أحدث المقالات
ترجمة: قاسم الكعبي

تمهيد ــــــــــ

قال أحد الرواة السنّة: «قلت للصادق جعفر بن محمد: أخبرني عن قول الله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، كيف أنزل القرآن في شهر رمضان، وإنما أنزل القرآن في مدّة عشرين سنة؟ فقال: أنزل القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم أنزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة»([1]).

لقي هذا الحديث غير المعتبر ترحيباً واسعاً وقبولاً حسناً من جانب عدد كبير من علماء السنّة وبعض علماء الشيعة، واعتقدوا ـ طبقاً لهذه الروايات ـ أن للقرآن نزولين: أحدهما دفعيّ في شهر رمضان لم ينزل على الأرض، أو يوحى إلى النبي 2، بل نزل في السماء على البيت المعمور، والنزول الآخر نزولٌ تدريجي في الأرض، على قلب رسول الله 2 في شهر رجب أو ربيع الأول. وقد كان مدوّناً من قبل رسول الله2([2])؛ من هنا دخل الثقافةَ الاسلامية مفهومٌ مبهم غير واضح المعالم، هو مفهوم «البيت المعمور»، وبعبارة أدق دخل ثقافة المسلمين، ولحدّ الآن لا نتصوّر هل للبيت المعمور الذي ذهب إليه رواة السنّة ـ سيأتي شرحه فيما بعد ـ واقع خارجي، أم أنه من صنع خيال بعض الصحابة والتابعين؟ حيث طبقوه ـ فيما بعد ـ على مفهوم «البيت المعمور» الوارد في سورة الطور. وسوف نتناول معنى «البيت المعمور» بصورة مفصلية، ونتكلّم ـ ضمن الإشارة إلى ذلك ـ عن النزول الدفعي والتدريجي للقرآن.

ونشير في بداية البحث بصورة مختصرة للمعنى الصحيح للبيت المعمور الوارد في سورة الطور.

الكعبة هي البيت المعمور ــــــــــ

أقسم الله سبحانه وتعالى في سورة «الطور» بعدّة أشياء، منها: القسم بالطور، والكعبة، وقد تكرّر هذا القسم في سورة التين أيضاً، قال تعالى في سورة الطور: >والطور وكتاب مسطور في رقّ منشور والبيت المعمور… إن عذاب ربّك لواقع…< الطور: 1ـ 7، وفي سورة «التين» قال تعالى: >والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم…. < التين: 1ـ 4.

والقسم بهذه الأشياء ـ جبل الطور ومكّة والكعبة ـ إنما يرجع لقداستها عند الله سبحانه، أما سبب إطلاق اسم «البيت المعمور» على الكعبة، فلأنها تعمُر بزوارها، قال تعالى: >انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر… <براءة: 18، كما سمّيت مكة بــ«البلد الأمين»؛ لأنها محلّ الأمن، قال تعالى: >من دخله كان آمناً<آل عمران: 97.

وهناك تسمية أخرى للكعبة في القرآن وهي: «البيت الحرام»؛ ذلك أن لها حرمةً خاصة عند الله، قال تعالى: >جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس< المائدة: 97.

وسمّيت أيضاً بـ «البيت العتيق»، كما ورد ذلك في بعض الآيات: >وليطوفوا بالبيت العتيق< الحج: 29، وهذه الأسماء جميعها، أي: «البيت المعمور»، «البيت الحرام»، و«البيت العتيق» تدلّ على معنى واحد وهو الكعبة. ولو تأمّلنا الآيات المذكورة وتناسب معانيها لاتضح أن المراد من «البيت المعمور» في سورة الطور الكعبة عينها؛ لكن الصحابة والتابعين لم يقنعوا بهذا المعنى، وحاولوا أن يجدوا «للبيت المعمور» معنى آخر أكثر قداسةً من الكعبة نفسها؛ فصوّبوا أنظارهم تلقاء السماء بدلاً من الأرض، باحثين عن هذا المعنى في العالم العُلوي، مستفيدين من قوّة الخيال، فذكروا أشياء عجيبة غريبة، وفيما يلي سرد لما ذكروه:

معنى البيت المعمور عند الصحابة والتابعين ــــــــــ

أشرنا إلى المقصود من البيت المعمور في سورة الطور وأنه الكعبة نفسها؛ لأنها معمورة بزوارها، كما سمّيت بالبيت الحرام لحرمتها عند الله، وباعتبار قدمها سميت بالبيت العتيق، هذا هو المعنى المستفاد من القرآن؛ لكن الصحابة ـ كما قلنا ـ حلّقوا بعيداً في عالم الخيال، تحت تأثير القصص المثيرة الطريفة، وتمسّكوا بالحكايات غير الواقعية، فأظهروا تفنناً عجيباً في تفسير البيت المعمور، ونذكر هنا عدّة نماذج من هذه الأقوال:

1 ـ قال قتادة([3]): «وذكر لنا أن رسول الله 2 قال يوماً لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه مسجدٌ في السماء بحيال الكعبة، لو خرّ خرّ عليها، يصلي كلّ يوم فيه سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم»([4]).

2 ـ ونسبت عائشة إلى رسول الله 2 أيضاً أنه قال: «إنّ هذه الكعبة بحيال البيت المعمور في السماء، يدخل ذلك المعمور سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، لو وقع حجر لوقع على ظهر الكعبة»([5]).

ولم يوضح قتادة ولا عائشة معنى: «الكعبة بحيال البيت المعمور»، سيما مع الأخذ بعين الاعتبار الحركة الدائمة للأرض، ومن الطبيعي أن لا يكون لعائشة ولا قتادة علم بحركة الأرض.

كما لم يوضحا أيضاً هل أن مقصودهم من: «لو وقع حجر لوقع على ظهر الكعبة» أن البيت المعمور مبنيّ من الحجر والإسمنت ومواد البناء الأخرى، كما هو الحال في الكعبة؟!

3 ـ قال الضحاك بن مزاحم، المفسّر المعروف: mالبيت المعمور أنزل من الجنة فكان يعمر بمكّة فلما كان الغرق رفعه الله، فهو في السماء السادسة، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك من قبيلة إبليس، ثم لا يرجع إليه أحد يوماً واحداً أبداً…»([6]).

4 ـ ونظير هذا القول ما ورد عن ربيع بن أنس([7]) قال: «إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدمA، فلما كان زمان نوح أمرهم أن يحجّوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رُفِعَ، فجعل في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصّور، قال : فبوّأ الله لإبراهيم مكان البيت حيث كان، قال تعالى: >وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً…<n([8]).

ولم يوضح الضحاك بن مزاحم ما هو المقصود بنزول البيت المعمور؟ وهل المراد من الجنة هنا الجنة الموعودة أو جنةٌ أخرى؟ وهل كان بناء البيت المعمور من هذه المواد الأرضية كالحجر والإسمنت أو من مواد أخرى؟ ولم يبيّن الضحاك أيضاً لماذا يسمح لقبيلة إبليس بالدخول إلى البيت المعمور دون غيرهم؟ ثم إن قول الضحاك لا يتطابق مع رواية أنس في مكان البيت المعمور، حيث ذهب الأول إلى أن مكانه السماء السادسة، فيما ذهب الثاني إلى أن السماء الأولى هي مكان البيت.

5 ـ نسب أبو هريرة إلى رسول الله أنه قال: «في السماء السابعة بيت يقال له: المعمور، بحيال الكعبة، وفي السماء الرابعة نهر يقال له: الحيوان، يدخله جبرائيل كل يوم فينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخرّ عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكاً، يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه، فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبداً، ويولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفاً يسبّحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة»([9]).

ولم يبيّن أبو هريرة في هذه الرواية هل أن جبرائيل موجود جسماني ينغمس في الماء نافضاً جناحيه؟ وهل أن نهر «الحيوان» يشبه الماء الموجود في الأرض؟ وهو الذي يتكوّن من الهيدروجين والأوكسجين، أو هو من نوع آخر؟

6 ـ نسب أنس بن مالك إلى رسول الله 2 أنه قال في سفر المعراج: «… ثم عرج بنا إلى السماء السابعة…. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور..»([10]).

ولم يبيّن أنس بن مالك([11]) هنا هل أن البيت المعمور مصنوعٌ من مواد أرضية حتى يتكئ عليه إبراهيم A؟ وكيف يتكّىء إبراهيم A على حائط البيت المعمور المادي وهو في عالم البرزخ، ولم تكن روحه في جسده؟!

7 ـ ونُسب إلى الإمام علي A أنه سئل عن البيت المعمور، قال: «ذلك الضرّاح([12]) بيت فوق سبع سماوات تحت العرش، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة..»([13]).

وتنقسم الأخبار في مكان البيت المعمور ـ إجمالاً ـ إلى ستة: 1 ـ السماء الأولى. 2 ـ السماء الثالثة. 3 ـ السماء الرابعة. 4 ـ السماء السادسة. 5 ـ السماء السابعة. 6 ـ فوق السماء السابعة وتحت العرش([14]). وما ذكر هنا بعض الأقوال الطريفة للصحابة والتابعين في معنى البيت المعمور.

تحليل واستنتاج ــــــــــ

يمكن ـ بجمع ما ورد من أقوال الصحابة والتابعين في هذه المسألة ـ الخروج بالتصوّرات التالية:

1 ـ البيت المعمور مسجد نزل من الجنة إلى الأرض.

2 ـ عند نزول البيت من الجنة نصب في مكان الكعبة من أجل العبادة.

3 ـ دعا نوح A الناس لزيارة البيت المعمور فامتنعوا، فرفع إلى السماء ليكون محلّ عبادة الملائكة.

4 ـ في كلّ يوم يصلي في البيت المعمور سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه إلى يوم القيامة.

5 ـ الملائكة التي تصلي في البيت المعمور من قبيلة إبليس.

6 ـ خلق الله الملائكة ـ 70 ألف ملك ـ من قطرات الماء المنفصلة من أجنحة جبرائيل.

7 ـ يُخلق في كل يوم جديد سبعون ألف ملك؛ للصلاة في البيت المعمور.

8 ـ يصلي الملائكة في البيت المعمور مرةً واحدة فقط، ثم يقفون في مكانٍ ما من السماء تحت ولاية أحدهم، يسبّحون الله إلى يوم القيامة.

9 ـ يتكؤ إبراهيم A في السماء السابعة على حائط البيت المعمور.

10 ـ يحاذي البيت المعمور ـ وهو في السماء ـ الكعبة الشريفة، وهو محلّ احترام الملائكة، كما الكعبة محلّ احترام الناس.

11 ـ مكان البيت المعمور في السماء الأولى، أو الثالثة، أو الرابعة، أو السادسة، أو السابعة، أو فوق السماء تحت العرش.

أفضلية البيت المعمور على الكعبة! ــــــــــ

استدلّ القائلون بأن البيت المعمور في السماء على أفضليّته على الكعبة بثلاثة أدلّة:

الدليل الأول: أنّ محله في السماء، وهي أفضل من الأرض.

الدليل الثاني: أن عمّاره والمصلّين فيه من الملائكة وزوّار الكعبة من البشر، ومن المعلوم أن الملائكة موجودات علوية معصومة لم تلوّث بالمعاصي كالإنسان.

الدليل الثالث: إن عدد زوّار البيت المعمور والمصلّين فيه أكبر بكثير من زوّار الكعبة؛ إذ في كلّ يوم يصلي سبعون ألف ملك فيه، لا تصل النوبة إليهم مرةً أخرى إلى يوم القيامة، وعند ضرب هذا العدد بالأيام القمرية للسنة وهي 355 يوماً، يصبح حاصل الضرب أربعة وعشرون مليون وثمانمائة وخمسون ألفاً، وهذا العدد الكبير إنما هو لسنة واحدة فقط، ونحن نعلم أن معنى عمارة الكعبة والبيت المعمور أن يكون للمصلّين والزوار حركة متواصلة في الذهاب والإياب، وكلّما زاد عدد الزوّار ارتفعت درجة العمارة، ولا يخفى أن زوّار الكعبة أقلّ بكثير من زوار البيت المعمور، كما ورد في الروايات.

ولهذه الأسباب مجتمعةً كان البيت المعمور أفضل من الكعبة؛ ولذلك لا بد من تفسيره وهو الذي أقسم به الله سبحانه وتعالى بالبيت المعمور السماوي، محلّ عبادة الملائكة، لا الكعبة الأرضية، مكان عبادة البشر الملوّثين بأنواع الذنوب والمعاصي.

مقولة مثيرة! ــــــــــ

ذكر أبو هريرة([15]) قصّةً طريفة حول عدد الملائكة الذين يصلّون في البيت المعمور كلّ يوم، وأن هذا العدد لا يكون أقلّ من سبعين ألف ملك، والقصة هي انغماس جبرائيل A في نهر الحيوان في السماء الرابعة، ثم خروجه منه ونفض أجنحته، فتخرج منها سبعون قطرة لا أكثر ولا أقل من ذلك، ثم يُخلق من كلّ قطرة ملك، ويصلّي هؤلاء الملائكة في البيت المعمور لمرّة واحدة فقط، ثم يخرجون ولا يرجعون إليه مرةً أخرى، وهكذا يكرّر جبرائيل هذه العملية اليومية إلى قيام الساعة.

وبذلك لا يُحتمل نقصان عدد الملائكة المصلّين في البيت المعمور كلّ يوم، ولا يوجد ما يثير القلق حول هذه المسألة.

أقوال طريفة ــــــــــ

اتضح مما سبق كيف ذهب الصحابة والتابعون مذاهب غريبة في تفسير البيت المعمور، فأدلى كل واحد بدلوه، وقال طبقاً لرأيه واجتهاده، وبعباره أدق: طبقاً للأهواء النفسية، كالمسائل التي وردت في انغماس جبرائيل والعرش وما دون العرش، ونزول البيت المعمور من الجنة إلى الأرض، ثم صعوده إلى السماء، واتكاء إبراهيم الخليل على حائط البيت المعمور في السماء السابعة، وكلام من هذا القبيل، كلّه مخترع، والعجيب عدم وجود نقد له من أحد.

فعندما يكون أبو هريرة وأتباعه في الفكر محلّ احترام المجتمع وتحت حماية بني أمية، وتسود أقوالهم في المجتمع الإسلامي.. فمن الطبيعي أن يتقبّل الآخرون مثل هذه الآراء، أو يقبلونها مضطرّين.

وهكذا انتقلت هذه الآراء والأقوال من عصر الصحابة إلى عصر التابعين آراءً صحيحة، لتصل ـ عبر ذلك ـ إلى الأجيال الأخرى، وهكذا انتشرت بصورة تدريجية في مجال التفسير سواء كان ذلك عن طريق النقل الشفوي، أو عن طريق النقل من الكتب، ثم عمّت الوسط العلمي في المجتمعات الإسلامية، بحيث ظنّوها الآراء الصحيحة دون غيرها.

وبهذا هيمنت هذه الآراء إلى درجة لم يمتلك ابن جرير الطبري ـ المفسِّر المعروف في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ـ الجرأة على نقد أقوال الصحابة والتابعين في مسألة البيت المعمور، مع كونه من أصحاب الرأي في هذه المسائل، مكتفياً بما وصله عنهم في هذا المضمار، وإذا ما تردّد في صحّة بعض هذه الآراء يكتفي بنقلها، حتى لا يتهم بالطعن بحديث رسول الله 2 فيما إذا تجرأ وردّ حديث أبي هريرة المنسوب إلى النبي 2، وتحمّل عواقب هذه المسألة ليس بالأمر الهيّن.

نُقل عن بعض المحدّثين أنه نسب إلى رسول الله 2 حديث: «احتجّ آدم وموسى» في حضور هارون الرشيد وعنده رجل من وجوه قريش، فقال القرشي: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث النبي 2، قال الراوي: فما زلت أسكّنه، وأقول: يا أمير المؤمنين كانت منه بادرة، حتى سكن([16]).

من هنا، نلاحظ مقدار سيطرة أفكار أبي هريرة وأقرانه في المجتمع الإسلامي عن طريق الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله 2، إلى درجة لم تمنع هارون الرشيد من إصدار أمرٍ بقتل أحد كبار الشخصيات الاجتماعية الكبيرة بسبب سؤاله المنطقي: أين التقى موسى بآدم؟

انتقال نظرية

سماوية البيت المعمور إلى المحيط الشيعي ــــــــــ

كانت أفكار أبي هريرة حاكمةً على المجتمع الإسلامي إلى حدّ كبير على شكل أحاديث منسوبة إلى الرسول 2، إلى درجة أن مفسّراً كبيراً مثل الطبرسي عندما أراد تفسير سورة «الطور» لم يستطع التخلّص من تأثير هذه الأفكار عند مراجعته كتب أهل السنّة؛ ولذلك وقع تحت تأثير روايات الصحابة والتابعين في معنى «البيت المعمور»؛ فقد فسّره بالبيت السماوي الذي ذكره الصحابة والتابعون، بل ذهب أكثر من ذلك عندما نقل حديث أبي هريرة في انغماس جبرائيل في نهر الحيوان كلّ يوم([17])، دون أن يوجّه إليه نقداً أو تعليقاً، الأمر الذي يثير الدهشة والأسف معاً، ولو أخذنا بنظر الاعتبار مدى هيمنة تلك الأفكار على المحيط التفسيري في تلك الفترة لزال عنا مثل هذا الاستغراب.

نقد نظرية سماوية البيت المعمور ــــــــــ

جميع ما ذكرناه من روايات في تفسير «البيت المعمور» من مصادر أهل السنّة غير معتبر، لا يمكن الاعتقاد بمضمونه، وإن نُسب بعضه إلى رسول الله، أو الإمام علي A أيضاً، وحيث لا سند صحيح له فلا يكون حجّةً، والاحتياط يقتضي عدّه من الروايات المشكوكة، وطبقاً لذلك من غير الصحيح اعتقاد المسلم بسماوية البيت المعمور الوارد في سورة الطور، وأنه يصلّي فيه سبعون ألف ملك يومياً، من اليوم الأول لخلقه، وأن هؤلاء الملائكة من قبيلة إبليس، وهي مخلوقة من قطرات أجنحة جبرائيل، فجميع ذلك من صنع خيال بعض الصحابة والتابعين الذين لا يراعون جانب الاحتياط في مثل هذه المسائل.

علاقة البيت المعمور بنزول القرآن ــــــــــ

تبلورت هذه التصورات السائدة حول البيت المعمور عن طريق الروايات المنسوبة إلى النبي 2؛ وبغية حلّ إشكالية نزول القرآن، فالإشكالية التي واجهت هؤلاء أن القرآن يصرح: >شهرمضان الذي أنزل فيه القرآن< البقرة: 185، و> إنا أنزلناه في ليلة مباركة< الدخان: 3، و>إنا أنزلناه في ليلة القدر< القدر: 1، وهذا يعني أن القرآن إنما أنزل في شهر رمضان، وفي ليلة مباركةٍ هي ليلة القدر.

هذا ونعلم ـ من جهة أخرى ـ أن القرآن إنما نزل تدريجياً في فترة ثلاث وعشرين سنة طيلة حياة النبي 2، طبقاً لحاجات ذلك الوقت.

ولحلّ هذا المعضل قالوا: نزل القرآن جملةً واحدة كاملاً في السماء على البيت المعمور، ثم بعد ذلك نزل بالتدريج على قلب رسول الله 2 طبقاً لاحتياجات العصر، روى ابن عباس أنه قال في هذا المجال: m… إن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان، نزل القرآن جملة واحدة من الزُبُر إلى البيت المعمور وهو مواقع النجوم في السماء الدنيا، حيث رفع القرآن، ثم نزل على محمد 2 بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاًn([18]).

إن القائلين بفكرة وجود البيت المعمور كما رسمها أبو هريرة إنما أقدموا على ذلك لحلّ هذا المعضل المشار إليه، وتتمثل آليّة الحل باقتراح نزولين للقرآن: أحدهما دفعي، والآخر تدريجي.

ولا يمكن الجزم بنسبة هذا الرأي لابن عباس؛ ذلك أنه شخصية ذكية، عالمة بالكثير من دقائق القرآن وأسراره، فقد لازم أمير المؤمنين A وتلمّذ عليه مقرّراً كثيراً من المسائل، ومن البعيد أن تكون هذه الفكرة الخيالية من إبداعه، نعم، يحتمل أن تكون قد نسبت إليه ـ وهو جدّ الخلفاء العباسيين ـ في العصر العباسي.

ثمّة علامات استفهام كثيرة تدور حول هذه الفكرة، وعلى أصحابها الإجابة عنها، منها:

1 ـ أين تكمن ضرورة وجود نزولين للقرآن: أحدهما دفعي في السماء والآخر تدريجيّ على قلب رسول الله 2، فيما نرى كفاية النزول التدريجي؟!

2 ـ هل ثمة من يتلقى هذا الوحي القرآني في البيت المعمور؟ وإذا ما كان موجوداً فهل هو من جنس البشر أو من الملائكة؟ وإذا كان إنساناً فمن هو؟ وإذا كان من الملائكة فما اسمه؟

3 ـ إذا لم يكن هناك من يتلقى الوحي الإلهي، فهل نزل هذا الوحي إلى البيت المعمور نفسه وهو مسجدٌ في السماء، كما ورد في الروايات؟ وبعبارة أخرى: هل أن البيت المعمور نفسه هو من تلقّى هذا الوحي؟

4 ـ إذا كان الأمر كذلك، فهل للبيت المعمور شعور وإدراك واستعداد لاستلام الوحي وتلقيه؟

5 ـ هل إن البيت المعمور قد تلقى الوحي من الله مباشرة أو من جبرائيل؟

6 ـ هل كان القرآن النازل على البيت المعمور مكتوباً ومدوّناً؟

7 ـ هل بقي هذا القرآن في البيت المعمور بعد أن نزل بالتدريج ـ حسب قولهم ـ منه على رسول الله 2؟

8 ـ إذا كان باقياً فما ضرورة بقائه؟ فإن وظيفة القرآن النازل إلى الأرض تكمن في هداية البشر؛ لضمان فوزهم بالدارين، فإذا كان الأمر كذلك فمن هم هؤلاء المخاطبون بالقرآن النازل في البيت المعمور؟

9 ـ إذا لم يكن ثمّة مخاطبون بالقرآن في البيت المعمور، فهل يعني ذلك بقاؤه عاطلاً عديم الأثر إلى يوم القيامة؟! وهل يبقى في سجنه هذا إلى يوم الدين؟

أعتقد أن الذين ذهبوا إلى هذا الرأي لو واجهوا مثل هذه الإشكاليات لم يطرحوا مسألة نزول القرآن على البيت المعمور، هذه المسألة التي رسمها وخطط لها أبو هريرة، ثم ما لبثت أن دخلت بعد ذلك تاريخ القرآن، نعم دخلت هذه المسألة تاريخ القرآن المهجور والإسلام المظلوم، وقد تابع الآخرون أبا هريرة في هذا الأمر.

هيمنة نظرية سماوية البيت المعمور على الموروث التفسيري ــــــــــ

ما ذكرناه من نصوص في مصادر أهل السنّة في موضوع بحثنا بات القول السائد في الوسط العلمي والتفسيري عندهم؛ لآن آراء أصحاب أبي هريرة كانت محلّ تأييد ودعم السلطة آنذاك؛ ولذلك روّجوا لهذه الفكرة، دون أن يتجرّأ أحد على رفضها أو معارضتها، ثم انتقلت هذه الفكرة من جيل إلى آخر، يتلقفها المفسّرون فكرةً مُجمع عليها غير قابلة للشك والمناقشة، قال القرطبي ـ من مفسّري السنّة الكبار في القرن السابع الهجري ـ : «لا خلاف في أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر جملةً واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبرائيل صلّى الله عليه وسلم ينزل به نجماً نجماً في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة»([19])، فعندما يقول القرطبي: «لا خلاف في…» فهذا يعني سيادة هذه الفكرة ـ أي أن للقرآن نزولين: أحدهما دفعي والآخر تدريجي ـ في القرن السابع الهجري، ذاك القرن الذي كان يعيش فيه القرطبي نفسه، وقد انتقلت من الصحابة والتابعين إلى الأجيال الأخرى.

ومن الواضح انطلاقة هذه الفكرة منذ زمان تأليف كتب التفاسير والحديث في القرن الثاني الهجري في المحيط الإسلامي، وأخذها من أقوال الصحابة والتابعين، ويمكن أن يقال: إن هذه الفكرة أصبحت أكثر رواجاً منذ أواسط القرن الثاني الهجري بصورةٍ تدريجية، حتى غدت السائدة، لا يمكن القدح بها ولا المناقشة فيها.

نسبة نظرية سماوية البيت المعمور إلى الإمام الصادقA ــــــــــ

نسب بعض أهل السنة هذه الفكرة إلى الإمام الصادق A في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ثم دخلت كتب الحديث، ومنذ تلك اللحظة أخذها محدّثو الشيعة منهم ودوّنوها في كتبهم، بل ذهب بعضهم إلى الاعتقاد بصحّتها.

روى الشيخ الصدوق في كتاب «الأمالي» حديثاً رواته الأصليين من أهل السنّة قال فيه: «حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطّار، قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد الإصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: قلت للصادق جعفر بن محمد: أخبرني عن قول الله: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن<، كيف أنزل القرآن في شهر رمضان وإنما أنزل القرآن في مدّة عشرين سنة أوّله وآخره؟ فقال: أنزل القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة»([20]).

ورواة هذا الحديث:

1 ـ أحمد بن محمد بن يحيى العطار: وفيه اختلاف بين علماء الرجال في ردّ روايته أو قبولها([21]).

2 ـ سعد بن عبد الله الاشعري القمي: مورد قبول علماء الرجال([22]).

3 ـ القاسم بن محمد الإصفهاني: ليس مقبولاً عند الرجاليين، ولا يعتمد على روايته([23]).

4 ـ سليمان بن داود المنقري (231هـ): من رواة أهل السنّة، قال فيه بعض علماء الرجال من العامة: أ ـ هو من شياطين الإنس. ب ـ يكذب في الحديث. ج ـ يشرب الخمر حتى يسكر. د ـ من أهل الفسق والفجور والانحراف الجنسي. هـ ـ كذّاب يضع الحديث. و ـ يضع الإسناد للروايات الموضوعة([24])، ولهذه الأسباب مجتمعةً وضع علماء الشيعة علامة استفهام حوله.

5 ـ حفص بن غياث (194هـ): كان قاضياً لهارون، ومن رواة أهل السنّة، قال فيه بعض الرجال: أ ـ لايؤخذ بما تفرّد بروايته([25]). ب ـ كثير الغلط([26]). ج ـ ضعيف الحافظة؛ ولا يعتمد على ما يرويه من حافظته. د ـ أحاديثه المروية في بغداد والكوفة ـ من ثلاثة إلى أربعة آلاف حديث ـ كلّها من حافظته([27]). هـ ـ قال أحمد بن حنبل ومحمد بن سعد ـ صاحب الطبقات ـ: حفص بن غياث مدلّس([28]). وقال الزمخشري في المدلِّس: «والمدلِّس لا يقبل حديثه، وهو الذي لا يذكر في حديثه من سمعه منه ويذكر من هو أعلى ممّن حدّثه، يوهم أنه سمعه منه»([29]).

نقد نسبة النظرية للصادق A ــــــــــ

ومن نقاط ضعف هذا الحديث:

1 ـ الراوي الثالث للحديث لا يُعتمد عليه، وغير مقبول عند علماء الرجال.

2 ـ الراوي الرابع، أي سليمان بن داود المنقري، متهم بالكذب ووضع الحديث.

3 ـ الراوي الخامس، أي حفص بن غياث متهم بضعف الذاكرة وأن أحاديثه جميعها مروية عن حافظته، إضافةً إلى كونه مدلّساً، أي يروي الحديث عمّن لم يسمع منه بحيث يوهم أنه سمع منه.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار جملة هذه النقاط في سند الحديث، ثمّة احتمالات ثلاثة فيه، جميعها يؤدي إلى عدم الأخذ به وهي:

1 ـ أن يكون موضوعاً من قبل القاسم بن محمد الإصفهاني؛ لسوء ظنّ علماء الرجال به.

2 ـ أن يكون سليمان بن داود المنقري هو الذي نسب هذا الحديث للإمام الصادق؛ وذلك عن طريق حفص بن غياث؛ لأنه متهم بالوضع من جانب الرجاليين.

3 ـ أن يكون حفص بن غياث سمع هذا الحديث من أحد رواة أهل السنّة في طبقة أدنى من طبقة الإمام الصادق A، ثم نسبه للإمام A تدليساً، فقد ذكرنا سابقاً أن حفصاً كان مدلّساً، والذي يقوّي هذا الاحتمال ما نلاحظه عند مراجعة رجال الشيخ الطوسي([30]) من أنه يعدّ من رواة الإمام الباقر A، أي أنه يروي عن الإمام الباقر A بلا واسطة؛ ولهذا كان من رواته، والحال أن ولادة حفص بن غياث كانت سنة (117هـ)([31]) أمّا وفاة الإمام الباقر A فكانت عام (114هـ) أو (116هـ)، ومعنى ذلك أن ولادة حفص بن غياث كانت بعد وفاة الإمام الباقر A؛ فلا يمكن أن يروي عنه بلا واسطة؛ لكنه سمع هذه الرواية من الطبقة التي جاءت بعد الإمام ونسبه إليه تدليساً.

من هنا، يتبين ضعف هذا الحديث، وعدم إمكان الاعتقاد بمدلوله، ومع ذلك نجد الشيخ الصدوق لم يكتف بنقله في «الأمالي» فحسب، بل كان يعتقد بمدلوله أيضاً.

نظرية الشيخ الصدوق ــــــــــ

قال الشيخ الصدوق في الاعتقادات: «اعتقادنا أن القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملةً واحدة إلى البيت المعمور، ثم نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة…»([32]).

نلاحظ هنا أن الشيخ الصدوق يعتقد بنفس مضمون الحديث الذي ذكره في كتاب «الأمالي»، وقد ذكر مدّة النزول التدريجي للقرآن أيضاً طبقاً لما ورد في الحديث نفسه، وهي عشرون سنة، وهذا يوافق ما جاء عن بعض أهل السنّة من أن بداية نبوّة الرسول 2 كانت في الثالث والأربعين من عمره الشريف([33])، إذ طبقاً لهذا النقل تكون مدّة النبوّة عشرين سنة، وإن كان القول المشهور كونها ثلاثة وعشرين، وكما سبق أن ذكرنا فإن سند هذا الحديث غير معتبر وأن رواته الرئيسيين متهمون بالكذب والتدليس.

وليس معلوماً ماذا يريد الصدوق هنا؟ هل يريد بيان عقيدته الخاصة أم اعتقاد الشيعة الإمامية عموماً؟ إذ لو كان يريد بيان ذلك فسوف يكون هذا الاعتقاد مبتنياً على حديث غير معتبر، وإن كان يريد شرح اعتقاد الشيعة فإن هذه المسألة من المسائل النظرية القابلة للبحث والاجتهاد، فلا يمكن نسبتها إلى جملة الشيعة بوصفها عقيدةً من عقائدهم؛ ولذلك ردّها بعض علمائهم، وانتقدها كالشيخ المفيد.

اعتراض الشيخ المفيد على الصدوق ــــــــــ

قال الشيخ المفيد في اعتراضه على الصدوق: «… الذي ذهب إليه أبو جعفر رحمه الله في هذا الباب أصله حديث واحد، لا يوجب علماً ولا عملاً، ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً فحالاً يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث؛ وذلك أنه قد تضمّن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلا لحدوثه عند السبب… وقد جاء الخبر بذكر الظهار وسببه، وأنها لما جادلت النبي 2 في حكم الظّهار أنزل الله تعالى: >قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها…< وهذه قصّة كانت بالمدينة، فكيف يُنزل الله تعالى الوحي بها بمكة قبل الهجرة فيخبر بها أنها كانت ولم تكن؟ ولو تتبّعنا قصص القرآن لجاء مما ذكرنا كثيراً يتسّع به المقال..»([34]).

وهنا قد يثار بعض التساؤل، وهو كيف يمكن أن يصدر مثل هذا الأمر من عالم مثل الشيخ الصدوق بأن يجعل حديثاً ضعيفاً غير معتبر أساساً لعقيدةٍ من العقائد دون أن يمارس فيه نقداً أو يسجّل عليه مناقشة؟!

ربما أمكن تبرير ذلك بالقول: قد يحدث في بعض الأحيان عندما يسمع أحد المحدّثين المخلصين المحبِّين لأهل البيت E نسبة بعض الأحاديث إليهم أن يغفل ـ وبسبب هذا الحبّ والعشق ـ عن التأمّل فيما سمعه، فلا ينظر إليه نظرةً ناقدة، ولا يناقش في صحته بل يبني اعتقاده على أساسه، ويمكن أن يقال أيضاً: إن الوضّاعين يدركون هذه الحقيقة جيداً، حيث نسبوا الأحاديث المكذوبة إلى النبي والأئمة؛ لكي يتمكّنوا من استغفال هؤلاء المحدثين، فيدفعونهم إلى الاعتقاد بصواب محتوى رواياتهم مستغلين هذا العنصر النفسي الضاغط، ألا وهو حبّ أهل البيت وعشقهم، وقد نجحوا في تحقيق أهدافهم هذه إلى حدّ كبير.

النظرية الصحيحة ــــــــــ

ولتوضيح الأمر نضرب مثالاً فنقول: إذا انشغل شخصٌ ما بإحداث قناةٍ للماء، فإنه يقول ـ عند ما يخرج الماء من القناة ـ: «خرج ماء القناة يوم الجمعة»، فهل معنى هذا الكلام أن ماء القناة قد خرج في هذا اليوم جميعه؟ بالتأكيد لا، بل معنى ذلك أن الماء قد بدأ بالخروج من القناة يوم الجمعة؛ إذ من غير الممكن خروجه ـ وهو الذي يحتاج لسنوات ـ في يوم واحد، وهذا بنفسه قرينة على أن المقصود من هذا الكلام: «خرج ماء القناة يوم الجمعة» أن بداية خروجه كانت في هذا اليوم،وليس هذا من باب المجاز، أو تقدير كلمة مثل كلمة «بعض»؛ لأن ذلك القسم من ماء القناة الذي يخرج يوم الجمعة هو ماء القناة الحقيقي، وإطلاق ماء القناة عليه إطلاق حقيقي، وليس مجازياً، وهذه المسألة تصدق على الأمور التدريجية جميعها.

وهذه هي الحال في نزول القرآن أيضاً، فلا بد من القول: حيث كان النزول التدريجي للقرآن معلوماً في الوسط الإسلامي، فيكون معنى: >إنا أنزلنا في ليلة القدر<، أن بداية نزوله كان في هذه الليلة، وليس ذلك بالمجاز، ولا من باب تقدير كلمة «بعض»؛ لأن إطلاق لفظ «القرآن» على بعض القرآن إطلاق حقيقي كما هي الحال في إطلاق ماء القناة على بعضه.

مثالٌ آخر: عندما نقول في أوّل يوم من أيام شهر رمضان: دخل رمضان، فهل معنى ذلك دخول رمضان كلّه دفعةً واحدة؟ من المؤكّد أن الجواب سلبي؛ لأن أيام رمضان إنما تقع بصورة تدريجية، فمعنى الجملة المذكورة دخول أول يوم من شهر رمضان، وكذلك ليس معنى ذلك دخول كلّ اليوم دفعةً واحدة، بل معناه دخول جزءٍ من اليوم؛ إذ من غير الممكن دخول اليوم كلّه دفعةً واحدة، إذاً فهذا هو حال نزول القرآن، فعندما تقول الآية: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن< البقرة: 185، أو >إنّا أنزلناه في ليلة مباركة<، فلأنِّ تدريجيّة النزول كانت معلومةً للجميع من خلال جوّ النزول، حتى كان هذا الأمر واضحاً للمخالفين للنبي، حيث اعترضوا على القرآن بنزوله جملةً واحدة؟([35]) كان معنى الآيتين المذكورتين نزول أول جزء من القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر المباركة.

ويتبيّن مما تقدم أنّ بداهة الموضوع وجوّ النزول التدريجي للقرآن الذي كان يلمسه الجميع يشكلان قرينةً قطعية وشاهداً يقينياً على أن المراد من الآية: >إنا أنزلناه في ليلة القدر< والآيات المشابهة نزول أوّل قسم من القرآن، أي أنها تشير إلى بداية نزول القرآن، كما يفهم من جملة: «خرج ماء القناة يوم الجمعة»، أي خروج أول جزء منه.

مقولة الفرق بين النزول والإنزال ــــــــــ

يتصوّر بعضهم أن «الإنزال» من باب الإفعال يعني النزول الدفعي، و«التنزيل» من باب التفعيل يعني النزول التدريجي، ولذلك تدلّ آية: >إنا أنزلناه في ليلة القدر< والآيات المشابهة على نزول القرآن بصورةٍ دفعية، فيما تدلّ آية: >ونزلّنا عليك القرآن تنزيلاً< البقرة: 22، والآيات المشابهة على النزول التدريجي.

وهذا التصوّر غير صحيح؛ لأن الإنزال والتنزيل كلاهما يدلّ على مطلق النزول، والتدريجية والدفعية ليستا جزءاً من المفهوم، بل تفهمان بالسياق والقرائن، فقد استخدم القرآن «الإنزال» بمعنى النزول التدريجي، كما استعمل «التنزيل» بمعنى النزول الدفعي، ونضرب مثلاً للأمرين معاً:

المثال الأول: في الآية >أنزل من السماء ماء< البقرة: 22، وهو من باب الإفعال، استعمل بمعنى النزول التدريجي؛ لأن المطر انما ينزل بصورة تدريجية، وهنا توجد قرينة خارجية، أي إن المطر ينزل دائماً بصورة تدريجية، ولا يوجد فرق بينها وبين >ونزّلنا من السماء ماء مباركاً< ق: 9، حيث ورد فيها «التنزيل» وهو من باب التفعيل، أي نفهم النزول التدريجي للمطر في هاتين الآيتين بملاحظة القرينة الخارجية.

المثال الثاني: قال تعالى: >وقالوا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدة< الفرقان: 32، فقد استعمل التنزيل هنا من باب التفعيل بمعنى النزول الدفعي، والقرينة على ذلك كلمة «جملةً واحدة» وهي تدلّ على أن المقصود هو النزول الدفعي؛ لكن الصيغة نفسها «نزل» وهي من باب التفعيل ليس لها مفهوم لا دفعياً ولا تدريجياً.

ولمزيد من التوضيح نلاحظ الآية الكريمة: >وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم< النحل:44، والآية: >وقالوا يا أيها الذي نزّل عليه الذكر< الحجر: 6، فإن صيغة «أنزلنا» في الآية الأولى من باب الإفعال و«نزّل» في الآية الثانية من باب التفعيل وقد استعملتا بمعنى واحد؛ لأن الآيتين تطرحان معاً مسألة نزول الذكر ـ أي القرآن ـ على رسول الله 2؛ فكلمة «إليك» في الآية الأولى و«عليه» في الآية الثانية تدلان على أن المراد نزول القرآن على النبي 2، ولا يمكن أن يقال: إن المقصود من نزول القرآن في الآية الأولى هو النزول على البيت المعمور.

وكذلك الآية: >وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم<، فصيغتي: أنزلنا ونزّلنا، ولا شك في إعطاء كلا الصيغتين معنى واحداً، وهو مطلق النزول، دون دلالةٍ فيهما على الدفعية أو التدريجية، وإذا ما أخذنا بفكرة أن صيغة أنزلنا تعني النزول الدفعي و«نزّل» تعني النزول التدريجي، فسوف تكون ترجمة الآية بهذه الصورة: «وأنزلنا عليك القرآن جملة واحدةً لتبيّن للناس ما نزلّ بالتدريج »، وهذا المعنى غير مستحسن، بل غير صحيح، ولم يذكر القائلون بأن الإنزال يعني النزول الدفعي والتنزيل يعني النزول التدريجي.. لم يذكروا أيّ دليل على رأيهم هذا، والادعاء المجرّد عن الدليل لا يمكن القبول به، بل لا بد من القول: إن الإنزال والتنزيل لا فرق بينهما مطلقاً، لا من الناحية اللغوية ولا المفهومية، كما هو الحال في صيغتي الإكرام والتكريم.

نظرية العلامة الطباطبائي في النزول الدفعي ــــــــــ

اقترح الطباطبائي صاحب الميزان حلاً آخر خلاصته: إن معنى الآيات التي تقول: إن القرآن نزل في ليلة مباركة وفي شهر رمضان نزول حقيقة القرآن، في مرحلة اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون وفي أمّ الكتاب، بعيداً عن الكثرة والتغيير والتدرّج، وذلك على قلب رسول الله 2، وهذه المرحلة التي تسبق مرحلة التفصيل لا يمكن استيعابها في قوالب لفظية وعبارات، القرآن في هذه المرحلة عليّ حكيم عند الله، بعيد عن إدراك العقول، وليس مفصلاً آية آية أو جزء جزء، وهو في صقع العلم الربوبي، وفي هذه المرحلة أيضاً نزل القرآن على قلب رسول الله جملةً واحدة، دون أن يكون الرسول مأذوناً من قبل الله أن يأتي بشيء منه؛ لأن الرسالة والبعثة لم تكن رسميةً بعدُ، فلم ينزل قرآناً في قالب لفظي وعبارات لكي يُتلى على الناس، وبتلاوته عليهم يتم تبليغ الرسالة لهم، بل ما نزل كان حقيقة القرآن لا ألفاظه([36])، وعند بداية البعثة نزل القرآن على قلب رسول الله طيلة ثلاثة وعشرين سنة بالتدريج، حتى نهاية البعثة، في قوالب لفظية وعبارات لغوية.

وعلى هذا الأساس، يكون للقرآن نزولان على قلب رسول الله 2: أحدهما النزول الدفعي، ويتعلّق بحقيقة القرآن في مرحلة اللوح المحفوظ قبل التفصيل، حيث كان بعيداً عن الكثرة والتدرّج وإدراك العقول، وهذا ما حصل في ليلة القدر. وثانيهما النزول التدريجي في قوالب لفظية، وآيةً آية، وسورة سورة، مفهومةً للبشر، وهو الذي بدأت به البعثة الرسمية للنبي 2 في السابع والعشرين من شهر رجب([37]).

نقد نظرية الطباطبائي ــــــــــ

هذا هو الحلّ الذي اقترحه صاحب الميزان؛ لكنه خاضع للمناقشة من عدة جهات:

1 ـ لم يذكر العلاّمة أيّ دليل من العقل أو القرآن أو الحديث على ما ذهب إليه، بل هو مجرّد رأي استحساني وذوقي لا يُقنع الباحث الحصيف.

2 ـ إن الآية الكريمة: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس..< تقول: إن القرآن نزل في شهر رمضان لهداية البشر، أمّا نظرية صاحب الميزان فقد حملت الآية هنا على نزول حقيقة القرآن العصيّة عن الانصياع لجسوم الألفاظ والكلمات،من هنا لا يمكن أن يكون القرآن بهذا المعنى وسيلةً لهداية الناس، إذاً فلا بد أن نفسّر القرآن في هذه الآية بالمعنى العرفي، أي القوالب اللفظية؛ لكي نفسح له في المجال لكي يكون وسيلة للهداية والإرشاد.

3 ـ تتعالى حقيقة القرآن في اللوح المحفوظ على الزمان والمكان، فلا يمكن تصوّرها في قالب زماني أو مكاني، كذلك لا يمكن افتراض ألفاظ وعبارات وآيات وسور للقرآن هناك، وإذا كان القرآن في هذه المرحلة غير متشكِّل في عبارات وألفاظ ولا قابلٍ للكتابة أو القراءة، ولا يمكن أن يستوعب في زمان ومكان خاصّ؛ فليس من الصحيح أن يقال: إن حقيقة القرآن التي لا يمكن استيعابها في زمان خاص نزلت في شهر رمضان؛ لأن ما نزل في شهر رمضان يمكن ـ بالتأكيد ـ استيعابه في زمان معين، كما يمكن الاستماع له بالسمع العادي وكتابته وقراءته، فتعيين ظرف زماني لنزول القرآن ـ أي شهر رمضان ـ يمثل شاهداً صارخاً لكون المقصود منه في الآية المذكورة ذاك المتشكِّل في قوالب لفظية وفي زمان خاص، لا حقيقة القرآن المنتمي إلى صقع العالم الربوبي والمتعالي عن الزمان والمكان.

علاقة النزول القرآني بالبعثة النبوية ــــــــــ

عندما نتطرّق إلى زمان نزول القرآن يتداعى إلى الذهن زمان البعثة، فإذا كان نزول القرآن في شهر رمضان فهل كانت بعثة رسول الله 2 مقترنةً بهذا النزول زمانيّاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو مبرّر القول المشهور بأن البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب؟

في الجواب عن هذا السؤال لا بد من القول بأن المؤرخين عندما يتناولون بعثة رسول الله 2 يطرحون ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن المقصود من البعثة بداية الوحي القرآني ونزول أوّل شيء من القرآن على الرسول الأكرم 2.

الاحتمال الثاني: أن المقصود منح مقام النبوة مقترناً بالوحي غير القرآني، قبل نزول القرآن.

الاحتمال الثالث: أن المقصود من البعثة الصدع وإعلان الدعوة بالرسالة.

أ ـ فإذا كان المقصود من البعثة نزول أوّل وحي قرآني على الرسول فلا بد أن تكون البعثة في شهر رمضان وفي ليلة القدر بالتحديد، لأن القرآن يقول: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن< البقرة: 185، وكذلك يقول: >إنا أنزلناه في ليلة القدر< القدر:1، ومن المعلوم أن القرآن إنما نزل على النبي 2.

وقد ذكر الصدوق في «العيون»، عن الفضل بن شاذان أنه نسب إلى الإمام الرضا A القول: «شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، كما قال الله: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن…< وفيه نُبّئ محمد»([38]).

وقد نقل هذا المضمون بعض رواة أهل السنّة أيضاً؛ حيث نسبوا إلى الإمام محمد الباقر A حديثاً يقول فيه: «كان ابتداء الوحي إلى رسول الله يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان»([39])، فإذا كان المقصود من «ابتداء الوحي» في هذا الحديث الوحي القرآني فإن هذه الرواية تصدِّق هذا الاحتمال، أي أن بعثة الرسول اقرنت بنزول القرآن في شهر رمضان. وكذلك كتب اليعقوبي: وأتاه جبرئيل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له به بالرسالة يوم الاثنين، وقال بعضهم: يوم الخميس، وقال من رواه عن جعفر بن محمد: يوم الجمعة، لعشرٍ بقين من رمضان، ولذلك جعله عيداً للمسلمين»([40])، فإذا اعتبرنا جملة «يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان» صادرةً كلّها عن الإمام الصادق A فإن هذا الحديث ينطبق على هذا الاحتمال أيضاً، أي أن بعثة النبي 2 كانت اقترنت بنزول القرآن في رمضان، قال ابن كثير أيضاً: المشهور أن بعثة رسول الله في شهر رمضان([41]).

ب ـ وإذا كان المقصود من البعثة منح مقام النبوّة مقترناً بالوحي غير القرآني كما نقل ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده عن عامر الشعبي قال: «نزلت عليه النبوّة وهو ابن أربعين سنة… ولم ينزل القرآن فلمّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبرائيل، فنزل على لسانه عشرين سنة: عشراً بمكة، وعشراً بالمدينة»([42]).

فإذا كان المقصود من البعثة هنا بدء الوحي غير القرآني، فيمكن أن تكون ـ في هذه الحالة ـ في شهر ربيع الأول، كما جاء في تاريخ اليعقوبي([43])، وهذا ما ذكرهُ المسعودي أيضاً في «التنبيه والاشراف»، حيث قال: «فلما بلغ أربعين سنة بعثه الله إلى كافّة الناس يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وهو اليوم الثالث والعشرين من شهر آبان»([44])، وكذلك يمكن أن تكون البعثة في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، كما ورد ذلك في التهذيب: «وصدع بالرسالة في اليوم السابع والعشرين من رجب وله 2 أربعون سنة»([45]).

وهذا ما ورد كذلك عن الفتّال النيشابوري، قال: «فإذا أتت أربعون سنة أمر الله جبرئيل أن يهبط إليه بإظهار الرسالة، وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر الله الأصمّ»([46]). ويمكن أن تكون البعثة في اليوم الخامس والعشرين، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق: «وفي خمسة وعشرين من رجب بعث الله محمد 2…»([47]).

ج ـ أمّا إذا كان المقصود من البعثة الإعلان بالدعوة، فيمكن أن يكون ذلك في شهر رمضان، كما يمكن أن يكون في شهر ربيع الأول، وفق ما ذكره اليعقوبي والمسعودي، ويمكن كذلك أن يكون في السابع والعشرين من شهر رجب، كما ذكره الشيخ الطوسي، وكذلك يمكن أن يكون في الخامس والعشرين من شهر رجب، كما قاله الشيخ الصدوق.

وربما يكون قصد الشيخ الطوسي من الجملة السابقة: «وصدع بالرسالة» الاحتمال الثالث، أي إعلان الدعوة والصدع بها، وهذا ما يحتمل أيضاً في كلام الفتّال النيشابوري في قوله: «إظهار الرسالة»، أي إعلان الرسالة لا أصل النبوة.

ويتضح مما أسلفناه أنّ اقتران بداية النبوّة والبعثة بنزول القرآن أمرٌ غير محسوم ولا مؤكّد، وإن كان هو القول المشهور، كما اتضح أيضاً أنّ مسألة بداية البعثة في السابع والعشرين هي الأخرى غير قطعية، فيحتمل أن تكون في شهر رمضان، أو في السابع والعشرين من رجب، كما قال الشيخ الطوسي، وقد تكون في الخامس والعشرين منه، كما ذكره الشيخ الصدوق، وأن تكون في شهر ربيع الأول كما نقلناه عن اليعقوبي والمسعودي.

نقد محاولة الطباطبائي في التوفيق بين النزول والبعثة ــــــــــ

بان لنا مما سبق أن المراد من: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن< بداية نزول القرآن في شهر رمضان.

وقد تمسّك صاحب الميزان، لردّ هذا القول، بأن البعثة إنما بدأت بنزول القرآن، وأنها كانت في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، ولذلك لا يمكن القول: إن بداية نزول القرآن كانت في شهر رمضان، بل بداية النزول التدريجي للقرآن كان في السابع والعشرين من شهر رجب.

وقد اتضح مما سبق أن مفهوم البعثة فيه احتمالات ثلاثة: 1 ـ اقتران البعثة بنزول الوحي القرآني. 2 ـ تحققها بنزول الوحي غير القرآني قبل نزول القرآن. 3 ـ أنها من بعث، وتعني إظهار النبيّ لرسالته.

وتبيّن مما سبق أيضاً أن زمان بعثة النبي فيه أقوال ثلاثة: أحدهما: في شهر رمضان. والآخر: في شهر ربيع الأول، والثالث: في شهر رجب.

وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأن البعثة كانت في السابع والعشرين من رجب([48]).

من هنا، يظهر ضعف استدلال صاحب الميزان؛ فقد جعل أمراً غير يقيني أساساً لاستدلاله بوصفه يقينياً، أي كون بعثة الرسول 2 في السابع والعشرين من رجب، وحول بداية نزول القرآن يوم البعثة، وهو القول المشهور، وتفسير آية: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن< ببدء نزوله في شهر رمضان؛ رفض الطباطبائي القولين؛ لأن البعثة كانت في السابع والعشرين من رجب، وبينه وبين رمضان أكثر من ثلاثين يوماً، فكيف يمكن أن يكون السابع والعشرون من رجب يوم المبعث، ولم ينزل فيه ولا بعده قرآن إلى شهر رمضان، ثم بعد ذلك ينزل القرآن في شهر رمضان؟ فالقول ببدء نزول القرآن في شهر رمضان مردود([49]).

ويلاحظ هنا كيف جعل صاحب الميزان أمراً ظنياً عماداً لاستدلاله، فكيف نطلب نتيجةً تطمئن إليها النفس من مقدّمات غير يقينية، لا يمكن القول : إن بداية نزول القرآن كان في السابع والعشرين من رجب؛ استناداً إلى أدلّة ظنية مشكوكة، تذهب إلى أن بداية البعثة كانت في هذا اليوم، والقرآن يقول: >شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن<، فالآية دالّة على أن نزول القرآن كان في شهر رمضان، وهي مسألة لا تقبل الشك ولا الترديد، والرواية التي تقول: إن بداية البعثة كانت في السابع والعشرين من رجب رواية مشكوكة، لا يمكن لها الوقوف مقابل آيات القرآن؛ لأن هذا القول لم يرد عن رسول الله 2 ولا عن الإمام ولا هو مدلول قرآن؛ بل نقل تاريخي لا يُعلم مصدره، بالإضافة إلى وجود أقوال أخرى في الموضوع تخالف هذا النقل، وهي التي تذهب إلى أن البعثة كانت في شهر ربيع الأول أو في شهر رمضان.

قاعدة حمل المطلق على المقيّد ــــــــــ

ثمّة في القرآن الكريم آيات تتحدّث عن النزول بصيغة الإفعال أو التفعيل بصورةٍ مطلقة، مثل: >كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته< ص: 29، و >تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً< الفرقان:1، وهاتين الآيتين ـ وآيات أخرى كثيرة ـ وردت بصورة مطلقة ليس فيها قيد الدفعية أو التدريجية؛ لكن هناك آيات أخرى تحدّثت عن تدريجية نزول القرآن مثل: >وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث< الإسراء: 106، و >وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك…< الفرقان: 32، فكما يتضح من هاتين الآيتين أن القرآن نزل بصورة تدريجيّة، وهنا تقتضي قاعدة حمل المطلق على المقيدّ ـ وهي من القواعد الشائعة المعترف بها عند العلماء ـ حملَ الآيات التي ذكرت النزول بصورةٍ مطلقة على الآيات التي تؤكّد تدريجية النزول، أي أن الآيات التي تتحدّث عن النزول التدريجي للقرآن تفسّر الآيات التي تؤكّد النزول المطلق، والنتيجة أن الآيات المطلقة تريد أن تقول: إن القرآن نزل بصورةٍ تدريجيّة.

ثم إنه لا توجد آية في القرآن تشير إلى النزول الدفعي، أي تقول: نزل القرآن دفعةً واحدة على البيت المعمور أو على قلب رسول الله 2 في شهر رمضان، نعم، هناك حديث غير معتبر يشير إلى هذه المسألة، وقد سبق أن بيّنا أنّ هذا الحديث غير حجّة؛ فلا يمكن الاعتماد عليه.

نقد نظرية النزول القرآني الدفعي ــــــــــ

لو فرضنا أن القرآن كان نزل دفعةً على قلب رسول الله 2، أو على البيت المعمور، فلا بد أن يكون لحن الآية التي وردت في جواب الكفار الذين قالوا: لماذا لم ينزل جملة واحدة؟ هكذا: نعم، القرآن نزل بصورة دفعية، ولكنكم لا تعلمون ذلك، مع أنه لم يرد مثل ذلك في القرآن، بل استعمل بدلاً منه تعبير «كذلك»، أي كذلك أنزلنا القرآن تدريجياً، ومن ثمرات تدريجية النزول رفع الروح المعنوية وتقوية قلب رسول الله 2؛ لأنه يحتاج إلى هذا الأمر باستمرار، وبتجدّد اللطف الإلهي تتحقق هذه المسألة، ومن خلال تجدّد القرآن يتجدّد هذا اللطف الإلهي.

ولهذا، لم يقل الله سبحانه وتعالى في جواب الكفار: نعم، إن القرآن نزل دفعةً واحدة، بل على العكس أكّد تدريجية النزول، من هنا يتضح أن الله يريد أن يقول: نعم، أقبل هذا الاعتراض منكم، فالقرآن لم ينزل بصورةٍ دفعية كما يقول الكفّار، وبهذا الشكل تُنفى دفعية النزول ـ تلويحاً ـ لا على البيت المعمور ولا على قلب رسول الله 2.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما ذُكر يمكن القول: إن القرآن ـ واعتماداً عليه هو نفسه ـ لم ينزل دفعةً، لا على البيت المعمور الذي هو من صنع خيال بعض الصحابة والتابعين، ولا على اللوح المحفوظ، لا آية آية، ولا مكتوباً ومقروءاً على قلب الرسول الأكرم، كما أشار إلى ذلك صاحب الميزان ببيان ذوقي استحساني.

*    *     *

الهوامش



(*) من العلماء المهتمّين بعلوم القرآن والحديث، صاحب كتاب mالشهيد الخالدn الذي أثار ضجةً كبيرة قبل انتصار الثورة، وذهب فيه إلى عدم علم الأئمة E، ومنهم الإمام الحسين A، بشهادتهم قبل تحققها، أصدر مؤخراً كتاباً نقد فيه بعض روايات مجمع البيان…



[1] ــ الصدوق، الأمالي، المجلس 15، الحديث 5؛ وأصول الكافي2: 628.

[2] ــ لم يبيّنوا ما هي الفترة الزمنية بين النـزولين؟ فهل كانت سنوات عدّة، أم قروناً أم لم يكن هناك فترة زمنية أساساً؟

[3] ــ قتادة بن دعامة المفسّر المعروف، ولد بصيراً، وروى عن أنس بن مالك، وروى عنه الأوزاعي، قيل: إنه روى فيما رواه عمّن لم يسمع منهم، توفي سنة 117هـ في واسط، عن عمرٍ يناهز 56 سنة. انظر: تهذيب التهذيب 8: 351 فما بعد.

[4] ــ السيوطي، الدر المنثور 6: 118.

[5] ــ المصدر نفسه.

[6] ــ المصدر نفسه: 117.

[7] ــ روى ربيع بن أنس عن الحسن البصري، وتوفي سنة 139 أو 140هـ، في خلافة المنصور الدوانيقي، انظر: تهذيب التهذيب 3: 238.

[8] ــ تفسير القرطبي 17: 61.

[9] ــ تفسير ابن كثير 4: 239.

[10] ــ السيوطي، الدر المنثور 4: 136.

[11] ــ أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله وأحد الصحابة، توفي في البصرة حوالي العام 90هـ عن عمر يناهز المائة سنة تقريباً. قيل: إن له ثمانين ولداً وبنتين من صلبه. روى عن رسول الله، وجمعٍ كثير من الصحابة، وروى عنه الحسن البصري.

[12] ــ جاء في تفسير الطبري بدلاً من كلمة mضراحn mضريحn. انظر: تفسير الطبري 27: 17.

[13] ــ الدر المنثور 6: 117.

[14] ــ تفسير القرطبي 17: 60.

[15] ــ أبو هريرة الدوسي لم يدرك حياة النبي إلا ثلاث سنوات فقط، ومع ذلك كان أكثر الرواة حديثاً عن رسول الله، روى عنه أكثر من 800 من الصحابة والتابعين. وكان والياً لعمر على البحرين في بعض الأوقات، توفي سنة 57 أو 58هـ في سن 78، أنظر: اُسد الغابة 5: 315، وهناك كتب مستقلة دوّنت في كذب أبي هريرة وعدم اعتبار أحاديثه، منها كتاب mأبو هريرةn لعبد الحسين شرف الدين، حيث كشف النقاب عن الوجه الحقيقي له، جزاه الله خيراً.

[16] ــ السيوطي، تاريخ الخلفاء: 285.

[17] ــ مجمع البيان، سورة الطور.

[18] ــ تفسير الطبري 2: 145.

[19] ــ تفسير القرطبي 2: 297.

[20] ــ ورد هذا الحديث أيضاً في الكافي 2: 628.

[21] ــ رجال المامقاني 1: 95.

[22] ــ المصدر نفسه 2: 16.

[23] ــ المصدر نفسه: 24.

[24] ــ تاريخ بغداد 9: 41 ـ 49.

[25] ــ تهذيب التهذيب 2: 417.

[26] ــ المصدر نفسه: 416.

[27] ــ تاريخ بغداد 8: 195.

[28] ــ تهذيب التهذيب 2: 417؛ وابن سعد في الطبقات 6: 390.

[29] ــ الزمخشري، أساس البلاغة: 134.

[30] ــ الطوسي، الرجال: 118.

[31] ــ تهذيب التهذيب 2: 417.

[32] ــ اعتقادات الصدوق الملحق بكتاب الباب الحادي عشر: 92، طبعة عبد الرحيم.

[33] ــ تاريخ الطبري 2: 43.

[34] ــ شرح عقائد الصدوق مع أوائل المقالات: 232.

[35] ــ الدهر: 23.

[36] ــ لم يوضّح صاحب الميزان هل أن نزول حقيقة القرآن على قلب رسول الله كان قبل البعثة الرسمية وقبل بلوغه أربعين سنةً أو لا؟ وكلامه لا يدلّ هنا على الإثبات أو النفي، رغم أنّه كان من الأجدر به شرح ذلك.

[37] ــ الطباطبائي، الميزان 2: 14 ـ 16.

[38] ــ الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 116.

[39] ــ تاريخ ابن كثير 3: 6.

[40] ــ تاريخ اليعقوبي 2: 17 ـ 18.

[41] ــ تاريخ ابن كثير 3: 6.

[42] ــ المصدر نفسه: 4.

[43] ــ تاريخ اليعقوبي 2: 17.

[44] ــ التنبيه والاشراف: 198.

[45] ــ الطوسسي، تهذيب الأحكام 6: 2.

[46] ــ النيشابوري، روضة الواعظين: 52.

[47] ــ الجوامع الفقهية: 17.

[48] ــ تقام في إيران في السابع والعشرين من شهر رجب مراسم الاحتفال بهذا اليوم، باعتباره من أيام المبعث، تكريماً لمقام الرسالة، وإحياءً لهذه الذكرى، وهذا لا يعني قطعية هذا اليوم من ناحية تاريخية، كما لا يقلل ما قلناه من قيمة هذه السنّة الحسنة؛ لأن الهدف الأساس من هذه المراسم إحياء الذكرى العالمية التي يجب أن تقام مرة واحدة في يوم معين من أيام السنة، فإذا كان الأمر اعتبارياً فلا إشكال فيه، فكيف إذا كان ذكر مثل هذا اليوم في كتب التاريخ بوصفه من أيام البعثة.

[49] ــ الطباطبائي، الميزان 2: 13.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً