أحدث المقالات

د. حاتم الجياشي(*)

الخلاصة

إن مسألة المبيت في منى من المسائل المهمة والجوهرية في الحجّ، والتي أخذت مأخذها في بحوث الخارج لدى الفقهاء؛ لأهميتها، وأصبحت موضوعاً للأخذ والردّ والنقض والإبرام. ومن هذا المنطلق تمّ بحثها والجواب عن السؤال الأساس، وهو: هل يجب المبيت في النصف الأول من الليل أو يكفي النصف الثاني؟ وهل يختصّ النصف الثاني فقط بمَنْ فاته المبيت في النصف الأوّل أو أن المكلّف مخيّر بين نصفي الليل؟ كلّ هذا بعد الفراغ من وجوب المبيت ليلة 11 و12 في منى. وأما المنهج المتَّبع في هذا البحث فهو توضيح المفاهيم التصوُّرية للموضوع، وكذلك عرض الأقوال في المسألة، وطرح أدلتها، ومن ثمّ مناقشتها واحداً واحداً، وصولاً إلى الرأي المختار، مع أدلته، وخلاصته: إن المكلّف مخيّرٌ في تحقيق الامتثال في وجوب المبيت في منى بين النصف الأوّل والثاني.

مقدّمةٌ

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (البقرة: 203).

تعدّ أعمال منى من أهم الواجبات الابتلائية في مناسك الحج، ومنها: مسألة المبيت في منى ليلة 11 وليلة 12 من ذي الحجّة. وقد وقع فيها الاختلاف بما لا يقلّ عن خمسة آراء. وتزداد الحاجة إلى بحث هذه المسألة مع ازدياد أعداد الحجيج في كلّ عام، وتتأكّد الحاجة إلى معرفة وجوه الاختلاف في المسألة، والبحث في أدلتها، وخصوصاً مع تباين تلك الآراء بشكلٍ كبير.

فقد ذهب بعضٌ إلى وجوب المبيت في النصف الأول من الليل؛ بينما رأى آخرون أن إجزاء النصف الثاني يختصّ بمَنْ فاته النصف الأول؛ وذهب بعضٌ إلى التخيير بين النصفين، على تفصيلٍ؛ وفصّل آخرون بالتخيير في ليلة 11 ولزوم مبيت كلّ الليل في الليلة 12؛ ذهب بعضٌ آخر إلى الاستحباب، كما سيتضح ذلك خلال البحث إنْ شاء الله تعالى.

وقبل الشروع في البحث لا بُدَّ أن نبين المفاهيم التصوُّرية:

(مِنَى) لغةً كـ (إِلَى)، وقد تكرَّر ذكرها في الأحاديث، وهي اسم موضع بـمكّة على فرسخٍ، والغالب عليه التذكير فيُصرف، وحدُّه من العقبة إلى وادي محسّر. واختلف في وجه التسمية‌([1]).

وأما اصطلاحاً فهي بلدةٌ قرب مكة، ينزلها الحجّاج أيام التشريق. يجوز فيها التذكير، والتأنيث، والصرف وعدمه([2]).

وأما سبب تسميتها فقد ذكرت الروايات العديد من الأسباب التي سُمِّيت من أجلها هذه الأرض بمِنَى، ومنها: ما رُوي عن الإمام الرضا× من أن جبرائيل× جاء لإبراهيم× في هذه الأرض، وقال له: تَمَنََّ على ربِّك ما شئتَ، فتمنّى إبراهيم في نفسه أن يجعل الله مكان ابنه إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه؛ فداءً له، فأُعطي مُناه([3]).

وجوب المبيت في مِنَى

هذا الواجب لا خلاف فيه بين الفقهاء، بل هو موضع اتفاقٍ بينهم. وأما ما ذكر عن الشيخ في التبيان([4]) من استحباب المبيت، وكذا عن الشيخ الطبرسي في مجمع البيان، فلا يعتدّ به؛ فإن الوجوب متّفق عليه، وهو موضع تسالم بين الفقهاء، بل إن الشيخ الطوسي لم يلتزم بالاستحباب في بقيّة كتبه.

ويدلّنا على الوجوب ـ مضافاً إلى الآية الكريمة: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ (البقرة: 203)، المفسّرة بأيام التشريق، قال الطبرسي في المجمع: «هذا أمر من الله للمكلَّفين بأن يذكروه في أيام معدودات، وهي أيام التشريق، ثلاثة أيام، بعد الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق. والأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير، وهو الثالث من التشريق»([5]) ـ الرواياتُ الخاصة، ومنها: صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله× قال: «إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبيت إلا بمنى، إلاّ أن يكون شغلك في نسكك، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى»([6]).

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما’، أنه قال: «في الزيارة إذا خرجت من مِنَى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بمنى»([7]).

ومنها: صحيحة معاوية: «لا تبت ليالي التشريق إلاّ بمنى»([8]).

وغيرها من الروايات.

ويبدو من بعض الروايات المفروغية من وجوب المبيت في منى، ورسوخ وجوبه في أذهان الرواة، فسألوا عمَّنْ خالف وبات في مكة أو غير منى، فراجِعْ في أول أبواب العَوْد من منى في (الوسائل).

وأما كلمات الفقهاء فقد دلَّت على الوجوب أيضاً:

قال العلاّمة: «فإذا قضى الحاج مناسكه بمكة من طواف الزيارة والسعي وطواف النساء وجب عليه العود يوم النحر إلى منى، والمبيت بها ليالي التشريق، وهي: ليلة الحادي عشر والثاني والثالث عشر»([9]).

وقال السيد في المدارك: «وهذا الحكم مجمعٌ عليه بين الأصحاب»([10]).

وأما فقهاء العامة فقد ذهب عطاء، وعروة، وإبراهيم، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وأحمد ـ في إحدى الروايتين ـ، إلى الوجوب، وفي الرواية الأخرى أنه مستحبّ، وبه قال الحسن البصري([11]).

مفهوم البيتوتة

وهذا الأمر ينفعنا وتترتَّب عليه ثمارٌ، من قبيل: لو كانت البيتوتة بمعنى الكون في الليل والاستيعاب فيجب المبيت في منى تمام الليل، إلا إذا دلَّنا الدليل الخاص على غير ذلك.

والبيتوتة في اللغة من (بات)، وهو بحَسَب غير واحد من اللغويين بمعنى الكون في الليل. قال الزجاج، كما حكاه ابن سيده في المحكم([12]): «كلّ مَنْ أدركه الليل فقد بات». وقال الخليل، كما في العين([13]): «البيتوتة دخولك في الليل، تقول: بِتُّ أصنع كذا إذا كان بالليل». وقال ابن سيده: «بات يفعل كذا وكذا أي يفعله ليلاً». وقال الحريري: «معنى بات أظلّه المبيت وأجنّه الليل». وقال الجوهري في الصحاح([14]): «بات يفعل كذا إذا فعله ليلاً، كما يقال: ظلّ يفعل كذا إذا فعله نهاراً». ونحوه ما في المصباح المنير([15]).

إذن (بات) بمعنى الكون في الليل، أي متواجداً في الليل. وهذا لا يقتضي الاستيعاب. وعليه فالمبيت بمِنَى لا يقتضي أن يكون في تمام الليل بها، بل إذا مضى عليه فيها وقتٌ معتدّ به يصدق بحَسَب اللغة أنّه بات بها.

وأما عُرْفاً فالأمر واضحٌ أيضاً؛ إذ لا ينبغي الشكّ في صدق أنّ فلاناً بات في بيت زيدٍ مثلاً إذا نزل في بيته عند منتصف الليل مثلاً، وبقي إلى السَّحَر ـ أي بقي وسط الليل بهذا المقدار ـ، فيصدق أنّه بات عند زيدٍ، مع أنّه لم يستوعب الليل.

ولكنْ يمكن أن يُقال: إن ما ذكره النحاة من أن (بات) بمعنى الكون في الليل، وأنه لا يدلّ على الاستيعاب؛ لأنه من أخوات (كان)، فيأتي ناقصاً، غير أنه يمكن أن يأتي (بات) تامّاً، كما ذكره غير واحدٍ، فلاحظ تهذيب اللغة([16])؛ ولاحظ أيضاً ما ذكره صاحب الطراز([17])، وهذه عبارته: «بات يبيت: أقام ليلاً، سواء نام أم لم ينم، وكلُّ شيء مضى عليه الليل فقد بات، ومنه البائت من اللحم وغيره إذا مضت عليه ليلة، وبات زيد القوم وبهم: أتاهم ونزل بهم ليلاً، وبات فلان: تزوَّج ـ وهذا   كنايةٌ ـ».

قال: (وبهذه المعاني تامّ) أي يكون (بات) فعلاً تامّاً.

قال: (وبات يفعل كذا: إذا فعله في جميع الليل، وبات زيد مهموماً: كان في جميع الليل كذلك، وبات سارياً: سار طول الليل؛ وهو بهذه المعاني ناقص)، أي يأتي تامّاً ويأتي ناقصاً؛ فالتام بمعنى أنه أقام في الليل، وهو معناه المعروف.

ويمكن جوابه: إننا لا نجد فرقاً بين قولنا ـ مثلاً ـ: (بات الرجل ماشياً في ليلة الأربعاء)، وهنا بات فعل ناقص، وبين قولنا: (بات المسافرون ليلتهم بالعراء)، وهنا بات جاء فعلاً تامّاً، فالعُرْف لا يفرِّق في الدلالة من حيث الاستيعاب وعدمه.

والذي يهوِّن الأمر أن الروايات في محلّ كلامنا ـ البيتوتة في منى ـ قد حدّدت ذلك، فانظر صحيحة معاوية بن عمار: «إذا خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح بغيرها»([18]). وهي تدلّ على أن الاستيعاب ليس شرطاً في تحقق المبيت.

وذكر السيد الخوئي&، كما في مستند المناسك([19])، «أنّ البيتوتة في منى المأمور بها في النصوص متقومة في مفهومها بالمكث في مجموع الليل، خرجنا في النصف الأخير بالنصوص المتقدّمة، فيبقى الباقي تحت الإطلاق».

وعلى ذلك، فمقتضى الصناعة ـ لو لم يَرِدْ دليلٌ على الخلاف ـ هو عدم الاجتزاء بالمبيت في النصف الثاني، وعدم وجوبه ولو مترتِّباً على ترك المبيت في النصف الأول.

والخلاصة: إنه يمكننا القول بوجوب الاستيعاب، وإن البيتوتة معناها الكون في الليل مع الاستيعاب، لولا وجود النصوص المقيّدة لهذا الإطلاق.

اقوال الفقهاء، مطارحاتٌ نقديّة

لقد اختلفت الآراء في هذه المسألة؛ تَبَعاً لفهم الدليل، في أقوال رُبَما يصل عددها إلى تسعة، إلا أنه يمكن إرجاع بعضها إلى البعض الآخر، فتكون الأقوال الرئيسة في المسألة خمسة أقوال، وهي:

1ـ وجوب المبيت في النصف الأوّل من الليل

وذهب إليه ابن الجنيد، وحكاه عنه العلاّمة في المختلف([20]). وهذا القول اختاره المحقّق في الشرائع، حيث قال: «فيجب عليه أن يبيت بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر. فلو بات بغيرها كان عليه عن كلّ ليلةٍ شاة، إلاّ أن يبيت بمكّة مشتغلاً بالعبادة، أو يخرج من منى بعد نصف الليل»([21]).

واختاره أيضاً العلاّمة في القواعد، فقال: «فإذا طاف طواف النساء فليرجع إلى منى، ولا يبيت ليالي التشريق إلا بها، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويجوز لمَنْ اتَّقى النساء والصيد النفر يوم الثاني عشر. ولو بات الليلتين بغير منى وجب عليه عن كلّ ليلةٍ شاة، وكذا غير المتّقي لو بات الثالثة بغيرها، إلاّ أن يبيتا بمكّة مشتغلين بالعبادة، أو يخرجا من مِنى بعد نصف الليل»([22]).

واختاره الشهيد الأول في الدروس، فقال: «ولو بات بغيرها فعليه عن كلّ ليلة شاة، إلاّ أن يبيت بمكّة مشتغلاً بالعبادة الواجبة أو المستحبّة فلا شيء، سواء كان خروجه للعبادة من منى قبل غروب الشمس أو بعده. ويجب استيعاب الليلة بالعبادة إلاّ ما يضطرّ إليه من غذاءٍ أو شرابٍ أو نومٍ يغلب عليه. ويحتمل أنّ القدر الواجب هو ما كان يجب عليه بمِنَى، وهو أن يتجاوز نصف الليل»([23]).

 واختاره المحقِّق الثاني في جامع المقاصد([24])، والشهيد الثاني في المسالك([25])، والسيد صاحب المدارك([26])، وغيرهم.

وقد استُدلّ له بما يلي:

1ـ صحيحة معاوية بن عمّار: «وإن خرجْتَ بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير مِنَى»([27]).

2ـ صحيحة معاوية بن عمّار أيضاً: «لا تبِتْ ليالي التشريق إلا بمِنَى»([28]).

بتقريب أن البيتوتة المأمور بها تعني المكث والمقام في منى تمام الليل، ثمّ نخرج عنه بصحيحتَيْ معاوية المتقدِّمة.

3ـ صحيحة العيص: «وإنْ زار بعد أن انتصف الليل أو السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكّة»([29]).

فمفادها أنه لا بأس عليه بمغادرة منى إلى مكة لزيارة البيت الحرام، ولا إشكال في جواز الخروج من منى بعد انتصاف الليل عليه فيها.

فالصحيحتان تدلاّن على جواز الخروج من منى بعد انتصاف الليل، ويبقى الخروج من منى قبل انتصاف الليل تحت المطلقات المانعة عن الخروج من منى، أو الموجبة للمكث فيها، فلا يجوز الخروج في المنتصف الأول من الليل.

ويردّه: إنه لم يَرِدْ في النصوص ما يفيد وجوب المقام في منى في خصوص النصف الأول من الليل تعييناً، ولا ما يفيد منع الخروج من منى في النصف الأول من الليل.

فإنْ قلتَ: إن المنصرف من البيتوتة والمبيت بقاء مجموع الليل وتمامه في منى، ولكنْ خرجنا عن ذلك بجواز الخروج بعد نصف الليل، فيبقى الباقي على الوجوب، وهو المقام من الغروب إلى نصف الليل.

قلتُ: المنصرف من البيتوتة وإنْ كان هو البقاء تمام الليل واستيعابه، وتساعده اللغة، ولكنْ نخرج عن ذلك بالنصّ؛ فإنه ورد في بعضها، كصحيحة معاوية بن عمّار: «وإنْ خرجتَ أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنتَ في منى ـ إلى أن قال ـ: وإن خرجتَ بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها»([30])، فإن المستفاد منها التخيير بين النصفين، كما هو ظاهر.

والنتيجة: إن مفاد هذا القول لا تساعد عليه الأدلّة.

2ـ لزوم المبيت في النصف الأوّل، وفي النصف الثاني عند الفَوْت

وقد تبنّى هذا القول السيد الخميني، حيث قال: «مسألة 1: إذا قضى مناسكه بمكة يجب عليه العود إلى منى؛ للمبيت بها ليلتي الحادية عشرة والثانية عشرة. والواجب من الغروب إلى نصف الليل»([31]).

 «مسألة 4: من لم يكن في منى أول الليل بلا عذرٍ يجب عليه الرجوع قبل نصفه»([32]).

وذكر في الاستفتاءات أن «الواجب هو المبيت من الغروب إلى نصف الليل، ولكنْ إن فاته ذلك بلا عذرٍ فيجب عليه الرجوع إلى منى قبل نصف الليل، ويبيت إلى الفجر، وعليه الكفارة».

وهذا القول يتركَّب من أمرين في ما يخصّ القدر الواجب من المبيت في منى:

أـ المبيت من الغروب إلى نصف الليل: وهو ما ذكرناه في القول الأول. وتمّ الاستدلال عليه ببعض الروايات، منها: صحيحة معاوية بن عمار: «وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى»([33])؛ وصحيحته الأخرى: «لا تبِتْ ليالي التشريق إلا بمنى»([34]).

ب ـ كفاية المبيت في النصف الثاني إذا لم يبِتْ في النصف الأول. واستدلّ عليه ببعض الروايات، منها:

 1ـ صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله× ـ في حديثٍ ـ قال: «فإنْ خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنتَ في منى»([35]).

2ـ خبر جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله× أنه قال: «إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلاّ بها»([36]).

 3ـ صحيحة جعفر بن ناجية، عن أبي عبد الله× أنه قال: «إذا خرج الرجل من منى أوّل الليل فلا ينتصف له الليل إلاّ وهو بمنى، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها»([37]).

ويَرِدُ على هذا الاستدلال:

الظاهر أنه لم يقع إشكالٌ بين الفقهاء في كفاية المبيت في النصف الأوّل، وإذا كان هناك كلامٌ وإشكالٌ فهو بلحاظ النصف الثاني. فالنصف الأوّل لم ينقل خلاف عن أحدٍ في كفايته، قال المحقّق في الشرائع: «ويجب عليه أن يبيت بها ليل الحادي عشر والثاني عشر….. إلاّ أن يبيت بمكّة مشتغلاً بالعبادة، أو يخرج من منى بعد نصف الليل»([38])؛ وقال صاحب الرياض: «إن ظاهر الأصحاب انحصاره في النصف الأوّل، فأوجبوا عليه الكون بها قبل الغروب إلى النصف الثاني»([39]). إذن هو نسب إلى ظاهر الأصحاب تعيُّن ذلك، يعني أن هذا متعيِّنٌ. أمّا الثاني ـ يعني المبيت من بعد ذلك ـ فهو محلّ إشكالٍ عند الفقهاء، هكذا يظهر من عبارته.

وإذا رجعنا إلى الروايات وجدنا فيها ما يدلّ على كفاية النصف الأوّل، كما في صحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله× قال: «إذا فرغتَ من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبِتْ إلاّ بمنى إلاّ أن يكون شغلك في نسكك، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى»([40])؛ حيث إن قوله×: «وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى» يدلّ على كفاية المبيت في النصف الأوّل، كما هو واضح.

وكذلك نجد فيها أيضاً ما يدلّ على كفاية أحد النصفين، كما في صحيحة معاوية، عن أبي عبد الله× قال: «لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى، فإنْ بتَّ في غيرها فعليك دمٌ، فإنْ خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى، إلاّ أن يكون شغلك نسكك، أو قد خرجت من مكّة، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها»([41])؛ فإن قوله×: «فإنْ خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى» يدلّ على جواز المبيت في النصف الثاني؛ لأن المفروض أنه خرج من منى أوّل الليل، وهذا يدلّ على كفاية النصف الثاني، ثمّ قال بعد ذلك: «وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها»، وهذا يدلّ على كفاية النصف الأوّل، وأنه يجوز لك أن تبقى في منى ولا تخرج من أوّل الليل، وإنما تخرج بعد نصف الليل.

إذن هي واضحةٌ في جواز الاكتفاء بأحد النصفين.

ولكن بعض الفقهاء ذهب إلى عدم الاكتفاء بالنصف الثاني، وتعيّن النصف الأوّل. قال الشيخ النائيني: «القدر الواجب من المبيت في كلّ ليلةٍ هو أن تغرب عليه الشمس فيها، ويبقى بها إلى أن ينتصف الليل، ويجوز له الخروج بعد ذلك»([42]). وقد يُفهَم من هذه العبارة أن الذي يجتزأ به هو خصوص النصف الأوّل. وممَّنْ ذهب إلى ذلك السيد الخميني، في تحرير الوسيلة، حيث قال: «إذا قضى مناسكه بمكّة يجب عليه العود إلى منى؛ للمبيت بها ليلتي الحادية عشرة والثانية عشرة. والواجب من الغروب إلى نصف الليل». وهكذا نُسب إلى السيد الكلبايكاني. وقد ذكر صاحب الرياض «أن ظاهر الأصحاب انحصاره بالنصف الأوّل»([43]).

إذن يمكن أن نقول: إن الرأي المشهور والمعروف هو اختصاص الاجتزاء بخصوص المبيت في النصف الأوّل.

ولكنْ هنا سؤالٌ: ما هو الدليل على عدم الاجتزاء بالمبيت في النصف الثاني، والحال أننا قد استفدنا من بعض الروايات الاجتزاء بكلا النصفين؟

والجواب: يمكن أن يكون المدرك أحد الأمور الثلاثة التالية:

الأوّل: دعوى أن ما دلّ على كفاية المبيت في النصف الثاني مُعرَضٌ عنه بين الأصحاب، ومعه تكون الرواية الدالة على ذلك ساقطةً عن الحجيّة. وهذا ما يستفاد من عبارة السيد الحكيم&([44]).

ولكنْ يَرِدُ عليه: إن إعراض المشهور ليس بتامٍّ، صغرىً وكبرىً. أمّا صغرىً فباعتبار أن كلمات الأصحاب ليست بأيدينا في هذه المسألة؛ حتى نعرف أنهم قد أعرضوا حقّاً أم لا، وإنما الموجود هو كلام صاحب الرياض، والتعويل عليه لإثبات الإعراض مشكلٌ.

وأما كبرىً فالذي يسقط الرواية عن الحجِّية هو الهجران، أعني ترك الكلّ، أمّا ترك المشهور فهو لا يسقط الرواية عن الحجِّية.

إذن، حتّى لو سلّمنا بأن هناك إعراضاً من قِبَل المشهور فهو لا يسقط الرواية عن الحجِّية.

 نعم، لو فرض أن الطبقة المُعْرِضة من المشهور كانت هي الطبقة المتقدّمة، أي طبقة الشيخ الكليني والطوسي والصدوق ومَنْ تلاهم، فإن هؤلاء إذا ثبت إعراضهم    ـ وهم عيون أصحابنا ـ، وإنْ لم يثبت إعراض الكلّ، فيمكن أن يقال بسقوط الرواية عن الحجِّية أيضاً؛ بلحاظ أنّ هؤلاء هم الذين يمثِّلون عنوان أصحاب الفنّ وأصحاب الخبرة بالحديث، فإعراض هذه الثلّة إمّا أنه يوجب الاطمئنان بوجود خَلَلٍ في الرواية؛ أو يُقال: إنّ دليل حجِّية الرواية ـ أعني السيرة ـ قاصرٌ عن الشمول لمثل هذه الحالة، فإن العقلاء لم يثبت عملهم بالخبر الذي لا يعمل به أصحاب الخبرة والفنّ. فالمهمّ هو إعراض تلك الطبقة المتقدّمة، والمدار عليهم، وعادةً يكون إثبات إعراضهم شيئاً صعباً، وليس بالأمر اليسير، ولكنّ المدار كما قلنا على تلك الطبقة.

الثاني: إن العنوان المأمور به في الروايات هو المبيت بمنى، والمبيت يصدق عُرْفاً على البقاء في النصف الأوّل؛ فمَنْ ذهب إلى مكانٍ وبقي فيه من أوّل الليل إلى نصفه صدق عليه أنه بات هناك؛ أمّا أن يذهب بعد منتصف الليل ويبقى حتّى الفجر فلا يصدق عليه عنوان المبيت وأنه بات في ذلك المكان.

ولكنْ كيف نثبت أن المبيت هو العنوان المأمور به؟ يُستفاد ذلك من مجموعة من الروايات، من قبيل: صحيحة معاوية المتقدّمة: «لا تبِتْ ليالي التشريق إلاّ بمنى»؛ ومن قبيل: صحيحته الأخرى: «إذا فرغْتَ من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبِتْ إلا بمنى»؛ إلى غيرهما من الروايات.

إذن عنوان المبيت هو المأمور به في الروايات، وهذه قضيّةٌ مسلَّمة، وأمّا أن المبيت يصدق بالبقاء من أوّل الليل إلى نصف الليل فهذا شيءٌ عُرْفي. هكذا قد يُدَّعى في توجيه هذا الرأي.

وفيه: إنه لو تمّت الصغرى، وأن المبيت لا يصدق عُرْفاً إلاّ بالبقاء في المكان من أوّل الليل إلى نصفه ـ وهو شيءٌ ليس بالبعيد ـ، فإننا نقول: إنه بعد تصريح الروايات بكفاية المبيت في النصف الثاني، وأنه كالمبيت في النصف الأوّل، يكون هذا أشبه بالاجتهاد في مقابل النصّ.

الثالث: التمسُّك ببعض الروايات الخاصّة، من قبيل: صحيحة معاوية المتقدّمة: «إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبِتْ إلا بمنى، إلاّ أن يكون شغلك في نسكك، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى»، وتقريب الدلالة هو أن مقتضى صدرها، الذي يقول: «إذا فرغت من طوافك للحجّ وطواف النساء فلا تبِتْ إلاّ بمنى»، هو أن اللازم هو المبيت بمنى، وحيث لم يشخَّص أن المبيت اللازم هو في القسم الأوّل أو في القسم الثاني فمقتضى الإطلاق وعدم التشخيص والتقييد هو لزوم المبيت في كلا القسمين، ثم نقول بعد ذلك: إنه خرج من هذا الإطلاق ما دلَّتْ عليه الرواية في ذيلها، وهو أن المبيت في النصف الأوّل يكفي، فحينئذٍ يبقى النصف الثاني بلا دليلٍ على كفاية المبيت فيه وحده، بل الدليل على عدمه؛ لأن الإطلاق المتقدّم يقتضي المبيت في كلا القسمين ـ أي في كلّ الليل ـ؛ حيث لم يقيّد بجزءٍ دون الآخر، وأخرجنا منه المبيت في النصف الأوّل وقلنا: إنه يكفي وحده؛ لتصريح الذيل بذلك، أمّا المبيت في النصف الثاني فلا دليل على كفايته وحده، فنتمسّك بالإطلاق المقتضي أن المبيت لا يكفي في جزءٍ منه، وأنّه يلزم انضمام بقيّة الأجزاء من الليل إليه. وعليه نستفيد من نفس إطلاق صدر الرواية أنه لا يكفي البقاء في النصف الثاني وحده.

وفيه: إنه لو تمّ الإطلاق المذكور، وقلنا: إنه× في مقام البيان من هذه الناحية ـ أي في مقام البيان من ناحية تحديد مقدار الليل اللازم للمبيت ـ فسكوتُه عن تحديده بجزءٍ دون آخر يدلّ على لزومه في جميع الأجزاء. إنه لو ثبت أن الإمام في مقام البيان من هذه الناحية، وانعقد الإطلاق، تمّ هذا الإطلاق وأمكنَتْ الاستعانة به. ولكنّ أصلَ انعقاده محلُّ تأمُّلٍ؛ إذ يمكن أن يُقال: إنه× في صدد بيان أصل المبيت، وأنه لازمٌ، أمّا من أين؟ وإلى أين؟ وهل تجب جميع الأجزاء أو قسمٌ منها؟ فهو ليس بصدد بيانه. وقد جاءت العبارة الثانية لتوضّح كفاية القسم الأوّل. وبناءً على هذا لا يعود لدينا إطلاقٌ حتّى نتمسّك به لإثبات كفاية البقاء في النصف الثاني، بل الأمر بالعكس، فالمناسب فنِّياً آنذاك أن نرجع في النصف الثاني إلى ما تقتضيه القاعدة، فإنه إذا لم ينعقد الإطلاق نقول: إن المأمور به هو عنوان المبيت في الجملة، أمّا بكلِّ أجزاء الليل فهذا لم يثبت إلاّ بالإطلاق، والمفروض أننا أنكَرْنا الإطلاق، فالمبيت اللازم في الجملة صادقٌ بالمبيت في النصف الثاني، فما أُمِرنا به واشتغلَتْ به الذمّة ـ وهو المبيت في الجملة ـ قد حقَّقْناه جَزْماً، وما زاد على ذلك ـ يعني أن ينضمّ هذا الجزء الثاني إلى الأوّل، ولا يكفي وحده ـ فنشكّ فيه، ولم يدلّ عليه دليلٌ، فلا يستفاد من إطلاق الرواية؛ لأننا منعنا إطلاقها، فنتمسَّك آنذاك بالبراءة؛ لنفي التقيُّد الزائد.

والمهمّ الذي نريد أن نقوله هو أنه لو سلَّمنا بالإطلاق، وقلنا: إنه× في مقام البيان، وانعقد الإطلاق، فيمكن أن يُقال: إن النصف الأوّل من الليل خرج من الإطلاق؛ بسبب نفس هذه الرواية (ذيلها)، والنصف الثاني قد خرج بالروايات الأخرى؛ لأنه توجد رواياتٌ أخرى تدلّ على كفاية البقاء في النصف الثاني، وأعني بذلك صحيحة معاوية بن عمّار الأخرى؛ لأنها بصدرها قد دلَّتْ على كفاية البقاء في النصف الأوّل، حيث جاء فيها: «فإنْ خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى»، وهي واضحةٌ في أنه إذا بقي في النصف الثاني كفى ذلك.

وخلاصةُ مناقشتنا للرواية: إنْ سلَّمنا بالإطلاق، ولم نشكِّك فيه؛ لأجل ما أشَرْنا إليه من أن الإمام ليس في مقام البيان من ناحية مقدار الليل، فنقول: إن الذي خرج من هذا الإطلاق بالمقيّد ليس خصوص النصف الأوّل، بل خرج النصف الثاني؛ بصحيحة معاوية الأخرى، وعليه فلا إشكال من هذه الناحية.

فإنْ قلتَ: إن المبيت ظاهرٌ في إرادة تمام الليل، وعليه يكفينا هذا الظهور لإثبات عدم الاكتفاء بالمبيت في النصف الثاني.

قلتُ: إنه لو سلَّمنا هذا فنقول: إن هذا الظهور ليس مقصوداً للروايات جَزْماً؛ لأنها صرّحت بكفاية المبيت في النصف الأوّل فقط. إذن هذا الظهور ساقطٌ عن الاعتبار، وليس المورد من موارد التقييد، يعني لا تقُلْ: إننا نقيّده فخرج النصف الأوّل بالمقيّد، فإن الجواب: إن هذا ليس تقييداً، بل هو إلغاءٌ للعنوان من الأساس، وليس تقييداً له، فأنت تقول: المبيت ظاهرٌ في التمام، وهذا رفعنا اليد عنه، لا أنه قيَّدناه، بخلاف الرقبة فإنها مطلقةٌ، فيمكن أن نقيِّدها بخصوص المؤمن. أمّا لو جئنا بعنوانٍ لا يصدق معه عنوان الرقبة فلا يكون المورد آنذاك من موارد التقييد، وإنما من موارد الإلغاء. وهنا أيضاً كذلك، فإنه لو قلنا: إن المبيت عنوانٌ لا يصدق عُرْفاً إلاّ بالبقاء من أوّل الليل إلى آخره، فإذا دلَّتْ الرواية على أنه يكفي النصف الأوّل فهذا معناه أنه إلغاءٌ لهذا العنوان، ورفعٌ لليد عنه، لا أنه تقييدٌ، فالمورد ليس من موارد التقييد.

3ـ التفصيل بين الليالي

 أي بين ليلة 11 فيتخيَّر الحاج فيها بين المبيت في النصف الأوّل من الليل، من أول الغروب إلى منتصف الليل، وإنْ لم يبِتْ فيها تمام النصف الأول أجزأه التواجد فيها حين طلوع الفجر، وأما الليلتان 12 و13 فيجب على الأحوط المبيت فيهما من غروب الشمس إلى طلوعها.

واختار هذا القول السيد الداماد، في مناسكه([45]).

أما ليلة الحادي عشر والتخيير فيها بين المبيت في النصف الأول أو التواجد في منى عند الفجر فيمكن الاستدلال عليه بما تقدَّم في القول السابق، بخبر جميل بن درّاج؛ وصحيحة محمد بن مسلم؛ وصحيحة العيص بن القاسم. وقلنا: إنه يمكن رفع اليد عن إطلاق هذه الروايات؛ بمقتضى صحيحة معاوية بن عمار؛ ورواية جعفر بن ناجية، الدالتين على لزوم أن يرجع إلى منى قبل انتصاف الليل.

وأما الليلتان الثانية عشر والثالثة عشر والاحتياط فيهما بالاستيعاب من غروب الشمس إلى طلوعها فيمكن الاستدلال لاستيعاب الليلة الثانية عشر بأن مقتضى إطلاق الأدلة هو لزوم المبيت في تمام الليالي الثلاث بمنى، وهذا الإطلاق يقتضي الاستيعاب.

ويَرِدُ عليه: إنه يمكن رفع اليد عن هذا الإطلاق بصحيحة معاوية؛ ورواية جعفر بن ناجية، إما بالنسبة إلى المبيت في النصف الثاني أو بالنسبة إلى أحد النصفين.

ومضافاً إلى ذلك، فإن الفهم العُرْفي لا يفرِّق في مسألة المبيت بمنى بين ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر، فلاحِظْ صحيحة العيص بن القاسم: «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ× عَنِ الزِّيَارَةِ مِنْ مِنَى؟ قال: إنْ زَارَ بِالنَّهَارِ أَوْ عِشَاءً فَلاَ يَنْفَجِرِ الْفَجْرُ ـ أو الصبح ـ إِلاَّ وَهُوَ بِمِنَى، وَإِنْ زَارَ بَعْدَ نِصْفِ الليْلِ وَأَسْحَرَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ـ أو الصبح ـ وَهُوَ بِمَكَّةَ»([46]).

ويمكن أن يقال: إن مقتضى إطلاق المقطع الأخير من هذه الصحيحة كفاية النصف الأول في المبيت بمنى، سواء أكانت زيارته في ليلة الحادي عشر أم في ليلة الثاني عشر. فهذه الصحيحة المطلقة تشمل كلتا الليلتين.

ومن جهةٍ أخرى إن الروايات الدالة على كفاية الإصباح في منى ـ التزَمْنا بها أو لم نلتزم ـ، والتي لا يصدق المبيت عليها، واضحةُ الدلالة على أن المبيت في النصف الأول ليس واجباً، فلاحِظْ صحيحة محمد بن مسلم: «إنْ خرجت قبل غروب الشمس أو خرجت أول الليل فلا تصبح إلاّ بمنى»، وهي تدلّ على عدم وجوب المبيت في النصف الأول.

والنتيجة أنه لا يجب الاستيعاب، بل يكفي أحد النصفين، كما في الليلة الحادية عشر.

هذا بالنسبة إلى الليلة الثانية عشر. وأما الليلة الثالثة عشر فسنبيِّنها لاحقاً في القول المختار؛ لوجود بعض المستثنيات فيها.

وأما قول السيد الداماد بأنه يجب الاستيعاب إلى طلوع الشمس فلم يتَّضح لنا وجهه. نعم، لو بنى الاستيعاب إلى طلوع الفجر لأمكن مناقشته، وأما إلى طلوع الشمس فلا نعرف له وجهاً.

4ـ التخيير بين النصف الأوّل أو الإصباح في النصف الثاني

وهو ما اختاره بعض الفقهاء، حيث قال في رسالة مناسك الحجّ والعمرة: «يتحقّـَق المبيت في الواجب بأحد أمرين: الأوّل: أن يكون في مِنَى من غروب الشمس إلى نصف الليل، ويجوز الخروج حينئذٍ بعد نصف الليل، على كراهةٍ؛ الثاني: أن يكون فيها عند طلوع الفجر، وإنْ كان الأحوط استحباباً أن يكون فيها من نصف الليل إلى طلوع الفجر»([47]).

ويمكن الاستدلال لهذا القول بثلاث روايات:

الأولى: خبر جميل بن درّاج ـ الذي عُبِّر عنه في كلماتهم بالصحيح ـ، عن أبي عبد الله× قال: «إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلاّ بها»([48]).

أي إن الواجب هو أن تصبح بمنى لا أزيد من ذلك، دون أن ترجع قبل منتصف الليل.

الثانية: صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما’ قال: «في الزيارة إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلاّ بمنى»([49]).

ومورد هذه الرواية هو مَنْ يخرج للزيارة.

الثالثة: صحيحة العيص بن القاسم قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الزيارة من منى؟ قال: «إنْ زار بالنهار أو عشاءً فلا ينفجر الفجر [وفي نسخةٍ: الصبح] إلاّ وهو بمنى، وإنْ زار بعد نصف الليل أو السَّحَر فلا بأس أن ينفجر الفجر [وفي نسخةٍ: الصبح] وهو بمكّة»([50]).

ومفادُ هذه الروايات أن من لم يكن في النصف الأول من الليل بمِنَى يلزمه الإصباح بها. ومن إطلاق هذه الروايات نستفيد لزوم الإصباح في منى، وأما قبل ذلك هل يجب أن يكون بمنى أو لا؟ ومن أيّ وقتٍ يجب؟ هل قبل منتصف الليل أو بعد منتصف الليل؟ فليس في هذه الروايات تعرّض لذلك.

وفيه: يمكن رفع اليد عن هذا الإطلاق بمقتضى صحيحة معاوية بن عمّار؛ وخبر جعفر بن ناجية، الدالَّين على لزوم أن يرجع إلى منى قبل انتصاف الليل:

ففي صحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله× قال: «لا تبِتْ ليالي التشريق إلاّ بمنى، فإنْ بتَّ في غيرها فعليك دمٌ، فإنْ خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى، إلاّ أن يكون شغلك نسكك، أو قد خرجت من مكّة، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها»([51]).

وفي خبر جعفر بن ناجية، عن أبي عبد الله× قال: «إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف له الليل إلاّ وهو بمنى، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها»([52]).

 فإن مقتضاهما أن مَنْ لم يكُنْ في أوّل الليل في منى فلا بُدَّ أن يرجع قبل أن ينتصف الليل، فنرفع اليد عن إطلاق الروايات الثلاث بما ورد في صحيحة معاوية وخبر ابن ناجية، فالنتيجة أنه لا بُدَّ أن يرجع، ويكون في النصف الثاني من الليل في منى؛ فإنه العِدْل للواجب التخييري.

فإنْ قلتَ: يمكن أن يُقال: المتفاهم العُرْفي من قوله× في صحيحة محمد بن مسلم: «فلا تصبح إلاّ بمنى»، وقوله×: «فلا ينتصف لك الليل إلاّ وأنت بمنى»، كما ورد في صحيحة معاوية، بينهما تقابلٌ؛ فهذا في مقابل ذاك، ولا يصلح الثاني مقيِّداً للأول. وعليه فالجمع الموضوعي بين الجانبين غيرُ ممكنٍ، فتصل النوبة إلى الجمع الحكمي، وهو حمل صحيحة معاوية وخبر ابن ناجية على الحكم غير الإلزامي، أي استحباب الكون في منى من منتصف الليل إلى قُبَيْل الفجر، والمقدار الواجب هو أن يكون قُبَيْل الفجر في منى؛ ليصدق أنه أصبح فيها، وأما من منتصف الليل إلى قُبَيْل الفجر فيُستحَبّ، أو أنه يُكرَه أن يقضي هذا الوقت في خارج منى.

قلتُ: يمكن أن يُجاب بأن هذا لا يتمّ؛ إذ إنه لو لم تشتمل صحيحة معاوية بن عمّار إلاّ على قوله×: «فإنْ خرجت أول الليل فلا ينتصف لك الليل إلاّ وأنت بمنى» ـ كما هو الحال في خبر ابن ناجية، حيث ورد بهذا التعبير ـ لكان بالإمكان أن يُدَّعى أن مقتضى الجمع العُرْفي هو حملها على الحكم غير الإلزامي، والبناء على كفاية الإصباح بمنى.

ولكنّ الملاحظ أن المقطع المذكور قبل هذا المقطع هو النهي عن المبيت في ليالي التشريق إلاّ بمنى، ما يكشف بوضوحٍ عن أن الواجب هو المبيت بمنى بعنوانه، وأن ما ورد في الصحيحة من التخيير بين البقاء في النصف الأول أو النصف الثاني إنما هو من حيث تحقُّق عنوان المبيت بمنى بأيٍّ منهما، فنهى الإمام× أوّلاً عن المبيت إلا بمنى، ثم فصَّل بعد ذلك، وكأنّه كان المستفاد من ظاهر المقطع الأوّل هو لزوم الاستيعاب في الكون بمنى ـ ولو كان بعض الوقت في خارج منى فلا يصدق أنه لم يبِتْ إلاّ بمنى ـ، ثمّ أراد× أن يستدرك ويقول: إنه يُجتزأ بأيٍّ من النصفين في المبيت اللازم بمنى.

ولا رَيْبَ في عدم تحقُّق المبيت بمجرّد الإصباح، أي إن مَنْ لم يكن في منى طول الليل، وإنما أتى إليها قُبَيْل الفجر بدقائق، بحيث أصبح بها، فلا يصدق أنه بات بمنى، فالإصباح في مكانٍ إنما هو في مقابل المبيت به، كما نجد ذلك في روايات أخرى، كصحيحة جميل بن درّاج: «على الإمام أن يصلّي الظهر بمنى ثمّ يبيت بها، ويصبح حتّى تطلع الشمس، ثم يخرج إلى عرفات»([53])؛ وفي صحيحة عليّ بن جعفر: «رجلٌ بات بمكّة في ليالي منى حتّى أصبح»([54]). فالمبيت في مكانٍ يقابله الإصباح في ذلك المكان.

ومن هنا يُعلم أن الاصباح وحده لا يحقِّق معنى المبيت بمنى المطلوب شرعاً في عددٍ غير قليلٍ من الروايات الصحاح، فلعلّ المقصود بروايات الإصباح هو بيان النهاية الزمانية للمبيت، وأما بدايته فقد وضَّحته الروايات الأخرى.

كما يحتمل أيضاً ـ وخصوصاً مع النظر إلى باقي روايات الباب ـ أن المقصود من الإصباح كنايةٌ عن المبيت في منى، وليس المقصود التواجد في وقتٍ قصير قبل الصبح.

كما يشهد له ما ذكره علماء اللغة في معنى الإصباح: «مادّة ص ب ح… كما يقال للنائم: أصبح أي استيقظ، وقد أصبح القوم إذا استيقظوا، وذلك في جوف الليل. ورأيت المصابيح تزهر في وجهه، وفي مثل «أصبح ليل». وقال بشر:

كأَخْنَسَ ناشطٍ باتَتْ عليه *** بحَرْبةٍ ليلةٌ فيها جَهامُ

فبات يقول: أصبِحْ ليلُ حتّى *** تجلّى عن صَرِيمَتِه الظَّلامُ»([55]).

وفي تهذيب اللغة: «يقال: صَبَّحْتُ القوم الماء إذا سَرَيْت بهم حتى تُورهم الماءَ صَباحاً، ومنه قوله:

وصَبَّحْتُهم ماءً بَفْيَفاءَ قَفْرَةٍ *** وقد حَلَّق النَّجمُ اليَمَانيُّ فاسْتَوَى

أراد سَرَيْتُ بهم حتّى انتهَيْتُ بهم إلى ذلك الماءِ صباحا»([56]).

والنتيجة: إن هذا القول غير تامّ.

5ـ التخيير بين النصفين

وهو ظاهر أبي صلاح الحلبي، وقد مال إليه صاحب الرياض، واختاره المحقق النراقي في المستند، واختاره السيد الخوئي، ووافقه عليه عددٌ من أعلام تلامذته، وبشكلٍ عام فقد تبنّى هذا الرأي متأخِّرو العصر.

«وأما بالنسبة إلى البيتوتة في الليل فالمعروف والمشهور بينهم وجوب البقاء فيها النصف الأوّل من الليل، أي من غروب الشمس إلى نصف الليل، وأما بعده فيجوز الذهاب إلى أيّ مكانٍ أراد، مكّة أو غيرها، وجواز ذلك لا إشكال فيه… إنما الاشكال والكلام في أن وجوب البقاء في منى في النصف الأوّل من الليل وجوبٌ تعييني، كما عليه المشهور، على ما نسبه إليهم في الرياض؛ أو تخييري، كما نسب إلى الحلبي، وطرف التخيير الثاني هو الكون في منى قُبَيْل نصف الليل إلى الفجر، وأما قبل نصف الليل فله البقاء في أيّ مكانٍ شاء. ولم يلتزم المشهور بالشقّ الثاني، ولذا خصّوا الحكم بجواز البقاء في غير منى في النصف الأوّل بمَنْ كان مشغولاً بالعبادة في مكّة، وأمّا اختياراً فليس له البقاء خارج منى»([57]).

قال السيد الخوئي: «وهذا (يعني وجوب مبيت النصف الأول بمنى) في نفسه لا بأس به، لولا التصريح بجواز الخروج من منى من أوّله إلى منتصفه في صحيحةٍ أخرى لمعاوية، وكذا في معتبرة جعفر بن ناجية، وفيهما الكفاية ـ بعد سلامتهما عن المعارض ـ. إذن، فما اختاره الحلبي من التخيير بين الأمرين هو الأظهر»([58]).

وقد اعتبره الفاضل اللنكراني الأقوى، حيث قال: «وقع الاختلاف على أن الواجب هو البيتوتة من أوّل الليل إلى نصفه، وبعده يجوز له الخروج من منى، أو أن الواجب هو أحد النصفين، فهو مخيَّر بين النصف الأول وبين النصف الأخير.

فالمشهور على الأوّل، كما عن الرياض: إن ظاهر الأصحاب انحصار المبيت في النصف الأوّل؛ والحلبي على الثاني، وهو الأقوى»([59]).

وتجدر الإشارة إلى أن كلامنا هنا بعد تسليم أن المبيت المطلوب في منى لا يشمل الليل كلّه ـ وإنْ كان هناك مَنْ أشار إلى هذا القول ـ.

ونبحث هاهنا أدلّة القائلين بوجوب المبيت بمنى على نحو التخيير، فقد استدلوا على ذلك بأمور:

1ـ صحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله×: «فإنْ خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنتَ في منى، إلاّ أن يشغلك نسكك، أو قد خرجت من مكّة، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها»([60]).

وقد اعتبرها بعضهم العمدة في هذا الباب، قال الفاضل اللنكراني، تعليقاً على هذه الرواية: «فإنّ فرض القضيتين الشرطيتين، بالإضافة إلى خروج أوّل الليل والخروج بعد نصف الليل، ظاهرٌ في جواز كلا الخروجين. وهو لا ينطبق إلاّ على التخيير، بعد النهي عن البيتوتة ليالي التشريق في غير منى»([61]).

وفيها: «عدم انطباقها على المدَّعى؛ لأن المدَّعى هو وجوب المبيت بمنى، والصحيحة دالّةٌ على النهي في غير منى، والجواز فيها، فتدبَّرْ»([62]).

أقول: وهو كما ترى من مخالفته لظاهر الرواية، بل يمكن أن ندّعي أنها نصٌّ على عكس المدَّعى، وقوله: «فلا ينتصف الليل إلا وأنت في منى» دالٌّ على المطلوب، من وجوب مبيت النصف الثاني بمنى على مَنْ فوَّت النصف الأول.

2ـ معتبرة جعفر بن ناجية، عن أبي عبد الله× أنّه قال: «إذا خرج الرجل من منى أوّل الليل فلا ينتصف له الليل إلاّ وهو بمنى، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح في غيرها»([63]).

وهي صريحةٌ بإجزاء المبيت بمنى قبل انتصاف الليل إلى الفجر، ومنه يعلم التخيير بين النصف الأول ـ الذي هو القدر المتيقَّن ـ وبين النصف الثاني.

قال الشيخ السبحاني: «وهذه الرواية تدلّ على التخيير بين مَنْ لم يكن أوّل الليل بمنى، فيجب عليه التواجد بمنى قبل انتصاف الليل، وبين مَنْ خرج بعد نصف الليل»([64]).

وفيه: إنه يحتمل أن المقصود بإجزاء المبيت في النصف الثاني هو لمَنْ خرج أوّل الليل، أما غيره فيلزمه المبيت في النصف الأوّل.

ويَرِدُ عليه: إن الإمام× لم يمنعه من الخروج، وهو في مقام البيان من هذه الناحية، ولم يذكر أيضاً أن الخروج كان اضطراريّاً، بل قال: «فإنْ خرجت فلا ينتصف الليل إلاّ وأنتَ في منى»، يعني متى ما خرجتَ فلا ينتصف الليل إلاّ وأنتَ في منى.

3ـ صحيحة معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله قال: «إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبيت إلاّ بمنى، إلاّ أن يكون شغلك في نسكك، وإنْ خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى»([65]).

بناءً على أن المراد من (البيتوتة) ما يشمل البقاء من منتصف الليل إلى الفجر.

وفيه:

1ـ إن الرواية غير ناظرة إلى تحديد الوقت الخاصّ بالمبيت بمنى، وإنما هي لبيان أصل وجوب المبيت.

2ـ ولو تنزَّلنا عن ذلك فإن الرواية لا تدلّ على أكثر من لزوم مبيت النصف الأول، قال في سند العروة، معلِّقاً على هذه الرواية: «إن النهي عن البيتوتة بغير منى ظاهرٌ في لزوم إدراك أول الليل بمنى؛ فإن عنوان البيتوتة ـ في اللغة ـ هو مَنْ دخل عليه الليل في ذلك المكان أو الشيء بعدما كان فيه.

وفي اللسان، عن الصحاح: بات يبيت وبات بيتوتة، وعن ابن سيده: أي ظلّ يفعله ليلاً. وقال الزجاج: كلّ مَنْ أدركه الليل فقد بات. وقال الفرّاء: بات الرجل إذا سهر الليل كلّه في طاعة الله. وقال الليث: والبيتوتة دخولك في الليل»([66]).

أقول: إن معنى (البيتوتة) ظاهرٌ في مطلق الليل، فكما يصدق على النصف الأول من الليل يصدق كذلك على النصف الثاني. وهذا ما اعترف به في نفس المصدر، قال: «إن وقوع هذه المادة في محلّ النهي في غير منى يقتضي؛ بعموم النهي، استيعابه لكلّ قطعات الليل، من أوّله إلى آخره»([67]).

لكنّه قال أيضاً: «إلاّ ما استُثْني، ولم يُسْتَثْنَ هنا إلاّ النصف الثاني»([68]).

وفيه: إن النصف الأول أيضاً استُثْني بدون أن ينصّ على ذوي الاعذار في صحيحة معاوية ومعتبرة جعفر بن ناجية الماضيتين، قال في الأولى: «فإنْ خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى»، ومثلها في الرواية الثانية، وهي كما ترى غير خاصّةٍ بذوي الاعذار.

ثمّ إن المحقق الأردبيلي& استدلّ على عدم وجوب المبيت في منى النصف الثاني أصالةً، ولا عِوَضاً، فقال تعليقاً على صحيحة العيص بن القاسم قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الزيارة من منى؟ قال: إنْ زار بالنهار أو عشاء فلا ينفجر الصبح إلا وهو بمنى، وإنْ زار بعد نصف الليل أو السَّحَر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكّة»([69]): «ولعلّ في هذه دلالةً على عدم وجوب المبيت بمنى بعد النصف، لا أصالة، ولا عوضاً، ولو تيسَّر؛ حيث أطلق جواز الإصباح بمكّة إنْ وقع طوافه بعد النصف، وكأنّه لعدم بقاء الوقت الواجب للمبيت، فتأمَّلْ»([70]).

أقول: لكنْ يمكن المناقشة فيه بأمور:

1ـ إن الظاهر منها غير ما ذُكر، وهو أن قوله×: «فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكّة» بصدد بيان إجزاء العبادة بمكّة عن المبيت بمنى. كما أنه لا موضوع للزوم المبيت بمنى بعد تفويته جزءاً من النصف الثاني، كما دلّ عليه قوله×: «وإنْ زار بعد منتصف الليل». فالاستدلال بها على عدم إجزاء المبيت في النصف الثاني غير تامٍّ.

2ـ يحتمل، وخصوصاً بملاحظة باقي روايات الباب، أن المراد من الإصباح بمكّة إما كناية عن مبيت النصف الثاني؛ وإما تبيان الحدّ النهائي لمبيت النصف الثاني.

إشكالٌ آخر: حتّى لو كان المقتضي موجوداً للقول بإجزاء المبيت بمنى النصف الثاني، لكنْ هناك مانعٌ منه، ويتلخّص بنقاط:

دعوى إعراض الأصحاب عن الروايات الدالّة على إجزاء النصف الثاني، وبذلك تكون تلك الروايات ساقطةً عن الحجِّية. قال السيد الحكيم: «نعم، ظاهر خبر ابن ناجية وغيره جواز الخروج من منى أول الليل إذا كان يرجع إليها قبل النصف، فيُستفاد منها الاجتزاء بأحد النصفين، لكنّ إعراضهم عنه مانعٌ عن البناء عليه، فتأمَّلْ»([71]).

والجواب: «إن إعراض المشهور ليس بتامٍّ صغرىً وكبرىً، أمّا صغرىً فباعتبار أن كلمات الأصحاب ليست بأيدينا في هذه المسألة؛ حتى نعرف أنهم قد أعرضوا حقّاً أو لا، وإنما الموجود هو كلام صاحب الرياض، والتعويل عليه لإثبات الإعراض مشكلٌ. وأما من حيث الكبرى فالذي يُسقط الرواية عن الحجِّية هو الهجران، أعني ترك الكلّ، أمّا ترك المشهور فهذا لا يسقط الرواية عن الحجِّية. إذن حتّى لو سلَّمنا بأن هناك إعراضاً من قبل المشهور لكنّه لا يُسقط»([72]).

كما أن السيد الحكيم نفسه أجاب عن هذا الإشكال بقوله: «فإن ثبوت الإعراض غير معلومٍ، ومجرّد النسبة إلى ظاهر الأصحاب غير كافيةٍ في رفع اليد عن النصوص، التي فيها الصحيح وغيره»([73]).

«إن عنوان المأمور به في الروايات هو (المبيت بمنى)، والمبيت يصدق عُرْفاً على البقاء في النصف الأوّل؛ فمَنْ ذهب إلى مكانٍ وبقي فيه من أوّل الليل إلى نصفه صدق عليه أنه بات هناك، أمّا أن يذهب بعد منتصف الليل ويبقى حتّى الفجر فلا يصدق عليه عنوان المبيت وأنه بات في ذلك المكان»([74]).

الجواب:

أـ بالإضافة إلى أن المتفاهم من العُرْف أن (البيتوتة) إذا لم تصدق على النصف الثاني فلا أقلّ من كونها أعمّ من ذلك، فإن مَنْ يبقى ساعتين أو ثلاثة من أول الليل في مكانٍ ما لا يصدق عليه أنه بات فيه، بل العُرْف يفهم من المبيت البقاء في مكانٍ ما جزءاً من الليل إلى الصباح، يعني آخر الليل، وليس أوّله بحَسَب المدَّعى.

ب ـ «إنه بعد تصريح الروايات بكفاية المبيت في النصف الثاني، وأنه كالمبيت في النصف الأوّل، يكون هذا أشبه بالاجتهاد في مقابل النصّ».

إن مقتضى إطلاق بعض الأدلة (كصحيحة معاوية المتقدّمة) هو إطلاق المبيت على كلّ الليل، وشموله لكلا النصفين، ثم إن النصوص الدالّة على المبيت في النصف الأول قيّدت هذا الإطلاق، فيثبت الوجوب للنصف الأول، ويخرج النصف الثاني من هذا الإطلاق.

الجواب: إنه لو تمّ الإطلاق المذكور، وقلنا: إنه× في مقام البيان من هذه الناحية ـ أي من ناحية مقدار الليل اللازم للمبيت  ـ فسكوتُه عن تحديده بجزءٍ دون آخر يدلّ على لزومه في جميع الأجزاء، إنه لو ثبت أن الإمام في مقام البيان من هذه الناحية، وانعقد الإطلاق، تمّ هذا الإطلاق، وأمكنَتْ الاستعانة به. ولكنّ أصل انعقاده هو محلّ تأمُّلٍ؛ إذ يمكن أن يُقال: إنه× في صدد بيان أصل المبيت، وأنه لازمٌ، أمّا من أين؟ وإلى أين؟ وهل تجب جميع الأجزاء أو قسمٌ منها؟ فهو ليس في صدد بيانه. وقد جاءت العبارة الثانية لتوضِّح كفاية القسم الأوّل. إنّه بناءً على هذا لا يعود لدينا إطلاقٌ حتّى نتمسّك به لإثبات كفاية البقاء في النصف الثاني، بل الأمر بالعكس، فالمناسب فنِّياً آنذاك أن نرجع في النصف الثاني إلى ما تقتضيه القاعدة، فإنه إذا لم ينعقد الإطلاق نقول: إن المأمور به هو عنوان المبيت في الجملة، أمّا بكلِّ أجزاء الليل فهذا لم يثبت إلاّ بالإطلاق، والمفروض أنّنا أنكَرْنا الإطلاق، فالمبيت اللازم في الجملة صادقٌ بالمبيت في النصف الثاني، فما أُمِرنا به واشتغلَتْ به الذمّة ـ وهو المبيت في الجملة ـ قد حقَّقْناه جَزْماً، وما زاد على ذلك ـ يعني أن ينضمّ هذا الجزء الثاني إلى الأوّل، ولا يكفي وحده ـ فنشكّ فيه، ولم يدلّ عليه دليلٌ، فلا يُستفاد من إطلاق الرواية؛ لأننا منعنا إطلاقها، فنتمسَّك آنذاك بالبراءة؛ لنفي التقيّد الزائد.

والمهمّ الذي نريد أن نقوله: لو سلَّمنا بالإطلاق، وقلنا: إنه× في مقام البيان، وانعقد الإطلاق، فيمكن أن يقال: إن النصف الأوّل من الليل خرج من الإطلاق؛ بسبب نفس هذه الرواية (ذيلها)، والنصف الثاني قد خرج بالروايات الأخرى؛ لأنه توجد رواياتٌ أخرى تدلّ على كفاية البقاء في النصف الثاني، وأعني بذلك صحيحة معاوية بن عمّار الأخرى؛ لأنها بصدرها قد دلّت على كفاية البقاء في النصف الأوّل، حيث جاء فيها: «فإنْ خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى»، وهي واضحةٌ في أنه إذا بقي في النصف الثاني كفى ذلك.

وخلاصة مناقشتنا للرواية: إنْ سلّمنا بالإطلاق، ولم نشكِّك فيه؛ لأجل ما أشَرْنا إليه، من أن الإمام ليس في مقام البيان من ناحية المقدار من الليل، فنقول: إن الذي خرج من هذا الإطلاق بالمقيّد ليس خصوص النصف الأوّل، بل خرج النصف الثاني بصحيحة معاوية الأخرى، وعليه فلا إشكال من هذه الناحية»([75]).

معارضة بعض الروايات لهذا القول، ومنها:

أـ رواية أبي الصباح الكناني قال: «سألتُ أبا عبد الله× عن الدُّلْجَة إلى مكّة أيام منى، وأنا أريد أن أزور البيت، فقال: لا، حتّى ينشقّ الفجر؛ كراهية أن يبيت الرجل بغير مِنَى»([76]).

(بتقريب) أنه× لم يجوِّز الخروج من مِنَى قبل أن ينشقّ الفجر، فلو كان يكفي النصف الثاني لكان من المناسب الاكتفاء بذلك»([77]).

الجواب: والاستدلال بهذه الرواية غير تامٍّ متناً، ولا سنداً.

فأما المتن فإنه إنْ أريد بـ (الدُّلْجة) الخروج أول الليل من منى فهو ـ بالإضافة إلى كونه دالاًّ على المنع من الخروج في الليل كلّه، وليس خصوص النصف الثاني ـ معارَضٌ برواياتٍ عديدة دالّة على جواز الخروج من منى؛ لأجل الاشتغال بالعبادة بمكة؛ وإنْ أريد بـ (الدُّلْجة) الخروج بعد منتصف الليل فإنه معارَضٌ برواياتٍ صحيحة تجيز الخروج من منى بعد انتصاف الليل؛ لأجل الاشتغال بالعبادة بمكّة كذلك.

والنتيجة أن هذه الرواية تحمل الرجحان والأفضلية، ولا تصلح لمعارضة القول بإجزاء المبيت بمنى في النصف الثاني.

وأما من ناحية السند فإنها لا تخلو من إشكالٍ؛ فإن في سندها (محمد بن الفضيل)، وهو مشتركٌ بين الثقة وغيره.

ب ـ رواية قرب الإسناد، عن عبد الله بن الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى×، قال: «سألتُه عن رجلٍ بات بمكّة حتّى أصبح في ليالي منى؟ فقال: إنْ كان أتاها نهاراً فبات حتّى أصبح فعليه دم شاةٍ يهريقه، وإنْ كان قد خرج من منى بعد نصف الليل فأصبح بمكّة فليس عليه شيءٌ».

«بدعوى أنه× حكم بأنه لو خرج بعد نصف الليل فأصبح بمكّة فليس عليه شيءٌ، يعني أنّه في ما سوى ذلك عليه شيءٌ، ومن مصاديق (ما سوى ذلك) هو أن يفترض أن يكون في مكّة في النصف الأوّل، ويكون في منى في النصف الثاني، فهذا عليه شيءٌ، وهذا معناه أنّه لا يجزيه»([78]).

الجواب: إن الرواية ليست بصدد بيان حكم النصف الثاني، حيث «إن غاية ما تدلّ عليه هو أنّ هذا إذا خرج بعد نصف الليل كفاه؛ لأنه بقي النصف الأوّل، أمّا أنّ بقاء النصف الثاني لا يجزي أو يجزي فهو شيءٌ مسكوتٌ عنه، لا أننا نستفيد بالمفهوم عدم الاكتفاء به، فالرواية من هذه الناحية لا نستفيد منها ما أريد»([79]).

كما أن الرواية لا تخلو من إشكالٍ في سندها؛ بسبب (عبد الله بن الحسن)، الذي لم تثبت وثاقته.

ج ـ الروايات المصرِّحة بكفاية الإصباح بمنى، كـ:

ـ صحيحة جميل بن دراج، عن أبي عبد الله× أنه قال: «إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلاّ بها».

ـ صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما’ أنه قال: «في الزيارة إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلاّ بمنى».

ـ صحيحة العيص بن القاسم قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الزيارة من منى؟ قال: «إنْ زار بالنهار أو عشاء فلا ينفجر الصبح إلاّ وهو بمنى».

ـ صحيحة صفوان، عن أبي الحسن×، قال: سألني بعضهم عن رجلٍ بات ليالي مِنَى بمكّة، فقلتُ: لا أدري، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، ما تقول فيها؟ فقال×: «عليه دم شاةٍ إذا بات، فقلتُ: إنْ كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسَعْيه، لم يكن لنومٍ ولا لذّةٍ، أعليه مثل ما على هذا؟ قال: ما هذا بمنزلة هذا، وما أحبّ أن ينشقّ له الفجر إلاّ وهو بمنى».

حيث يمكن القول: إن هذه الروايات تخصِّص ما دلّ على المبيت في النصف الثاني من منتصف الليل إلى الفجر بإجزاء الإصباح.

فإنْ قلتَ: إن روايات النصف الثاني نصٌّ في المطلوب، بينما الثانية ظاهرةٌ فيه، أو الثانية مجملةٌ، والأولى مفصّلة؛ إذ لا يعلم هل الثانية مطلقة أم مقيّدة؟ أي هل كفاية الإصباح مشروطةٌ بالاضطرار مثلاً أو الجهل أو لمَنْ قصد الزيارة للبيت وما أشبه، أم هي مطلقة؟ لذلك فهي من هذه الجهة مجملةٌ، بينما الطائفة الأولى مفصّلةٌ باعتبار أنها تبين تفصيل الحكم الأوّلي، وبهذا يقدَّم التفصيل على الإجمال.

قلنا: إن هذا الكلام غير تامٍّ، بل يمكن ادّعاء العكس أيضاً. والأوفق القول بالتساوي في مستوى الظهور، ولا وجه للقول بأن الأولى مفصلة والثانية مجملة؛ إذ الإطلاق يستفاد من الطائفتين.

ولا تعارض بينهما؛ فالثانية تنصّ على كفاية الإصباح مطلقاً، بينما الأولى تؤكِّد على رتبةٍ من مراتب الفضل، أي يستحبّ البقاء في منى النصف الثاني بتمامه لمَنْ لم يختَرْ النصف الأول، مع عدم الكراهة في الاكتفاء بالإصباح.

ولا داعي لاحتمال القيدية بالنسبة إلى الطائفة الثانية؛ لتمامية ظهورها في الإطلاق. ومجرّدُ الاحتمال بدون قرائن واضحة غيرُ نافعٍ، بل يمكن ادّعاء احتمال القيدية بالنسبة إلى الطائفة الأولى أيضاً، بأن يُقال باحتمال اختصاصها بمَنْ لا يطمئن أو لا يستطيع إدراك ما قبل الفجر بمِنَى أو غير ذلك.

قد يُقال بأن النسبة بينهما الحكومة، بأن تكون هذه الروايات حاكمةً على الثانية ومفسِّرةً لها، فيكون المراد من الثانية ليس الإطلاق، وإنما خصوص مَنْ خرج من مكة بقصد زيارة البيت، سواء كانت الزيارة للإتيان بمناسك الحجّ أو لمطلق التعبُّد؛ لإطلاق مثل: صحيحة أبي الصباح الكناني.

لكنْ يمكن أن يُدَّعى أن التمسُّك بإطلاق صحيحة جميل؛ للقول بإجزاء الإصباح مطلقاً، خيارٌ وجيه؛ لاعتبارات عدّة:

1ـ إن الإمام× في هذه الروايات بصدد الإجابة عن أسئلةٍ، وبالتالي فالخروج من منى مجرّد مورد ومصداق، وخاصة أنه المورد الغالب، ولهذا كثر السؤال عنه بخصوصه. نعم، لو كان إنشاءً ابتدائياً من الإمام لأمكن القول بتوجُّه التقييد.

2ـ تمامية الإطلاق في صحيحة جميل، مع كون الإمام× في مقام البيان.

3ـ عدم كفاية مجرّد احتمال ناظريّة أخبار الطائفة الثالثة إلى صحيحة جميل للخدش في الإطلاق.

4ـ يُضاف إلى ذلك ما جاء في صحيحة العيص قال: «إنْ زار بالنهار أو عشاء فلا ينفجر الصبح إلاّ وهو بمنى»، باعتبار أن مَنْ زار عشاء في الغالب من الصعب عليه إدراك النصف الثاني كاملاً، فيصبح كفاية الإصباح بالنسبة إليه مستساغةً؛ إذ لا خيار آخر له، أما مَنْ زار نهاراً فالوقت بالنسبة إليه متَّسعٌ، فلا أقلّ من قدرته على إدراك تمام النصف الثاني، بل حتّى الأول قد يكون ممكناً، ومع ذلك أجزأه الإصباح، ما يعني أن حكم الإصباح الإجزاء مطلقاً.

وبناءً على ذلك يصحّ التمسُّك بإطلاق صحيحة جميل، وتكون هذه الروايات ترقِّياً، أي لا سيَّما إذا كان قاصداً زيارة البيت.

فتكون النتيجة كفاية الإصباح مطلقاً، سواء مع قصد زيارة البيت أو بدونه.

وعليه فإن مَنْ لم يبِتْ النصف الأول في منى يجزئه الإصباح في منى، سواء خرج إلى مكّة للزيارة أو لمجرد البقاء فيها.

لكنّ هذه التوجيهات بأجمعها مردودةٌ؛ لصراحة الروايات في كفاية النصف الأول أو الثاني على نحو التخيير، ومن غير تقييدٍ بقصد زيارة البيت لمَنْ أراد الخروج قبل أو أثناء النصف الأوّل، كصحيح جعفر بن ناجية المتقدِّم: «إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وهو بمنى، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها»، حيث يظهر منه ـ كما هو واضح ـ جواز الخروج مطلقاً من منى أول الليل واختيار النصف الثاني، وبالتالي فالخروج من منى أول الليل جائز مطلقاً، وخصوصاً لمَنْ قصد زيارة البيت، كما هو الغالب، أو لا أقلّ هو محلّ الابتلاء عند بعضٍ.

لهذا تبقى صحيحة ابن ناجية على إطلاقها، بلا معارضٍ، فتكون بذلك مفسِّرةً لمفهوم المبيت. فلو سلَّمنا بأن المبيت إنما يكون من أوّل الغروب إلى آخر الليل، لكن الذي خرج منه بالنصّ ليس الخروج بعد نصف الليل فقط، كما وجَّه به السيد الخوئي كلام المشهور، وإنما يخرج منه بالنصّ مَنْ بات أحد النصفين على نحو التخيير، كما هو المستفاد من مجموع الروايات السابقة. وبذلك أجاب السيد الخوئي نفسه على التوجيه الذي احتمله([80]).

ويظهر ممّا تقدَّم التخيير بين النصفين الأول والثاني، من خلال الروايات الصريحة في لزوم المبيت بمِنَى قبل منتصف الليل لمَنْ فاته النصف الأول، كالحصر في قوله× «فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى»، الواردة في مَنْ كان خارج منى في النصف الأول؛ وكما دلَّت عليه معتبرة جعفر بن ناجية، وصحيحة معاوية بن عمّار السابقتين.

فتحصَّل من المجموع التخيير في تحقُّق الامتثال في وجوب المبيت في منى بين النصف الأول والثاني.

النتائج

1ـ إن مقتضى الصناعة الفقهية في حال عدم وجود دليلٍ على الخلاف عدمُ الاجتزاء بالمبيت في النصف الثاني، وعدم وجوبه حتّى فيما لو ترك المبيت في النصف الأول.

2ـ يمكن القول بوجوب الاستيعاب لليل لولا وجود النصوص المقيّدة لهذا الإطلاق.

3ـ إن القول بالتفصيل بين الليالي ممّا لا تساعد عليه الأدلّة.

4ـ إن القول المشهور والمعروف هو اختصاص الاجتزاء بالمبيت في النصف الأول.

5ـ إن دلالة الروايات على كفاية المبيت في النصف الأول معناه إلغاء عنوان البقاء في منى من أول الليل إلى آخره، لا أنه موردٌ من موارد التقييد.

6ـ لا يمكن الالتزام بوجوب الاستيعاب إلى طلوع الشمس؛ بسبب عدم وجود وجهٍ لذلك.

7ـ لا يمكن الاكتفاء بالإصباح وحده في تحقيق معنى المبيت في منى.

8ـ إن القول الرابع، القائل بالتخيير في المبيت بين النصف الأول والإصباح في النصف الثاني، غير تامٍّ.

9ـ إن الروايات التي قالت بالتخيير بين النصفين من الليل لا تصلح لمعارضة القول بإجزاء المبيت بمنى في النصف الثاني.

10ـ إن المتحصِّل من الروايات هو التخيير في تحقُّق الامتثال في وجوب المبيت في منى بين النصفين.

التوصيات

1ـ حريٌّ بالمنصف والدارس والمتأمِّل لواقعنا الفقهي أن يضع مكانة مرموقة لأبحاث كهذه؛ لتظهر بصمات الفقهاء جليّةً في عالمنا الفقهي.

2ـ الأجدر بالمراكز العلمية والبحثية تقدير وتثمين الدَّوْر الذي قام به الفقهاء على مرّ العصور، وخصوصاً المتأخرين منهم، وأن لا يقلّ عما قام به المفكِّرون العمالقة في الأمة الإسلامية والعربية، قديماً وحديثاً.

3ـ إن هذه الدراسة قد تناولت جانباً مهمّاً من جوانب المحطّات الفقهية الخاصة بالحاجّ، بخصوص مبيته في منى، وأما الدراسات التي كُتبت عن هذا المبحث سابقاً فهي ـ باعتقادي القاصر ـ لم تحِطْ بكلّ جوانبه الفقهية وأعمال الفقيه فيه بشكلٍ دقيق؛ ودليلنا الأخذ والردّ والتحليلات القريبة والبعيدة عمّا يدور في هذا المجال المهم. ونحن نرى أن دراسة هذا المجال وما يترتَّب عليه تحتاج إلى دراساتٍ أعمق وأدقّ؛ ليكون الحكم عليه خالياً من الإسقاطات.

4ـ أن تكثـَّف الدراسات بطريقةٍ موضوعية حول جدوائية الدراسات الحداثية في إيجاد حلولٍ لبعض مشاكل المبيت ومتعلَّقاته.

5ـ توجيه الضوء إلى حدود العقل الفقهي ومَدَياته، فمعرفة حدود العقل الفقهيّ له دَوْرٌ أساسي في علاج كثير من القضايا الدينية، وبالتالي تجنيب الدين كثيراً من المشاكل التي زُجَّ بها من دون أيّ عُذْرٍ.

6ـ أن يحافظ الباحث على النقطة الجوهرية في دراسة ظاهرة المبيت، التي دعا إليها الظرف المتحقِّق خاصة، مع المحافظة على مسألة تعالي الحجّ وارتباطه بالتكليف الفقهي للمكلّف، وعدم السماح للدراسات الحداثية أو غيرها بنزع هذا التعالي، فزوال تعالي هذه الفريضة وارتباطها بالتكليف الإلهي للعباد زوالٌ للقضية الدينية المرتبطة بها ـ الفريضة ـ برمّتها.

7ـ عدم التسرُّع في استخدام المناهج المستوردة من أفق ثقافاتٍ أخرى لم تولد من رحم الدراسات الفقهية المتَّزنة والأصيلة، فكثيراً ما تؤدّي مثل هذه المناهج إلى نتائج لا تمتّ إلى الروح الدينية بصلةٍ.

8ـ لا بُدَّ من الفحص عن الأفكار التي تقف خلفها النزعات الأيديولوجية، وكشفها ونقدها. وهذه القراءات كثيراً ما تستهدف هذه النزعات التي تريد أن تدافع عن أيديولوجية معيّنة، في مقابل الأيديولوجية التي تنبثق من رحم التجربة الفقهية القويمة.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة، متخصِّصٌ في الفلسفة الإسلاميّة. من العراق.

([1]) الطريحي، مجمع البحرين 1: 401.

([2]) أبو جيب، القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً: 341.

([3]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 2: 91.

([4]) الطوسي، التبيان ٢: ١٥٤.

([5]) الطبرسي، مجمع البيان 1: 299.

([6]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 14، باب 1 من أبواب العود الى منى، ح1.

([7]) نفس المصدر، ح3.

([8]) نفس المصدر، ح8.

([9]) العلاّمة الحلي، منتهى المطالب ١١: ٣٧١.

([10]) العاملي، مدارك الاحكام ٨: ٢٢٢.

([11]) منتهى المطالب ١١: ٣٧١.

([12]) ابن سيده، المحكم ٥: ٥٢٦.

([13]) المصدر السابق ٨: ١٣٨.

([14]) المصدر السابق 1: 245.

([15]) المصدر السابق 2: 67.

([16]) المصدر السابق ١٤: ٢٣٧.

([17]) المصدر السابق 3: 188.

([18]) الطوسي، التهذيب ٥: ٢٦٥.

([19]) المصدر السابق 2: 324.

([20]) المصدر السابق ٤: ٣٠٩.

([21]) المحقق الحلي، شرائع ١: ١٣٤.

([22]) العلامة الحلي، القواعد ١: ٤٤٦.

([23]) الشهيد الأول، الدروس 1: 459.

([24]) المصدر السابق 3: 264.

([25]) المصدر السابق 2: 265.

([26]) المصدر السابق ٨: ٢٢٧.

([27]) وسائل الشيعة، ج ١4، باب ١ من أبواب العود إلى منى، ح1.

([28]) المصدر السابق، ح٨.

([29]) المصدر السابق، ح٤.

([30]) المصدر السابق، ح8.

([31]) روح الله الخميني، تحرير الوسيلة 1: 454.

([32]) المصدر السابق 1: 455.

([33]) وسائل الشيعة، ج ١4، باب ١من أبواب العود إلى منى، ح١، ح٨.

([34]) المصدر نفسه.

([35]) المصدر السابق ، ح8.

([36]) المصدر السابق ، ح١٩.

([37]) وسائل الشيعة 10: 207.

([38]) المحقق الحلي، شرائع الإسلام 1: 205.

([39]) الطباطبائي، رياض المسائل 7: 120.

([40]) وسائل الشيعة، ج 14، باب 1 من أبواب العود إلى منى، ح8.

([41]) المصدر نفسه.

([42]) محسن الحكيم، دليل الناسك: 432.

([43]) الطباطبائي، رياض المسائل 7: 120.

([44]) محسن الحكيم، دليل الناسك: 422.

([45]) الداماد، مناسك الحج: ٢٩٩.

([46]) وسائل الشيعة 14: 252، ح4.

([47]) الداماد، مناسك الحج والعمرة: ٢١٣.

([48]) الصدوق، الفقيه ٢: ٢٨٧.

([49]) الطوسي، التهذيب ٥: ٢٥٦.

([50]) الكليني، الكافي ٤: ٥١٤؛ الطوسي، التهذيب ٥: ٢٥٦.

([51]) وسائل الشيعة، باب ١ من أبواب العود إلى منى، ح٨.

([52]) المصدر السابق، ح٢٠.

([53]) الكليني، الكافي ٤: ٤٦٠.

([54]) الطوسي، التهذيب ٥: ٢٥٧.

([55]) الزمخشري، أساس البلاغة (النسخة الإلكترونية) 1: 254.

([56]) الأزهري، تهذيب اللغة (النسخة الإلكترونية) 3: 19.

([57]) محمد الجواهري، شرح العروة 5: 193.

([58]) النراقي، المستند 4: 324.

([59]) فاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة 5: 397.

([60]) وسائل الشيعة، باب 1 من أبواب العود إلى منى ، ح8.

([61]) اللنكراني، تفصيل الشريعة 5: 398.

([62]) المصدر نفسه.

([63]) وسائل الشيعة، باب 1 من أبواب العود إلى منى، ح20.

([64]) السبحاني، الحجّ في الشريعة 5: 358.

([65]) وسائل الشيعة، باب 1 من أبواب العود إلى منى، ح1.

([66]) محمد السند، سند العروة 4: 292.

([67]) المصدر نفسه.

([68]) المصدر نفسه.

([69]) وسائل الشيعة، باب ١ من أبواب العود إلى منى، ح٤.

([70]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 7: 334.

([71]) محسن الحكيم، دليل الناسك 1: 432.

([72]) بحث الشيخ الإيرواني، بتاريخ 5 / 7 / 1435هـ.

([73]) محسن الحكيم، دليل الناسك 1: 432.

([74]) بحث الشيخ الإيرواني، بتاريخ 5 / 7 / 1435هـ.

([75]) المصدر نفسه.

([76]) وسائل الشيعة 14: 255 باب 1 من أبواب العود إلى منى، ح11.

([77]) بحث الشيخ الإيرواني بتاريخ 6 / 7 / 1435هـ.

([78]) المصدر نفسه.

([79]) المصدر نفسه.

([80]) الخوئي، موسوعة الإمام الخوئي 29: 382.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً