أحدث المقالات
ترجمة: حيدر حب الله

مدخل:

يذهب مشهور فقهاء الإمامية إلى أنّ علامات بلوغ البنت هي: إتمام تسع سنوات قمريّة، والحيض، ونبات الشعر على العانة، وما ستدرسه هذه المقالة إنما هو إحدى هذه العلامات، أي السنّ، فقد أفتى الفقهاء ـ اعتماداً على الروايات والإجماعات المدّعاة ـ أن البنات يبلغن بإتمام تسع سنوات قمرية، فتكون تمام التكاليف الشرعية داخلةً حينئذ في عهدتهنّ، كما تجري عليهنّ أيضاً تمام الحدود الإلهية، حتى لو لم تتحقق سائر العلامات، مثل الحيض ونبات الشعر.

أما نحن، فنعتقد أن تقييم تمام أدلّة البلوغ السنّي للأنثى لا يؤدي إلى تبنّي القول المشهور، ولا توجد مستندات خالية عن النقد في أدلّة السنوات التسع.

وعليه، تنتظم مباحث هذه المقالة في محورين هما:

المحور الأول: أدلّة ومستندات النظرية المشهورة، دراسة ونقد.

المحور الثاني: أدلّة ومستندات النظرية المختارة.

المحور الأول: النظرية المشهورة في بلوغ الأنثى، دراسة ونقد

يستند المشهور لإثبات أن بلوغ الأنثى بالتسع إلى نوعين من الأدلّة: أحدهما الروايات، وثانيهما الإجماع، ونسعى هنا فعلاً لدراسة هذين النوعين.

أ ـ المستند الحديثي لنظرية البلوغ بالتسع

ثمّة طائفتان من الروايات استند إليهما المشهور في نظريّتهم في بلوغ الأنثى: إحداهما الروايات الدالّة على خروج البنات عن حدّ الطفولة في سنّ التسع، وجريان الحدود الإلهية عليهنّ في هذا السنّ، وثانيهما الروايات الدالّة على جواز النكاح والمقاربة لهنّ في هذا السنّ.

ونحاول الآن نقل هذه الروايات وبيان دلالتها ونقدها.

الطائفة الأولى: روايات خروج البنات عن حدّ الطفولة في سنّ التسع

وهي عدة روايات:

1 ـ عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبدالعزيز العبدي، عن حمزة بن حمران، عن حمران، قال: سألت أبا جعفر%… قلت: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامة، وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟ قال: <إنّ الجارية ليست مثل الغلام، إنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين، ذهب عنها اليُتم، ودفع لها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامّة، وأخذ لها وبها>([1]).

2 ـ وعنه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب الخزاز، عن يزيد الكناسي، قال: قلت لأبي جعفر%:… أفتقام عليها الحدود وتؤخذ بها، وهي في تلك الحال إنما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء في الحيض؟ قال: <نعم، إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليُتم، ودُفع إليها مالها، وأقيمت الحدود التامة عليها ولها>([2]).

3 ـ وبإسناده، عن الحسن بن سماعة، عن آدم بياع اللؤلؤ، عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله%، قال: <إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك; وذلك أنها تحيض لتسع سنين>([3]).

4 ـ محمد بن علي بن الحسين، قال: قال أبو عبدالله%: <إذا بلغت الجارية تسع سنين، دفع إليها مالها، وجاز أمرها في مالها، وأقيمت الحدود التامّة لها وعليها>([4]).

5 ـ وفي الخصال: عن أبيه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبدالله%، قال: <حدّ بلوغ المرأة تسع سنين>([5]).

وفي إطار الجواب عن هذه المجموعة من الروايات، لابدّ من القول:

أولاً: لقد جعلت السنوات التسع في الحديثين: الأول والثاني، مقيدةً بقابلية الزواج، فكانت كذلك ملاكاً للتكليف، لا أنّ السنوات التسع بمفردها هي موضوع التكليف، وإنما البنت التي بلغت التسع و<تزوّجت> أو <دخلت على زوجها>.

ومجيء هذا القيد في كلمات الإمام% علامة على أنّ التسع ليست لوحدها علامةً على البلوغ، وإنما هي مقيّدة بالدخول والتزويج، ومعنى ذلك أنها قد بلغت مبلغاً من الرشد البدني بحيث يمكنها الزواج؛ وعليه، فنحن لا نقول بعدم وجود دليل على كفاية السنوات التسع في بلوغ البنت فحسب، بل نرى أن الدليل والحجّة قاما على خلاف ذلك، وكأن النصوص تشير ـ تقريباً ـ إلى لزوم أن تكون البنت قويةً على صعيد النمو الجسدي بحيث تكون قد بلغت مبلغ النساء، مما يفرض ـ طبيعةً ـ وجود سائر العلامات الأخرى للبلوغ كنبات شعر العانة أو الحيض.

نعم، في الرواية الثانية كان السؤال مركّزاً على حالة ما إذا لم يكن هناك حيض، إلاّ أنه مع ذلك لا منافاة فيها مع الطبع والحالة الغالبة، والسائل وجّه فيها السؤال عن موردٍ نادر، إضافةً إلى أنّ مورد السؤال يحتوي ـ بحسب الطبع ـ وجود العلامة الأخرى وهي نبات الشعر حول العانة.

وفي الحقيقة، فإنّ السنوات التسع قد جعلت علامةً على البلوغ مقيّدةً بهذه القيود، ومثل هذا العنوان المقيّد يغدو عنواناً مشيراً لا موضوعياً; وذلك أنه لا يقول أحد بدخالة البلوغ السنّي مع تقييده بالزواج.

ثانياً: لقد ورد في الحديث الثالث تعليل المسألة بـ<ذلك أنها تحيض>، ومعناه أنّ البنت تبلغ بالتسع لأنها ترى الحيض، فإذا لم تر الحيض فإنها لن تكون بالغةً بحكم العلّية، والعلّة تخصّص وتعمّم، كما أن الحكم في السعة والضيق يدور مدار علته سعةً وضيقاً، فيكون بلوغ البنت منوطاً برؤية الحيض، وهذا التخصيص إنما حكمت به العلّية في تمام الروايات حين جعلت هذه الروايات التسعَ علامة البلوغ، ومن الواضح أنّ المعلول لا ينفصل ولا ينفك عن علّته.

ثالثاً: على تقدير القبول والتسليم بأنّ التسع سنوات قد وردت في الحديثين المتبقيين على نحو الإطلاق، بحيث كانت بنفسها موضوعاً للتكليف، إلاّ أنها سوف تغدو مقيّدةً بالقيدين الواردين في الروايات الثلاث الأولى، ومعنى ذلك أن البنات البالغات تسع سنوات سوف يصلن سنّ التكليف على تقدير قابليتهنّ للزواج أو رؤيتهنّ للحيض.

رابعاً: إن الروايتين اللتين لا تشتملان على قيدي: الحيض والزواج، يمكن الخدش في دلالتهما، بقطع النظر عن مسألة تقيّد إطلاقهما بالروايات الأخرى، فهما من ناحية الدلالة غير تامتين; وذلك أن <تسع سنوات> في الحديث الرابع، وهو مرسلة الصدوق، لم تجعل لوحدها موضوعاً لإقامة الحدود الكاملة، مما يشي بالدلالة على البلوغ، وإنما ذكر فيه قيد دفع الأموال إليها، ونفوذ أعمالها، وهما ملازمان للرشد، قال تعالى: >فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ< (النساء: 6)، وهذا الرشد إنما يظهر عادةً في السنوات اللاحقة على التسع، ويكون مصاحباً لاتخاذ قرارات نسوية لا طفولية، وهو ما يجعله يرافق بلوغ الحُلم ورؤية الحيض، وكذلك سائر علامات البلوغ.

وكذلك الحال في الحديث الخامس، وهو مرسلة ابن أبي عمير، حيث لا يدلّ على أزيد من أنّ بعض البنات يكون علامة البلوغ بالنسبة لديهنّ هي السنوات التسع، وليس ذلك لديهنّ جميعاً; وذلك أنه جعل الحدّ بلوغ التسع الظاهر في بيان الحدّ الأقلّ للسنّ، وذلك أنه في غير هذه الصورة لا يوجد حدّ، وإنما أمارة وعلامة.

وخلاصة القول: إن الروايات الخمس ـ وبقطع النظر عن ضعف عبدالعزيز العبدي الوارد في سند الرواية الأولى، وجهالة يزيد الكناسي الوارد في الرواية الثانية، وإرسال الرواية الرابعة والخامسة ـ لا دلالة فيها أصلاً على بلوغ البنات في سنّ التسع بشكل مطلق، غايته أنها تجعل التسع موضوعاً للبلوغ مع تقييدها بقيد قابلية الزواج أو الحيض أو الرشد والنمو أو بيان الحدّ الأقل للسنّ.

من هنا، لا يتم ما قاله المشهور هنا بالاعتماد على هذه الروايات.

الطائفة الثانية: نصوص جواز النكاح والمقاربة مع بنات التسع

وهذه الروايات هي:

1 ـ محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله%، قال: <إذا تزوّج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخل بها حتى يأتي لها تسع سنين>([6]).

2 ـ وعن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن صفوان بن يحيى، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر%، قال: <لا يُدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين>([7]).

3 ـ قال الكليني: وعنه، عن زكريا المؤمن أو بينه وبينه رجلٌ لا أعلمه إلاّ حدثني عن عمار السجستاني، قال: سمعت أبا عبدالله% يقول لمولى له: انطلق فقل للقاضي: قال رسول الله 2: <حدّ المرأة أن يدخل بها على زوجها ابنة تسع سنين>([8]).

4 ـ وبإسناده، عن محمد بن خالد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله%، قال: <من وطأ امرأته قبل تسع سنين فأصابها عيب، فهو ضامن>([9]).

5 ـ محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله%: <إن من دخل بامرأة قبل أن تبلغ تسع سنين، فأصابها عيب، فهو ضامن>([10]).

6 ـ وبإسناده، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن حمران، عن أبي عبدالله%، قال: سئل عن رجل تزوّج جاريةً بكراً لم تدرك، فلمّا دخل بها افتضّها فأفضاها؟ فقال: <إن كان دخل بها حين دخل بها ولها تسع سنين فلا شيء عليه، وإن كانت لم تبلغ تسع سنين، أو كان لها أقلّ من ذلك بقليل حين دخل بها فافتضّها فإنه قد أفسدها وعطّلها على الأزواج، فعلى الإمام أن يغرم ديتها>([11]).

إنّ دلالة هذه المجموعة من الروايات يكون عبر ضمّ الإجماع على عدم جواز المقاربة قبل البلوغ، وبعبارة أخرى: الجماع قبل البلوغ حرام، وهذه الروايات تدلّ على جواز الجماع فى سنّ التاسعة، فتكون النتيجة ـ بضمّ الإجماع المذكور ـ أن سنّ التاسعة هو سنّ البلوغ عند الفتيات.

لكن ولدى دراسة هذه المجموعة من الروايات، نلاحظ جملة ملاحظات:

أولاً: تدلّ صحيحة الحلبي وموثقة زرارة (الرواية الأولى والثانية) على أن المقاربة قبل التسع سنوات غير جائزة، فتدلّ بالمفهوم على الجواز في سنّ التاسعة، إلاّ أنه قد ثبت في بحث المفاهيم ـ كما يذهب إليه الإمام الخميني , ـ أنه لا يحكم في بابها بالإطلاق، فلا يمكن التمسّك عبرها بإطلاق، إلاّ إذا أحرز أن المتكلّم في مقام البيان، وكونه في مقام بيان المفهوم يحتاج إلى قرينة وشاهد خاصّين، ذلك أنّ ما يمكن القبول به في باب المفاهيم هو أصل وجود مفهوم للجملة في مقابل عدمه، إلاّ أنه لا دليل على كون المتكلّم في مقام بيان المفهوم حتى يمكن التمسّك بإطلاقه.

وبعبارة أخرى، يستفيد العرف من وجود الشرط أو الوصف في الجملة أنهما دخيلان في الحكم المذكور في المنطوق، وأنّ هذا الحكم قيّد بهما، ومع انعدام القيود ينعدم حكم المنطوق، أما كيف يكون الحال مع عدم وجودهما؟ هل هو كلّي وعام أم لا؟ فلا يمكن استفادته من أصل ذكر الكلام، بل يتطلّب دليلاً خاصاً، وهذا هو معنى ما نقول من أن إطلاق المفهوم يستدعي إحراز كون المتكلّم في مقام بيان المفهوم، وهو ما يرتبط بالشاهد الخاص أو القرينة كذلك.

ثانياً: على فرض أنّ للمفهوم إطلاقاً، إلاّ أنه يقيّد بالروايات الأخرى، أي تلك الروايات التي ترى أن سنّ البلوغ هو التسع مع قابلية الزواج أو مع حصول الحيض والنموّ والرشد، ونتيجة ذلك أن نشرط جواز الجماع ببلوغ التسع مع قيد الاستعداد للزواج أو قيد الحيض، لا أن يكون سنّ البلوغ صرف بلوغ التسع بلا قيد.

ثالثاً: إنّ عمدة الإشكال في هذه المجموعة من الروايات، هو أن صحيحة حمران ذكرت علّةً لعدم جواز مقاربة الزوج ولزوم دفع الدية، وهي إفساد المرأة وحرمانها من الأزواج، ومن المعلوم بشكل عام أن حرمة المقاربة وجوازها قبل التسع وبعدها دائران مدار هذه العلة وجوداً وعدماً، ومعنى ذلك أن السنوات التسع ليست لوحدها وبصورة مستقلّة موضوعاً لجواز المقاربة حتى تكون علامةً على بلوغ الفتيات.

وعليه، فهذه الصحيحة، وبسبب لسان التعليل الذي فيها، إذا لم تكن حاكمةً على سائر الروايات، فلا أقلّ من أنّها مخصّصة لها ومقيدة، وإضافةً إلى ذلك، يفهم العرف من هذه الروايات ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ موضوعيةَ الفساد وأذية المرأة والإضرار بها، كما أنه يفهم أيضاً أن بلوغ التسع لا يمثل فى حدّ نفسه موضوعاً لجواز المقاربة حتى لو انجرّ ذلك إلى الفساد في المرأة، فالعرف ـ إذاً ـ يفهم من هذه الأحاديث أيضاً تلك العلّية المشار إليها.

وإلى جانب هذا الفهم العرفي في استظهار العلّية، تدلّ رواية أبي أيوب الخزاز بوضوح على أنّ المناط والمعيار والموضوع لجواز الدخول في المرأة بعد سنّ التاسعة وعدم جواز ذلك قبله هو النموّ البدني، وبلوغ البنت مبلغ المرأة، وقابليتها للمقاربة والجماع أو عدم ذلك؛ فعن أبي أيوب الخزاز، قال: <سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين، قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول الله 2 دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يُدخل بالجارية حتى تكون امرأة..>([12]).

وخلاصة القول: إن التسع سنوات ليست لوحدها ملاكاً لجواز المقاربة، وإنما كانت كذلك من حيث كونها زمان قابلية الحيض للبنات.

وإذا أشكل بأنه على تقدير كون الملاك هو جواز المقاربة لا بلوغ التسع يلزم لغوية التفصيل بين ما قبل تسع سنوات وما بعدها، فإننا في مقام الجواب نقول: إن هذا التفصيل إنما كان لأجل عدم وجود أيّ إمكانية للحيض عند البنات قبل التسع، أما بعدها فتظهر هذه الإمكانية بالنسبة لبعضهنّ; من هنا جاء هذا التفصيل في الروايات.

وإذا قيل: إنّ روايات التسع سنوات تدلّ على جواز الإضرار بالبنات البالغات سنّ التسع عن طريق الزواج وإفسادهنّ; وذلك أن هذه الروايات تخصّص أدلّة حرمة الإضرار والإيقاع في الحرج. قلنا: إن أدلّة حرمة الإضرار والحرج ليست قابلةً للتخصيص، فهذا التخصيص مخالفٌ للأصول المسلّمة؛ وبناءً عليه، يجب حمل روايات التسع سنوات على البنات اللواتي لديهنّ قابلية الزواج، وهذا ما يُسقط السنّ عن الموضوعية.

وإذا ما رفض أحدٌ مثل هذا الحمل للروايات، فلابدّ له من طرحها جانباً; وذلك أنها مخالفة للكتاب والسنّة والأصول والقواعد المسلّمة.

والنتيجة أن روايات الطائفة الثانية لا تدلّ ـ أيضاً ـ على بلوغ البنت في سنّ التسع سنوات بصورة مطلقة.

ب ـ دليل الإجماع على بلوغ البنت بتسع سنوات

الدليل الثاني للمشهور هنا هو الإجماع; فقد ذكر صاحب <مفتاح الكرامة> أنه ادّعي هنا ثمانية إجماعات، يقول: <ويدلّ على بلوغ الأنثى بالتسع، الإجماعات من صريح وظاهر، وهي ثمانية معتضدة بما سمعته من الشهرات>([13]).

وفي مقام الجواب عن الاستدلال بالإجماع، يجب القول:

أولاً: يمكن القول بضرس قاطع: إن مستند الإجماعات والشهرات المدّعاة هو الظهور البدوي للروايات التي استدلّ بها على أمارية البلوغ في سنّ التسع، وأنهم قدّموا هذه الروايات على رواية عمار الساباطي ـ الدالة على البلوغ في سنّ الثالثة عشرة ـ انطلاقاً من كثرة هذه الروايات وغير ذلك، وبناءً عليه يغدو الإجماع هنا مدركياً، ولا يكون تعبدياً ولا دليلاً مستقلاً; ذلك أنّ الإجماع إنما يكون حجةً حيث لا سبيل للعقل إليه، كما لا دليل نقلي يثبت مؤداه، فيكون حينئذ حجةً بوصفه كاشفاً عن رأي المعصوم أو يكون دليلاً معتبراً.

ثانياً: إنّ تحقق الإجماع هنا ـ بقطع النظر عن الحجّية ـ يقع محلّ إشكال وخدشة، بل منع؛ ذلك أنّ بعض كتب القدماء لم تطرح السنّ علامةً على البلوغ عند البنات; وإنّما جعلت المعيار في بلوغهنّ هو الحيض، وعدم ذكر السنّ في الكتب الفقهية ـ حيث تطرح علامات البلوغ وتبيّن ـ يعدّ بنفسه دليلاً على عدم اعتباره في رأي الفقيه ونظره، وإلاّ كان لابد له من ذكره على تقدير أنه يراه من علائمه.

إنّ دراسة كتب القدماء والبحث فيها يدلّل على أنه لا وجود لعلامية السنّ في البلوغ قبل عصر الشيخ الطوسي في الكتب الفقهية، ونذكر هنا بعض العبارات الراجعة إلى الفقهاء القدماء.

يكتب الشيخ الصدوق (381هـ) في كتاب <المقنع> يقول: <اعلم أنّ الغلام يؤخذ بالصيام إذا بلغ تسع سنين على قدر ما يطيقه، فإن أطاق إلى الظهر أو بعده صام إلى ذلك الوقت، فإذا غلب عليه الجوع والعطش أفطر، وإذا صام ثلاثة أيام ولاءً أخذ بصوم الشهر كلّه، وروي أنّ الغلام يؤخذ بالصوم ما بين أربع عشرة سنة إلى خمس عشرة إلى ست عشرة سنة، إلاّ أن يقوى قبل ذلك، وروي عن أبي عبدالله% أنّه قال: على الصبيّ إذا احتلم الصيام وعلى المرأة إذا حاضت، الصيام والخمار>([14]).

إن دلالة هذا الحديث على عدم بلوغ البنات قبل الحيض واضح وبيّن; انطلاقاً من حصرها وجوب الصيام والحجاب به لا غير، والظاهر أنّ الشيخ الصدوق قد أفتى بمضمون هذه الرواية.

ويقول السيد المرتضى (355 ـ 436هـ) في <جمل العلم والعمل>: <إذا أسلم الكافر قبل استهلال الشهر كان عليه صيامه كلّه، وإن كان إسلامه وقد مضت منه أيام صام المستقبل، ولا قضاء عليه في الفائت، وكذلك الغلام إذا احتلم، والجارية إذا بلغت المحيض>([15]).

وكما يلاحظ من هاتين العبارتين، لا حديث إطلاقاً لدى فقهاء الشيعة البارزين في صيام البنات على السنّ، بل إنّهم يعتبرون الحيض وحده ملاكاً ومعياراً لوجوب الصيام، ومع مخالفة هذين الفقيهين الكبيرين من قدماء الأصحاب لا يمكن اعتبار الإجماع تاماً، بل لابدّ من القول: إنّ هذه المسألة ليست إجماعيةً.

من جهة أخرى، ثمة عدد من الفقهاء السابقين يعتبرون سنّ العاشرة ـ وليس التاسعة ـ علامةً على بلوغ البنات؛ فالشيخ الطوسي يذكر في مبحث الصوم من كتاب <المبسوط>، فيقول: <وأما البلوغ، فهو شرط في وجوب العبادات الشرعية، وحدّه هو الاحتلام في الرجال، والحيض في النساء، أو الإنبات أو الإشعار، أو يكمل له خمس عشرة سنة، والمرأة تبلغ عشر سنين، فأما قبل ذلك فإنما يستحبّ أخذه به على وجه التمرين له والتعليم، ويُستحبّ أخذه بذلك إذا أطاقه، وحدّ ذلك بتسع سنين فصاعداً>([16]).

ويقول ابن حمزة في مبحث الخمس من كتاب <الوسيلة>: <وبلوغ الرجل يحصل بأحد ثلاثة أشياء: الاحتلام، والإنبات، وتمام خمس عشرة سنة، وبلوغ المرأة بأحد شيئين: الحيض، وتمام عشر سنين، والحَبَل علامة البلوغ>([17]). ويقول ابن سعيد الحلّي في مبحث الصوم من كتاب <الجامع للشرائع>: <وبلوغ المرأة والرجل بالاحتلام، وإنبات العانة، وتختصّ المرأة بالحيض وبلوغ عشر سنين، والرجل بخمس عشرة سنة>([18]).

والجدير ذكره أنّ ابن حمزة في مبحث النكاح من كتاب <الوسيلة>([19])، وابن سعيد في مباحث الحَجْر من كتاب <الجامع للشرائع>([20])، يعتبران سنّ البلوغ عند البنات هو بلوغ التسع، ويذهب صاحب الجواهر إلى أنّ الشيخ الطوسي وابن حمزة قد عدلا عن سنّ العشر سنوات في بلوغ الفتيات إلى اعتبار التسع سنوات سنّ البلوغ لديهنّ([21]).

إن القبول بكلام صاحب الجواهر يدلّ على عدم استقرار الإجماع والشهرة على القول بتسع سنوات، ولهذا ذهب هؤلاء الفقهاء البارزون إلى الإفتاء بسنّ العاشرة في بلوغ البنت، ثم العدول بعد ذلك إلى الفتوى بالتسع.

من جهة أخرى، يذكر ابن حمزة في <الوسيلة> لدى حديثه عن التسع سنوات، فيقول: <وبلوغ المرأة يُعرف بالحيض، أو بلوغها تسع سنين فصاعداً>([22])، فهذه الجملة تدلّ على أنّ التسع سنوات لا موضوعية لها، وإلاّ كانت كلمة <فصاعداً> لغواً، وإنما الملاك والمعيار هو التهيؤ الجسدي والفكري.

المحور الثاني: النظرية المختارة في بلوغ الفتيات

نعتقد أنّ سن البلوغ عند الفتيات هو ثلاثة عشر عاماً، وأنه لا يوجد دليلٌ معتبر يُعتمد عليه على نظرية التسع، وعلى صرف النظر عن الأصول المعتبرة التي سنعمد إلى بيانها فيما بعد.

كيف يمكن ـ وخلافاً لقاعدة السماحة والسهولة في الدين ـ وضع حمل ثقيل من التكاليف والأحكام وإجراء الحدود والعقوبات الكاملة على فتاة لا تبلغ سوى تسع سنوات، والحال أنها ضعيفة وعاجزة وفاقدة للنموّ الجسدي ولقابلية الزواج أيضاً؟ كيف يمكن القول بأن الدين السهل اليسير يطالب هذه الفتيات بالتكاليف والأحكام الشرعية ويقيم عليهنّ الحدود الكاملة تماماً كالنساء والرجال الآخرين، وأنه ليس لهنّ سوى القيام بالتكاليف والأحكام وإقامة العقوبات الكاملة عليهنّ؟ نعم، إذا كانت سائر علائم البلوغ، مثل الحيض قبل بلوغ الثلاثة عشر عاماً، متحققةً، صارت الفتاة مكلّفةً، وتغدو الأحكام الشرعية واجبةً عليها وجارية، فتكون كسائر النساء الأخريات.

إنّ دليلنا على رأينا المختار، وهو بلوغ البنات في سنّ الثالثة عشرة، وجوهٌ من الكتاب والسنّة، والأصول والقواعد، والتي يبلغ مجموعها سبعة أدلّة، هي:

الدليل الأول: موثقة عمار الساباطي

محمد بن الحسن، بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن الحسن بن علي، عن عمرو بن سعيد، عن مصدّق بن صدقة، عن عمار الساباطي، عن أبي عبدالله% قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ قال: <إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة; فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك; فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم>([23]).

ودلالة هذه الرواية تامة، لا مشكلة فيها إطلاقاً، بل ليست بحاجة إلى بيان ولا تقريب; ذلك أن ذيل الرواية نصٌّ صريح وواضح على اعتبار الثلاث عشرة سنة سنَّ البلوغ عند البنات، كما أنها من ناحية السند تامة، صرّح بكونها موثقة كلّ من صاحب الجواهر([24]) وصاحب الحدائق([25])، كما لم يناقش في سندها وكونها موثقة أيّ من الذين تعرّضوا لها، بل يكتب السيد أحمد الخوانساري في كتاب <جامع المدارك> ـ بعد نقله موثقة عمار وعدداً من الروايات الأخرى ـ فيقول: <وهذه الأخبار مع اعتبارها من حيث السند، والصراحة بحسب الدلالة، لم يعمل بها المشهور>([26]).

والذي قيل إشكالاً على هذا الدليل أو يمكن أن يُقال، أمور أربعة نذكرها ثم نقدّم نقداً عليها، وهي:

1 ـ إعراض المشهور عن صدر الرواية والإفتاء بأنّ سن بلوغ الصبي هو إتمام خمس عشرة سنة قمرية، وحيث كان ذيل الرواية مرتبطاً بصدرها، على نحو الإشارة إليه <كذلك>، عنى ذلك ارتباط الذيل، فيسقط هو الآخر عن الحجية، نظير العلاقة بين الدلالة الالتزامية والدلالة المطابقية اللفظية، فإن عدم حجية الدلالة المطابقية يعدّ سبباً لعدم حجية الدلالة الالتزامية.

وفي مقام الجواب عن هذا الإشكال، لابد من القول:

أولاً: كيف ثبت إعراض المشهور عن صدر الرواية مع أنّ صاحب الجواهر([27]) في كتابه القيّم يشير إلى وجود ستة أقوال([28]) في المسألة، حتى لو ذكر في نهاية بحثه أن التحقيق عدم وجود أكثر من قولين.

من جهة أخرى، لابدّ في الإعراض أن يكون بحيث يدلّل على أنّ المضمون كان من وجهة نظرهم غير صحيح، أما هنا فإن إحراز أمر من هذا القبيل صعب وشاق، ذلك أن إعراضهم عن صدر الرواية إنما كان من جهة كثرة روايات سنّ بلوغ الصبي بخمس عشرة سنة.

ثانياً: لا يضرّ سقوط صدر الرواية عن الحجية في حجية ذيلها; ذلك أنّ الذيل مطلب مستقل، جرى تبيانه بجمل مستقلّة، وأما لفظ الإشارة <كذلك> فإنما جاء لتبيين مشابهة سنّ البلوغ عند البنات معه عند الصبيان، وعليه فكلمة <كذلك>، حتى مع فرض عدم حجية الصدر، يكون وجودها كالعدم، ولا ربط لها بحجية الذيل.

2 ـ إنّ ذيل الحديث هو الآخر قد وقع موقع الإعراض عنه; لذا لم يكن حجةً، ذلك أنّ أحداً من الفقهاء لم يفتِ ببلوغ البنت في الثالثة عشرة.

ويجاب عن هذا الإشكال:

أولاً: لقد عمل شيخ الطائفة (الطوسي) في كتابي: التهذيب والاستبصار بهذه الرواية، وعبارته ـ سيما في الاستبصار ـ كالنصّ على العمل والفتوى بها وعلى أساسها.

ثانياً: تعود شهرة القول ببلوغ البنت في سنّ التسع إلى ما بعد زمان الشيخ الطوسي، ومثل هذه الشهرات لا يمكن الاعتماد عليها من جهتين:

الأولى: إنّ هذه الشهرة ليست شهرة قدماء الأصحاب، ولا تحسب من الأصول المتلقّاة([29]).

الثانية: إن هذا النوع من الشهرات يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى فتاوى شيخ الطائفة، لا إلى اجتهادات مختلفة أو إلى نقض الأدلّة وإبرامها.

3 ـ إن عمار الساباطي ـ رغم كونه موثقاً ـ إلاّ أنه لا يمكن الاستناد إلى الروايات التي يتفرّد بنقلها; لأنه فطحي([30]). من جهة أخرى، قيل: إن في رواياته من حيث اللفظ والمعنى اضطراباً وتشويشاً، فلا يصحّ الأخذ بها، وهو ما ينقل عن الفيض الكاشاني والعلامة المجلسي.

وللجواب عن هذا الإشكال نقول:

أولاً: إن الشيخ الطوسي نفسه بعد ذكره الإشكال المتقدّم يقول: <غير أنّا لا نطعن عليه بهذه الطريقة; لأنه وإن كان كذلك فهو ثقة في النقل لا يطعن عليه فيه>، كما أنه يذكر في <الفهرست>([31]) أنه فطحي، وأنّ له كتاباً كبيراً وقيّماً يمكن الاعتماد عليه، كما أنه وثقه في النقل في كتاب الاستبصار([32]) في باب بيع الذهب والفضة، مصرّحاً بأنه لا طعن فيه.

ثانياً: يمكن بالغور والتتبّع في الكتب الرجالية والفقهية الاطمئنان وتحصيل العلم العادي بعدم تمامية ما نقل عن بعضهم هنا، كيف لا والنجاشي ـ وهو أحد العلماء الرجاليين البارزين ـ اعتبره وجماعة آخرين ثقات في الرواية([33])، كما جعل الكشّي روايته مرجّحة([34])، ويقول المحقق الحلّي في <المعتبر>: <عمل الأصحاب على رواية عمار الثقة، حتى أنّ الشيخ ) ادّعى في العدّة إجماع الإمامية على العمل بروايته، ورواية أمثاله ممّن عدّهم>([35])، واعتبره العلامة الحلي في <خلاصة الأقوال> صاحب كتاب كبير وقيّم، يمكن الاعتماد عليه([36])، ويقول في كتاب <تذكرة الفقهاء>: <وعمار وإن كان فطحياً، إلاّ أنه ثقة، اعتمد الشيخ ) على روايته في مواضع>([37]).

أما السيد بحر العلوم في <الفوائد الرجالية>، فبعد نقله كلام الشيخ والمحقق في وثاقة عمار، يقول: <وهذا القول الذي اختاره الشيخ والمحقق؛ من كونه فطحياً ثقة في النقل، هو أعدل الأقوال وأشهرها، وبه قال البهائي والمجلسيّان وغيرهم>([38]).

ثالثاً: إن هذا الإشكال ضعيف غير تام، بل هو أضعف من الإشكال الأوّل; إذ كيف يمكن الأخذ بما نقله الفيض الكاشاني والمجلسي”، وصرف النظر عن كلمات كل أولئك الكبار من أساطين الفقه والحديث والرجال، ومن ثم رفع اليد عن تمام روايات عمار على كثرتها وكونها مورداً للعمل في الفقه؟!

من ناحية أخرى، إن الاضطراب الذي ينسب إلى الساباطي ليس بأكثر من الاضطراب الموجود في نقل سائر الأصحاب فيما يقتضيه الطبع الإنساني وما يستدعيه نقل الكلام والحديث، وعليه فلا يكون مانعاً عن الاعتماد والوثوق بنقله.

4 ـ إن رواية عمار تعارض روايات التسع سنوات، فتقدّم روايات التسع لكثرتها; ذلك أن كثرة الروايات تعدّ من المرجحات والمزايا في باب التعارض، إضافةً إلى أنّ روايات التسع مطابقة للمشهور أيضاً مما يقدّمها على رواية الساباطي.

ويناقش أولاً: تقدم أنّ هذه الروايات لا تدلّ على البلوغ بسنّ التسع، فلا تصل بها النوبة لمعارضة خبر عمار.

ثانياً: لو تحقّق التعارض بين موثقة عمار وتلك الروايات على فرض تمامية دلالتها، فهو من باب تعارض النصّ مع الظاهر، ومن الواضح البديهي أنه لا تعارض بين النصّ والظاهر؛ إذ النصّ مقدّم عليه؛ ولا يفوتنا أن روايات التسع سنوات لا تزيد على أربعة أحاديث، ثلاثة منها تدل على التسع مع ضمّ علائم أخرى، لتجعل المجموع هو علامية البلوغ والنموّ والرشد، أي أن السنوات التسع تجعل البنت ـ غالباً ـ ذات رشد فكري وبدني مرافق لعلائم أخرى كالحيض، وأما الرواية المتبقية فلم يكن فيها مثل هذه العلامات المنضمّة، وهي مرسلة ابن أبي عمير، والتي عيّنت الحدّ الأدنى لسنّ البلوغ.

الدليل الثاني: آية ابتلاء اليتامى، مقولة بلوغ النكاح

قال تعالى: >وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ< (النساء: 6).

إن هذه الآية تدلّ على أن دفع أموال الصغار اليتامى إليهم ورفع الحَجْر عنهم مشروط بأمرين هما: 1 ـ بلوغ النكاح; 2 ـ والرشد، ومقتضى إطلاق شرطية البلوغ وغائية النكاح، أن دفع الأموال إليهم غير جائز ما لم يثبت بلوغ النكاح أو تُثبته أمارة معتبرة، ومن المعلوم أنّ سنّ البلوغ ليس نكاحاً، وإنما هو أمارة على الاستعداد له والقابلية، والقدر المتيقّن من هذه الأمارية في البنات على مستوى الفتاوى ـ وهي تسع سنوات وعشرة سنوات وثلاث عشرة سنة ـ وكذا على مستوى الروايات ـ وهي ما دلّ على التسع والثلاث عشرة ـ هو الثلاث عشرة سنة، بحيث إذا تحققت وكان هناك رشد أمكن دفع أموالهم إليهم، أما إذا كان السنّ أقلّ من ذلك فلا يمكن إعطاؤهم الأموال؛ وعليه، فالآية ـ واستناداً إلى مفهوم الشرط والغاية ـ تدلّ على عدم اعتبار سنّ التسع أو العشرة وما بعدها إلى الثلاث عشرة سنة.

لا يقال: إن الروايات التي استدلّ بها على البلوغ في سنّ التسع تمثل بنفسها دليلاً على أمارية التسع لبلوغ النكاح، فإنه يقال: إن هذا البحث بقطع النظر عن تلك الأدلّة، ذلك أننا فرضنا أن دلالة تلك الروايات وحجيتها في هذا المدّعى غير محرزتين، بل مناقش فيهما.

الدليل الثالث: آية استئذان الأطفال، مقولة بلوغ الحلم

قال تعالى: >وَإِذَا بَلَغَ الاَْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ< (النور: 59).

تدلّ هذه الآية ـ كسابقتها ـ على عدم بلوغ الطفل سنّ التكليف والبلوغ ما لم يحتلم، والقدر المتيقّن من الحُلُم بالنسبة للبنات من ناحية السنّ هو الثلاث عشرة سنة، كما تقدّم تقريبه.

وخلاصة القول: إن عموم هاتين الآيتين وإطلاقهما يدلان على عدم البلوغ إلاّ ببلوغ الحلم والنكاح، سواء ثبت هذا البلوغ بالعلم والاطمئنان أو بأمارة معتبرة، وفي غير هاتين الصورتين تحكم الآيتان ـ بالإطلاق ـ على أن البلوغ لم يتحقّق بعدُ.

الدليل الرابع: آية التصرّف في أموال اليتامى، مقولة بلوغ الأشدّ

قال سبحانه: >وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشِدَّهُ< (الإسراء: 34).

والاستدلال بهذه الآية يقع عبر ضمّ خبر هشام بن سالم وموثق عبدالله بن سنان، حيث فسّر <بلوغ الأشُد> فيهما بالاحتلام؛ فعن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله%، قال: <انقطاع يُتم اليتيم الاحتلام، وهو أشدّه، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيهاً أو ضعيفاً فليُمسك عنه وليّه ماله>([39])، وعن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله%، قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله ـ عز وجل ـ: >حَتَّى إذا بلُغَ أَشدَّهُ<، قال: <الاحتلام..>([40]).

الدليل الخامس: حديث رفع القلم، مقولة الاحتلام

يقول رسول الله 2: <رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه>([41]).

ولا يفوتنا أن صاحب الجواهر قال عن هذا الحديث: <.. هو حديث مشهور، رواه الفريقان، وذكره أصحابنا في كتب الفروع والإمامة..>([42]); بل إن ابن إدريس يصرّح بأن نقل هذه الرواية عن النبي 2 مجمعٌ عليه، حيث يقول: <لقوله% المجمع عليه: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه>([43]).

ومثل هذا الحديث، الحديثُ العلوي الذي ينقله الشيخ الصدوق في <الخصال> مسنداً إلى ابن ظبيان: حدثنا الحسن بن محمد السكوني، قال: حدثنا الحضرمي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي معاوية، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: أتى عُمَر بامرأة مجنونة قد فجرت، فأمر برجمها، فمرّوا بها على علي بن أبي طالب%، فقال: <ما هذه>؟ قالوا: مجنونة فجرت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: <لا تعجلوا>، فأتى عمر فقال له: <أما علمت أنّ القلم رفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ؟!>([44]).

الدليل السادس: مبدأ عدم الدليل دليل العدم

معنى هذا الدليل هو أن عدم وجود الدليل على بلوغ البنت قبل إتمام الثلاث عشرة سنة يعدّ بنفسه دليلاً معتبراً على عدم البلوغ إلى ذلك العمر، وأما بعد ذلك ولأجل الاطمئنان بالبلوغ آنذاك، ونتيجة القدر المتيقن وموثقة عمار الساباطي تكون البنت بالغةً. يقول صاحب الجواهر([45]): إن عدم الدليل هنا مغاير لحديث الرفع والبراءة الشرعية; وذلك أنّ حديث الرفع يدلّ على سقوط التكليف عن الجاهل بسبب جهله، فيما الكلام هنا في مقام الثبوت.

الدليل السابع: مبدأ استصحاب عدم البلوغ و..

إذا تعرّضت روايات التسع للخدشة والنقاش، فلا يمكن إقامة أيّ دليل على البلوغ السنّي بتسع سنوات، وعليه، يقتضي كل من استصحاب عدم البلوغ واستصحاب بقاء ولاية الوليّ السابق، وبقاء الحَجْر السابق ـ كما قال صاحب الجواهر([46]) ـ أن نعتبر البنات اللواتي بلغن سنّ التاسعة غير مكلّفات ولا بالغات، فإذا استفدنا من الأدلّة الشرعية ـ كما رأينا في دلالة موثقة عمار الساباطي ـ سنّاً آخر للبلوغ جرى الاستصحاب إلى ذلك الزمان لا غير.

استجماع العناصر واستخلاص النتائج

ما تقدّم في هذه المقالة هو أنّ مستندات المشهور في تعيين سنّ التاسعة ـ بوصفه سنّ البلوغ عند البنات ـ مخدوشة ومناقش فيها; ذلك أن الروايات رافقتها شواهد وقرائن تؤكد وتشير إلى أن سنّ التاسعة لا موضوعية له، كما أنّ الإجماع لا يمكن الاستناد إليه في تحديد سنّ بلوغ البنت، لابتنائه على الروايات، ثم وصل بنا المقال إلى إقامة الدليل على رأينا المختار.

لقد اعتبرنا سنّ البلوغ عند البنت ثلاث عشرة سنة; استناداً إلى موثقة عمار التي لا شك في سندها ودلالتها، وقد دلّت على مدّعانا وإلى جانبها الآية السادسة من سورة النساء، والتاسعة والخمسون من سورة النور، والرابعة والثلاثون من سورة الإسراء، وكذلك حديث رفع القلم، وبرهان عدم الدليل، واستصحاب عدم البلوغ، واستصحاب بقاء ولاية الوليّ السابق، وبقاء الحَجْر السابق و..

وحتى لو قبلنا أن روايات التسع كانت تامّة الدلالة على تعيين هذا السنّ بوصفه أمراً تعبدياً شرعياً، إلاّ أن موثقة عمار الساباطي تعارضها، وحيث إن القرآن لم يعيّن سنّاً للبلوغ، يمكن ـ حينئذ ـ اعتبار إحدى المجموعتين من النصوص مطابقةً للقرآن، وحيث إن مذاهب أهل السنّة بعمومها تأخذ سنّ الخمسة عشرة عاماً وما فوق سناً للبلوغ([47])، فلا يمكن أن تكون أيّ من الطائفتين هنا موافقةً لهم، وعليه فإن لم نحكم بعد هذا التعارض بالتساقط، فلا يمكن أن يتعيّن الإفتاء بالبلوغ السنّي للبنات في سنّ التاسعة.

الهوامش



(*) أحد مراجع التقليد الشيعة، له آراء فقهية عديدة مخالفة للمشهور، سيما في فقه المرأة.



([1]) وسائل الشيعة 1: 43، ب4، ح2.

([2]) المصدر نفسه 20: 278، ب6، ح9.

([3]) المصدر نفسه 19: 365، ب44، ح12.

([4]) المصدر نفسه: 367، ب45، ح4.

([5]) المصدر نفسه 20: 104، ب45، ح10.

([6]) المصدر نفسه 20: 101، الباب 45، ح1.

([7]) المصدر نفسه، ح2.

([8]) المصدر نفسه: 102، ح3.

([9]) المصدر نفسه: 103، ح5.

([10]) المصدر نفسه، ح8.

([11]) المصدر نفسه، ح9.

([12]) المصدر نفسه 27: 344، الباب 22، ح3.

([13]) العاملي، مفتاح الكرامة 12: 424.

([14]) الصدوق، المقنع: 195; والينابيع الفقهية 6: 21 ـ 22.

([15]) رسائل المرتضى 3: 57; والينابيع الفقهية 6: 93.

([16]) الطوسي، المبسوط 1: 266.

([17]) ابن حمزة، الوسيلة: 127.

([18]) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 152.

([19]) ابن حمزة، الوسيلة: 301.

([20]) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 362.

([21]) النجفي، جواهر الكلام 26: 9.

([22]) ابن حمزة، الوسيلة: 301.

([23]) وسائل الشيعة 1: 45، باب 4، ح12.

([24]) النجفي، جواهر الكلام 26: 34.

([25]) البحراني، الحدائق الناضرة 13: 184.

([26]) الخوانساري، جامع المدارك 3: 366.

([27]) النجفي، جواهر الكلام 26: 28.

([28]) الخمس عشر دخولاً وكمالاً، وكذا الأربع عشر، وكمال الثلاث عشر، والعشر.

([29]) يستفاد من عبارة صاحب المعالم، والشهيد الثاني في الرعاية، والشيخ محمود الحمصي المعاصر لشيخ الطائفة.. أن الفتاوى التي اشتهرت بعد عصر الشيخ الطوسي إنما صارت كذلك على أساس حُسن ظنّهم بشيخ الطائفة، حيث قبلوا أدلّة الشيخ، ولم يجيزوا لأنفسهم الإشكال عليه، من هنا كان اجتهادهم كاجتهادات الشيخ الطوسي، وفقط ابن إدريس فتح باب الإشكال على كلام الشيخ، مقدّماً خدمةً كبيرة للشيعة بذلك.

([30]) الطوسي، تهذيب الأحكام 7: 101.

([31]) الطوسي، الفهرست: 525.

([32]) الطوسي، الاستبصار 3: 95، ح325.

([33]) رجال النجاشي: 290.

([34]) اختيار معرفة الرجال: 406، ح763.

([35]) الحلي، المعتبر 1: 60.

([36]) العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: 381.

([37]) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 1: 267.

([38]) رجال السيد بحر العلوم 8: 169.

([39]) وسائل الشيعة 19: 363، الباب 44، ح9.

([40]) المصدر نفسه، ح8.

([41]) ابن إدريس الحلي، السرائر 3: 324; وسنن البيهقي 6: 57.

([42]) النجفي، جواهر الكلام 26: 10.

([43]) الحلي، السرائر 3: 324.

([44]) الصدوق، الخصال: 93.

([45]) النجفي، جواهر الكلام 26: 16.

([46]) المصدر نفسه: 17.

([47]) راجع: الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 2: 35; وموسوعة الفقه الإسلامي المقارن 11: 19.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً