الشيخ سعيد نورا(*)
الخلاصة
باتَتْ مسألة تعليل أفعال الله بالغايات والأغراض من أهمّ مسائل علم الكلام الإسلامي، والتي أجريت فيها دراسات وأبحاث عديدة في المدارس الكلامية والفلسفية، وذهب بعضهم إلى أن الحكمة الالهية تقتضي كون أفعال الله وشرائعه ذات أغراضٍ، وقال بوجوبها؛ واهتمّ بعضهم بمقتضى اختيار الله المطلق واللامحدود اهتماماً بالغاً، واعتقد برفع جميع أنواع القيود عن الفعل الإلهي؛ تنزيهاً لساحته تبارك وتعالى. ومن بين هذا وذاك التزم بعضٌ جانب الحياد، ورأى الأغراض الإلهية نوعاً من التفضُّل من قبل الربّ الرحيم. ولقد حاوَلْنا في هذه الدراسة تناول هذا الموضوع من مختلف الزوايا، و دراسة عمدة أدلة هذا البحث، ملتزمين جانب الحياد قَدْر الإمكان.
مقدّمةٌ
كانت مسألة الغاية للأفعال الإلهية منذ قديم الزمان، ولا تزال، معركة الآراء، وتترك آثاراً عظيمةً في سائر مسائل علم الكلام، ومجالات أخرى، كالفقه والأصول([1]).
والكلمة المفتاحية للبحث عن الموضوع في المصادر الكلامية هي(الغرض)، وقد تضاربت آراء علماء الاسلام فيه، وبعد مراجعة المصادر الكلامية نواجه أربعة اتجاهات رئيسة في الموضوع، وهي:
1ـ نظرية الأشاعرة (الامتناع أوعدم الوجوب).
2ـ نظرية المعتزلة ومعظم متكلِّمي الامامية (الوجوب والغاية هي عودة الفائدة إلى العباد).
3ـ نظرية الحكماء (الوجوب والغاية هي الذات الإلهية).
4ـ نظرية الماتريدية وبعض الإمامية (عدم الوجوب والتفضُّل على العباد).
ولقد حاول البعض التوفيق بين هذه المواقف، وتقريبها من بعضها قدر الإمكان، رغم تباينها ظاهراً. وسنسعى لاحقاً في تعريف نظرية كلٍّ من هذه المدارس، وطرح أدلتها على بساط البحث، بعد مراجعة مصادرها ونصوصها الأصلية، في محاولة بحثية لمعرفة الأصحّ من النظريّات، وسنبيِّن بدقّةٍ النسبة بين التفاسير المختلفة للموضوع لدى هذه المدارس.
بيان محلّ النزاع
لقد قام العلاّمة الحلّي في كتاب (نهج الحقّ وكشف الصدق) بتصوير خلاف الأشاعرة والإمامية في المسألة كما يلي: «قالت الإمامية: إن الله تعالى إنما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلَّفين، ونفعه يصل إليهم؛ وقالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل شيئاً لغرضٍ ولا مصلحةٍ ترجع إلى العباد، ولا غاية من الغايات»([2]).
المهمّ في هذه العبارة قيد (ترجع إلى المكلَّفين). العلاّمة في تصويره أدخل رجوع المصلحة إلى العباد في دائرة النزاع، وهذا يعني أنه من الممكن أن يعترف شخصٌ بمبدأ الغاية لأفعال الله، إلاّ أنه لا يقول بكونها لمصالح العباد. وعلى أيّ حالٍ، وبغضّ النظر عن الوجهة التاريخية للمسألة لدى كلّ مدرسةٍ، من الضروري بمكانٍ أن نعرف أن هناك مرحلتين متصوَّرتين لموضوع تعليل الأفعال الإلهية، وهما:
المرحلة الأولى: أصل مسألة تعليل أفعال الله بالأغراض، بغضّ النظر عن التقييدات والتحديدات.
المرحلة الثانية: تعليل أفعال الله بالأغراض والمصالح الراجعة إلى عباده.
من الواضح أن النظريتين مختلفتان من حيث النتائج والأدلّة، وقد يقرّ الشخص بالتفسير الأول لمسألة التعليل، لكنه لا يقتنع بالثاني، وحيث إن القبول بالأوّل بمنزلة التمهيد للثاني فبالتالي مَنْ قَبِل بالتفسير الثاني يكون قد قَبِل بالأوّل. ومن هذا المنطلق سنقوم بدراسة الأقوال والأدلة وتقييمها على أساس هذا الخلاف في تصوير المسألة، كما أنه بعد التسليم لفرضية رجوع المصالح إلى العباد هناك أسئلةٌ أخرى تطرح نفسها، ومنها: أين يقع مركز هذه المصالح؟ هل وجود المصلحة في الأفعال التكوينية يختلف عمّا في التشريعيات؟ وغيرها من التفاصيل في هذا المجال. فبالتالي سيكون تركيز البحث على أصل وجود الغرض لأفعال الله، وأنها أساساً تُعلَّل بالغايات أم أن اعتبارالغاية لها مستحيلٌ وممتنع؟
نظريّة الأشاعرة
المشهور أن الأشاعرة يقولون باستحالة تعليل الأفعال الإلهية بالأغراض([3])، حتى أن بعضهم يرى أن الأشاعرة ينكرون وجود الغاية في جميع الكائنات([4]).
وهنا من الممكن أن نقدِّم احتمالاً آخر لرأي الأشاعرة، وهو أن الأهمّ من نفي تعليل أفعال الله بالغايات عندهم هو عدم إلزام الله بشيءٍ. وهذا الهاجس مشهودٌ في كلماتهم بوضوحٍ. ومن هذا المنطلق يمكن التوفيق بين مختلف الأقوال في هذا المجال. وسيأتي تفصيل أكثر بعد طرح الأدلة والمناقشات.
تنقسم أدلة الأشاعرة وكلماتهم إلى قسمين:
فقسمٌ منها ناظرٌ إلى الامتناع بالمعنى الخاصّ له، أي استحالة تصور الغاية لأفعاله تبارك وتعالى، والحال أن القسم الآخر منها ناظرٌ إلى نفي الوجوب، وهذا هو الامتناع بالمعنى العامّ، والذي يمكن أن يجتمع مع الإمكان. وفي ما يأتي سنتكلَّم عن الأدلة الناظرة إلى امتناع الوجوب بالمعنى الخاصّ، ومن ثمّ نطرح ما يشير إلى سلب الضرورة عن الوجوب. ولا يخفى أن أدلة القسم الثاني تنفع في إثبات نظرية الإمكان بالنسبة إلى إثبات امتناع الغرض.
الأدلّة المتنوِّعة
هناك أدلّةٌ مختلفة في المصادر الكلامية، منها:
1ـ برهان حدوث وقدم الغرض
يسعى هذا الاستدلال عبر برهان الخُلْف إلى إثبات عدم وجوب الغرض للأفعال الإلهية بالبيان التالي: لو فرضنا أن أفعال الله ذاتُ غرضٍ بالضرورة فهنا لا تخلو الأغراض من أن تكون إما قديمة أو حادثة؛
ـ ولو فرضنا أن الغرض قديم فهنا فرضان آخران في المسألة:
الأوّل: بأن يلازم قِدَم الغرض قِدَم الفعل الإلهي. وهذا فرضٌ محال؛ لأنه قد ثبت في محلّه أن أفعاله ليست حادثةً.
الثاني: بأن لا يلازم قِدَم الغرض قِدَم الفعل الإلهي، فهنا لم يتحقَّق الغرض المطلوب للفعل؛ لأن المفروض قِدَم الغرض وتحقّقه دون الفعل، فلو لم يكن الغرض حصيلة الفعل فهذا معناه كون الفعل خالياً عن الغرض، فثبت المطلوب.
ـ ولو فرضنا أن الغرض أمرٌ حادث فلا يخلو أيضاً من فرضين اثنين:
الأوّل: حدوث الغرض لا يحتاج إلى الفاعل، وهذا معناه حدوث الحادث دون المحدث، وهو محالٌ؛ لانه يحول دون إثبات واجب الوجوب.
الثاني: حدوث الغرض يحتاج إلى الفاعل، فلا يخلو من حالتين:
الأولى: فاعله غير الله تعالى. وهذا الفرض ممتنعٌ؛ لأنه لا خالق إلاّ الله تعالى.
الثانية: فاعله الله تعالى. فلا يخلو أيضاً من حالتين:
1ـ حدوث الغرض نفسه لا غرض له، فهنا ثبت المطلوب؛ لأنه في النهاية يثبت وجود فعلٍ بدون غرضٍ.
2ـ حدوث الغرض نفسه له غرضٌ في حدّ ذاته، فهنا يأتي نفس الكلام السابق. ولكي لا ينتهي إلى التسلسل يجب أن ينتهي إلى ما لاغرض له.
وهناك ملاحظاتٌ على هذا الدليل تخطر بالبال:
أوّلاً: هذا الدليل يبتني على أُسُس غير متَّفق عليها عند جميع العلماء، منها: حدوث جميع أفعال الله، الذي هو عند الحكماء والفلاسفة محلُّ تأمُّل.
ثانياً: هذا الدليل ينفي قاعدة الغاية لأفعال الله في الجملة، أما أن يكون ناهضاً لنَفْيها بنحو الموجبة الكلّية فلا، فلا ينفي وجود الغاية لبعض أفعال الله.
ثالثاً: قد تمّ تصوير الغرض في هذه المحاولة كفعلٍ مستقلّ يحتاج بدَوْره إلى الغرض، بينما إذا دقَّقْنا في مفهوم الغرض يظهر أن تحقّق الغرض هو نتيجة الفعل، لا انه كائنٌ مستقلّ بنفسه محتاجٌ إلى فاعلٍ([5]).
2ـ برهان محلّ الغرض
يستعين هذا الدليل أيضاً ببرهان الخُلْف، إلاّ أنه هذه المرة بدأ بمحلّ الغرض بهذا التقرير، وهو أننا لو فرضنا أن أفعال الله ذات أغراض فلا تخلو من حالتين:
1ـ إما أنها تعود إلى الله تعالى. وهذا الفرق ممتنعٌ؛ لأنه تعالى متنزِّه عن كلّ ضَرَرٍ و انتفاعٍ وغرض.
2ـ وإما تعود إلى العباد. وهناك محاولاتٌ ثلاثة لإبطال هذا الفرض:
المحاولة الأولى: لو فرضنا أن الغرض يرجع إلى المخلوق فحصول هذا الغرض بالنسبة إلى الله تعالى لا يخلو من ثلاث حالات:
1ـ أن يكون حصول الغرض أَوْلى من عدمه. وهذا محالٌ لأنه يستلزم استكمال الله، وهو محالٌ بدَوْره.
2ـ أن يكون عدم الحصول أَوْلى من الحصول. وهذا محالٌ أيضاً؛ لما تقدَّم في الفرض السابق.
3ـ تساوي الحصول وعدمه. وهنا لا معنى للحديث عن الغرض؛ لأنه لا رجحان له أساساً([6]).
لم يقتنع سيف الدين الآمدي بهذه المحاولة، وقال مستشكلاً: صدور الفعل من الله، حتّى في صورة تساوي حصول الغرض وعدمه، ليس بممتنعٍ؛ لأن المفروض رجوع الغرض إلى المخلوق، لا إلى الخالق؛ إذ من الممكن أن يكون الله يرجِّح فعلاً ما رعايةً لمصلحة العباد، وإنْ كان الحصول وعدمه متساويين عنده([7])([8]).
المحاولة الثانية: نفترض أن هناك ثلاثة أشخاص:
1ـ طفل مسلم توفي قبل البلوغ؛
2ـ مسلم بالغ يتوفّى؛
3ـ كافر بالغ يتوفّى؛
بناءً على أصول مذهب العدلية المسلم البالغ أعلى رتبةً عند الله من الطفل المسلم غير البالغ، والكافر خالدٌ في النار بكفره، عندئذٍ لو تكلَّم الطفل واعترض على الحكم قائلاً: يا إلهي، لماذا منعتني من البلوغ إلى رتبة البالغ؟! فلو كان الجواب: لأنه أطاعني بعد البلوغ فللطفل أن يقول: لماذا أَمَتَّني قبل البلوغ؟ ولو كان الجواب: كنتُ أعلم أنك ستقوم بعصياني بعد بلوغك فما وقع كان أصلح لك وأنفع حينئذٍ يعترض الكافر البالغ قائلاً: لماذا لم تُمِتْني قبل البلوغ وأنت تعلمُ أني سأصبح كافراً فيما بعد؟ هنا القائل بالغَرَض لا يجد جواباً للمسألة.
المحاولة الثالثة: تسعى هذه المحاولة بعد مراجعة الوجدان العُرْفي إلى إبطال قاعدة الغاية، عبر الإشارة إلى موارد من الفعل الإلهيّ نقضت فيها الغاية، بتقرير: إنه لا شَكَّ في أن خلود أهل النار فيها، وهو فعلٌ إلهي، لا يفيدهم ولا ينفعهم، وخلود هؤلاء وآخرين في النار لا يهدف إلى شيءٍ على الإطلاق. ولو تأمَّلنا قليلاً يظهر أنه لا فائدة أيضا للجمادات والعناصر والمعادن وأنواع النباتات؛ لأنها لا تشعر بألمٍ ولذّةٍ، ووجودها وعدمها سواء. زِدْ على ذلك أنه لا فائدة في إماتة الأنبياء، أو إمهال إبليس، وتكليف نوع البشر، خصوصاً إذا لاحظنا حجم الآلام والصعوبات والحَرَج المشهود فيه، بل العاقل أساساً عندما يرجع إلى ضميره، ويتأمَّل في وجوده وعدمه، ويرى هذه الآفات الدنيوية والأخروية، يفضِّل أن يكون معدوماً، لذلك حُكيَتْ عن بعض الخلفاء كراهيتهم لهذا الموضوع، ففي ما رُوي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: رأيتُ عمر بن الخطّاب أخذ تبنةً من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكُ شيئاً، ليت أمّي لم تلِدْني، ليتني كنتُ نسياً منسيّاً([9]).
ويَرِدُ على هذا الاستدلال أنه يتضمّن في واقعه ثلاثة أدلّةٍ. وبعد اتفاق المتكلِّمين على تنزُّه الساحة الإلهية عن كلّ نقصٍ، اتفقوا على عدم إمكان رجوع الغاية إلى الذات الإلهيّة (هذا ما عدا الفلاسفة، الذين لهم تفسيرهم الخاصّ لعودة الغاية إلى الذات الإلهية، وستعرف المزيد من نظريتهم لاحقاً). فإذن أصحاب نظرية الغاية يرجعونها إلى العباد. لذلك نرى الأشاعرة في هذا الدليل يناقشون الآخر على هذا الاحتمال، ويحاولون إبطاله بالطرق الثلاثة المتقدّمة. أما الأولى فهي غير ناهضةٍ لأبطال فرض الغاية باعتراف الأشاعرة أنفسهم، ولا يمكن إبطال هذا الفرض عبر التمسُّك بإشكال استلزامه النقص والحاجة لله؛ حيث المفروض عودتها إلى العباد، وترجيحها في الواقع نوعٌ من التفضُّل واللطف من قِبَل الله تعالى، لا لأنها تستلزم النقص. لذا لا بأس في ترجيح الله لأحد الجانبين حال تساوي فعل شيءٍ أو عدمه، ما دام هناك مصالح تعود إلى العباد([10]).
وهنا قد يقدَّم جوابٌ آخر، وهو أن فارق الأولوية هنا لا يكون إلاّ بمعنى الرجحان في الصفات الفعلية لله تعالى، وما يستلزمه ليس إلاّ استكمال الفعل، لا الذات، وعليه لا يستحيل الرجحان([11]).
ولقد أجاب الفخر الرازي عن هذا الإشكال بقوله: تحصيل مصلحة العبد وعدم تحصيلها له إما أن يكونا متساويين بالنسبة إلى الله تعالى أو لا يستويان. وحينئذٍ يعود التقسيم المذكور([12]). ويُجاب عن هذا الإشكال: نعم، تحصيل مصلحة العباد وعدمه متساويان، لكن الصفات الإلهية، كرحمته تعالى ورأفته، تقتضي ترجيح مصلحة العباد، وليس يلزم من هذا نقصٌ لله تعالى، بل هو في الواقع نتيجة لصفاته الحسنى تبارك وتعالى.
وأما المحاولتان الثانية والثالثة فيبدو أنهما جاءتا نتيجة التصوُّر السطحي والبسيط في موضوع غايات الله وأغراضه؛ حيث إنه:
أوّلاً: ليس من الصحيح قياس الأغراض الإلهية بالمعايير الشخصية، وفي كثيرٍ من الأمثلة المذكورة في المقام دلالةٌ على هذه الخلفية الفردية، وهي محلّ تأمُّلٍ جدّاً؛ فلعلّ بعض أفعال الله يتضمّن مصالح نوعية أو عامّة، وإنْ كان يخلو عن المصلحة بالنسبة إلى بعض الأشخاص، أو حتّى يتضمّن مفاسد؛ لأن المهم بالنسبة إلى الحكيم ملاحظة معدّل المصالح والمفاسد. ولو كان وجود نوعٍ من المفاسد والشرور في بعض الموارد مقدّمةً ضرورية لتحقيق مصالح أعظم فلا إشكال. إن هذا فعلٌ حكيم.
ثانياً: في هذه الأمثلة تمّ اعتماد العقل العُرْفي فحَسْب، والحال أنه حَسْب اعتراف الكثير من علماء المسلمين العقلُ البشري أعجز بكثيرٍ من أن يكون قادراً على إدراك مصالح الكون ومفاسده. إذن من السذاجة أن نصدر الأحكام على خلق الله، ونلقي الكلام على عواهنه بأنه لا مصلحة في الجمادات؛ لأننا لا نلمس فيها مصلحة حَسْب الظاهر! وممّا يؤكِّد هذا الكلام تطوُّر العلوم البشرية، التي أثبتت فوائد ومصالح كثيرةً لكائنات هذه الكرة الأرضية، والتي لم تكن لتخطر ببال القدماء إطلاقاً.
ثالثاً: قد يتوهَّم في المحاولة الثالثة ترادف المصلحة والمفسدة مع اللذّة والألم، والحال أنه محلّ نقاشٍ، حيث المصلحة معناها الخير والصلاح، الذي لا يتَّفق في بعض الموارد مع مصاديق اللذّة والألم عندنا، ولا أقلّ من أنه يختلف معه في النظرة التجزيئية للجمادات، رغم أنه مؤلمٌ للإنسان في ظروف زمانية ومكانية خاصّة، لكنه لصالح البشر، وكذا الرياضة كمثالٍ عُرْفي قد تتسبَّب بالوَجَع بعض الأحيان، لكنها تصبّ في مصالح الإنسان.
رابعاً: غاية ما يمكن الاستناد إليه في الأمثلة المتقدِّمة عدم العلم بالمصلحة، إلا أن الانتقال من عدم العلم إلى العلم بالعَدَم ليس إلاّ طفرة في الاستدلال.
خامساً: كأنه افترض أن الأغراض الإلهيّة ليست إلاّ عبارة أخرى عن المصالح البشرية الواجب رعايتها! بَيْدَ أنه لا دليل على هذا الاختصاص، بل يجب ملاحظة مجموع الكائنات، وليس البشر هو الوحيد الذي خلقه الله، فهناك الجنّ والملائكة، هي الأخرى مخلوقاتٌ لله تعالى، ومَنْ الذي يمنع الله أن يفعل بعض أفعاله لأجل باقي الكائنات المخلوقة. وهذا ما تشهد عليه النصوص الشرعيّة، ومنها: ما رواه الصدوق بسنده أنه قال: إن وفد الجانّ جاؤوا إلى رسول الله| فقالوا: يا رسول الله، متِّعْنا، فأعطاهم الرَّوْث والعَظْم، فلذلك لا ينبغي أن يستنجى بهما([13]). وكما نرى في هذا دلالةٌ واضحة على تشريع حكمٍ من أحكام الله، وهو فعلٌ من أفعاله تعالى؛ لرعاية مصالح الجنّ، وإنْ تسبَّب للإنسان بالصعوبة([14]).
سادساً: زِدْ عليه: إن الذي فرض في هذه الاستدلالات مسبقاً اختصاص الغايات برعاية مصالح الخلق، وهذا ما لم يقُمْ عليه دليلٌ وبرهان، وتعليلُ أفعال الله بالغايات ليس بمعنى مصالح المخلوقات، بل كما قال الفلاسفة، ولو كاحتمال في المسألة: إن الغاية والغرض لأفعال الله هو الذات الإلهيّة، وبعبارةٍ أخرى: طالما لم يتمّ نفي جميع الاحتمالات المختلفة فهذا البرهان ليس تامّاً.
سابعاً: غاية ما ينفيه هذا النحو من الاستدلال([15]) هو وجود الغرض لبعض أفعال الله، وليس جميع أفعاله تعالى.
3ـ نفي الغاية عبر نفي العَبَث
يسعى الفخر الرازي في هذا الدليل إلى نفي الغاية عبر التمسُّك بمفهوم الحكمة ونفي العَبَث عن أفعال الله، والذي يعتبر من الكلمات المفتاحية لأصحاب نظرية الغاية، بتقرير:
إن مرجع جميع الأغراض إلى شيئين:
1ـ اللذّة والسعادة.
2ـ دفع الهموم والآلام.
والله سبحانه وتعالى قادرٌ على الأمرين، دون توسُّط شيءٍ، والقادر على فعل شيءٍ دون واسطةٍ إذا قام به عبر الوسائط يكون فعله عبثيّاً، طالما لا يكون فعله بها حَسْب الفرض أسهل. وهذا مستحيلٌ بالنسبة إلى الله، فبالتالي لا يمكن اعتبار أفعاله وأحكامه معلّلة بالغاية.
ويُلاحَظ على هذا الاستدلال بما يخطر في البال:
أوّلاً: هذا التصوُّر القائل بعودة جميع المصالح إلى اكتساب الذات، ودفع الآلام والهموم، لا يبدو كونه صحيحاً؛ حيث لا يتَّخذ عقلاء البشر قراراتهم على هذا الأساس، فضلاً عن الذات الإلهية المقدّسة. إن منطق المصلحة والخير يُعَدّ معياراً رئيساً لاتخاذ القرارات في المسائل التي لا يمكن فهمها من منظور اللذّة والألم.
ثانياً: إن قدرة الله المطلقة أمرٌ لا يمكن إنكاره، إلاّ أن التحوّل من القدرة المطلقة إلى القول بأيّ احتمال خاطئ أمر غير مقبول. القدرة الإلهية لا تتعلّق بالمحال الذاتي على الإطلاق. لنفرض أن تحقّق بعض الأمور دون وسائط غير ممكنٍ فهذا لا يسوّغ دخول تحقّق الأمر في دائرة قدرة الله. هذا الاستدلال أهمل احتماليّة عدم إمكان تحقُّق بعض الأمور بدون وسائط.
ثالثاً: هذا الدليل يصوِّر المسألة وكأن الترجيح الممكن الوحيد للأمور ذات الوسائط أسهليّتها! والحال أنه كلامٌ غير دقيقٍ؛ لأنه من الممكن ترجيح أمرٍ أصعب بالواسطة، لكنه ينتج خيراً وصلاحاً أكثر. وعندما ندرس المسألة من منظور السلام الشامل يتّضح أن الحكيم يبحث عن تحقيق أفضل الحالات الممكنة، وقد يمتنع تحققها دون واسطة.
4ـ توحيد الخالقيّة
يحاول الفخر الرازي في هذا الدليل نفي القاعدة، عبر التمسُّك بتوحيد الخالقية، بتقرير: إنه قد ثبت في محلّه عدم وجود خالقٍ غير الله تعالى، فبالتالي الخير والشرّ والكفر والإيمان كلّها تتحقّق بإيجاد الله، إذن لا معنى للقول بأن أفعال الله تتبع مصالح وأغراض، كيف وهو الخالق للخير والشرّ والكفر والإيمان؟!
وهذه ملاحظاتٌ على هذا الدليل:
أوّلاً: لقد تمّ تصوير المسألة في هذا الدليل وكأنه يمتنع وجود خالقٍ في طول الله تبارك وتعالى، والحال أن توحيد الخالقية لا يستلزم نفي خالقٍ آخر في طول الله، ولا ينافي التوحيد أن يأذن الله ويفوِّض الخلق إلى أحد المخلوقين.
ثانياً: جوهر هذا الدليل هو حَصْر المصالح في دائرة المصالح البشرية، والحال أنه ـ كما تقدَّم ـ لا دليل على هذا الحَصْر.
ثالثاً: لو قلنا بأن المصلحة بمعنى الخير والصلاح فلعلّ خير البشر وصلاحه يكمنان في وجود الشرّ والكفر في هذا العالم، حتى ينال البشر أعلى المراتب باختيارهم، أو لمصالح أخرى يعجز العقل البشريّ عن معرفتها.
تحليل نظريّة الأشاعرة
المشهور ـ كما تقدّم ـ أن الأشاعرة يقولون باستحالة فرض الغاية لأفعال الله([16])، بل يصنِّف بعضُهم الأشاعرةَ كمخالفٍ لفرض الغاية بالنسبة إلى الكائنات جميعاً([17]).
وهناك رأيٌ آخر يمكن الذهاب إليه، وهو أن الذي يهمّ الأشاعرة بالدرجة الأولى هو إثبات عدم إلزام الله بشيءٍ، لا إثبات استحالة تعليل الأفعال الإلهيّة بالغاية. ويمكن مشاهدة هذا الهاجس في كلماتهم بوضوحٍ، وبذلك يمكن تقديم نظريّةٍ أخرى للجمع بين مختلف الأقوال في هذا المجال. يقول سيف الدين الآمدي(623هـ)، وهو أحد متكلِّمي الأشاعرة: المسألة الثالثة في أنه لا يجب رعاية الغرض، والمقصود في أفعال الله تعالى، وأنه لا يجب عليه شيءٌ أصلاً. مذهب أهل الحقّ: إنّ رعاية الحكمة والغرض في أفعال الله تعالى غيرُ واجبٍ، وإنه لا يجب عليه فعلُ شيءٍ، ولا تركه، ووافقهم على ذلك طوائف الإلهيين، وجهابذة الحكماء المتقدّمين([18]). فالحديثُ عن عدم وجوب رعاية الغرض والحكمة على الله يتكرَّر في مقاطع كلامه، وهذه التعابير تعزِّز هذا الاحتمال في الذهن، وهو أن الهدف الرئيس لهم في موضوع الغاية هو الاعتراف بسلطةٍ مطلقة لله تعالى، وتنزيهه عن المحدودية كلّها.
ولا ينكرالأشاعرة أيضاً حكمة الله تعالى، لكنهم يقدِّمون تفسيراً مختلفاً عنها يدلّ على إتقان الصنع والخلق على أساس علمه تعالى. يقول الآمدي: إنّا لا ننكر كون الله تعالى حكيماً في فعله، ولكنّ ذلك يتحقّق في ما يتقنه في صنعه؛ وتحقّقه على وفق علمه به، وإرادته، ولا يتوقَّف ذلك على أن يكون له في فعله غرضٌ وغاية، والعبث إنما يلزم في فعله بانتفاء الغرض فيه لو كان فعله ممّا يطلب فيه الغرض، وهو محلّ النزاع([19]). وبناءً على ما قال: إن إشكال العبث يأتي في حال إمكان الغرض في فعلٍ ما، لكنْ عندما ينتفي إمكان الغرض في أفعال الله، ولا يتصوَّر، فعدم الغرض في أفعاله تعالى لا يكون بمعنى العَبَث.
نظريّة المعتزلة ومتكلِّمي الإماميّة
ينظر عادةً إلى نظرية الإمامية على أنها نفس نظرية المعتزلة([20]).
وبما أنهما يتَّفقان في مبدأَيْ إنكار نظرية الأشاعرة والقبول بمبدأ تعليل الأفعال الإلهية بالغاية نتناول كلماتهما وأدلّتهما وندرسها معاً، وإنْ كان هناك فروقٌ دقيقة في كلمات بعض الإمامية في ما يتعلَّق بالموضوع تستحقّ النظر، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وسندرسها في خاتمة المطاف.
لقد تمّ تقديم أدلة مختلفة لإثبات الغاية لأفعال الله، ويمكن تقسيمها إلى طائفتين إجمالاً:
الأولى: ناظرةٌ إلى إثبات بطلان قول الأشاعرة، وتسعى إلى إبطالها، عبر الإشارة إلى مواضع الخَلَل وتداعياتها.
الثانية: تتعرَّض لموضوع تحليل الأفعال الإلهية بالغاية بشكلٍ مباشر، وتثبته. وفي ما يأتي نبدأ بدراسة الطائفة الأولى من الأدلة، أي ما يتكفَّل بإبطال نظرية الأشاعرة، ومن ثمّ نتعرض للطائفة الثانية التي تتناول موضوع إثبات الغاية مباشرةً.
1ـ مناقشة رأي الأشاعرة
لقد تمّ تقديم أدلّةٍ عديدة في كتب الكلام الإمامي لإبطال رأي الأشاعرة. وفي ما يلي سنتعرَّف إلى المزيد من هذه الاستدلالات. أما قبل تناول الأدلّة هناك نقطةٌ هامة من الضروري الالتفات إليها، وهي أن إثبات بطلان نظرية الأشاعرة لا يعني بالضرورة إثبات نظرية المعتزلة في الموضوع، والانتقالُ إليه بحاجةٍ إلى دليلٍ مستقلّ، سنتابعه في المرحلة الثانية. بالطبع إبطال نظرية الأشاعرة يسقط خطأ القول بنفي الغرض، لكنْ ماذا سيكون البديل؟ لا يمكن الاستفادة منه لإثباته. وعلى سبيل المثال: لا يمكن تحديد مرجع هذه الغاية هل هو مصالح العباد أم الذات الإلهية؟ هذا ما لا يظهر من هذه الأدلة.
أـ استلزام العَبَث واللعب
لقد ذكر العلاّمة الحلّي لوازم فاسدة لرأي الأشاعرة، ومن جملتها: استلزامه للعبث واللعب في أفعال الله. ويقرِّرها كما يلي: منها: أن يكون الله تعالى لاعباً عابثاً في فعله، فإن العابث هو الذي يفعل لا لغرضٍ وحكمة، بل مجّاناً، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لاَعِبِينَ﴾، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً﴾، والفعل الذي لا غرض للفاعل فيه باطلٌ ولعب، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً([21]).
هذا الاستدلال يتكوَّن من مقدّمتين أساسيتين:
الأولى: ما لا يفعل لغرض باطلٌ ولعبٌ.
الثانية: إن الله تعالى متنزِّه عن اللعب والباطل.
إذن الله سبحانه متنزِّه عن خلوّ أفعاله من الغرض، فالنتيجة أن أفعاله ذات غرضٍ.
وبالإضافة إلى صريح العقل يصرِّح القرآن الكريم أيضاً بتنزُّهه تعالى عن اللعب والباطل، لذا لا شَكَّ في صحّة المقدّمة الثانية. وإنما الكلام في صحّة المقدّمة الأولى. في نظر الإمامية والمعتزلة تحقّق فعلٍ ما دون الغاية معناه العبث. هذا، والأشاعرة، رغم اعترافهم بحكمة الله، يقولون: إن استلزام نفي الغرض للعبث لا يكون إلاّ حال استحقاق الفعل للغاية، لكنّ أفعال الله أساساً لا يمكن تصوُّر استحقاق الغاية فيها. يقول سيف الدين الآمدي: منها: أن يكون الله تعالى لاعباً عابثاً في فعله، فإن العابث هو الذي يفعل لا لغرضٍ وحكمة، بل مجّاناً، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لاَعِبِينَ﴾، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً﴾، والفعل الذي لا غرض للفاعل فيه باطلٌ ولعب، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً([22]).
ب ـ استلزام نفي بعض الصفات
هذا الدليل يغلب عليه طابع النصّ أكثر من العقل، بتقرير: إن لازم نظرية الأشاعرة هو عدم اتِّصاف الله سبحانه وتعالى بصفاتٍ، كالمحسن والمنعم والراضي والكريم والجواد، والحال أن الله تعالى متَّصف بهذه الصفات اتصافاً حقيقياً، كما هو تصريح نصوص الكتاب العزيز، والأخبار النبوية المتواترة، وإجماع جميع المسلمين. ويبيِّن العلاّمة الحلّي وجه هذه الملازمة قائلاً: لا يصحّ وصف المحسن بالإحسان إلاّ عندما ينفع المحسن المنتفع، لكنّه عندما يقوم بفعلٍ ما دون غرضٍ فلا يكون إذن محسناً، لذلك مَنْ يطعم حيواناً ليسمن؛ لكي يذبحه فيما بعد لا يُعَدّ محسناً في حقِّه، كما لا يعتبر منعماً عليه، ورحيماً، حيث الشفقة والرحمة لا تتحقِّقان إلاّ إذا كان وراءهما قصدُ الإحسان إلى الغير، وتكون المصلحة لأجله.
ج ـ استلزام العَبَث في خلق منافع الأشياء
من لوازم قول الأشاعرة أن منافع الأشياء تصبح غير مطلوبةٍ وغير مقصودةٍ لله تعالى، وأنها لا تنشأ إلاّ عن عبثٍ. مثلاً: خلق العين لا يهدف إلى الرؤية، وخلق الأذن لا يهدف إلى السماع، وخلق اللسان لا يهدف إلى التكلُّم، وهكذا خلق الرجل لا يهدف إلى المشي، وبعبارةٍ أخرى: يمكن القول بأنه عندئذٍ تنتقض كثيرٌ من سُنَن الكون وقوانينه، ويصبح الطبّ لغواً، حيث لم تخلق الأدوية للعلاج! كما لا يعوَّل على النجوم وسائر العلوم! هذا كلّه نتيجة احتمال العَبَث في فعل الله تعالى، وهو منزَّهٌ عن ذلك كلِّه.
د ـ استلزام إبطال النبوّات
أما الطامة الكبرى في نتائج قولهم فهي إبطال نبوّة الأنبياء، وعدم الجزم بصدقهم، بل ينتهي إلى الجَزْم بكذبهم؛ حيث إنها تثبت بمقدّمتين:
الأولى: إن الله تعالى إنما يجري المعاجز على يد المدَّعي للنبوة؛ ليصدقه الناس.
الثانية: مَنْ صدَّقه الله تعالى صادقٌ.
وبإنكار إحدى المقدّمتين ينسدّ الطريق أمام إثبات النبوّة! وإذا لم يُجْرِ الله تعالى المعجزة لغرض التصديق إذن بإمكان أيّ إنسانٍ أن يدّعي النبوة. وهذا نوعٌ من الإغراء بالجهل؛ لأنه يحقّ لكلّ مَنْ رأى خارقاً للعادة يتكرَّر على يدي شخص الرسول أن يصدِّقه؛ إذ العقل يصدِّق الرسول بعد رؤية المعجزة، فحينئذٍ لو لم يكن إرسال الله لرسوله بمعنى تصديقه فهذا معناه إغراءُ العباد بالجهل، وهو بعيدٌ عن ساحته المقدَّسة، وسيكون مَنْ يدَّعي النبوّة كاذباً لأنه يدّعي أن الله أرسله.
والمقدّمة الثانية أيضاً باطلةٌ عند الأشاعرة أنفسهم؛ لأنّهم يعتبرون الله خالق الضلالة والشرّ والشرك و المعاصي وأنواع الفساد الصادرة عن البشر، فإذا كان الحال هكذا فلا يكون تصديق الكاذب قبيحاً([23]).
هـ ـ استلزام تسويغ تعذيب المطيع وإثابة العاصي
ومن جملة لوازم نفي الغرض لأفعاله تعالى تسويغ تعذيب أكثر الناس طاعةً لأوامر الله وانتهاءً بنواهيه سبحانه وتعالى بألوان العذاب، أي أنبياء الله! وكذا جواز إثابة أكثر الخلق ذنوباً، أي إبليس وفرعون، بأعلى مراتب الثواب! فإذا كان الله لا يقوم بالأفعال لغايةٍ وغرضٍ فمعناه اختلال نظام الثواب والعقاب، ولا يبقى فرقٌ بين النبيّ وإبليس؛ حيث إن الإثابة والتعذيب غير معلَّلين بغرض الطاعة والعصيان.
ترى كيف يمكن القبول بتوجيه هذه التُّهَم الملفَّقة إلى الله تعالى؟ إذا كان البشر في حياتهم الاعتيادية لا يرضون بتبادل هكذا تُهَمٍ بينهم، بل قد يقابلونها بالضرب والشَّتْم، فكيف يمكن القبول بنسبتها إلى الله تعالى؟!([24]).
2ـ الأدلّة المثبتة لنظريّة الغاية
من الأدلّة التي يتمّ الاستناد إليها بكثرةٍ في كلمات أصحاب هذه النظريّة هي الآيات القرآنية التي تنفي كلّ أنواع العَبَث والباطل عن الله تعالى([25]).
أـ الآيات القرآنيّة
هناك طائفتان من النصوص القرآنية التي تذكر أغراضاً للفعل الإلهيّ:
الأولى: تصرِّح بنفي العَبَث والباطل عن الله تعالى، ومنها:
1ـ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: 115)؛ ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ (الدخان: 38).
2ـ ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ (الأنبياء: 16).
3ـ ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: 27).
الثانية: تزيح الستار عن غاية بعض أفعال الله، ومنها:
1ـ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).
2ـ ﴿…فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً﴾ (الأحزاب: 37).
3ـ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يعْلَمُونَ﴾ (يونس: 5).
4ـ ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ (الإسراء: 12).
5ـ ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً﴾ (النساء: 160).
6ـ ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ داوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (المائدة: 78).
7ـ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).
قال العلاّمة الحلّي: الآيات الدالة على الغاية لأفعال الله لا تُعَدّ ولا تحصى.
ويقول الشيخ السبحاني، بعد ذكر عددٍ من هذه الآيات: «وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة، الذين اشتهروا بالتعبُّد بظواهر النصوص تعبُّداً حرفيّاً، غير مفوّضين معانيها إلى الله سبحانه، ولا مؤوِّليها، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية أو تأويلها، وهم يفرّون منه، وينسبونه إلى مخالفيهم»([26]).
إذن بناءً على ما ذُكر من الآيات القرآنية يمكن القول بتصريح القرآن الكريم بهذا الموضوع. ولو اعتبرنا معنى صفة الحكيم أنه مَنْ تعلّل أفعاله بالغاية فالآيات العديدة التي تؤكِّد على هذه الصفة تندرج في هذا السياق بأجمعها.
ب ـ الحكمة الإلهيّة
يبدو أن الحكمة الإلهيّة هي أهمّ دليلٍ لإثبات نظريّة الغاية عند المعتزلة. واهتمامهم بنفي العَبَث وإثبات الحكمة لله تعالى ظاهرٌ بوضوحٍ في كلماتهم. وعلى سبيل المثال: يقول الشهرستاني عن موقف المعتزلة: «قالت المعتزلة: قد قام الدليل على أن الربّ تعالى حكيمٌ، والحكيم مَنْ تكون أفعاله على إحكامٍ وإتقانٍ، فلا يفعل فعلاً جزافاً، فإنْ وقع خيراً فخير، وإنْ وقع شرّاً فشرّ، بل لا بُدَّ أن ينحو غرضاً، ويقصد صلاحاً، ويريد خيراً. ثم إن النفع ينقسم إلى ما يرجع إلى الفاعل إنْ كان محتاجاً إليه؛ أو إلى غيره، وإنْ كان الفاعل غنيّاً غير محتاجٍ، كإنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى، مستحسنٌ في العقل، ورُبَما لا يكون المنقذ مكتسباً نفعاً ومتوقّعاً حمداً أو أجراً، وعن ذلك ورد في بعض الكتب: «ما خلقتُ الخلق لأربح عليهم، بل خلقتُهم ليربحوا عليّ»([27]). إذن الحكمة الإلهية هي الحَجَر الأساس لهذه الوجهة، والحكمة الإلهية كما تذهب إليها المعتزلة تقتضي تعليل جميع أفعال الله بالأغراض، إلاّ أن الأشاعرة في المقابل يعتبرون الحكمة إتقاناً للصنع، ويعتقدون أن الحكمة ليست إلا تحقُّق الأفعال الإلهية على أساس علمه تعالى.
نظريّة الحكماء، وأدلّتها
لقد جعل بعض المتكلِّمين، كالشريف الجرجاني، الحكماء في هذه المسألة بجانب الأشاعرة، حيث قال: «أفعال الله تعالى ليست معلّلةً بالأغراض. إليه ذهبَتْ الأشاعرة، وقالوا: لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيءٍ من الأغراض والعلل الغائية. ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيّين. وخالفهم فيه المعتزلة، وذهبوا إلى وجوب تعليلها. وقالت الفقهاء: لا يجب ذلك، لكنّ أفعاله تابعةٌ لمصالح العباد؛ تفضُّلاً وإحساناً»([28]). ويقرِّر الشهرستاني دليل الحكماء بقوله: «قد قالت الفلاسفة: واجب الوجود لا يجوز أن يفعل فعلاً لعلّةٍ، لا ليحمد ويتزيَّن بالحمد والشكر، ولا لينتفع أو يدفع الضَّرَر، ولا لأمرٍ داعٍ يدعوه ويحمله على الفعل، والعالي لا يريد أمراً لأجل السافل، بل الأفعال صدرت عن المبادئ الأول، وهي استندَتْ إلى العقل الفعّال، وإنما أبدع العقل بلوازمه، وأبدع بتوسُّطه سائر الأشياء على وجه اللزوم عنه ضرورة؛ إذ ليس يتصوّر وجود واجب الوجود إلاّ كذلك»([29]).
لكنْ في هذه النسبة، لا أقلّ بالنسبة إلى جميع الفلاسفة، نظرٌ.
وكما قال بعض العلماء: الخلط بين قول الأشاعرة والحكماء خطأٌ واضح([30]).
وهذا هو الملاّ صدرا الشيرازي، من أعلام الفلسفة الإسلامية، يصرِّح بأن قوماً من المعطِّلة جعلوا فعل الله تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة، مع أنك قد علمْتَ أن للطبيعة غاياتٍ([31]).
وفي كلامٍ آخر له يقول، ردّاً على اتهام الفلاسفة بنفي الغاية: «فإنهم ما نفوا الغاية والغرض عن شيءٍ من أفعاله مطلقاً، بل إنما نفوا في فعله المطلق، وفي فعله الأوّل، غرضاً زائداً على ذاته تعالى، وأما ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة والمقيّدة فأثبتوا لكلٍّ منها غايةً مخصوصة، كيف وكتبهم مشحونةٌ بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها، كما يعلم من مباحث الفلكيات ومباحث الأمزجة والمركبات وعلم التشريح وعلم الأدوية وغيرها؟!»([32]).
والامام الخميني&، رغم ردّه على القول المشهور لمتكلِّمي المعتزلة وبعض الإمامية، لا يترك لاحقاً الردّ على الأشاعرة في ما يرتبط ببحث الإرادة والطلب، وافتتح حديثه بالقول: «وأمّا الأوامر والنواهي الإلهية ممّا أوحى الله إلى أنبيائه فهي ليست كالأوامر الصادرة منّا في كيفيّة الصدور، ولا في المعلّلية بالأغراض والدواعي؛ لأنّ الغايات والأغراض والدواعي كلّها مؤثِّرات في الفاعل، ويصير هو تحت تأثيرها، وهو غير معقولٍ في المبادئ العالية الروحانية، فضلاً عن مبدأ المبادئ جلَّتْ عظمتُه؛ لاستلزامه للقوّة التي حاملها الهيولى، وتركّب الذات من الهيولى والصورة والقوّة والفعل والنقص والكمال، وهو عين الإمكان والافتقار، تعالى عنه، فما هو المعروف بينهم أنّه تعالى يفعل للنفع العائد إلى العباد»([33]).
إن مسألة تعليل أفعال الله بالغايات، وعودتها إلى العباد والخلق، واضحةٌ جدّاً في خطابات المعتزلة وبعض الإمامية. وعلى سبيل المثال: يصرِّح العلاّمة الحلّي بنسبة هذا القول إلى الإمامية، حيث قال: «قالت الإمامية: إن الله تعالى إنما يفعل لغرضٍ وحكمةٍ وفائدةٍ ومصلحةٍ ترجع إلى المكلَّفين، ونفعٍ يصل إليهم»([34]).
ولقد عارض الإمام الخميني& هذا القول بصراحةٍ، وقال بفساده. لكنّه رغم ذلك لا يقول بخلوّ الأفعال الإلهية عن الغايات، وأضاف موضِّحاً هذه النقطة بأنها لا تستلزم العَبَث وعدم الغاية في أفعال الله: «ولا يلزم ممّا ذكرنا أن يكون فعله لا لغرضٍ وغايةٍ، فيكون عبثاً؛ لأنّ الغاية في فعله وهو النظام الأتمّ التابع للنظام الربّاني هو ذاته تعالى، والفاعل والغاية فيه تعالى واحدٌ لا يمكن اختلافهما، لا بمعنى كونه تعالى تحت تأثير ذاته في فعله، فإنّه أيضاً مستحيلٌ؛ لوجوه، بل بمعنى أنّ حبّ ذاته مستلزمٌ لحبّ آثاره استجراراً وتَبَعاً، لا استقلالاً واستبداداً، فعلمُه بذاته علمٌ بما عداه في مرتبة ذاته، وعلّةٌ لعلمه بما عداه في مرآة التفصيل، وحبُّه بذاته كذلك، وإرادته المتعلِّقة بالأشياء على وجهٍ منزَّه عن وصمة التغيُّر والتصرُّم؛ لأجل محبوبيّة ذاته، وكونها مرضية، لا محبوبية الأشياء وكونها مرضيّةً استقلالاً»([35]).
فبالتالي الغاية في الفعل الإلهي، وهو النظام الأحسن نفسه، ليس إلاّ الذات الإلهية، لا بمعنى أنه يتصرف متأثِّراً بذاته؛ لأنه محالٌ، بل بمعنى استلزام حبّ الذات لحبّ الآثار تبعاً، وعلمه بذاته علمه بما سواه في مرتبة الذات، وعلمه بما عداه في مرآة التفصيل، وحبّ الله بذاته أيضاً كذلك([36]). ثمّ يشير إلى الحديث القدسيّ الذي يقول: «كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحبَبْتُ أن أُعْرَف فخلقْتُ الخَلْقَ لكي أُعرف»([37]).
كما استند إليه مَنْ سبق الإمام الخميني من الحكماء، كالفيض الكاشاني([38]).
قال العلاّمة الزنوري: ويظهر من هذه البيانات والتبيانات والتلميحات والإشراقات عند أرباب البصيرة والفطنة بطلان مذهب أرباب الاعتزال، الذي يعتقد تعليل أفعال واجب الوجود بالأغراض الزائدة على ذاته المقدّسة من جميع الجهات، ويقولون: إن الغرض في فعله المطلق هو إيصال الخير والمنفعة إلى العباد، لا الذات؛ لكي لا يستلزم الاستكمال([39]). وبما قاله الزنوري يمكن معرفة قول الحكماء بوضوحٍ، حيث يقول: التحقّق من أن جميع الأشياء مرادٌ لواجب الوجود بالذات، وهذا المراد خالٍ عن الغرض؛ لأن غرضه ورضاه تعلّقا بصدور هذه الأشياء، وهذه الأشياء بدَوْرها تقتضي ذاتها المعشوقة؛ إذ إن صدورها لأجل ذاته، فالغاية إذن ذاتُه تعالى([40]). لكنّ الفيّاض اللاهيجي يعتقد أن الفلاسفة يقولون نفس ما قاله متكلِّمو الامامية، وإنْ اختلفَتْ تعابيرهم؛ ومن جهةٍ أخرى يختلف قولهم عن قول الأشاعرة اختلافاً بيِّناً، وإنْ تشابها حَسْب التعابير، ويقول في مقارنةٍ بين رأي الفلاسفة والأشاعرة ومتكلِّمي الإمامية: «فإنْ قلتَ: أليس أفعال الله تعالى عند الإمامية معلّلة بالأغراض؟ قلتُ: نعم، لكنهم يفرّقون بين الغرض والغاية، فلا يجعلون الغرض علة لفاعليته تعالى، فيعنون بالغرض الحكم والمصالح التي تشتمل عليها الأفعال، ممّا يجده العقل، ويحكم به، ويصير به الفعل حَسَناً أو قبيحاً، فهم في ذلك يوافقون الحكماء بحَسَب المعنى، وإنْ لم يطلق عند الحكماء لفظ الغرض عليها، بل يجعلون لفظي الغرض والغاية مترادفين، بخلاف الأشاعرة، فإنهم يوافقون الحكماء في هذه المسألة بحَسَب اللفظ فقط»([41]).
وعليه، رغم قبول الإمامية بتعليل أفعال الله بالغاية، لكنهم يعنون به هنا الحكم والمصالح التي تتضمّنها الأفعال الإلهية، والتي تنتج صفات الحُسْن والقُبْح للأفعال. الفلاسفة والحكماء يوافقون على هذا التفسير من الغرض، والذي هو الفائدة في واقعه.
ومتكلِّمو الإمامية عندما يستخدمون كلمة الغرض يريدون بها الفائدة، لا ذلك الغرض الذي يكون علّةً لفاعلية الله سبحانه. والأشاعرةُ وإنْ أشبه قولهم حَسْب الظاهر قولَ الحكماء؛ حيث ينكر كلاهما الغرض في أفعال الله تعالى، لكنهم يخالفون الفلاسفة في المعنى. يقول السيد جمال الدين الآشتياني، موضِّحاً ذلك: «إن الغرض الذي نفاه الأشاعرة، وهو المصالح والحكم في فعله تعالى، أثبته الحكماء، لذا يلزم الأشاعرة باستخدام اللَّغْو والجزاف في فعله تعالى، والمعنى المنفيّ عند الحكيم والأشعري، أي المعنى المشترك بين المعنيين، انما هو بمجرّد اللفظ فقط»([42]). ويؤكِّد الشيخ السبحاني على هذه النقطة بقوله: إن الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل والغرض الراجع إلى فعله، فالاستكمال موجودٌ في الأول، دون الثاني، والقائل بكون أفعاله معلّلةً بالأغراض والغايات والدواعي والمصالح إنما يعني بها الثاني، دون الأول([43]).
وهناك استدلالاتٌ للفلاسفة في مسألة سلب الغاية عن الله تعالى، ومنها:
1ـ استلزام الغاية للاستكمال والنقص
الفاعل عندما يقوم بشيءٍ لأجل الغاية معناه أنه ناقصٌ؛ لأنه يطلب بذلك وجود تلك الغاية. إذن وجود الغاية له أحسن وأنسب، وإلاّ لم يكن غايةً له إطلاقاً. إذن الفاعل بالغاية مستكملٌ لذاته، مستفيد في واقع الأمر، وهو محالٌ في حقِّه تعالى([44]).
2ـ نقص الفاعليّة
إن تصور الغاية لفاعلٍ ما يساوي نقصانه في الفاعلية؛ لأن تصوُّرَ الغاية له معناه اكتمال فاعليّته بماهية الغرض، فلذا اشتهر القول بأن الغاية علّةٌ بماهيّتها لعلّية العلّة الفاعلية، معلولةٌ في وجودها للمفعول([45]). فالعلّة الغائية هي إحدى العلل الأربعة في الفلسفة، والمقصود أن ماهية العلة الغائية، والتي هي نفس الوجود الذهني لها، علّةٌ لعلية الفاعل، إلا أن تحقُّق المعلول الخارجي معلولٌ للعلة([46]).
لكنْ من الواضح أن الفلاسفة يعارضون القول بالغرض بمعنى العلة الغائية ـ وبه يظهر ما في كلام الفاضل المقداد، الذي يرى مسألة العلة الغائية في الفلسفة تأييداً لموضوع تعليل أفعال الله بالغاية، حيث يقول: «وذلك [سلب الغرض عن أفعاله تعالى] باطلٌ باتّفاق الفقهاء والحكماء… وأمّا الحكماء فإنهم قالوا: كلّ حادثٍ لا بُدَّ له من علل أربع: الفاعل، والمادّة، والصورة، والغاية. والغاية هي الغرض»([47]) ـ، لكنّهم لا يعارضون تفسير الغرض بالحكمة والمصالح، فلعلّ ما قاله أبو الحسن العامري من قدماء الفلاسفة المسلمين يأتي في هذا السياق، حيث قال: إنا قد أيقنّا أن الوضع الحكمي أبداً يكون نبعاً للكمال، أعني به أن الحكيم لا يفعل شيئاً باطلاً، بل يكون إيجاده أبداً لأجل غرض حكمي، خاصّي به، قد أعدّه له، وأوجده لأجله([48]). وكما يبدو من كلام الإمام الخميني، وغيره من الفلاسفة، فإنهم لا يرون في إرجاع الأغراض الإلهية إلى الخلق حلاًّ للمشكلة، وتظل مشكلة التنقيص لله سبحانه قائمةً، واعترض عليه بأن غرض الفاعل حتى لو كان إرجاع الفائدة إلى الغير يستلزم الحاجة والإمكان في ذاته تعالى، حيث الغرض غير حاصلٍ عنده قبل الإيجاد، ويتمّ الغرض عنده بالإيجاد([49]).
نظرية الماتريدية وبعض متكلِّمي الإماميّة (التفضُّل على العباد)
وقد سلك بعضُ المتكلِّمين طريقةً وسطى، واعتبر تعليل الأفعال الإلهية بالأغراض العائدة إلى العباد نوعاً من التفضُّل والامتنان من قِبَل الله سبحانه عليهم.
وينسب الشيخ السبحاني هذه النظرية إلى الماتريدية، وصاحب المقاصد([50]). وقبله هناك مَنْ نسب هذا القول إلى الفقهاء، فمثلاً: يقول الشريف الجرجاني: «أفعال الله تعالى ليست معلّلةً بالأغراض، إليه ذهبَتْ الأشاعرة…، وخالفهم فيه المعتزلة، وذهبوا إلى وجوب تعليلها، وقالت الفقهاء: لا يجب ذلك، لكنّ أفعاله تابعةٌ لمصالح العباد تفضُّلاً وإحساناً»([51]).
كما مرّ معنا في تحليل نظرية الأشاعرة، هناك فرقٌ بين القول بتعليل الأفعال بالغاية وبين حَصْرها في دائرة مصالح العباد، ولا ملازمة بينهما على الإطلاق. فهنا إذا كان أصل مسألة تعليل الأفعال بالغاية عند أصحاب هذا القول نوعاً من التفضُّل يمكن اعتباره قولاً مستقلاًّ في عرض الأقوال السابقة، لكنْ لو كان التفضُّل والإحسان ناظرين إلى مصالح العباد، بمعنى كون تعلّق غرض الله بمصالح العباد عن تفضُّلٍ وإحسانٍ، عندئذ لا يمكن اعتباره قولاً مستقلاًّ في هذا المجال؛ لأنه من الممكن أن يكون أصحاب النظرية قائلين بلزوم أصل للغاية لأفعال الله، إلا أنهم يعتبرون تحديد الغاية في مصالح العباد تفضُّلاً.
ويعتقد بعض المحقِّقين المعاصرين([52]) أن قدماء الإمامية، خلافاً للمعتزلة، لم يكونوا يقبلون القول بوجوب الغاية، بل كانوا يقولون بنظرية التفضُّل. فبغضّ النظر عن التلميحات الموجودة في كلماتهم هنا وهناك، يبقى عدم قبولهم لقاعدة اللطف والأصلح خير شاهدٍ على هذا المطلب. إن من أهمّ الآثار التي تركَتْها مسألة تعليل الأفعال بالغاية هو القبول بقاعدة اللطف والأصلح، والتي اقترحَتْها المعتزلة لأوّل مرّةٍ، ومن ثمّ مال إليها متكلِّمو الإمامية، ودمجوها في القواعد الكلامية عندهم.
النتيجة
وبما تقدَّم من مراجعة أقوال المدارس الكلامية والفلسفية المختلفة ونصوصها حول موضوع تعليل أفعال الله بالغايات نخرج بالنتيجة التالية: إن منطلق الجميع للتنظير ومصبّ اهتماماتهم الدينية هو تنزيه ساحة الله تعالى، ولكنْ اختلفت زوايا البحث ونظرتهم تجاه المسألة، وبالتالي اختلفَتْ الحلول التي قدّموها للخروج من مشكلة تنقيص ساحة الله. فجماعة الأشاعرة اهتمّوا باختيار الله المطلق، وعدم إلزام الله بشيءٍ، وأنكروا جميع أنواع الغرض عن ساحة الله. ونظراً إلى حكمته تعالى ذهبت جماعةٌ أخرى إلى أن نفي الأغراض ينافي ساحته المقدّسة، ويعلِّلون أفعال الله بالغايات والأغراض. وسلك آخرون طريقةً وسطى بينهم، وتمسَّكوا بتفضُّل الله وامتنانه على العباد. ويبدو بعد التأمُّل في أطراف القضية أنه بإمكاننا أن نقرِّب هذه الاتجاهات من بعضها البعض.
فالأشاعرة لا يعارضون حكمة الله بالتأكيد، بل يصرِّحون بهذا الأمر، إلا أنهم حيث يعتبرون الغرض من مصاديق المحدودية لله يرفضون هذا القول، وكأنهم لم يلتفتوا إلى أن الغرض يمكن تصويره بمعنيين: الفلسفي (وهو العلّة الغائية المؤدّية إلى النقص في ساحة الله)؛ وغير الفلسفي (بمعنى الفائدة والمصالح في أفعال الله). ولذلك نرى بعض متكلِّمي الامامية يصرِّحون بأن مرادهم من الغرض ليس الغرض الفلسفي، وحتى الفلاسفة المنكرين لتعلّق الغرض بمصالح العباد يتحفَّظون على التصوير الفلسفي للغرض، ويعتقدون أن الذات الإلهية هي الغرض الوحيد، وليست مشكلتهم مع مصالح وفوائد تترتَّب على أفعال الله تعالى.
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم، وطالبٌ في مرحلة الدكتوراه في قسم «الكلام الإمامي» في جامعة طهران ـ پرديس فارابي.
([1]) من جمله الموضوعات المتأثرة بهذه المسألة هي قاعدة تعليل الأحكام أو تبعية الأحكام للمصالح والمقاصد. ولمزيد من المعرفة راجِعْ كتاب (فقه المصلحة)، للشيخ حيدر حبّ الله.
([3]) ففي كشف المراد، للعلاّمة الحلي: 306: وذهبت الأشاعرة إلى أن أفعال الله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض والمقاصد. وفي النافع يوم الحشر، للفاضل المقداد: 29: ذهبت الأشاعرة إلى أنه تعالى لا يفعل لغرضٍ.
([4]) ففي اللمعات الإلهية، لعبد الله الزنوزي: 398: إنّهم نفوا وجود الأغراض مطلقاً عن الكائنات على وجه الإطلاق.
([5]) لمعرفة المزيد في ما يتعلَّق بهذا الدليل وفروعه راجِعْ: أبكار الأفكار، لسيف الدين الآمدي 2: 153 ـ 162.
([6]) لقد ذكره بعض متكلِّمي الأشاعرة كدليلٍ مستقلّ. راجِعْ: الأربعين، للفخر الرازي 1: 350؛ شرح المواقف، للمير سيد شريف 8: 203.
([7]) سيف الدين الآمدي، أبكار الأفكار في أصول الدين 2: 152 ـ 153.
([8]) انظر: أبو بكر الباقلاني، تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل: 51؛ الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين 1: 351 ـ 352؛ أبو إسحاق الشيرازي، الإشارة إلى مذهب أهل الحقّ: 384.
([9]) أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، الزهد والرقائق: 79.
([10]) ولقد أجاب الشيخ السبحاني عن الإشكال بنفس الجواب، حيث يقول: ولكنّ الاستدلال ضعيف غايته؛ لان الاستكمال بالأغراض إنما يلزم إذا كان الغرض عائداً إليه سبحانه، لا إذا كان تفضُّلاً على العباد، واستصلاحاً لأحوالهم. راجِعْ: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف 2: 418.
([11]) التعليقة الأولى من 14 رسالة، تصحيح: محمد باقر السبزواري: 68.
([12]) راجِعْ: الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين 1: 350.
([14]) هذا إذا قلنا بأن الله هو المشرِّع؛ لكنْ لو قلنا بالولاية التشريعية لرسول الله|، بمعنى حقّ تشريع الأحكام من قِبَله استقلالاً، فيمكن نسبة التشريع إليه. وهذا أيضاً ينفعنا كشاهدٍ وجداني لتقريب ما تقدَّم بيانه.
([15]) د. علي رضا فارسي نجاد، دراسة نقدية لموقف المتكلِّمين من تعليل الخلق بالغاية، فصلية (كلام آيينه معارف)، العدد 22، ربيع عام 13۸۹.
([16]) على سبيل المثال راجِعْ: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، للعلاّمة الحلّي: 306: ذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض والمقاصد؛ وكذا راجِعْ: النافع يوم الحشر، للفاضل المقداد: 29: ذهبت الأشاعرة إلى أنه تعالى لا يفعل لغرض.
([17]) راجِعْ: اللمعات الإلهية، لعبد الله الزنوري: 398: بل قاموا بنفي الغايات والأغراض على وجه الإطلاق.
([18]) أبكار الأفكار في أصول الدين 2: 151.
([19]) راجِعْ: أبكار الأفكار في أصول الدين 2: 151.
([20]) كما أكَّد عليه بعض العلماء، على سبيل المثال راجِعْ: الأنوار الجلالية في شرح الفصول النصيرية: 135، حيث يقول فيه: وهذا مذهب أصحابنا الإمامية والمعتزلة، خلافاً للأشاعرة؛ وكذلك راجِعْ: محمد بن أحمد خواجكي، النظامية في مذهب الإمامية: 121، حيث يقول: اعلم أن الإمامية والمعتزلة يعتقدان تعليل الأفعال الإلهية بالأغراض، وأنها تتبع الدواعي.
([21]) راجِعْ: العلاّمة الحلّي، نهج الحقّ وكشف الصدق: 89.
([22]) راجِعْ: أبكار الأفكار في أصول الدين 2: 157.
([23]) نهج الحقّ وكشف الصدق: 91 ـ 92.
([25]) محمد حسن آل ياسين، أصول الدين: 140، الشيخ السبحاني، الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل 1: 269؛ العلاّمة الحلّي، نهج الحق وكشف الصدق: 93.
([26]) السبحاني، الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل 1: 270.
([27]) نهاية الأقدام في علم الكلام: 223 ـ 224.
([28]) الشريف الجرجاني، شرح المواقف 8: 202.
([29]) نهاية الأقدام في علم الكلام: 222.
([30]) السبحاني، الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل 1: 270.
([31]) صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 2: 259 ـ 260.
([32]) راجِعْ: صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 7: 84 ـ 85.
([33]) راجِعْ: الإمام الخميني، طلب وإراده: 24 ـ 25.
([34]) راجِعْ: العلاّمة الحلّي، نهج الحق وكشف الصدق: 89. وانظر أيضاً: العلاّمة الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 306.
([35]) راجِعْ: الإمام الخميني، طلب وإراده: 25 ـ 26.
([37]) بعد مراجعة مصادر الخاصة والعامة لم نحصل على مصدرٍ موثوقٍ به للحديث! نعم، قد ذكر مرسلاً في المصادر المتأخِّرة، ولا سند له على الإطلاق، فراجِعْ: العلامة المجلسي، بحار الأنوار 84: 199؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 5: 163؛ رجب بن محمد الحافظ البرسي، مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين×: 41؛ فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) 28: 194؛ الملاّ مهدي النراقي، جامع الأفكار وناقد الأنظار 1: 197. وقد نسبت بعضُ المصادر المتقدّمة هذا الحديث إلى الحشوية، انظر: أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، فهم القرآن ومعانيه: 245.
([38]) راجِعْ: الفيض الكاشاني، أصول المعارف: 79 ـ 80.
([39]) راجِعْ: عبد الله الزنوري، اللمعات الإلهية: 39.
([40]) انظر: المصدر السابق: 395.
([41]) راجِعْ: الفيّاض اللاهيجي، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام 1: 241 ـ 242.
([42]) راجِعْ: مقدّمة السيد جلال الدين الآشتياني على كتاب الفيض الكاشاني، أصول المعارف،: 115.
([43]) السبحاني، الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل 1: 263 ـ 264.
([44]) راجِعْ: الفيّاض اللاهيجي، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام 1: 241. وقد استدلّ الفيض الكاشاني بما يشبه هذا؛ ليثبت أن الغرض هو ذات الله تعالى. راجِعْ: الفيض الكاشاني، أصول المعارف،: 79.
([45]) راجِعْ: الخواجه نصير الدين الطوسي، تجريد الاعتقاد: 137 ـ 138.
([46]) لمعرفة المزيد راجِعْ: مقدّمة السيد جلال الدين الآشتياني على كتاب الفيض الكاشاني، أصول المعارف: 111 ـ 112؛ الفياض اللاهيجي، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام 1: 241.
([47]) انظر: الفاضل المقداد، الأنوار الجلالية في شرح الفصول النصيرية: 135 ـ 136.
([48]) راجِعْ: أبو الحسن العامري، إنقاذ البشر من الجبر والقَدَر: 236.
([49]) راجِعْ: الملاّ إسماعيل الإسفراييني، أنوار العرفان: 132.
([50]) انظر: السبحاني، بحوث في الملل والنحل 3: 45.
([51]) راجِعْ: الشريف الجرجاني، شرح المواقف 8: 202.
([52]) انظر: صوتيات دروس الدكتور برنجكار، سلسلة دروس في القواعد الكلامية، قاعدة اللطف.
www.berenjkar.ir