الشيخ مسعود إمامي(*)
ترجمة: د. حسن طاهر / د. علي الرضا عيسى
رأي الأكثريّة في سيرة المعصومين (عليهم السلام)
في دراسة سيرة النبيّ| والأئمّة المعصومين^ بشأن اعتبار رأي الأكثرية والإرادة العامّة أو عدم اعتبارهما لا بُدَّ من التوجُّه بشكلٍ تامّ إلى المبادئ المختلفة؛ فقد يكون رأي الأكثرية في سيرة المعصومين^ باطلاً وغير معتبرٍ على مبدأ، ومعتبراً على أساس مبدأ آخر. وقبل دراسة هذه المسألة سنقوم بعرض شبهة تعارض نظريّة الإمامة مع اعتبار رأي الأكثرية، مع الإجابة عنها.
1ـ اعتبار رأي الأكثريّة ونظريّة الإمامة
يعتقد بعض المعاصرين أن الإسلام في كلّ تاريخه لم يحدِّد شكلاً خاصاً للحكم، أو شخصاً خاصّاً لتولي الحكم، حتّى في حياة الرسول الأكرم|، ولا يمكن أن نجد في تعاليم الإسلام شيئاً حول ذلك، سوى الشروط التي ينبغي توفُّرها في الحاكم والحكومة، والتوصيات حول علاقة الحكومة بالشعب، أو العكس.
ومن ناحيةٍ أخرى تعتقد الغالبية العظمى من المفكِّرين المسلمين؛ استناداً إلى القرآن الكريم وسنّة الرسول الأكرم|، أن المسلمين كانوا في عصر الرسول الأكرم| مكلَّفين ـ في مقام التشريع ـ بقبول حاكميته السياسية، وحصل خلافٌ بينهم بعد وفاة الرسول الأكرم| حول تحديد الحاكم السياسيّ؛ فالسنّة يعتقدون أن الرسول الأكرم| لم يختَرْ من بعده نوعاً معيَّناً من الحكومة، وشخصاً معيَّناً للحكم؛ بينما يرى الشيعة أنه نصَّب الإمام عليّ بن أبي طالب×، ثمّ أحد عشر إماماً من أبنائه، للحكم من بعده. وعُرفَتْ هذه النظرة عند الشيعة بنظريّة «الإمامة».
ذهب الدكتور عبد الكريم سروش إلى أن نظرية الإمامة، ثمّ نظرية المهدويّة، تتعارض مع فكرة الديمقراطية، وسيادة الشعب([1]). ويبدو أنه ـ ومعه أولئك الذين رفضوا مقام الحاكميّة السياسيّة للنبيّ|؛ من أجل المصالحة بين الإسلام والديمقراطية ـ قد خلطوا بين مفهومَيْ الحرِّية التشريعية والحرِّية التكوينية.
ما يعوق حرِّية اختيار الناس هو الحرمان من الحرِّية التكوينية، وليس الحرمان من الحرِّية التشريعية. إن الإسلام، كأيّ مذهبٍ سياسي آخر، قدَّم نظريّةً خاصّة عن الحكم من الجانب التشريعي، وسنَّ القوانين، وشرح وجهة نظره؛ ولكنّه من الجانب التكويني، والعمل الخارجي، لم يجبِرْ الناس على قبول هذا الرأي، تماماً كما تفعل الأحزاب السياسية في المجتمعات الديمقراطية. لذلك، فإن نظرية السيادة السياسية للنبيّ الأكرم|، وكذلك نظريّة الإمامة، لا تعني حرمان البشر من حرِّية الإرادة في تعيين حكّامهم، بل تعني تقديم نموذجٍ للحكومة ولإدارة المجتمع يرضي الله، والناس مُلْزَمون شرعاً باتِّباعه، ولكنهم أحرارٌ تكوينيّاً في قبوله أو رفضه.
2ـ سيرة المعصومين (عليهم السلام) واعتبار رأي الأكثريّة
تعتبر سيرة النبيّ الأكرم| والأئمّة المعصومين^ في الجانب المتعلِّق بحكمهم على الناس دليلاً واضحاً على اعتبار رأي الأكثريّة بناءً على مبدأ الحقّ في تقرير المصير، وعلى عدم اعتبارها بناءً على مبدأ كشف الحقيقة.
وعلى الرغم من أن المعصومين^ أنفسهم كانوا يعتبرون أنهم مؤهَّلين لتولِّي حكم الناس؛ بصفتهم مختارين ومنصَّبين من قِبَل الله ، وبالتالي فإن إمامتهم للناس معتبرةٌ؛ لأنها مأخوذةٌ من الحكم الإلهيّ، وليس من آراء الناس، لكنّ التاريخ يثبت أنهم لم يفرضوا هذه الرؤية على الآخرين أبداً.
لا يوجد شاهدٌ معتبر في تاريخ وسيرة النبيّ والأئمّة^ يشير إلى رغبتهم في إقامة حكومة أقلِّية الحقّ على أكثريّة الباطل. بل على العكس من ذلك؛ ثمّة أدلّة كثيرة تشير إلى أنهم لم يوافقوا أبداً على تولِّي الحكم ما لم يتمّ التأكُّد أوّلاً من رضا الناس، وكون رأي الأكثرية مؤيِّداً لحكومتهم.
وبعبارةٍ أخرى: بقبولنا لاعتبار رأي الأكثرية على أساس حقّ تقرير المصير، وعدم اعتباره على أساس كشف الحقيقة، نصل إلى استنتاجٍ مفاده: إن إقامة أيّ حكومة، حتّى حكومة المعصومين^، لن يكون لها شرعيّةٌ وحقّانيةٌ عقليّة وشرعيّة ما لم تتوفَّر على أمرين: الأوّل: أن تثبت كفاءتها العقليّة والشرعيّة؛ والثاني: أن يقبل بها أغلبيّة الناس أيضاً.
لذلك لا يحقّ لثلاث مجموعاتٍ تشكيل حكومةٍ: الأولى: هم الذين يفتقرون إلى الشرط الأوّل فقط؛ أي إنهم لا يملكون الكفاءة العقليّة والشرعيّة لحكم الناس، لكنهم مُنْتَخَبون من قِبَل الغالبية، لذلك فإن حكم مثل هؤلاء يُعتَبَر ذنباً أخلاقياً ودينياً، وقد أثم الناس في اختيارهم، إلاّ إذا كانوا جاهلين وقاصرين. الثانية: هم الذين يفتقرون إلى الشرط الثاني فقط؛ أي إنهم يحوزون الكفاءة العقليّة والشرعيّة للحكم، لكنهم لا يُنْتَخَبون من قِبَل الأكثرية، مع أنهم يتمتَّعون بمكانة العصمة والإمامة. والمجموعة الثالثة: هم الذين يفتقدون كلا الشرطين. لذلك، فالذين يستوفون الشرطين وحدهم لهم الحقّ في تشكيل الحكومة.
يشهد التاريخ أن الرسول الأكرم| والأئمّة المعصومين^ لم يكونوا بصدد الوصول إلى السلطة بأيّ شكلٍ من الأشكال. فعلى الرغم من أن لديهم القدرة على تشكيل مجموعاتٍ مسلَّحة من الأتباع والشيعة؛ للإطاحة بالحكومات في عصرهم، لا يوجد سجلٌّ تاريخي موثوق يشير إلى أنهم شاركوا أو أيَّدوا «انقلاباً» استهدف حكم الأقلِّية؛ لكنهم كانوا ينتظرون باستمرارٍ حركةً شعبيّة. ومن ثَمَّ فقد حاولوا توفير أرضيّةٍ ثقافية؛ لتتشكَّل بناءً عليها إرادة الناس من أجل حكومة الحقّ.
3ـ الدفاع عن الأقلِّية في مقابل ظلم الأكثريّة
لا تعني الشواهد التي يذكرها بعضٌ بعنوان تأييد الأئمّة المعصومين^ لثورات العلويين والسادات ـ على فرض صحّتها ـ بالضرورة تأييد حركات «إطاحة» الأقلِّية لحكم الأكثرية. لكن هذه الشواهد يمكن أن تعني تأييد الحركات التي تحاول «الدفاع» عن هويِّتها وحياتها المادِّية والمعنوية فحَسْب. ومن الواضح أن دفاع الأقلِّية ضدّ ظلم الحكومة، أو حتّى ضدّ اضطهاد الأكثرية، هو حقٌّ عقليّ وشرعيّ لها.
أمضى العلويّون والشيعة، ولا سيَّما بنو هاشم والسادات، أصعب الأوقات إبّان الحكم الأموي والعباسي، وحُرِموا من الكثير من حقوقهم الأساسية. ولذا كان من حقِّهم الطبيعي أن يثوروا من أجل الدفاع عن حقوقهم. في مثل هذه الحالات، كان تأييد ومساعدة الأئمّة^ لهذه الانتفاضات عبارةً عن تأييد حركة الدفاع عن الأقلِّية ضدّ ظلم الحكومة.
ولا يتعارض اعتبار رأي الأكثرية مع الدفاع عن الأقلِّية ضدّ ظلم الأكثرية؛ فالدفاع حقٌّ فرديّ لكلّ فردٍ، وحقٌّ جماعيّ لكلّ مجتمعٍ، والدفاع عن الحقوق لا يعني إكراه وإجبار الأقلِّية للأكثرية، وحكم الأقلِّية للأكثرية؛ فللأقلِّية الحقّ في الدفاع عن حقوقها ضدّ الأكثرية، حتّى لو لم يكن هناك سبيلٌ آخر للدفاع عن نفسها إلاّ الصراع والحرب. لكنّ هذا لا يعني بالضرورة الإطاحة بحكم الأغلبية الظالمة، واستبدال حكم الأقلِّية بالأكثرية، على الرغم من أنه في بعض الأحيان لا يكون للأقلِّية وسيلةٌ للدفاع عن حقوقها الأساسية غير الإطاحة بحكومة الأغلبيّة، ومن الواضح أن هذه الحركة التقويضية للأقلِّية تهدف إلى الدفاع عن حقوقها، وستكون حدود الحركة دائرة مدار صدق الدفاع، وليس إكراه الأكثرية على اتِّباع رأي الأقلِّية.
يؤدّي رأي الأكثرية؛ بما أنه الحَكَم النهائي لحلّ النزاعات بين أفراد المجتمع، إلى استتباب النظام العامّ. ومن ناحيةٍ أخرى فإن انتهاك حقوق الأقلِّية من قِبَل الأكثرية يخلق أيضاً حقّ الدفاع للأقلِّية، وفي الوقت نفسه، في بعض الأحيان، لا يكون للأقلِّية خيارٌ سوى الإخلال بالنظام العامّ للدفاع عن حقوقها. في مثل هذا الافتراض، بالنسبة للأقلِّية، هناك تضاربٌ بين ملاك ومصلحة النظام العامّ، وملاك ومصلحة الدفاع عن حقِّها، ويفضِّل العقل المصلحة الأكثر أهمّية في حالات تدافع المصالح.
وبالتالي، لا يمكن دائماً الادِّعاء بأنه يجوز أو يجب على الأقلِّية أن تقف في وجه ظلم الأكثرية والدفاع عن حقوقها إذا كان يخلّ بالنظام العامّ، ولكنّ هذا الادِّعاء تمّ قبوله في الحالات التي يقع فيها ظلمٌ فاحش للأقلِّيات، وتضيع حقوقها المهمّة، بحيث تكون المصلحة في الدفاع أكثر أهمِّية من مصلحة النظام العامّ.
وسوف نناقش الآن سيرة المعصومين^ من الجوانب التي تتعلَّق بحقّ الناس في تقرير المصير وتشكيل الحكومة. ونحاول أن نستشهد في هذه الدراسة التاريخية بأدلّةٍ تاريخية واضحة. يظهر مجموع هذه الأدلة والقرائن التواتر المعنويّ في احترام الأئمّة المعصومين^ للإرادة العامّة، ومعارضتهم لتشكيل حكومة أقلِّية على الأكثرية. ونظراً لكثرة هذه الشواهد وتواترها فما من ضرورةٍ لفحص سند أيٍّ منها.
4ـ سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)
دعا النبيُّ الأكرم| في بداية رسالته في مكّة الناسَ إلى الإسلام لمدّة ثلاثة عشر عاماً، ولم يتَّخذ أيّ إجراءٍ لحكم المسلمين في مكّة؛ لأنهم كانوا أقلِّيةً، ولم تقبل غالبيّة المجتمع المكّي مثل هذا الحكم.
وفي الوقت نفسه أرسل النبيّ| ممثِّليه إلى المدينة المنوَّرة، وبدأ دعوته من هذه المدينة. اعتنق معظم أهل المدينة الإسلام، وتدريجياً أصبح المسلمون يشكِّلون في المدينة أكثريّةً غالبة، والمعارضة أقلِّية. كانت غَلَبةُ المسلمين في المدينة المنورة نافذةً إلى درجة أن بعض الكفّار أُجْبِروا على التظاهر بالإسلام؛ حرصاً منهم على حفظ مكانتهم الاجتماعية، واعتمدوا أسلوب النفاق في مثل هذا الوضع الذي كان فيه غالبية المجتمع المكّي ضدّ النبيّ|، بينما أيَّده أكثر أهل المدينة، وطالبوا بقيادته وحكمه على أرضهم. لقد قرَّر الهجرة من مدينةٍ لا تريده فيها الأغلبيّة إلى مدينةٍ أرادَتْ الأغلبيّة أن يحكمها، واحْتَرَمَ الإرادة العامّة للناس، وحقَّهم في تقرير المصير، ولم يفرض نفسه على سكان هاتين المدينتين.
كما تأخَّر فتح مكّة إلى أن آمن به المزيد من الناس هناك خلال السنوات التي أعقبَتْ البعثة. ومنهم مَنْ جاء معه إلى المدينة، أو بعد هجرته بأعوامٍ، بينما عاش بعضٌ في مكّة في حالة تقيّةٍ؛ خوفاً من الأرستقراطية وشيوخ مكّة.
والدليل على أن الرسول| فتح مكّة بطلب معظم أهل تلك النواحي أن فتحها كان سلميّاً، بلا حربٍ، ولا سفك دماء. كما أدرك أعيان قريش أن دعوة الرسول| قد تغلغلت في قلوب أهل مكّة، ولم يكن هناك ما يدعوهم إلى مقاومة الدخول الظافر للمسلمين إلى تلك المدينة، وبالتالي لم يقوموا بأيّ عملٍ عسكري لمقاومة الفتح. وهكذا تأسَّس حكم الرسول| في مكّة والمدينة بإرادة الناس، واحترام حقِّهم في تقرير المصير، ولم يكن حكماً لأقلِّيةٍ مسلمة على أغلبيّةٍ غير مسلمة.
كان ينبغي أيضاً دراسة غَزَوات النبيّ| بشكلٍ مفصَّل، ولكنْ لا يَسَعنا في هذه العجالة دراستها باستفاضةٍ، فيمكن للقرّاء مراجعة كتب السيرة. ويصحّ القول ـ باختصارٍ ـ: إن حروب الرسول| هي إمّا كحرب بدرٍ وأُحُد والأحزاب، دفاعيّةٌ ضد هجوم العدوّ([2])؛ أو كحرب مؤتة، ضدّ نكث العهد والجرائم التي ارتكبها غير المسلمين ضدّ المسلمين([3])؛ أو مثل حرب ذات السلاسل وحُنَين وتبوك، بمثابة ضربةٍ استباقية ضدّ هجومٍ واسع النطاق على المسلمين([4]). لذلك لم تكن حروب الرسول| بقصد فتح أرضٍ، وحكم أهلها ضدّ إرادة أهل تلك الأرض.
وليس لحروب وفتوحات الخلفاء الثلاثة بعد النبيّ| والخلفاء الأمويين والعبّاسيين أيّ اعتبارٍ وحجّةٍ شرعية لأيّ مسلمٍ، شيعي أو سُنِّي. وإذا ثبت أنه تمّ انتهاك حقوق غير المسلمين في تلك الفتوحات، وتجاهل حقِّهم في تقرير المصير، فلن يضرّ ذلك بنظريّة دفاع الإسلام عن الحرِّية التكوينية للناس، وحقِّهم في تقرير المصير.
وهذا لا يعني بالضرورة أن طريقة الخلفاء في الفتوحات كانت تتعارض في جميع الأحوال مع حقّ سكّان الأراضي المفتوحة في تقرير المصير، بل يمكن القول، على الأقلّ في بعض الحالات: إن ما هوجم وأطاحَتْ به جيوش المسلمين كان أنظمةً وراثية وسلطوية، تفتقر إلى الشرعية الشعبية، ومنعَتْ رسالة الإسلام من الوصول إلى تلك الشعوب، وما فعله المسلمون هو إزالة العوائق أمام الدعوة العالميّة للإسلام.
وفي هذا الصدد فإن المسلمين الفاتحين، بعد فتح بلاد غير المسلمين، لم يجبروا أحداً على اعتناق الإسلام، بل سمحوا لهم بالبقاء على دينهم، والتمسُّك بتقاليده وشعائره. هم أيضاً بدَوْرهم قبلوا دعوة الإسلام بشكلٍ تدريجيّ، وانتشر بين مختلف الأمم بمرّ السنين.
وعليه، يمكن تفسير «الجهاد الابتدائي» من حيث حقّ تقرير المصير لشعوب الأراضي المفتوحة. وبعبارةٍ أخرى: الجهاد الابتدائي لا يعني إجبار أهل الأراضي الأخرى من غير المسلمين وإكراههم على الإسلام، بل يعنى إزالة العوائق التي وضعَتْها الحكومات غير الشعبية أمام شعوبها؛ لمنع رسالة الإسلام من الوصول إلى مسامعهم. وعلى هذا الأساس، فمن البديهيّ أنه في عالم اليوم، الذي تتوفَّر فيه وسائل كثيرة لإبلاغ رسالة الدين في كلّ البقاع، لا تكون هناك موضوعيّةٌ للجهاد الابتدائي.
لذلك يمكننا أن نقدِّم بإيجازٍ تقريراً وتحليلاً يستند إلى احترام المسلمين لحقّ تقرير المصير للدول غير المسلمة في الأيام الأولى للإسلام. ومع ذلك لا يمكن الادِّعاء بأن جميع المسلمين الفاتحين، بمَنْ فيهم الخلفاء وأمراء الحرب وولاة الأراضي المحتلّة والمسلمون الفاتحون بشكلٍ عامّ، يلتزمون بجميع القواعد والأنظمة الإنسانية والإسلامية في التعامل مع شعوب الأراضي المحتلّة، بما في ذلك احترام حقّ الشعب في تقرير المصير. فالحكم الواضح في هذا الصدد يتطلَّب دراسةً دقيقةً وشاملةً لجميع جوانب التاريخ.
الذين يدَّعون أن الإيرانيين اعتنقوا الإسلام بالقوّة على يد العرب الفاتحين يهينون الإيرانيين قبل أن يهينوا العرب. لم يدرك هؤلاء أن مجال الفكر والعقل ليس عالم الإكراه والفَرْض، بل هو مجالُ تضارب الآراء، وهيمنة ثقافةٍ ودينٍ أعلى على ثقافةٍ ودينٍ أدنى؛ لأنه لا يمكن فرض فكرٍ على الناس بالقوّة، إلا إذا كانوا يفتقرون إلى فكرٍ ودينٍ مستحكمين، وأدركوا فقرهم الثقافي، وتفوُّق أفكار القوم الغالبين، لدى تصادم معتقداتهم وثقافتهم مع ثقافة ودين أولئك القادمين الجُدُد.
غزا المغول إيران أيضاً، وحكموها لأعوام طويلة، لكنْ بعد فترةٍ قصيرة اعتنقوا الإسلام، وتسلَّل الحكماء المسلمون إلى أعلى المستويات في أروقة قصورهم؛ هذا لأن الشعب الفاتح كان يفتقر إلى ثقافةٍ ودينٍ راسخين، فاستسلم لا محالة لفكر وحكمة الإيرانيّين المسلمين. والحديث طويلٌ عن ذلك. وثمّة الكثير من الشواهد التاريخية.
وحتّى اليوم، لا ينبغي أن يخاف أوصياء أيّ مذهبٍ فكري يدَّعي تفوُّق الدين الذي ينتمي إليه من تضارب الآراء، وتلاقح الثقافات، ولا أن يمنعوا أعين وآذان أتباع دينهم عن رؤية وسماع أفكار وسلوكيّات الشعوب الأخرى، ما لم يكونوا شاكِّين في تفوُّق دينهم.
ويجدر ذكر تعليمين دينيين تجلَّيا بوضوحٍ في عصر النبيّ| والمعصومين^، وكشفا عن احترام الإسلام لحقّ الناس في تقرير مصيرهم:
أـ هجرة المسلمين الأوائل واحترام رأي الأكثريّة
جاء في القرآن أن الهجرة واجبةٌ على المسلمين، وتمّ مدح المهاجرين في سبيل الله بشكلٍ كبير([5]). إن عقيدة الهجرة في الإسلام والقرآن دليلٌ واضحٌ على اعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقريرالمصير. طرح مسألة «الهجرة» مع «الجهاد» في تعاليم الإسلام يدلّ على أن واجب المسلمين ليس دائماً «الجهاد» وقتال المعارضين، ولكنْ أحياناً يكون عليهم واجبٌ آخر، يُسمّى «الهجرة».
يعلِّم الإسلام أتباعه أنه إذا كان خصومهم في مجتمعٍ ما يتفوَّقون عليهم في العدد، وضيَّقوا المجال عليهم، وتمّ منعهم من أداء واجباتهم الدينية، فحينئذٍ لا يكون واجبُهم «الجهاد» ومواجهة الأغلبية، بل الهجرة من ذلك المجتمع، والانتقال إلى أرضٍ يمكنهم العَيْش فيها بسلامٍ.
لذلك فإن لتعاليم «الجهاد» و«الهجرة» مكانتين متمايزتين عن بعضهما، ويكمِّل كلٌّ منهما الآخر. وذِكْرُهما في القرآن والسُّنَّة دليلٌ على شمولية تعاليم الإسلام، التي أخذَتْ في الاعتبار المواقف المختلفة للمجتمع الإسلاميّ، وقدَّمَتْ مهمة مناسبة لكلّ موقفٍ.
ففي مجتمعٍ يشكِّل فيه المسلمون أقلِّيةً، ولا يتمّ قبولهم من طرف الأكثرية، لا يحقّ لهم الجهاد ضدّ الأكثرية، وفرض أنفسهم عليهم؛ أما إذا كان المجال ضيقاً عليهم، فيصبح واجباً عليهم ترك هذا المجتمع والهجرة إلى أرضٍ أخرى. وهكذا، فإن عقيدة «الهجرة» تظهر أن الإسلام يحترم حقّ أكثريّة غير المسلمين في تقرير المصير.
إن تاريخ صدر الإسلام، باستثناء هجرة الرسول الكريم| والمسلمين إلى المدينة المنوَّرة، يشهد أيضاً هجرةً أخرى، وهي هجرة مجموعةٍ من المسلمين إلى الحَبَشة. هاجَرَتْ مجموعة من مسلمي مكّة إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة، وقد أظهرَتْ تلك الهجرة احترام المسلمين لحقّ الأكثرية المكِّية غير المسلمة في تقرير المصير. وعندما دخلوا الحبشة لم يفرضوا أنفسهم على غير المسلمين هناك، وطلبوا الإذن من حاكم تلك الأرض بدخول بلاده، والعيش فيها. وهكذا تُظْهِر هجرتا المسلمين احترامهم لحقّ الناس تقرير مصيرهم، سواء في الأرض التي هاجروا منها أو التي هاجروا إليها.
ب ـ دلالة البَيْعة على الحقّ في تقرير المصير
تعتبر البَيْعة ظاهرةً أخرى شائعةً في زمن النبيّ الكريم| والأئمّة المعصومين^، وتشير بوضوحٍ إلى اعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير. لقد أيَّد المعصومون^ «البَيْعة» في أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم. وورد ذكر بَيْعة المؤمنين للنبيّ الأكرم| في القرآن الكريم([6]). كما نرى في سيرة الأئمّة الثلاثة الأوائل ظاهرة البَيْعة، التي سنشير إليها لاحقاً. وكذلك بايع الناس الإمام الرضا× على ولاية العهد([7]). وجاء في الروايات أن الناس سيبايعون الإمام المهديّ# بعد ظهوره([8]).
لم يتمكَّن بعض العلماء من تقديم تفسيرٍ واضح ويمكن الدفاع عنه لظاهرة «البَيْعة» في عصر المعصومين^؛ بسبب عدم اهتمامهم بمبدأ «الحقّ في تقرير المصير».
اضطرّ الشيخ حسين علي منتظري إلى التمييز بين تقليد «البَيْعة» لدى العقلاء وبين ما فعله الرسول| مع الناس تحت عنوان البَيْعة. وبرأيه فإن حقيقة البَيْعة قبل ظهور الإسلام، بناءً على الأدلة التاريخية والمعجمية لهذه الكلمة، كانت «إقامة الرئاسة والولاية» للحاكم، وبالبَيْعة تثبت الولاية أيضاً، ولكنّ البَيْعة في سيرة الرسول| والأئمّة^ الذين ثبتَتْ ولايتهم من قِبَل الله ليست بهذا المعنى، وقد حاول النبيّ| والأئمّة^، من خلال أسلوب البَيْعة الذي كان شائعاً بين أهل ذلك الوقت، أن يثبِّتوا أُسُس ولايتهم في مقام التطبيق الفعلي.
وبعبارةٍ أخرى: هناك طريقتان لإثبات الولاية: أوّلاً: تعيين الله؛ وثانياً: ولاء الناس في الحالات التي لم يعين الله فيها أحداً. ولأن الناس كانوا أكثر درايةً بالطريقة الثانية فقد عمد النبيّ| والأئمّة^، الذين ثبتت ولايتهم مسبقاً من قِبَل الله، ولم يكونوا بحاجةٍ إلى بَيْعة الناس لإثباتها، نعم، عمدوا إلى استخدام الطريقة الثانية؛ بغية التأكيد على ولايتهم، وهذا مثل اجتماع علل مختلفة على معلولٍ واحد([9]).
لم يكن رأي الشيخ منتظري، وكذلك رأي الكثير من الفقهاء والعلماء، في البَيْعة إبّان عصر المعصومين^ أنها قائمةٌ على مبدأ الحقّ في تقرير المصير. فما هو ثابتٌ للمعصومين^ قبل بَيْعة الناس هو أهليَّتهم للحكم في نظام التشريع، وهذا وحده لا يكفي لتشكيل الحكومة، ولكنْ لأن الحكومة تشترط التصرُّف في أمور مختلفة من حياة الناس، وكان الناس ـ بحكم العقل والوَحْي ـ يمتلكون الحقّ في تقرير المصير، فلا يمكن لشخصٍ ما ـ حتّى لو كان معصوماً ـ أن يحكم الناس دون رضاهم. لذلك فإن بَيْعة الرسول| والأئمّة الثلاثة الأوائل لم تكن من أجل مماشاة الناس فيما كان متداولاً بينهم، أو تأكيداً لولايتهم عليهم، بل بَيْعة هؤلاء العظماء كانت لإضفاء الشرعيّة على حكمهم.
يعتبر الشيخ محمد مؤمن أن «مقتضى إطلاق أدلة ثبوت الولاية، كأدلّة وجوب الإطاعة، أن البَيْعة ليست شرطاً، لا في ثبوت أصل منصب الولاية، ولا في وجوب إطاعتهم على الناس، بل الرسول والأئمّة المعصومون صلوات الله عليهم أولياء الأمور، واجبو الإطاعة على الأمّة، وإنْ لم تنشأ من المسلمين بَيْعةٌ». والفائدة الوحيدة للبَيْعة أن «البَيْعة تكون ذات أثرٍ في حصول القدرة العادية لوليّ الأمر على تقديم الأهداف الإلهية العالية الإسلامية، وبشكلٍ دقيق فإن ما يحصِّل هذه القدرة ويوجبها إنما هو حضور مَنْ يُعِين ويساعد ويمتثل أوامر وليّ الأمر، وإنْ لم تكن بَيْعةٌ». فالشيخ مؤمن لديه نظرةٌ أداتية للبَيْعة؛ إذ يعتبرها مجرّد وسيلةٍ لتشكيل الحكومة، وهي وسيلةٌ غير حَصْرية، ويمكن استبدالها([10]).
يؤكِّد السيد كاظم الحائريّ، أثناء طعنه في سند معظم روايات البَيْعة، ورفض استفاضتها وتواترها الإجماليّ، أن هذه الروايات متعلِّقة بعصر وجود المعصومين^، ولا شَكَّ في أن بَيْعة الناس ورضاهم لا يضفي الشرعيّة على ولايتهم؛ لأن تلك الشرعية مستمدّةٌ من الله ، ولا حاجة لانتخاب الناس لتحقُّقها. لذلك، إذا صحَّتْ بعض هذه الأخبار فإن هدف أهل البيت^ هو إحراز شروط انتصارهم ونجاحهم في الوصول إلى الحكومة، وليس إضفاء الشرعيّة على حكمهم([11]). وبحَسَبه فإن فائدة البَيْعة في تاريخ الإسلام أن يثق المُبَايَع له بوفاء عددٍ من المبايعين بتعهُّدهم؛ لأن البَيْعة شرعاً واجبة الوفاء؛ لأنها عقدٌ وعهد تعلّق بأمرٍ مشروع، وقد أمَرَنا القرآن بالوفاء بالعقد والعهد([12]).
أشار أحد المعاصرين، أثناء دراسة روايات البَيْعة، إلى روايات أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين^ التي تبين أن الحكم بيد الناس، ولن يحكم أهل البيت^ حتّى يبايع الناس. ثمّ يطرح إشكالاً يتعلَّق بتلك الروايات: إن حكم أهل البيت^ مبنيٌّ على النصّ، ولا حاجة به إلى انتخاب الناس، ثمّ يقول في معرض الجواب: لأن الناس أنكروا مقام التنصيب لأهل البيت^ لذلك استدلّوا بالانتخاب، الذي هو طريقة ما بعد التنصيب([13]). لذلك لا تحتاج حكومة أهل البيت^ إلى البَيْعة؛ لوجود النصّ.
يعتبر أحد المعاصرين الآخرين ـ مثل الشيخ منتظري ـ أن لبَيْعة المعصومين^ جانباً «تأكيديّاً». وبما أن شرعية حكم المعصومين^ من عند الله فإن بَيْعة الناس لا توجد الشرعيّة، بل تؤكِّدها([14]). إنه يشكِّك بروايات البَيْعة الكثيرة بدون دليلٍ، ويرفض دلالتها على «إعطاء الشرعيّة لرأي الناس»، ويعتقد أن كلام المعصومين^ ـ وخاصّة الإمام عليّ× ـ دفاعاً عن البَيْعة «ما هو إلاّ تعبيرٌ عن القواعد العُرْفية في ذلك الوقت، والتي كان منطلقها التخلّي عن أساس شرعيّة وصيّة النبيّ|»([15]).
ومن الواضح أن هؤلاء العلماء يتناولون مسألة الشرعية الدينية أثناء كلامهم عن البَيْعة، ولم ينظروا إليها من حيث بلورة حقّ الناس في تقرير المصير. يعتقدون أن الحكّام غير المعصومين يكتسبون الشرعية والسلطة من خلال مبايعة الناس لهم، في حين لا يحتاج المعصومون^ إلى البَيْعة؛ لأنهم يتمتَّعون بالشرعيّة الإلهية. بينما استحقاق المعصومين× للحكومة لا يعني إنكار حقّ الناس في تقرير المصير، والبَيْعة تبلورٌ لهذا الحقّ. لذلك لا يوجد فَرْقٌ بين المعصوم× وغير المعصوم في ضرورة البَيْعة.
وبحَسَب هذه المجموعة من الباحثين فإن للبَيْعة وكسب رضا الناس في عصر المعصومين× جانبٌ أداتيّ فقط، من أجل كفاءة حكومة الرسول| والأئمّة^. فلو افترضنا أن النبيّ| والأئمّة^ لا يحتاجون إلى بَيْعة الناس ورضاهم لممارسة الولاية، وتمكَّنوا من حكم الناس بالقوّة القَهْرية التي يحصلون عليها من أتباعهم، أو بالمعجزة والإمداد الإلهيّ، فيكون حكمهم شرعيّاً ومستحسناً. في حين أن هكذا حكومة غير مرغوبٍ فيها وفقاً لـ «حقّ تقريرالمصير»، ولا يحقّ للنبيّ| والأئمّة^ القيام بذلك. وبالتالي، ودون الحاجة إلى أيّ تأويلٍ في شرح مكانة البَيْعة في سيرة المعصومين^، تؤكِّد هذه الظاهرة في سيرتهم بوضوحٍ أساس «الحقّ في تقرير المصير». وبسبب عدم اهتمام العديد من الفقهاء بهذا المبدأ وقعوا في تأويلاتٍ في غير محلِّها في تفسير البَيْعة.
بتاريخ 28 جمادى الأول 1408هـ أرسل ممثِّلو الإمام الخمينيّ في سكرتاريّة أئمّة الجمعة استفتاءً إلى الإمام، يسألون فيه: «متى يكون للفقيه الجامع للشرائط ولايةٌ على المجتمع الاسلامي؟»، فأجابهم: «للفقيه ولايةٌ في جميع الصور، ولكنّ تولِّي أمور المسلمين وتشكيل حكومة يرتبط بآراء أكثر المسلمين. وقد ذُكِرَ ذلك في القانون الأساسيّ أيضاً، وكان يُعبَّر عنه في صدر الإسلام بالبَيْعة لوليّ المسلمين»([16]).
اعتبر الخميني في جوابه هذا بوضوحٍ أن تشكيل الحكومة الدينية متوقِّفٌ على رأي الأكثرية، وأن البَيْعة في صدر الإسلام كانت مطابقةً لها. فبرأيه إن تشكيلَ حكومة المعصومين^ بدون رأي الأكثرية وبَيْعة الناس غيرُ شرعيٍّ، ولا يجوز. ولا معنى لهذا إلاّ اعتبار رأي الأكثريّة على مبدأ الحقّ في تقرير المصير.
بالطبع، لم تكن سنّة البَيْعة في الماضي مطابقةً تماماً للتصويت في عصرنا الحاضر. كان للبَيْعة معنيان في الماضي:
الأوّل: إعلان رضا الناس عن حكم مَنْ بايعوه. وبهذا المعنى مارسوا «حقّ تقرير المصير». والبَيْعة بهذا المعنى كالتصويت في العصر الحالي.
الثاني: إعلان طاعة الناس والتزامهم بحكومة الشخص الذي تمَّتْ مبايعته. لذا فإن كلمة البَيْعة المستمدّة من كلمة «بيع» كانت عقداً بين الشعب والحاكم، يترتَّب عليه التزامات تجاه الناس. ويمكن أن تشير أيضاً إلى التزاماتٍ تجاه الحاكم.
فعلى سبيل المثال: بعد وفاة الخليفة الثاني وافق بعض أهل الشورى المعيَّنين من قِبَله على مبايعة الإمام عليّ×، بشرط أن يسير بسيرة الشيخين (أبي بكر وعمر)، ولكنه لم يقبل بهذا الشرط والتعهُّد في البَيْعة. لهذا السبب يُتَّهم أحياناً أولئك الذين بايعوا الحكومة، ولكنهم خالفوا أوامر حكومتهم المنتخبة ووقفوا ضدّها، بنقض البَيْعة.
المعنى الثاني لا يُؤْخَذ في الاعتبار في استفتاءات العصر الحالي، لذا فإن البَيْعة في العصور الماضية كان لها معنىً أكبر من التصويت في العصر الحالي.
5ـ سيرة الإمام عليّ (عليه السلام)
آل الحكمُ بعد النبيّ| إلى أبي بكر وعمر وعثمان على التوالي، بينما كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب× يعتبر أن القيادة والحكم بعد النبيّ| من حقِّه، بأمرٍ إلهيّ([17]).
حاول أتباع أبي بكر في بداية خلافته أن يأخذوا له البَيْعة من مختلف طبقات المجتمع. ولمّا لم تكن البَيْعة العَلَنيّة للخليفة قد انعقدَتْ بَعْدُ حاول الإمام عليّ× أن يذكِّر الناس بأوامر الله ورسوله| بحقِّه في الخلافة والإمامة، لكنّ جهوده باءَتْ بالفشل، ولم ينصره الناس([18]). ولذلك توقَّف عن متابعة دعواه، وانتظر عودة الناس إليه. روى الإمام عليّ× عن رسول الله| أنه عهد إليه: «يَا بْنَ أَبِي طَالِبٍ، لَكَ وَلاَيَةُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي؛ فَإِنْ وَلَّوْكَ فِي عَافِيَةٍ، وَاِجْتَمَعُوا عَلَيْكَ بِالرِّضَا، فَقُمْ بِأَمْرِهِمْ؛ وَإِنْ اخْتَلَفُوا عَلَيْكَ فَدَعْهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَكَ مَخْرَجاً»([19]).
ورُوي أن العبّاس عمّ النبيّ| طلب من الإمام عليّ× أن يبايعه؛ حتّى يرى الناس أن عمّ النبيّ| قد بايع ابنَ عمِّه، وحينئذٍ لن يختلف أحدٌ في خلافته، فأجابه الإمام×: «إِنَّ النَبيَّ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لاَ أَدْعُوَ أَحَداً حَتَّى يَأْتُونِّي، وَلاَ أُجَرِّدَ سَيْفاً حَتَّى يُبَايِعُونِّي، فإنَّما أنا كَالكَعْبَة أُقْصَدُ ولا أَقْصُد»([20]).
وجاء تشبيه الإمام عليّ× بالكعبة في رواياتٍ نبويّة أخرى. وفي كلّ هذه الروايات جاء في شكل تشبيه أن يأتي إليه الناس، لا أن يذهب هو إليهم. وهذا التشبيه يدلّ على احترام حقّ الناس في تقرير مصيرهم.
يقول عمر بن الخطّاب: كنتُ مع أبي بكر وأبي عبيدة ومجموعةٍ من الصحابة مع النبيّ|، فضرب بيده على كتف عليٍّ×، وقال: «يا عليّ، أنتَ أوّلُ المُؤْمِنين إيماناً، وَأوَّلُ المُسلِمين إسلاماً، وَأَنْتَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، يا عليّ أَنْتَ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ، تُؤْتَى وَلا تَأْتِي؛ فَإِنْ أَتَاكَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ، فَسَلَّمُوا إِلَيْكَ هَذَا الأَمرَ، فَاقْبَلْهُ مِنْهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ يَأْتُوكَ فَلاَ تَأْتِهِمْ»([21]).
ويقول الإمام عليّ× حول حقِّه في الخلافة: «لَنَا حَقٌّ؛ فَإِنْ أُعْطِينَاهُ، وَإِلاَّ رَكِبْنَا أَعْجَازَ الإِبِلِ، وَإنْ طَالَ السُّرَى»([22]).
ويقول الشريف الرضيّ في توضيح هذه الجملة: «هذا من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه: إنّا إنْ لم نُعْطَ حقَّنا كنّا أذلاّء، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير، كالعبد والأسير ومَنْ يجري مجراهما».
ويقول الشيخ جمال الدين الخوانساري في شرح هذه العبارة: «المراد هنا: إنا أُعطينا حقَّ الخلافة؛ فإنْ أُعطيَتْ لنا فخيرٌ، وإنْ لم تُعْطَ فلن نثير حَرْباً أو نجادل لأجلها، بل سنُعْرِض عنها ونبتعد، وإنْ كان في ذلك احتقارٌ وذِلّةٌ وتعبٌ ومشقّةٌ»([23]).
وذكر ابنُ أبي الحديد توضيحاتٍ أخرى في شرح هذه العبارة، وأنها تدلّ بالجملة على أن الإمام عليّاً× لا يحكم الناس بالقوّة والإجبار، وفي حالة إعراض الناس عنه فهو أيضاً سيتنحّى عنها جانباً([24]).
بعد مقتل عثمان طلب أهلُ المدينة وقادةُ وممثِّلو قبائل المناطق العربية المختلفة من الإمام عليّ× قبولَ الحكم. امتنع الإمام× في البداية عن قبول الحكومة، وقال لهم: «دَعُوني وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ. وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ، وَعَتْبِ الْعَاتِبِ. وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ. وَأَنَا لَكُمْ وَزِيرٌ خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيرٌ»([25]).
وقال أيضاً: «لاَ حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِكُمْ، فَمَنْ اخْتَرْتُمْ رَضِيتُ بِهِ»([26]).
يفكِّك الإمام عليّ× بوضوحٍ، ضمن هذه العبارات، بين مبدأي «كشف الحقيقة» و«حقّ تقرير المصير». يذكر بحقّانيّةٍ طريقه، وثباته على ذلك، وأنه لا يتنازل عن حقِّه تحت تأثير إرادة الناس. بيان الإمام× هذا يشير بوضوحٍ إلى عدم اعتبار رأي الأكثرية على أساس كشف الحقيقة. وفي الوقت نفسه، يؤكِّد أن اختيار الحاكم هو مسؤوليّة الناس، وهم الذين يعيِّنون حاكمهم. وهذا يعني اعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير.
ويمكن فَهْم العديد من الروايات المتعلِّقة بإمامة أهل البيت^ من خلال الانتباه إلى الفَرْق بين هذين المبدأين. تمّ طرح مسألة الإمامة في العديد من هذه الروايات كظاهرةٍ إلهية لا علاقة لها بإرادة الناس واختيارهم. تنطلق هذه الروايات من موقع التشريع، وتحديد الحقّ والباطل، وإظهار عدم اعتبار رأي الأكثريّة على أساس كشف الحقيقة.
وفي المقابل، هناك مجموعةٌ أخرى من الروايات ترفض أيّ نوعٍ من إكراه الناس، وفرض الخلافة والإمامة عليهم. تنطلق هذه المجموعة من الروايات من مقام التكوين، وتظهر اعتبار رأي الأكثرية على أساس الحقّ في تقرير المصير. وعليه، فإن سُنَّة المعصومين^، مثل القرآن الكريم، قد ميَّزَتْ بشكلٍ واضح بين هذين المبدأين. والفَهْمُ الصحيح للفَرْق بين هذين المبدأين في ما يخصّ العلاقة مع رأي الأكثريّة وإرادة الناس هو مفتاحُ فَهْم القرآن والسُّنَّة في هذه المسألة، وسببٌ لإزالة توهُّم وجود تعارض فيهما.
وعلى أيّ حالٍ، أصرَّ الناس على خلافته، وخاطب الحَشْد الذي اقتحم بيته، قائلاً: «فَفِي الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ بَيْعَتِي لاَ تَكُونُ خَفِيّاً، وَلاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ»([27])، ثم ذهب إلى المسجد، وخطب في الناس: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَنْ مَلأٍ وَإِذْنٍ، إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ، إِلاّ مَنْ أَمَّرْتُمْ، وَقَدِ افْتَرَقْنَا بِالأَمْسِ عَلَى أَمْرٍ، وَكُنْتُ كَارِهاً لأَمْرِكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ أَكُونَ عَلَيْكُمْ. أَلاَ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي دُونَكُمْ إِلاَّ مَفَاتِيحُ مَا لَكُمْ مَعِي، وَلَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ دِرْهَماً دُونَكُمْ؛ فَإِنْ شِئْتُمْ قَعَدْتُ لَكُمْ؛ وَإِلاَّ فَلاَ آخُذُ عَلَى أَحَدٍ»([28]).
دلالة كلام الإمام عليّ× على احترام حقّ الناس في تقرير مصيرهم، وحرِّيتهم في اختيار الحاكم، واضحةٌ للغاية، وليست بحاجةٍ إلى توضيح. وبعد أن بايعه عامّة الناس، أبلغوه أن بعضاً رفض بيعته، مثل: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وسعد بن أبي وقّاص، ومحمد بن مسلمة، وحسّان بن ثابت، وأسامة بن زيد، فصعد× المنبر، وقال: «أَيُّها النَّاسُ، إِنَّكُم بَايَعْتُمُونِي عَلَى مَا بُويِعَ عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَبْلِي، وإنَّمَا الخِيَارُ إِلَى النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُبَايِعُوا، فَإِذَا بَايَعُوا فَلاَ خِيَارَ لَهُمْ. وإِنَّ عَلَى الإِمَامِ الاسْتِقَامَةَ، وَعَلَى الرَّعِيَّةِ التَّسْلِيمَ. وهَذِهِ بَيْعَةٌ عَامَّةٌ، مَنْ رَغِبَ عَنْهَا رَغِبَ عَنْ دِينِ الإِسْلاَمِ، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ. وَلَمْ تَكُنْ بَيعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتةً. وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، وِإِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. وَايْمُ اللهِ، لأَنْصَحَنَّ للْخَصْمِ، وَلأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ»([29]).
تدلّ هذه الرواية ـ فضلاً عن المعنى الثاني للبَيْعة، الذي هو إعلان طاعة الناس للحاكم والتزامهم به ـ على حقّ تقرير المصير في الانتخاب.
أكَّد الإمام× باستمرارٍ، بعد تشكيل حكومته، على أصل إرادة الناس، وأن حكومته إنما تشكَّلت بدعم الرأي العامّ. وقال الإمام عليّ×، أثناء سَيْره إلى البصرة؛ لقتال أصحاب الجمل، في رسالة إلى أهل الكوفة: «بَايَعَنِي النََّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ، وَلاَ مُجْبَرِينَ، بَلْ طَائِعِينَ مُخَيََّرِينَ»([30]).
وكتب في رسالةٍ وجَّهها إلى طلحة والزبير: «أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُمَا، وَإِنْ كَتَمْتُمَا، أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي، وَلَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي. وَإِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَبَايَعَنِي، وَإِنَّ الْعَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ (غاصب)، وَلاَ لِعَرَضٍ حَاضِرٍ، فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعِينَ فَارْجِعَا وَتُوبَا إِلَى اللهِ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهِينِ فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ؛ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ. وَلَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمَانِ، وَإِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا الأَمْرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْخُلاَ فِيهِ كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ»([31]).
كذلك أكَّد، في رسالةٍ بعثها إلى معاوية بعد عصيانه، على هذه النقطة، قائلاً: «فَإِنَّ بَيْعَتِي بِالْمَدِينَةِ لَزِمَتْكَ وَأَنْتَ بِالشَّامِ؛ لأَنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى مَا بُويِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ، فَسَمَّوْهُ إِمَاماً، كَانَ ذَلِكَ للهِ رِضاً؛ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ؛ بِطَعْنٍ أَوْ رَغْبَةٍ، رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ»([32]).
وقال الإمام× للرُّسُل الذين حملوا إليه رسالة معاوية: «وَالْوَاجِبُ فِي حُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ الإِسْلاَمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا يَمُوتُ إِمَامُهُمْ أَوْ يُقْتَلُ، ضَالاًّ كَانَ أَوْ مُهْتَدِياً، مَظْلُوماً كَانَ أَوْ ظَالِماً، حَلاَلَ الدَّمِ أَوْ حَرَامَ الدَّمِ، أَنْ لاَ يَعْمَلُوا عَمَلاً، وَلاَ يُحْدِثُوا حَدَثاً، وَلاَ يُقَدِّمُوا يَداً وَلاَ رِجْلاً، وَلاَ يَبْدَأُوا بِشَيْءٍ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ إِمَاماً يَجْمَعُ أَمْرَهُمْ، عَفِيفاً عَالِماً وَرِعاً عَارِفاً بِالْقَضَاءِ وَالسُّنَّةِ… وَقَدْ بَايَعَنِي النَّاسُ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَبَايَعَنِي الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ بَعْدَمَا تَشَاوَرُوا بِي ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَقَدُوا إِمَامَتَهُمْ، وَلِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ بَدْرٍ وَالسَّابِقَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ؛ غَيْرَ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُمْ قَبْلُ عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ؛ وَإِنَّ بَيْعَتِي كَانَتْ بِمَشُورَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ([33]). فَإِنْ كَانَ اللهُ جَلَّ اسْمُهُ جَعَلَ الاخْتِيَارَ إِلَى الأُمَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ وَيَنْظُرُونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَاخْتِيَارُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ وَنَظَرُهُمْ لَهَا خَيْرٌ لَهُمْ مِنِ اخْتِيَارِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَهُمْ، وَكَانَ مَنِ اخْتَارُوهُ وَبَايَعُوهُ بَيْعَتُهُ بَيْعَةُ هُدًى، وَكَانَ إِمَاماً وَاجِباً عَلَى النَّاسِ طَاعَتُهُ وَنُصْرَتُهُ، فَقَدْ تَشَاوَرُوا فِيَّ، وَاخْتَارُونِي بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ؛ وَإِنْ كَانَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ، وَلَهُ الْخِيَرَةُ، فَقَدِ اخْتَارَنِي لِلأُمَّةِ، وَاسْتَخْلَفَنِي عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِي وَنُصْرَتِي، فِي كِتَابِهِ الْمُنْزَلِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ»([34]).
تشير هذه الروايات بوضوحٍ إلى أن الحياة السياسيّة للإمام عليّ× كانت مظهراً لاحترام حقّ الناس في تقرير مصيرهم. كما أكَّد× في الرواية الأخيرة أنه حائزٌ شرطَيْ الخلافة، أي: تنصيب الله؛ واختيار الناس.
6ـ سيرة الإمام الحسن (عليه السلام)
يقول ابن الأثير: «وولي (الإمام الحسن×) الخلافة بعد قتل أبيه علي×، وبايعه أكثر من أربعين ألفاً، كانوا قد بايعوا أباه على الموت، وكانوا أطْوَعَ للحسن، وأحبّ له»([35]). ولكنْ لم تطل المدّة حتى تركه الناس وحده في قتال معاوية، فخاطب الإمام× الناس قائلاً: «أَلاَ وَإِنَّا لَكُمْ كَمَا كُنَّا، وَلَسْتُمْ لَنَا كَمَا كُنْتُم… أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ دَعَانَا إِلَى أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ عِزٌّ وَلاَ نَصَفَةٌ؛ فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْمَوْتَ رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ، وَحَاكَمْنَاهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْحَيَاةَ قَبِلْنَاهُ، وَأَخَذْنَا لَكُمُ الرِّضَا، فَنَادَاهُ الْقَوْمُ مِنْ كُلِّ جِانِبٍ: البَقِيَّةَ البَقِيَّةَ، فَلَمَّا أَفْرَدُوهُ أَمْضَى الْصُّلحَ»([36]).
وفي هذه المرحلة يوكل الإمام× استمرار حكمه إلى اختيار الناس، ويطالبهم بإبداء آرائهم في هذا الموضوع. وهكذا تولَّى الإمام الحسن× الحكومة بإرادة الناس، وبناءً على بيعتهم له؛ وعندما ابتعد الناس عن حكمه تركها مرّةً أخرى بإرادتهم، وسلَّمَها لمَنْ أرادوا حكمه. وهكذا فإن صلح الإمام الحسن× هو مثالٌ واضحٌ جدّاً على التزام الأئمّة^ بحقّ الناس في تقرير مصيرهم.
لم يكن ذلك دليلاً على عدم صلابته في الدفاع عن الحقّ، كما اعتقد بعض الشيعة ضعيفو الإيمان في ذلك الوقت، بل كان يعني أن الحقّ لا يجب أن يُفْرَض على الناس، وهم أحرارٌ في العمل به، وعندما يريد الناس حكماً ظالماً، مثل: خلافة معاوية، فلا يجوز ثَنْيهم عن إرادتهم قَسْراً.
حاول العديد من علماء الشيعة فَهْم الفوائد والآثار القيِّمة لصلح الإمام الحسن× مع معاوية، من خلال استكشاف الأبعاد المختلفة لأحداث ذلك الوقت، وبالتالي الدفاع عن أداء إمامهم. وعلى الرغم من أن العديد من هذه الدراسات التي استشهدت بالأدلة التاريخية وروايات المعصومين^ قد وصلَتْ إلى نتائج حقيقيّة وقيِّمة، إلاّ أنه يبدو أن أصل قضيّة الصلح وانسحاب الإمام× من الحكومة كان مبنيّاً على إرادة الناس، وحتّى لو لم يترتَّب عليه أيّ فائدةٍ فلا يطعن ولو بمقدار ذرّةٍ بأداء الإمام× وعصمته؛ لأن ما حدث لم يكن بإرادة الإمام، بل بإرادة الناس.
أراد الإمام× الحرب مع معاوية، وكان تصرُّف الإمام× اللائق أنه لم يفرض إرادته على الناس. طبعاً الإمام× استخدم تكتيكاته في طريقة تسليم الحكومة لمعاوية، وأيضاً في تحديد بنود اتِّفاقية الصلح، واتَّخذ الإجراءات اللازمة لحماية الحقّ قَدْر المستطاع.
7ـ سيرة الإمام الحسين (عليه السلام)
بعد استشهاد الإمام الحسن× انتقلَتْ الإمامة إلى أخيه الإمام الحسين×. تحمَّس شيعة العراق في ذلك الوقت، وطلبوا من الإمام الحسين× أن ينقض بيعته لمعاوية، ويبعده عن الخلافة. فلم يقبل الإمام× طلبهم، وذكر لهم أن بينه وبين معاوية ميثاقاً لا ينكث به، ويكون على عهده ما دام معاوية حيّاً، ويقرِّر ذلك متى مات([37]).
استمرَّتْ خلافة معاوية سنواتٍ عديدةً بعد استشهاد الإمام الحسن×، ولم يتَّخذ الإمام الحسين× أيّ إجراءٍ ضدّ حكومة معاوية، حتّى وفاته، وفقاً لبنود معاهدة الصلح التي أَبْرَمَها أخوه، والتي تشكَّلَتْ بناءً على إرادة الناس.
وخلافاً لمعاهدة الصلح، عيَّن معاوية ابنَه يزيد خليفةً من بعده. حاول عُمّال يزيد على الأمصار أن يأخذوا البَيْعة للخليفة الجديد بأساليب مختلفة، ولا سيَّما من كبار القوم، فلم يقبل الإمام الحسين×، الذي كان يعيش في المدينة في ذلك الوقت، أن يبايع يزيد. ولم تثمر محاولات والي المدينة ومَنْ حوله لأخذ البَيْعة من الإمام×، حتّى أمر يزيد بقتل الإمام الحسين× في حال رفضه للبَيْعة.
وعندما علم الإمام× بقرار الحكومة انتقل إلى مكّة مع أهل بيته، وانتشرَتْ أخبارُ عدم مبايعة الإمام× ليزيد في مختلف البلدان، بما في ذلك العراق، الذين رحَّبوا ـ وخاصّةً أهل الكوفة والقبائل المجاورة، الذين لم يكونوا راضين عن حكم الأمويين ـ برفض الإمام× البَيْعة، وطلبوا منه القدوم إلى الكوفة، وتولِّي حكمهم.
جلبَتْ مجموعة الرُّسُل الأولى من الكوفة نحو مائة وخمسين رسالة من أهل تلك الديار إلى الإمام الحسين×. وكانت الرسائل تتدفَّق عليه باستمرارٍ. وصلَتْ إليه في يومٍ واحد ستمائة رسالة، وبلغت الرسائل اثنتي عشرة ألفاً([38]). يذكر ابن نما أن حوالي أربعين ألف شخصٍ من الكوفة بايعوا الإمام×([39])، وكان آخر مَنْ جلبوا له الرسائل من الكوفة شخصان، هما: هاني؛ وسعيد. وبعد وصول الاثنين كتب الإمام رسالةً إلى أهل الكوفة بهذا الخصوص: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الْمَلأ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَانِئاً وَسَعِيداً قَدِمَا عَلَيَّ بِكُتُبِكُمْ، وَكَانَا آخِرَ مَنْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ رُسُلِكُمْ، وَقَدْ فَهِمْتُ كُلَّ الَّذِي اقْتَصَصْتُمْ وَذَكَرْتُمْ. وَمَقَالَةُ جُلِّكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا إِمَامٌ، فَأَقْبِلْ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى. وَأَنَا بَاعِثٌ إِلَيْكُمْ أَخِي وَابْنَ عَمِّي وَثِقَتِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ؛ فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ بِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلأِكُمْ وَذَوِي الْحِجَى وَالْفَضْلِ مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ بِهِ رُسُلُكُمْ، وَقَرَأْتُ فِي كُتُبِكُمْ، فَإِنِّي أَقْدَمُ إِلَيْكُمْ وَشِيكاً، إِنْ شَاءَ اللهُ؛ فَلَعَمْرِي مَا الإِمَامُ إِلاَّ الْحَاكِمُ بِالْكِتَابِ، الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ، الدَّائِنُ بِدِينِ الْحَقِّ، الْحَابِسُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ للهِ. وَالسَّلاَمُ»([40]).
كشف الإمام× في هذه الرسالة أن الحكم على الناس، بالإضافة إلى الالتزام بالحقّ، يحتاج أيضاً إلى إرادة العامّة، حتى أن وجود هذا القدر من الرسائل لم يكن كافياً لمنحه الاطمئنان لرأي الناس، ولن يذهب إليهم قبل أن يطمئنه رسوله برغبتهم العامّة في قيادته.
ثمّ أرسل الإمام× مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وقال له: إنْ رأى النَّاسَ مجتمعين مُسْتوسِقِين عَجَّلَ إليه بذلك. ومن ثمّ ذهب إلى الكوفة، حيث بايعه ثمانية عشر ألفاً بشكلٍ سرّي. لذلك كتب رسالةً إلى الإمام×، وأبلغه بمبايعة الناس([41]). ومن ناحيةٍ أخرى كتب الإمام×، بعد علمه ببَيْعة أهل الكوفة، رسالةً إلى جماعةٍ من أعيان البصرة، ودعاهم إلى الالتحاق بثورته. وأعلنوا أيضاً، بعد المشورة، عن استعدادهم وقبائلهم لنصرة الإمام×([42]).
انتقل الإمام× إلى الكوفة بناءً على طلب أهل العراق. ولم يكُنْ قد وصل إلى الكوفة بعدُ عندما تلقّى نبأ استشهاد مسلم، ونقض أهل الكوفة لبيعته. تغيَّر بعد ذلك الهدف الظاهري لثورة الإمام الحسين×، فقد كانت نيَّته في الانتقال إلى الكوفة هي الاستجابة لطلب أهل تلك النواحي بتشكيل حكومة الحقّ؛ لكنْ بعد نقضهم للبَيْعة انسحب الإمام× من الثورة التي أراد بها تشكيل حكومةٍ في الكوفة، وسعى وراء الدافع الأوّل الذي من أجله ترك المدينة المنوَّرة، وهو عدم الموافقة على حكومة يزيد، ورفض البَيْعة له.
لهذا السبب تغيَّرت طريقة الإمام× في التعامل مع الشيعة وأصحابه. قبل ذلك كان يطلب النصرة من الكثيرين، سواء في مكّة أو في طريقه إلى الكوفة، مثل: زهير بن القين، حتّى أنه دعا أهل البصرة للالتحاق بثورته؛ لكنْ بعد نقض بَيْعة أهل الكوفة تغيَّر وجه الثورة من ثورةٍ عامّة، تهدف إلى تشكيل حكومةٍ تحتاج إلى العدد والعدّة، إلى ثورةٍ شخصيّة ومقاومةٍ شجاعةٍ لرجلٍ مثاليّ؛ لتحقيق هدفه السامي في هداية الناس، ومنع تحريف الإسلام.
ومن هنا سحب البَيْعة والعهد الذي كان معقوداً بينه وبين أصحابه، ولم يَكْتَفِ بإخلاء سبيلهم عند عودتهم، بل شجَّع أحياناً آخرين على عدم مرافقته وهو في طريقه المليء بالخَطَر. وبعد سماعه خبر استشهاد مسلم التفت إلى الناس، وقال لهم: «فإِنّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ، قَتْلُ مسلمِ بنِ عقيلٍ، وهاني بنِ عُروةَ، وعبدِ اللهِ بنِ يَقْطُرَ. وقد خَذَلَنا شيعتُنا؛ فمَنْ أحبَّ منكم الانصرافَ فلينصرِفْ غيرَ حَرَِجٍ، لَيْسَ عَلَيْهِ ذِمَامُ»([43]).
بعد هذا، انفصل عنه معظمُ أصحابه، ولم يَبْقَ منهم إلاّ مَنْ أتَوْا معه من المدينة، ومجموعةٌ صغيرة ممَّنْ انضمّوا إليه في منتصف الطريق. وخاطب الإمام أبناء عقيل وأهله، فقال: «يَا بَني عَقيلٍ، حَسْبُكمْ مِنَ الْقَتْلِ بِمُسْلِمٍ، فَاذْهَبُوا أَنْتُمْ، فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ»([44]).
بعد أقلّ من يومٍ على نبأ وفاة مسلم وقف جيش الحُرّ بن يزيد الرياحي أمام الإمام×، ومنعه من التحرُّك. اتَّخذ مجرى الأحداث بعد ذلك شَكْلاً آخر تحت ضغط جنود يزيد، ولم يكن الإمام× راغباً في الثورة على الحكومة ومحاربتها بعد أن تغيَّر رأي الناس.
لم يكن يريد الإطاحة بحكومة الباطل في زمانه، وتشكيل حكومةٍ قائمةٍ على الحقّ، بشرذمةٍ قليلة، وبدون دعمٍ شعبيّ. لذلك، كشف خطابُه في اليوم نفسه الذي التقى فيه بجيش الحُرّ، وبعد صلاة الظهر، في أولئك الذين اجتمعوا لقتاله، وكانوا كلُّهم من أهل الكوفة، كشف أنه جاء إليهم بناءً على طلب الناس، وسيعود من حيث أتى إذا اعترضوا عليه، قال: «أيُّها النّاسُ، إِنِّي لم آتِكم حتّى أتَتْني كتبُكم، وقدمَتْ عليَّ رُسُلُكم: أَنِ اقْدِمْ علينا؛ فإِنّه ليس لنا إِمامٌ، لعلَّ اللهَ أن يجمَعَنا بِكَ على الهُدى والحقِّ؛ فإِنْ كنتم على ذلكَ فقد جئتُكم، فأعطوني ما أطمئنُّ إِليه من عهودِكم ومواثيقِكم؛ وإنْ لم تفعلوا، وكنتم لمَقْدِمي كارهينَ، انصرَفْتُ عنكم إلى المكان الذي جئتُ منه إليكم»، فسكت أهلُ الكوفة، ولم يتكلَّم أحدٌ منهم بكلمةٍ.
وبعد صلاة العصر خاطب الإمام جيش الحُرّ، قائلاً: «أمّا بعدُ، أيُّها النَّاس، فإنَّكم إنْ تتَّقوا اللهَ، وتعرفوا الحقَّ لأهله، يكُنْ أرضى لله عنكم. ونحن أهلُ بيتِ محمَّدٍ، وأَوْلى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المُدَّعينَ ما ليس لهم، والسَّائرين فيكم بالجَوْر والعدوان؛ وإنْ أبَيْتُم إلاَّ كراهيةً لنا، والجهلَ بحقِّنا، فكانَ رأْيُكم الآن غيرَ ما أتَتْني به كتبُكم، وقَدِمَتْ به عليَّ رُسُلُكم ، انصرَفْتُ عنكم [وإنْ أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقَّنا، وكان رأيُكم غير ما أتَتْني كتبكم، وقدمَتْ به عليَّ رُسُلُكم، انصرَفْتُ عنكم]»([45]).
ثمّ أمر الإمام× أصحابه بالاستعداد للعودة، وعندما أصبحوا مستعدّين، وأصدر الإمام× الأمر بالعودة، منعهم الحُرّ، وأجبرهم على الذهاب إلى كربلاء، ثم أتَتْ الكتائب يتلو بعضها بعضاً، وانضمَّتْ إلى عسكر عبيد الله بن زياد، والي الكوفة، ورسالتهم جميعاً تسليم الإمام×، وقبول البَيْعة ليزيد.
لم يقبل الإمام× بَيْعة يزيد، وكان على استعداد لقبول كلّ عواقب هذا الأمر، لكنّه لم يفرض هذا الموقف على الآخرين، ولا حتّى على أهل بيته.
وهكذا خاطب أصحابه مرّةً أخرى ليلة عاشوراء: «فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَصْحَاباً أَوْفَى وَلاَ خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، وَلاَ أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَأَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اللهُ عَنِّي خَيْراً. أَلاَ وَإِنِّي لأَظُنُّ يَوْماً لَنَا مِنْ هَؤُلاَءِ. أَلاَ وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، فَانْطَلِقُوا جَمِيعاً فِي حِلٍّ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ مِنِّي، وَلاَ ذِمَامٌ. هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمُ، فَاتَّخِذُوهُ جَمَلاً»([46]).
كما أخبر محمد بن بشر الحضرميّ، الذي كان ابنه مسجوناً في الريّ: «أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي، فَاعْمَلْ فِي فَكَاكِ ابْنِكَ»([47]).
يؤكِّد الإمام× بوضوحٍ من خلال هذه الكلمات على شرطَيْ تشكيل الحكومة، أي: الكفاءة العقلية والشرعية للحكّام من جهةٍ؛ والدعم الحاصل من رضا الناس من جهةٍ أخرى. وبتفكُّك هذين الشرطين، والتبيُّن من عدم تلازمهما، ينكشف اعتبار رأي الأكثرية على أساس حقّ تقرير المصير، وعدم اعتباره على أساس كشف الحقيقة.
8ـ سيرة الأئمّة الآخرين (عليهم السلام)
لم يصل أيٌّ من الأئمّة إلى الحكم بعد الإمام الحسين×، ولم يتَّخذوا أيّ إجراءٍ مباشر لتشكيل الحكومة، بينما كانوا يعتبرون أنفسهم جديرين بالحكم، ويعتبرونه حقّاً إلهيّاً لهم. ولعلّ أهمّ سببٍ لعدم إقدامهم على أيّ إجراءاتٍ للوصول إلى الحكومة هو عدمُ قبول الجمهور، واستنكارُ الناس لحكومتهم.
وبالطبع لم يكن الأئمّة^ ينتظرون فقط الرضا الظاهري واللفظي من الناس، واعتبروه غير كافٍ لتشكيل حكومتهم، بل أرادوا رضاهم اللفظيّ والقلبيّ معاً، واستقامتهم في مطالبهم. هذه النقطة هي إحدى الاختلافات الرئيسة بين الديمقراطيات الرائجة في عصرنا والحكومة الدينيّة من وجهة نظر المعصومين^.
يكفي اليوم في أفضل التقاليد الديمقراطية في العالم الرأي الظاهريّ للناس لتشكيل الحكومة، حتّى لو تمّ الحصول عليها من خلال الدعاية الشعبوية والمضلِّلة أحياناً، بينما لم يعتبر الأئمّة^ إعلان الموافقة الظاهريّة كافياً لتشكيل حكومتهم. ليس هناك شكٌّ في أن مثل هذه النظرة لإرادة الشعب تنبع من زيادة تأكيد الأئمّة^ على حقّ الناس في تقرير مصيرهم. وفي رأيهم^ إذا لم يقترن رأي الناس الظاهر بمعرفةٍ عميقة وإيمانٍ راسخ بالطريق الذي اختاروه فإن ذلك سيؤدّي إلى الضعف والنَّدَم، واستمرارُ حكمهم في مثل هذه الظروف سيؤدّي إلى قيام حكومةٍ ضدّ إرادة الشعب. ومثلُ هكذا حكومةٍ مهما بَدَتْ في الظاهر مستقرّةً وقويّة، لكنْ بما أنها غير موافقةٍ لرغبة الجمهور فلن تؤدّي إلى نضج الناس ورقيِّهم.
وأحدُ أهمّ الشواهد التاريخية الدالّة على أنهم لم يتَّخذوا إجراءاتٍ عمليّةً في سبيل الوصول إلى الحكم، ولم يسعَوْا بالقوّة للإطاحة بحكومات عصرهم، أنهم جميعاً لم يصلوا إلى الحكم.
وإذا قبلنا أن الأئمّة^ كانوا بصدد الإطاحة بتلك الحكومات، ولكنّهم فشلوا في تحقيق هذا الهدف، بينما حقَّق منافسوهم، مثل: بني العبّاس، أهدافَهم، فلا بُدَّ من إلقاء اللَّوْم في فشلهم على عدم تمكُّنهم من إيجاد حركة إطاحةٍ ناجحة، وعَجْزهم عن إيجاد وإدارة انتفاضةٍ مسلَّحة ضدّ الحكومة.
9ـ سيرة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
تشكيل حكومة آخر الأئمّة المعصومين#، التي وعد الله بها، منوطةٌ أيضاً بالقبول والموافقة العامّة. وبعبارةٍ أخرى: إن أهمّ شرطٍ لظهور إمام الزمان# هو إرادة الناس. وهذه هي الحقيقة، التي بسبب فقدانها حصلَتْ الغَيْبة، وتأخَّر الظهور.
ومن ناحيةٍ أخرى، لأن حكومة ذلك الإمام عالميّةٌ، ولا تخصّ الشيعة أو المسلمين وحدهم، لذلك يجب على كلّ شعوب العالم أن تريد ظهوره. وتعتبر معرفتهم به مقدّمةً لرغبتهم في ظهوره. ومن هنا فإن البشارة بالموعود الغيبيّ موجودةٌ بشكلٍ أو آخر في جميع الأديان والمذاهب، وهذا أشبهُ بإعلان ترشيحه للحكومة العالميّة، التي لن تتشكَّل إلاّ بإرادة غالبيّة المجتمع البشري.
10ـ الأحاديث المخالفة لمبدأ حقّ تقرير المصير
توجد أحاديث وأخبار في الآثار الروائية والتاريخية تدلّ على أن الأئمّة المعصومون^ لو وجدوا أتباعاً قلّةً، لكنّهم يمتازون بالمقاومة والثبات، لثاروا، وسيطروا على الحكومة.
ويمكن أن يستدلّ المخالفون لوجوب رضا الناس والإرادة الشعبيّة في تشكيل الحكومة الدينية بهذه الأحاديث. ويمكن أن يفهم من هذه الروايات أن الأئمّة المعصومين^ لو كان عندهم أتباعٌ قلّةٌ وثابتون لشكَّلوا حكومةً دينية، ولم ينتظروا مساعدة الشعب وإرادة الأكثريّة. وهذه الروايات هي:
1ـ جاء في روايةٍ صحيحة عن سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الإمام الصادق×، فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ، فَقَالَ: وَلِمَ يَا سَدِيرُ؟ قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وَشِيعَتِكَ وَأَنْصَارِكَ. وَاللهِ لَوْ كَانَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ× مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ وَالأَنْصَارِ وَالْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيهِ تَيْمٌ وَلاَ عَدِيٌّ([48])، فَقَالَ: يَا سَدِيرُ، وَكَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا؟ قُلْتُ: مِئَةَ أَلْفٍ. قَالَ: مِئَةَ أَلْفٍ! قُلْتُ: نَعَمْ وَمِئَتَيْ أَلْفٍ، قَالَ: مِئَتَيْ أَلْفٍ! قُلْتُ: نَعَمْ وَنِصْفَ الدُّنْيَا، قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ…، حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ، وَنَظَرَ إِلَى غُلاَمٍ يَرْعَى جِدَاءً، فَقَالَ: «وَاللهِ، يَا سَدِيرُ، لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِهِ الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ»، وَنَزَلْنَا وَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلاَةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ([49]).
2ـ نقل في كتاب دعائم الإسلام روايةً مرسلةً عن الإمام الباقر× يقول فيها: «إِذَا اجْتَمَعَ لِلإِمَامُ عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ، ثَلاَثُ مِئَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ وَالتَّغْيِيرُ»([50]).
3ـ نقلَتْ رواياتٌ حول سكوت أمير المؤمنين عليّ× في مقابل الأحداث التي حصلت بعد رحيل النبيّ|، تحدِّثنا أن الإمام لو كان معه أصحابٌ قلّةٌ أوفياء وثابتون لثار وسيطر على الحكومة. ومن جملتها الخطبة الطَّالُوتِيَّة، التي نقلها الشيخ الكلينيّ، بسندٍ ضعيف، أن أمير المؤمنين× خطب الناس بمسجد المدينة، وقال في ذمّ أهل المدينة: «أَمَا وَاللهِ، لَوْ كَانَ لِي عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ أَوْ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، وَهُمْ أَعْدَاؤُكُمْ، لَضَرَبْتُكُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَؤُولُوا إِلَى الْحَقِّ، وَتُنِيبُوا لِلصِّدْقِ»، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَمَرَّ بِصِيرَةٍ فِيهَا نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِينَ شَاةً، فَقَالَ×: «وَاللهِ، لَوْ أَنَّ لِي رِجَالاً يَنْصَحُونَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ بِعَدَدِ هَذِهِ الشِّيَاهِ لأَزَلْتُ ابْنَ آكِلَةِ الذِّبَّانِ عَنْ مُلْكِهِ». يقول الراوي: فَلَمَّا أَمْسَى بَايَعَهُ ثَلاَثُ مِئَةٍ وَسِتُّونَ رَجُلاً عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ×: «اغْدُوا بِنَا إِلَى أَحْجَارِ الزَّيْتِ مُحَلِّقِينَ»، وَحَلَقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ×، فَمَا وَافَى مِنَ الْقَوْمِ مُحَلِّقاً إِلاَّ أَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَجَاءَ سَلْمَانُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ، فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي كَمَا اسْتَضْعَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَارُونَ»([51]).
4ـ نقل في كتاب سُلَيْم بن قيس، المختلف حول اعتباره([52])، رواياتٌ متعدِّدة، تحكي أن أمير المؤمين× كان بعد رحيل النبيّ| يبحث عن أصحابٍ ولو قلّةٍ؛ من أجل القيام وتشكيل حكومةٍ. قال× للخليفة الأوّل وأتباعه: إن النبيّ قد أخبره عما سيفعلونه به وبالخلافة، وقال|: «إِنْ وَجَدْتَ عَلَيْهِمْ أَعْوَاناً فَجَاهِدْهُمْ وَنَابِذْهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَبَايِعْ، وَاحْقِنْ دَمَكَ»([53])، ثمّ قال الإمام عليّ×: «أَمَا وَاللهِ، لَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الأَرْبِعِينَ رَجُلاً الَّذِينَ بَايَعُونِي وَفَوْا لِي لَجَاهَدْتُكُمْ فِي اللهِ»([54]).
5ـ جاء في كتاب سُلَيْم بن قيس أن الأشعث بن قيس سأل أمير المؤمنين عليّاً× يوماً: ما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟ فقال له الإمام×: منعني من ذلك أمر رسول الله| وعهده إليَّ، ثمّ قال: قال لي رسول الله|: «إِنْ وَجَدْتَ أَعْوَاناً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ وَجَاهِدْهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاكْفُفْ يَدَكَ، وَاحْقِنْ دَمَكَ، حَتَّى تَجِدَ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَكِتَابِ اللهِ وَسُنَّتِي أَعْوَاناً»([55]).
6ـ نقل كذلك الطبرسي عن الإمام عليّ× أنه خاطب الأشعث قائلاً: «وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ، لَوْ وَجَدْتُ يَوْمَ بُويِعَ أَخُو تَيْمٍ أَرْبَعِينَ رَهْطاً([56]) لَجَاهَدْتُهُمْ فِي اللهِ إِلَى أَنْ أُبْلِيَ عُذْرِي»([57]).
7ـ ذكر المفيد والعيّاشي خبراً طويلاً عن حادثة السقيفة، وكيف بايع الإمام عليّ× الخليفة الأوّل مُجْبَراً، وأوردا في آخره أن الإمام× عندما أُجْبِر على البَيْعة رفع رأسه إلى السماء، وقال ثلاث مرّات: «اللَّهُمَّ، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ| قَالَ لِي: إِنْ تَمُّوا عِشْرِينَ فَجَاهِدْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُكَ فِي كِتَابِكَ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾. اللَّهُمَّ، إِنَّهُمْ لَمْ يَتِمُّوا»([58]).
8ـ ينقل الحسين بن حمدان([59])، في كتاب الهداية، روايةً عن الإمام الحسن×، أنه قال عن عدم وفاء الناس: دعَوْتُ الناس في مسجد الكوفة لحرب معاوية، فسكت الناس جميعاً، حتّى قام منهم عشرون رجلاً، كان منهم: سليمان بن صرد، فأعلنوا الاستعداد للحرب والتضحية بأنفسهم، فنظَرْتُ يمنةً ويسرةً فلم أَرَ أحداً غيرهم، فقلْتُ لهم: «لِي أُسْوَةٌ بِجَدِّي رَسُولِ اللهِ| حِينَ عَبَدَ اللهَ سِرّاً، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ رَجُلاً، فَلَمَّا أَكْمَلَ اللهُ لَهُ أَرْبَعِينَ صَارُوا فِي عِدَّةٍ، فَأَظْهَرَ أَمْرَ اللهِ. فَلَوْ كَانَ مَعِي عِدَّتُهُمْ جَاهَدْتُ فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ»([60]).
9ـ ينقل صاحب الجواهر روايةً مرسلةً، لم تَرِدْ في المصادر الروائية المعروفة، عن الإمام الصادق× أنه قال: «لَوْ أَنَّ لِي عَدَدَ هَذِهِ الشُوَيهات، وَكَانَت أَربَعين، لخَرَجْتُ»([61]).
ويمكن القول في الردّ على الاستدلال بهذه الروايات لنَفْي حقّ تقرير المصير، وإثبات جواز تشكيل الحكومة الدينيّة دون رضا الناس:
أوّلاً: لا تتعارض هذه الروايات أو أكثرها صراحةً مع مبدأ حقّ تقرير المصير؛ إذ يمكن حملها على لزوم القدرة الفيزيقية من أجل القيام وتشكيل الحكومة. وبعبارةٍ أخرى: لم يكن الأئمّة في هذه الروايات بصدد القول: إن وجودَ جماعة صغيرة من الأصحاب الأوفياء الثابتين شرطٌ كافٍ لتشكيل الحكومة، وإذا كان عندهم هكذا أصحاب لقاموا حَتْماً وشكَّلوا الحكومة وإنْ كانت حكومتهم مخالفةً لإرادة عامّة الناس، بل مرادهم أن الحاجة إلى وجود هكذا أصحاب شرطٌ لازم ـ لا شرط كافٍ ـ من أجل تشكيل الحكومة، وإنْ كانت الشروط الأخرى، التي من جملتها: رضا الناس والإرادة الشعبية، لازمةً أيضاً من أجل تشكيل الحكومة. قد يكون قصد الأئمّة^ من لزوم وجود هكذا أصحاب لتشكيل الحكومة هو ضرورة وجود أشخاصٍ يمكنهم أن يكونوا متولِّين أكفاء للحكومة الدينيّة بعد تشكيلها.
ثانياً: بعض هذه الروايات، كالرواية الأولى، تدلّ على المعنى السابق؛ لأن هذه الرواية اعتبرَتْ على لسان الراوي أن قبول الناس وإرادتهم أمرٌ محقَّقٌ، لكنّ الإمام× أوضح له أن هذا لا يكفي من أجل تشكيل الحكومة، بل لا بُدَّ من الثبات والاستقامة على الطريق، وهذا ما هو غير موجودٍ عند عامّة الناس، ولو كان عندي عددٌ معين من الأصحاب الحقيقيين والمقاومين، الذين يمكنهم تأمين القدرة الفيزيقية من أجل تشكيل الحكومة، لقُمْتُ.
في قسمٍ من الرواية الثالثة (الخطبة الطَّالُوتِيَّة) توجد أيضاً عباراتٌ تدلّ على حقّ الناس في تقرير المصير، وعدم جواز تشكيل حكومةٍ بالإجبار والإكراه. فعلى سبيل المثال: يقول الإمام× في هذه الخطبة، مخاطباً أهل المدينة: «وَتَرَكْتُمُ الأَئِمَّةَ فَتَرَكُوكُمْ». وهذه العبارة تدلّ بوضوحٍ على أن الناس إذا لم يرغبوا بحكومة الإمام المعصوم وخلافته فإنه لن يحكمهم.
ثالثاً: تتحدَّث هذه الروايات عن القيام مع وجود أصحابٍ قلّةٍ ضدّ الحكومات التي لم تتشكَّل بإرادة الناس ورضاهم، بل تشكَّلَتْ واستمرَّتْ على أساس القوة والخداع. إذن، ليس القيام ضدّ هؤلاء بمعنى القيام ضدّ إرادة الشعب. جاء في أوّل الخطبة الطالوتية أن الإمام عليّاً× ابتدأ كلامه مع أهل المدينة هكذا: «أَيُّهَا الأُمَّةُ الَّتِي خُدِعَتْ فَانْخَدَعَتْ، وَعَرَفَتْ خَدِيعَةَ مَنْ خَدَعَهَا». وعليه، فالقيام ضدّ الحكومة التي خدعَتْ الناس ليس قياماً ضدّ الرأي العامّ ورضا الناس.
رابعاً: كلّ هذه الروايات أو أكثرُها ناظرةٌ إلى القيام على الحكومات الظالمة، لا إلى تشكيل حكومةٍ جديدة. ذكر الأئمّة^ في هذه الروايات أو في أكثرها شَرْطَ وجود أصحاب أوفياء للقيام على الحكومة الظالمة في زمانهم، وهذا لا يعني أنهم يريدون أن يشكِّلوا حكومة بعد الانتصار على الحكومة الظالمة، دون بَيْعة الناس وكَسْب رضاهم. فالخروج والقيام على الحكومة الظالمة لا يعني بالضرورة القيام بهدف تشكيل الحكومة.
خامساً: أكثر هذه الروايات تفتقد إلى سندٍ معتبرٍ. وحتّى لو دلَّتْ بشكلٍ صريح على نَفْي مبدأ حقّ تقرير المصير فلا يمكن أن تصمد أمام الكثير من الأدلّة المُتْقَنة، العقليّة والقرآنيّة والروائيّة، التي دلَّتْ على حقّ الناس في تقرير مصيرهم، وحرمة إكراههم وإجبارهم، ولا يمكن أن ترجح عليها في مقام التعارض.
مكانة رأي الأكثريّة في جمهوريّة إيران الإسلاميّة
لرأي الأكثرية اعتبارٌ في تشكيل نظام جمهورية إيران الإسلاميّة، والكثير من مؤسَّساتها، وفي بقائها. وقد تمَّتْ الإشارة إلى هذا الأمر في موادّ عديدة من القانون الأساسي الإيرانيّ، ومن جملتها: المادّة الأولى، التي جاء فيها: إن نظام الحكم في إيران جمهوريّ إسلاميّ، صادق عليه الشعب الإيراني بأكثرية 98.2% ممَّنْ كان لهم الحقّ في التصويت، في استفتاءٍ عامّ.
وجاء في المادّة السادسة: «تُدار شؤون البلاد في جمهورية إيران الإسلامية بالاعتماد على رأي الأمّة، الذي يتجسَّد في الانتخابات، بما فيها انتخاب رئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وأعضاء سائر مجالس الشورى، ونظائرها، أو عن طريق الاستفتاء العامّ في الحالات التي ينصّ عليها الدستور».
وجاء في المادّة الثانية عشرة: «في كلّ منطقةٍ يكون أتباع أحد هذه المذاهب (المذاهب الإسلامية الأخرى، التي تضمّ المذهب الحنفيّ والشافعيّ والمالكيّ والحنبليّ والزيديّ) هم الأكثرية فإن الأحكام المحلِّية لتلك المنطقة في حدود صلاحيّات مجالس الشورى تتبع ذلك المذهب، دون المساس بحقوق أتباع المذاهب الأخرى».
وطبق المادّة التاسعة والثمانون، فإنه تتمّ الموافقة على عدم كفاءة رئيس الجمهورية بتصويت «أكثرية ثلثي النواب» في مجلس الشورى الإسلامي.
وجاء في المادة السادسة والتسعين: «يتمّ إقرار عدم تعارض تشريعات مجلس الشورى الإسلامي مع أحكام الإسلام بأغلبيّة الفقهاء في مجلس صيانة الدستور، أما تحديد عدم تعارضها مع الدستور فيتمّ بأكثريّة جميع أعضائه».
ونصَّتْ المادّة الثامنة بعد المئة على أن الفقهاء الأعضاء في مجلس صيانة الدستور يقومون بإعداد القانون المتعلِّق بعدد خبراء مجلس القيادة، والشروط اللازم توفُّرها فيهم، وكيفيّة انتخابهم، ويصادق عليه المجلس بأكثريّة الأصوات.
وجاء في المادّة السابعة عشرة بعد المئة: «ينتخب رئيس الجمهورية بالأكثرية المطلقة لأصوات الناخبين».
ونصَّتْ المادة السابعة والسبعون بعد المئة أن قرارات مجلس مراجعة الدستور تطرح على الاستفتاء العامّ، بعد أن يتم تأكيدها وتوقيعها من القائد، وتصبح سارية المفعول إذا حازَتْ موافقة الأكثريّة المطلقة من المشاركين في الاستفتاء.
إذن لرأي الأكثرية اعتبارٌ في موارد مختلفة، ومن أجل الموافقة على العديد من القرارات في القوانين الوضعية، كالمواد 258، 266، 370، 396، و 484 من قانون الإجراءات المدنية، والمادّتين 265 و270 من قانون الإجراءات الجنائية والأنظمة الداخلية للمؤسَّسات، كمجلس الشورى الإسلامي، والهيئة التنفيذية، ومجلس صيانة الدستور، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والمجلس الأعلى للثورة الثقافية.
اعتبر رأي الأكثرية في النظام الداخلي لمجلس الشورى الإسلامي وحده حوالي 40 مرّةً ملاكاً للموافقة على القرارات. وفي المبحث الثالث من هذا النظام، الذي جاء بعنوان «الآراء»، وبالتحديد في مطلب «كمِّية الآراء» عبر الموادّ من 119 حتّى 121، تمّ تعيين كمِّية آراء النواب المطلوبة من أجل الموافقة على قرارات المجلس المختلفة بشكلٍ مفصل. والقاسم المشترك لكلّ هذه الموارد وجود رأي الأكثريّة.
ملاكُ اعتبار رأي الأكثرية في قوانين جمهورية إيران الإسلامية الداخلية وأنظمتها هو أحد مبدأي حقّ تقرير المصير وكشف الحقيقة. ويبدو أن رأي الأكثرية في سائر الأنظمة الحكومية في العالم أيضاً يُتَّخذ اعتباره في كثير من الأحيان على أساس أحد هذين المبدأين.
ومعيار تمييز هذين المبدأين عن بعضهما هو أنه كلما كان الناخبون هم الأصحاب الأساسيون للموضوع الذي يتمّ اتخاذ القرار حوله، أو ممثِّلوهم المباشرون، فملاك اعتبار رأيهم هو مبدأ حقّ تقرير المصير؛ لأنه طبق المادّة السادسة والخمسين من القانون الأساسي فإن للإنسان حقّ السيادة على مصيره. إذن، ملاك الاعتبار رأي الناس في الاستفتاءات التي يحقّ لآحاد الأفراد في المجتمع إبداء الرأي فيها ـ دون استثناءٍ ـ هو حقّ تقرير المصير.
وكذلك الملاك في التصويت الذي يشارك فيه الممثِّلون المباشرون للشعب، كأكثر حالات التصويت القانوني في مجلس الشورى الإسلامي ومجلس الخبراء؛ لأن نواب مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء مجلس الخبراء يصوِّتون بصفتهم وكلاء الناس، الذين هم أصحاب الحكومة الأساسيون.
أما في الحالات التي لا يكون فيها الناخبون الأصحابَ الأساسيين للموضوع الذي يتمّ اتخاذ القرار بشانه، ولا يكونون ممثِّلين عنهم بشكلٍ مباشر، كأعضاء مجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام أو مجلس الثورة الثقافية، فإن ملاك اعتبار آرائهم في هذه الحالة هو مبدأ كشف الحقيقة. وقيمة آراء أعضاء مؤسَّسات كهذه ـ كسائر حالات استطلاع الرأي بغَرَض كشف الحقيقة ـ بسبب خبرتهم وتخصُّصهم. وتُدار حالاتٌ كهذه على أساس نظام «إدارة المجلس».
في نظام «إدارة المجلس» ـ كما ذكَرْنا في النتيجة الرابعة من نتائج مبدأ كشف الحقيقة ـ رغم أن الهدف من التصويت هو كشف الحقيقة، وأنه في الحالات التي يكون الهدف منها الوصول إلى الحقيقة يختلف الناخبون عن صانعي القرار، لكنْ في الوقت نفسه يمنح المُشرِّع المستشارين الحقَّ في اتخاذ القرار وفقاً لنظام اعتبار رأي الأكثرية؛ من أجل الاستفادة من آرائهم بطريقةٍ منهجية ومنضبطة.
لذلك في حالاتٍ كهذه أيضاً ـ كالحالات التي يملك فيها الناخبون حقّ تقرير المصير من خلال آرائهم ـ يكون رأي أكثرية الناخبين غالباً قرارات تلك المؤسّسة، وليس مجرّد إبداء نظر تخصُّصي لكبار المدراء التنفيذيين.
تأسيس نظام إدارة المجلس، بل أيّ نظامٍ إداريّ أو انتخابيّ في مؤسّسات نظام الجمهورية الإسلامية، الذي هو نظامٌ قائم على السيادة الشعبية، يجب أن تتمّ الموافقة عليه في نهاية المطاف من قِبَل الشعب أو مَنْ يمثِّلهم؛ كونهم أصحاب الحكومة. ومن هذه الجهة فإن أيّ تصويتٍ في نظام الجمهورية الإسلامية في السلطات الثلاث يجب أن يكون مطابقاً للقوانين الموافَق عليها. وهذه القوانين إما هي كالقانون الأساسي، كسبَتْ اعتبارها من رأي أكثريّة آحاد الناس؛ أو كسائر القوانين الوضعية، التي كسبَتْ اعتبارها من رأي أكثريّة نواب مجلس الشورى الإسلاميّ، الذين هم وكلاء الناس.
والوليّ الفقيه ـ طبقاً للقانون الأساسي ـ فوق السلطات الثلاث، ويتمتَّع ـ طبقاً للمادّة العاشرة بعد المئة من القانون الأساسي ـ بوظائف وصلاحيات عديدة في نظام الجمهورية الإسلامية، وتوكل مهمّة تعيينه ـ كما نصَّت المادّة السابعة بعد المئة ـ إلى الخبراء المنتخبين من الشعب. وبعبارةٍ أخرى ـ كما جاء في المادّة السادسة من القانون الأساسي ـ: «تُدار شؤون البلاد في جمهورية إيران الإسلامية بالاعتماد على رأي الأُمّة».
الهوامش
(*) باحثٌ في الفقه الإسلاميّ والدراسات القانونيّة المعاصرة، وباحثٌ في مؤسّسة دائرة المعارف لفقه أهل البيت^. له كتاباتٌ علميّة متعدِّدة.
([1]) عبد الكريم سروش، محاضرة بعنوان «تشيع وچالش مردم سالاري» (التشيُّع وتحدّي سيادة الشعب)، جامعة السوربون: www.drsoroush.com
([2]) جعفر السبحاني، فروغ أبديت (شعاع الأبدية): 405، 443، 532، مؤسسة التبليغ الإسلامي، قم، 1351هـ.ش؛ محمد إبراهيم آيتي، تاريخ پيامبر إسلام (تاريخ نبيّ الإسلام): 254 ، 306 ، 378، منشورات جامعة طهران، ط4، 1366هـ.ش.
([3]) جعفر السبحاني، فروغ أبديت (شعاع الأبدية): 683؛ محمد إبراهيم آيتي، تاريخ پيامبر إسلام (تاريخ نبيّ الإسلام)، 532.
([4]) جعفر السبحاني، فروغ أبديت (شعاع الأبدية): 697، 742، 771؛ آيتي، تاريخ پيامبر اسلام (تاريخ نبي الإسلام)، 581، 618.
([5]) البقرة: 218؛ آل عمران: 195؛ النساء: 89، 97، 100؛ الأنفال: 72، 74، 75؛ التوبة: 20، 100، 117؛ النحل: 41، 110؛ الحج: 58؛ الحشر: 8.
([6]) الفتح: 10، 18؛ الممتحنة: 12.
([7]) محمد بن عليّ الصدوق، عيون أخبار الرضا×، 1: 19، 20، نشر جهان، طهران، ط1، 1378هـ.
([8]) محمد بن الحسن الطوسي، الغيبة، 452، دار المعارف الإسلامية، قم، ط1، 1411هـ.
([9]) حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 525، نشر تفكُّر، قم، ط2، 1409هـ.
([10]) محمد مؤمن، الولاية الإلهية الإسلامية أو الحكومة الإسلامية 1: 230 ـ 233، مؤسّسة النشر الإسلامي، ط1، قم، 1425هـ.
([11]) السيد كاظم الحسيني الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 194، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط3، 1428هـ.
([12]) السيد كاظم الحسيني الحائري، المرجعية والقيادة: 72، دار التفسير، قم، ط3، 1425هـ.
([13]) فاضل الصفّار، فقه الدولة والحكومة الإسلامية 1: 463، دار الأنصار، قم، ط1، 1426هـ.
([14]) محمود حكمت نيا، آراي عمومي «مباني اعتبار قلمرو» (الرأي العام، مجاله ومبادئ اعتباره): 36، پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي (معهد الثقافة والفكر الإسلامي)، طهران، ط1، 1382هـ.ش.
([16]) الخميني، صحيفه إمام (صحيفة الإمام) 20: 459، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، ط1، 1378هـ.ش.
([17]) الشريف الرضي، نهج البلاغة: 15، الخطبة 3، تحقيق: صبحي صالح، دار الهجرة، قم، ط1، 1414هـ.
([18]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 6: 13، مكتبة المرعشي النجفي، قم، ط1، 1404هـ؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 28: 264، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1403هـ.
([19]) محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي، المسترشد في إمامة عليّ بن أبي طالب×: 417، كوشانپور، قم، ط1، 1415هـ ؛ علي بن موسى ابن طاووس، كشف المحجّة لثمرة المهجة: 180، قم، ط2، 1375هـ.ش؛ المجلسي، بحار الأنوار 30: 15.
([20]) محمد بن عليّ ابن شهرآشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب× 1: 225، منشورات علاّمة، قم، ط1، 1379هـ؛ محمد بن محمد المفيد، الفصول المختارة: 250، مؤتمر الشيخ المفيد، قم، ط1، 1413هـ.
([21]) عليّ بن محمد بن عليّ بن محمد بن يونس العاملي النباطي، الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 2: 92، المكتبة الحيدرية، النجف، ط1، 1384هـ؛ الطبري، المسترشد: 387، 389، 675؛ عماد الدين أبو جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري الآملي، بشارة المصطفى لشيعة المرتضى 2: 277، المكتبة الحيدرية، النجف، ط2، 1383هـ؛ أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج على أهل اللجاج 1: 189، انتشارات مرتضى، مشهد، ط1، 1403هـ.
([22]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، 472؛ عبد الواحد بن محمد الآمدي، غرر الحِكَم ودرر الكلم، 572، دار الكتاب الإسلامي، قم، ط2، 1410هـ.
([23]) محمد بن حسين الخوانساري، شرح بر غرر الحكم ودرر الحكم (شرح غرر الحكم) 5: 127، منشورات جامعة طهران، ط4، 1366هـ.ش.
([24]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 18: 132.
([25]) الشريف الرضي، نهج البلاغة: 101، الخطبة 91.
([26]) عزّ الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 191، دار صادر، بيروت، 1385هـ؛ المجلسي، بحار الأنوار 32: 7.
([27]) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك 4: 428، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار التراث، ط2، 1387هـ؛ ابن الأثير، الكامل 3: 191.
([28]) ابن الأثير، الكامل 3: 193؛ الطبري، تاريخ الأمم والملوك 4: 435؛ المجلسي، بحار الأنوار 32: 8.
([29]) محمد بن محمد المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1: 343، مؤتمر الشيخ المفيد، قم، ط1، 1413هـ.
([30]) الشريف الرضي، نهج البلاغة: 309، الرسالة 1.
([31]) الشريف الرضي، نهج البلاغة: 384، الرسالة 52.
([32]) نصر بن مزاحم، وقعة صفين: 29، مكتبة المرعشي النجفي، قم، ط2، 1404هـ؛ أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة 1: 114، تحقيق: علي شيري، دار الأضواء، بيروت، ط1، 1410هـ.
([33]) المجلسي، بحار الأنوار 33: 144.
([34]) وتدلّ هذه العبارة على أنه لا بُدَّ من بيعةٍ عامّة من أجل تشكيل الحكومة، ولا تكفي بيعة جماعةٍ خاصّة من الناس. ولم تكُنْ بيعة الخلفاء السابقين بيعةً عامّة؛ إذ حضر بيعتهم جمعٌ خاصّ ومحدود من الناس.
([35]) عزّ الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن الأثير الجزري، أسد الغابة في معرفة الصحابة 1: 491، دار الفكر، بيروت، 1409هـ.
([36]) المصدر السابق نفسه؛ ابن الأثير، الكامل 3: 406؛ حسين بن محمد بن حسن بن نصر الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 77، مدرسة الإمام المهدي#، قم، ط1، 1408هـ؛ عليّ بن موسى ابن طاووس، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1: 199، منشورات خيّام، قم، ط1، 1400هـ؛ حسن بن محمد الديلمي، أعلام الدين في صفات المؤمنين: 293، مؤسّسة أهل البيت^ لإحياء التراث، قم، ط1، 1408هـ.
([38]) عليّ بن موسى ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف، 24، جهان، طهران، ط1، 1348هـ.ش.
([39]) جعفر بن محمد ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، 16، مدرسة الإمام المهدي#، قم، ط3، 1406هـ.
([48]) قبيلة بني تيم هي قبيلة أبي بكر الخليفة الأوّل، وقبيلة عديّ هي قبيلة عمر الخليفة الثاني.
([49]) محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، 2: 242، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، 1407هـ.
([50]) النعمان بن محمد ابن حيون المغربي، دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام 1: 432، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، ط2، 1385هـ؛ النوري، مستدرك الوسائل 11: 78.
([52]) انظر: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرجال 9: 226.
([53]) نقل سُلَيْم بن قيس كلام الإمام عليّ× هذا بمضمونٍ مشابهٍ في مكانٍ آخر من كتابه: «فَإِنْ وَجَدْتَ أَعْوَاناً عَلَيْهِمْ فَجَاهِدْهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاكْفُفْ يَدَكَ، وَاحْقُنْ دَمَكَ؛ [فَإِنَّكَ إِنْ نَابَذْتَهُمْ قَتَلُوكَ؛ وَإِنْ تَبِعُوكَ وَأَطَاعُوكَ فَاحْمِلْهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلاّ فَدَعْ؛ وَإِنِ اسْتَجَابُوا لَكَ وَنَابَذُوكَ فَنَابِذْهُمْ وَجَاهِدْهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَكُفَّ يَدَكَ وَاحْقُنْ دَمَكَ]. وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ دَعَوْتَهُمْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَلاَ تَدَعَنَّ أَنْ تَجْعَلَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ… أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْكَ، وَيَتَظَاهَرَ عَلَيْكَ ظَلَمَةُ قُرَيْشٍ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ إِنْ نَاهَضْتَ الْقَوْمَ وَنَابَذْتَهُمْ وَجَاهَدْتَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فِئَةٌ [أَعْوَانٌ] تَقْوَى بِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوكَ». (كتاب سُلَيْم بن قيس، 2: 768).
ونقل الشيخ الطوسي هذه الرواية أيضاً عن سُلَيْم بن قيس بالشكل التالي: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَرْقِيِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي سَمِينَةَ الْكُوفِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلاَلِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ|، فِي وَصِيَّتِهِ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ× يَا عَلِيُّ، إِنَّ قُرَيْشاً سَتَظَاهَرُ عَلَيْكَ، وَتَجْتَمِعُ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ظُلْمِكَ وَقَهْرِكَ؛ فَإِنْ وَجَدْتَ أَعْوَاناً فَجَاهِدْهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَكُفَّ يَدَكَ، وَاحْقِنْ دَمَكَ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ (لَعَنَ اللَّهُ قَاتِلَكَ). (الطوسي، الغَيْبة: 203).
([54]) كتاب سُلَيْم بن قيس 2: 591.
([55]) المصدر السابق 2: 664؛ المجلسي، بحار الأنوار 29: 467.
ونقل سُلَيْم بن قيس، في كتابه، عن أمير المؤمنين×، أن النبيّ| قد أخبره عباراتٍ مشابهةً للكلام الذي ذكَرْناه، وقال له: «إن موسى أمر هارون حين استخلفه في قومه؛ إنْ ضلّوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم بهم، وإنْ لم يجِدْ أعواناً أن يكفّ يده، ويحقن دمه، ولا يفرِّق بينهم. فافْعَلْ أنتَ كذلك؛ إنْ وجدْتَ عليهم أعواناً فجاهدهم؛ وإنْ لم تجد أعواناً فاكفف يدك، واحقن دمك؛ فإنك إنْ نابذتهم قتلوك [وإنْ تبعوك وأطاعوك فاحملهم على الحقّ]. واعلم أنك إنْ لم تكفّ يدك وتحقن دمك إذا لم تجد أعواناً أتخوَّف عليك أن يرجع الناس إلى عبادة الأصنام، والجحود بأني رسول الله، فاستظهر الحجّة عليهم، وادعهم». (كتاب سُلَيْم بن قيس 2: 769). وكذلك نقل سُلَيْم بن قيس هذه العبارة عن الإمام عليّ×: «إنْ وجدتُ أعواناً جاهدتُهم؛ وإن لم أجِدْ أعواناً كففْتُ يدي، وحقنْتُ دمي». (المصدر السابق 2: 918).
([56]) الرَّهْطُ في اللغة: ما دون العَشرة من الرجال. (إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح 3: 1128، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1410هـ).
([57]) الطبرسي، الاحتجاج، 1: 191؛ المجلسي، بحار الأنوار 29: 420؛ النوري، مستدرك الوسائل 11: 74. ونقل سُلَيْم بن قيس أيضاً كلاماً كهذا، قاله أمير المؤمنين× للأشعث: «يا بن قيس، أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لو وجدْتُ يوم بويع أبو بكر ـ الذي عيَّرتني بدخولي في بيعته ـ أربعين رجلاً كلّهم على مثل بصيرة الأربعة الذين وجَدْتُ لما كفَفْتُ يدي، ولناهضت القوم، ولكنْ لم أجِدْ خامساً». (كتاب سُلَيْم بن قيس 2: 668؛ المجلسي، بحار الأنوار 29: 470)؛ «يا بن قيس، فوالله لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوني وفَوْا لي، وأصبحوا على بابي محلِّقين قبل أن تجب لعتيق في عنقي بيعةٌ، لناهضته وحاكمته إلى الله عزَّ وجلَّ، ولو وجَدْتُ قبل بيعة عثمان أعواناً لناهضتهم وحاكمتهم إلى الله». (كتاب سُلَيْم بن قيس 2: 669؛ المجلسي، بحار الأنوار 29: 471).
([58]) محمد بن محمد المفيد، الاختصاص: 187، المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد، قم، ط1، 1413هـ؛ محمد بن مسعود العياشي، تفسير العيّاشي 2: 66، المطبعة العلمية، طهران، ط1، 1380هـ.
([59]) الحسين بن حمدان الخصيبي ليس ثقةً على رأي عددٍ من علماء الرجال، كالنجاشي وابن الغضائري. (الخوئي، معجم رجال الحديث 6: 244).
([60]) الحسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى: 415، دار البلاغ، بيروت، ط1، 1419هـ؛ النوري، مستدرك الوسائل 11: 78.
([61]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21: 397، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط7، 1404هـ.