الشيخ محمد الخالدي(*)
تمهيدٌ
من البحوث الحديثة والمهمة في الفقه، والتي تعتبر ذات طابعٍ شمولي، مسألة التلقيح الصناعي؛ فقد شاع التلقيح الصناعي في الآونة الاخيرة كحلٍّ للزوجين اللذين يعجز أحدهما أو كلاهما عن تأدية عملية التلقيح الطبيعي؛ لموانع جسدية تحدث لهما. وقد صارت المسألة محطّ نظر الأعلام من علمائنا، كما أنها أخذت حيِّزاً كبيراً من البحوث الفقهية، بحيث يمكن اعتبارها من أهمّ المسائل ذات الفروع المتعدِّدة المرتبطة بباب النكاح والإرث والإجارة والتوريث وغيرها؛ لارتباطها بعدّة أحكامٍ شرعية في هذه الأبواب، كثبوت العلقة النسبية ونشر الحرمة والتوارث وصحة إجارة رحم الأجنبية وجواز النظر وغيرها من عشرات الأحكام المترتِّبة عليها.
ولما كانت البحوثُ المرتبطة بالتلقيح الصناعي الداخلي ـ الحاصل في داخل رحم الزوجة أو رحم غيرها ـ والخارجي ـ الحاصل في خارج الرحم بواسطة التحفيز للحيامن على التلقيح ثمّ زرع البويضة المخصَّبة في رحم المرأة، أو وضعها في رحمٍ صناعيّ، أو رحم امرأةٍ أخرى مستأجرة ـ كثيرةً تحتاج الى تأليف كتابٍ من عدّة مجلدات في المقام، كما أن صورَ المسألة بلحاظ الحالتين ـ التلقيح الداخلي والخارجي ـ كثيرةٌ جدّاً تحتاج إلى بحثٍ موسَّع يخرج عن طور بحثنا واختصاره، فسنحاول أن نعرض لحكم التلقيح في هذا البحث من جهة الحرمة والجواز، دون بقية الأحكام، كثبوت النسب والتوارث وغيرها. كما سنحاول تخصيص البحث بصورة التلقيح الداخلي، دون الخارجي؛ لأجل استيعاب أهمّ الصور المفروضة فيه، وبيان تمام الأدلة عليها بصورةٍ مفصّلة وشبه وافية. ونأمل من الله تعالى أن نوفَّق في بحوثٍ لاحقة إلى بيان حكم التلقيح الخارجي، وما يتفرَّع عليه من الصور، وما يترتَّب عليه من الأحكام. كما نسأله التوفيق لإفراد بحوثٍ مفصَّلة لكلّ حكمٍ من الأحكام المترتِّبة على الحرمة أو الجواز في الأبواب الباقية، كالتوريث بين الولد المتكوِّن من التلقيح والأبوين، وحرمة النكاح، وتصحيح النسب، وحرمة النظر أو حلِّيته، وغيرها، ممّا يحتاج إلى عرض الأدلّة العامّة والخاصّة في كلّ بابٍ من تلك الأبواب.
التلقيح الصناعي، تعريفه وصوره
عُرِّف التلقيح الصناعي بأنه «إدخال ماء الرجل في الجهاز التناسلي للمرأة، بواسطة أنبوب أو إبرة حاقنة ونحوهما، حتّى يصل إلى المنطقة المرادة من الجهاز، فيحصل به التلقيح للبويضة، وتحمل منه المرأة. والغالب أن القائم بعملية التلقيح يترصَّد مواعيد نزول بويضة المرأة إلى الرحم، أو إلى موضعٍ قريب منه؛ حتى يكون التلقيح مضموناً أو مظنوناً»([1]).
وهذا التعريف، وإنْ كان قاصراً عن شمول تمام صور التلقيح الصناعي ـ لأن منها ما يكون خارج الجهاز التناسلي للمرأة ـ، ولكنه يكفي في بيان العملية المراد بيان حكم الشارع تجاهها. وللتلقيح صور متعدِّدة؛ باعتبار صاحب الحيمن ـ أو ما يقوم مقامه من الخلايا المأخوذة من الذكر، لو أمكن ذلك علميّاً ـ، وصاحبة البويضة ـ أو ما يقوم مقامها من الخلايا المأخوذة من المرأة، لو أمكن ذلك علميّاً ـ، وصاحبة الرحم؛ إذ يمكن أن يكون صاحب الحيمن هو الزوج أو الأجنبيّ، سواء كان من أقارب الزوج أو الزوجة أو من غيرهما؛ كما أن صاحبة البيضة قد تكون الزوجة أو الأجنبية، سواء كانت من أقارب الزوج أو الزوجة أو من غيرهما؛ وصاحبة الرحم قد تكون هي الزوجة أو الأجنبية، سواء كانت من أقارب الزوج أو الزوجة أو من غيرهما. فالصور الأصلية ثمانية، ويمكن إضافة احتمالين آخرين، وهما: كون صاحب الحيمن حيواناً غير إنسانٍ؛ أو أن يكون الحيمن مصنوعاً من موادّ حيوانيّة. كما أن البويضة قد تكون بويضة أنثى حيوان، أو تكون مصنوعةً من موادّ حيوانيّة. والرحم إما رحم حيوان أو رحمً صناعيّاً، فترتقي الصور إلى أربع وستين صورة، في ضمنها فروضٌ وحالاتٌ متعدّدة، وتختلف الأحكام باعتبارها.
1ـ حيمن الزوج، وبويضة الزوجة، ورحمها.
2ـ حيمن الزوج، وبويضة الزوجة، ورحم الأجنبية.
3ـ حيمن الزوج، وبويضة الزوجة، ورحم أنثى حيوان.
4ـ حيمن الزوج، وبويضة الزوجة، ورحم صناعي.
5ـ حيمن الزوج، وبويضة الأجنبية، ورحم الزوجة.
6ـ حيمن الزوج، وبويضة الأجنبية، ورحمها.
7ـ حيمن الزوج، وبويضة الأجنبية، ورحم أنثى حيوان.
8ـ حيمن الزوج، وبويضة الأجنبية، ورحم صناعي.
9ـ حيمن الزوج، وبويضة أنثى حيوان ورحم الزوجة.
10ـ حيمن الزوج، وبويضة أنثى حيوان، ورحم الأجنبية.
11ـ حيمن الزوج، وبويضة أنثى حيوان، ورحمها أو رحم أنثى حيوان آخر.
12ـ حيمن الزوج، وبويضة أنثى حيوان، ورحم صناعي.
13ـ حيمن الزوج، وبويضة صناعية، ورحم الزوجة.
14ـ حيمن الزوج، وبويضة صناعية، ورحم الأجنبية.
15ـ حيمن الزوج، وبويضة صناعية، ورحم أنثى حيوان.
16ـ حيمن الزوج، وبويضة صناعية، ورحم صناعية.
17ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الزوجة، ورحمها.
18ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الزوجة، ورحم الأجنبية.
19ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الزوجة، ورحم أنثى حيوان.
20ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الزوجة، ورحم صناعي.
21ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الأجنبية، ورحم الزوجة.
22ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الأجنبية، ورحمها.
23ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الأجنبية، ورحم أنثى حيوان.
24ـ حيمن الأجنبي، وبويضة الأجنبية، ورحم صناعي.
25ـ حيمن الأجنبي، وبويضة أنثى حيوان، ورحم الزوجة.
26ـ حيمن الأجنبي، وبويضة أنثى حيوان، ورحم الأجنبية.
27ـ حيمن الأجنبي، وبويضة أنثى حيوان، ورحمها أو رحم أنثى حيوان آخر.
28ـ حيمن الأجنبي، وبويضة أنثى حيوان، ورحم صناعي.
29ـ حيمن الأجنبي، وبويضة صناعية، ورحم الزوجة.
30ـ حيمن الأجنبي، وبويضة صناعية، ورحم الأجنبية.
31ـ حيمن الأجنبي، وبويضة صناعية، ورحم أنثى حيوان.
32ـ حيمن الأجنبي، وبويضة صناعية، ورحم صناعي.
33ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الزوجة، ورحمها.
34ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الزوجة، ورحم الأجنبية.
35ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الزوجة، ورحم أنثى حيوان.
36ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الزوجة، ورحم صناعي.
37ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الأجنبية، ورحم الزوجة.
38ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الأجنبية، ورحمها.
39ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الأجنبية، ورحم أنثى حيوان.
40ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة الأجنبية، ورحم صناعي.
41ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة أنثى حيوان، ورحم الزوجة.
42ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة أنثى حيوان، ورحم الأجنبية.
43ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة أنثى حيوان، ورحمها أو رحم أنثى حيوان آخر.
44ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة أنثى حيوان، ورحم صناعي.
45ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة صناعية، ورحم الزوجة.
46ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة صناعية، ورحم الأجنبية.
47ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة صناعية، ورحم أنثى حيوان.
48ـ حيمن ذكر حيوان، وبويضة صناعية، ورحم صناعي.
49ـ حيمن صناعي، وبويضة الزوجة، ورحمها.
50ـ حيمن صناعي، وبويضة الزوجة، ورحم الأجنبية.
51ـ حيمن صناعي، وبويضة الزوجة، ورحم أنثى حيوان.
52ـ حيمن صناعي، وبويضة الزوجة، ورحم صناعي.
53ـ حيمن صناعي، وبويضة الأجنبية، ورحم الزوجة.
54ـ حيمن صناعي، وبويضة الأجنبية، ورحمها.
55ـ حيمن صناعي، وبويضة الأجنبية، ورحم أنثى حيوان.
56ـ حيمن صناعي، وبويضة الأجنبية، ورحم صناعي.
57ـ حيمن صناعي، وبويضة أنثى حبوان، ورحم الزوجة.
58ـ حيمن صناعي، وبويضة أنثى حيوان، ورحم الاجنبية.
59ـ حيمن صناعي، وبويضة أنثى حيوان، ورحمها أو رحم أنثى حيوآن آخر.
60ـ حيمن صناعي، وبويضة أنثى حيوان، ورحم صناعي.
61ـ حيمن صناعي، وبويضة صناعية، ورحم الزوجة.
62ـ حيمن صناعي، وبويضة صناعية، ورحم الأجنبية.
63ـ حيمن صناعي، وبويضة صناعية، ورحم أنثى حيوان.
64ـ حيمن صناعي، وبويضة صناعية، ورحم صناعي.
وحيث إن بعض الصور لا تترتَّب عليها أحكام شرعية هامّة سنخصّ البحث بالصور ذات الأثر الشرعي.
حالات التلقيح
قد يحصل التلقيح للبويضة خارج الرحم؛ وقد يكون داخلياً. وقد يرافق التلقيح بعض المحرَّمات من نظر الأجنبي إلى العورة وغيرها، مما سنفصِّله بعد ذلك. كما أن التلقيح الخارجي يحتاج بعد ذلك إلى وضع البويضة المخصَّبة في الرحم، وقد يكون رحم الزوجة أو الأجنبية، مما يوجب التفصيل بلحاظ حالات الاضطرار إلى الطبيب الحاذق وغيره. ومن هنا لا بُدَّ من البحث عن صدق الاضطرار أو الحَرَج الموجبين لتجويز التلقيح والوضع في الرحم من قِبَل الأجنبي. ولكنْ؛ حيث خصَّصنا البحث عن التلقيح الداخلي فقط، دون الخارجي، سنحاول البحث عن صوره المتعدِّدة؛ تارةً بلحاظ أصل الحكم في الصور المذكورة؛ وأخرى من جهة الأمور المحرَّمة التي تلزم من عملية التلقيح، كاطِّلاع الأجنبي على عورة المرأة ولمسها، وغيرها من المحرَّمات.
ولهذا نعقد البحث في مقامين:
المقام الأوّل: البحث عن الحكم الأوّلي للتلقيح الداخلي في تلك الصور.
المقام الثاني: البحث عن العناوين الثانوية الموجبة للتحريم في تلك الصور.
وحيث إن جميع الصور ليست ذات أثرٍ شرعي مترتِّبٍ عليها وإنما ذكرناها لبيان أكثر الصور الممكنة في المقام سنحاول تخصيص البحث بمجموعةٍ من الصور التي يتَّضح من خلالها حكم بقية الصور.
الحكم الأوّلي للصور ذات الأثر
وهنا نحاول البحث عن صورٍ خاصة من الصور السابقة، على أساس ترتُّب الأثر الشرعي، واحتمال تحقُّقها في الخارج:
1ـ تلقيح الزوجة بنطفة الزوج
وفي هذه الصورة حكم الأعلام بجواز التلقيح في نفسه، بلا إشكال، وإنما فصّلوا في بعض الحالات التي سيأتي ذكرها.
ويمكن الاستدلال لفتواهم بعدّة أدلة:
1ـ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 5 ـ 7)؛ فإن الآية مسوقة لبيان صفات المؤمنين، وأنهم لفروجهم عن الحرام حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم من الجواري، أو المتعة ـ كما ورد في بعض الروايات في ذيل الآية أنها في حدّ المملوكة([2]) ـ. والآية وإنْ اختصّتْ بالمؤمنين، ولكنها؛ بمقتضى اشتراك الأحكام بين الرجال والنساء ـ ما لم يخرج بدليلٍ أو يختصّ بطبعه بأحدهما، كأحكام الحيض للنساء ـ، شاملةٌ للطرفين. كما أن مقتضى المقابلة بين قوله تعالى: «وَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ» وقوله تعالى: «إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ»، المستثنى من الحرمة، شمولُ الجواز لصورة المقاربة المتعارفة، وغيرها؛ من تزريق نطفة الزوج في رحمها. ولا وجه للمنع من الشمول له بدعوى عدم شمول حفظ الفرج للتزريق([3])؛ فإن الاستدلال لا يتوقَّف على شمول مفهوم الحفظ له، بل الشمول هو مقتضى المقابلة الظاهرة في كون المراد من الحفظ ما يشمل جميع التصرُّفات المرتبطة بالعلاقة الزوجية، ومنها: التزريق.
2ـ أصالة الإباحة: إذ حتى مع فقد الدليل الاجتهادي على الجواز يمكن التمسُّك بالقاعدة لإثباته، ولا يصحّ المنع عنه بدعوى الاحتياط في الفروج؛ لأن قاعدة الاحتياط في الدماء والفروج منصرفةٌ إلى موارد الشبهات الحكمية التي لا يحرز رضا الشارع بعدم الاحتياط فيها، لا كما في محلّ كلامنا، بل لا موضوع لها في صورتنا، وهي التلقيح بين الزوجين.
ولكنْ يمكن في بعض الحالات أن تُوَجَّه عدّةُ إشكالاتٍ إلى هذه الصورة، تنتهي إلى الحرمة وعدم الجواز:
أـ مع عدم رضا الزوج
فقد ادُّعي أن الظاهر عدم ثبوت حقٍّ للزوجة في ذلك ما لم تشترط حقَّ الإنجاب، صريحاً أو مضموناً، بل ما دلّ على جواز العزل عن المرأة الحرّة ـ كما في موثَّقة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: «لا بأس بالعزل عن المرأة الحرّة إنْ أحبّ صاحبُها وإنْ كرهَتْ، ليس لها من الأمر شيء»([4]) ـ يدلّ بإطلاقه على عدم ثبوت حقّ الإنجاب لها([5]).
ولكنّ هذا الإشكال غير واردٍ؛ فإن حقّ الإنجاب يمكن أن يُدَّعى أنه من قبيل: الشرط الارتكازي، الذي ينصرف إليه العقد، فلا يحتاج إلى ذكرٍ صريح أو مضموني.
كما أن روايات جواز العزل مقيّدةٌ بما ورد في الباب اللاحق من عدم جوازه في صورة عدم الاشتراط وعدم الرضا، وعدم كون المرأة ممَّنْ تيقَّنَتْ أنها لا تلد، وغيرها([6]) من الموارد الراجعة إلى كون الجواز مقيّداً بكونه لغرضٍ عقلائيّ، لا مطلقاً. ولو سُلِّم إطلاقها فهي لا تدلّ إلاّ على الجواز، مع عدم الإضرار ولزوم العُسْر والحَرَج على المرأة، ومن الواضح جدّاً لدى المرتكز العقلائي لزوم الحَرَج الشديد للمرأة التي لا تلد في المجتمعات الإسلامية، بل يُعَدّ ذلك من العيوب عندهم.
ولو سُلِّم ذلك أيضاً فهو لا يشمل صورة ما لو قذف السائل المنويّ، ورمى به جانباً، ثم أخذَتْه المرأة وحقنَتْ به نفسها؛ فان عدم رضا الزوج حينئذٍ لا أثر له. كما أن دعوى «كونه مملوكاً له، ولو كان فضلةً، فلا يجوز التصرُّف فيه من غير إذنه»([7]) ممنوعةٌ؛ فإن الارتكاز المتشرِّعي قائمٌ على جواز إتلاف المنيّ الذي أعرض عنه الزوج، فضلاً عن تزريقه ولو منع من ذلك، فلا أقلّ من عدم ثبوت الحقّ الشرعي له فيه بعد الإعراض عنه، ولا يُقاس المنيّ الذي عزله أو قذفه في الغلاف الواقي بما كان جزءاً من بدنه وأُكره على قذفه؛ فإنه قد يُقال بثبوت حقّ الاختصاص في الثاني، دون الأول، الذي يكفي الإعراض فيه لارتفاع حقِّه الذاتي فيه، أو مِلْكيّته الذاتية له، كباقي أعضاء بدنه.
ومن الغريب ما ذكره بعض المدقِّقين، من «أن الإعراض لا يعني جواز جميع التصرفات، بل بمقدار ما يحرز فيه رضا المالك، كمَنْ ألقى ورقةً مكتوباً فيها بعض الأمور التي لا يرضى بالاطِّلاع عليها، وإنما يسمح بإتلافها. وكذلك في المقام، فإن إعراض الزوج عن سائله المنويّ لا يجوِّز للمرأة تزريقه»([8])؛ فإن هذا الكلام غريبٌ جداً؛ إذ الإعراض إذا كان سبباً لمِلْكيّة السائل بعد استيلائها عليه فمن لوازم المِلْكيّة جواز التصرُّف بالمملوك بشتّى الصور. ولو قيل بعدم صلاحية المنيّ بعد إلقائه في الغلاف الواقي للمِلْكيّة فلا أقلّ من إمكانية ثبوت حقّ الاختصاص لمَنْ حازه فيه، فلا يُعَدّ حينئذٍ مِلْكاً للزوج حتّى يمنع من الاستفادة منه. وقياسُ المسألة على المعلومات الموجودة في الورقة قياسٌ مع الفارق؛ فإن الإعراض عن الورقة لا يوجب الإعراض عن المعلومات المكتوبة فيها، حتّى يجوز النظر فيها ومعرفة تلك المعلومات، وإنْ جازت الاستفادة منها في أمورٍ لا تستلزم الاطِّلاع على مضمونها، كاستعمالها للتدفئة مثلاً.
ب ـ مع عدم رضا الزوجة
فقد يدَّعى حرمة هذا الفعل أو عدم ثبوت الحقّ الشرعي للزوج في إكراه الزوجة على تزريق سائله في رحمها، فإن ما ورد من أن «الماء للرجل يصرفه حيثما يشاء»([9]) لا إطلاق له يثبت حقّاً كهذا للزوج في ذمّة زوجته، بحيث يجوز له الإكراه والسلطنة على تزريق سائله في رحمها، بدون رضاها، بل ظاهر الحديث ناظرٌ إلى جواز العزل لا غير، وأنه يجوز له أن يصرف منيّه عند المقاربة إلى داخل المهبل أو خارجه([10]).
ولكنْ قد يُقال: إن هذا الانصراف وإنْ كان تامّاً؛ لوضوح أن السؤال والجواب في مقام بيان جواز العزل، ولكنْ يمكن ادّعاء دلالة الرواية على جواز الإكراه أو ثبوت الحقّ للزوج من جهة التفريع؛ فإن الإمام× عبَّر بكون «الماء للرجل يصرفه حيثما شاء»، وهذا التعبير ظاهرٌ في تفريع جواز الصرف حيثما شاء على كون مائه مِلْكاً له، ولو بالمِلْكيّة الذاتية التكوينية الثابتة للإنسان على أعضائه، وليس المراد من هذه المِلْكيّة إلاّ السلطنة على التصرُّف فيه؛ إذ الوجدان والضرورة والسِّيرة العقلائية كلّها حاكمةٌ بها([11])، ومقتضى هذه السلطنة جواز صرفه بالتزريق في رحم الزوجة؛ لأجل إنتاج الولد الذي هو المقصود الحقيقي من الماء لدى العقلاء. ولهذا لا نحتاج في المقام إلى التمسُّك بالإطلاق؛ ليُدَّعى الانصراف إلى جواز العزل.
ثمّ لو سُلِّم توجُّه الإشكال من جهة أن مقتضى السلطنة المذكورة سلطنته على ما هو مملوكٌ له ذاتاً من أعضائه وشؤونه، وليس التزريق من شؤونه عُرْفاً، بل هو من توابع الزوجة وشؤونها؛ لأنه في نظر العُرْف تصرُّفٌ في رحمها، فيمكن توجيه الجواز بالملازمة العُرْفية بين العزل والإضرار بالزوجة ـ خصوصاً مع كون القدر المتيقَّن من سؤال السائل ذلك، وإلاّ مع رضا الزوجة بالعزل لا معنى لتوهُّم حرمة العزل ـ؛ فإنه يدلّ بالأولوية القطعية على جواز صرفه في التزريق؛ لأجل الحمل، مع كراهة الزوجة أو تضرُّرها ضَرَراً غير محرَّم، كالتعب الجَسَدي أو النفسي، الناشئ من الحمل ولوازمه المعلومة لدى النساء.
نعم، لو استلزم التزريق تضرُّر المرأة من جهة الحمل ضَرَراً محرَّماً فمقتضى أدلة رفع الضَّرَر عدم شموله، ولكنّ البحث مع الإضرار غير المحرَّم، وكذلك لا يشمل صورة ما لو كان التزريق مخالفاً لإمساك المرأة بالمعروف، الذي دلَّتْ عليه الآية الشريفة، وسياق الآية وإنْ كان في الطلاق، ولكنّ الذي يظهر من الرويات ـ كما في تفسير العيّاشي عن أبي القاسم الفارسي ـ قال: «قلتُ للرضا×: جعلت فداك، إنَّ الله يقول في كتابه: ﴿فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 229)، ما يعني بذلك؟ فقال×: أما الإمساك بالمعروف فكفّ الأذى وإحباء النفقة…»([12]).
وقد يستدلّ على جواز التزريق بثبوت حقّ الاستيلاد للزوج على زوجته؛ وذلك بعدّة وجوهٍ:
الوجه الأول: قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ (النساء: 34)، بدعوى أن الآية واردة في مورد تشريع القوامة للزوج على الزوجة، ولو بمقتضى ذكر حكم النشوز للنساء في الذيل، وإن مقتضى القوامة ثبوت حقّ الاستيلاد له عليها، ولزوم إطاعته فيه إذا لم يتوقَّف على حرامٍ.
وقد استبعد بعض المدقِّقين في المقام دلالة الآية على ثبوت حقّ الاستيلاد؛ من جهة أن القوامة تعني قيام الزوج بتكفُّل أمر الزوجة، والاعتناء بشؤونها، وفق ماتقتضيه مصلحتها، وليس معناه عدم نفوذ إرادتها في نفسها وما تملكه، كتزريق السائل في رحمها([13]).
كما أنه لم يظهر من الآية النظر إلى قوامة الرجل على زوجته، بل لعلّها ناظرةٌ إلى قوامة قبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامّة التي ترتبط بحياة القبيلين جميعاً، كجهة الحكومة والقضاء، أو جهة الحرب التي تحتاج إلى التعقُّل والقوّة البدنية التي هي موجودة بالطبع في الرجل، بخلاف المرأة التي تكون حياتها عاطفيّةً، وحسّاسةً أكثر من الرجل([14]).
ولكنّ كلا الإيرادين غير صحيحٍ؛ فإن كون القوامة بالمعنى المذكور مجرد اجتهادٍ فهمه القرطبي، صاحب الجامع لأحكام القرآن([15])، وإلا فالقوامة لها ارتكازٌ متشرِّعي منتزع من الروايات، هو الذي ينبغي أن يكون موضوعاً للآية، كما ورد في تفسيرها، وهو قيام الرجل بما يصلحها ويقيمها. ومن الواضح أن الإنجاب مما يصلح الزوجة لو كان لا يستلزم محرّماً، كالإضرار بها.
كما أن ما ذكر من نظر الآية إلى القبيل من الرجال والقبيل من النساء لا يضرّ بثبوت حقّ الاستيلاد؛ إذ سيكون من أوضح شؤونه التي يقوم بها على المرأة بمقتضى عقد الزواج، ولو ارتكازاً.
ولكنّ الصحيح أن الآية لا تدلّ على ثبوت الحقّ المذكور؛ لما ورد من الروايات الواردة في باب قوامة الزوج على زوجته، وأنها ثابتةٌ في أمور الإنفاق والطلاق وما يرتبط بهما([16])، وليس المراد مطلق القوامة، حتّى يستشهد بها على ثبوت حقّ الاستيلاد للرجل على المرأة.
الوجه الثاني: قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ (البقرة: 223)، بدعوى أن الآية تدلّ على جعل المرأة زرعاً ومنبتاً ومزدرعاً لذرّيته، وهذا معناه جعل حقّ الاستيلاد للرجل على المرأة، وعدم جواز ممانعتها أو منعها من ذلك، ولو باستعمال الحبوب المانعة؛ إذ لا ينسجم جعلها حَرْثاً وزرعاً للرجل مع تجويز ممانعة أو منع الزوجة للحمل.
ولكنْ أجاب عن الاستدلال بعض المدقِّقين بأن الآية ليست في صدد منح الحقّ المذكور، بل هي في مقام التفريع على كون الزوجة منبتاً للولد بجواز إتيان المنبت في أي وقتٍ، وعلى أيّ كيفيّةٍ شاء([17]).
الوجه الثالث: دعوى أن الغرض الأساس من النكاح، إلى جانب التلذُّذ الجنسي، هو الإنجاب والاستيلاد، كما يظهر من التعليل الوارد في بعض الروايات المجوِّزة للفسخ عند وجود عيبٍ مانع من الإنجاب، كقوله× حينما سُئل عن امرأة تزوَّجها رجلٌ فوجد بها قرناً ـ أي عفلاً، وهو شيءٌ يكون في قُبُل المرأة يمنع من وطئها ـ؟: «هذه لا تحبل، وينقبض زوجها من مجامعتها، تُرَدّ على أهلها»([18])؛ فإنه ظاهر في ثبوت حقّ الفسخ للزوج عند وجود مانعٍ من الإنجاب ممّا يستلزم ثبوت حقّ الإنجاب له على الزوجة.
إلاّ أن هذا الاستدلال لا يمكن المساعدة عليه؛ لوضوح ان منشأ تجويز الفسخ هو نفس العيب الحاصل فيها، لا ما يستلزمه. ولهذا ورد في باقي الروايات في سياق العيوب غير المستلزمة لعدم الإنجاب([19]). مع أن الرواية علَّلَتْ بأن زوجها ينقبض منها؛ فلعلّ العلّة في جواز الفسخ هو نفس الانقباض، لا عدم الإنجاب.
الوجه الرابع: دعوى ارتكازية شرط الإنجاب في ضمن العقد، وذلك بأن يُدَّعى أن التناسل يعتبر من الدواعي الرئيسة الموجبة للزواج في المجتمعات البشرية، ما يوجب حصول ارتكازٍ لدى الرجل عند العقد بشرطية تمكين الزوجة من إنجاب الأولاد، ولا فرق في وجوب الوفاء بالشرط المعاملي بين الشرط المذكور صريحاً في متن العقد وبين الشرط الارتكازي، الذي يتبانى عليه الطرفان.
وقد اعترض عليه بعض المدقِّقين، بدعوى أن مجرّد إقدام الزوج على الزواج مع ارتكاز قيام الطرف الآخر بأمرٍ ما؛ جَرْياً على المتعارف والمعمول، لا يحقِّق معنى الشرط؛ فإنه يتقوّم بإنشاء الحصّة المقيَّدة بالتزام الطرف أداء عملٍ معين، وهذا ليس لازماً لوجود الارتكاز المذكور. ثمّ نقض بتعارف قيام المرأة في المجتمعات الشرقية بمعظم الأعمال المنزلية، فهو وإنْ كان موجباً لارتكاز هذا المعنى في نفس الرجل عند الإقدام على الزواج، ولكنْ لا يجعل منه شرطاً ارتكازياً؛ ليحقّ له إلزام المرأة بالوفاء به لاحقاً. والمقامُ من هذا القبيل([20]).
ولكنّ هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه؛ باعتبار وجود الفرق بين إنجاب الولد وخدمة المنزل؛ إذ بحَسَب المرتكز لدى العقلاء يعتبر الإنجاب من الدواعي الموجبة للإقدام من الطرفين على النكاح، بينما خدمة المنزل لا تعدو كونها من قبيل: الثمرات المترقَّبة، لا غير، ومن الواضح أن ما يكون من قبيل: الداعي يوجب التقييد والتضييق للفعل الصادر منهما، فيكون الصادر من العلقة الزوجة هي الحصّة المقيَّدة بهذا الشرط، ولا يُراد من الشرط الارتكازي في العقد أزيد من ذلك.
نعم، لا يعتبر عمل المرأة في المنزل وإنجازها للأعمال المنزلية من الشرائط الارتكازية؛ لجريان السِّيرة على أنه ثمرةٌ من الثمرات المترتِّبة على العقد، وليست من الامور المعتبرة ارتكازاً في متن العقد.
ولكنّ الصحيح أن هذا الوجه ما لم يرجع إلى ما ذُكر سابقاً، من انصراف العقد الممضى في لسان الشارع إليه، فلا يمكن المساعدة عليه؛ من جهة أن المراد من ارتكازية الشرط ارتكازيته لدى العقلاء في متن العقد، لا لدى العاقد بشخصه؛ فإن المدار في لزوم الشروط في العقد هو كونها داخلةً تحت دليل الإمضاء، وما هو داخلٌ تحت الدليل هو ما يشكِّل سيرةً ارتكازية معاصرةً للمعصوم×، بحيث يحصل إمضاؤه وعدم الردع عنه، لا مجرّد تعارف الأمور في الأزمنة المتأخِّرة، أو بحَسَب الثقافات المختلفة، أو ارتكازية شيءٍ للعاقد بحَسَب الأغراض الشخصية المقصودة له من العقد. كما أنه لا دليل على اعتبار وجوب الوفاء بجميع الشروط الارتكازية، بل خصوص ما شكَّل ظهوراً في متن العقد، بحيث لو تنازع الطرفان في ثبوته لأوجب العقلاء تقبيح عمل المُنْكِر له.
ج ـ عند امتزاج النطفة بسائلٍ آخر
تارةً يتمّ تزريق السائل المنويّ للزوج في رحم زوجته مستقلاًّ؛ وتارةً منضمّاً إلى سائلٍ منويّ آخر، وظيفته تنشيط الحيامن للزوج؛ كي تقطع المسافة الفاصلة بين المهبل والنفير (قناة فالوب)، الذي يتمّ فيه تلاقي الحيمن مع البويضة، فيكون الموجب لتلقيح البويضة هو ماء الزوج، وإنما الماء الآخر مجرّد عاملٍ مساعد على تنشيطها. وهنا طريقتان للتنشيط المذكور:
الطريقة الأولى: أن يُستخدم سائلٌ منويّ صناعي لذلك. ويرجع حكمها إلى حكم الصورة الأولى، من الجواز وعدم الإشكال فيها.
الطريقة الثانية: أن يُستخدم سائلٌ منويّ لرجلٍ آخر منزوعُ الحيامن، بحيث يتولَّد الطفل من حيامن الزوج وبويضة المرأة، لا من السائل المنويّ للرجل الآخر؛ لفرض عدم الحيامن الموجبة للتلقيح. وسيأتي النقاش في جواز هذا التلقيح وعدمه في الصور المتبقِّية، عند طرح الأدلة على حرمتها.
د ـ المطلَّقة الرجعية أثناء العدّة
من الواضح جدّاً أن المطلَّقة البائنة تُعَدّ أجنبيةً عن الزوج الذي طلَّقها، فحكم التلقيح فيها يرجع إلى الصور الآتية. وإنما البحث عن تزريق السائل المنويّ للزوج المطلِّق في رحم زوجته المطلَّقة الرجعيّة؛ إذ يحقّ للزوج مراجعتها في أيّام عدّتها، فهل يشملها في أيّام العدّة جواز التلقيح الصناعي بماء زوجها؟
قد يُقال بالحرمة؛ من جهة المناقشة في كون المطلّقة الرجعية زوجةً أو في حكمها قبل انقضاء العدّة، فلا يصحّ أن نرتِّب عليها من الأحكام إلاّ ما دلّ الدليل عليه، فمقتضى ذلك إلحاقها بالمرأة الأجنبية في الحرمة وعدم الجواز.
ولكنْ يمكن المناقشة في ذلك:
أوّلاً: من جهة صدق الزوجية عليها حقيقةً؛ بمقتضى الروايات الدالّة على أن البينونة تكون بانتهاء العدّة بالحيضة الثالثة([21]). والبينونة مقابل الزوجية، فتكون غير البائن زوجةً، ومقتضى ذلك ترتيب جميع آثار الزوجية، ومنها: جواز التلقيح.
وقد يُعارَض بما ورد عن الإمام أبي عبد الله× في حقّ مَنْ طلق زوجته الرجعية بدون مراجعةٍ، «ثمّ طلقها قبل أن يراجعها، لم يكن طلاقه الثاني طلاقاً؛ لأنه طلَّق طالقاً، لأنه إذا كانت المرأة مطلّقةً من زوجها كانت خارجةً من مِلْكه حتّى يراجعها»، بدعوى أن التعبير عنها بكونها خارجةً عن مِلْكه يمنع من صدق الزوجية عليها.
ولكنّ هذه المعارضة غير تامّةٍ، بعد إجراء أحكام الزوجية عليها، الموجبة لصدق الموضوع، والتعبير بالخروج عن مِلْكه إشارةٌ إلى عدم نفوذ طلاقه إلاّ بعد المراجعة.
ثانياً: لو سُلِّم المنع من الصدق الحقيقي، ولو من باب الإشكال بالتعبير عنها بعدم كونها في مِلْكه، فمع ذلك يمكن أن نفهم من إجراء الأحكام تنزيل المطلَّقة الرجعية منزلة الزوجة، ومقتضى إطلاق التنزيل المذكور هو شموله لتمام الآثار، عدا ما خرج بالدليل.
ثالثاً: لو مُنع من إثبات الزوجية بالروايات الدالّة على وقوع البينونة بعد الطلقة الثالثة فلا أقلّ من إمكانية إثباتها باستصحاب بقاء الزوجية الموجِب لترتيب الآثار؛ أو إجراء الاستصحاب الحُكْمي لو شُكِّك في الاستصحاب الموضوعي وجَرَيانه ـ من جهة عدم وحدة الموضوع، بدعوى أن الشكّ في كون المطلَّقة الرجعية زوجةً يوجب عدم إحراز وحدة الموضوع المعتبرة في جريان الاستصحاب عند بعضٍ ـ، وحيث إننا نقطع بثبوت جواز التلقيح لها قبل الطلاق الرجعي، ونشكّ بارتفاعه عند حصوله، فنستصحب بقاء تلك الآثار.
هـ ـ المتوفّى عنها زوجها، أثناء العدّة وبعدها
اذا مات الزوج، واحتفظ بسائله المنويّ، بحيث يكون صالحاً للاستعمال، فهل يجوز حقنه في الزوجة بعد موته أم لا؟ والمسألة مرتبطةٌ بتحقيق استمرار الزوجية للزوجة بعد وفاة زوجها وعدم استمراره. والمحتملات في المقام ثلاثةٌ:
المحتمل الأوّل: هو القول بانقطاع العلقة الزوجية وارتفاعها بمجرّد الوفاة، فيدخل الكلام في هذه الحالة في صورة التلقيح بماء الأجنبي. وسيأتي بيان عدم شمول حرمته للتلقيح بماء الزوج بعد وفاته.
المحتمل الثاني: بقاؤها إلى حين انتهاء العدّة. وبناءً على هذا الفرض يجوز التلقيح بمائه بعد موته، وقبل انتهاء العدّة؛ وأما بعدها فيرجع إلى الصور الآتية.
المحتمل الثالث: بقاؤها حتّى بعد انتهاء العدّة، وعدم ارتفاعها. وبناءً عليه يجوز التلقيح مطلقاً.
والصحيح من المحتملات هو بقاء العلقة الزوجية بعد الوفاة إلى حين انتهاء العدّة؛ لما ورد من تعليل جواز تغسيل المرأة زوجها عند الموت «بأنها منه في عدّةٍ»([22])، الظاهر في بقاء العلقة الزوجية؛ وكذلك ورود التعبير عنها بالزوجة في أبواب متعدّدة([23])، ممّا يدلّ على بقاء العلقة الزوجية حتّى بعد الموت. والمشتقّ ظاهرٌ في الفعلية، وهذا هو المهمّ في المقام، ولو لم يكن الإطلاق حقيقةً لغوية؛ إذ المفروض أن إطلاق الزوجة عليها كاشفٌ عن وجود المصحِّح للإطلاق بلحاظ حال التكلُّم.
2ـ تلقيح الزوجة بنطفة أقارب الزوج
بأن تكون الحيامن قد أُخذت من أخ الزوج أو أبيه أو ابن عمّه وغيرهم، سواء كانوا ممَّنْ يحرم نكاحه حرمةً دائمة على الزوجة، كأب الزوج المدخول بها، أو يجوز له نكاحها لو طُلِّقت من زوجها، كأخ الزوج وابن عمّه. وهنا توجد حالتان لا بُدَّ من الحديث عنها؛ إذ تارةً يكون التزريق بماء غير الزوج منفرداً؛ وتارةً مع مائه، بحيث يكون الماء الآخر منزوع الحيامن، كما ذكرناه في الحالة الثالثة من حالات الصورة الأولى، فلا بُدَّ من الاستدلال على حرمة الحالتين:
أـ على نحو الاستقلال
بحيث يكون ماء أقارب الزوج هو الموجب للتلقيح وتكوُّن الولد. وهنا توجد عدّة أدلّةٍ عامّة على حرمة هذا التلقيح. وقد ذهب الأعلام إلى حرمة هذه الصورة؛ بدخولها تحت عنوان التلقيح بنطفة الأجنبي([24]). ويمكن الاستدلال للحرمة في المقام بالأدلة العامة الشاملة لهذه الصورة ـ في هذه الحالة ـ والصور الآتية؛ وتارةً بأدلةٍ خاصّة بهذه الصورة. فالبحث في مقامين:
الأدلة العامّة على حرمة التلقيح بنطفة الأجنبيّ
1ـ الدليل القرآنيّ
وقد ذُكرَتْ في مقام الاستدلال على الحرمة عدّةُ آياتٍ:
الآية الأولى: قوله تعالى ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ (النور: 31)، بدعوى أن المراد من الفرج آلة الاستيلاد وحصول الولد، كما ورد: «إن أمر الفرج شديدٌ، ومنه يكون الولد»([25]). ووجه الاستدلال بالآية إما من جهة أن حذف المتعلَّق يفيد العموم؛ أو من جهة أن مقتضى سياق الآية الوراد في حفظ الفرج من الطرفين عدم جواز جميع التصرُّفات غير المحلّلة، ولو بإدخال السائل المنويّ للأجنبي بواسطة التلقيح؛ لمنافاته للحفظ عُرْفاً.
وقد أورد على هذا الاستدلال بما يلي:
الإيراد الأوّل: إن الآية في صدد بيان وجوب حفظ الفرج من النظر إليه، وليست في مقام بيان الحفظ مطلقاً؛ لما ورد في معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد الله× أنه قال: «كلّ آيةٍ في القرآن في ذكر الفروج فهي من الزنى، إلاّ هذه الآية فإنها من النظر»([26])، ومقتضى ذلك عدم صحّة الاستدلال المذكور.
الإيراد الثاني: لو سُلِّم المنع من التمسُّك بالرواية؛ لعدم ثبوت إسناد النسخة الواصلة إلينا من تفسير القمّي بتمامها إلى عليّ بن إبراهيم([27])، فمع ذلك يمكن المنع من شمول الآية لغير النظر؛ من جهة الروايات الواردة في بيان مورد نزولها([28])؛ فإنها ناظرةٌ إلى حرمة النظر، لا غير.
الإيراد الثالث: لو سُلِّم أن الآية شاملةٌ لغير حرمة النظر، ولو من جهة ضعف أسانيد الروايات المبيِّنة لمورد النزول، أو لعدم صلاحيّاتها للتقييد؛ من جهة أنها من القضايا الخارجية المصحِّحة لنزول الآية، وليست من القرائن الموجبة للتقييد أو المانعة من الإطلاق، فمع ذلك لا يمكن القول بشمولها لمحلّ الكلام ـ وهو التلقيح الصناعي ـ؛ لأن المراد من الحفظ هو الحفظ عن الممارسات الجنسيّة، لا مجرّد التسبُّب بحصول الحمل، ولو لم يكن بالممارسة الجنسيّة. ودعوى «أن السائل المنويّ للغير من توابع الغير وشؤونه فلا وجه لنفي شمول الآية لحفظ الفرج عنه»([29]) ممنوعةٌ؛ لانصراف الحفظ؛ بمقتضى شموله حتّى للرجل في أول الآية، إلى الممارسات الجنسيّة الجَسَدية المعروفة، دون التزريق.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 35)، بتقريب أن الآية واردةٌ في مورد التعظيم لمَنْ يحافظ على حدود الله تعالى، والوعد بالمغفرة والأجر العظيم، وهذا إنما يتمّ بعد الفراغ عن وجود تلك الحدود الشرعيّة التي يجب حفظها، ومنها: حفظ الفروج عن ما يشين، وحيث إن التلقيح الصناعي خلاف الحفظ فيكون مشمولاً للآية.
ولكنّ الاستدلال بهذه الآية محلّ نظرٍ؛ اذ من الواضح جدّاً أن الآية ليست في مقام تشريع حفظ الفرج حتّى يتمسّك بإطلاقها لحالات التلقيح الصناعي. بل لو سُلِّم فيَرِدُ عليها ما ورد على الآية السابقة من الإيرادات، بالانصراف وغيره. كما أن سياق الآية ليس سياق الواجبات، بل تضمَّنَتْ كثيراً من الأوصاف المستحبّة، لا غير، فلا تدلّ بنفسها على وجوب الحفظ، لو دلَّتْ على تشريع أحكام المذكورات.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 5 ـ 7؛ المعارج: 29 ـ 31)، بدعوى أن الآية دلَّتْ على وجوب حفظ الفرج، إلا على الأزواج، وحذفُ المتعلَّق يدلّ على العموم، فيبقى تحت المستثنى منه جميع التصرُّفات مع غير الأزواج، ولو بتزريق ماء الأجنبي في فرج المرأة المتزوِّجة.
والإيراد على هذه الآية كالإيراد على الآية السابقة؛ من جهة انصراف الحفظ إلى الحفظ من الممارسات الجنسية المشينة، لا مطلق الأعمال. ودعوى دلالة حذف المتعلَّق على العموم، مضافاً إلى منعها كُبْرَوياً، لا يمكن التمسُّك بها في المقام؛ لوجود الانصراف المذكور الناشئ من سياق الآيات، أو من موارد النزول وغيرها.
وقد يُقال بأن مقتضى الذَّيْل، وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾، دلالة الآية على أن كلّ عملٍ يتنافى مع الحفظ فهو تجاوزٌ للحدود الشرعية لله تعالى، ومن الواضح أن الحدّ المقرَّر شرعاً هو تزريق الماء للزوج في فرج الزوجة لا غير، فيكون غيره من باب تجاوز الحدّ، فيكون محكوماً بالحرمة.
ولكنّ هذا الاستدلال أيضاً غير تامٍّ، بعد انصراف الحفظ الواجب إلى الحفظ عن الممارسات الجنسية المشينة، لا إلى مطلق التصرُّفات.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ (الأنعام: 151)، بدعوى أن الآية نهَتْ عن الاقتراب من الفواحش، وهو كنايةٌ عن تحريمها، والتغليظ في حرمتها، والفاحشة أصلها من الفحش، وهو يدلّ على قبحٍ في الشيء وشناعته([30])، والفاحشة «كلّ أمرٍ لم يوافق الحقّ، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ (النساء: 19) يعني خروجها من بيتها بغير إذن زوجها الذي طلَّقها»([31])، ومن الواضح أن تزريق ماء الرجل الأجنبي في فرج الزوجة من الأمور القبيحة الشنيعة، كما أنها مما لا يوافق الحقّ.
ولكنّ ما ذُكر غير تامٍّ؛ إذ الفواحش منصرفةٌ إلى ما يستعظم من القبائح في نظر العُرُف، كما أنه ورد تفسيرها في بعض الروايات بالزنى ونكاح امرأة الأب([32])، وغيرها من الأمور التي يعظم قُبْحها، وتوجب فساد المجتمعات، لا مثل: التزريق بماء الأجنبي عند العقم، وخصوصاً لو كان بإذن الزوج.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ (البقرة: 223)، بدعوى دلالة اللام في قوله تعالى: «لكم» على الاختصاص، وأن الزوجة حرثٌ ومنبتٌ للزوج، دون غيره، فيحرم تلقيحها بنطفة الأجنبيّ، وإلا لزم كونها منبتاً لغيره.
ولكنّ هذا الاستدلال ليس في محلِّه؛ لأن هذه الفقرة من الآية مجرّد توطئة للحكم اللاحق، وهو قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، الدالّ على جواز إتيان المرأة، من دون تحديد كيفيّةٍ أو زمانٍ معينين، وليست الآية في مقام البيان من جهة اختصاص المرأة بأنها حرثٌ للزوج، دون غيره. ولو سُلِّم أنها في مقام البيان من هذه الجهة فلا يمكن التسليم بأنها شاملةٌ لغير الممارسات الجنسية، كالتلقيح بلا ممارسة.
الآية السادسة: قوله تعالى ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ (النساء: 34)، فإن معنى الحفظ للغَيْب شاملٌ لحفظ الزوجة لزوجها عند غَيْبته، في مالها ونفسها، كما دلَّتْ عليه بعض الروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة([33])، وحفظها لنفسها يشمل بإطلاقه الحفظ عن التلقيح بماء الأجنبي أيضاً.
ولكنْ فيها ما في سابقاتها، من كون المناسب من الحفظ؛ بحَسَب مناسبات الحكم للموضوع، هو الحفظ عن الممارسات الجنسية، ولا تشمل حالة التلقيح الصناعيّ، وخصوصاً مع رضا الزوج بذلك.
2ـ الدليل الروائيّ
توجد عدّة روايات في المقام، يمكن أن يُدَّعى دلالتها على حرمة التلقيح بماء الأجنبي مطلقاً، فتكون شاملةً للتلقيح بماء أقارب الزوج مستقلاًّ.
الرواية الأولى: ما رواه الكليني، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن عليّ بن سالم، عن أبي عبد الله× أنه قال: «إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ أقرّ نطفته في رحمٍ يحرم عليه»([34]). وتقريب الاستدلال به أن مقتضى إطلاقها شموله لمَن أقرّ نطفته في رحم الغير، ولو بالتلقيح، ولم يكن بآلة المقاربة.
وقد اعتُرض على الاستدلال بهذه الرواية من جهتين:
1ـ من جهة السند: إذ قد يُشْكَل في السند تارةً من جهة عثمان بن عيسى؛ حيث لم يَرِدْ في حقِّه توثيقٌ صريح، بل عبَّر عنه النجاشي بأنه «كان شيخ الواقفة ووجهها، وأحد الوكلاء المستبدِّين بمال موسى بن جعفر×»([35])، ممّا يشهد بالقدح في حقِّه؛ وأخرى من جهة عليّ بن سالم؛ إذ قد يُدَّعى أنه إمّا عليّ بن أبي حمزة البطائني، الذي ورد في حقِّه القدح؛ وإما أنه عليّ بن سالم المجهول، فلا يتمّ سند الرواية من جهته على أيّ حالٍ.
ولكنْ يمكن توثيق عثمان بن عيسى بما ذكره الشيخ الطوسي من عمل الطائفة بأخبارهم ـ أي الواقفة ـ، وذكر منهم عثمان بن عيسى([36]). كما أن الكشي حكى إجماع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن جماعةٍ وتصديقهم، منهم: عثمان بن عيسى([37])، بل نقل الكشّي في ترجمته أيضاً أنه تاب، ورجع عن الوقف([38]). فلا يبقى مجالٌ للتشكيك في وثاقة الرجل.
وأما عليّ بن سالم فقد قيل: «إنه ثقةٌ على كلا التقديرين؛ لأن البطائني الضعيف هو الحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائني، وأما عليّ بن سالم فسواءٌ كان هو عليّ بن أبي حمزة البطائني أم غيره يمكن توثيقه من جهة أنه من أصحاب الصادق×، وقد وثَّق المفيد رحمه الله تعالى عامّة أصحاب الصادق×، كما في الإرشاد»([39]).
ولكنّ هذا البيان غيرُ تامٍّ؛ لوجهين:
أوّلاً: المناقشة في الكبرى؛ فإن ما ذكره الشيخ في الإرشاد، من «أن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجلٍ»([40])، لا يمكن التصديق به، بعد أن ذكر في أصحاب الصادق× مَنْ لا يمكن التصديق بوثاقته، كالمنصور الدوانيقي. كما أن الشيخ الطوسي ضعَّف جماعةً عدّوا من أصحاب الإمام الصادق×، كإبراهيم بن أبي حبة، والحارث بن عمر البصري، وعبد الرحمن بن الهلقام، وعمر بن جميع، وغيرهم([41]). كما أنه من المحتمل أن يكون الشيخ المفيد& قد أورد هذه الدعوى في مقام الاحتجاج على الواقفة المُنْكِرين لإمامة الإمام الكاظم×، حيث أورد أسماء بعضهم في مقام الاحتجاج لإمامته×([42]).
ثانياً: المناقشة في الصغرى؛ فإنّ علي بن سالم لو كان هو البطائني فقد ورد في حقِّه التضعيف الصريح، ورَمْيه بالكذب([43])، ومع التضعيف الخاصّ لا يمكن العمل بالتوثيق العامّ للشيخ المفيد، لو سُلِّم تمامية الكبرى فيه. وأما لو بُني على أنه مغايرٌ لعليّ بن أبي حمزة البطائني ـ ولو من جهة اختلافهما في الكنية، بكون ابن سالم يكنّى بالكوفي، والآخر بالبطائني؛ أو من جهة ذكر الشيخ الطوسي للبطائني قبل عليّ بن سالم بفصلٍ قليل، ومن الصعب الحكم باتّحادهما([44]) ـ فإنّه لا دليل على وثاقته، إلا دعوى رواية ابن أبي عمير عنه، وهو من الثلاثة الذين صرَّح الشيخ في العدّة بأنهم لا يرسلون إلاّ عن ثقةٍ. وهذا التوثيق لا يمكن المساعدة عليه في المقام؛ لأجل انصراف الكبرى المذكورة إلى مَنْ لم يصرِّحوا باسمه، كما أنها لو شملَتْ مَنْ صرَّحوا باسمه فلا بُدَّ من كثرة روايتهم عنه، الكاشفة عن الاعتماد، لا مجرّد الرواية في بعض الموارد. وقد روى عنه ابن أبي عمير في الكافي روايةً واحدة، لا غير([45]).
2ـ من جهة الدلالة: فقد أُورد على الاستدلال بأن التعبير الوارد في الرواية بـ «إقرار النطفة» إنما هو كناية عن الزنى لا غير؛ وذلك إما من جهة تعارف الكناية عنه بذلك في الروايات؛ وإما من جهة أن المنسبق من التعبير المذكور في نظر العُرْف المعاصر لزمن النصّ هو ذلك. وليس المراد بالإشكال في المقام هو التمسُّك بكون التلقيح فرداً معدوماً في ذلك الزمان، حتّى يُقال بأن العامّ أو المطلق؛ بمقتضى عمومه أو إطلاقه الأزماني، يشمل جميع الأفراد الحادثة في أيّ قطعةٍ من الزمان، وإنما من جهة أن المتبادر العُرْفي من التعبير المذكور مجرّد الكناية عن إرادة الزنى لا غير، ومن الواضح أن المدار في التعبيرات الكنائية على المراد الجدّي، لا المراد الاستعمالي المكنّى به.
الرواية الثانية: ما رواه الصدوق، في خصاله، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داوود قال: سمعتُ غير واحدٍ من أصحابنا يروي عن أبي عبد الله× أنه قال: «قال النبيّ|: لن يعمل ابنُ آدم عملاً أعظم عند الله تبارك وتعالى من رجلٍ قتل نبيّاً أو إماماً، أو هدم الكعبة التي جعلها الله عزَّ وجلَّ قبلةً لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأةٍ حراماً»([46]). كما رواه الصدوق، مرسلاً عن النبيّ|، في مَنْ لا يحضره الفقيه([47]). وتقريب الاستدلال بها بأن يُقال: إن مقتضى سياق المذكورات هو حرمتها، بل عدّها من الكبائر، ومقتضى إطلاق إفراغ السائل، وشموله لما يكون بالجماع وغيره، شمولُه لحالة التلقيح الصناعي. ولا يُعتَرَض عليه بنُدْرة الإفراغ بلا جماعٍ، بل عدمه في زمان النصّ؛ إذ لا إشكال في شمول المطلق للفرد النادر، وإنما الإشكال من جهة اختصاصه به.
ولكنْ نوقش في هذه الرواية: أوّلاً: من جهة السند؛ وثانياً: من جهة المتن:
أما المناقشة السندية فلأجل جهالة القاسم بن محمد الوارد في الرواية.
كما أن الصدوق في مَنْ لا يحضره الفقيه أرسلها إلى النبي|، فتكون ضعيفةً من جهة إرساله([48]).
وقد يُدْفَع الإرسال بدعوى أن الصدوق& أرسلها بصيغة الجَزْم، ممّا يكشف عن قطعه بصدورها. ولكنّ هذا الكلام غير مفيدٍ؛ إذ من المحتمل قويّاً أن يكون منشأ الجَزْم بها هو اعتمادها على قرائن لو وصلَتْ إلينا لما كانت حجّةً في نظرنا. كما أن هذه الكبرى غير قابلة للتطبيق في المقام، بعد أن صرَّح الصدوق& بسندها في الخصال.
وأما ضعفها بالقاسم بن محمد، وهو الإصفهاني، المعروف بـ (كاسولا)؛ وذلك لما ورد عن النجاشي فيه أنه قال: «القاسم بن محمد القمّي، يُعرف بـ كاسولا: لم يكن بالمرضيّ. له كتاب نوادر، أخبرنا ابن نوح قال: حدَّثنا الحسن بن حمزة قال: حدَّثنا ابن بطّة قال: حدَّثنا البرقي، عن القاسم»([49]). كما أن ابن الغضائري قال عنه: «القاسم بن محمد الأصفهاني، كاسولة، أبو محمد، حديثه يُعْرَف (تارةً) ويُنْكَر (أخرى)، ويجوز أن يخرج شاهداً»([50])، فالصحيحُ وثاقته؛ لوروده في كامل الزيارات؛ كما أن الصدوق روى عنه في كتابه مَنْ لا يحضره الفقيه، وقد شهد في ديباجته أنه لم يخرج حديثاً إلا عن الكتب المشهورة التي عليها المعوَّل وإليها المرجع؛ كما يمكن توثيقه بواسطه وروده في تفسير القمّي، فقد روى الشيخ عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عدّة رواياتٍ، ولا يمكن أن يكون القاسم هذا هو «القاسم بن محمد الجوهري»؛ لأنه لم يروِ عن «سليمان بن داوود المنقري، عن حفص بن غياث». ولهذا يكون ما ورد في الكافي في كتاب الإيمان والكفر (الباب 205، ح2)، من ذكر «الجوهري» لقباً لـ «القاسم بن محمد»، وروايته عنهما، من الزيادات التي أُدرجت في المتن جَزْماً.
ومن الغريب ما ذكره السيد الخوئي في صراط النجاة([51])، من أن القاسم بن محمد الإصفهاني لم يَرِدْ ذكرُه في التفسير المذكور، بانياً على اشتراك القاسم بن محمد المذكور في التفسير بين الجوهري الثقة والإصفهاني غير الثقة؛ إذ من البعيد جدّاً احتمال الاشتراك بينهما في ما نقل عنه إبراهيم بن هاشم، عن «سليمان بن داوود المنقري، عن حفص بن غياث»؛ لعدم ورود روايةٍ واحدة للقاسم بن محمد الجوهري عنهما، كما ذكرناه.
وأما قول النجاشي: «لم يكن بالمرضيّ» فلم يتَّضح وجهه؛ ولعلّه من الوجوه التي لا تكون حجّةً لدينا، كرَمْيه بالغلوّ؛ لمجرّد روايته بعض مقامات أهل البيت^.
كما أن ما ذكره ابن الغضائري ليس بحجّةٍ لعدم ثبوت نسبة الكتاب الواصل إلينا له، مع اشتماله على تضعيف جماعةٍ اتَّفقت الطائفة على وثاقتهم وعلوّ مقامهم.
وأما المناقشة الدلالية فمن جهة أن إفراغ الماء في امرأةٍ حراماً كنايةٌ عن الزنى لا غير، فلا يصحّ التمسُّك بإطلاقها لمثل: التلقيح الصناعي، وخصوصاً مع عدم حصول الإفراغ من قِبَل الرجل الأجنبي نفسه، بل من قِبَل الطبيب، أو بآلةٍ معيَّنة للتلقيح؛ فإن صدق الرواية عليه سيكون أبعد.
الرواية الثالثة: ما رُوي عن محمد بن محمد بن الأشعث، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر قال: «حدَّثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدِّه عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليٍّ× قال: قال رسول الله|: ما من ذنبٍ أعظمُ عند الله تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفةٍ حرامٍ وضعها امرؤٌ في رحمٍ لا تحلّ له»([52]). وتقريبُ الاستدلال بها هو أن الرواية جعلَتْ وضعَ النطفة في رحم المرأة التي لا تحلّ أعظمَ الذنوب، بعد الشرك بالله تعالى، وهذا كاشفٌ عن الحرمة، بل كون هذا العمل من الكبائر. ومقتضى إطلاق التعبير بوضع النطفة شمولُها للتلقيح أيضاً؛ لصدق الوضع في رحم المرأة المحرَّمة عليه.
ولكنْ اعتُرض على هذه الرواية، كسابقتَيْها، من جهة السند والدلالة:
1ـ الاعتراض السندي: اعترض بعض المدقِّقين على اعتبار كتاب الجعفريّات، الذي نُقلت عنه الرواية، من جهتين:
الجهة الأولى: الإشكال في وثاقة موسى بن إسماعيل، وأبيه؛ فإن كتاب الجعفريات قد رُوي عن موسى بن إسماعيل ، ولم يَرِدْ في حقِّه مدحٌ ولا توثيق. وقد كان السيد الخوئي& يوثِّقه؛ اعتماداً على كبرى توثيق مَنْ ورد في أسانيد كامل الزيارات، ولكنه عدل عنها، وخصَّ التوثيق بالمشايخ المباشرين للمؤلِّف([53]).
كما أن أباه أيضاً لم يَرِدْ في حقّه توثيقٌ، فيكون الكتاب بتمام رواياته محلّ إشكالٍ سنديّ.
وقد ذكر بعض الأعلام أن العبارة الواردة في مقدّمة كامل الزيارات لا تدلّ على توثيق حتّى المشايخ المباشرين لابن قولويه، بل غاية ما تدلّ عليه هو أنه لم يورد في كتابه روايات الضعفاء والمجروحين، إلاّ إذا أخرجها بعض الرجال الثقات المشهورين بالحديث والعلم، والمعبَّر عنهم بـ (نُقَّاد الأحاديث)، كمحمد بن الحسن بن الوليد وسعد بن عبد الله وأضرابهما، وأما لو كان أخرج الرواية بعضُ هؤلاء فإنه يورده في كتابه، سواء كان مَنْ أخرج الرواية من مشايخه المباشرين أو من غيرهم([54]).
ولكنّ ما أُفيد في المقام محلّ نظرٍ؛ لأن عبارة ابن قولويه مشتملةٌ على شهادتين؛ حيث قال فيها: «وقد علمنا أنا لا نحيط بجميع ما رُوي عنهم في هذا المعنى، و لا في غيره، لكنْ ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، و لا أخرجت فيه حديثاً رُوي عن الشذّاذ من الرجال، يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم»([55]). وهذه العبارة تشتمل على شهادتين:
الشهادة الأولى: إنه لم يخرج كلّ ما وقع له من روايات أهل البيت، بل خصّص الكتاب للروايات الواردة عن الثقات من الأصحاب، والظاهر من قوله: «من أصحابنا» تخصيص الكلام في مَنْ هو معروفٌ بالوثاقة منهم.
الشهادة الثانية: إنه لم يخرج حديثاً عن الشذّاذ من رجال الحديث والرواية؛ لأن ما وقع له عن المعروفين من رجال الحديث المعروفين بالحديث والعلم فيه الكفاية.
ولا معنى لقصر النظر على الشهادة الثانية، دون الأولى. كما لا ينبغي توهُّم العطف التفسيري في المقام؛ كي تُدّعى وحدة المشهود به. بل من الواضح جدّاً أن اعتبار وثاقة الحديث شيءٌ واعتبار كونه من غير الشذّاذ شيءٌ آخر؛ فإن الشاذّ من الرجال هو الثقة الراوي للحديث، المخالف للمشهور أو للأكثر([56]).
نعم، الظاهر من تعبيره بالثقات من أصحابنا هم أهل الكتب المعتبرة، التي عليها المعوَّل وإليها المرجع. فالعبارة الأولى لا تفيد توثيقاً لجميع مَنْ ورد في سلسلة الحديث، وإنما توثيق أصحاب الكتب التي أخذ منها رواياته، ولو لم يكن صاحب الكتاب من مشايخه.
والحاصل أنه حتّى لو كانت العبارة ظاهرةً في التوثيق فلن تكون ظاهرةً في التوثيق لجميع الرواة في السلسلة؛ حتّى تكون حجّةً على توثيق موسى بن إسماعيل، بل لعلّ العبارة إشارةٌ الى اعتبار الكتب التي اعتمد عليها المصنِّف، لا إلى تصحيح أسانيد الروايات.
وأما والد موسى، وهو إسماعيل، فقد قيل بإمكانية توثيقه بما ورد عن المفيد في الإرشاد، من أن «لكلٍّ من أولاده ـ أي الكاظم× ـ فضلاً، ومنقبةً مشهورة»([57]). وهذه العبارة مدحٌ معتدّ به، يورث الاعتماد والتوثيق([58]).
ولكنّ هذا الكلام من المفيد لا يفيد وثاقةً، ولا مدحاً؛ لورودها في مقام بيان فضيلتهم العلمية، وأنهم ممَّنْ روى روايات أهل البيت^، لا غير؛ وأما توثيقه وضبطه في مرويّاته فلا تدلّ العبارة المذكورة عليه.
الجهة الثانية: الإشكال في النسخة الواصلة من كتاب الجعفريّات؛ فقد يُقال: إن كتاب الجعفريات وإنْ كان من الكتب المشهورة بين العامّة والخاصة، بحيث يصحّ الاعتماد عليه،ولكنّ النسخة الواصلة إلى المحدِّث النوري من بلاد الهند تختلف مع النسخة المنقولة في كتب النجاشي والشيخ وغيرهما؛ فإن النسخة المتداولة بأيدينا تحتوي على كتاب الجهاد والتفسير وكتاب النفقات وكتاب الطبّ والمأكول وكتابٍ غير مترجم، بينما ما أورده النجاشي والشيخ من كتاب الجعفريّات غير موجودةٍ فيه هذه الكتب. كما أن النجاشي والشيخ أوردا كتاب الطلاق من ضمن الكتب التي يشتمل عليها كتاب الجعفريات، ولكنّ الكتاب الموجود بين أيدينا لا يشتمل على كتاب الطلاق.
ولكنّ الصحيح ما أفاده بعض المدقِّقين، من «أن الاختلاف في عدد الكتب المنقولة في الجعفريّات، واختلاف عناوينها، لا يُعَدّ شاهداً على اختلاف النسخة الواصلة إلينا مع الأصل؛ فلعلّ اختلاف العدد ناشئٌ من إدراج بعض الكتب المستقلّة في النسخة الواصلة إلينا ممّا رواه موسى بن إسماعيل، ككتب التفسير، حيث ذكروا أن له كتاباً في التفسير؛ كما أن اختلاف العناويين يحتمل حصوله من المفهرسين للكتب، حيث يعتبر بعضهم ما هو بابٌ من كتابٍ كتاباً مستقلاًّ، كما يحتمل ذلك في كتاب الطبّ والمأكول، حيث يمكن أن يكونا باباً من كتاب السنن والآداب، كما أن كتاب النفقات قد يكون في الأصل ضمن كتاب الطلاق، ففصل ككتابٍ مستقلّ»([59]).
ولكنّه اعترض ثانياً بأن «المذكور في كلمات العامة والخاصة أن كتاب الجعفريّات ألف حديث، أو ما يقرب من ذلك، بإسنادٍ واحد، كما صرَّح بذلك السيد ابن طاووس في الإقبال، والعلامة في إجازته لبني زهرة، والذهبي في ميزان الاعتدال، مع أن النسخة الموجودة بين أيدينا تشتمل على ما يناهز ألفاً وستمائة حديثاً، بعد استثناء ما رواه محمد بن محمد بن الأشعث من غير طريق موسى بن إسماعيل، عن أبيه، عن آبائه… فيصعب توجيه هذا التفاوت الكبير بين الرقمين… كما أن في النسخة الواصلة إلينا رواياتٍ مخالفةً لما هو المعلوم من فقه أئمّة أهل البيت^، كتصحيح الحلف بالطلاق… وإن راوي هذه النسخة من العامّة، وهو محمد بن محمد بن الأشعث، الذي وصفه الذهبي «بالإمام الحافظ الثقة الرحال»»([60]).
إلاّ أن هذا الاعتراض غير سديدٍ؛ لإمكانية توجيه زيادة عدد الروايات في النسخة الواصلة عن المنقول باختلاف النسخ الواصلة إلى ابن طاووس وغيره مع النسخة الواصلة إلينا، فلا وجه لترجيح إحدى النسختين على الأخرى، بعد التطابق الذي ذكر في أغلب رواياتهما. كما أن الروايات التي أدُّعي مخالفتها لما هو الثابت من مذهب أهل البيت^ يمكن حملها على بعض المحامل، كالتقية أو غيرها، وليس مسوغاً لطرح ما لم يعلم مخالفته لما هو الوارد عنهم^؛ إذ مخالفة الروايات لما هو الثابت من مذهبنا ليس بعزيزٍ لمَنْ تتبَّع الروايات.
والحاصل: إنه بعد تطابق النسخة الواصلة إلينا مع الكتاب بصورةٍ غالبية يكفي ذلك في اعتماد النسخة الواصلة، وإنْ كانت بالوجادة؛ لحصول الوثوق بأنها نفس كتاب الجعفريّات. وأما الزيادات التي عُلم بعدمها في أصل الكتاب فلا بأس بطَرْحها.
ولهذه الجهة الثانية لا نحتاج إلى تصحيح السند، بعد اعتبار النسخة الواصلة إلينا، وشهرة الكتاب واعتماده من قِبَل الأصحاب.
2ـ الاعتراض الدلالي: ويتمثَّل بأن غاية ما تدل عليه هذه الرواية هو مباشرة الأجنبي لوضع النطفة في رحم مَنْ لا تحلّ عليه، ولا يدلّ على حرمة التلقيح لو كان من جهة غيره، كالطبيب. كما أن الرواية منصرفةٌ إلى الممارسة الجنسية، بما يصدق عليها من الزنى، وليست ناظرةً إلى مطلق الإقرار، ولو بالتلقيح، لا من جهة ندرته وانعدامه في تلك الأزمنة، حتّى يُقال بالمنع عن الشمول؛ لما ذكرناه في الرواية السابقة من شمول المطلق للفرد النادر والفرد الحادث بلحاظ عمود الزمان، بل من جهة مناسبات الحكم للموضوع، وإن المناسب لكونه من الكبائر، بل هو أعظمها بعد الشرك، إنما هو الزنى، دون مطلق الإقرار في رحم الأجنبية.
الرواية الرابعة: ما رواه الكليني، «عن محمد بن أحمد، عن محمد بن يحيى، عن أبي عبد الله الرازي، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائني، عن أبي عبد الله المؤمن، عن إسحاق بن عمار قال: قلتُ لأبي عبد الله×: الزنا شرٌّ أو شرب الخمر؟ وكيف صار شرب الخمر ثمانون وفي الزنا مائة؟ فقال: يا إسحاق، الحد واحدٌ، ولكنْ زيد هذا؛ لتضييعه النطفة، ولوَضْعِه إيّاها في غير موضعها الذي أمره الله عزَّ وجلَّ به»([61])، بدعوى دلالة الرواية على حرمة وضع النطفة في غير محلّها، وهو بإطلاقه شاملٌ للوضع بالممارسة الجنسية وبغيرها، فيشمل التلقيح الصناعي.
ولكنْ يَرِدُ عليها ما ورد على الروايات السابقة، من ضعف السند بالحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني؛ وكذلك عدم تمامية الدلالة؛ لكون المتفاهم العُرْفي منها هو الزنى، دون غيره؛ لوضوح أن السؤال عن زيادة حدّ الزنى على شرب الخمر، ومن الواضح عدم صدق عنوان الزنى على التلقيح، ولو كان داخلياً. ولهذا جعله الصدوق في الفقيه في «باب ما يجب به التعزير و الحدّ و الرجم و القتل و النفي في الزنا من كتاب الحدود»([62]). ومن الغريب ما فعله صاحب الوسائل، من جعل الحديث في ضمن باب تحريم الاستمناء من أبواب النكاح المحرَّم([63])؛ ولعله لأجل تعليل الزيادة في حدّ الزنى بتضييع النطفة في غير موضعها، ولكنْ من الواضح أن الاستمناء عليه التعزير، وليس عليه الحدّ.
الرواية الخامسة: ما رواه الشيخ الطوسي، بإسناده المعتبر عن المعلّى بن خنيس قال: «سألتُ أبا عبد الله× عن رجلٍ وطأ امرأته، فنقلت ماءه إلى جاريةٍ بكرٍ، فحبلَتْ؟ فقال×: الولد للرجل، وعلى المرأة الرجم، وعلى الجارية الحدّ»([64])، بتقريب أن مقتضى إطلاق ثبوت العقوبة على المرأة التي قامَتْ بنقل ماء الرجل إلى الجارية، وكذلك مقتضى إطلاق ثبوتها على الجارية التي استقبَلَتْ الماء، بلا تفصيلٍ بين النقل والانتقال، هو حرمة الفعل في حدّ نفسه، فيثبت حرمة نقل النطفة من الرجل الأجنبي إلى رحم الزوجة بالتلقيح أيضاً؛ بمقتضى إطلاق حرمة الفعل في حدّ نفسه.
ولكنّ ظاهر الرواية ترتيب الحدّ على الجارية لأجل السحاق، لا على مجرّد نقل النطفة من الرجل إليها، ولو بغيره، فلا يمكن التمسُّك بإطلاقها. كما أن الرواية ضعيفة السند بالمعلّى بن خنيس؛ حيث ضعَّفه النجاشي([65]).
الرواية السادسة: ما رواه الصدوق، بإسناده عن محمد بن سنان، عن الرضا×، في ما كتب إليه من جواب مسائله: «وحرَّم الله الزنى لما فيه من الفساد، من قتل النفس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد»([66])، بدعوى عموم التعليل الوارد في تحريم الزنى لغيره من طرق إيصال النطفة إلى رحم المرأة الأجنبية، كالتلقيح الصناعي.
والروايةُ، مضافاً إلى ضعف سندها؛ بمحمد بن سنان ـ فقد ذكر النجاشي، نقلاً عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد، أنه ضعيفٌ جدّاً لا يعوَّل عليه([67]) ـ، لا يمكن الاعتماد عليها في المقام؛ لأن ما ذُكر من أمورٍ ليست إلاّ مجرّد حِكَمٍ للتشريع، وليست عللاً حقيقيّة له. ولو سُلِّم أنها عللٌ للتشريع فلا يمكن التمسُّك بعمومها لمثل: التلقيح؛ لأجل أن الزنى عُلم من الشارع إلغاء اعتباره سبباً في التوريث والأنساب، بينما لم يُعْلَم من الشارع ذلك في التلقيح، وخصوصاً إذا كان صاحب الماء معيناً.
3ـ عموم التعليل في أدلّة حرمة الزنى
حيث دلَّتْ الروايات الكثيرة على حرمة الزنى على الرجل والمرأة([68])، وعلّل بعضُها ذلك بضياع الأنساب، وضياع التوارث، فيمكن التمسُّك بعموم الروايات أو عموم التعليل فيها؛ لإثبات حرمة التلقيح بماء الأجنبي مطلقاً.
ولكنْ يمكن الدغدغة في الاستدلال؛ من جهة أن المتفاهم العُرْفي منها هو صدق عنوان الزنى أو ما يناسبه من الممارسات الجنسية، وأن التعليل منصرفٌ إلى ما عُلم من الشارع إلغاء سببيته في التوارث والأنساب، لا مطلق التسبيب، ولو كان بالتلقيح.
4ـ الارتكاز المتشرِّعي بحرمة الحمل من الأجنبيّ
وذلك بتقريب أنه يوجد ارتكازٌ لدى المتشرِّعة بحرمة التسبيب من قِبَل المرأة في حملٍ ليس بينها وبين صاحب النطفة علاقةٌ تبيح النكاح والانتساب إليه. ومن الواضح عدم اختصاص هذا الارتكاز بحالات الحمل من الزنى وغيره، كالتلقيح، كما أنه من المعلوم اتصال هذا الارتكاز إلى زمان الأئمة^، فيكون هذا الارتكاز المتشرِّعي متلقّىً من قِبَلهم^.
وقد ناقش بعض المدقِّقين في هذا الارتكاز؛ من جهة «أن العمدة فيه إثبات كونه ارتكازاً للمتشرِّعة بما هم متشرّعة، وليس من الأمور المتأثِّرة بالعادات والتقاليد عن الآباء والاجداد وغيرها من العوامل؛ لأن الارتكاز المتشرِّعي الحجّة هو خصوص ما يثبت استناده إلى الشارع الأقدس»([69]).
ولكنّه حاول الجواب عنه بوجود ما يخالف هذا الارتكاز بحَسَب عادات العرب وغيرهم قبل الإسلام، كما في نكاح الاستبضاع([70]) وغيره، مما يكشف عن نشوء الارتكاز المذكور من جهة النصّ الدينيّ، لا من جهة العادات؛ إذ المفروض أن الثابت منها على خلاف الارتكاز([71]).
إلاّ أن الإشكال المذكور من أساسه غير وجيهٍ؛ فإن الارتكاز المذكور للحرمة إما أن يكون متلقّىً من الشارع فيتمّ الاستدلال به؛ وإما أن لا يكون متلقّىً منه، ولكنْ؛ حيث إنه معاصرٌ له، وقد جرى فيما هو المهمّ من أغراضه، وهو الفروج، فلا بُدَّ من بيان موقفه الشرعيّ تجاهه بالفعل أو القول، إذا لم يكن موافقاً لأغراضه الشرعية؛ من جهة أن وظيفة الإرشاد وبيان الأحكام على عهدة الشارع الأقدس، فلو لم يعارض ارتكازية التحريم في أذهانهم لتمّ الإمضاء لهذا الارتكاز، فيكون حجّةً أيضاً، ولو لم تكن حجِّيته بعنوان الارتكاز المتشرِّعي. ولا فائدة بعد ذلك من دعوى وجود بعض الأنكحة المعارضة لهذا الارتكاز، كنكاح الاستبضاع وغيره، بعد قيام الارتكاز في زمانهم^. كما أنه من المستبعد جدّاً نشوء ارتكازٍ لتحريم البضع من جهة صرف العادات والتقاليد؛ فإنها منشأٌ لقبح العمل، وترتيب الجزاء العشائري عليه، لا لتحريمه عادةً.
نعم، الصحيح في الإشكال أنه من المحتَمَل جدّاً نشوء هذا الارتكاز في طول النصوص الشرعية؛ من جهة توهُّم إطلاقها وشمولها لغير حالات الزنى وحصول الحمل من الممارسات الجنسية المباشرة، مع أن الإطلاق المذكور لا يمكن المساعدة عليه. كما أن المستَهْجَن بحَسَب الارتكاز هو نفس الممارسات الجنسية، لا مجرّد الحمل، ولا أقلّ من التشكيك في الشمول، وحيث إن الارتكاز دليلٌ لبِّي فيقتصر فيه على القدر المتيقَّن، وهو خصوص الممارسات الجنسية لإحداث الحمل، لا غير.
ـ أصالة الاحتياط في الدماء والفروج
وذلك من خلال وجهين:
أـ الاستدلال بالقاعدة الميرزائية: فقد أفاد المحقِّق النائيني قاعدةً مفادها: إنه «متى علق الحكم الترخيصي بأمرٍ وجودي دلّ التعليق بالدلالة الالتزامية العُرْفية عن إناطة الرخصة والجواز بإحراز ذلك الأمر الوجودي، وعدم جواز الاقتحام عند الشكّ فيه. وهذه الملازمة تُستفاد من دليل الحكم، ولكنها ليست ملازمةً واقعية، بل ملازمةٌ ظاهرية، يرجع إليها في مقام العمل. وعلى هذا الأساس بنى انقلاب أصالة الحلّ في الدماء والفروج إلى الحرمة؛ من جهة عدم إحراز الخصوصيّات الوجودية التي علّق عليها الحلّ والجواز، كعنوان الزوجية وغيرها. وفي المقام؛ حيث إنه حلَّل الفرج على الزوج والزوجة وما ملكت يمينه، فمع عدم إحراز هذا العنوان الوجوديّ يحكم بالحرمة([72]).
وقد اعترض بعض المدقِّقين على هذا البيان بكون المستفاد من وجوب الحفظ، الذي دلَّت عليه الآية، إنما هو في صورة الشكّ في انطباق عنوان الزوج أو الزوجة على الغير، ولاعلاقة لهذا بما هو محلّ البحث، من الشكّ في أن مقتضى حفظ الفرج هل هو عدم تلقيح المرأة بمنيّ غير الزوج أم لا؟
وهذا الاعتراض غريبٌ في بابه؛ فإن القاعدة الميرزائية المذكورة ـ لو تمَّتْ ـ لكان مفادُها في المقام: إن جواز الوطء وعدم وجوب الحفظ معلّق على عنوان الزوجية أو ملك اليمين، وحيث إننا نحرز عدم الزوجية في المقام فلا إشكال في عدم شمول الجواز له، فيكون مشمولاً بالحرمة؛ إذ ليس المراد من كلام المحقِّق النائيني أن موضوع القاعدة هو الإحراز، فمع الشكّ فقط نبني على الحرمة، بل موضوع القاعدة المذكورة هو نفس الأمر الوجودي، وإنما يرى العُرْف بالدلالة الالتزامية العُرْفية أن الحكم الترخيصي مختصٌّ بصورة الإحراز، وفي ما عداه لا بُدَّ من إجراء الحرمة، سواءٌ لم يحرز الأمر الوجودي أو أحرز عدمه، كما أفاده بعض تلامذته&([73]).
ب ـ من جهة الروايات الدالّة بمجموعها على لزوم الاحتياط في الفروج، وأن أمر الفرج شديدٌ، فيجب الاحتياط فيه([74])، وأنه أحرى أن يُحتاط فيه([75])، وأن النبي| نهى عن الجماع على الشبه؛ إذ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكة([76])، وغيرها ممّا دلّ على قاعدة الاحتياط في الدماء والفروج عند الشبهات، سواء كانت الشبهة موضوعية أم حكمية. فنجري القاعدة في المقام؛ إذ جواز التلقيح بماء الأجنبية من الشبهات الحكميّة في أمر البضع، ولا حاجة إلى البحث عن أسانيد الروايات، بعد حصول الاطمئنان بصدور مفادها، وظهورها المجموعي، بل حصول الاستفاضة في صدور مفاد القاعدة عنهم^.
وقد يُدَّعى معارضتها ببعض ما دلّ على عدم تصديق المرأة أو الجارية التي تدَّعي أنها أرضعت امرأةً وغلاماً لإثبات الحرمة بينهما، وعدم جواز نكاحه لتلك المرأة مع احتمال الحرمة بالرضاع؛ أو الروايات الدالّة على تمتُّع رجلٍ بامرأةٍ ثمّ ادَّعى رجلٌ آخر أنه زوجها ولم يُقِمْ بيِّنةً على ذلك، أو وقع في نفسه أن لها زوجاً، فبحث، فبان أن لها زوجاً، فقد أجاب الإمام× عن الجميع بما يخالف الاحتياط، وذلك بعدم سماع دعوى الإرضاع للجارية والغلام، وعدم سماع دعوى الرجل أن المتمتَّع بها زوجته، وعدم تأثير انكشاف ذلك بعد التمتُّع بها، وغيرها من الروايات التي تفيد عدم الاحتياط في أمر الفرج([77]).
ولكنْ يمكن المناقشة في هذه الرويات بأنها واردةٌ في مقام وجود بيِّنةٍ على الخلاف، كما في قضية المتمتَّع بها؛ فإن النساء مصدَّقاتٌ على فروجهنَّ ما لم تكن مشهورةً بالزنى، أو في مورد دعوى الرضاع؛ فإن الأصل فيه عدمه، فيستصحب، فيكون الأصل على خلاف دعواها، وليس المورد من موارد الشبهات، بعد العلم بواسطة ظاهر الحال أو الأصل بجواز النكاح. على أنه لو تمّ فلا يضرّ بمحلّ كلامنا من جريان القاعدة في موارد الشبهات الحكمية، فإن جميع الروايات الواردة في المقام إنما هي جواز النكاح مع وجود شبهةٍ موضوعية، فلو تمَّتْ هذه الرويات فغاية ما تدلّ عليه اختصاص القاعدة ـ قاعدة الاحتياط ـ بموارد الشبهات الحكميّة. وهو وإنْ كان مستَهْجَناً ـ لأن القدر المتيقَّن في بعض الرويات الدالّة على القاعدة إنما هو الشبهة الموضوعية، دون الحكمية ـ، ولكنْ لو التزمنا به لا يضرّ بالمطلوب.
والحاصلُ: لو سُلِّمَتْ بعض المناقشات على شمول الأدلة لمورد التلقيح بماء الأجنبي فلا أقلّ من لزوم الاحتياط فيه؛ لعدم حصول الوثوق بشمول أصالة الإباحة أو البراءة لموردٍ يحتمل فيه عدم رضا الشارع بالتفريط فيه، ولزوم الاحتياط.
الأدلّة الخاصّة على حرمة التلقيح بنطفة الأجنبيّ
وهي عديدةٌ:
الدليل الأوّل: أدلة تحريم أقارب الزوج. فيمكن الاستدلال بالروايات الدالة على حرمة نكاح الزوجة من قِبَل أقارب الزوج حرمةً مؤبَّدة، كالأب أو الجدّ؛ أو حرمة مؤقَّتة، كالأخ([78])؛ فإن تلك الرويات دالّةٌ بإطلاقها على حرمة التلقيح بنطفة أقارب الزوج مطلقاً. ولا يمنع انصرافها إلى المعاشرات الجنسية؛ باعتبارها الطريق الأوضح لتحصيل الذرِّية، وهو مبغوضٌ عند الشارع من جهة أقارب الزوج.
الدليل الثاني: الاستدلال بالارتكاز المتشرِّعي القائم على حرمة التسبيب في أيّ صلةٍ نسبية مع أقارب الزوج؛ لأنه يوجب اختلاط الأنساب بينهم، فيكون الجنين المتكوِّن من تلقيح الزوجة بماء أب الزوج ابناً للزوجة، وأخاً للزوج، وهذا مستَهْجَنٌ عُرْفاً.
ولكنّ هذا الدليل إنما يتمّ على أساس تصحيح الانتساب بمجرّد التلقيح؛ أما لو مُنع من ذلك فلا يتمّ الدليل المذكور، ولو من باب إلغاء الشارع تسبيب التلقيح في الانتساب في نظره، وتفاوت نظر الشارع مع العُرْف والعقلاء في المقام ليس بعزيزٍ، فهم ينسبون الولد المتولِّد بالزنى إلى الزاني؛ بينما الشارع يلغي هذا الانتساب، ولا يرتِّب عليه الأحكام.
ب ـ مع الانضمام إلى نطفة الزوج
بحيث يكون ماءُ أقارب الزوج منزوعَ الحيامن، ووظيفته تنشيط حيامن الزوج؛ كي تقطع المسافة الفاصلة بين المهبل والنفير (قناة فالوب)، الذي يتمّ فيه تلاقي الحيمن مع البيوضة، فيكون الموجب لتلقيح البويضة هو ماء الزوج، وإنما الماء الآخر مجرّد عاملٍ مساعدٍ على تنشيطها.
وهنا قد يستدلّ لحرمة هذه العملية بالأدلة العامّة السابقة، من الآيات؛ والروايات؛ وفحوى حرمة الزنى؛ والمرتكز المتشرِّعي على حرمة التسبيب في الحمل من الأجنبي؛ وقاعدة الاحتياط في الفروج. كما يمكن الاستدلال له بالأدلة الخاصّة الدالّة على حرمة النكاح بين الزوجة وأقارب الزوج، وحرمة التسبيب في ترتُّب النسب بينهما، الموجب لخَلْط الأنساب.
ولكنّ جميعَ هذه الوجوه محلُّ نظرٍ:
أما الآيات فهي لو تمَّتْ إطلاقاتها في موارد التلقيح بماء الأجنبي مستقلاًّ فلا إشكال في عدم تماميّتها فيه منضمّاً إلى ماء الزوج، بحيث يكون تكوُّن الجنين من ماء الزوج، لا من غيره؛ والسرّ في ذلك أن عنوان حفظ الفروج، أو حفظ الزوج في غَيْبته، أو كون الزوجة حرثاً ومنبتاً للزوج، لا تتنافى مع التلقيح المذكور، مع كون ماء الرجل هو الموجب للتلقيح. وغاية ما يمكن أن يُدَّعى في تلك الآيات هو منع الشارع عن تولُّد الذرِّية من غير الزوج، وبغضه لذلك. وهذا ـ كما هو واضحٌ ـ لايشمل محلّ كلامنا؛ إذ المفروض أن الذرية ستتولَّد من الزوج، لا من ماء الغير.
وأما الروايات فإن الرواية الأولى، الدالّة على حرمة إقرار نطفة الأجنبي في رحم المرأة، إنما تدلّ على الحرمة من جهة الممارسات الجنسية، أو التسبيب بالإقرار في خلط الأنساب، ولا يحتمل حرمة الفعل في نفسه، مع قطع النظر عن الأمرين المذكورين. وكلا الأمرين منتفٍ في المقام؛ إذ المفروض أن الممارسة الجنسية غير موجودةٍ، كما أن الأنساب لن تختلط؛ لأن تكوُّن الطفل من ماء الزوج.
وكذلك الحال في الرواية الثانية، التي دلَّتْ على حرمة إفراغ ماء الأجنبي في رحم المرأة المحرّمة عليه، فإن هذا التعبير لو كان له إطلاقٌ لغير موارد الممارسات الجنسية، بحيث يشمل التلقيح الصناعي، فلن يكون شاملاً له فيما لو كان تكوُّن الطفل من ماء الزوج؛ لأن المقطوع به أن المحرَّم هو إما الممارسات الموجبة لإفراغ مائه في المرأة المحرّمة؛ وإما من جهة التسبيب أيضاً. وكلاهما منتفٍ في المقام.
والكلام نفسه في الرواية الثالثة، الدالّة على حرمة وضع النطفة في رحم لا تحلّ.
وأما التعبير الوارد في الرواية الرابعة، من تضييع النطفة في غير محلّها، فهو وإنْ كان بنفسه شاملاً لمحلّ بحثنا، ولكنّ سياق الرواية دالٌّ على أنه إنما كان من المحرَّمات لأجل إفضائه إلى عدم تربية الأولاد وحصول النسل، فهو ناظرٌ إلى الزنى، الموجب لعدم استقامة النسل، فلا يشمل محلّ الكلام.
وبقيّة الروايات، كحرمة نقل الماء بالمساحقة وذهاب الأنساب وغيرها، فهي بلا إشكالٍ لا تشمل الصورة محلّ البحث.
فالمتحصِّل من جميع ما ذُكر أن القول الصحيح هو القول بالتفصيل بين التلقيح بماء أقارب الزوج منزوعِ الحيامن، فيجوز؛ وبين التلقيح به مستقلاًّ، بحيث يتكوَّن الطفل منه، فلا يجوز، ولا أقلّ من قيام المرتكز المتشرِّعي على حرمته، أو إجراء قاعدة الاحتياط فيه.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في قم، متخصِّصٌ في الفلسفة الإسلاميّة. من العراق.
([1]) محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 4: 453، قم ـ إيران، ط3، 1413هـ.
([2]) عليّ بن إبراهيم القمي، تفسير القمّي 2: 89.
([3]) انظر: محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 20.
([4]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج20، باب 75 من أبواب مقدّمات النكاح، ح4.
([5]) انظر: محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 20، بتصرُّف.
([6]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، باب 76 من أبواب مقدّمات النكاح.
([7]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 23، بتصرُّف.
([8]) المصدر السابق: 24، بتصرُّف.
([9]) محمد بن عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 432.
([10]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 28.
([11]) انظر: محمد علي التوحيدي، مصباح الفقاهة في المعاملات 2: 7.
([12]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 21: 513.
([13]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 29.
([14]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 343.
([15]) انظر: محمد بن محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 5: 169.
([16]) انظر: محمد بن محمد الأشعثي، الجعفريات (الأشعثيات): 107؛ أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي، دعائم الإسلام 2: 217: الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 350؛ الصدوق، علل الشرائع 2: 514، 570؛ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار 3: 313؛ تهذيب الأحكام 8: 88.
([17]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 29.
([18]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج21، باب 1 من أبواب العيوب والتدليس، ح3.
([19]) انظر: المصدر السابق، ج21، باب 1 من أبواب العيوب والتدليس، ح1، ح2، ح5، ح6، ح10، ح13.
([20]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعي.
([21]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج22، باب 2 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه، ح1؛ باب 15 من أبواب العدد، ح4، ح5، ح6، ح7، ح8، ح9، وغيرها.
([22]) المصدر السابق، ج2، باب 24 من أبواب غسل الميت، ح13.
([23]) انظر: المصدر السابق، ج2، باب 24 من أبواب غسل الميت، ح3؛ باب 32 من أبواب التكفين؛ باب 24 من أبواب صلاة الجنائز.
([24]) انظر: أبو القاسم الخوئي، منهاج الصالحين 1: 427؛ علي الحسيني السيستاني، منهاج الصالحين 1: 459: محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 4: 454:؛ جواد بن علي التبريزي، المسائل المنتخبة: 425؛ روح الله الخميني، تحرير الوسيلة: 621؛ محمد جواد مغنيّة، الفقه على المذاهب الخمسة 2: 374.
([25]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 10: 830.
([26]) علي بن إبراهيم القمّي، تفسير القمّي 2: 101.
([27]) انظر: محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية، الملحق الرابع: 551 ـ 571.
([28]) انظر: هاشم بن سليمان البحراني، البرهان في تفسير القرآن 4: 58 ـ 59.
([29]) انظر: محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 47.
([30]) أبو الحسين أحمد بن فارس، معجم مقائيس اللغة 4: 478.
([31]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 3: 96.
([32]) انظر: هاشم بن سليمان البحراني، البرهان في تفسير القرآن 2: 497؛ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، نور الثقلين 1: 777.
([33]) انظر: علي بن إبراهيم القمّي، تفسير القمّي: 137؛ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 10: 578.
([34]) الكليني، الكافي 11: 242 ـ 243.
([35]) انظر: أبو الحسن أحمد بن عليّ النجاشي، رجال النجاشي: 300.
([36]) محمد بن الحسن الطوسي، العدّة في الأصول 1: 150.
([37]) محمد بن الحسن الطوسي، اختيار معرفة الرجال 2: 483.
([39]) محسن حرم پناهي، التلقيح الصناعي، مجلّة فقه أهل البيت^، العدد 10: 67.
([40]) محمد بن محمد المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2: 179.
([41]) انظر: محمد بن الحسن الطوسي، رجال الشيخ الطوسي: 146: 178، 232، 249، 285، 302.
([42]) انظر كلامه في الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2: 216.
([43]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 403، 404.
([44]) انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 12: 37.
([45]) الكليني، الكافي 11: 243، باب الزاني، (ط. دار الحديث).
([47]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 20، باب ما جاء في الزنى.
([48]) محسن حرم پناهي، التلقيح الصناعي، مجلّة فقه أهل البيت^ 10: 70 ـ 71.
([49]) النجاشي، رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): 315.
([50]) أبو الحسن أحمد بن أبي عبد الله (ابن الغضائري)، كتاب الضعفاء (رجال ابن الغضائري): 86.
([51]) أبو القاسم الخوئي، صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات، ج2 (مسائل رجالية)، رقم السؤال (1427).
([52]) محمد بن محمد الأشعثي الكوفي، الجعفريات (الأشعثيات): 99.
([53]) محمد رضا السيستاني، قبسات من علم الرجال 2: 160.
([54]) علي الحسيني السيستاني، قاعدة لا ضَرَر ولا ضرار: 21.
([55]) جعفر بن محمد (ابن قولويه)، كامل الزيارات، النجف الأشرف، ط1، 1356هـ.ش.
([56]) انظر: أبو الفضل حافظيان البابلي، رسائل في دراية الحديث 1: 184 (الرعاية لحال البداية في علم الدراية / الشهيد الثاني)؛ 2: 540 (الوجيزة في علم دراية الحديث / ملاّ عبد الرزاق بن علي رضا الحائري الاصفهاني الهمداني).
([57]) المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2: 246.
([58]) محمد رضا السيستاني، قبسات في علم الرجال 2: 161.
([59]) المصدر السابق 2: 161 ـ 164، نقل بالمعنى.
([60]) المصدر السابق 2: 167 ـ 169، نقل بالمعنى.
([61]) الكليني، الكافي 14: 249.
([62]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 39.
([63]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 352.
([64]) الطوسي، تهذيب الأحكام 10: 49.
([65]) النجاشي، رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): 417.
([66]) الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه 3: 565.
([67]) النجاشي، رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): 328.
([68]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 307 ـ 323، باب 1 و 2 و3 و4 و6 و 8 و9 و11 من أبواب النكاح المحرَّم.
([69]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 66.
([70]) وهو نوع من نكاحٍ الجاهليّة، وهو استفعال من البُضْعِ: الجماع. وذلك أن تطلب المرأة جماع الرجل؛ لتنال منه الولد فقط. كان الرجل منهم يقول لأمته أو امرأته: أرسلي إلى فلانٍ فَاسْتَبْضِعِي منه، ويعتزلها فلا يمسّها حتّى يتبيَّن حملها من ذلك الرجل. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد. انظر في تفسيره: مبارك بن محمد (ابن الأثير الجزري)، النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 133.
([71]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 67.
([72]) محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول (تقريراً لأبحاث الميرزا النائيني) 3: 384 ـ 385، نقل بالمعنى.
([73]) انظر: الميرزا محمد تقي الآملي، مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى 1: 107، نقل بالمعنى.
([74]) الكليني، الكافي 10: 830.
([75]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 80.
([76]) الطوسي، تهذيب الأحكام 7: 474.
([77]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 76 ـ 77، نقل بالمعنى.
([78]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، 20: 361 ـ 512، أبواب ما يحرم بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة.