَّم أن الاستفادة من علم أهل الكتاب أو عقلهم لا يعدّ إطاعةً لهم، بل هو في الواقع إطاعة للعلم والعقل. نعم، حين يطلقون كلاماً يثير الأحاسيس والعواطف ويرفعون شعارات و… عندئذٍ يجب التعامل بحذر، سواءٌ انحازوا لهذه الفئة أو تلك، سواءٌ دعموا الشيعة أو قوَّوا السنة، سواء أيَّدوا فكراً ورأياً ما أو عارضوه. إذاً فإن أول حلٍّ يطرحه القرآن لخلق الوحدة بين المسلمين يتمثّل في الابتعاد عن الخطابات التي يلقيها الآخرون والمفتقرة لأيّ مبنىً عقليّ أو علميّ واضح جليّ، مع أنهم يقدمونها بصورة عقلية أو علمية، ما يستدعي تحديد علمية كل موضوع مطروح، وهو أمر مشكل لا يقدر عليه أيّ شخص، عندئذ فإن التعامل الحذر معها وتجنّب الفرقة والنزاع من الأمور العقلية القطعيّة التي لا يرقى إليها الشك والترديد.
تلقي الآية (101) من السورة الضوء على الموضوع من زاوية أخرى، وتخاطب الناس قائلة: لنفرض أنه الآخرين ينخدعون بالخطابات التي تلعب على أوتار أحاسيسهم، مستفزّةً مشاعرهم وحماسهم، ولكن لا يجوز لهذه الأمور أن تنطلي عليكم يا مَنْ تتمتّعون بوجود القرآن بين ظهرانيكم، وتتلى آياته عليكم! أنتم يا مَنْ تستظلّون بفيء وجود الرسول‘ بينكم، وتستمعون لكلامه البليغ المؤثّر، وهو الذي يعتبر أسوةً عمليةً رائعةً لكم لتقتدوا بها! فلماذا تصابون بداء الفرقة مع ذلك كلّه؟!
تقدّم هذه الآية في الحقيقة إحدى الحلول لتجنّب الفرقة أو الشقاق، والمتمثّلة في اتخاذ مضامين القرآن وسنّة الرسول‘ محوراً لحياتكم، ثم تذكّر الآية التي تسبقها مرة أخرى بأحد الأضرار الجسمية للاستماع للخطابات المثيرة للشقاق والفرقة، والمتجسِّدة في التعرض للكفر.
لقد أدرك المستكبرون والظالمون و.. أنهم تلقّوا ضربة قاضية من الإسلام، إلا أنهم لا يستطيعون إظهار عدائهم ومناوأتهم له بصورة مباشرة؛ فالإسلام دين الفطرة والعقل، ومواجهته العلنية تعدّ محاربة للعقل والوجدان، وهو ما لا يطيقه أحد، ولا يتخلّى أيّ مسلم عن هذا الدين بهذه السهولة، ولكن عندما يتخذون إثارة العواطف وتهييج الأحاسيس مطيّة لتحقيق غرضهم ، مسيطرين بها على عواطف المسلمين، فإن تلك الأحاسيس الحادّة المهيّجة تدفعهم بالتدريج نحو النزاع والقتال، ما يُعميهم إبّانه عن كثير من الحقائق، وبالتالي تتمهّد الأرضية بالتدريج ليكفروا بالحقيقة المطلقة، ضاربين عرض الحائط بالدين الفطري الذي يدور حول محوَريْ العقل والعدالة.
عندئذ يمكن تبيين أحد الحلول القرآنية لتحقيق الوحدة كما يلي:
(التنبّه لنتائج الفرقة وانعكاساتها، والتي تؤدّي إلى عملية من الخطورة بمكان، حيث تمسخ شخصيّة الفرد بالكامل، ما يؤدّي به إلى مرحلة الكفر بأعظم حقائق العالم والوجود).
وممّا يجدر ذكره أن متعلَّق الكفر في كلتا الآيتين محذوفٌ لتشمل حالات وموارد متعدِّدة. لذا فليس من الضرورة أن تؤدي المرحلة الأولى للفرقة إلى الكفر بالله، لكنها في النهاية سوف توصل إليه.
مع كلّ تلك التحذيرات لم يغفل القرآن عن أسلوب الترغيب والتشجيع أيضاً. فمع تحديده (الله) محوراً للوحدة يقول: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. وهذه العبارة تشير إلى محور الوحدة الأصلي. ولكن هنا سؤال يطرح نفسه: هل يستطيع الأفراد الارتباط مع الله بشكل مستقيم، وتلقّي توجيهاته مباشرةً، أو أن هناك سبلاً لخلق مثل هذا التواصل معه، أو أن هناك أفراداً بحاجة إلى وسائط لتحقيقه، في حين يتواصل آخرون معه بدون الحاجة لمثل هذه الوسائط، وهؤلاء هم وسائل الفيض الإلهيّ للآخرين؟
هذه الأسئلة تعتبر مباحث لم تُطرَح في الآية، وتحتاج للمتابعة والبحث في الآيات التالية، ولكن يتبيَّن إجمالاً من الآية أن الرسول‘ والآيات الإلهيّة جسور ارتباط بين الناس وربّهم.
أما النقطة التي من المناسب التذكير بها فهي أن كلمة (الصراط) في الآية أتت منوّنةً، ويمكن أن يأتي هذا التنوين لبيان العظمة، ويمكن أن يأتي لبيان الكثرة والتنوّع. ولا تنافي بين الاحتمالين؛ إذ إنْ كان الساعي للتمسُّك ممَّن أنعم الله عليهم بالارتباط المباشر مع الله وتلقّي الوحي منه، كالرسول‘، فقد هُدِيَ إلى أعظم سبيل الهداية؛ أما إنْ كان ممَّن يتمتَّع بأنوار الوحي الإلهيّ بواسطة آخرين فهو على الصراط المستقيم تبعاً لمدى استفادته واستفاضته واستنارته، أي إن للصراط المستقيم في الواقع حقيقة (اشتداديّة) يقطعه السالكون باختلاف زخمهم وشروطهم.
إن (الله) في الواقع محور للاتحاد يستوعب كافّة المؤمنين به، لا الموحِّدين الذين بلغوا غاية درجات التوحيد فحسب، ما يجعله محصوراً في طائفة محدودة من الأنبياء والأوصياء.
فإذا استعنّا بالحديث الذي يقول: «الطرق إلى الله كعدد أنفاس البشر»، عندئذ نكتشف أن (محورية الله) تستوعب كافّة البشر، ويمكن لهم أن يتحدّوا حول محور (الله). ومن الطبيعيّ أنّه يمكن أن يُفسَّر الحديث بمعانٍ أخرى لا مجال لذكرها هنا.
قد يستشكل أحدٌ قائلاً: ما هذا المحور الذي طرحتموه للاتحاد، ونحن نرى أن أكثر الحروب التي اشتعلت بين البشر كانت بين أتباع الأديان والمؤمنين بالله؟!
تجيب الآية التالية عن هذا الإشكال، مبيّنةً أن المؤمنين بالله لم يتّقوه حقّ تقاته، لذا تخاطب المسلمين بعد أن جعلت (الله) محوراً قائلة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
من الواضح أن المسلمين ليسوا معنيين وحدهم بالخطاب في هذه الآية؛ أي إن الأمر ليس مختصّاً بهم، حتى يسقط التكليف عن غيرهم في هذه الحالة، بل أُمِروا به لأنهم المجموعة الملتزمة فعلاً بإطاعة الله. وبعبارة أوضح: إن المؤمنين بالله لم يتّقوه حقّ تقاته، فشبّت بينهم الحروب الكثيرة، ولو راعوا تقوى الله حقّ رعايتها لما وقع أيّ نزاع بينهم. لذا فإن الاتحاد حول محور (الله) لا يتحقَّق إلاّ إذا تمتَّع الأفراد بالتقوى اللازمة، وسلَّموا أمرهم لله تسليماً. وعليه فإن التزام التقوى الإلهيّة من الحلول الأخرى لتحقيق الاتحاد والوحدة، كما أن عدم التقوى من عوامل نشوء النزاعات واشتعال الحروب.
محور الوحدة ـــــــ
ما مرّ ذكره كان تمهيداً لتحقيق الوحدة التي يأمر الله تعالى بها صراحةً في الآية (103): ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾.
إن المؤمنين هم المخاطبون بهذه الآيات، وإن كانوا غير مكلَّفين بهذا الأمر وحدهم، بل على كافة البشر أن يتجاوبوا إيجاباً مع هذا الخطاب، إلاّ أنّ الرسول‘ غير مخاطب بهذا الخطاب، لأنّه المبلِّغ لهذا الأمر، وهو الحبل الذي يجب التمسُّك به، فهو محور الوحدة، وبعيدٌ عن كلّ فرقة. لذا يسأل تعالى الناس في الآية (101) باستغراب: كيف تتفرَّقون وبين ظهرانيكم مثل هذه الشخصية؟!
على أية حال، بما أنه‘ محور للوحدة، وأسمى من أن يكلَّف به، فإنه يستطيع أن يجمع الناس حوله؛ لأنه ليس تابعاً لأية مجموعة أو فرع حتى يمزّق الناس كلّ ممزق، بل إنه‘ أسمى من كلّ مجموعة وجناح، وعليه فلا يفكّر أو يعمل على أساس خطٍّ ما أو لإرضاء مجموعةٍ ما.
من هنا يتبين حلٌّ آخر لتحقيق الاتحاد وهو وجود محور لا يخضع لأيّ طرف من الأطراف، يمثّل مركزاً تعود إليه الأطراف. ومثل هذه المحاور كثيرة بين المسلمين، كالقرآن، والكعبة، وشخصية الرسول‘، والعقل الكلّيّ ذو التوجه العام الجامع؛ لأنها أمور أصلية وأساسية ومركزية غير راضخة لمجموعة معيّنة. في حين لا يمكن لملك مملكةٍ ما أو رئيس جمهورية دولة أن يمثِّل دائماً محوراً للوحدة بين الجميع؛ إذ مثل هؤلاء الأفراد إما أن يكونوا عادةً تابعين لفريق ما؛ أو لا يراعون تقوى الله (حقّ تقاته)؛ ليخلوا من حبّ المال، والجاه، والمدينة، والديار، و…
إشكاليّة عدم ضمان الوحدة بالاحتكام إلى الكتاب والسنّة ــــــ
ليس التمسُّك بالقرآن أو سنة الرسول‘ منشأً للوحدة دائماً، فكل شخص يفهم القرآن أو الحديث بما يلائم إدراكه أو يناسب فهمه، ما لا يتوافق بالضرورة مع أفهام الآخرين وإدراكاتهم، وهو ما يؤدي للاختلاف؛ إذ يفهم العرفاء الآيات بطريقة تختلف عن الفلاسفة، بل إنّ كليهما يفهمان الآيات على خلاف ما يفهمه المتكلّمون، والمجموعات الثلاث يفهمونها غير ما يفهمه الفقهاء، والمجموعات الأربع يفهمونها غير ما يفهمه الأدباء، بل إن أديبين وفقيهين و.. يمكن أن يقاربوا آية بطريقين متفاوتين، ما يؤدّي إلى ظهور الاختلاف بينهم. وهو ما ينطبق على أحاديث الرسول‘ أيضاً، فيمكن لحديث أن ينتج مقاربتين مختلفتين، بل وحتى متضادّتين، حيث فُهِمَ من حديث: «يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً» أمران: أحدهما: أنه يجب تمهيد الأرضية للعدل والقسط، حتى يظهر# ليوصلهما حدّ الكمال؛ والآخر: ينبغي ملء الأرض ظلماً وجوراً وانحرافاً حتى يظهر.
وفي الفقه تمَّت مقاربة حديث عروة البارقي بفهمين: ففي الحديث أن رسول الله‘ أعطاه درهمين ليشتري بهما خروفاً، فأخذهما، وذهب فاشترى بهما خروفين، وأثناء رجوعه باع أحدهما بدرهمين، وجاء بالآخر مع الدرهمين إلى رسول الله‘، وقال: إليك الخروف، وإليك الدرهمين أيضاً، فقال له‘: «بارك الله في صفقة يمينك».
وهنا اختُلِف في مقصود هذه الجملة، هل هي تأييد لما عمله أو توبيخ على ما قام به؟ وهل المراد: نِعْمَ ما فعلت، وبارك الله في صفقة يمينك! أو بئس ما عملت، فكيف يبارك الله في صفقة يمينك؟!
والخلاصة أنّه عندما يكون لمحور الوحدة انطباعات ومقاربات متعدِّدة، بل وأحياناً متضادّة، فما الذي يجب عمله؟ كما يقول الشاعر:
كنت في كربتي أفرّ إليهم فَهُمُ كربتي فأين الفرار؟
والجواب عن هذه الإشكاليّة أن يقال: يظهر أن السبيل الوحيد لمنع مثل هذه الاختلافات التي تنشأ من النصّ نفسه يتمثل في تقديم مجموعة من الأُطُر التي يعتقد بها الجميع يقيناً، ومفاضلة مختلف المقاربات معها، وإبعاد تلك التي لم تراعِ الضوابط اليقينية والمسلّمة لدى الجميع، وتبنّي باقي المقاربات المقبولة، وإلاّ فالحقّ مع المستشكل.
وأساس تلك الأُطُر عبارة عمّا يلي:
أن لا تكون تلك المقاربات مخالفةً لضرورة العقل والنقل، بمعنى أنه بما أن الله تعالى الحكيم لا ينطق بما يخالف العقل صراحةً، كما لا يتكلّم بما يناقض باقي كلامه بشكل كامل، لذا لا ينبغي أن نفهم من كلامه ما يؤدّي إلى ذلك. وعليه بما أنه تعالى نفى أموراً، كالشرك، والظلم، والكفر، و…، صراحةً، لذا يجب رفض كل ما يدعو ويؤدّي إليها. وبما أنه يؤكِّد على أمور، كالتوحيد، والعدل، والإحسان، و…، لذا يجب رفض كلّ ما يفهم أنّه ينافيها. أما باقي المقاربات الأخرى فيجوز طرحها ونسبتها إلى القرآن أو الرسول‘. وبعبارة أخرى: كما وضَّح المعصومون^ قائلين: «ما خالف القرآن لم نقله» فنحن نقول أيضاً: إن كلّ مقاربة وفهم يخالف العقل وصريح النقل بشكل كامل لا يعدّ فهماً حقيقياً من قِبَلِنا، وهي مرفوضة ولا نقبلها.
وقد يشكل أيضاً بأنّه مع ذلك كلّه فإن الاختلافات بين المقاربات غير المخالفة للعقل والنقل كثيرة، وهذه الاختلافات من عوامل نشوء الخلافات والفرقة.
وهنا يمكن تقديم حلّين:
الأول: لقد أتى القرآن بكلمة ﴿جميعاً﴾ في الآية حتى يعلِّم الأفراد أن يتمسّكوا جميعاً بحبل الله، وفي ما يتعلق بهذا الأمر يمكن لنا أن نجمع كافة المتخصِّصين في مختلف فروع العلوم الإنسانية بما يحملون من مقاربات متعدِّدة، حتّى يطرحوا أدلّتهم ومقيِّداتهم وقرائنهم، فيما يقوم الآخرون بنقدها، ليصل الجميع إلى رأي واحد (مخفَّف) يحظى بقبول الجميع.
أما إذا لم ينجح الحلّ السابق، ولم يكن ملائماً، وحظيت مقاربتان بالقبول لدى الجميع، عندئذ يمكن نسبة كليهما إلى الشرع.
لكن ألا يعدّ ذلك (تعدّدية)؟
والجواب: إنه نوع من (التعدّدية) التي طوت مرحلتين، وراعت خطَّين أحمرين: أحدهما: الالتزام بإطار معيَّن؛ والآخر: تحظى بقبول جميع المختصّين. ولهذه (التعددية) سابقة في الدين تعود إلى عدّة قرون؛ فهناك فقهاء يعتبرون فتواهم أقوى، بمعنى أن الفتوى المخالفة تحظى بقوّة أيضاً، وهناك فقيه يحتاط في مسألةٍ ما حتّى يتمكَّن المقلِّد من الرجوع إلى غيره في تلك المسألة، بمعنى أنه يقبل الرأي الآخر.
وخلاصة القول: من الحلول الأخرى لتحقيق الوحدة ومنع الفرقة قبول مقاربات الطرف المقابل الذي يراعي الأطر الأساسية، وعدم رفضها.
الوحدة مع سائر الأديان ـــــــ
في أيّ إطار يمكن طرح موضوع الوحدة مع سائر الأديان الإلهيّة؟
تراعى مثل هذه الأطر معهم أيضاً، مع فارق أن لغة الحوار مع المسلمين تتمثَّل في النقل أو النصّ، وهي عبارة عن القرآن وسنة رسول الله‘، أما في الحوار مع أتباع الأديان الإلهية الأخرى فإن النقل أو النصّ عبارة عن تلك الكلمات التي تشترك بها كافّة الكتب السماويّة، وبالتالي فإن كافّة المقاربات التي لا تخالف العقل والنص، وتحظى بالقبول من جميع المتخصِّصين في الأديان، تنال القبول.
أما الحلّ الآخر لتحقيق الاتحاد والوحدة فهو إدراك حلاوة ثمراتها. نعم، لقد عانت المجموعات التي حاربت بعضها من قَبلُ، كالأوس والخزرج، مآسي الحروب التي أكلت الأخضر واليابس ، وقضت على الأموال والشباب، ودمّرت المدن، وأصابت مَنْ تورّطوا فيها بالاضطراب والقلق، وسلبت منهم الأمن والطمأنينة، وجرّت عليهم الفقر والحرمان، ودفعتهم للسفر لمسافات طويلة، والتوجّه إلى أماكن بعيدة، واللجوء للاستدانة حتى يهيّئوا الإمكانات اللازمة لاستمرار الحرب، ولكن مع تخلّيهم عن النزاع والشقاق في ظل الإسلام لاحظوا بسهولة أنهم إخوان في الدين، لا يخشون بعضهم، ولا يشكّون في بعضهم، ونمت أموالهم، وتخلّصوا من نار الفقر والقلق. ويذكّرهم القرآن جميعاً بتلك النعمة فيقول: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها﴾.
نعم إن (الوحدة) نعمة إلهية تخلق الأخوَّة الكاملة، وهي بنفسها من الأمور المطلوبة. فـ (الإخوَة) تختلف عن (الإخوان)؛ إذ الأولى تستعمل في المرحلة الأولى من الصداقة، والثانية تطلق عندما تكتمل الصداقة وتخلص المودّة. وقد استعملت كلمة (إخوان) في الآية([2]).
ومن ناحية أخرى فإنّ العداوة سيّئةٌ في حدِّ ذاتها، تلقي بصاحبها إلى هاوية الاضطرابات الروحيّة والنفسيّة في الدنيا، وتؤدّي به إلى الجحيم في الآخرة.
وتبين الآية التالية الحلول المطروحة للحفاظ على الوحدة وبقائها، وذلك عبر وجود مجموعة من الأفراد العقلاء المتفهّمين الذين يدعون الآخرين للخير والسعادة، أي الوحدة والتقدّم في ظلّها، واعتبار الأعمال المقبولة عُرفاً وعقلاً، والتي تعتبر الدعوة إلى الوحدة، من أسمى مصاديقها، ويردعونهم عن الأفعال القبيحة والمرفوضة.
لذا ينبغي للعلماء والعقلاء أن لا يكلّوا أو يملّوا من النداء للوحدة؛ إذ كم من جاهل أو عميل أو مخدوع أو إمَّعة يدقّ على طبل الخلاف والنزاع، مستغلاًّ أدنى إشكال من الطرف المقابل أو سوء فهم لاتخاذه وقوداً للشقاق. وهنا يتجلّى دور العقلاء والعلماء والمفكّرين الذين يسيرون في السبيل القويم من خلال دعوتهم إلى الوحدة.