د. محمد كاظم شاكر(*)
أ. حسام إمامي دانالو(**)
تمهيدٌ
يُعدّ بحث مسار الوحي ومعرفة ماهيته أحد أهمّ المسائل الدينية التي تحظى باهتمام المتكلِّمين المسلمين. ومن بين هذه المسائل تحديد ماهية ذلك الشيء الذي كان يوحى إلى النبيّ الأكرم|؛ بمعنى أن الذي كان يوحى إلى النبيّ الأكرم| في مسار الوحي مجرّد معاني القرآن الكريم، دون احتوائها على شكلٍ أو إطارٍ لفظي، وإن النبيّ الأكرم| ـ بالإضافة إلى الإبلاغ ـ كان يتولّى بلورة تلك المعاني في إطارٍ لفظي، أو أن ألفاظ القرآن الكريم بدَوْرها كانت تُلْقَى من عند الله سبحانه وتعالى على النبيّ الأكرم| أيضاً.
يذهب أكثر المسلمين إلى الاعتقاد بأن القرآن الكريم قد نزل من عند الله على النبيّ الأكرم| بلفظه ومعناه، وإن النبيّ الأكرم قد أبلغ آياته إلى الناس بعينها دون تدخُّلٍ أو تصرُّف من جانبه. ومع ذلك هناك من المسلمين مَنْ قال بأن ألفاظ القرآن الكريم منبثقةٌ عن الوجود المقدَّس للنبيّ الأكرم|، بمعنى أن الذي كان ينزل على النبيّ الأكرم في مسار الوحي كان دون شكلٍ أو صورة لفظية، وأن النبيّ الأكرم هو الذي صاغ تلك المعاني بعد نزولها عليه في إطارٍ لفظي؛ ليجعلها في مستوى فَهْم المخاطَبين. وقد عمد نصر حامد أبو زيد ـ في ضوء الاستناد إلى الآية 51 من سورة الشورى ـ إلى التفريق بين الوحي وكلام الله، ورأى أن «الوحي» أحد أنواع الكلام الإلهي، ثم بعد بيان أن الوحي يعني الإلهام أيضاً قال: «إن إرسال المَلَك هو الوحي المعهود، حيث يأتي فيه رسولٌ، بَيْدَ أن هذا الرسول لا يُبلِّغ شيئاً، وإنما يوحي ويُلْهِم. ولو نظرنا إلى الآية [51 من سورة الشورى] على أساس هذا النوع من الفصل والتفكيك بين الوحي والكلام الإلهي [بأنواعه الثلاثة] سوف ندرك أن جبرائيل× لم يُبلِّغ الكلمات إلى النبيّ [الأكرم|]، وإنما ألهمه إيّاها وأوحاها له. إن هذا الفهم من الآية منسجمٌ مع مفاد قوله: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ (البقرة: 97)، وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشعراء: 193 ـ 194). وبذلك يمكن لنا أن نعتبر القرآن وحياً، وكلامه الملفوظ من عند النبيّ [الأكرم|]. وأرى أن هذا الاعتقاد هو الأقرب إلى الحقيقة… وعليه نستنتج أن الوحي كلام الله الحقيقي، وأما في بيانه والتعبير عنه فقد تمّ السماح للبشر إلى حدٍّ ما، سواء في إعرابه أو في ألفاظه أو في تركيب عباراته… أجل، إن الذي أعنيه هو أن كلام الله قد انتقل من طريق الوحي [وليس بالطريقتين الأخريين المُشار إليهما في الآية 51 من سورة الشورى]… ويمكن تشبيه ذلك بالقول: إن كلام الله نظامٌ مشفَّر([1])، وإن النبي [بعد مسار الوحي] قام بفكّ شفرته([2]) في اللغة. لقد أوحي كلام الله إلى النبيّ، إلاّ أن الذي يُعبِّر عن كلام الله ويمنحه بِنْيةً عربيةً هو النبيّ؛ لأن كلام الله ليس عربيّاً ولا أوروبيّاً أو هنديّاً أو لاتينيّاً»([3]).
وقال عبد الكريم سروش بدَوْره، في لقاءٍ له أجراه معه «ميشيل هوبينغ» في الإذاعة الهولندية: «إن النبيّ الأكرم| هو خالق الوحي بنحوٍ ما، بمعنى أن الذي يحصل عليه من قِبَل الله هو مضمون الوحي، وإن هذا المضمون لا يمكن عرضه على الناس بهذا الشكل؛ لأنه يفوق فهمهم، بل هو وراء الكلمات أيضاً. إن هذا الوحي يفتقر إلى الصورة، وإن مهمة النبيّ تتلخَّص في إضفاء الصورة على هذا المضمون، لكي يصبح قابلاً للعرض على الناس، وجعله في متناول أيديهم. ومن هنا يقوم النبيّ كما يفعل الشاعر بنقل هذا الإلهام إلى لغةٍ يعرفها، وبأسلوبٍ يُتقنه، وبصوَرٍ وعلوم يمتلكها، بحيث إن شخصيته بدَوْرها تلعب دَوْراً هامّاً في بلورة هذا النصّ أيضاً؛ حيث لتاريخ حياته، وأبيه وأمّه ومرحلة طفولته، وحتّى حالاته الروحية لها دَوْرٌ في القرآن، وهذا ما نشاهده عند قراءتنا للقرآن؛ إذ نجد النبيّ تارةً جذلاً وطروباً وفي غاية الفصاحة، وتارةً أخرى سئماً ويكون في بيان كلامه اعتيادياً وبسيطاً جدّاً. إن هذه الأمور بأجمعها قد تركَتْ تأثيرها على نصّ القرآن الكريم، وهذا يعكس البُعْد البشريّ من القرآن الكريم بشكلٍ كامل»([4]).
إن هذا الرأي ـ طبقاً لتقرير «الماتريدي»(333هـ) ـ قد تمّ نقله قبل مئات السنين عن الباطنيّين أيضاً، حيث قال في بحث آيات من سورة الشعراء ما نصّه: «والباطنية يقولون: أنزله على رسوله كالخيال، غير موصوفٍ بلسان، ثمّ إن رسوله أدّاه بلسانه العربي المبين، أي بيَّنه»([5]). وقد تمّ الاستناد في ذلك إلى آياتٍ من سورة الشعراء تستعرض مسار نزول الوحي: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192 ـ 195).
المسألة الهامّة الموجودة في مورد هذه الآيات هو عبارة «بلسانٍ عربي»، حيث يُسأل عن متعلَّق الجار والمجرور في هذه العبارة، فهل هو متعلَّق بالفعل «نزل»، حيث يكون المعنى في هذه الحالة كما يلي: «نزل الروح الأمين بالقرآن على قلب النبيّ بلغةٍ عربية»؟ وفي هذه الحالة يَرِدُ سؤالٌ آخر وهو: كيف نزل القرآن العربيّ على «قلب» النبيّ الأكرم؟». وفيما لو كانت عبارة «بلسان عربي» متعلّقة بـ «المنذرين» يشتدّ هذا السؤال القائل: هل كان نزول القرآن على قلب النبيّ بشكلٍ غير لفظي حقّاً، بل الذي نزل على قلب النبيّ هو مجرّد المعاني فقط، وأن النبيّ قد صبّها ـ في مقام «المنذر» ـ باللغة العربية؟
إن بيان هذه النظرية القائلة بأن نزول المعاني من الله، وقولبتها في إطارٍ لفظي من قِبَل النبي الأكرم|، قد واجه بعض الانتقادات. حتّى أنه سبق أن تمّ نشر الكثير من المقالات والكتب في نقد القول ببشريّة ألفاظ القرآن الكريم، من قبيل:
ـ مقالة «تعارض الآيات والروايات في إطار الظنّ بخلق ألفاظ القرآن من قِبَل النبيّ الأكرم|»([6])، لكاتبها: عبد الهادي فقهي زاده ومصطفى آذرخشي، المنشورة في مجلة (مطالعات إسلامي، علوم القرآن والحديث)، سنة 1388هـ.ش.
ـ ومقالة «نقد ومناقشة مختلف الآراء حول سماوية ألفاظ القرآن الكريم»([7])، لكاتبها: محمد شيباني، المنشورة في مجلة پژوهش نامه كلام، سنة 1395هـ.ش. وهي أيضاً المقالة السابقة لهذه المقالة، والمنشورة في هذا العدد (63 ـ 64) من مجلّة نصوص معاصرة، السنة السادسة عشرة، صيف وخريف 2021م ـ 1443هـ.
ـ وكذلك كتاب «الوحي النبوي: بحث دَوْر النبي في ظاهرة الوحي»([8])، لمؤلِّفه: علي الربّاني الگلپايگاني، الصادر عن دار نشر پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي.
ولكنْ لم يتمّ تقييم التمسُّك بهذه الآيات.
وعلى هذا الأساس من الضروري بحث هذا الاستدلال في دراسةٍ مستقلة ضمن إطارٍ علميّ تحقيقي. ونحن نسعى في هذه المقالة ـ ضمن تحليل طريقة التمسُّك بالآيات 192 ـ 196 من سورة الشعراء من قِبَل القائلين ببشرية الألفاظ ـ إلى تقييم صحّة هذا الرأي.
1ـ التعريف بنظرية بشريّة الألفاظ
لقد ذكر بدر الدين الزركشي(794هـ) في كتابه «البرهان في علوم القرآن» ثلاثة آراء، نقلاً عن أبي الليث السمرقندي(373هـ)، حول ماهية الوحي إلى النبيّ الأكرم|، حيث قال: «الرأي الأوّل: إن اللفظ والمعنى كلاهما من الله. الرأي الثاني: إنه في ضوء قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ…﴾ (الشعراء: 193 ـ 194) لم يُنزل جبرائيل× إلاّ المعاني على النبيّ الأكرم|، وكان النبيّ يصوغها في إطار اللغة العربية. والرأي الثالث: إن جبرائيل× هو الذي أخذ المعاني من الله ثم صاغها بلغةٍ عربية، ونقلها إلى رسول الله بهذه اللغة»([9]).
إن الرأي الثاني هو الرأي القائل بأن المعاني إلهيّة، ويقول في الوقت نفسه ببشرية ألفاظ القرآن الكريم، وإن المستمسك القرآني لهذا القول هو قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192 ـ 195). وفي هذا الرأي على الرغم من نسبة القرآن الكريم إلى الله سبحانه وتعالى، يكون للنبيّ الأكرم| دَوْرٌ في تدوينه.
آليّة الاستدلال بآية سورة الشعراء
كما سبق أن ذكرنا فإن القائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم ـ طبقاً لما نقله «الماتريدي»([10]) و«الزركشي»([11]) ـ قد تمسَّكوا على الدوام في إثبات نظريتهم بآيات سورة الشعراء، بحيث ترى هذا التمسُّك واضحاً حتى في كلام «نصر حامد أبو زيد»([12])، وهو من القائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم أيضاً. بَيْدَ أن هؤلاء لم يوضِّحوا وجوه ومواطن هذا التمسُّك من قِبَلهم.
ومن هنا يبدو أن الموارد التالية يمكن أن تكون من بين أدلّتهم في التمسّك بآيات سورة الشعراء.
أـ تعلُّق الجار والمجرور بـ «المنذرين»
تمَّتْ الإشارة في جانبٍ من سورة الشعراء إلى مسار النزول. فقد ورد في هذه الآيات قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192 ـ 195).
يمكن للجار والمجرور ـ من حيث قواعد اللغة العربية ـ في قوله تعالى: ﴿بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ أن يكون متعلّقاً بواحدة من الكلمتين الواردتين في الآيات السابقة، وهما:
1ـ الفعل «نزل».
2ـ اسم الفاعل «المنذرين»([13]).
فإذا كان الجار والمجرور متعلّقاً باسم الفاعل «المنذرين» كان هناك احتمال أن يكون النبيّ الأكرم| قد حصل على المعاني فقط، وأنه هو الذي كان يصوغها بألفاظٍ عربية. هذا، والحال أن اسم الفاعل «المنذرين» أقرب إلى الجار والمجرور من الفعل «نزل»، الأمر الذي يشكِّل سبباً لتقوية نظريتهم.
ب ـ النزول على قلب النبيّ (صلى الله عليه وآله)
إن التعريف بـ «قلب» النبيّ الأكرم| بوصفه محلاًّ وموضعاً لنزول القرآن يمثِّل وجهاً آخر يبدو أنه سبب التمسُّك بآيات سورة الشعراء من قِبَل القائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم.
توضيح ذلك: إن الذي كان ينزل على النبيّ الأكرم ـ على أساس قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192 ـ 195) ـ إنما كان ينزل على قلبه الشريف، وقد رأوا أن القلب إنما يتناسب مع نزول المعاني. كما أن نصر حامد أبو زيد بدَوْره يرى أن رأيه القائل ببشريّة ألفاظ القرآن الكريم يتناسب مع مفاد قوله تعالى: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ (البقرة: 97)، وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء: 193 ـ 194)([14]).
ج ـ اتحاد مرجع الضمير في «إنه» و«به»
إن الوجه الآخر الذي يمكن له أن يشكِّل سبباً لتمسّك القائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم بالآيات 192 ـ 196 من سورة الشعراء هو مرجع الضمائر المفردة المذكرة الغائبة في كلمتي «إنه» و«به». وقد تمّ التعريف في التفاسير بعددٍ من المراجع للضمائر المفردة المذكرة الغائبة في كلمتي «إنه» و«به».
المرجع الأوّل: مجموع القرآن الكريم([15]).
المرجع الثاني: الكتاب المبين الذي تقدَّمت الإشارة إليه في الآيات الأولى من سورة الشعراء([16]).
المرجع الثالث: قصص الأمم البائدة، الوارد ذكرها في ذات هذه السورة([17]).
المرجع الرابع: ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×؛ فقد ورد في بعض التفاسير الروائية والأثرية الشيعية رواية عن الإمام الصادق× بشأن ارتباط هذه الآيات بنزول ولاية أمير المؤمنين×([18]).
يبدو أن القائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم في صدد إرجاع الضمير في هذين الموردين، وفي الموارد الأخرى ـ من قبيل: الضمير المشابه، الوارد في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ (الشعراء: 196) ـ، إلى القرآن الكريم.
وبالنظر إلى أن ألفاظ القرآن الكريم لا توجد في الكتب السماوية السابقة فلا يبقى غير المعاني والمفاهيم وتعاليم القرآن الكريم، أي ما نزل على النبيّ الأكرم|، وهو الشيء الذي كان في الكتب السماوية السابقة، وحيث إن ألفاظ القرآن الكريم باللغة العربية، وإن ألفاظ الكتب السماوية الأخرى بلغاتٍ أخرى، غاية ما هنالك أن هذه المعاني والمفاهيم هي ذات تعاليم القرآن الكريم التي ورد تقرير وجودها في «زُبُر الأولين»، دون ألفاظها، فعلى هذا الأساس تشير هذه الآيات ـ من وجهة نظرهم ـ إلى أن النبيّ الأكرم| كان يصبّ هذه المعاني النازلة عليه من عند الله بألفاظٍ عربية.
2ـ نقد بشريّة الألفاظ القرآنية
على الرغم من تأكيد بعض المتقدِّمين ـ وكذلك بعض المعاصرين، من أمثال: نصر حامد أبو زيد([19])؛ وعبد الكريم سروش ـ على القول ببشرية ألفاظ القرآن الكريم، إلاّ أن أقوال المفسِّرين المسلمين تثبت أن أكثرهم كانوا في الغالب يخالفون القول بهذه النظرية.
أـ رأي المفسِّرين طوال تاريخ التفسير
يذهب أكثر المفسِّرين ـ الأعمّ من الشيعة وأهل السنّة ـ إلى القول بأن ألفاظ القرآن الكريم قد نزلت من عند الله سبحانه وتعالى. وقد ذهب إلى هذا الرأي من علماء الشيعة ـ على سبيل المثال، دون الحَصْر ـ كلٌّ من: الشيخ الطوسي([20])، والعلاّمة الطبرسي([21])، والعلاّمة الطباطبائي([22])، والشيخ الصادقي الطهراني([23]). كما ذهب إلى هذا الرأي من علماء السنّة: الطبري([24])، والزمخشري([25])، والفخر الرازي([26])، والبيضاوي([27])، وأحمد بن محمد الخفاجي([28])، وجمال الدين القاسمي([29])، وعبد الكريم الخطيب([30])، وابن عاشور([31]).
ب ـ متعلَّق الجار والمجرور
إن السبب الأول للتمسُّك بآيات ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192 ـ 195) في إثبات بشرية نصّ القرآن الكريم هو تعلّق الجار والمجرور في كلمة «بلسان» باسم الفاعل «المنذرين».
1ـ اختلافٌ في التفاسير وكتب الإعراب
تمّ التعريف في مصادر التفسير وكتب إعراب القرآن بكلمتين بوصفهما متعلّقاً لهذا الجار والمجرور. فقد تمّ في بعض المصادر التعريف بالفعل «نزل» في قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ﴾ (الشعراء: 193)، وفي بعض المصادر الأخرى باسم الفاعل «المنذرين» في قوله تعالى: ﴿عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء: 194)، بوصفه متعلّقاً لشبه الجملة من الجار والمجرور. فقد ذهب ـ على سبيل المثال ـ كلٌّ من: الصافي([32])، والطنطاوي([33])، إلى القول بأن الفعل «نزل» هو المتعلّق للجار والمجرور، بينما ذهب كلٌّ من: السميّن الحلبي([34])، والكرباسي([35])، إلى القول بأن متعلّق الجار والمجرور هو اسم الفاعل «المنذرين».
2ـ شواهد قرآنيّة على التعلُّق بـ «نزل»
تمّ التأكيد في مواضع أخرى من القرآن الكريم ـ في غير آيات سورة الشعراء ـ على عربية لغة وألفاظ الوحي؛ حيث يمكن الاستفادة من هذه الآيات لإثبات أن متعلّق الجار والمجرور «بلسان» بالفعل «نزل»، من حيث تجاور كلمات: «الوحي» و«القرآن» و«العربي» و«الإنذار» في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (الشورى: 7)، وتجاور كلمات: «الكتاب» و«لسان» و«الإنذار» في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ (الأحقاف: 12).
توضيح ذلك: إنه تمّ في الآية الأولى بيان أن «القرآن العربي» قد أُوحي إلى النبيّ الأكرم|، وفي الآية الثانية تمّ بيان أن الكتاب قد نزل بلسانٍ عربي.
ومن اللازم في البين الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن الآيتين (الآية 7 من سورة الشورى، والآية 12 من سورة الأحقاف) تشتملان على فعلَيْ «لتنذر» و«لينذر»، وهما من مادّة اسم الفاعل «المنذرين» في قوله تعالى: ﴿عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء: 194)، وقد جاءا بعد الإشارة إلى عربيّة القرآن الكريم؛ بمعنى أن النبيّ الأكرم| كان مأموراً بأن يُنذر الناس بالقرآن العربيّ الذي نزل عليه.
كما أن كلمة «عربياً» في الآية 7 من سورة الشورى جاءت وصفاً لكلمة «قرآناً»، والذي هو بدَوْره مفعولٌ للفعل «أوحَيْنا»([36]).
وإن عبارة «لساناً عربياً» في الآية 12 من سورة الأحقاف حالٌ للضمير المستتر في اسم الفاعل «مصدِّق»، وإن كلمة «مصدِّق» صفةٌ لـ «الكتاب» أو خبرٌ ثانٍ للمبتدأ «هذا»([37])؛ حيث يشير اسم الإشارة «هذا» في هذه الآية إلى القرآن الكريم([38]).
وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج أن الجارّ والمجرور «بلسان» في آيات سورة الشعراء هو الآخر متعلّق بالفعل «نزل».
كما تمّت الإشارة في موضعٍ آخر من القرآن الكريم على عربية ألفاظه. وحيث يجب بحث آيات القرآن بالمقارنة بينها جنباً إلى جنبٍ يمكن أن نستعين بهذه الآيات لفهم عربيّته. إن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103) يعكس شبهة المشركين القائلة بتعلُّم النبيّ الأكرم| من شخصٍ آخر. وقد ردّ عليهم القرآن الكريم بقوله: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾. وعليه كان بإمكان هؤلاء الأشخاص أن يردّوا على القرآن بقولهم: إن المعلِّمين كانوا يلقون المحتوى غير العربيّ على النبي، وكان النبي بدَوْره يصوغ هذا المحتوى باللغة والألفاظ العربية، وهو ذات الادّعاء القائل ببشرية الألفاظ وسماوية المعاني. وعلى هذا الأساس فإن تأكيد القرآن على أن المعلِّمين الموهومين لم يكونوا من العرب يدلّ على أن المحتوى لم يكن وحده هو الذي نزل على النبيّ الأكرم| فقط. وفي الحدّ الأدنى إن فرض النبيّ الأكرم| لم يكن قائماً على نزول المحتوى عليه فقط، وأن الألفاظ تأتي من قبله؛ إذ مع هذا الفرض لم يكن بمقدور النبيّ الأكرم| أن يجيب عن مخالفيه بهذا الجواب؛ إذ يمكن القول: إن هؤلاء المعلِّمين كانوا يعلِّمونك المحتوى، وكنت بدَوْرك تصوغها باللغة العربية. وعلى هذا الأساس فإن القرآن الكريم قد نزل على النبيّ الأكرم| باللغة العربية.
3ـ إعادة عامل الجرّ
وقد أشار بعض المفسِّرين ـ من أمثال «العكبري»(616هـ)، و«السميّن الحلبي»(756هـ)، و«الصاوي» (1241هـ) ـ إلى إعادة العامل في الجارّ والمجرور «بلسان»، ومن هنا فقد أجازوا بدليّته بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ﴾. وقد كتب العكبري: «وأن تكون بدلاً من (به)؛ أي بلسانٍ عربي؛ أي برسالةٍ أو لغة»([39]). ونقل السميّن الحلبي عن أبي البقاء قائلاً: «وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من (به) بإعادة العامل، قال: أي نزل بلسانٍ عربي، أي برسالةٍ أو لغة»([40]). وقال الصاوي: «قوله: بلسان يصحّ أن يكون بدلاً من قوله به؛ بإعادة الجار»([41]).
ومن هنا يبدو أن تكرار حرف الجرّ «الباء» بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ﴾ (الشعراء: 193) يقوّي متعلقيّة الفعل «نزل».
ج ـ النقاش في مفاد تعلُّق الجار والمجرور بـ «المنذرين»
إذا ما تجاوزنا النقاط السابقة فإن تعلُّق الجار والمجرور «بلسان» باسم الفاعل «المنذرين» لا يستلزم أن يكون النبي الأكرم| قد أوجد ألفاظ القرآن الكريم بنفسه؛ لأن هذا التعلُّق كان يمكن أن يكون له معنىً آخر، وهو أن النبي الأكرم| كان من بين الأنبياء الذين أنذروا قومهم بلسانٍ عربي. وهذا لا صلة له بماهية ما نزل من آيات القرآن الكريم، الأعمّ من اللفظ أو المعنى.
توضيح ذلك: إن بعض المفسِّرين قد احتمل أن يكون الجار والمجرور «بلسان» متعلقاً باسم الفاعل «المنذرين»([42])، وفي هذه الحالة يكون المعنى على النحو التالي: «لقد أنزل جبرائيل× القرآن على قلبك؛ لتكون بدَوْرك واحداً من بين المنذرين الذين أنذروا قومهم باللغة العربيّة أيضاً، من أمثال: النبيّ هود، والنبيّ صالح، والنبيّ إسماعيل، والنبيّ شعيب^».
د ـ المرجِّحات الروائيّة
ومن ناحيةٍ أخرى فإن الروايات النبوية المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنّة تؤكِّد بأجمعها على نزول القرآن الكريم باللغة العربية.
ومن ذلك أنهم عندما سألوا النبيّ الأكرم| عن سرّ فصاحته قال في الجواب: «وما يمنعني من ذلك، وبلساني نزل القرآن، بلسانٍ عربيٍّ مبين؟!»([43])؛ وقال أيضاً: «وما يمنعني، وأنا أفصح العرب، وأنزل الله القرآن بلغتي؟!»([44])؛ أو قوله: «حقّ لي؛ فإنما أنزل القرآن عليّ بلسانٍ عربيٍّ مبين»([45]).
علينا أن نعلم أنه على الرغم من وجود الاختلاف بين المفسِّرين والعلماء المختصّين في علوم القرآن والحديث حول الاستناد إلى أخبار الآحاد في تفسير القرآن الكريم، ولكنْ لو ثبت القول بحجِّية واعتبار خبر الواحد في التفسير أمكن الاستعانة به بوصفه مرجِّحاً([46]). إن هذه الروايات تثبت أن نزول القرآن الكريم ـ بلسانٍ عربيّ مبين ـ كان هو السبب في فصاحة لسان النبيّ الأكرم|؛ وذلك لأن مجرّد نزول المعاني العميقة من دون ألفاظٍ لا يجعل اللسان فصيحاً.
وقال العلاّمة الطباطبائي في هذا الشأن: «رُبَما أحاط إنسانٌ بلغةٍ من اللغات؛ فلا يشذّ عن علمه لفظٌ، لكنه لا يقدر على التهجّي والتكلُّم؛ ورُبَما تمهَّر الإنسان في البيان وسرد الكلام، لكنْ لا علم له بالمعارف والمطالب، فيعجز عن التكلُّم فيها بكلامٍ حافظ لجهات المعنى، حاكٍ لجمال صورته التي هو عليها في نفسه؛ ورُبَما تبحّّر الإنسان في سلسلةٍ من المعارف والمعلومات، ولَطُفَتْ قريحته، ورقَّتْ فطرته، لكنْ لا يقدر على الإفصاح عمّا في ضميره، وعَيَّ عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج»([47]). توضيح ذلك: إن نزول مطلق المعاني من دون ألفاظٍ لا يكفي لكي يُصبح الإنسان فصيحاً. بل إن الفصاحة ـ كما يقول الجرجاني ـ تركيبٌ من اللفظ والمعنى([48]). ويبدو أن تركيب اللفظ والمعنى والنظم معاً هو الذي يمنح الكلام بلاغته. وفي ذلك يقول العلاّمة الطباطبائي: «إن البلاغة التامة معتمدةٌ على نوعٍ من العلم المطابق للواقع، من جهة مطابقة اللفظ للمعنى، ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية. أما اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحَسَب الوضع مطابقاً للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبّر عنه باللفظ بحَسَب الطبع، فيطابق الوضع الطبع، كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز)»([49]).
وقد يذهب القائلون بنزول صرف معاني القرآن الكريم إلى القول بأنه من خلال نزول القرآن الكريم يتمّ وضع المعاني العميقة التي تمسّ الحاجة إليها في الفصاحة والبلاغة في متناول النبيّ الأكرم|. وعلى هذا الأساس فإن النبيّ الأكرم إنما كان يحتاج إلى المعاني فقط، وحتّى ما قبل نزول القرآن كان يفتقر إلى المعاني فقط، ليتمكَّن من نقلها عبر ألفاظه ومهارته الخاصة ـ التي كان يمتلكها حتّى قبل نزول القرآن ـ، ليقدِّمها بشكلٍ فصيح وبليغ.
بَيْدَ أن هذا لا يعدو أن يكون مجرّد حَدْسٍ يحتاج إلى مرجِّحٍ. هذا، في حين أن الآيات المشابهة لآيات سورة الشعراء، ومنها: الآية 7 من سورة الشورى، والآية 12 من سورة الأحقاف، تؤكِّد على أن اللغة العربية صفةٌ لذات القرآن الكريم.
ومن ناحية أخرى فقد ورد في الروايات المذكورة انبهار الصحابة بكلام النبيّ الأكرم| في وصف السحاب([50])، في حين أنه لا يرتبط بالمفاهيم والمعارف الموجودة في آيات القرآن الكريم.
وعليه يمكن لنا أن نستنتج من ذلك أنه في مسار نزول الوحي لم تنزل المعاني البَحْتة فقط.
هـ ـ نظراتٌ في المراد من النزول على القلب
إن من بين الموارد التي قد تشكِّل مستمسكاً للقائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم الإشارة الواردة في آيات سورة الشعراء إلى نزول القرآن الكريم على قلب النبيّ الأكرم|. يمكن لصورة المسألة أن تكون على الشكل التالي: إن القلب من وجهة نظرهم هو الأنسب مع نزول المعاني، ومن هنا فإنهم قد اعتبروا محتوى الوحي منحصراً في نزول المعاني.
ولكنْ يبدو أن هذا التعبير يتساوى في الدلالة على بشرية أو سماوية الألفاظ، وأن التعبير بالنزول على القلب بمعناه الحقيقي أو المجازي لا يُشير إلى محتوى الوحي.
1ـ عدم ارتباط المعنى الحقيقي للنزول على القلب بسماويّة أو بشريّة اللفظ القرآني
إذا كان التعبير بالنزول على القلب تعبيراً حقيقياً فإننا قبل البحث في تناسب القلب مع النزول اللفظي أو المعنوي يجب أن نبيِّن ما هو المراد من القلب في استعمال القرآن الكريم؛ لكي نتمكّن بعد ذلك من بيان ما إذا كان هذا القلب يتناسب مع النزول اللفظي أو المعنوي.
إن «القلب» في لغة القرآن يطلق على موضع الإدراك والفهم، أو ما يعادل العقل بعبارةٍ أخرى.
كما ذكر ذلك ابن عاشور في استناده إلى آيات القرآن الكريم، حيث قال: «إن القلب [في القرآن الكريم] يرتبط بذلك الشيء الذي تقبل به المعلومات؛ أي الإدراك والعقل. وإن معنى النزول على القلب هو الاتصال بقوّة الإدراك»([51]).
وعليه هل يمكن ـ في مثل هذه الحالة ـ القول بأن العقل إنما يمتلك القدرة على تحصيل المعنى فقط، وإنه إنما يتناسب مع المعنى فقط؟ وبعبارةٍ أخرى: ألا يمكن القول بأن ارتباط وتناسب العقل مع اللفظ والمعنى بدرجةٍ واحدة؟
وعلى هذا الأساس لا يمكن للقائلين ببشريّة ألفاظ القرآن أن يتمسّكوا بهذه الفقرة من الآيات لإثبات نظريتهم. كما لا يمكن لنا أن نستند إليها لإثبات سماوية الألفاظ أيضاً.
إذن يجب الرجوع ـ في إثبات سماوية أو بشرية الألفاظ ـ إلى آياتٍ أخرى، من قبيل: قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى﴾ (الأعلى: 6)؛ لكي نتمكَّن من تقديم حكمٍ صحيح من خلال الاستناد إلى هذه الآيات.
2ـ عدم ارتباط المعنى المجازي للنزول على القلب بسماويّة أو بشريّة ألفاظ القرآن
هناك من المفسِّرين مَنْ ذهب إلى القول بأن التعبير بنزول القرآن الكريم على قلب النبيّ الأكرم| استعمالٌ مجازي.
قال الطبرسي: «إن النزول على القلب إنما هو بالمعنى المجازي… حيث يُقرأ على النبي الأكرم| ليحفظه في ذاكرته، حتّى لكأنّه أنزل على قلب النبيّ»([52]).
وقال الشيخ الطوسي: «إن التعبير (بالنزول على القلب) يعني الحفظ في القلب، وكأنه أنزل على قلب النبيّ»([53]).
وفي حالة القول بمجازية نزول القرآن على قلب النبيّ الأكرم| فإن دلالة هذا التعبير بالنسبة إلى «نزول مجرّد المعاني» و«نزول المعاني مع الألفاظ» واحدة. توضيح ذلك: إنه في التفاسير، بالإضافة إلى الإشارة إلى تثبيت قلب النبيّ الأكرم| وتسكين فؤاده كنتيجة نزول القرآن الكريم([54])، وبشكلٍ عامّ، فقد ذكروا أربع معانٍ لمجازية النزول على القلب:
أـ حفظ المطالب في الذاكرة؛ إذ قال الطبراني في هذا الشأن: «على قلبك أي نزل به فأودعه قلبك؛ كي لا تنساه»([55]). وقال الزمخشري: «على قلبك أي حفَّظكه وفهَّمك إيّاه وأثبته في قلبك إثبات ما لا يُنْسَى»([56]). ونقل ابن الجوزي عن الزجاج قائلاً: «على قلبك، قال الزجاج: معناه نزل عليك فوعاه قلبك فثبت، فلا تنساه أبداً»([57]).
ب ـ قرب القرآن الكريم من النبيّ الأكرم|، بحيث لا يمكن أن يوجد مانعٌ بينهما. كما قال الماتريدي ضمن الإشارة إلى الوجه السابق: «وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشعراء: 193 ـ 194) يحتمل وجوهاً: أحدها: إن جبريل لما ينزل من القرآن إنما ينزل على قلبه، لا يحجبه شيءٌ عن قلبه. والثاني: على قلبك أي لا يذهب عنه، بل الله يجمعه في قلبك»([58]).
ج ـ النزول بمقدار فهم وقدرة حافظة النبيّ الأكرم|. فقد ذكر الدينوري: «على قلبك [أي] على قدر حفظك»([59]). وقال السمرقندي: «على قلبك أي نزل على قدر فهمك وحفظك»([60]).
د ـ نزول القرآن الكريم يتطابق مع طبع وإرادة النبيّ الأكرم|. كما ذكر السمرقندي في ذلك قائلاً: «على قلبك يعني على موافقة قلبك ومرادك»([61]).
وعلى هذا الأساس فإن المعنى المجازي لا يمكن أن يُعبِّر عن محتوى الوحي؛ بمعنى أنه إذا كان معنى النزول على القلب هو ـ على سبيل المثال ـ مطابقة الوحي مع طبع وإرادة النبيّ الأكرم| عندها لن يكون هناك فرقٌ بين أن يكون نزول الألفاظ مع المعاني أو يكون النزول بمجرّد المعاني فقط؛ إذ هناك يمكن أن تكون الألفاظ والمعاني كلاهما ـ على الرغم من سماويّتهما ـ متطابقة مع طبع النبيّ الأكرم| أيضاً.
وعلى هذا الأساس، وفي حالة القول بمجازية أو حقيقية معنى العبارة، لا يمكن حَصْر الوحي في المعاني استناداً إلى مجرّد الآيات مورد البحث في سورة الشعراء فقط. وعليه يجب الرجوع إلى آيات أخرى من القرآن الكريم.
3ـ شواهد قرآنيّة على نزول اللفظ أيضاً
هناك في القرآن الكريم آياتٌ تتناسب مع النزول اللفظي على النبيّ الأكرم|، من قبيل: قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى﴾ (الأعلى: 6)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزّمل: 5)، حيث ورد فيها استعمال الفعل «قرأ» ومفردة «القول» لبيان أسلوب انتقال القرآن الكريم إلى رسول الله|، وهي تتناسب مع نزول الألفاظ، وليس مجرد نزول المعاني فقط، الأمر الذي يثبت في محلّه سماوية ألفاظ القرآن الكريم.
وعلى هذا الأساس، فإنه بالنظر إلى آيات سورة الأعلى وسورة المزمِّل، يمكن لنا أن نستنتج أن النزول على القلب المشار إليه في آيات سورة الشعراء لا ينحصر بدَوْره في نزول المعاني فقط، بل إن الألفاظ مشمولةٌ بهذا النزول مع المعاني أيضاً.
و ـ معاني ألفاظ «التنزيل»
إن مصدر «التنزيل» على وزن «التفعيل»، ومن مادّة «ن ز ل». وقد ورد استعمال هذه المادّة 293 مرّة في 257 آية من القرآن الكريم، بمعنى الحركة والانتقال من الأعلى إلى الأسفل([62]). وكذلك كلمة «نُزُل» بمعنى الضيف([63])، و«نَزل»، و«نُزل» و«نَزَل» بعنى الطعام والغلّة([64]).
ويبدو في جميع هذه الموارد وجود معنى الانتقال والحركة من الأعلى إلى الأسفل، بحيث إن الضيف ينزل من راحلته، والطعام يوضع على الأرض لتناوله.
إلاّ أن الاختلاف بين «النزول» و«الهبوط» يكمن في أنه بعد «الهبوط» يشترط الاستقرار والبقاء في مكانٍ خاصّ، في حين لا يُشترط ذلك في «النزول»([65]).
إن مادة «ن ز ل» فعلٌ لازم، ويتعدّى على ثلاثة أشكال؛ وهي: الشكل الأول: المجيء على وزن «التفعيل» (نَزَّلَ، يُنَزِّلُ، تَنْزِيلاً). والشكل الثاني: المجيء على وزن «الإفعال» (أَنزَل، يُنزِلُ، إِنزَالاً). والشكل الثالث: إضافة حرف الجرّ «الباء» في (نَزَلَ بـ)، حيث لا يوجد اختلافٌ في المعنى بين هذه الأشكال والموارد الثلاثة([66])، سوى أن البعض يرى أن «نَزَّلَ، يُنَزِّلُ، تَنزِيلاً» فعل الله، وأن «نَزَلَ بـ» متعلّقٌ بمَلَك الوحي [جبرائيل×]([67]).
1ـ علاقة الاستبدال في آيات القرآن الكريم
يدور الكلام حول مفهوم «التنزيل»، وذلك الشيء الذي «نزل».
إن استبدال «الجعل» و«التيسير» بـ «التنزيل» في الآيات الأولى من سورة الزخرف والدخان ـ التي تستهلّ مثل آيات سورة الشعراء بالحروف المقطَّعة، وتمَّت الإشارة فيها إلى «الكتاب المبين» ـ تمثِّل طريقة حلٍّ في هذا الشأن؛ فقد جاء في هاتين السورتين ما يلي:
ـ ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 1 ـ 4).
ـ ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ *…* فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (الدخان: 1 ـ 3، 58)([68]).
وجاء في آيات سورة الشعراء: ﴿طسم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ *…. وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ (الشعراء: 1 ـ 2، 192 ـ 196).
وعلى أساس هذا الاستبدال يمكن لنا أن نستنتج أن «التنزيل» هو ذات التبويب والتعريب والتيسير الذي تمّ تعريفه في الآيات المتقدِّمة بأنه من فعل الله الذي تمّ القيام به في «الكتاب المبين».
وقال العلامة الطباطبائي في هذا الشأن: «إنزاله قرآناً عربياً هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة والعربية»([69]).
ولو ضممنا هذه النقطة إلى العلم الإلهيّ المطلق، كما وَرَدَت الإشارة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109)، يمكن التوصُّل إلى هذه النتيجة، وهي أن العلم الإلهي لا ينحصر بآيات القرآن الكريم، وأن هناك حقائق موجودة في «أمّ الكتاب» أو «الكتاب المبين» لا يعلمها إلاّ الله، وهي خارج نطاق الصورة العربية، وأن «أمّ الكتاب» غير قابلٍ للإدراك والذكر للبشر، من دون «تنزيل» أو «جعل» و«تيسير»، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17)([70]).
إن فاعل هذا التيسير هو الله سبحانه وتعالى، وإن أسلوب تيسيره وتوضيحه يكون بلسان النبيّ، أي باللغة العربية: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ (مريم: 97)([71]).
وعلى هذا الأساس فإن «التنزيل» أدّى إلى تبويب القرآن وصبّه في قالبٍ عربي، وفي الوقت نفسه فإن القرآن الكريم ينطبق على الكتاب المبين، قال تعالى: ﴿طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (النمل: 1).
وإن هذا التنزيل لا يمكن أن يتحقَّق إلاّ من قِبَل الله سبحانه وتعالى؛ لأن «أمّ الكتاب» أو «الكتاب المبين» إنما هو في حيازة الله سبحانه وتعالى؛ إذ يقول: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 4).
كما أنه في آيات سورة الشعراء ينسب «التنزيل» أوّلاً إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يتمّ بعد ذلك إنزال ما حوَّله الله من «الكتاب المبين» أو «أمّ الكتاب» إلى شكل القرآن العربي إلى النبيّ الأكرم| بواسطة مَلَك الوحي وجبرائيل×.
2ـ مرجع الضمير في «إنه» و«به»
بالنظر إلى معنى «التنزيل» يمكن تحليل مسألة اتحاد الضمير المفرد المذكَّر الغائب في كلمتي «إنه» و«به»، وذلك من خلال القول بأن ضمير المفرد المذكَّر الغائب في كلمتي «إنه» و«به» يعود إلى «الكتاب المبين» في بداية السورة. وهذا يعني أنه من خلال «تنزيل» و«جعل» و«تيسير» الكتاب الإلهي ـ الذي لا يوجد إلاّ عند الله فقط ـ يتجلّى بأشكالٍ أخرى، وكلّ واحد من تلك الأشكال يرد بلغةٍ خاصّة في صحف النبيّ نوح وإبراهيم’ أو التوراة والزبور والإنجيل، ويتمّ تنزيله في كل مرّةٍ بما يتناسب وهداية البشر والمخاطبين في مختلف المراحل والعصور.
كما عمد بعض المفسِّرين ـ بالإضافة إلى اعتبار القرآن الكريم مرجعاً ـ إلى إعادة الضمير المذكور في «إنه» إلى «الكتاب المبين» أيضاً. قال السمرقندي: «قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يعني: القرآن. ويُقال: إنه إشارةٌ إلى ما ذُكر في أول السورة: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾»([72]). وقال الميبدي: «إن مرجع الضمير في «إنه» في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هو «الكتاب المبين»، الوارد ذكره في بداية السورة»([73]). وقال ابن عاشور: «فجملة ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾… متصلةٌ في المعنى بجملة ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، بحيث لولا ما فصل بينها وبين الأخرى من طول الكلام لكانت معطوفةً عليها»([74]). وقال العلاّمة الطباطبائي: «قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الضمير للقرآن، وفيه رجوعٌ إلى ما في صدر السورة من قوله: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾»([75]).
ولكنْ على أساس النقاط المنبثقة عن صلة الاستبدال بين «التنزيل» و«الجعل» و«التيسير»، وتجاورها مع «الكتاب المبين» و«أمّ الكتاب»، يمكن اعتبار مرجع كلا الضميرين شيئاً واحداً، وهو «الكتاب المبين»، و«أمّ الكتاب». قال الدكتور محمد عابد الجابري في هذا الشأن: «ليس القرآن هو الكتاب الوحيد الذي في اللوح المحفوظ، بل يُجمع المفسِّرون على أن الأخير هو بمثابة «النسخة الأصلية» للكتب السماوية كلّها، وهي مسجّلةٌ فيه على صورة «نقوش» (باعتبار أن الكتابة نقوش). وقد سمّى القرآن هذه النسخة الأصلية بـ «أمّ الكتاب». قال تعالى في سورة الزخرف: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 1 ـ 4)»([76]). وعليه فإن قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ (الشعراء: 196)، واتحاد مرجع الضمير المفرد المذكَّر الغائب الموجود فيها، بالإضافة إلى الضمائر السابقة، لا يمكن أن يكون مستمسكاً للقائلين ببشرية ألفاظ القرآن الكريم. وإن هذه الآية لا تعني نزول مجرّد المعاني [من دون ألفاظ] على النبيّ الأكرم|، بل تعني انبثاق جميع الكتب السماوية ـ ومنها: القرآن الكريم ـ عن «الكتاب المبين»، أو «أمّ الكتاب». والمراد من جملة «في زُبُر الأولين» هو الحقائق الموجودة في «الكتاب المبين»، و«أمّ الكتاب».
وعلى هذا الأساس فإن سياق آيات القرآن الكريم يُشير إلى أن آيات سورة الشعراء لا تعني نزول مجرّد المعاني في مسار النزول على النبيّ الأكرم|، بل إن ضمّ آيات هذه السورة إلى الآيات الأخرى من سُوَر القرآن الكريم يدلّ على عدم صوابية القول ببشرية ألفاظ القرآن الكريم.
خلاصةٌ
1ـ لقد ذهب القائلون ببشرية ألفاظ القرآن الكريم ـ من أمثال: نصر حامد أبو زيد؛ والباطنيّين ـ إلى إثبات رؤيتهم من خلال التمسُّك بالآيات 192 ـ 196 من سورة الشعراء؛ حيث يمكن لتعلُّق الجار والمجرور «بلسانٍ عربي» باسم الفاعل «المنذرين»، والتأكيد على تحقُّق النزول على قلب النبيّ الأكرم|، والشبه المعنوي دون اللغوي واللفظي للكتب السماوية السابقة مع القرآن، أن يكون مستنداً لهم.
2ـ ورد التعريف في المصادر التفسيرية وكتب إعراب القرآن بكلمتين بوصفهما متعلّقاً لهذا الجار والمجرور. إن علاقات التجاور في آيات القرآن الكريم التي تمَّت الإشارة فيها إلى عربية القرآن الكريم تثبت أن تعلُّق الجار والمجرور بالفعل «نزل»، بالنسبة إلى تعلُّقهما باسم الفاعل «المنذرين»، هو الأنسب مع سائر آيات القرآن الكريم؛ على الرغم من أن تعلُّق الجار والمجرور باسم الفاعل «المنذرين» لا يعني بالضرورة بشرية ألفاظ القرآن الكريم، بل إن هذا الفهم إنما هو واحدٌ من الوجوه المفهومية لتعلّق الجار والمجرور باسم الفاعل «المنذرين»، والحال أن استعمال وصف «اللسان العربي» في سائر آيات القرآن الكريم يثبت هذا التعلُّق، وفي حال القبول بهذا التعلُّق كان هذا يعني شبه النبيّ الأكرم| بالأنبياء الذين أنذروا مخاطَبيهم باللغة العربية.
3ـ إن دلالة نزول القرآن الكريم على قلب النبيّ الأكرم| بالنسبة إلى سماويّة وبشريّة الألفاظ واحدة. ومن هنا فإن الرجوع إلى سائر آيات القرآن الكريم من أجل تقديم تحليلٍ صحيحٍ لهذا القسم من آيات سورة الشعراء يُعَدّ أمراً ضرورياً. إن آياتٍ، من قبيل: قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى﴾ (الأعلى: 6)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزّمل: 5)؛ حيث ورد فيها استعمال الفعل «قرأ» ومفردة «القول» لبيان أسلوب انتقال القرآن الكريم إلى رسول الله|، تتناسب مع نزول الألفاظ، وليس مجرّد نزول المعاني فقط، الأمر الذي يثبت في محلّه سماويّة ألفاظ القرآن الكريم.
4ـ إن الاستعمال القرآني لـ «التنزيل» واستبداله بأفعال «الجعل» و«التيسير» في آيات القرآن الكريم يمكن حمله على إطار وعربية المفاهيم العميقة للكتاب المبين، ومن هنا فإن الضمائر المفردة المذكَّرة الغائبة في الآيتين: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء: 192)؛ ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ (الشعراء: 196)، تعود إلى «الكتاب المبين» في بداية السورة، والذي يتجلّى بأشكال أخرى في صحف النبيّين نوح وإبراهيم’ أو التوراة والزبور والإنجيل، ويتمّ تنزيله في كلّ مرّةٍ بما يتناسب وهداية البشر والمخاطَبين في مختلف المراحل والعصور.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن اتحاد مرجع الضمائر المشابهة إنما هو واحدٌ من الاحتمالات الموجودة بشأن هذه الآيات؛ والاحتمال الآخر هو اختلاف مرجع هذين الضميرين، بمعنى أن واحداً من الضمائر يعود إلى مرجعٍ مصرَّح به، والآخر له مرجعٌ يفيده سياق ومعنى الآيات، وبذلك فإن هذا القسم من الآيات لا يتضمّن بشرية ألفاظ القرآن الكريم.
5 ـ لقد نزل القرآن الكريم من عند الله سبحانه وتعالى بلغةٍ عربية على النبيّ الأكرم|، وهذا ما يعتقده أغلب المفسِّرين المسلمين، الأعمّ من الشيعة والسنّة.
الهوامش
(*) متخصِّصٌ في علوم القرآن والدراسات الغربيّة، وأستاذٌ في كلِّية علوم القرآن والحديث في جامعة العلاّمة الطباطبائي في طهران ـ إيران.
(**) طالبٌ على مستوى الدكتوراه في علوم القرآن والحديث، من جامعة العلاّمة الطباطبائي في طهران ـ إيران.
([3]) نصر حامد أبو زيد، معناي نصّ (مفهوم النصّ): 516 ـ 517، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مرتضى كريمي نيا، طرح نو، ط2، طهران، 1381هـ.ش؛ نصر حامد أبو زيد، مقال «تأويل حقيقت ونصّ» (التأويل الحقيقة والنصّ)، مجلة كيان، العدد 54: 2 ـ 17، 1379هـ.ش.
([4]) نص اللقاء على الرابط التالي: http:www.drsoroush.com
([5]) محمد بن محمد الماتريدي، تأويلات أهل السنة 8: 85، تحقيق: مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، ط1، بيروت، 1426هـ.
([6]) عنوانها في الأصل الفارسي: «تعارض آيات وروايات با گمانه خلق ألفاظ قرآن أز سوي پيامبر أكرم|».
([7]) عنوانها في الأصل الفارسي: «نقد وبررسي ديدگاه هاي مختلف در رابطه با وحياني بودن ألفاظ قرآن كريم».
([8]) عنوانه في الأصل الفارسي: «وحي نبوي بررسي نقش پيامبر در پديده وحي».
([9]) محمد بن عبد الله بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 323، دار المعرفة، ط1، بيروت، 1410هـ.
([10]) الماتريدي، تأويلات أهل السنّة 8: 85.
([11]) بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 323.
([12]) انظر: نصر حامد أبو زيد، معناي نصّ (مفهوم النصّ)؛ أبو زيد، نصر حامد أبو زيد، مقال «تأويل حقيقت ونصّ» (التأويل الحقيقة والنصّ)، مجلة كيان، العدد 54، 1379هـ.ش.
([13]) انظر: محمود الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل 3: 334، دار الكتاب العربي، ط3، بيروت، 1407هـ؛ أبو عبد الله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب 24: 532، دار إحياء التراث العربي، ط3، بيروت، 1420هـ؛ محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 320، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية بقم، ط2، قم، 1390هـ.
([14]) انظر: نصر حامد أبو زيد، معناي نصّ (مفهوم النصّ)؛ نصر حامد أبو زيد، مقال «تأويل حقيقت ونصّ» (التأويل الحقيقة والنصّ)، مجلة كيان، العدد 54، 1379هـ.ش.
([15]) انظر: تفسير مقاتل بن سليمان 3: 280، تحقيق: عبد الله محمد شحاتة، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت، 1423هـ؛ تفسير يحيى بن سلام التيمي البصري القيرواني 2: 523، دار الكتب العلمية / منشورات محمد علي بيضون، ط1، بيروت، 1425هـ؛ هود بن محكم الهواري، تفسير كتاب الله العزيز 3: 212، دار البصائر، 1426هـ؛ عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تفسير القرآن العزيز المُسمّى بـ (تفسير عبد الرزّاق) 2: 64، دار المعرفة، ط1، بيروت، 1411هـ.
([16]) انظر: نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي، تفسير السمرقندي المُسمّى (بحر العلوم) 2: 567، دار الفكر، ط1، بيروت، 1416؛ أحمد بن محمد الميبدي، كشف الأسرار وعدّة الأبرار 7: 156، إعداد: علي أصغر حكمت، نشر أمير كبير، ط5، طهران، 1371هـ.ش.
([17]) انظر: الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل 3: 334.
([18]) انظر: علي بن إبراهيم القمّي، تفسير القمّي 2: 124، تحقيق: السيد الطيب الموسوي الجزائري، دار الكتاب، ط3، قم، 1363هـ.ش؛ حسن بن محمد الديلمي، غرر الأخبار: 305، تحقيق وتصحيح: إسماعيل ضيغم، نشر دليل ما، قم، 1427هـ.
([19]) انظر: نصر حامد أبو زيد، معناي نصّ (مفهوم النصّ)؛ نصر حامد أبو زيد، مقال «تأويل حقيقت ونصّ» (التأويل الحقيقة والنصّ)، مجلة كيان، العدد 54، 1379هـ.ش.
([20]) انظر: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 8: 61، تحقيق: أحمد قصير العاملي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([21]) انظر: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 7: 52، انتشارات ناصر خسرو، ط3، طهران، 1372هـ.ش.
([22]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 315 ـ 320.
([23]) انظر: محمد الصادقي الطهراني، الفرقان في تفسير القرآن والسنة 22: 104، نشر فرهنگ إسلامي، ط2، قم، 1406هـ.
([24]) انظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن 19: 68، دار المعرفة، ط1، 1412هـ.
([25]) انظر: الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل 2: 539.
([26]) انظر: فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب 31: 130.
([27]) انظر: عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنـزيل وأسرار التأويل 4: 149، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت، 1418هـ.
([28]) انظر: أحمد بن محمد الخفاجي، حاشية الشهاب المسمّاة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي 7: 208، دار الكتب العلمية / منشورات محمد علي بيضون، ط1، بيروت، 1417هـ.
([29]) انظر: جمال الدين القاسمي، تفسير القاسمي المسمّى بـ (محاسن التأويل) 7: 150، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية / منشورات محمد علي بيضون، ط1، بيروت، 1418هـ.
([30]) انظر: الخطيب، التفسير القرآني للقرآن 10: 157، دار الفكر العربي، ط1، بيروت، 1424هـ.
([31]) انظر: محمد بن طاهر (ابن عاشور)، تفسير التحرير والتنوير المعروف بـ (تفسير ابن عاشور) 19: 195، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، بيروت، 1420هـ.
([32]) انظر: محمود الصافي، الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه مع فوائد نحوية هامة 19: 123، دار الرشيد، ط4، دمشق، 1418هـ.
([33]) انظر: محمد السيد الطنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم 10: 280، نهضة مصر، ط1، القاهرة، 1997م.
([34]) انظر: أحمد بن يوسف السمين الحلبي، الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون 5: 287، تحقيق: أحمد محمد صيرة، دار الكتب العلمية / منشورات محمد علي بيضون، ط1، بيروت، 1414هـ.
([35]) انظر: محمد جعفر الكرباسي، إعراب القرآن 5: 621، دار ومكتبة الهلال، ط1، بيروت، 1422هـ.
([36]) انظر: المصدر السابق 7: 225.
([37]) انظر: محمود الصافي، الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه مع فوائد نحوية هامة 26: 176.
([38]) انظر: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 9: 274.
([39]) عبد الله بن الحسين العكبري، التبيان في إعراب القرآن: 291، بيت الأفكار الدولية، ط1، الرياض، 1419هـ.
([40]) أحمد بن يوسف السمين الحلبي، الدر المصون في علوم الكتاب المكنون 5: 287.
([41]) أحمد بن محمد الصاوي، حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3: 101، تصحيح: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية / منشورات محمد علي بيضون، ط4، بيروت، 1427هـ.
([42]) انظر على سبيل المثال: الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل 3: 335؛ الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير جوامع الجامع 3: 171، تصحيح: أبو القاسم گُرجي، الحوزة العلمية ـ مركز المديرية، ط1، قم، 1412هـ؛ فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب 31: 130.
([43]) أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (ابن بابويه القمي)، معاني الأخبار: 320، تحقيق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، ط1، قم، 1403هـ.
([44]) محمد بن محمد المفيد، الإفصاح في الإمامة: 187، مؤتمر الشيخ المفيد، ط1، قم، 1413هـ.
([45]) عبد الرحمن بن محمد (ابن أبي حاتم)، تفسير القرآن العظيم 9: 2819، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط3، 1419هـ؛ محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس 1: 92، تحقيق: علي سيري وعلي هلالي، دار الفكر، ط1، بيروت، 1414هـ.
([46]) للاطلاع على اعتبار وحجِّية أخبار الآحاد في التفسير، والإشكالات الواردة على ذلك من قِبَل المخالفين، والإجابة عنها، انظر: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 398 ـ 400، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم.
([47]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 64، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت، 1427هـ ـ 2006م.
([48]) انظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز: 259، 1422هـ.
([49]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 65، 2006م.
([50]) كما ورد في بعض الروايات: «كنا عند رسول الله| فنشأت سحابةٌ، فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة ناشئة. فقال: كيف ترَوْن قواعدها؟ قالوا: يا رسول الله، ما أحسنها وأشدّ تمكُّنها! قال: كيف ترَوْن بواسقها؟ قالوا: يا رسول الله، ما أحسنها وأشدّ تراكمها! قال: كيف ترَوْن جونها؟ قالوا: يا رسول الله، ما أحسنه وأشدّ سواده! قال: فكيف ترَوْن رحاها؟ قالوا: يا رسول الله، ما أحسنها وأشدّ استدارتها! قال: فكيف ترَوْن برقها أخفواً أم وميضاً أم يشقّ شقاً؟ قالوا: يا رسول الله، بل يشقّ شقاً، فقال رسول الله|: الحيا [بمعنى: المطر والخصب]، فقالوا: يا رسول الله، ما أفصحك! وما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: وما يمنعني من ذلك، وبلساني نزل القرآن: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾؟!». (أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (ابن بابويه القمي)، معاني الأخبار: 320).
([51]) محمد بن طاهر (ابن عاشور)، تفسير التحرير والتنوير المعروف بـ (تفسير ابن عاشور) 19: 195 (بتلخيصٍ طفيف).
([52]) انظر: الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 7: 320.
([53]) انظر: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 8: 62.
([54]) لقد ذهب بعضهم، من أمثال: «السمرقندي»، إلى تقرير عدّة معانٍ لهذه الآية، ومنها: اعتبار النتيجة المذكورة (تثبيت القلب) بوصفها المعنى المراد من الآية، حيث قال في ذلك: «على قلبك أي نزله عليك ليثبّت به قلبك». ويقال: «أي لكي يحفظ به قلبك». (انظر: تفصير السمرقندي 2: 567).
قال مقاتل بن سليمان: «نزله على قلبك؛ ليُثبت به قلبك يا محمد؛ لتكون من المنذرين». (انظر: تفسير مقاتل بن سليمان 3: 280).
([55]) سليمان بن أحمد الطبراني، التفسير الكبير (تفسير القرآن العظيم) 4: 510، دار الكتاب الثقافي، ط1، الأردن، 2008م.
([56]) الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنـزيل 3: 334.
([57]) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي)، زاد المسير في علم التفسير 3: 348، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، ط1، بيروت، 1422هـ.
([58]) محمد بن محمد الماتريدي، تأويلات أهل السنّة 8: 84، تحقيق: مجدي باسلوم، 1426هـ.
([59]) عبد الله بن محمد الدينوري، تفسير ابن وهب المُسمّى بـ (الواضح في تفسير القرآن الكريم) 2: 103، دار الكتب العلمية / منشورات محمد علي بيضون، ط1، بيروت، 1424هـ.
([60]) تفسير السمرقندي المسمّى بـ (بحر العلوم) 2: 567.
([62]) انظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 7: 367، نشر هجرت، ط2، قم؛ أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة 5: 417، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، قم؛ الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب ألفاظ القرآن: 799، دار القلم، ط1، بيروت.
([63]) انظر: محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة 13: 144، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت.
([64]) انظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 7: 367؛ قاسم بن سلام أبو عبيد الهروي، الغريب المصنف 1: 378، تحقيق: محمد مختار العبيدي، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات / بيت الحكمة، ط1، تونس.
([65]) انظر: العسكري، الفروق اللغوية: 301.
([66]) انظر: محمد كاظم شاكر، علوم قرآني (علوم القرآن): 141، جامعة قم، ط1، قم، 1387هـ.ش.
([67]) انظر: محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 8: 61.
([68]) إن الكافرين ـ طبقاً للتقرير الموجود في سورة (الدخان) ـ كانوا يتعاملون مع النبيّ الأكرم| على النحو الآتي: ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ (الدخان: 14). وهذا الاتهام هو ذات الشيء الذي وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103). وإن القرآن الكريم في كلتا السورتين يؤكّد على «اللسان» في معرض الإجابة عن كلام الكفار. كما جاء في سورة النحل: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، وفي سورة الدخان: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (الدخان: 58). وكما سبق أن ذكرنا، كان بمقدور الكفار أن يقولوا في الجواب عن هذا الاستدلال من القرآن الكريم: «إن المعلمين من غير العرب كانوا يعلمون النبي المحتوى والمضمون، وكان النبي يصوغ هذا المحتوى والمضمون بلغة عربية». وهذا هو ذات الادعاء المطروح في مورد بشرية الألفاظ وسماوية المعاني. بَيْدَ أن تأكيد القرآن على أعجمية المعلِّمين الذين يدعيهم الكفّار (في سورة النحل)، وتأكيده في الوقت نفسه على عربية القرآن (في سورة الدخان)، يدلّ على أن المحتوى لم ينـزل وحده على النبيّ، من دون ألفاظٍ. وقد أشار العلاّمة الطباطبائي بدَوْره إلى التشابه بين سورة النحل وسورة الدخان، وفي معرض تفسير الآية 14 من سورة الدخان أشار إلى الآية 103 من سورة النحل، وقال: «ثم أعرضوا عن الرسول، وقالوا: ﴿هو معلَّم مجنون﴾ (الدخان: 14)؛ فرموه بأنه معلَّمٌ، يعلِّمه غيره فيسند ما تعلَّمه إلى الله سبحانه. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ (النحل: 103)». (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 18: 113، 2006 م).
([69]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 11: 75، 1390هـ.ش.
([70]) وراجِعْ: القمر: 22، 32، 40.
([72]) تفسير السمرقندي المسمّى بـ (بحر العلوم) 2: 567.
([73]) أحمد بن محمد الميبدي، كشف الأسرار وعدّة الأبرار 7: 156.
([74]) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير المعروف بـ (تفسير ابن عاشور) 19: 193.
([75]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 315، 1390هـ.ش.
([76]) محمد عابد الجابري، رهيافتي به قرآن كريم در تعريف قرآن (مدخل إلى القرآن الكريم: في التعريف بالقرآن): 257، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محسن آرمين، نشر ني، ط2، طهران، 1393هـ.ش؛ محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم (الجزء الأوّل: في التعريف بالقرآن): 197، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2006.