أحدث المقالات

ظاهرة التعليل التشريعي، أهميتها ومكانتها

كانت ظاهرة التعليل في أحكام الشرع وما تزال موضع اهتمام العلماء والمفكّرين، سيما في الآونة الأخيرة؛ لأسباب عديدة، نذكر أهمها:

أولاً: إنه عن طريق التعليل يمكن للشرع أن يكتسب مرونةً كبيرة جداً تجعله قادراً على التكيُّف مع جميع العصور والظروف، وتضفي عليه طابع الشمولية لكلّ وقائع الحياة، خاصة بناء على نظرية فقه المقاصد العامة التي راجت كثيراً في العقدين الماضيين في الوسط السنّي، وقلما نجد لها رواجاً بين علماء الشيعة؛ لأن أحد أهم أسسها الاعتماد على الظنّ في استكشاف العلة والتعميم، وهو غير حجّة عندهم.

ثانياً: إنّ تعليل بعض الأحكام يكشف عن وجه المصلحة أو المفسدة التي شرّع الحكم على أساسها، والتي تكون معرفتها غير متيسّرة عادةً إلا لمن كان مرتبطاً بالغيب؛ وذلك لقصور العلم والوسائل المادية في ذلك الوقت عن كشف النقاب عن هذه الحقائق، فيشكِّل التعليل حينئذٍ ظاهرةً إعجازية مستمرّة باستمرار مطابقة ما يكشف عنه العلم مع ما بيّنه الشرع في عصر القصور العلمي.

ثالثاً: إنّ التعليل يُثبت أن الله تعالى حكيمٌ لا يفعل عبثاً، ومع هذا شاعت نظرية الأشاعرة الذين يقولون: إنّ فعل الله تعالى غير معلّل بالأغراض، ووقعوا في مشكلة التوفيق بين ظاهرة التعليل ونظريتهم المذكورة، بل قد يقع في هذا الوهم ــ من حيث لا يشعر ــ أفراد الناس العاديين، ولو كانوا على غير عقيدة الأشاعرة، حيث إن التعبّد والتسليم لله تعالى ورد كثيراً في الشرع، وهو ما قد يوهم الأذهان البسيطة أن فعله تعالى خالٍ من الغرض والمصلحة.

رابعاً: إنّ التعليل وكشف أسرار التشريع يعين المكلف على الطاعة وعدم المعصية؛ لأنه يمتثل ما يقتنع بحكمته وصلاحه، سيما إذا كان في الطاعة جلب منفعةٍ له ودفعَ مضرّة عنه بالخصوص.

وهذه الجهات الأربع في التعليل كلّها جديرة بالبحث سيما الأولى، إلا أن غرضنا هنا إلقاء الضوء على الجهة الرابعة، وإن كان البحث لن يخلو من التعرّض لبعض هذه الجهات؛ لنوع مناسبة وارتباط مع ما نبحثه.

الطاعة وعلاقتها بمعرفة أسرار التشريع

كلّنا يعرف الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة، وقلّما ترى أحداً عاملاً بعلمه، وإنما السبب في ذلك أن الأكثرين يعرفون الحكم دون حكمته؛ فهم لا يفقهون لمَ كان هذا حراماً، ولا تنفذ أفهامهم في أعماق الحكم فتصل إلى فقهه وسرّه، فتعلم علماً تفصيلياً ما وراء الواجبات والمندوبات من المنافع العامّة والخاصة، ولو علموا ذلك وفقهوه بالتربية عليه، وملاحظة آثاره.. لخرجوا من ظلمة الإجمال والإبهام في المعرفة إلى نور التجلّي والتفصيل، حتى تكون الجزئيات مشرقةً واضحة، ولكان هذا العلم معيناً لهم على إحلال الحلال بالعمل وتحريم الحرام بالترك، وهذا المعنى (فقه الدين ومعرفة أسرار الأحكام) غير التزكية، بيد أنه يتصل بها ويعين عليها([1]).

وفي موضعٍ آخر من تفسيره، يذكر محمد رشيد رضا بيان الأسباب والحِكَم لوضع الأحكام العملية، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية، بهذه يعرف الحق من الباطل، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه، وأدعى إلى الرغبة في العمل به([2]).

وفي شرح الأسماء، ينقل الملا هادي السبزواري عن بعض العرفاء ــ ضمن كلام له عن أسرار الحج ــ : <كلّ ما أدركه العقل وعرف وجه الحكمة في فعله مال الطبع إليه ميلاً ما، فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً على الفعل..>([3]).

ومن هذا الكلام الأخير يتّضح أنّ هذا المطلب أمرٌ وجداني لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه؛ ولهذا يذكر في الموضع نفسه: <بمثل هذه الأعمال (الهرولة والرمي وغيرها من أعمال الحجّ) يظهر كمال الرّقّ، بخلاف سائر العبادات، كالزكاة التي هي إحسانٌ مستحسن، وللعقل إليه سبيل، والصوم الذي هو كسر الشهوة التي هي عدوّ الله، وتفرغٌ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، وكالركوع والسجود في الصلاة التي هي تواضعٌ لله، وللنفوس أنسٌ بتعظيم الله، وأما أمثال الرمي والتهرول، فلا اهتداء للعقل إلى أسرارها، فلا يكون في الإقدام عليها باعثٌ غير الأمر المجرّد وقصد الامتثال؛ وفيه عزلٌ للعقل عن تصرفه، وتصريف النفس والطبع عن محلّ أنسه المعين على الفعل>([4]).

وعليه، فتكليف الإنسان بامتثال ما لا يدرك سرّه ولا يعقل حكمته أشدّ وأعظم مما يدرك سرّه ويعقل حكمته ولو بوجهٍ ما من وجوه حكمته؛ ولذلك يظهر كمال رقيّ الإنسان ومحض عبوديته عند الجهل بحكمة ما يمتثله، حيث لا يميل الطبع إليه ولا تنبعث النفس نحوه، بل تستنكف عنه كما تستنكف عن الخوض في أيّ مجهول، وإن خاضت فيه فلمعرفة أسراره واستكشاف حكمه.

التأسيس الكلامي، نظرية اللطف عند العدلية

إذا كان الإنسان عند معرفة أسرار التكليف والشريعة أقرب للطاعة ونفسه أميل للامتثال فيجب على الله ــ في لطفه وحكمته ــ أن يبيّن لنا تلك الأسرار كلّها ــ بطريقةٍ أو بأخرى ــ إذ إن اللطف عند العدلية واجبٌ، وكلّ ما يقرّب من الطاعة ويبعد عن المعصية فهو لطف، ومعرفة أسرار الشريعة والتكاليف الإلهية تقرّب الإنسان من الطاعة وتبعّده عن المعصية، إذاً، بيان الحِكَم والأسرار في الشريعة لطفٌ، فبيانها على الله واجب.

لكن هل تنسجم هذه النتيجة مع ما وصل إلينا من جزئيات هذه الشريعة وكلّياتها؟ أي هل أنّ سمة التعليل وبيان الحكم في الشريعة أمرٌ واضح مؤيد من أهل الشرع؟ أم أنّ التعبد وعدم التعليل هما سمة هذا الشرع الحنيف؟

وإذا كانت السمة الظاهرة لهذا الشرع التعبّد وعدم التعليل، فما هو السرّ في هذا؟ وكيف يمكن أن يتلاءم مع اللطف الإلهي بعبيده؟ وقبل الإجابة عن هذين السؤالين الأساسيين، لابد من بيان أمور: 1 ــ ما معنى اللطف؟ 2 ــ هل اللطف واجب؟ 3 ــ ما هي حدود اللطف الواجب؟

أما الأمر الأول، فقد ذكر الشيخ المفيد في النكت الاعتقادية: <اللطف هو ما يقرّب معه المكلّف من الطاعة ويبعّد عن المعصية، ولا حظَّ له في التمكين ولم يبلغ الإلجاء>([5])، وذكر في أوائل المقالات: <عرّف المتكلّمون اللطف بـما أفاد هيئةً مقرّبة إلى الطاعة ومبعّدة عن المعصية، بحيث لم يكن له حظّ في التمكين ولا يبلغ حدّ الإلجاء، والتقييد <بعدم الحظّ في التمكين> لأجل الاحتراز عن وقوع الفعل بواسطة الآلات والأدوات البشرية، فإنها وإن كانت مما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية إلا أن لها مدخلية في تمكين المكلّف من الفعل، والتقييد بعدم الوصول إلى حدّ الإلجاء، من جهة أنه ينافي التكليف>([6]).

وأمّا الأمر الثاني، فالعدلية يذهبون إلى القول بوجوب اللطف، وهو من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين؛ ولذلك عندما نفى الأشاعرة وجوب اللطف على الله سبحانه، نفوه باعتبارهم ينكرون التحسين والتقبيح العقليين، وقد ذكرت في محلّه بعض الأدلّة على وجوبه، ليست محطّ نظرنا هنا([7]).

وأمّا الأمر الثالث، فحدود اللطف الواجب <أن لا يبلغ حدّ الإلجاء، وأن لا يكون له حظّ في التمكين>.

وقد تبيّن مما ذكرناه في تعريف اللطف أنّه ليس كلّ لطف واجباً، أي ليس كلّ ما يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية واجباً على الله تعالى، بل الواجب منه ما كان موافقاً لحكمته تعالى؛ ولذلك ذكروا في تعريفه: <ولم يبلغ حدّ الإلجاء>؛ إذ لو بلغ <المقرّب للطاعة والمبعد عن المعصية> حدّ الإلجاء لبطل الاختيار، وإذا بطل الاختيار بطل التكليف؛ وإذ بطل التكليف ولم يكن له معنى فلا يمكن للحكيم أن يكلّفنا حينئذٍ.

في مقدمة شرح أصول الكافي للمازندراني يذكر الميرزا أبو الحسن الشعراني أن شرط اللطف أن لا يبلغ الإلجاء، بأن يسبّب الأسباب بحيث لا يتمكّن العبد من المعصية، مثلاً لا يجب على الله أن لا يخلق الخمر حتى لا يشربها أحد، أو لا يخلق في الإنسان الشهوة حتى لا يزني، فإنّ ذلك وإن كان يقرّب العبد إلى الطاعة، لكنّه يبلغ حدّ الإلجاء؛ وهو ينافي التكليف، كما قال تعالى: >لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً< (يونس: 99)، يعني بالإلجاء، لكن خيّرهم ولم يجبرهم.. ثم يقول: ويجب على الله أيضاً إقدار العبد وتمكينه من الفعل المكلّف به، وهذا شرط التكليف ولا يسمّى لطفاً([8])، أي لا يقال: إنه واجب من باب اللطف، بل يجب من باب عدم نقض الغرض وتكليف ما لا يطاق؛ إذ لو لم يهب لهم القدرة على الفعل المكلّف به لا يستطيع العبد أن يمتثله، فالأمر بالامتثال حينئذٍ لغو وقبيح على الحكيم. ثم قال: فإن قيل: نرى كثيراً مما يقرّب العبد إلى الطاعة يقيناً لم يحصل، مثلاً لو رأى الفاسق في كلّ يوم معجزة من ولي ربما يرتدع، ولو ابتلي ببلاء بعد عمله (القبيح) ربما انزجر، وأمثال ذلك. قلنا: جميع ما يتوهّم من ذلك، إما أمور غير ممكنة في حكمته تعالى، وإما يصير إلى حدّ الإلجاء وان لم نعلم تفصيله([9])، أي المانع منها جميعاً هي حكمته تعالى، أي لو وقعت هذه الأمور المقرّبة لكانت تنافي حكمته تعالى من جهات أخرى، كفساد النظام مثلاً أو أي علّة أخرى وإن لم يبلغ حدّ الإلجاء، فيما المانع الآخر أنها لم تقع منه تعالى؛ لأنها تلجئ الناس إلى الطاعة إلجاءً، وهو ينافي التكليف، مع أنّ التكليف مقتضى حكمته تعالى، بل حتى لو قلنا: إنّ اللطف قائم على أساس عدله تعالى، أو على أساس رحمته وجوده، فلابد أن يكون أيضاً موافقاً لحكمته تعالى.

وبعد بيان هذه المقدمة نعود لسؤالنا الأساس، فنقول: هل بيان علل الأحكام ينافي الحكمة، فلا يمكن أن يكون لطفاً من باب أن بيانها يبلغ بالمكلّف حدّ الإلجاء، أو ينافيها من وجه آخر أم لا ينافيها بل تستدعيه؟

التعليل التشريعي ونظرية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد

ثمّة ركيزة هنا، ينتفي السؤال من رأس إذا لم تثبت، فالسؤال فرع الاعتراف بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، وحينئذٍ يصحّ القول: لماذا لم يبيّن الله علل الأحكام على تقديره، مع أنها مقرّبة من الطاعة ومبعدة من المعصية، وهو اللطيف بعباده يفعل كلّ ما هو مقرّب لهم من طاعته ومبعد عن معصيته؟

ومن الواضح أنّ المعترفين بالتحسين والتقبيح العقليين والمنكرين له يتفقون على بناء الأحكام على المصالح والمفاسد كما سيتبيّن.

أدلّة نظرية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد

وهنا أدلّة لإثبات صحّة هذه النظرية هي:

الدليل الأول: إنّ الله تعالى خصّص الواقعة المعيّنة بالحكم المعيّن لمرجّحٍ أو لا لمرجح، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجّح، وهو محال، فثبت القسم الأول، وذلك المرجح إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فيتعيّن الثاني، وهو أنه تعالى إنما شرّع الأحكام لأمرٍ عائد إلى العبد، والعائد إلى العبد، إما أن يكون مصلحة العبد أو مفسدته أو ما لا يكون مصلحته ولا مفسدته، والقسم الثاني والثالث باطلان باتفاق العقلاء، فتعيّن الأول؛ فثبت أنه تعالى إنما شرّع الأحكام لمصالح العباد.

الدليل الثاني: إنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثاً، والعبث على الله تعالى محالّ؛ للنصّ والإجماع والمعقول: أما النص، فقوله تعالى: >أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً<، >ربنا ما خلقت هذا باطلاً<، >ما خلقناهما إلا بالحق<. وأما الإجماع، فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث، وأما المعقول، فهو أنّ العبث سفه، والسفه صفة نقصٍ، والنقص على الله تعالى محال، فثبت أنه لابد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى ــ كما بيّنا ــ فلابدّ من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شرّع الأحكام لمصالح العباد.

الدليل الثالث: إنّ الله تعالى خلق الآدمي مشرّفاً مكرماً؛ لقوله تعالـى: >ولقد كرّمنا بني آدم<، ومن كرّم أحداً ثم سعى في تحصيل مطلوبه، كان ذلك السعي ملائماً لأفعال العقلاء، مستحسناً فيما بينهم، فإذاً ظنّ كون المكلف مكرّماً يقتضي ظنّ أن الله تعالى لا يشرّع إلا ما يكون مصلحةً للعبد.

الدليل الرابع: إنّ الله تعالى خلق الآدميين للعبادة؛ لقوله تعالى: >وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون<، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلابد وأن يزيح عذره وعلّته، ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضارّ عنه؛ ليصير فارغ البال؛ فيتمكّن من الاشتغال بأداء ما أمره به والاجتناب عمّا نهاه عنه، فكونه مكلّفاً يقتضي ظنّ أنّ الله تعالى لا يشرّع إلا ما يكون مصلحةً له.

الدليل الخامس: النصوص الدالّة على أن مصالح الخلق ودفع المضارّ عنهم مطلوبُ الشرع؛ قال الله تعالى: >وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين<، وقال: >خلق لكم ما في الأرض جميعاً<، وقال: >وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً<، وقال: >يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العُسر<، وقال: >وما جعل عليكم في الدين من حرج<، وقال 2: <بعثت بالحنيفية السهلة السمحة>، وقال 2: <لا ضرر ولا ضرار في الإسلام>.

الدليل السادس: إنه تعالى وصـف نفسـه بالرؤوف الرحيم بعباده، وقال: >ورحمتي وسعت كل شيء<؛ فلو شرّع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة.

يقول الفخر الرازي: فهذه الوجوه الستّة دالّة على أنه تعالى ما شرّع الأحكام إلا لمصلحة العباد، ثم اختلف الناس بعد ذلك: أما المعتزلة، فقد صرّحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه، وقالوا: <إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث، بل يجب أن يكون فعله مشتملاً على جهة مصلحة وغرض>، وأما الفقهاء، فيصرّحون بأنه تعالى إنما شرّع هذا الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ الغرض لكفّروا قائله، مع أنه لا معنى لتلك <اللام> إلا الغرض. وأيضاً فإنهم يقولون: إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح، إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحةً لعباده؛ تفضلاً منه وإحساناً لا وجوباً.

ثمّ أطنب الرازي باستعراض الإشكالات على نظرية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد من طرف الأشاعرة القائلين: إن أفعال الله تعالى غير معلّلة بالأغراض، وأورد لهم الكثير من النقوض على أدلّة التبعية، جلّها طبقاً لمبانيهم الفاسدة، من الجبر على الأفعال، والتكليف بما لا يطاق، والترجيح من دون مرجّح للفاعل المختار، وغيرها من المباني التي يستدعي الخوض فيها، الخوض في أسس المذهب الأشعري، والتي ليس هنا محل بحثها، ويكفينا في المقام ــ على نحو الإجمال ــ ردّ أحد رؤسائهم المعروفين وهو الفخر الرازي؛ حيث قال: إنّ التسليم بهذه الإشكالات والوجوه العقلية يقدح في أصل التكليف، وبما أن القياس مسلَّم عندهم، وهو فرع القول بالتكليف، فنفي التكليف نفي للقول بالقياس، وهذا ما لا يمكن أن يرفعوا اليد عنه، ولذلك قال: <فكانت تلك الوجوه غير مسموعة في هذا المقام>، وهذا هو الجواب المعتمد الكافي عن كلّ ما ذكرتموه([10]).

ومع هذا فنحن لا ندعي أن الوجوه التي ذكرها الفخر الرازي عن المعتزلة كلّها مقبولة، بل بعضها مناقش فيه، لا أقل من باب أنه يفيد الظن، والظنّ لا حجّة له في هكذا مقام، إلا أنّ بعضها لا غبار عليه، بناء على القول بالتحسين والتقبيح العقليين؛ ومما يؤيد هذه الدعوى تأييداً قوياً استقراء الكثير من جزئيات الشريعة التي تدلّ على التعليل، ولا شك أنه فرع تبعيتها للمصالح والمفاسد في الجملة، ولذلك تمسّك بهذا الوجه الكثير من المفكّرين المحدثين، سيما الذين يحاولون الاستفادة من ظاهرة التعليل لبناء فقه مقاصدي يعتمد على استخراج مقاصد الشريعة العامة، دون الاقتصار على الاستفادة منها في خصوص دائرة القياس؛ لأنه لا ينفع ــ على حدّ زعمهم ــ إلا في استنباط أحكام جزئية لا تتلاءم مع هذا العصر ولا تفي بحاجاته ومتطلّباته.

من هنا، يعدّ هذا الوجه وجهاً ثامناً، يضاف إلى الأوجه الستّة المتقدمة والوجه السابع الذي تمسّك به فقهاء الأشاعرة، وهو وجه يكفيهم مؤونة الخوض في المباحث الكلامية، ففي تعليقته على كتاب المحصول يذكر الدكتور علواني: بقطع النظر عن أقوال الأشاعرة أو الماتريدية أو المعتزلة أو غيرهم في التعليل، فإنّ الله سبحانه وتعالى قد علّل الكثير من أحكامه صريحاً وإيماءً أو تنبيهاً، وعلّل رسوله 2، وعلّل أصحاب رسوله من بعده، وكذلك فعل المجتهدون، ولا يسع إنسان أن يقول بالقياس ثم ينفي التعليل، حقيقةً أو صورة.

إنّ الله سبحانه قد علّل إيجاده العباد بقوله: >وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون<، وعلّل إرسال الرسل بقوله جلّ شأنه: >رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل<، وهكذا ذكر آيات أخر تدلّ على التعليل، ثم ذكر بعض الأحاديث النبوية، وتعليلات بعض الصحابة والتابعين وتابعيهم([11]).

لكن هذا الوجه لا يفيد القطع بتبعية جميع أحكامه للمصالح والمفاسد؛ إذ إنّ الكثير من الأحكام لم تعلّل، ولم يعلم قياس الصحابة ــ حتى عندهم ــ على تلك الأحكام حتى يُستفاد بعملهم أنها معلّلة واقعاً، ولذلك التزموا بأنه يفيد الظن بالتبعية، ولا ضير في هذا، إذ إنّ الظن عندهم حجّة فيه؛ ولذلك لا يمكن الاستغناء عن الأدلّة العقلية للتعميم بنحو القطع، وهذا لا يتم إلا بناءً على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، كما هو مبنى العدلية، وحينئذٍ لا يكون هناك تنافٍ بين حكم العقل وظاهر الشرع الذي استخدم التعليل كثيراً في خطاباته، وإن لم تكن تلك العلل عللاً تامّة في الكثير من الأحيان، بخلافه على مبنى الأشاعرة حيث إنه من الصعب توجيه هذه التعليلات مع كون أفعال الله تعالى غير معلّلة بالأغراض، وإن كانوا يذكرون وجوهاً واهية ألجأتهم إليها قلّة الحيلة وضعف الوسيلة.

اختلاف العدلية في مركز المصلحة

بعدما أثبتنا أنّ الأحكام تابعة لمصالح العباد، يبرز عندنا احتمالان بالنسبة لمركز المصلحة، فهل المصلحة في نفس الأحكام وجعلها أم في متعلّقاتها؟

على الاحتمال الأول، لابد أن تكون تابعة للمصالح دون المفاسد؛ إذ لا معنى لأن يكون في جعلها وتشريعها مفسدة للعباد، بأن يقال: المصلحة في جعل وتشريع الصلاة، وتحريم الخمر، واستحباب الصدقة وكراهية النوم على البطن، دون أن يكون في نفس الصلاة مصلحة، وإن كانت فهي غير ملحوظة للشارع في تشريع وجوبها، وهكذا في الخمر، إما أنه ليس فيه مفسدة، أو إن كانت فهي غير مؤثرة في تشريع الحرمة، وهكذا في الباقي.

أمّا على الاحتمال الثاني، فالأمر مختلف؛ فالشارع راعى في تشريعاته المصالح والمفاسد في المتعلّقات الخارجية، أي المأمور به والمنهي عنه، وبما أن المأمور به يختزن في داخله مصلحةً ما تدعو الشارع لطلب تحصيله، كذلك قد يختزن مفسدةً ما تدعوه للنهي عنه واجتنابه، فحينئذٍ يقال: الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها.

يقول السيد الخوئي ): <الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، كما هو المشهور في مذهب العدلية>([12])، وهكذا الشيخ صاحب الكفاية ينسب هذا القول لمشهور العدلية([13])، لكنه يخالفه، ويدّعي أنها تابعة لمصالح فيها نفسها دون متعلّقاتها.

ولا يخفى أنّ بعض الأدلة التي ذكرت على أصل التبعية يمكن أن يستفاد منه ما يدلّ على نظرية المشهور، وإن كان ذكرها على حدة أفضل، خشية الخلط والتشويش.

وحاصل هذه الأدلة:

الدليل الأوّل: لو كان المتعلّق ليس له أيّ خصوصية في جعل الحكم الشرعي يلزم الترجيح بلا مرجّح وهو محال. وقد أوضح الشيخ العراقي هذا الوجه جيداً حيث قال: <يرى الإنسان بالوجدان وما له من الجبلّة والارتكاز في تعلّق حبه أو بغضه بشيء إنما يكون لما يجد في ذلك الشيء من الخصوصية الموجبة لملاءمة النفس وانبساطها، أو الخصوصية الموجبة لمنافرة النفس واشمئزازها، وأنه بدون تلك الخصوصية المستتبعة للانبساط أو الاشمئزاز لا يكاد يوجد للنفس ميل ولا محبة إلى ذلك الشيء بوجهٍ أصلاً، كيف ولولا ذلك لاتجه عليه إشكال الترجيح بلا مرجح في الأمرين المتساويين في جميع الخصوصيات، بل في أمرٍ واحد بأنه لِمَ صار ذلك الشيء محبوباً لا مبغوضاً؟ إذ حينئذٍ لا محيص إلا من دعوى أنّ تعلّق الحب أو البغض بشيء إنما هو لخصوصية في ذلك الشيء، أوجبت تلك الخصوصيةُ انبساطَ النفس، فتعلّق به الميل والمحبة، أو اشمئزازها فتعلّق به المبغوضية، وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الحب والبغض، فلا جرم يتبعها الإرادة والكراهة أيضاً، فإنهما تابعتان لمقدّماتهما التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له، فلا تكون الإرادة أيضاً في تعلّقها بشيء إلا لصلاحٍ في نفس ذلك الشيء، لا لصلاح في نفسها> ([14]). لكنّ هذا الدليل لا يتم إلا إذا قلنا: إن هذا مقتضى حقيقة الإرادة، في المخلوق كانت أم في الخالق.

الدليل الثاني: إنّ المصلحة إذا كانت تتحقّق بمجرّد تحقق الجعل؛ لأنها تابعة ــ حسب الفرض ــ للجعل، والجعلُ قد تحقق، فلا يبقى مبرّر لمطالبة المكلّف بالعمل بحكمها والالتزام به؛ لأن الغرض منها قد تحقّق بمجرّد جعلها([15]).

الدليل الثالث: لو سلم أنه يعقل أن تكون المصلحة في نفس الأحكام من دون دخل للفعل فيها أصلاً، فهذا مجرّد فرض وتصوير، وليست الواجبات والمحرمات الشرعية من هذا القبيل قطعاً، بعد ما ورد في كثير من الأخبار في علل الواجبات والمحرمات الكاشفة عن وجود المصالح والمفاسد في نفس الأفعال دون الأحكام([16])، نحو قوله تعالى: >إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر<، وقوله: >ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب<،
ولعلّه لهذا الوضوح في القرآن والسنّة، حمل الشيخ الإصفهاني كلام الآخوند الخراساني على غير ظاهره([17])، وقال: <إن مسلك الآخوند تبعيّتها للمصالح في الجعل والمتعلّق معاً، مع أن له عبارة في حاشيته على الرسـائل أيضاً تساعد على هذا، إذاً الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، أي علّة الجعل والتشريع هي الخصوصيات والأسـرار المودعـة في صميم الأفعـال التـي أمرنا الله ببعضها ونهانا عن بعضها الآخر، وأباح لنا الباقي، وقد تواتر معنى قوله 2: <ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة، ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم إلى النار ويبعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه>، وهو صريح في انبعاث الأحكام عن المصالح والمفاسد في الأفعال> ([18]).

إطلاقات العلّة في اللغة وأصول الفقه

العلّة في اللغة: اسم لما يتغيّر به حال الشيء بحصوله فيه، فيقال للمرض: علة؛ لأن الجسم يتغيّر حاله بحصوله فيه، ويقال: اعتلّ فلان، إذا تغيّر حاله من الصحّة إلى السقم([19]).

وتطلق العلّة في اصطلاح الأصوليين عادةً على معنيين:

أ ــ العلّة بمعنى الحكمة الباعثة على التشريع

الحكمة الباعثة على تشريع الحكم في تحصيل مصلحة يراد تحققها أو دفع مفسدة ينبغي تجنبها، ومثالها ــ وأمثلتها كثيرة في كتاب علل الشرائع للصدوق ــ ما بيّنه الإمام الباقر % عندما سئل عن علّة تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنـزير، فقال %: <إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده، وأحلّ لهم ما سوى ذلك، لا من رغبة فيما أحلّ لهم ولا زهد فيما حرّمه عليهم، ولكنه تعالى خلق الخلق فعلم ما يقوم به أبدانهم، وما يصلحهم؛ فأحلّه لهم وأباحه، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم، ثم أحلّه للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثم قال %: أما الميتة فإنه لم ينل أحد منها إلا وضعف بدنه أو وهنت قوته وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة، وأما الدم فإنّه يورث أكله الماء الأصفر، ويورث الكلب وقساوة القلب وقلّة الرأفة والرحمة، حتى لا يؤمن على حميمه ولا يؤمن من صحبه، وأما لحم الخنـزير فإن الله تعالى مسخ قوماً في صور شتى مثل الخنـزير والقرد والدب، ثم نهى عن أكل المثلة لكيما ينتفع بها ولا يستخف بعقوبته، وأما الخمر، فإنّه حرمها لفعلها وفسادها.. >([20]).

فما ذكره في الرواية من علل لهذه الأحكام، كلها من قبيل المصالح والمفاسد التي راعاها الشارع في هذه التشريعات، فهي حِكَم باعثة على هذه التشريعات.

ب ــ العلّة بمعنى الواسطة في إثبات الحكم الشرعي

يقصد بالعلة الواسطة في إثبات الحكم الشرعي، سواء كانت تبيّن وجه الحكمة أم لا، وبما أنها تثبت الحكم الشرعي فلابد أن يدور مدارها ــ وجوداً وعدماً ــ بخلافه على المعنى الثاني، فهي تبين وجه حكمة التشريع، وقد يكون هناك أوجه أخرى لم يذكرها الشارع، ولذلك الحكم الشرعي لا يدور مدارها.

يقول الشيخ النائيني: <الغير الذي يجب الشيء لأجله يختلف، فتارةً يكون هو ملاكات الأحكام التي اقتضت وجوب الشيء، وأخرى يكون هو الخطابات الواقعية، ففي الأول لا يدور وجوب الشيء مدار الملاك، بل الملاك يكون حكمةً لتشريع وجوب الشيء كاختلاط المياه ووجوب العدّة على النساء، وفي الثاني يدور وجوب الشيء مدار وجود الخطاب الواقعي ويكون علّةً للحكم، لا حكمةً للتشريع، كوجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى وجوب المقدمة، فإنّ وجوبها يدور مدار وجوب ذيها>([21]).

ولا يريد الشيخ النائيني وغيره من العلماء + أن حكمة التشريع وملاكه لا يكون علّةً تامة، وأنه دائماً مقتضي للحكم، ولذلك لا يدور مداره وجوداً وعدماً، بل يريدون أن الحِكَم التي بيّنها الشارع غالباً ما تكون غير منضبطة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما في المشقة التي بينّت الروايات أنها حكمة التقصير في السفر. فما يكون مشقّةً لزيد لا يكون مشقةً عند عمرو، وما كان مشقّة في الصيف قد لا يكون مشقة في الشتاء، وما يكون مشقة بوسيلة لا يكون في غيرها، بل قد لا تكون أبداً، كما أنها قد توجد وبشكل أشدّ في غير السفر، كما في بعض الأعمال الشاقة، ولا شك أنه ليس كلّ قدر منها يوجب الترخيص، وإلا لأدى بسببها وسبب غيرها إلى اضطراب الأحكام وسقوط العبادات والكثير من اللوازم الفاسدة.

ولذلك لو قطعنا بأنّ ما ذكره الشارع في بيان ملاك الحكم ووجه حكمته أنه علّة تامة يمكن للفقيه أن يعمّم على أساسه إلى موارد أخرى تشترك في الملاك، وهذا الأمر واضح وعليه شواهد كثيرة من كلماتهم +، لكنّ المجال لا يسع لذكرها هنا.

وأكثر من ركّز من علمائنا على التمييز بين هذين الإطلاقين هو الشيخ النائيني في فوائده([22]) وحاشيته على المكاسب([23])، وكان يعبر عن ملاك الحكم <علّة التشريع> و<حكمة التشريع> و<وجه الحكمة> و<خصوصيات المتعلق وغاياته> و<علة الجعل>، أمّا علة الحكم التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً فقد عبر عنها بـ <العلّة في مقام الإثبات> و<علّة المجعول> و<موضوع المجعول>؛ فالسفر علّة لوجوب القصر، والزنى علّة لوجوب الحدّ، والإسكار علّة لحرمة الشرب، وهي جميعاً موضوعات للحكم الشرعي والمجعول، كما أنّ بعض العلل قد تتداخل فيكون علة للحكم وحكمة التشريع كما في الإسكار، وبعضها قد لا يتميّز، والمهم هو معرفة معيار التفريق بينهما ثبوتاً وإثباتاً، وهي مسألة بحثها يطول أولاً، وليس لنا غرض في بحثها هنا ثانياً، ولكنّها جديرة بالاهتمام؛ لما لها من الآثار المهمّة في الفقه الحديث والفقه القديم على حدّ تعبيرهم.

وقبل أن نختم الكلام في هذه المسألة، نشير إلى أنّ نفس التفريق الذي ذكرناه بين الحكمة والعلّة يذكره أهل السنّة وجمهور أصولييهم، على أن التعليل بالحكمة غير جائز لأنها غير منضبطة والتعليل فقط يصبح بالوصف الظاهر المنضبط الذي هو علّة الحكم([24])، نعم الخلاف بيننا وبينهم في كيفية ثبوت علّة الحكم؛ حيث يعتقدون أنها تثبت بالقياس، ونحن لا نعتقده، وسيأتي المزيد حول هذه النقطة إن شاء الله.

وبعد أن عرفنا إطلاقات العلة، نسأل: أيّ معنى من هذين المعنيين يفيد في اللطف وإعانة المكلّف على الامتثال؟

لا شك أنّ المعنى الأول هو الذي يفيد ميل الطبع وانبعاث النفس نحو الطاعة بخلافها على المعنى الثاني؛ لأنها موضوع الحكم والسرّ والحكمة حينئذ قد تكون مجهولة؛ إذ المكلف يعلم أن السباع لا يجوز أكلها، مع أنه لا يعرف ما هو السرّ والحكمة، وفرض كلامنا أن مقتضى اللطف أن يعرف سرّ وحكمة التشريع حتى يكون انبعاثه أشدّ ونفسه أميل للامتثال، فإذا كان كذلك فهل يكفي في اللطف بيان جزء الحكمة ووجهٍ من وجوهها أم لابد أن يبين الحكمة التامة من التشريع؟

الشرع وتعليل الأحكام، البيان التفصيلي للعلل

كتاب علل الشرائع، تقييم موجز

جمع أكثرَ علل التشريع الشيخ الصدوق (381هـ) في كتابٍ على حدة سمّاه: <علل الشرائع>، وسوف نركز هنا عليه، فهذا الكتاب جامعٌ للكثير من آيات وروايات التعليل في الأحكام وغيرها، وحتى تتضح قيمته من الجهة التي نبحث عنها لابد من تصنيف الروايات الموجودة فيه فنقول:

الجزء الأول من الكتاب لم يذكر فيه علّة أي حكم وانما فيه:

1 ــ بيان علل بعض التسميات، لماذا سمى آدمُ آدماً، والإنسان إنساناً، وحواءُ حواءً، وأصحاب الرسّ بهذا الاسم، وذو القرنين كذلك، وهكذا ذكر علل تسمية بعض الأنبياء والأئمة J وألقابهم، وعلل بعض ألقاب الزهراء & وتسميتها، وبالجملة في هذا الموضوع ذكر أربعة وأربعين باباً.

2 ــ بيان علل بعض الحوادث التاريخية، كصلح الإمام الحسن %، وعلّة قتل المأمون للرضا % وغيرها.

3 ــ بيان علل بعض الأمور التكوينية، كسرعة الفهم وبطئه عند الناس، وعلّة الشيب والنسيان والذكر وغيرها من الأمور الكثيرة.

4 ــ علّة الابتلاءات وتشوّه الخلق وغيرها.

5 ــ علّة الغيبة، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة، والمعرفة والجحود. وهكذا أبواب أخرى الجامع بينها أنها لا ارتباط لها بالأحكام وعللها.

روايات التعليل وأنواعها

أما الجزء الثاني منه، فقد ذكر فيه الشيء الكثير من الأمور، كالتي ذكرها في الجزء الأول، لكنّ الغالب فيه ذكر تعليلات مرتبطة بالأحكام الشرعية، إلا أنّ قسماً كبيراً منها فيه إشكالٌ سندي، لكن بما أن المباني الرجالية مختلفة، نركّز البحث على الدلالة، من هنا نرى أنّ روايات التعليل فيه على قسمين:

1 ــ روايات التعليل الإثباتي، بيان وجوه إثبات الحكم الشرعي

والتعليل في هذا القسم يعني بيان الدليل على الحكم الشرعي الوارد في الرواية، والعلّة هنا بمعنى علّة الحكم، أو علة المجعول، كما عبر عنها الشيخ النائيني، وبعبارة أخرى العلة في مقام الإثبات أي إثبات الحكم الشرعي مثلاً، ففي الباب الذي يذكر فيه العلّة التي من أجلها صار المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين، يروي بسند صحيح عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر %: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك، ثم قال: <يا زرارة! قال رسول الله 2 ونزل به الكتاب من الله؛ لأن الله عـزوجل يقول: >فاغسلوا وجوهكم<؛ فعرفنا..>، ثم بيّن الإمام % كيف يستفاد هذا الحكم من الآية.

وهكذا في باب العلة التي من أجلها يجوز أن يعطى الأضحية من يسلخها بجلدها، عن صفوان بن يحيى الأزرق، قال: قلت لأبي إبراهيم %: الرجل يعطي الضحية من يسلخها بجلدها؟ قال: <لا بأس به، إنما قال عزوجل: >فكلوا منها وأطعموا<، والجلد لا يؤكل ولا يطعم>، فهنا بيّن علّة الجواز، بمعنى الدليل على الجواز، ولم يبين ملاك الجواز والذي هو من قبيل المصلحة والمفسدة وحكمة التشريع.

وقد ذكر أيضاً في باب <العلّة التي من أجلها حرَّم عقوق الوالدين> في الحديث الثاني، عن أبي عبدالله % يقول: <عقوق الوالدين من الكبائر؛ لأنّ الله تعالى جعل العاقّ عاصياً شقياً> ([25])، وواضحٌ أنها علة إثباتية لا ثبوتية، أي أنه لم يذكر الحكمة فيها بل الدليل على الحكم فيها.

وما ذكرناه على سبيل التمثيل لا الحصر، وإن كان هذا النوع من التعليل أقلّ مما ذكر في بيان علل تشريعات الأحكام وبيان حكمها ثبوتاً، إلا أنّ هذا لا يستدعي أن يقال: إنّ هذا الكتاب ألِّف لبيان حِكَم التشريعات وعللها، كما ذكر النائيني، سيما وأن أكثر الكتاب لا ربط له بالأحكام، حيث يقول P ــ عند بيان الفرق بين علّة الحكم وعلّة التشريع، بعد بيان بعض ما له ربط بالمقام: <وإن أخذ فيه (لسان الدليل) علّة للجعل أو التشريع فهو لا يطّرد؛ كقولهم %: <أتدري لمَ جعل>، أو <لم شرع كذا>، و<لم صار ماء الاستنجاء لا بأس به؟ لأن الماء أكثر من القذر> وأمثال هذه القضايا التي صنّف الصدوق كتاباً على حدة وسمّاه علل الشرائع>([26]).

إلا أن يكون المقصود أنه جمع علل التشريع في كتاب على حدة، وإن كان قد جمع فيه عللاً لا ترتبط بالأحكام كما تقدّم، بل ذكر ضمن أبواب علل التشريع الكثير من الروايات التي ليس فيها أيّ تعليل، وإنما ذكرها لمناسبتها للباب فقط([27]).

2 ــ روايات التعليل الثبوتي، بيان حكم التشريعات ومنطلقاتها

وهو مرتبط ببيان حِكَم التشريع وعلله، وهذا هو الذي يمكن أن يفيدنا في جهة البحث هنا، وذلك كما في علّة تحريم الخمر، حيث روى محمد بن سنان أنه سمع علي بن موسى الرضا % يقول: <حرّم الله الخمر لما فيها من الفساد ومن تغييرها عقول شاربيها، وحملها إياهم على إنكار الله عزوجل، والفرية عليه وعلى رسله وسائر ما يكون منهم من الفساد، والقتل والقذف والزنا وقلّة الاحتجاز عن شيء من المحارم، فبذلك قضينا على كلّ مسكر من الأشربة أنه حرام محرم>([28])، وهكذا ما ذكر في علل تحريم الزنا، وأكل مال اليتيم ظلماً، والربا، والميتة، والدم، ولحم الخنـزير، والفرار من الزحف، وبعض المحرمات الأخرى، وبعض الواجبات كالزكاة وطاعة أولي الأمر وغيرها من الواجبات.

لكن لابد من الالتفات إلى أن علّة التشريع تارةً تذكر بتمامها فتكون تامة، وأخرى قد يذكر الشارع جزء العلّة لا كلها، بحيث لا تكون وحدها كافيةً لتشريع الحكم، وهذا هو الأكثر في روايات العلل، وقد اصطلحوا على الأولى علة الحكم، وعلى الثانية: حكمة التشريع؛ يقول الميرزا أبو الحسن الششعراني: الأظهر أن الناس غالباً يذكرون عند بيان سبب أفعالهم وأحكامهم غير العلّة التامة؛ مثلاً يقولون: أعطيت زيداً مالاً لكونه فقيراً، مع أنّ الفقر ليس علّةً تامة للإعطاء، ولذلك لا يعطي كلّ فقير، وليست الحروف التي يوردونها في التعليل حقيقة في العلة التامة بحيث يكون استعمالها في غير العلّة التامة مجازاً، ومعلوم أن مثل: <أعطيت زيداً لكونه فقيراً> ليس <اللام> مجازاً، وأنت إذا تتبعت الأخبار وجدت أمثال ذلك كثيراً فيها جداً، فمنها ما ورد في طهارة ماء الاستنجاء معلّلاً بأن الماء أكثر من القذر([29])، مع أنهم لا يحكمون بطهارة كلّ ماء تنجس إذا كان أكثر من القذر، ومنها ما ورد في من صلّى منحرفاً عن القبلة جاهلاً أنّ صلاته صحيحة، معللاً بأن ما بين المشرق والمغرب قبلة([30])، مع أنّ هذه العلة غير جارية في صورة العلم، ومنها ما ورد في الصلاة في السنجاب معلّلاً بأنه دابة لا تأكل اللحم([31])، وروايات أخرى إن نوقش في بعضها فبعضها الآخر لا يناقش فيه، ثم ذكر أنّ الأمثلة كثيرة، وأن إثبات كون العلة المذكورة في النصوص علة تامة بحيث يكون التخلّف عنها محالاً دونه خرط القتاد.

ولا يمكن أن يقال: يجب حمل العلّة في الروايات على العلة التامة إلا بدليل؛ إذ لا مرجّح للعلة التامة بعد كون استعمال الأدوات الدالّة على العلية في العلة الناقصة أيضاً حقيقة، وعدم كون الاستعمال في التامّة أغلب، بل الظاهر أنّ الأغلب في التعليل هو الأحكام التي يستغربها الناس، ويعلّلون F لرفع الدغدغة عن السائل وتمكين الحكم الذي يستغربه في ذهنه، وهذا يكفي فيه بيان جزء العلة؛ إذ إنها تفي بالغرض، وليس لتجويز التسرية والتعدي وبيان القاعدة بحيث يكون التعليل حجة له وبياناً إلا في موارد يصرّح فيها بذلك، فمثلاً في ماء الاستنجاء لما حكم الإمام % بالطهارة استغربها السائل جداً لوهم في خاطره، فأزال % هذا الوهم بأنّ الماء أكثر، مع أنّ هذا جزءٌ من علّة الحكم بالطهارة لا علة تامة، وليس في مقام بيان حكم كلّي للسائل بحيث يحكم بطهارة كلّ ملاق أكثر من قذر ولو كان ماء مضافاً..

قال الشيخ في العدّة في مبحث القياس: <وقد يدعو الشيء إلى غيره في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وقدر دون قدر، وهذا معروف في الدواعي، ولهذا جاز أن نعطي لوجه الإحسان فقيراً دون فقير، درهماً دون درهم، وفي حال دون حال، وإن كان فيما لم نفعله الوجه الذي لأجله فعلنا بعينه، فإذا صحّت هذه الجملة لم يكن النصّ على العلة ما يوجب التخطي>([32]).

ثم إنه يمكن أن نضيف أمرين آخرين لبيان علل التشريع:

الأول: ترغيب المكلّف في الفعل الواجب والمستحب وتخويفه من فعل المحرم والمكروه، وهذا الغرض يستوفى بذكر جزء العلّة في كثير من الأحيان؛ إذ إنّ كون الشارع في هذا المقام لا يستوجب منه ذكر العلة التامة، بل ذكر ما يحصل به غرضه وكثيراً ما يحصل بجزئها فقط.

الثاني: نرى ــ بعد التتبع والاستقراء ــ أنه في الكثير من الأحيان كانت تذكر العلل بداعي بيان حكمة الله تعالى، وأنه لا يفعل إلا لغرض وحكمة، وهذا يكفي فيه بيان جزء العلة؛ لأنه ببيان جزء العلة يتضح وجهٌ من وجوه الحكمة؛ فترتفع اللغوية والعبثية بنظر المخاطب، وهذا ما نراه بوضوح في رواية <علل الفضل بن شاذان>، وهي روايةٌ طويلة تقرب من عشرين صفحة، ذكر فيها علل الكثير من الأحكام في سياق التنبيه على أن الله حكيمٌ لا يكلف عباده إلا لعلّة وغرض، وقد رواها الشيخ الصدوق في كتاب علل الشرائع، قال: حدثني عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال: قال أبو محمد الفضل بن شاذان النيسابوري: إن سأل سائل، فقال: أخبرني هل يجوز أن يكلّف الحكيم عبده فعلاً من الأفاعيل لغير علة ولا معنى؟ قيل له: لا يجوز ذلك؛ لأنه حكيم غير عابث ولا جاهل، فإن قال: فأخبرني عن تلك العلل معروفة موجودة هي أم غير معروفة ولا موجودة؟ قيل: بل هي معروفة موجودة عند أهلها، فإن قال قائل: أتعرفونها أنتم أم لا تعرفونها؟ قيل لهم: منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه، فإن قال قائل: فما أول الفرايض؟ قيل: الإقرار بالله وبرسوله وبحجّته وبما جاء من عند الله، فإن قال قائل: لمَ أمر الخلق بالإقرار.. فيستعرض أصول الدين واحداً واحداً فيعلّلها، ثم يستعرض الفروع كالصلاة، وجزئياتها، والطهارة من الحدث والخبث وبعض أحكام الميت، والصوم، والحج، وبعد أن ينتهي من الرواية يذكر الشيخ الصدوق بنفس السند المتقدّم أن علي بن محمد بن قتيبة، قال: قلت للفضل بن شاذان لما سمعت منه هذه العلل: أخبرني عن هذه العلل التي ذكرتها عن الاستنباط والاستخراج وهي من نتائج العقل أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال لي: ما كنت أعلم مراد الله بما فرض ولا مراد رسوله 2 بما شرع وسنّ ولا أعلّل ذلك من ذات نفسي، بل سمعنا من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا % مرّةً بعد مرة والشيء بعد الشيء فجمعتها، فقلت: فأحدّث بها عنك عن الرضا %؟ فقال: نعم.

وممّا يؤيد أنّ الامام % كان في مقام بيان وجه الحكمة ــ دون العلة التامة ــ قوله% عند بيان علة تشريع الأذان: <وأمر الناس بالأذان لعلل كثيرة، منها أن فيه تذكيراً للساهي وتنبيهاً للغافل وتعريفاً لمن جهل.. > وعند بيان تحريم الخنزير يقول %: <لأنه مشوه.. ولأن غذاءه أقذر الأقذار مع علل كثيرة>، وكذلك عند بيان وجه الفرق بين قضاء الصيام على الحائض دون الصلاة يقول %: <تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؛ لعلل كثيرة شتى منها.. > ثم يذكر بعضها، وواضح من هذا أنه يريد أن يبيّن وجه الحكمة والمصلحة دون بيان جميع أجزاء العلة؛ ولذلك كان يكتفي بذكر البعض ويسكت عن بيان البعض الآخر.

وهناك قرائن أخرى في الرواية يطول البحث بذكرها، بل هذا الأمر واضحٌ في أكثر روايات العلل في هذا الكتاب وغيره، وهو ما صرّح به الكثير من العلماء؛ فالشيخ يوسف البحراني يذكر في الحدائق: أنّ المتتبع لعلل الشرع الواردة في الأخبار لا يخفى عليه أن جلّها إنما هو من قبيل الداعي ووجه المصلحة([33]). وفي موضع آخر يقول: علل الشرع ليست عللاً حقيقية يدور المعلول مدارها وجوداً وعدماً، وإنما هي معرّفات وتقريبات إلى الأذهان، كما لا يخفى على من راجع كتاب العلل، وما اشتملت عليه أخباره في العلل([34])، وهكذا النائيني في فوائده يقول: إنّ الصدوق ألَّف كتاباً على حدة سمّاه <علل الشرائع>، يجمع فيه الروايات التي تبيّن علل التشريع التي لا تطّرد ولا تنعكس بخلاف علل الأحكام التي يتعدّى عن مورد معلولها إلى المشارك معه في العلة([35]).

أما القرائن التي جعلت العلماء يدَّعون هذه الدعوى في أكثر علل الشرع، فيمكن حصرها في ثلاث قرائن أساسية:

الأولى: إنّ الكثير من هذه العلل غير مطّرد ولا منعكس، أي قد ذكرت في الرواية على أنها علة للحكم، ولكن نقطع بوجود الحكم في بعض الأحيان مع أنّ هذه العلة غير موجودة، أو نقطع بوجود العلة مع عدم وجود الحكم، وقد يجتمع كلا الأمرين في بعض العلل، وذلك كما في علّة تشريع العدة، فإنها واجبة بعد الطلاق على الزوجة حتى ولو كان زوجها قد غاب عنها فترةً يُقطع بعدم وجود حمل معها، مع أن علّة تشريعها ــ كما في بعض الروايات ــ عدم اختلاط المياه، وهكذا فإنها غير واجبة على اليائس بحسب التحديد الشرعي مع أنّ الحمل قد يحصل أحياناً، وهكذا في مثال السفر لعلّة المشقة وغسل الجمعة؛ لأنه كان يأتي بعضهم لصلاة الجمعة وله رائحة كريهة وغيرها.

الثانية: قسمٌ من هذه العلل لا يمكن للمكلّف أن يميز بين مورد حصوله وعدمه، وما كان كذلك لا يمكن أن يجعل عنواناً لفعل المكلف ويلقى إليه، يقول الشيخ النائيني: <إنّ كل ما لا يمكن أن يجعل عنواناً لفعل المكلف ويلقى إليه لعدم تمييزه بين مورد حصوله وعدم حصوله ــ كاختلاط المياه والنهي عن الفحشاء ــ فهذا لا يمكن أن يكون موضوعاً، الذي قد يعبّر عنه بالعلة للمجعول، بل يجب أن يكون علّةً للجعل وملاكاً له، فهذا غير مطرد ولا منعكس، وما أمكن أن يلقى إلى المكلف كإسكار الخمر لإمكان تمييز المكلّف بين حصوله وعدم حصوله، فهذا يلاحظ فيه لسان الدليل؛ فإن أخذ فيه علّة للجعل والتشريع فهو لا يطرد ولا ينعكس، كقولهم E أتدري لمَ جعل أو لمَ شرع كذا ولم صار (كذا كذا).. وإن أخذ فيه علّة للمجعول كقوله %: الخمر حرام؛ لأنه مسكر، فهذا هو العلة التي يتعدّى عن مورد معلولها إلى المشارك معه في هذه العلة>.

الثالثة: من هذا الكلام الذي تقدّم للنائيني يستفاد معيار، وهو أنه إذا كان لسان الدليل يفهم منه أن الشارع في مقام بيان حكمة التشريع فلا نستطيع حينئذٍ أن نستفيد من العلّة أنها تامة لما قدمناه سابقاً.

لكن ينبغي الالتفات هنا إلى عدم تداخل هذه المعايير الثلاثة؛ إذ بحسب الضابطة الأولى كانت الاستفادة من عدم اطّراد العلة وانعكاسها بغض النظر عن كونها مما يمكن تمييز حصوله أو لا، وبغض النظر عن لسان الدليل الذي يفهم منه أنّ الشارع في مقام بيان وجه الحكمة، أما الضابطة الثانية فالنظر فيها فقط إلى تمييز المكلف بين مورد حصولها وعدم حصولها، بغض النظر عن عدم اطّرادها وانعكاسها، أما الثالثة فالنظر فيها فقط منصبّ على لسان الدليل، وأن الشارع في مقام بيان وجه الحكمة فقط، نعم لازم العلّة المنظورة في الضابطة الثانية والثالثة أنها غير مطردة ولا منعكسة، وهذا غير كونها هي الضابطة.

نعم قد يدعى أن هناك قرينة عامة يمكن التمسّك بها على ظهور أن هذه العلل عللٌ تامة للأحكام التي علّلت بها، وهي أنّ الأصل في الشارع أن يكون في مقام بيان الأحكام الشرعية، وبيان علّة الحكم يصلح أن يكون بياناً لحكم الموارد الأخرى المشاركة ــ مع مورد معلولها ــ بالعلّة، فما لم يكن هناك قرينة خاصة على خلاف هذا الأصل المقامي والظهور السياقي فلا يمكن رفع اليد عن ظهور كون العلّة علةً تامة.

إلا أنّ المستند في هذا الأصل هو الظهور السياقي، وهو يرتفع بأدنى ظهور على خلافه، وهو متحقّق في أكثر علل الشرع؛ على ما بيّناه في النقطة السابقة.

نعم، إن لم يكن هناك قرائن على خلاف هذا الأصل يمكن إثبات العليّة التامة بمعونة الإطلاق حينئذٍ وتحقق صغرى حجية قياس منصوص العلة، الذي يقول به أكثر علماء الإمامية، إلا أنّ أكثر موارده مما لا ربط له بالعلّة بمعنى المصلحة والمفسدة ــ التي تفيد في إعانة المكلف على الطاعة وتقوية الداعي عنده ــ بل هي نفسها أحكام شرعية تحتاج إلى تعليل.

وهناك نقاشات أخرى تركنا ذكرها لوفاء ما قدّمناه بأصل الغرض، وقد تحصّل أنّ الكثير من روايات العلل لا ترتبط بالأحكام، وما يرتبط منها كثيره غير تام سنداً، وبغض النظر عن الإشكال السندي، أكثره ذو دلالة قاصرة عن إثبات المطلوب؛ لأنه ليس في مقام بيان العلل التامة، بل الحِكَم والمناسبات التي لا تطّرد ولا تنعكس، وما كان من الروايات علّةً تامة فالكثير منه لا يفيد المكلّف في تقريبه للطاعة وتقوية الداعي عنده؛ لأنها لم تبيّن المصالح والمفاسد المبتني عليها الحكم الشرعي، بل هي من قبيل العلّة الإثباتية التي هي نفسها حكم شرعي يحتاج لبيان مصلحة تشريعه، فلا يبقى إلا النادر القليل من الأحكام التي بيّنت مصلحته التامة.

وعليه، يمكن دعوى أنّ الشارع لم يبيّن المصالح والمفاسد التامة في متعلّقات الأحكام الشرعية التي لبيانها دخل كبير في تقريب المكلّف من الطاعة وإعانته على الامتثال؛ ولذلك يبقى أصل الإشكال وهو: لماذا لم يبيّن الشارع علل الأحكام الشرعية مع أن بيانها يقوي الداعي عند المكلف ويقربه من الطاعة، وكلّ ما يقرّب المكلف من الطاعة لابد للشارع أن يهيأه بمقتضى لطفه وجوده، مع أنّ الشارع لم يفعل هذا حيث ثبت أن أكثر أحكام الشرع غير معلّل؟

إلا أن يقال: إنه يمكن أن يفي بهذا الغرض بيان بعض الحِكم لكلّ حكم شرعي، ولا يتوقف تحققه على بيان تمام العلة، وحسب الفرض فالشارع قد فعل هذا، لكن نقول: صحيحٌ أن الشارع بيّن بعض الحِكَم، لكنّ الكثير من الأحكام لم تبيّن له أي حكمة، فيبقى السؤال موجوداً بالنسبة لها، بل بالنسبة لبعض ما بيّن حكمته أيضاً؛ لأنّ من الحِكَم التي بيّنت ليست بتلك القوة التي تفي بهذا الغرض.

البيان الإجمالي لعلل التشريع

يمكن تصوير البيان الإجمالي بأنحاء ثلاثة:

النحو الأول: من الممكن أن يكون الشارع قد بيّن ضابطةً عامة، يمكن عن طريقها استكشاف علل الأحكام؛ فيكون بيان هذه الضابطة واعتمادها من قبل الشارع بمثابة البيان الإجمالي لعلل الأحكام، وذلك كاعتماد القياس مثلاً.

النحو الثاني: لعلّ الشارع ترك الأمر لعقولنا دون الاستعانة بالشرع أصلاً، بحيث يمكن للعقل أن يدرك الملاكات الواقعية للأحكام الشرعية ابتداءً وقبل صدور الأحكام، ثم على أساس هذا الإدراك يعلم بالأحكام الشرعية.

النحو الثالث: لعلّه ترك الأمر لعقولنا فقط في استكشاف علل الأحكام بعد صدور الأحكام من الشارع والعلم بها، فيكون العقل مستقلاً في استكشاف علة الحكم المعلوم صدوره، لكن من دون الاستعانة بأيّ ضابطة عامة كما في النحو الأول.

وهذه الأنحاء الثلاثة لا تنافي بينها؛ لذا قد يدّعى أنه يمكن الاستفادة منها جميعاً، ولا يخفى أن النحو الثاني احتمالُه ضعيف جداً؛ لأنه لو كان يمكن للعقل تشخيص الملاكات ــ التي هي المصالح والمفاسد ــ من دون الاستعانة بالشرع أصلاً، لبطلت النبوّة والحاجة إليها، وهو ضروريّ البطلان، وبحثه مفصل في علم الكلام.

مقولة استقلال العقل بمعرفة علل التشريع

أما النحو الثالث، أي أن العقل مستقلّ بمعرفة العلل بعد صدور الأحكام، فبطلانه من مسلّمات مذهب الإمامية؛ يقول العلامة الحلي: إن أكثر علل الشرع والمصالح المعتبرة في نظره خفية عنّا تعجز عقولنا عن إدراكها، والواجب اتّباع النص([36])، وقريب منه ما ذكره الشهيد الثاني في شرح اللمعة([37])، والسيد علي في الرياض([38]).. وفي نهاية الدراية يقول الشيخ الإصفهاني: إنّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط ولا يجب أن تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع، وعليه، فلا سبيل للعقل ــ بما هو ــ إليها([39]).

أما الشيخ المظفر، فيذكر أن ملاكات الأحكام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلي فيها، فلا تعلم إلا من طريق السماع من مبلِّغ الأحكام الذي نصبه الله تعالى مبلّغاً وهادياً، والغرض من كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها أنّ أصل تعليل الأحكام بالملاك لا يعرف إلا من طريق السماع؛ لأنه أمر توقيفي، أما نفس وجود الملاك في ذاته فقد يعرف من طريق الحسّ ونحوه لكن لا بما هو علة وملاك، كالإسكار، فإنّ كونه علّةً للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته من غير طريق التبليغ بالأدلّة السمعية، أما وجود الإسكار في الخمر وغيره من المسكرات فأمرٌ يُعرف بالوجدان، لكن لا ربط لذلك بمعرفة كونه هو الملاك في التحريم، فإنه ليس هذا من الوجدانيات، وعلى كلّ حال، فإن السرّ في أنّ الأحكام وملاكاتها لا مسرح للعقول في معرفتها واضح؛ لأنها أمور توقيفية من وضع الشارع، كاللغات والعلامات والإشارات التي لا تُعرف إلا من قبل واضعيها([40]).

وهكذا الشيخ النائيني؛ حيث يقول: <إنّ الأحكام الشرعية تتبع المصالح والمفاسد البعيد إدراكها عن العقول، وهي غير مبنية على أساس واحد>؛ ولذلك يقول السيد الخوئي أيضاً: أنّى لنا معرفة ملاكات الأحكام، وهي تعبّد صرف؟!([41]).

وخلاصة ما تقدم من كلماتهم + أنه إذا لم تكن الأحكام الشرعية مبنيةً على أساس واحد منضبط، كما في الأمور العقلائية العادية، ولم يكن لنا ضابط واضح لمعرفة الأسس التي بُنيت عليها الأحكام، فلا يمكن حينئذٍ معرفة ملاكاتها تفصيلاً، ولذلك تكون الأحكام الشرعية حينئذٍ توقيفيةً وتعبدية، مثلها مثل الرموز التي لا تعرف إلا من قبل واضعيها.

تكاثر احتمالات العلّة ومعضل الجزم بها

إنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، كما ثبت سابقاً، أي أنها تابعة لملاكات خاصّة كامنة في أفعال المكلف الاختيارية، تختلف ــ قوةً وضعفاً ــ بحسب اختلاف نوع الحكم؛ إذ إنّ مصلحة الواجب أشدّ من مصلحة المستحبّ، ومفسدة الحرام أشدّ من مفسدة المكروه، والمباح هو الذي تتساوى فيه المصلحة والمفسدة؛ فلا يرجّح أحدهما على الآخر، وإلا لدخل في واحدٍ من الأربعة المتقدمة.

وهذا الملاك هو نفس علّة الحكم الداعية إلى تشريعه والتي بحسب الاحتمالات المتعلقة فيها يمكن أن تكون واحدةً، ويمكن أن تكون كثيرةً، أي كلّ واحدة منها تكون كافية لتشريع الحكم إن تحقّق وجودها، ولو دققنا النظر قليلاً في هذه العلّة الواحدة، لاحتملنا أن تكون بسيطةً غير مركّبة من أجزاء، كما يمكن أن تكون مركّبة منها، أقلّها جزءان، وليس لأكثرها حدّ يمكن القطع بعدم تعدّيه والوقوف عنده، وكلّ واحدة من هذه العلل البسيطة والمركبة، إما أن تكون أمراً مادياً يؤثر في بدن الإنسان أو روحه أو كليهما، وإما أن تكون أمراً معنوياً يؤثر على نفس الإنسان وروحه، مع احتمال أن يكون لبعضها أثرٌ على بدن الإنسان أيضاً، ولو بواسطة تأثيرها في روحه المتحدة مع البدن؛ لتأثير كلّ منهما بالآخر في الكثير من الأحيان.

وتتضاعف الاحتمالات كثيراً في العلل المركّبة؛ حيث يحتمل أن تكون أجزاؤها كلّها على نسق واحد، إما مادية أو معنوية، ويحتمل أن تكون مختلفة، وعند الاختلاف يحتمل تساويها، ويحتمل رجحان المادية على المعنوية، ويحتمل العكس، وهكذا فهذه العلة ــ باحتمالاتها المتقدّمة ــ يمكن أن تكون فرديةً، ويمكن أن تكون اجتماعية لا ينحصر أثرها بشخص المكلف.

هذا كله لو قلنا: إن الملاك في المتعلّق، أما لو احتملنا كونه في نفس الجعل أو في كليهما معاً، ولو في خصوص بعض الأحكام فالاحتمالات تصبح كثيرةً جداً.

من جهة أخرى، قد يكون ملاك الحكم غير معارض بملاك آخر أصلاً، وقد يكون معارضاً؛ فيقع التزاحم بين تلك الملاكات حينئذٍ، ولابد من ترجيح الأهم، وهو ما يقتضي معرفةً دقيقة وتفصيلية بهذه الملاكات، وعليه فمع هذه الاحتمالات المتصوّرة، سيما مع احتمال تركّب الملاك وعدم بساطته ووحدته، كيف يمكن دعوى القطع والجزم بالإحاطة بالملاك التام للحكم الشرعي وعدم مزاحمته بملاك آخر أقوى منه؟! وبعبارة أخرى: للقطع بالملاك والعلّة لابد أن يحرز أن الملاك واحد أو متعدّد، وإن كان واحداً هو بسيط أو مركب، وإن كان بسيطاً هو أمر مادي أو معنوي، وإن كان مركباً هل هو مركّب من جزءين أو ثلاثة أو أربعة والأجزاء كلها مادية أو معنوية، وهكذا لابد أن يلاحظ كلّ المحتملات، ويستبعد كلّ ما لا دخل له بالملاك بالقطع واليقين، وإلا فهو ظانّ بالعلة إن لم يكن واهماً، سيما إن لوحظ بعض الاعتبارات الأخرى التي أعرضنا عن ذكرها لكفاية ما قدّمناه للإنسان المنصف.

بل نستطيع أن ندّعي أنه وإن قطع بأنّ الملاك من أيّ سنخ هو، يبقى احتمال أنّ ما أدركه ليس له أي ارتباط بالملاك وأنه ليس ملحوظاً للشارع؛ إذ ليس كلّ مفسدة ومصلحة لها ارتباط بملاك التشريع، وحينئذٍ يحتمل أنّ ما أدركه أجنبي عن الملاك أصلاً.

تهيّب كبار أصحاب الأئمة E من ادّعاء معرفة علل التشريع

من هنا يتضح سرّ جواب الفضل بن شاذان في ذيل رواية العلل؛ حيث سأله علي بن محمد بن قتيبة عن العلل التي ذكرها وأنها عن الاستنباط والاستخراج، ومن نتائج العقل أو ممّا سمعه ورواه؟ فقال له: ما كنت أعلم مراد الله بما فرض ولا مراد رسوله 2 بما شرع وسنّ، ولا أعلّل ذلك من ذات نفسي، بل سمعنا من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا % مرةً بعد مرة..

فهو ــ على عظمته في الفقه والكلام وإحاطته في علوم الشريعة ــ يعترف بعجزه عن إدراك العلل، بل يظهر من جوابه أنه ليس من شأنه إدراكها؛ حيث قال له: ما كنت أعلم مراد الله.. وما هذا إلا لما قدّمناه وسيأتي من وجوه أخرى، سيما الروايات.

نعم قد يناقش في سند الرواية بأنّ عبدالواحد بن محمد بن عبدوس، وعلي بن محمد بن قتيبة لم يوثقا في كتب الرجال، إلا أن هذا لا يضرّ؛ لأنه يمكن استفادة الوثاقة لبعض القرائن الخاصّة، وإلا فالرواية تكون ساقطة، ويسقط معها عشرات العلل في مختلف الأبواب وشتى المجالات ويكون هذا عليهم أضرّ.

تأييد النصوص لكثرة احتمالات العلة وتوكيد معضل اكتشافها

ولابد من التنبيه على أنّ هذه الاحتمالات التي ذكرناها في العلل ليست مجرد احتمالات عقلية ــ وإن كانت تكفي لإثبات المطلوب ــ بل عليها شواهد من روايات العلل، وكمثال على هذا، نذكر ما جاء في رواية الفضل بن شاذان عند بيان علّة تحريم الدم، حيث قال %: <وحرّم الله الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان، ولأنه يورث الماء الأصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويسيء الخلق، ويورث القسوة للقلب، وقلة الرأفة والرحمة، حتى لا يؤمن أن يقتل والده.. > فإنّ الماء الأصفر مفسدة للبدن، وبخر الفم وإثبات الريح مفسدة للبدن، ولكن لوحظ فيها أذية الآخرين ممن يعيش معهم ويختلط بهم، وقسوة القلب أثر سيء على الروح بحيث تؤثر على علاقته مع ربّه ومع الناس، أما قلة الرأفة والرحمة فهي آفة روحية، لكن أثرها غالباً ما يكون على المجتمع؛ ولذلك قال %: <حتى لا يؤمن أن يقتل والده>، فكيف يكون حاله مع بقية أفراد المجتمع؟!

وهكذا، عند ذكر علّة تحريم عقوق الوالدين، يقول محمد بن سنان ــ فيما كتب إليه الرضا % ــ : <حرّم الله عقوق الوالدين لما فيه من الخروج من التوفيق لطاعة الله تعالى، والتوقير للوالدين، وتجنّب كفر النعم، وإبطال الشكر، وما يدعو من ذلك إلى قلّة النسل وانقطاعه.. >.

والشواهد من الروايات على جملة الاحتمالات التي ذكرناها في العلة كثيرة جداً؛ ولذلك لم نعتن بإيراد ما لا إشكال في سنده، وإنما أوردنا هاتين الروايتين على سبيل المثال والتقريب، ولجمعهما لأنواع متعدّدة من العلل موجودة أو نظيرها في روايات متفرقة يطول البحث باستقصائها.

وهذا الدليل العقلي القائم على عدم إمكانية الجزم بالعلة باستقلال من العقل يصلح دليلاً في شرعنا وغيره؛ لأن كلّ مقدماته عقلية غير مأخوذ فيها خصوص شرع معيّن؛ ولذلك روي عن الصادق %: <إنّ دين الله لا يصاب بالعقول>، دون أن يقيّد عدم الإصابة بدين الإسلام أو غيره.

بناء الفقه الإسلامي على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات

وهناك دليل آخر يمكن ذكره في المقام لكنه يختصّ بشرعنا؛ لأنه مبني على استقراء الأحكام فيه، وملاحظة خصوصيّاتها التي تمنع سليم الفطرة ومعتدل المزاج أن يقطع بالملاك إلا ما ندر، ويكون حينئذٍ قطعاً ذاتياً ليست له قيمة إلا لمن حصل له هذا القطع.

أما خصوصية هذا الشرع التي تعطي هذه النتيجة فهي <الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات>، قال العلامة الحلي: إنّ شرعنا مبنيّ على الجمع بين المختلفات والتفرقة بين المتماثلات؛ فلا ضابط في الحكم سوى النص([42])، وفي الرياض: أحكام الشرع تعبّدية مبنية على جمع المختلفات وتفريق المماثلات([43])، وأثناء ردّه للقياس، يقول العلامة محمد طاهر القمي: وأمّا القياس، فلا يفيد غالباً الظنّ، بل التحقيق أنه لا يفيد أصلاً؛ لأن مبنى شرعنا على الفرق بين المتماثلات، كإيجاب الغسل بالمني دون البول، وكلاهما خارجٌ من أحد السبيلين. وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير، وحدّ القذف بالزنا دون الكفر، وتحريم صوم أول شوال، وإيجاب صوم آخر شهر رمضان، وعلى الجمع بين المختلفات، كإيجاب الوضوء في الأحداث المختلفة وإيجاب الكفارة في الظهار والإفطار، وتساوي العمد والخطأ، ووجوب القتل بالزنا والردّة، فإذا كان كذلك امتنع حصول الظنّ القياسي المبني على اشتراك شيئين في الحكم لاشتراكهما في الوصف([44])، أي العلة المستنبطة من الأصل.

وهذه الخصوصية وإن كانت تنفع في الردّ على القائلين بالقياس، إلا أنها أيضاً تنفع في عدم إمكانية استكشاف العقل لعلل الأحكام والجزم بها عادة جزماً موضوعياً، إلا ما شذّ وندر وبمساعدة قرائن خارجية؛ وذلك لأنّ تفرقة الشارع بين الموضوعات المتماثلة بالحكم، وتشريك الموضوعات المتخالفة بالحكم يعني أحد أمور: إما أنّه في بعض الأحيان لا يراعي الملاك في جانب المتعلّق، بل يلحظ الملاك في نفس الجعل والتشريع إن قيل بإمكانه، كما في الأوامر الامتحانية، وإما أن العقل يخطىء في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية، فيظنّ غير المتماثلين متماثلين وغير المختلفين مختلفين، وإما أنّ القواعد العقلية التي نطبّقها على الأمور التكوينية لا يمكن تطبيقها في الأمور الشرعية؛ لأنها أمور اعتبارية، أو لأنه عادةً لا يمكن استيفاء جميع مقدّمات الدليل العقلي في الأمور الشرعية.

قصّة أبان بن تغلب والردع عن اعتماد الموازين العقلية في الشرعيات

وكمثال على هذا من الروايات الشيعية، قضية أبان بن تغلب المشهورة في دية قطع أصابع المرأة، حيث كان يعتقد أنّ من قطع إصبعاً من أصابع المرأة فعليه عشرة من الإبل، وفي قطع إصبعين عشرون، وفي قطع ثلاثة ثلاثون، وفي قطع أربعة أربعون، وعندما كان ينقل له أنّ في الأربعة عشرين، كان يقول: إنّ الذي أتى بهذا الحكم شيطان؛ وذلك لأن المقاييس العقلية التي تعتمد قاعدة السنخية بين الأثر والمؤثر تفرض في المقام أنّ شدّة العقاب والقصاص تابعة لشدّة الجرم، ولا شك أنّ قطع الأربعة أصابع أشدّ جرماً من قطع الثلاثة؛ فملاك القصاص فيه أشدّ، فلابد أن يكون القصاص فيه أشدّ، ولا يمكن أن يكون مساوياً، فضلاً عن أن يكون أقلّ، مع أنه ثبت عن أهل بيت العصمة أنّ القصاص في الأربعة أصابع أقلّ منه في الثلاثة، حيث إنه يساوي قصاص قطع أصبعين فقط.

والذي أوقع أبان في هذا الاعتقاد الفاسد أنه استخدم قاعدة السنخية ــ وهي قاعدة عقلية موردها الأمور التكوينية ــ في التشريعات، وإن قيل بجريانها هنا، فيكون سبب اعتقاده الفاسد عدم إدراكه للموانع والمزاحمات التي تمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه؛ فتكون هذه القضية وأمثالها ــ مما ورد في الشرع ــ منبّهاً واضحاً على عدم صحّة الاعتماد على الموازين العقلية في الشرعيات؛ لأنه لا يمكن تحصيل القطع والجزم، وإذا كان كذلك، فكيف يمكن للعقل استكشاف علّة الحكم الشرعي بالجزم واليقين؟! بل مع ملاحظة ما قدّمناه لعلّ الإنسان لا يحصل له ظنّ بالعلة.

وببيان آخر، يمكن أن نقول: إن المثلين ــ مثلاً ــ لابد أن يكون حكمهما واحداً، فإذا كان كذلك لابد أن يكون الملاك فيهما واحداً، فإذا كان قد علم الملاك في أحدهما بطريق معتبر وأراد أن يستنبط الملاك من الآخر فلابد أن يثبت أنهما متماثلين، فإذا ثبت فلابد من تماثل حكميهما فإذا تماثل حكمهما، فلابد أن يتماثلا في الملاك، فإذا تماثلا في الملاك وعلم الملاك في أحدهما فلابد أن يعلم الملاك في الآخر، لكن بما أنه قد بيّن في الشرع أن المتماثلات قد تفترق في الحكم، فهذا يعني أنه لا يستطيع أن يستنبط الملاك بهذه الطريقة؛ لأنها تعتمد على مقدّمة <أن المتماثلات لابد أن تتماثل في الحكم>، مع أنها غير ثابتة بالاستقراء كما ذكرنا، وببيان أهل بيت العصمة كما سنبيّن، وتطبيق هذه المسألة على خصوصية <الجمع بين المتفرقات> بناءً على ما قدّمناه يغدو واضحاً لا يحتاج إلى مزيد بيان.

نقد نظريات التعليل بين الصادق والنظّام

ثم إنّ أول من استخدم هذه الطريقة في الردّ على القياس والاستنباطات العقلية هم أهل البيت %، سيما الإمام جعفر الصادق % في محاججاته مع أبي حنيفة؛ حيث يقول له%: <أيٌّ أعظم عند الله: القتل أو الزنا؟> قال: بل القتل، فقال %: <فكيف رضي في القتل شاهدين ولم يرضَ في الزنا إلا بأربعة>، ثم قال % له: <الصلاة أفضل أم الصيام؟> قال: بل الصلاة أفضل، قال %: <فيجب على قياسك قول: على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة>، ثم قال % له: <البول أقذر أم المني؟> فقال: البول أقذر؛ فقال %: <يجب على قياسك أن يجب الغسل في البول دون المني وقد أوجب الله تعالى الغسل في المني دون البول>([45]).

والمثير للعجب أنّ أصوليّي أهل السنّة ينسبون هذه الطريقة في الاستدلال إلى النظام المعتزلي([46])، مع أنّه قد ولد بعد شهادة الإمام الصادق % بعشر سنوات([47])، ومن المستبعد جداً أن النظام الذي كان يرفض القول بالقياس لم يطلع على احتجاجات الإمام الصادق % مع أبي حنيفة بخصوص هذا الشأن الذي يمكن أن يفيده في نصرة مذهبه.

الاستنباطات العقلية بين محق الدين وارتكاب الخطأ فيه

ويستفاد من ردّ الإمام الصادق % على أبان أنّ الاستنباطات العقلية يكثر فيها الخطأ؛ حيث قال له %: <لقد أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين>، ولا شك أن الدين لا يمحق لأخطاء قليلة، بل لابد أن تكون الأخطاء كثيرة جداًحتى يمحق الدين، وفي رواية أخرى عن أبي شيبة الخراساني قال: سمعت أبا عبدالله % يقول: <إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس؛ فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلا بُعداً، وإن دين الله لا يصاب بالعقول>، ولو كان أكثره يصاب بالعقول لما صحّ هذا القول منه %.

ثم إنّ الروايات الدالّة على عدم إمكانية إصابة العلل كثيرة جداً، وإن كان أكثرها وارداً في القياس، إلا أنها تفيد أيضاً في عدم مشروعية الاعتماد على العقل لاستنباط علل الأحكام من باب أولى، وتوضيح هذا الأمر يتوقف على بيان حقيقة القياس، ومن ثم تتضح هذه الأولوية بلا حاجة إلى عناية استدلال.

نظريتا: القياس واستنباط العلل، العلاقة والارتباط

بعد أن نفينا ظاهرة التعليل في الشرع، وأنّ ما بيّنه الشارع في بعض الأحيان كان من قبيل الحكمة لا العلّة التامة، وبيّنا أن العقل لا يستطيع أن يُدرك المصالح والمفاسد الواقعية التي هي علل وملاكات للأحكام الشرعية ــ سواء كان قبل صدور الأحكام أو بعدها ــ قد يدّعى أن العقل يستطيع، ولكن بمعونة الشرع، وذلك عن طريق القياس الذي هو قاعدة كلية وميزان عام بيّنه لنا الشارع وأجاز العمل به، وبما أنّ العمل بالقياس لا يمكن إلا بعد معرفة العلّة في الأصل والفرع ــ كما سيتبيّن ــ فلابد أن يكون هناك طريق صحيح ومشروع لمعرفة العلة.

وحدّ القياس، كما في الإحكام: <عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلّة المستنبطة من حكم الأصل>([48])؛ فإذا قال الشارع ــ مثلاً ــ : حرّمت الخمر لإسكارها، والحرمة حكمها والإسكار علتها، فإذا وجد الإسكار في النبيذ ــ وهو الفرع ــ فقد ثبتت الحرمة له بالقياس.

وقد ذكروا طرقاً كثيرة([49]) لاستنباط العلة في الأصل أقواها: السبر والتقسيم، والطرد، والدوران، والنصّ، والإجماع والإيماء، والمناسبة والشبه، وتنقيح المناط والتأثير، ولا يخفى أن أكثرها عقلي، وأنّ التي تستفاد بالنص خارجة عن مورد بحثنا.

كما بيّنوا طرقاً لمعرفة أن الوصف المعيّن ليس بعلّة في الأصل، واستعرضوا أبحاثاً أخرى طويلة، لا يضرّ بغرضنا عدم التعرض لها.

وعليه، فإذا ثبت القول بالقياس ــ وهو متوقف على استنباط العلة من الأصل وأكثر طرق استنباطها عقلي ــ تثبت دعوى أنه يمكن معرفة العلّة بالعقل، وإلا يلغو اعتبار القياس من قبل الشارع، وهو خلاف الفرض.

نقد توظيف القياس لإثبات نظرية التعليل التشريعي

وتعليقاً على هذا الكلام نرى أنّ القياس باطل في الشرع لبعض ما تقدّم منّا والأدلة التي ذكرت لإثبات شرعيّة العمل به ضعيفة جدّاً وبطلان العمل بالقياس أصبح يعدّ من شعائر مذهب الإمامية وضرورياته، والروايات على بطلانه بلغت حدّ التواتر، وقد تعرّض لها علماء المذهب في كتبهم الأصولية والفقهية، وفنّدوا الأدلة التي ذكرت على حجيّته، فليراجع.

وعلى فرض عدم بطلانه وصحّة الاستدلال به في أحكام الشرع، فهو لا يفيد لاستنباط علل الشرع والملاكات الواقعية بنحو البتّ والقطع، بل لا يفيد أكثر من الظنّ، حتى باعتراف أهله، غاية الأمر يدّعون قيام الدليل على حجيّته، بل حتى إفادته للظنّ يمكن المناقشة فيها بعد الالتفات لما قدّمناه في النقطة السابقة. وحينئذٍ كيف يمكن جعل هذه العلة حافزاً ومرغباً للطاعة بوجودها الظنّي أو الوهمي؟! بل حتى لو قلنا بإفادته للقطع بالعلة أو أنّ الظني منها يفيد في غرضنا، فخصوص العلة المستنبطة في القياس لا تفيد في غرضنا هنا، أي زيادة محفزية الطاعة؛ لأن القياس يفيد معرفة العلة بالمعنى الثاني الذي ذكرناه في إطلاقات العلة، أي يفيد العلّة الإثباتية، أي الدليل على الحكم الشرعي والأمارة على وجوده، وبعبارة أخرى فهو ــ بواسطة الطرق التي نقلناها عنهم ــ يُفيد تعيّن الوصف المنضبط الذي إن وجد وجد الحكم الشرعي حتى لو لم يكن له أيّ ربط بالمصلحة والمفسدة، أي العلة بالإطلاق الأول؛ ولذلك يقولون: إنّ علل الأحكام من قبيل المعرّفات ــ أي الأمارات ــ للحكم الشرعي، والذي يفيدنا في اللطف هو العلّة بمعنى الحكمة الباعثة للتشريع أي المصلحة والمفسدة الواقعية، دون العلّة بمعنى الوصف الذي إن وجد وجد الحكم الشرعي، أي الوصف الملازم له وان لم يكن مرتبطاً بالمصلحة والمفسدة، وإن كان قد جوّز بعضٌ التعليل بالحكمة ــ أي المصلحة والمفسدة ــ بشرط أن تكون ظاهرةً منضبطة، إلا أن جمهور أصوليّي أصحاب القياس لم يقبلوا هذا، وردّوا عليه بأنّ جواز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة فرع إمكان ذلك، وهو غير مسلَّم بالحِكَم؛ لأنها راجعة إلى الحاجات وإلى المصالح ودفع المفاسد، والحاجات مما تخفى وتزيد وتنقص فلا تكون ظاهرةً ولا منضبطة، وإن سلّمنا إمكان ذلك نادراً، وهذا عين ما ادّعيناه سابقاً.

وحتى تتضح هذه النقطة جيداً، نذكر كلاماً لأحد المختصّين في أصول فقه السنّة؛ حيث يقول عند البحث عن ما يصحّ التعليل به: <قرّر جمهور الأصوليين أن التعليل يكون بالوصف الظاهر المنضبط، سواء كان معقولاً كالرضا والسخط الظاهرين، أم محسوساً كالقتل والسرقة، أم عرفياً كالحسن والقبح، فمثل هذه العلة هي مناط الحكم عند الشارع، أما الحكمة، فإنه قد يتبادر إلى الذهن أنّ الحكم مرتبط بها؛ لأنها الباعث على تشريع الحكم، ولكن وجد أن الحكمة قد تكون أمراً خفياً لا تدرك بحاسة ظاهرة، أو أمراً غير منضبط يختلف باختلاف الأحوال، أو باختلاف الناس، فمثلاً: إباحة البيوع، حكمتها دفع الحرج عن الناس بسدّ حاجاتهم، والحاجة أمر خفي، فقد تكون المعاوضة بالبيع لحاجة أو لغير حاجة، وإباحة الفطر في رمضان (للمسافر) حكمتها دفع المشقة، والمشقة تختلف باختلاف الأحوال والناس، فرؤساء الدول ــ مثلاً ــ لا ينالهم من المشقة في السفر ما ينال الرعية، والمشقة في زمن الصيف تختلف عن المشقة في زمن الشتاء، والسفر على الطائرات غير الركوب على الجمال.. وتحريم الخمر، حكمته دفع الضرر عن الناس، غير أنّ الضرر أمرٌ تقديري يختلف باختلاف الأشخاص، فجعل الإسكار الذي هو أمر ظاهر منضبط علةً للتحريم بحيث يُقاس عليه كلّ مسكر، ومشروعية مقصّر الصلاة في السفر، حكمتها دفع المفسدة التي هي المشقة، غير أنّ هذه المشقة أمر اعتباري يختلف بالنسبة للأشخاص والظروف والأزمان والأماكن، فلا يمكن جعل المشقة مناطاً للحكم، وهو الترخيص في قصر الصلاة؛ ولكن لما كان السفر مظنة هذه المشقة ــ وهو أمر ظاهر منضبط ــ جعل السفر علةً لإباحة القصر كما هو علة لإباحة الفطر..

ونظراً لخفاء حكمة التشريع أحياناً، وعدم انضباطها أحياناً أخرى، قرر جمهور الأصوليين منع التعليل بالحكمة مطلقاً، سواء كانت خفيةً أم ظاهرة، منضبطة أم غير منضبطة، وحينئذ يلتمس للتعليل وصف ظاهر منضبط يدور مع الحكمة أو يغلب وجودها عنده، أي إن المطلوب هو أن يكون الوصف مظنة لتضمّنه الحكمة، وعندئذ ينبني الحكم عليه ويرتبط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه، وهذا معنى قول الأصوليين: <إن الحكم يدور مع علته لا مع حكمته وجوداً وعدماً>، أي إنّ الحكم يوجد حيث توجد علّته، ولو تخلّفت حكمته، وينتهي حيث تنتفي علته ولو وجدت حكمته؛ فالسفر في رمضان ــ مثلاً ــ علة تجيز الفطر وقصر الصلاة ــ كما تبيّن ــ حتى وإن انتفت الحكمة وهي المشقة، بأن كان السفر مريحاً لا مشقة فيه، أما غير المسافر أو المريض، فلا يجوز له الفطر أو القصر حتى وإن كان في عمله مشقة ــ كالخباز والوقار ونحوهما ــ لانتفاء علة الجواز، وهي السفر أو المرض، رغم أن الحكمة، وهي المشقة، موجودة>([50]).

وبهذا توصّلنا إلى أنّ الشارع لم يبيّن لنا العلل بالوجه الذي يمكن أن تفي بالغرض المفروض في الدعوى، وتبيّن أنه لم يجعل لنا ضابطةً يمكن على أساسها أن ندرك ونستكشف العلل؛ وعليه فالمشكلة تحكّمت والشبهة استحكمت، وقبل أن نجيب عنها ــ ونبيّن الحكمة في انتخاب الشارع لهذه الطريقة واعتماده بيان الأحكام من دون تعليل ــ نريد أن نرتقي بالبحث إلى مرحلة أخرى، لنرى أنه هل هناك مانع من بيان العلل، وهل هناك محذور من اطلاع عموم الناس عليها أم أنه ليس هناك محذور وإنما هناك مصلحة لهم بإخفائها عنهم؟

نظرية إخفاء التعليل

1 ــ محاذير بيان العلل التشريعية

يمكن أن يقال: إن الشارع لم يبيّن العلل لمحذورٍ في بيانها ومصلحة في إخفائها، أي هناك مانع من بيانها، بحيث حتى لو افترضنا أن هناك مصلحة في البيان إلا أن هذا المانع يمنع من تأثير المصلحة في داعوية الشارع للبيان، ونستفيد في بيان المحذور بما بيناه سابقاً من أن علّة الحكم الشرعي يمكن أن تكون واحدةً ويمكن أن تكون متعددة، وإن كانت واحدة إما بسيطة وإما مركبة، ثم كلّ علة أو كل جزء منها إما يكون مادياً وإما معنوياً، ثم إنها على كل حال إما أن تكون مرتبطة بفرد المكلف أو بنوعه، أي إن أثرها إما على الشخص فقط أو على المجتمع، ثم إن كانت العلة مركبة إما أن تكون كلّها من سنخ واحد أو مختلفة، ومن حيث الكمّ قد تكون مركبةً من جزءين أو ثلاثة، بل قد تكون مركبةً من عشرة أجزاء؛ إذ لا دافع لهذا الاحتمال بعد فرض عدم الاطلاع على الميزان الدقيق الذي شرَّع الله سبحانه أحكامه على أساسه.

وعليه، فإما أن نفرض أن الشارع بيّنها كلها، أو بيَّن بعضها، إما لكل الأحكام أو لغالبها:

أ ــ فإن فرض بيانها كلّها، فيستشكل عليه بأن بيانها ــ مع أخذ الاحتمالات التي ذكرناها بعين الاعتبار ــ لعله يحتاج أضعافاً مضاعفة لما هو موجود في كتبنا، وهذا يلزم منه أن يكثر الاشتباه والكذب، إذ كلّما زاد المنقول بالوسائل الظنية كلما زاد الكذب والاشتباه، بل مجرد احتماله هنا يضرّ؛ لأن المطلوب بالعلة لغرضنا الواقع، لأنه لا يحصل الإقناع إلا به؛ لأنه أثر تكويني لا يكفي فيه التعبّد حتى نلحظ فيه الحجية بغض النظر عن إصابة الواقع.

ب ــ وإن فرض بيان بعضها حتى يكون احتمال الكذب والاشتباه أقلّ، فإن سلّمنا عدم ورود إشكال من تلك الجهة إلا أنه تعترضنا مشكلة من جهة أخرى، وهي أن بيان جزء العلة في الكثير من الأحيان لا يؤثر الأثر المطلوب من التعليل لعدم وفائه بإقناع المخاطب؛ فيؤدي هذا إلى ضعف شأن الشارع، ومن ثم إلى ضعف إيمانه بكمال علمه وحكمته تعالى، وليس ذلك إلا لعدم قوّة حكمته من التشريع الفلاني بحسب نظر المكلف الذي يرى في الكثير من الأحيان أن هذه الحكمة غير مطّردة ولا منعكسة، حيث تكون ولا يكون الحكم أو يكون ولا تكون الحكمة، وإن كانت مطردةً منعكسة قد لا تكون ــ بحسب فهمه ــ مناسبةً للحكم من حيث القوّة والضعف؛ إذ قد يُبرز الشارعُ بعض العلل ــ الحكم ــ للأحكام الإلزامية فتكون بحسب الظاهر غير مناسبة لها، وبالعكس فقد يبيّن بعض العلل للأحكام غير الإلزامية فيجدها تناسب الأحكام الإلزامية لقوّتها وشدتها.

وهذا ما نجده بالوجدان وفي تعاطينا الاجتماعي؛ حيث يُحجم الإنسان في الكثير من الأحيان عن ذكر الأسباب والعلل لبعض تصرّفاته وتوجهاته؛ خوفاً من عدم تفهم الآخرين لها، فيتهم بالسفه والجهل، بخلاف ما لو لم يبيّن الدواعي فيبقى باب التوجه مفتوحاً عند أهل الإنصاف، ولو لم يكونوا بمستوى عالٍ من الفهم والوعي، وعليه، فإنّ هذا قد يؤدي إلى عكس المطلوب من تقوية الداعي للطاعة، حيث يؤدي إلى ضعف الإيمان الذي هو سببٌ مهم في العمل وإيجاد الداعي له، هذا كله فيما لو فهم العلة، ولكن لم يجدها ــ بحسب نظره ــ مناسبةً للحكم المشرَّع لأجلها.

أما لو غضينا النظر عن هذا الإشكال، وفرضنا أنه تصوّر العلة على نحو الإجمال فقط، أو تفصيلاً ولكن لم يصدّق بوجودها؛ لعدم إحساسه بها، ولو تجاوز الأمر حسّه فهو لا يستطيع إثباتها والتصديق بها ولو بالاعتماد على خبرة غيره لقصور وسائل الإثبات في عصره؛ فيكون بيان العلّة له ولأمثاله بلا فائدة، والغرض المفروض في الدعوى لا يتمّ، فمثلاً لو فرض أن تحريم أكل الخنـزير كان لعلل منها مادية، ولنفرضها اشتماله على جرثومة تؤذي بدن الإنسان أذيةً معتدّاً بها، لكن لا يستطيع أن يشعر هو بذلك، ولا أن الوسائل العلمية ــ في عصر النص ــ تستطيع إثبات ذلك؛ فحينئذ لابد للشارع أن يتدخّل في هذه المرحلة ويثبت لهم صحّة قوله فيها، وهذا الأمر إن اقتصر فيه الشارع على موارد قليلة فقط، يبقى السؤال بالنسبة للكثير من الموارد التي لم يثبت صحّة قوله فيها.

إن قيل: يكفي ثبوت صدورها عن الشارع وتصوّرها الإجمالي ولو لم تثبت له تكويناً بالحسّ أو البرهان، يقال: فلنكتف من أول الأمر بالتعبّد بأحكام الشرع وتصوّر حكمته في تشريع أحكامه إجمالاً؛ فلا يبقى مورد للسؤال من أول الأمر.

أما إذا قيل: يتدخل الشارع في بيان حقيقة كلّ العلل ويثبت لهم وجودها بالتجربة والبرهان، كلٌ بحسبه، فهذا يلزم منه أن يكشف لهم النقاب عن مجاهيل العلوم طفرةً وفي شتى المجالات التي ترتبط بحقيقة العلل، حتى الآلة التي ستكون من وسائل الإثبات، وحينئذ يعطّل دور العقل واعتماد الإنسان على نفسه لاكتشاف الحقائق الكونية، وهو خروج عن السنّة الإلهية التي أخذها تعالى على نفسه، بالإضافة إلى عدم تحمّل استعدادات أهل ذلك الزمان لتلك الطفرة.

وإن قيل: إنه يبيّنها جميعاً بالإعجاز ــ هروباً من تلك المشكلة ــ فنقع في مشكلة أخرى، وهي أن الإقناع حينئذٍ يكون للمعجزة لا لمعرفة العلة، وكلامنا ليس في الإقناع الذي يسبّبه الإعجاز، وإلا لكان السؤال عاماً، وأنه لماذا لم يواتر الله تعالى لنا المعاجز حتى تكون أقرب لطاعته؟ وهذا بحثٌ آخر لا ربط له ببحثنا.

ويبقى احتمال آخر، وهو أن يبيّن لنا تلك العلل وليتركها للزمن حيث يستفيد منها أهل كلّ زمن بحسب تطوّر استعداداتهم وعلومهم، لكن هنا أيضاً تبرز عندنا مشكلة من نوع آخر ــ وإن كانت تختلف شدّةً وضعفاً بحسب تطوّرهم العلمي ونضوجهم الفكري ــ وهي نكران الكثير من الناس للدين لمخالفة الكثير من هذه العلل لما يعرفونه بالبداهة مع ما يتناسب ومستوى عصرهم العلمي، كما حصل في عصر حاكمية الكنيسة؛ حيث كفَّروا من يقول بدوران الأرض حول الشمس، وهكذا لو أخبر الشرع عن شيء لا يمكن إثباته لهم إن كان منافياً لبديهيات الحسّ وقواعدهم العلمية في ذلك الزمن، وحينئذ يتهم الشرع بالقصور ويجهّل، سيما مع تشكيك المشكّكين.

قد يقال: إن الشرع إذا ثبتت صحّة بعض أقواله في العصور اللاحقة فيكون هذا لطفاً لهم؛ لأنّه كشف النقاب عن أشياء لم تكن لديهم وسائل إثباتها فهذا دليل صدقه في الباقي؟

لكن قد يشكّك بأنه صدفة، إذ الكثير مما أخبر به لا نعلم صدقه الآن، بل نعلم كذبه، كما لو كانت وسائلهم عاجزة عن فهم ما يطرحه لهم بل تفهم عكسـه، وهذا ليس بعزيز في حقل هذه العلوم التي هي في تطوّر دائم، فحينئذٍ يعود نتيجة هذا سلباً لا إيجاباً، إلا إذا كانت كثيرة جداً، وهذا أيضاً لا يحصل إلا بعد أن يذهب ضحية هذه الطريقة ــ من الشارع ــ أهل الأزمنة السابقة الذين ما استطاعوا أن يثبتوا صحّة إخبارات الشارع وصدق علله، حيث وجد أعداء الدين في هذا فرصةً ثمينة للطعن في الدين والنيل من مصداقية إخباراته، فيرد الإشكالان من هذه الجهة.

قد يقال: هناك طريقة يمكن الفرار بها عن هذا المحذور، وهي أن يبيّن الشارع تلك العلل بالكنايات والرموز بحيث لا تضرّ الأولين ويستفيد منها اللاحقون، عند توفر القدرة العلمية على ذلك.

إلا أنه يعود إشكال عدم فهم العلة والاستفادة منها لتفعيل عامل الرغبة عند السابقين، أما اللاحقون فيبقى لهم ذريعة أنّ الرموز والكنايات حمّالة ذات وجوه، فكيف يحصل لنا قطع بمراد الشارع منها؛ فلا يمكن إحراز تطابق الشرع والعلم فيها، فلعلّ الشارع قصد شيئاً غير ما أثبته العلم، ولعلّ العلم أخطأ في مسألة الآن فإن جاريناه وحملنا علل الشارع عليه ثم تبيّن خطأ العلم وبرأنا قصد الشارع مما رفع العلمُ اليد عنه، فحينئذٍ ترتفع الثقة بكل هذه العلل؛ فإن لم تضرّ لم تُفد.

وحتى مع وصول الكثير منها بطريق صحيح وكان المراد منها واضحاً ــ بغض النظر عن الإشكالات السابقة ــ وصحّة الطريق تجتمع مع عدم الصدور كما هو محقّق في محله. فإذا ثبت عدم مطابقة بعض هذه العلل للواقع تزداد المشكلة ويكبر المحذور بانعدام الثقة.

وليس من المعلوم أن يصل الإنسان لجميع الحقائق العلمية التي قد يكون الكثير منها دخيلاً في ملاكات التشريع وعلله، والمشكلة أوضح في المسائل النفسية والاجتماعية التي قد  لا يكون إدراك الكثير منها بسهولة إدراك ما يدخل تحت التجربة؛ ولذا نجد الاختلاف في القضايا الاجتماعية والنفسية كثيراً جداً بين علماء الاجتماع والنفس، فحينئذٍ يكون باب التشكيك بصحّة ما يقوله الشارع مفتوحاً على مصراعيه، وحينئذٍ تعطي هذه العلل عكس النتيجة المطلوبة فتكون مبعّدة عن الطاعة لا مقرّبة ولا واقفة موقف الحياد منها.

وقد لا يستطيع العقل البشري إدراك المميّز بين الملاك الملزم من غيره بالوسائل العادية، إذ قد يضع الشارع أمامه علّة تحريم شيء وعلة كراهة آخر؛ فيرى المكلّف بنظره القاصر أن علّة التحريم غير ملزمة وعلّة الكراهة ملزمة، وهكذا في الواجب والمستحب، ونتيجة هذا أن يخطِّئ الشارع في تشريعه وتنعدم ثقته بتشريعاته كلّها ما لم تطمئن نفسه لوجاهة التشريع.

إذن، فالمشكلة موجودة سواء أراد بيان العلل التامة أو بعض الأجزاء فيما لو كان المطلوب أن يبيّنها لكلّ الأحكام أو لغالبها، أما لو أراد أن يبيّن العلل التامة أو بعض أجزائها لبعض الأحكام القليلة فقط، فلا تبرز كل هذه المحاذير؛ ولذلك نجد أن ما وصلنا بطريق معتبر من العلل هو جداً قليل بالنسبة لأحكام الشريعة بكلياتها وجزئياتها.

وحصيلة القول: إنّ هناك مانعاً أو موانع من ذكر العلل ولو لم تكن بنحو العلة التامة، وإذا كان كذلك فلا يمكن القول حينئذٍ: إنّ بيان العلل لطفٌ، ومقتضى كون الله لطيفاً بعبادة أن يعمل بمقتضى لطفه، وعلى هذا فينبغي أن يبيّن علل أحكامه وشريعته، بل حتى لو لم يكن هناك مانعٌ ومحذور في ذكر العلل، إلا أنّ هناك مصلحة أهمّ من مصلحة بيان العلل، فمراعاةً لهذه المصلحة لا ينبغي على الشارع أن يبين هذه العلل، وإلا يكون قد فوّت مصلحة الأهم، وهذا هو المخالف للطفه تعالى لا ترك بيان العلل كما يدّعي صاحب تلك الدعوى.

2 ــ الحكمة في إخفاء العلل التشريعية

أما المصالح المتصوّرة هنا، فهي مصلحة التسليم والإخلاص والثواب، ونبحثها تباعاً.

أ ــ مصلحة التسليم

كلّ ما أدرك العقل وجه الحكمة فيه يميل الطبع إليه بقدر ما أدرك من حكمته، فيسهل على المكلف امتثاله؛ لموافقته لطبعه، وكمال الانقياد والتسليم لله سبحانه لا يظهر كما يظهر بما يخالف الطبع ويشقّ على النفس تحمّله.

يقول صاحب التحفة السنية: كلّ ما أدرك العقل وجه الحكمة في فعله مال الطبع إليه ميلاً ما بقدر ما أدرك من وجه حكمته؛ فيكون ذلك الميل معيناً في الأمر وباعثاً على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرقّ والانقياد، وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه ربط نجاة الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهوية طباعهم وأن تكون بيد الشارع فيتردّدون في أعمالهم على سنن الإنقياد ومقتضى الاستعباد، كان ما لا يُهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبديات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطبع إلى مقتضى الاسترقاق؛ ولأجل ذلك قال 2 في الحجّ على الخصوص: <لبيك بحجّة حقاً تعبداً ورقاً>، ولم يقل ذلك في الصلاة وغيرها([51]).

وقريب من هذا المعنى ما نقله السبزواري في شرح الأسماء عن بعض العرفاء([52]).

ويمكن أن يستفاد هذا المعنى من قوله تعالى: >فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً< (النساء: 65)، أي إنّ كمال الإيمان لا يتحقق ولا يصل إليه العبد إلا بالتسليم الذي لا يكون إلا إذا قبل بما أتى به الرسول 2 من دون أن يجد في نفسه أيّ حرج وضيق، والحرج إنما يكون عادةً في الأمور التي يصعب تحمّلها والتي منها طاعة ما لا يعلم سرّه وحكمته، بل قد يكون تحمّل هذا الحرج في بعض الأحيان أصعب من تحمّل أي حرج آخر ناتج عن العمل بالتكليف.

ب ــ مصلحة الإخلاص

إنّ الإنسان حين امتثاله للتكليف مع التفاته التفصيلي لعلّة التشريع ــ والتي غالباً ما تراعي مصلحة المكلف، إما مباشرة أو باعتباره جزءاً من المجتمع ــ يصبح من الصعب عليه امتثال التكليف المتوجّه له دون أن يتأثر بقصد هذه المنفعة، بل قد تطغى عليه دوافع المصلحة والمنفعة؛ وذلك لأنسه بالحسّيات واندفاعه نحو العاجل من منافعها، وبالتالي لم يعد ما يمارسه عبادةً لله بقدر ما هو عمل نافع يمارسه العابد لكي ينتفع به ويستفيد من آثاره.

وهذا الأمر ليس غريباً؛ إذ كما أن معرفتنا بأنّ هناك أسباباً مادية للأشياء في نظام الكون فنتوجه لها ونتوسل بها في قضاء حوائجنا ونغفل عن مسبّب الأسباب، بل بعضنا قد تحجبه عن الحقّ مطلقاً فينكر وجوده ولا يرى في الكون غير الأسباب المادية، كذلك هنا قد يشغله قصد منفعته الدنيوية عن قصد أمره تعالى ورضاه، فالعبادة حينئذٍ إن لم تكن باطلةً فهي لا أقلّ مشوبة غير خالصة لله سبحانه، قال تعالى: >وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين<، ومن هنا كانت عبادة من يعبد الله سبحانه لثوابه عبادة التجار، حتى استشكل بعضهم في صحّتها.

لكن قد يقال: إنه على هذا ينبغي أن لا يبيّن لنا تفاصيل الأجر والثواب كالحور والقصور والأنهار.. ولا يعدنا بهذا لقاء الإيمان والعمل الصالح، وأن لا يخوّفنا من النار وأهوالها وما يجري على أهلها؛ لأن العامل حينئذٍ عامل لتحصيل المنافع الأخروية ورفع المضارّ كذلك، فيكون عمله غير خالص لله، فهل يمكن القول: إنّ هذه البيانات من الشارع بشأن الثواب والعقاب على خلاف اللطف، مع أنّ القرآن والسنّة مليئان بهذا؟! فما يقال هنا يقال في علل الأحكام والجواب هو الجواب.

لكنّه قياس مع الفارق؛ لأن الغرض من التكليف ــ وهو الطاعة ــ لا يحصل ــ من غير من اصطفاه الله ــ عادةً من دون الترغيب بالجنّة والترهيب من النار وتفصيلاتها، وعليه فمقتضى اللطف أن يبيّن هذا، بخلافه في بيان العلل؛ إذ صحيحٌ أنها مقرّبة من الطاعة لكن يمكن الاستغناء عن بيانها وحصول الغرض بإخفائها، ونستفيد حينئذٍ من مصالح إخفائها ونتجنّب مفاسد بيانها.

قد يقال: إن المعصوم ــ غالباً إن لم يكن دائماً ــ على اطلاع على علل الأحكام، فيلزم على ما قلناه أن يتأثر قصده بهذه المنافع فلا تكون عبادته خالصة؟

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأن المعصوم نال هذه الدرجة الرفيعة لقربه من الله سبحانه، وإعراضه عن الدنيا وملذاتها، ومن كان كذلك كيف تتأثر نيّته وتشوب عبادته إذا كان مطلعاً على العلل أي المصالح والمفاسد؟! نعم، من كان في قلبه حبّ للدنيا وتعلق بزخارفها يقع في هذه المشكلة، كما هو حال غالب الناس؛ ولذلك نقول: إن مقتضى اللطف أن لا يبيّن لهم ــ لا أن يبيّن ــ حتى يسهّل الله سبحانه حصول حالة التسليم والإخلاص، إذ ليس غرضه تعالى أن يقرّبهم من العبادة التي هي ــ حقيقةً ــ عبادة للذات ومنافعها.

هذا، وهناك إشكالات أخرى، منها ما يعمّ الوجوه الثلاثة، ومنها ما هو خاص ببعضها، لا يسع المجال لذكرها.

ج ــ مصلحة الثواب

إن الاختبار بطاعة ما لا يعلم سرّه أعظم، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل، ولا شك أنّ مقتضى الكرم والجود الإلهي أن يوفّر الله لعبيده أفضل السبل لتحصيل ثوابه وعظيم أجره، وهذا واضح لمن قرأ كتابه وسنّة نبيّه، سيما ما يرتبط بالمستحبات والمكروهات التي تهيء العبد لاكتساب أكبر قدر ممكن من الأجر والثواب.

وهذه الوجوه والمصالح الثلاث يمكن استفادتها من كلام أمير المؤمنين في خطبة القاصعة؛ حيث يقول % بعد بيان تمرّد إبليس واستكباره: <ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواثه، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلّت الأعناق خاضعةً له ولخفّت البلوى فيه على الملائكة، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم..>.

وفي موضعٍ آخر من الخطبة، يبيّن أن الله بعث الأنبياء والرسل بالضعف والمسكنة والفقر والفاقة؛ لأنه <أراد أن يكون الاتّباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته أموراً له خاصّة، لا يشوبها من غيرها شائبة، وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل.

ثم يستشهد % باختبار الله سبحانه وتعالى لخلقه من لدن آدم 2 إلى الآخرين في هذا العالم <بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، فجعلها بيته الحرام.. ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض.. ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار.. لكان قد صغَّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، ولو كانت الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء، لخفّف ذلك مسارعة الشك في الصدور.. ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبّدهم بألوان المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم؛ وليجعل ذلك أبواب فُتُحاً إلى فضله وأسباباً ذُلُلاً إلى عفوه>([53]).

ولا يخفى على المتأمل كيفية استفادة تلك الوجوه من كلامه %؛ فلا نطيل الكلام ببيانها، هذا وهناك وجوه أخرى يمكن أن تذكر، لكن ما ذكر كان أهمّها.

*     *     *

الهوامش



([1]) تفسير المنار 2: 30.

([2]) المصدر نفسه: 130.

([3]) شرح الأسماء: 104؛ وراجع: الآمدي، الأحكام 4: 61، حيث تكلّم عن فائدة التنصيص على العلة.

([4]) شرح الأسماء: 103.

([5]) النكت الاعتقادية: 35.

([6]) أوائل المقالات: 161.

([7]) راجع: الطوسي، الاقتصاد: 80؛ والمازندراني، شرح أصول الكافي: 26، وشرح اللمعة 2: 410.

([8]) المازندراني، شرح أصول الكافي 1: 10.

([9]) المصدر نفسه: 10.

([10]) طه جابر العلواني، المحصول 5: 196.

([11]) المصدر نفسه 5: 197 ـ 198.

([12]) مصباح الأصول 2: 21.

([13]) حاشية الآخوند على الرسائل: 76.

([14]) غاية الأفكار 1: 174.

([15]) الفيروزآبادي، عناية الأصول 3: 280.

([16]) المصدر نفسه: 281.

([17]) نهاية الدراية 3: 266، طبعة أهل البيت.

([18]) أجود التقريرات 3: 67.

([19]) المستصفى 2: 96.

([20]) علل الشرائع 2: 482 ـ 484.

([21]) فوائد الأصول 4: 282.

([22]) المصدر نفسه 1: 496، و1: 256 ـ 258، و4: 282.

([23]) منية الطالب 3: 371 ـ 377.

([24]) عبد المنعم النمر، الاجتهاد: 285، 293.

([25])  علل الشرائع: 479، باب 229.

([26])  الفوائد 1: 496.

([27])  علل الشرائع: 475، الباب 224؛ وموارد أخرى كثيرة موزعة في الكتاب.

([28])  راجع الباب 294 ـ 295 ـ 269 وغيرها من الأبواب من نفس الكتاب.

([29])  وسائل الشيعة 1: 161.

([30])  المصدر نفسه 3: 228.

([31])  المصدر نفسه: 252.

([32])  عدة الأصول 2: 86 طبع الهند؛ والشعراني، المدخل إلى عذب المنهل في أصول الفقه: 178 ـ 182.

([33])  الحدائق 1: 64.

([34])  المصدر نفسه 10: 60.

([35])  فوائد الأصول 1: 496 (بتصرّف).

([36])  ابن فهد الحلي، المهذب البارع 4: 435.

([37])  اللمعة الدمشقية 8: 219، طبعة الكلانتري.

([38])  رياض المسائل 2: 379.

([39])  نهاية الدراية 2: 324، طبعة سيد الشهداء.

([40])  المظفر، أصول الفقه 2: 165.

([41])  كتاب الصلاة 8: 421.

([42])  مبادي الوصول: 220.

([43])  رياض المسائل 2: 406، الطبعة الجديدة.

([44])  محمد طاهر القمّي الشيرازي، كتاب الأربعين: 240.

([45])  وسائل الشيعة 18: 30.

([46])  راجع: الفخر الرازي، المحصول 5: 107.

([47])  ولد النظام سنة 158هـ، وقد استشهد الإمام الصادق % سنة 148هـ.

([48])  الآمدي، الإحكام 3: 191.

([49])  راجع: المحصول 5: 107.

([50])  وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي 1: 646 ـ 652.

([51])  الفيض الكاشاني، التحفة السنية، شرح السيد عبدالله الجزائري (مخطوط).

([52])  السبزواري، شرح الأسماء 1: 103.

([53])  نهج البلاغة: 418، شرح محمد عبده.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً