أ. علي أكبر زارچي پور(*)
الشيخ محمد حسن گلي شيردار(**)
ترجمة: حسن علي مطر الهاشمي
الخلاصة
من المسائل الأصولية التي لها آثار ونتائج مهمّة في الأبحاث الأصولية والفقهية مسألة تقييد التكاليف الشرعية بالقدرة. يتمّ البحث في هذه المسألة عمّا إذا كانت التكاليف الشرعية مشروطةً بالقدرة أم لا؟ ويتمّ التعبير عن هذه المسألة بـ «قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور». إن الغرض من هذه المقالة هو بيان الآثار والنتائج الفقهية والأصولية لهذه القاعدة. في ضوء الأبحاث المنجزة هناك تأثيرٌ لهذه المسألة على أبحاث من قبيل: «جواز التعجيز قبل دخول وقت الواجب العبادي»، و«وجوب قضاء الواجب العبادي»، و«وجود التزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق»، و«مسؤولية المكّلف تجاه المقدّمات المفوّتة»، و«قاعدة الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار»، و«الجامع بين المقدور وغير المقدور»، و«صدور الفعل غير الاختياريّ من المكلَّف»، و«العلم الإجمالي».
مقدّمةٌ
هناك الكثير من القيود والشروط في التكاليف والأحكام الشرعية؛ حيث يكون لوجود هذه القيود وعدم وجودها ـ بالإضافة إلى التأثير في فعلية التكليف أو عدم فعليته ـ ثمار ونتائج أخرى في الأبحاث الفقهية والأصولية. ومن هذه القيود: قيد العلم، وقيد الزمان، وقيد قصد امتثال الوجوب.
وإن من المسائل الدقيقة، وذات الفوائد الكثيرة في الفقه والأصول، مسألة تقييد التكاليف والأحكام الشرعية بالقدرة. يتمّ البحث في هذه المسألة حول هذا السؤال القائل: هل التكاليف الشرعية مقيّدة بالقدرة أم لا؟ أي هل أن الأحكام الشرعية تشمل الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على القيام بالفعل فقط أم تشمل الأشخاص العاجزين عن القيام بذلك الفعل أيضاً؟
لم يتمّ بحث هذه المسألة حتى الآن من قِبَل الفقهاء والأصوليين بشكلٍ دقيق ومركّز، وإنما هناك مجرّد أبحاث استطرادية يمكن العثور عليها في تضاعيف كلماتهم. ومن ذلك أنه تمّ البحث عنها ـ على سبيل المثال ـ في أبحاث من قبيل: مسألة الضد، ومسألة اجتماع الأمر والنهي، بمقدار ما تقتضيه المسألة من بحث اشتراط القدرة في التكليف أيضاً. ولم يبحث هذه المسألة بشكلٍ مستقل من الفقهاء سوى الشهيد السيد محمد باقر الصدر في الحلقتين الثانية والثالثة من كتابه القيِّم (دروس في علم الأصول)، وقد جاء بحثه مختصراً في هذه المسألة. كما لم يتمّ تأليف كتابٍ أو مقالةٍ مستقلة في هذا الشأن. ومن هنا يحظى البحث المستقلّ والمركّز حول هذه المسألة بأهمِّية كبيرة.
إن المشهور بين الأصوليين هو أن القدرة تعدّ من الشرائط العامّة في التكليف؛ بمعنى أنه لو كان المكلف عاجزاً، ولا يستطيع امتثال المأمور به، لا يتوجَّه إليه أيّ تكليفٍ؛ إذ مع فقدان الشرط لا يُكتب التحقّق للمشروط أيضاً([1]). بَيْدَ أن بعض الأصوليين يذهب إلى القول بأن القدرة ليست شرطاً في التكليف؛ كما أن العلم بدَوْره ليس شرطاً في التكليف أيضاً، بل إن [عدم]([2]) القدرة يشكّل عذراً للمكلّف في مخالفة تكليف المولى، وعدم تعريضه للعقاب؛ لأن خطاب المولى صادرٌ بشكلٍ عام، بحيث يشمل جميع المكلّفين، إلاّ أن العقل يرى أن الشخص العاجز يكون معذوراً؛ بسبب عجزه وعدم استطاعته، ولا يراه مستحقّاً للعقاب([3]).
وقد تمّ تناول هذا البحث تحت عناوين مختلفة، من قبيل: «التكليف بما لا يُطاق؛([4])، و«التكليف بغير المقدور»([5])، و«تكليف العاجز»([6])، و«التكليف بالمحال»([7])، و«اشتراط القدرة في التكليف»([8])؛ لما له من الأهمية البالغة في الأبحاث الفقهية والأصولية.
إن أثر هذه المسألة ـ في حدود بحث وتنقيب كاتب السطور ـ يظهر في ثمان مسائل فقهية وأصولية؛ بحيث إن القبول بهذه القاعدة أو رفضها يؤدّي إلى اتخاذ مواقف مختلفة في هذه المسائل؛ ولذلك نسعى في هذه المقالة إلى بحث ودراسة آثار الالتزام بهذه القاعدة أو عدم الالتزام بها في هذه المسائل الثمانية، وهي عبارة عن: «جواز التعجيز قبل دخول وقت الواجب العبادي»، و«وجوب قضاء الواجب العبادي»، و«التزاحم بين الواجب الموسَّع والمضيَّق»، و«مسؤولية المكلّف في مقابل المقدّمات المفوّتة»، و«قاعدة الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار»، و«الجامع بين المقدور وغير المقدور»، و«صدور الفعل غير الاختياري من المكلف»، و«العلم الإجمالي».
تعريفٌ بالمفاهيم
1ـ التكليف
إن التكليف لغةً عبارةٌ عن حمل الغير على فعل شيءٍ ينطوي على شدّةٍ وبذلِ جهدٍ وصعوبة؛ وأما بحَسَب المصطلح فهو يعني الأحكام الشرعية التي ترتبط مباشرةً بفعل المكلَّف، وهو ينقسم إلى خمسة أقسام، وهي: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح([9]).
أـ التكليف بالمحال
إن التكليف بالمحال، الذي هو من أقسام التكليف بغير المقدور، يُطلق على التكليف الذي لا يكون امتثال متعلّقه مقدوراً للمكلّف؛ بمعنى أن امتثاله بالنسبة إلى المكلّف يكون ضرباً من المحال العقلي أو العادي. وبعبارةٍ أخرى: إن التكليف بالمحال وإنْ كان في حدّ ذاته غير محالٍ، وهناك إمكان لإرادته والأمر به من قِبَل المولى، بَيْدَ أن المكلّف لا يمتلك القدرة على امتثاله، كأن يقول المولى لعبده: «امشِ على الماء»، حيث لا يكون المكلّف قادراً على ذلك عادةً([10]). إن هذا القسم من التكليف بغير المقدور خارجٌ عن محلّ بحثنا؛ إذ إن محلّ بحثنا حيث يكون الفعل مقدوراً في حدّ ذاته، ولكن المكلّف لا يمتلك القدرة على القيام به.
ب ـ التكليف المحال
إن التكليف المحال يعني أن يكون ذات التكليف والطلب (التكليف في حدّ ذاته) محالاً، ولا توجد فيه قابلية وإمكانية الصدور من قِبَل الشارع؛ خلافاً للتكليف بالمحال، حيث لم يكن ذات التكليف والطلب غير ممكنٍ؛ وإنما يصبح محالاً بسبب امتناع وقوع متعلّقه في الخارج([11]). ومن الجدير بالذكر أن هذا القسم خارجٌ عن محلّ بحثنا؛ لأن صدور هذا النوع من التكليف محالٌ من قِبَل المولى، فلا يصل الأمر إلى مرحلة امتثاله من قِبَل المكلّف.
2ـ القدرة
القدرة لغةً بمعنى امتلاك الاستطاعة على فعل شيءٍ([12])؛ وبحَسَب المصطلح تعني إمكان فعل الشيء وتركه عن إرادةٍ واختيار([13]). وعلى هذا الأساس فإن الشخص العاجز بحَسَب المصطلح الفقهي هو الشخص الذي لا يمتلك القدرة على القيام بفعلٍ عن إرادةٍ واختيار، سواء أكان هذا العجز ناشئاً من متعلّق الفعل، من قبيل: الأمر باجتماع النقيضين؛ أو أن يكون هذا العجز ناشئاً من ذات المكلّف، كأنْ يرتكب المكلّف فعلاً وهو نائمٌ أو سكران، ففي مثل هذه الحالة لا يكون مالكاً لإرادته واختياره.
ومن الجدير ذكره أن القدرة في محلّ بحثنا تشمل القدرة العُرْفية أيضاً؛ ومن هنا لو كان الشخص من الناحية العقلية قادراً على القيام بفعلٍ، ولكنه لا يكون قادراً على فعله بنظر العُرُف، يُعَدّ في محلّ بحثنا عاجزاً عن القيام بالفعل. وعلى هذا الأساس فإن المكلّف المضطرّ إلى القيام بفعلٍ، وإنْ كان قادراً على الترك عقلاً، ولكنْ حيث لا يُعَدّ قادراً عُرْفاً، فإنه يُعَدّ في محلّ بحثنا عاجزاً عن ترك الفعل. وكذلك فإن المكلّف بالنسبة إلى القيام بفعلٍ خارج عن محلّ ابتلائه يُعَدّ بدَوْره عاجزاً عُرْفاً([14]).
أـ القدرة العقليّة والشرعيّة
هناك في كلٍّ من القدرة العقلية والقدرة الشرعية مصطلحٌ مختلف، نشير فيما يلي إلى كلٍّ منهما:
1ـ المصطلح الأوّل: لو كانت مبادئ التكليف ـ وهما: الملاك؛ والإرادة ـ مشروطةً بالقدرة فإنه يسمّى هذا النوع من القدرة ـ أي القدرة التي تكون شرطاً في مرحلة الملاك والإرادة ـ بالقدرة الشرعية. وإن الوجه في تسمية هذا النوع من القدرة بـ «القدرة الشرعية» أن الشارع هنا هو الذي يبيّن أن التكليف من حيث الملاك والإرادة مقيّد ومشروط بالقدرة، ولا يكون للعقل إدراكٌ هنا. وبعبارةٍ أخرى: إن الشرع هو الحاكم بتقيّد التكليف من حيث الملاك والإرادة بالقدرة، وليس الشرع.
وأما إذا لم تكن مبادئ التكليف مشروطةً بالقدرة فإن اشتراط القدرة في التكليف يكون عقلياً. وإن الوجه في تسمية هذه القدرة بـ «القدرة العقلية» هو أن منشأ اشتراط التكليف بالقدرة ـ في هذا الفرض ـ مجرَّد حكم العقل القائم على استحالة التكليف بغير المقدور؛ بمعنى أن التكليف في مرحلة الجعل والاعتبار مشروطٌ بالقدرة([15]).
2ـ المصطلح الثاني: إن المراد من القدرة العقلية في المصطلح الثاني هو أن جميع التكاليف مشروطة بحكم العقل بالقدرة التكوينية على امتثال الفعل. فلو أن الشارع ـ بالإضافة إلى القدرة التكوينية ـ قد اشترط أن لا يكون هناك مانعٌ شرعي يقف في طريق تكليفٍ ما؛ بمعنى أن لا يكون هناك تكليفٌ ثانٍ مضادّ لهذا التكليف الأول موجودٌ وفعلي، ففي مثل هذه الحالة يكون التكليف الأوّل مشروطاً بالقدرة الشرعية.
وعلى هذا الأساس يجب أن يكون هناك قيدان لتحقُّق القدرة الشرعية:
القيد الأوّل: أن يكون المكلّف قادراً من الناحية التكوينية على القيام بمتعلّق الفعل.
القيد الثاني: أن لا يكون هناك في البين واجبٌ فعليّ آخر يزاحم فعليّة هذا التكليف.
إن الوجه في تسمية القدرة بالقدرة العقلية والشرعية في المصطلح الثاني هو أن هناك في القدرة الشرعية تقييدٌ مضاف من قِبَل الشارع؛ ولذلك تسمَّى هذه القدرة بـ «القدرة الشرعية»؛ وأما في القدرة العقلية فإن العقل وحده هو الذي يحكم بالمقدار الذي تمّ اشتراطه من القدرة في التكليف([16]).
وبالنظر إلى وجود هذين المصطلحين للقدرة العقلية والشرعية، والنتائج والثمار التي تترتَّب على كلٍّ منهما، سوف نشير في الأبحاث المقبلة إلى المصطلح المراد منهما بالقدرة العقلية والشرعية.
ب ـ القدرة التكوينيّة
1ـ القدرة التكوينية بالمعنى الأخصّ: إن جميع الفقهاء والأصوليين الذين يقولون باشتراط هذا النوع من القدرة في التكاليف يرون أن جميع التكاليف مشروطةٌ بنظر العقل بوجود القدرة على متعلّقها؛ لاستحالة أن يكلّف المولى عبده بفعلٍ لا يقدر على امتثاله. ويُسمّى هذا المقدار من القدرة ـ المشروطة في التكليف الشرعي بحكم العقل ـ بـ «القدرة التكوينية بالمعنى الأخصّ»([17]).
2ـ القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ: إن الفقهاء والأصوليين الذين يقولون باشتراط هذا النوع من القدرة في التكاليف لا يرون كفاية مجرّد القدرة التكوينية بالمعنى الأخصّ للقول بصحّة جعل التكليف، وعدم قُبْحه، بالنسبة إلى المكلّف؛ بل بالإضافة إلى ذلك، يجب أن لا يكون في هذا التكليف الصادر عن المولى تزاحمٌ وتضادّ مع تكليفٍ آخر يساوي هذا التكليف أو يفوقه في الأهمّية من حيث الملاك، ولا يكون المكلّف قادراً على الجمع بين التكليفين؛ لأن المكلّف حيث لا يستطيع امتثال كلا التكليفين في وقتٍ واحد فإن تكليفه بالإتيان بهما معاً يكون تكليفاً بغير المقدور، وهو محالٌ. ويُسمّى هذا المقدار من القدرة ـ المشروطة بحكم العقل في فعلية التكليف بالنسبة إلى المكلّف ـ بـ «القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ».
وعلى هذا الأساس، فإن القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ تعني أوّلاً: أن يكون المكلَّف قادراً على الإتيان بمتعلّق التكليف، وأن لا يكون مريضاً، على سبيل المثال؛ وثانياً: أن لا يكون هناك تكليفٌ فعلي آخر يزاحمه ويعارضه، ويكون أهمّ منه أو مساوياً له من حيث الملاك.
ومن الجدير ذكره أن هناك تفسيرين للقيد الثاني للقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ:
التفسير الأوّل: أن يكون المراد من عدم وجود التزاحم والتضادّ هو أن لا يكون المكلف مأموراً بامتثال ذلك التكليف الضدّ.
التفسير الثاني: أن يكون المراد من عدم وجود التزاحم والتضادّ هو أن لا يكون المكلّف مشغولاً بامتثال التكليف بالضدّ([18]).
3ـ الواجب المؤقَّت
إن الواجب المؤقَّت هو الواجب الذي حدَّد الشارع لامتثاله وقتاً خاصاً، بحيث يكون الإتيان بذلك الواجب في ذلك الوقت الخاصّ مطلوباً للشارع؛ بمعنى أن يكون الزمان قيداً لوجود الواجب في الخارج، من قبيل: الصلوات اليومية، والحجّ، والصوم في شهر رمضان([19]).
4ـ الواجب الموسَّع
إن الواجب الموسَّع من أقسام الواجب المؤقَّت، ويقع في مقابل الواجب المضيَّق، ويُطلق على الواجب الذي يكون فيه مقدار الزمن الذي حدَّده الشارع له أكثر من المدّة الزمنية التي يستغرقها امتثال ذلك الواجب. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن المدّة الزمنية اللازمة لأداء صلاة الظهر والعصر قد لا تتجاوز الخمس عشرة دقيقة، بَيْدَ أن الزمان المحدَّد لأدائها قد يمتدّ إلى خمس ساعات أو ستّ.
5ـ الواجب المضيَّق
إن الواجب المضيّق من أقسام الواجب المؤقّت، ويقع في مقابل الواجب الموسّع، وهو يُطلَق على الواجب الذي تكون المدّة الزمنية التي تمّ تحديدها من قِبَل الشارع للإتيان به مساوية لنفس المدة الزمنية التي يستغرقها الواجب وامتثاله، من قبيل: الصوم الذي يبدأ من طلوع الشمس إلى غروبها([20]).
6ـ المقدّمة المفوِّتة
إن المقدّمة المفوِّتة هي التي إذا لم يتمّ الإتيان بها قبل حلول وقت ذي المقدّمة فسوف يؤدّي ذلك إلى تفويت ذي المقدّمة في وقتها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن على المكلف بالحجّ أن يعمل قبل حلول موسم الحجّ على إعداد العدّة للسفر، من قبيل: إصدار الجواز، وتذكرة السفر، وقطع المسافة؛ كي يدرك المناسك في المدّة الزمنية المحدّدة لها([21]).
7ـ التزاحم
إن التزاحم يعني التنافي بين أمرَيْن في عالم الامتثال؛ بمعنى أن المكلّف لا يستطيع امتثالهما معاً، ولا يكون أمامه سوى الاضطرار إلى عدم امتثال أحدهما. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه لا يوجد تنافٍ في عالم الجعل وفي عالم المبادئ بين دليل «صلِّ» و«أنقِذْ الغريق»؛ وإنما يحدث التزاحم بين هذين الأمرين حيث يكون وقت الصلاة مضيّقاً، ولا يتمكّن المكلّف من امتثالهما في وقتٍ واحد.
أدلّة الإثبات والنفي لتقييد التكليف بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأخصّ
1ـ أدلّة الإثبات، تحليلٌ ومناقشة
أـ الإطلاق والانصراف
إن الفعل عند الإطلاق ينصرف إلى الحصّة والجزء المقدور؛ وعلى هذا الأساس فإن سقوط الواجب عن ذمّة المكلف ـ بسبب الفعل غير الإرادي وغير الاختياري ـ يحتاج إلى دليلٍ آخر، وإلاّ فإن مقتضى إطلاق الدليل أن لا يسقط الواجب في ما يتعلّق بالحصّة غير الاختيارية وغير الإرادية. وإن دليل هذا الانصراف إما هو انصراف مادّة الفعل إلى الحصّة والجزء الاختياري؛ أو انصراف الهيئة وصيغة الفعل إلى الحصّة والجزء الاختياري؛ بمعنى أن المادّة أو هيئة الفعل تنصرف إلى خصوص ذلك الفعل الذي يتمّ امتثاله عن اختيارٍ وإرادةٍ من المكلّف([22]).
ويَرِدُ على هذا الدليل:
ليس هناك انصرافٌ إلى الحصّة والجزء المقدور، لا في مادة الفعل، ولا في هيئته؛ والسبب في عدم تقييد مادّة الفعل بالقدرة هو أن مواد الأفعال إنما وُضعت للطبيعة المهملة والمجرَّدة من جميع الخصوصيات([23])، وإن هذه الطبيعة المهملة مشتركةٌ بين القسم المقدور والقسم غير المقدور من الفعل، وتشمل القسمين. وعلى هذا الأساس فإن مادة الفعل في اللغة وأصل الوضع قد وُضعَتْ لكلا القسمين من الفعل الاختياري وغير الاختياري.
ومن ذلك أن مادة الفعل «ضرب» ـ على سبيل المثال ـ بمعنى «ض ر ب» قد تمّ وضعها للكلّي الطبيعي «الحدث». وإن هذا الكلي الطبيعي كما يصدق على الضرب الصادر عن اختيارٍ، يصدق على الضرب الصادر عن غير اختيارٍ أيضاً؛ دون أن نكون بحاجةٍ إلى دليلٍ آخر. وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى سائر مواد الأفعال أيضاً. وعلى هذا الأساس، حيث تصدق مادّة الفعل على كلتا الحصتين: المقدورة؛ وغير المقدورة من الفعل، لا يكون هناك دليلٌ في البين على انصراف المادّة إلى الحصّة الاختيارية من الفعل. وبطبيعة الحال لا ننكر أن بعض مواد الأفعال قد تمّ وضعها لخصوص القسم الاختياري من الأفعال، من قبيل: التعظيم والتكريم والاستهزاء؛ بَيْدَ أن هذه الأفعال في حدّ ذاتها من الأفعال التي تكون تابعةً للقصد، ومن دون القصد لا يكون لها معنى.
وكذلك فإن هيئات الأفعال بدَوْرها لا تنصرف إلى الحصّة المقدورة؛ لأن الهيئات قد تمّ وضعها للمعنى العامّ المشترك بين جميع المواد، أيّاً كان نوعها وشكلها؛ سواء أكانت هذه المواد من قبيل: الصفات، من قبيل: العلم، أو كانت من قبيل: الأفعال. وإن هذه الأفعال تارةً تكون اختيارية، من قبيل: «جاء زيد»، وتارةً أخرى لا تكون اختياريةً، من قبيل: «جرى الماء».
وعليه، فإن نتيجة البحث هي أنه لا يوجد دليلٌ على انصراف المادّة أو هيئة الفعل إلى الحصّة والقسم المقدور من الفعل فقط؛ ولذلك لا يكون قيد الاختيار والقدرة شرطاً في موادّ أو هيئات الأفعال.
والذي يؤيِّد عدم انصراف هيئات الأفعال إلى القسم المقدور أن الفقهاء يعتبرون الشخص الذي يتلف مال الغير من دون اختيارٍ ـ كما لو صدر عنه الإتلاف عن غفلةٍ أو في النوم وما إلى ذلك ـ ضامناً، وقد تمسَّكوا في بيان ذلك بإطلاق دليل «مَنْ أتلف مال الغير فهو له ضامنٌ». ويتّضح من هذا البيان أنهم يرَوْن أن الفعل «أتلف» مطلقٌ، ويشمل كلتا الحالتين: الاختيارية؛ وغير الاختيارية([24]).
ب ـ شرطيّة الحُسْن الفاعليّ
طبقاً لمذهب العَدْلية ـ وهو المذهب الحقّ ـ، الذين يقولون بالحُسْن والقُبْح العقلي، يجب أن يكون الأمر المطلوب للشارع مشتملاً على الحُسْن الفاعلي، ولا يكفي مجرّد الحُسْن الفعلي، واشتمال الفعل على المصلحة؛ للحصول على الأجر والثواب في الآخرة. فعلى الرغم من أن هذا الفعل، سواء صدر عن اختيارٍ أو من دون اختيارٍ، لا يؤثّر ذلك في حُسْنه الفعلي، ولكنْ يجب أن ينطوي، بالإضافة إلى ذلك، على حُسْنٍ فاعلي أيضاً. وعليه، من الواضح أن هذا الحُسْن الفاعلي الذي يكون شرطاً في ترتُّب الثواب على الفعل إنما يختصّ بالفعل الذي يتمّ امتثاله عن إرادةٍ واختيار من قِبَل المكلّف، وإن الشخص الفاقد للإرادة والاختيار لا يمكن أن يأتي بعملٍ صادرٍ عن الحُسْن الفاعلي([25]).
وفي ضوء هذا البيان لا يكون الفعل الصادر عن المكلّف من دون اختياره متصفاً بالحُسْن الفاعلي، وبالتالي لا يسقط التكليف بواسطة القيام بهذا الفعل. وعلى هذا الأساس، فإنه لإسقاط التكليف، الذي لم يتحقّق بهذا الفعل الصادر من دون اختيار المكلَّف، نحتاج إلى دليلٍ آخر، وفي حالة عدم وجود الدليل الآخر يكون مقتضى إطلاق الدليل الأوّل أن التكليف لا يسقط عن عهدة المكلّف بواسطة الإتيان بالفعل من دون إرادةٍ واختيار.
ويَرِدُ على هذا الدليل:
أوّلاً: ليس هناك دليلٌ على اشتراط الحُسْن الفاعلي في العمل بالإضافة إلى الحُسْن الفعلي أيضاً، وإنما الدليل الوحيد الذي نمتلكه هنا هو الدليل الذي يدلّ على اشتراط الحُسْن الفعلي في العمل. وهذا الدليل ليس شيئاً آخر غير تلك المصلحة والملاك الموجود في الفعل، والذي لولاه لما أمر المولى بذلك الفعل؛ إذ لو لم تكن المصلحة والملاك موجودةً في الفعل، ولم يكن ذلك الفعل مشتملاً على حُسْنٍ فعلي، لما صدر بشأنه أمرٌ من قبل المولى أصلاً.
ثانياً: لو كان الحُسْن الفاعلي شرطاً في سقوط العمل، بالإضافة إلى الحُسْن الفعلي، يَرِدُ هناك محذورٌ آخر، وهو أن المكلّف لو جاء بالواجب عن إرادةٍ واختيار، وفي حالة القدرة، لا يتحقَّق منه الإتيان بالواجب أيضاً، إلاّ إذا جاء به بقصد القربة؛ لأن الحُسْن الفاعلي لا يتحقَّق من دون قصد القربة. ونتيجةً لذلك سوف تحتاج جميع الواجبات إلى قصد القربة. وعليه يجب أن ننكر جميع الواجبات التوصُّلية. هذا، في حين أن المحقق النائيني ـ وهو الذي نُقل عنه هذا الدليل الثاني ـ قد قسَّم الواجبات إلى: تعبُّدية؛ وتوصُّلية([26]).
وعلى هذا الأساس، بالإضافة إلى عدم وجود دليلٍ على اشتراط الحُسْن الفاعلي في الإتيان بالعمل، لو قلنا باشتراط الحُسْن الفاعلي سوف يترتَّب على ذلك محذورٌ لا يمكن لأيّ شخصٍ أن يلتزم به، ولذلك لا يبقى أمامنا من طريقٍ سوى القول بعدم شرطية الحُسْن الفاعلي في العمل، والقول بكفاية الحُسْن الفعلي فقط. ونتيجةُ ذلك أن لا تكون التكاليف مشروطةً بالقدرة.
ج ـ المقتضى الذاتي للأمر الإلهيّ
إن مقتضى ذات الأمر ـ بغضّ النظر عن حكم العقل ـ شرطية الإرادة والاختيار في التكليف؛ لأن غرض المولى من الأوامر التي يصدرها هو تحفيزه وإيجاد الدافع لديه؛ ليتمّ بذلك تحريك المكلّف نحو القيام بالأمر الصادر إليه وامتثاله. ومن الواضح أن إيجاد الدافع والحافز يستلزم أن يكون متعلّق الأمر مقدوراً للمكلّف؛ لأن تحريك المكلّف نحو الشيء الذي لا يكون مقدوراً بالنسبة إليه محالٌ عقلاً. وعلى هذا الأساس، فإن الأمر في حدّ ذاته يقتضي شرطية الإرادة والاختيار، ومن غير الممكن أن يتعلّق بالأعمّ من الحصّة المقدورة وغير المقدورة.
كما أن قَيْد القدرة والاختيار في هذا الدليل لا يُعدّ جزءاً من مدلول مادّة وهيئة الأمر؛ كما لا يُدّعى أن مادّة أو هيئة الأمر عند الإطلاق تنصرف إلى الحصّة المقدورة؛ لأن هذا الادعاء باطلٌ من الأساس. إن مدّعى هذا الدليل هو أن القدرة والاختيار من شؤون وخصوصيات الطلب والبعث الذي يُستفاد من صيغة الفعل أو أمثال الصيغة. وعلى هذا الأساس، فإن صيغة الأمر وأمثالها تمتاز في هذه النقطة وهذه الخصوصية من سائر الأفعال([27]). وكذلك؛ حيث إن التكليف وحده يقتضي شرطية القدرة، لا يصل الدَّوْر إلى حكم العقل؛ لاستناده إلى أمرٍ ذاتي في مرتبةٍ سابقة على الاستناد إلى أمرٍ عَرَضي.
وبعبارةٍ أخرى: إن صيغة الأمر ظاهرةٌ في أنه قد صدر بداعي بعث المكلّف وتحريكه؛ بمعنى أن المولى قد أصدر هذا الأمر لغرض إيجاد الحافز والدافع في نفس المكلّف، وعلى هذا الأساس؛ حيث إن تحريك المكلّف نحو الفعل غير المقدور له محالٌ، يصبح هذا الظهور الحالي قَيْداً لُبِّياً متصلاً يقيِّد التكليف بالحصّة المقدورة.
ويَرِدُ على هذا الدليل:
إن حقيقة الحكم عبارةٌ عن اعتبار الفعل في عهدة المكلّف من قِبَل المولى، حيث يتمّ إبراز هذا الحكم من خلال مُبرِزٍ في الخارج، من قبيل: صيغة الأمر. ولا يمكن تصوّر غير هذا المعنى للأمر، كما لا يمكن أن نتصوَّر للإنشاء معنىً آخر غير إبراز ذلك الأمر الاعتباري.
وعلى هذا الأساس، عندما نحلِّل الأمر بالصلاة ـ على سبيل المثال ـ نجد أن هذا الأمر ليس له واقعيةٌ سوى اعتبار الصلاة في ذمّة المكلّف من قِبَل الشارع، وإن إبرازه في الخارج يكون بواسطة مُبرِزٍ، من قبيل: كلمة «صَلِّ» وأمثال ذلك. وبالتالي لا يمكن في البين سوى تصوُّر أمرين، وهما: أوّلاً: اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف؛ وثانياً: إبرازه من خلال مُبرِزٍ في الخارج نطلق عليه تارةً عنوان الطلب؛ وتارةً عنوان البعث؛ وتارةً أخرى عنوان الوجوب.
ومن هنا فإن صيغة الأمر لا تدلّ على الوجوب، وإنما تدلّ على مجرّد إبراز أمرٍ اعتباري قائمٍ في نفس المكلّف وداخلٍ في ذمّته. ولكنّ عقلنا ـ ما لم تَرِدْ في البين قرينة على الترخيص في ترك الأمر ـ يعمل من خلال هذا الإبراز ـ بموجب قانون العبودية ـ على انتزاع وجوب الامتثال. وعلى هذا الأساس، فإن الوجوب لا يثبت إلاّ بحكم العقل، ويكون من لوازم إبراز إدخال الشيء في ذمّة المكلّف، ما لم تكن هناك قرينةٌ على الترخيص في الترك.
وعلى هذا الأساس، لا يوجد دليلٌ على اختصاص الفعل بالحصّة المقدورة؛ إذ إن اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف من قِبَل المولى لا يقتضي مثل هذا الاختصاص. كما أن إبراز هذا الأمر الاعتباري النفساني بواسطة مُبرِزٍ في الخارج لا يقتضي بدَوْره مثل هذا الاختصاص أيضاً؛ إذ من المعلوم بداهةً أن هذا الأمر هو مجرّد إبراز وإظهار اعتبار دخول مادّة الفعل في ذمّة المكلّف، وهذا الأمر أجنبيٌّ بالكامل عن اشتراط القدرة في التكليف أو عدم اشتراطها. والنتيجة هي أن نفس التكليف لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلّقه إطلاقاً([28]).
والعقل بدَوْره يرى القدرة شرطاً في ظرف الامتثال فقط، ولا يشترطها في ظرف جعل التكليف. فإذا لم يكن المكلّف قادراً على امتثال التكليف أثناء جعل التكليف، ولكنه كان قادراً على التكليف أثناء امتثال التكليف، يكون تكليفه بمثل هذا التكليف صحيحاً، ولا يكون قبيحاً؛ لأن العقل عندما يشترط القدرة في وجوب إطاعة أمر المولى في ضوء قانون العبودية، ويرى قبح مؤاخذة الشخص العاجز عن إطاعة المولى، يكون ملاك حكم العقل هنا هو أن توجيه التكليف إلى العاجز إنما يكون قبيحاً في مرحلة الامتثال فقط. وعلى هذا الأساس لا يختلف الأمر من وجهة نظر العقل بين وجود القدرة أو عدم وجودها قبل مرحلة الامتثال.
د ـ مقتضى الأصل العمليّ
طبقاً لمبنى الميرزا النائيني ـ الذي يرى أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل: التقابل بين المَلَكة والعَدَم ـ، حيث لا يكون التقييد ممكناً لا يكون الإطلاق ممكناً أيضاً. وفي محلّ بحثنا لا يكون تقييد التكليف بالفعل غير الاختياري ممكناً، وحيث لا يكون التقييد بالفعل غير الاختياري ممكناً سوف لا يكون الإطلاق فيه ممكناً أيضاً. ومع ذلك، لا يصحّ هذا الاستدلال ـ بناءً على مبنى السيد الخوئي، القائل بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل: التضادّ ـ ولا يكون هناك مانعٌ من جريان الإطلاق؛ إذ حيث لا يكون التقييد ممكناً سوف يكون الإطلاق ضروريّاً.
هذا فيما لو كان هناك إطلاقٌ، وأما إذا لم يكن هناك إطلاقٌ فيكون مقتضى الأصل العملي هو البراءة؛ لأن تعلُّق الوجوب بالجامع معلومٌ، وإنما هناك شكٌّ في تعلّقه بخصوص الحصّة المقدورة، وهنا تجري البراءة. ونتيجةُ ذلك أنه لو تحقّق الواجب ضمن فردٍ غير مقدور سوف يسقط الوجوب عن عهدة المكلّف([29]).
ويَرِدُ على هذا الدليل أنه غير صحيحٍ؛ لأن الإطلاق الذي نريده هنا هو الإطلاق الذي يقع في مقابل التقييد بالحصّة الاختيارية؛ لأن إطلاق الطبيعة بالنسبة إلى حصّةٍ من تلك الطبيعة (الحصّة غير الاختيارية) عبارةٌ عن عدم تقييد تلك الطبيعة بشيءٍ يقع في مقابل تلك الحصّة (عدم التقييد بالحصّة الاختيارية)، وليس عدم تقييد الطبيعة بتلك الحصّة.
ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: لو قال المولى: «أكرم العالم» نكون بحاجةٍ إلى الإطلاق لانطباق عنوان العالم على «غير الهاشمي»؛ ولكنْ يجب أن يكون من قبيل: الإطلاق في مقابل التقييد بـ «الهاشمي»؛ إذ نريد أن نثبت أن «العالم» لم يتمّ تقييده بـ «الهاشمي». وعلى هذا الأساس فإن انطباق عنوان العالم على غير الهاشمي من نتائج الإطلاق الذي يقع في مقابل عدم التقييد بالهاشمي، أي إن الإطلاق بالنسبة إلى غير الهاشمي يعني أن عنوان «العالم» لم يتمّ تقييده بالهاشمي. وعليه، إذا كان التقييد بالنسبة إلى الهاشمي ممكناً سوف يكون الإطلاق بالنسبة إلى غير الهاشمي ممكناً أيضاً، وإذا لم يكن التقييد بالنسبة إلى الهاشمي ممكناً سوف لا يكون الإطلاق بالنسبة إلى غير الهاشمي ممكناً أيضاً.
ففي محلّ كلامنا لو قال المولى: «اغسِلْ» كان لمادّة ومتعلّق الأمر الذي هو الغسل حصتان، وهما: الغسل الاختياري؛ والغسل غير الاختياري. والذي نبحث عنه هو إطلاق المادّة بالنسبة إلى الحصّة غير الاختيارية؛ بمعنى أننا نروم إثبات أن المادة تشمل الحصّة غير الاختيارية أيضاً، وعلى هذا الأساس نكون بحاجةٍ إلى إطلاق، ولكنه خصوص ذلك الإطلاق الذي يقع في مقابل التقييد بالحصّة الاختيارية. ومن الواضح أن التقييد بالحصّة الاختيارية أمرٌ معقول ولا إشكال فيه، وعليه فإن الإطلاق الذي يقع في مقابله سوف يكون معقولاً ولا إشكال فيه أيضاً. والنتيجة التي تترتَّب على ذلك هي أنه يمكن إثبات إطلاق المادّة بالنسبة إلى الحصّة غير الاختيارية، والقول بأن المادّة تشمل الحصتين الاختيارية وغير الاختيارية أيضاً([30]).
هـ ـ اللَّغْويّة وعدم الأثر
إن إطلاق المادة بالنسبة إلى الحصّة غير الاختيارية لا يترتّب عليه أثرٌ ويكون لَغْواً؛ لعدم وجود إمكان انبعاث المكلّف نحو هذه الحصّة في مقام الامتثال([31]).
ويكمن اختلاف هذا الدليل عن الدليل الثالث في أن استحالة عدم تقييد الخطابات بالقدرة في الدليل الثالث كانت ناشئةً من استحالة التحريك نحو الفعل غير المقدور؛ وأما في هذا الدليل فإن الكلام يركِّز على لَغْوية الأمر في حالة عدم تقييد التكليف بالقدرة. ومن الجدير ذكره أن بعض المحقِّقين، من أمثال: السيد الخوئي، قد أعاد هذا الدليل الخامس إلى الدليل الثالث([32]).
ويَرِدُ على هذا الدليل أن إطلاق المادّة بالنسبة إلى الحصّة غير الاختيارية ينطوي على ثمارٍ سوف نشير إليها في القسم اللاحق من هذه الدراسة. مضافاً إلى أن هذا الاستدلال لا يكون صحيحاً بناءً على المبنى القائل بالخطابات القانونية أو عدم انحلال التكاليف الشرعية.
2ـ أدلّة النفي ومَدَياتها
يبدو من ظاهر كلمات الإمام الخميني، في بعض كتبه، مثل: (أنوار الهداية) ـ وهو حاشيةٌ على كفاية الآخوند ـ، أنه يرى مرتبتين للحكم الشرعي، وهما: مرتبة الإنشاء؛ ومرتبة الفعلية([33]). بَيْدَ أنه عندما يتعرّض إلى بيان مراده من مراتب الحكم يتضح أن مراده من مراتب الحكم يختلف عن مراد المشهور. ففي ضوء إشكاله على رأي الآخوند والمشهور في مورد الحكم الإنشائي يقول في بيان نظريته: إن الأحكام على نوعين، وهما:
النوع الأوّل: الأحكام الإنشائية. وهي أحكامٌ تمّ إنشاؤها وجعلها على موضوعاتها، وأما في مقام الإجراء والتطبيق فلا تبقى على تلك الحالة، من قبيل: الأحكام الكلِّية قبل دخول المخصِّصات والمقيِّدات عليها، بغضّ النظر عنهما. والمثال الآخر للأحكام الإنشائية هي الأحكام التي لم يحِنْ وقت تطبيقها أصلاً، من قبيل: الأحكام الموجودة عند الإمام المنتظر#، وسوف يحين وقت تطبيقها ـ في ضوء المصالح التي لا يعلمها إلاّ الله عزَّ وجلَّ ـ في عصر ظهور الإمام#.
النوع الثاني: الأحكام الفعلية؛ بمعنى الأحكام التي حان وقت الإتيان بها، واكتملت قيودها وخصائصها، وحانَتْ المدّة الزمنية للعمل بها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن «أوفوا بالعقود»، بما يشتمل عليه من العموم والإطلاق، حكمٌ إنشائي، ولكنْ بعد ورود مخصّصاته ومقيّداته من الكتاب والسنّة يتحوَّل إلى حكمٍ فعلي. وكذلك في عصرنا فإن نجاسة بعض الفِرَق التابعة للإسلام، وكذلك الحكم بكفرهم ـ طبقاً لبعض الروايات ـ، حكمان إنشائيان، وعندما يحين وقت تطبيقهما يصبحان فعليين.
يقول الإمام الخميني: إن مرحلة الاقتضاء ـ التي يعتبرها بعضهم جزءاً من مراتب الحكم ـ إنما هي جزءٌ من مبادئ ومقدّمات الحكم، ولا ربط لها بمراتب الحكم. وإن التنجُّز بدَوْره حكمٌ عقلي لا ربط له بمراتب الحكم، ومعنى ذلك أن المكلّف في حالة العصيان لن يكون معذوراً([34]).
بعد هذه المقدّمة، قال الإمام الخميني: إن القانون الذي يتوجَّه إلى العناوين الكلِّية في التكاليف العامّة ـ من قبيل: الناس والمؤمنون ـ إنما يشتمل على إرادةٍ، ويوجد الدافع لدى المقنِّن فيما لو كان خطابه وأمره بحيث لو وصل إلى المكلّفين تحرَّك عددٌ منهم. وهنا لا يعود من اللازم على الشارع أن يقيِّد أوامره بشرط القدرة وسائر الشرائط العقلية الأخرى، من قبيل: العلم، بل قد يؤدِّي هذا النوع من التقييد في بعض الموارد إلى الاختلال. وعلى هذا الأساس، فإن شرط التكليف في الخطابات القانونية إنما يوجد عند تعلّق الأمر بالمكلَّف، ويكون التكليف شاملاً للجميع.
وبعبارةٍ أخرى: إن قدرة آحاد المكلَّفين ليست شرطاً في الخطابات القانونية، بل حتّى تشخيص المولى بالنسبة إلى كونهم قادرين أو غير قادرين ليس شرطاً أيضاً، وإنما الشرط هو عدم لَغْوية الخطاب القانوني، وهذا إنما يتحقَّق عندما يكون المقنِّن عالماً بأن قانونه يؤثِّر في أكثر الناس.
لو كان من اللازم على المقنِّن في وضع القوانين العامّة أن يحرز أن الجميع سينبعث ويتحرَّك بهذا القانون الصادر عنه فرُبَما أدّى ذلك إلى الاختلال في حكومته. إن المقنِّن يرى في الكثير من الموارد أن الأشخاص في حكومته لا يعملون بالقوانين، ويتمرَّدون عليها؛ ولكنه مع ذلك يواصل وضعَ القوانين وسَنَّها، ولكنْ مع بيان حدودها، ووضع العقوبات على تركها.
من الواضح أن الخطاب الشخصي إلى العاصي أو الخطاب الكلّي إلى العصاة يُعَدّ قبيحاً ومستهجناً، ولا يمكن أن يصدر عن الشخص العاقل الملتفت، وأما الخطاب العامّ الشامل للعصاة وغيرهم فهو ليس غيرَ قبيحٍ فحَسْب، بل هو واقعٌ أيضاً. إن من ضروريات الدين أن الخطابات الشرعية والأوامر الإلهية تشمل العاصين أيضاً، وبناء المحقِّقين قائمٌ على شمول التكاليف للكفّار أيضاً.
هذا، في حين أن توجيه الخطاب الشخصي إلى الكفّار الذين يعلم أنهم يعتزمون الطغيان والتمرُّد من أقبح الأمور المستهجنة، بل لا يكون ذلك ممكناً؛ لأن الغرض من التكليف هو الانبعاث. وعلى هذا الأساس، لو كان حكم الخطابات الكلِّية والعامّة مثل الخطابات الجزئية والشخصية وجب أن نلتزم بأن الخطابات الكلِّية تكون مقيَّدة بغير الكفّار وغير العصاة. وبطلان هذا الرأي واضحٌ. ويوجد هذا الأمر في مورد الجاهل والغافل والنائم ونظائرهم أيضاً. وإن إخراجهم من الحكم ليس عقلانياً، وإذا صحَّ في واحدٍ منهم وجب أن يكون صحيحاً في الآخرين أيضاً؛ لعدم الفرق بينهم. وعلى هذا الأساس فإن الخطاب العامّ بالنسبة إلى جميع الناس ـ من دون تقييد الخطاب بالقادرين ـ صحيحٌ وممكن.
وسرُّ هذا الأمر يكمن في أن الخطابات القانونية الكلِّية تختلف عن الخطابات الشخصية من حيث الملاك وذات الخطاب؛ لأن الخطاب القانوني لا ينحلّ بعدد المكلَّفين، بل هو خطابٌ فعليّ واحد يُحْمَل على عنوانه، دون أخذ حالات آحاد المكلَّفين بنظر الاعتبار.
وعلى هذا الأساس، فإنه على الرغم من أن الخطاب الشخصي بالنسبة إلى الغافل والعاجز والمضطر والعاصي وأمثال هؤلاء قبيحٌ ومستهجن، إلاّ أن صحّة الخطاب العامّ لا تتوقَّف على إيجاد الدافع والحافز عند الجميع، بل يكفي انبعاث عددٍ منهم لجعل الحكم الفعلي على عنوانه، من دون استثناء عددٍ خاصّ. والنتيجة الحاصلة هي أن الخطاب القانوني فعليٌّ بالنسبة إلى جميع المعذورين أيضاً، غاية ما هنالك أنهم معذورون في ترك التكليف الفعليّ. وإن استهجان وقُبْح توجيه الخطاب إلى المعذورين مندفعٌ أيضاً بهذه النكتة، وهي أن الخطاب هنا ليس شخصيّاً، بل هو عامّ وكلِّي.
كما أن القوانين الشرعية التي يتمّ وضعها هي مثل القوانين العُرْفية؛ لأن الشارع لم يخرج عن أسلوب عُرْف الناس إلاّ في بعض الموارد، وحتّى في هذه الموارد لدينا دليلٌ خاصّ على رفع التكليف أيضاً، من قبيل: «رُفع عن أمّتي ما لا يعلمون»، وهذا بحثٌ آخر لا ربط له بمحلّ بحثنا. وعلى هذا الأساس، فإن قول المعصوم× ـ على سبيل المثال ـ: «لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرَّف في مال غيره بغير إذنه» حكمٌ فعلي، ولا فرق فيه بين العالم والجاهل والعاجز والقادر.
يُضاف إلى ذلك أن الإرادة التشريعيّة لله سبحانه وتعالى ليست هي إرادة حمل المكلّف وانبعاث المكلّف نحو العمل؛ لأن لازم ذلك أن لا تكون الإرادة الإلهية قابلةً للانفكاك عن العمل، وأن لا يكون لدى المكلّف القدرة على العصيان. بل إن الإرادة التشريعية لله عبارةٌ عن التقنين والتشريع وجعل التكليف على جميع المكلّفين، وفي هذه الحالة يتمّ تقييم ونقد صحّة أو عدم صحّة الجعل، من خلال أخذ الجعل العام بنظر الاعتبار، ومن الواضح أن صحّة جعل القانون بهذه الطريقة لا يكون مشروطاً بإمكان انبعاث جميع المكلّفين. كما يمكن العثور على هذا الأمر من خلال التأمُّل في القوانين العُرْفية أيضاً([35]).
كما قال السيد الخميني في موضعٍ آخر: إن التكاليف والخطابات الشرعية ليست مقيّدةً من ناحية العقل والشرع بالقدرة العقلية؛ أما أنها ليست مقيّدة بذلك من الناحية الشرعية فلأن الأدلة الشرعية لا تشتمل على شيءٍ يستوجب تقييد التكاليف بالقدرة العقلية. ولو افترضنا ـ جَدَلاً ـ وجودَ مثل هذا الدليل على التقييد فإن لازم ذلك هو القول بأن المكلّف يمكنه أن يخلق لنفسه عذراً ليسقط التكليف عنه، من قبيل: الحاضر والمسافر؛ حيث يكون لكلٍّ منهما حكمه المستقلّ عن الآخر، ومن هنا يمكن للحاضر أن يسافر فلا يشمله حكم الشخص الحاضر، والمسافر أيضاً يمكنه الرجوع إلى وطنه كي لا يشمله حكم المسافر. وعليه، يمكن القول بالنسبة إلى القادر: إن بإمكانه أن يخلق لنفسه عُذْراً ليخرج عن عنوان القادر، فلا يشمله حكم القادر؛ في حين لا أظنّ أن شخصاً يقبل ذلك.
وكذلك يجب علينا القول بوجوب جريان أصالة البراءة عند الشكّ في القدرة ـ كما هو الحال بالنسبة إلى الاستطاعة في الحجّ ـ؛ لأنه يعود إلى الشكّ في التكليف، وفي موارد الشكّ في التكليف يذهب الجميع دون استثناءٍ إلى القول بأن المورد من موارد جريان أصالة البراءة؛ في حين لا يقبل أحدٌ بهذا الأمر بالنسبة إلى تقييد القدرة، بل الجميع يقول بالاحتياط، وهذا يُثبت أنه لا يوجد أيّ دليلٍ على التقييد الشرعي للتكاليف بالقدرة.
وأما أن التكاليف الشرعية بدَوْرها غير مقيَّدةٍ بالقدرة من الناحية العقلية فلأن التقييد العقلي للتكاليف يعني تصرُّف العقل في الأدلة الشرعية، وليس في ذلك عودةٌ إلى أمرٍ محصَّل، كما أنه ليس منطقياً، بل إن تصرُّف العقل في الإرادة أو الجعل لا ينطوي على معنى معقول؛ لأن التقييد والتصرّف إنما يمكن لجاعل الحكم فقط، دون سواه. وبعبارةٍ أخرى: إن تصرّف العقل في الحكم والإرادة الشخصية للآخر ـ في الوقت الذي يكون معه المشرِّع والمقنِّن بدَوْره شخصاً آخر ـ باطلٌ؛ إذ لا معنى لأن يتدخَّل الشخص غير المشرِّع في حكم شخصٍ آخر.
وبطبيعة الحال فإن لدى العقل حكماً في مقام الطاعة والعصيان، ويحكم بأن مخالفة حكم الشارع في أيّ موردٍ تؤدّي إلى استحقاق العقاب، وفي أيّ موردٍ لا تؤدّي إلى استحقاق العقاب؛ بسبب معذورية المكلّف؟ وعلى هذا الأساس فإن العقل إنما يحكم بأن الجاهل والعاجز وأمثالهما يكونون معذورين في ترك الواجب أو ارتكاب الحرام، ولا يتصرَّف في الأدلة([36]).
تقييد التكاليف بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ، نظرٌ وتحقيق
إن الذين يقولون بتقييد الأحكام الشرعية بالقدرة التكوينية بالمعنى الأخصّ يدَّعون أن هذا المقدار من التقييد في التكليف ليس كافياً، بل لا بُدَّ من التعمُّق في هذه المسألة بشكلٍ أكبر. إنهم يقولون: كما لا يصحّ تكليف العاجز عن الصلاة بأدئها، كذلك لا يصحّ تكليف المكلّف بالصلاة بالتزامن مع تكليفه بواجبٍ آخر، بحيث لا يستطيع الإتيان بهما معاً؛ إذ لو أراد الإتيان بأحدهما سوف يفوته الإتيان بالآخر.
وعلى هذا الأساس، لو افترضنا أن الشخص مكلّفٌ في اللحظة الراهنة بإنقاذ الغريق فلا يمكن في الوقت نفسه أن يكون مكلّفاً بأداء الصلاة، بحيث يكون هذا الأمر فعليّاً عليه؛ إذ لا يمتلك القدرة على القيام بذلك. وعليه، ما لم يتمكَّن المكلّف من الجمع بين الحكمين فإن هذا الشخص لن يكون مكلّفاً بالجمع بينهما؛ لاستحالة التكليف بغير المقدور بحكم العقل، والفرض يقوم على أن المكلّف غير قادر على الجمع بين الحكمين المتضادّين. كما يتمّ بحث هذه المسألة تحت عنوان «إمكان أو استحالة الأمر بالضدّين على نحو الترتُّب» أيضاً([37]).
بناءً على نظرية عدم انحلال الخطابات القانونية يكون الأمر بالضدّين مقدوراً وممكناً؛ بَيْدَ أن امتثال كلا المتعلّقين معاً لا يكون مقدوراً؛ لأن الأمر إنما يتعلّق بنفس الطبيعة، وليس بالخصوصيات والحالات. وعليه، لا نحتاج إلى الاستفادة من الترتُّب في حالات التزاحم.
يقول الإمام الخميني: لا يوجد في الخطابات القانونية نظرٌ إلى فردٍ بعينه، وإن توجيه أمرين إلى عموم المكلّفين جائزٌ. وعليه، لو صار وجوب الصلاة على المكلّف فعلياً في وقت الزوال وجب عليه امتثال تلك الصلاة؛ وأما المكلّف الذي يكون في وقت الزوال، بالإضافة إلى وجوب الصلاة، مكلَّفاً بإزالة النجاسة من المسجد، وكان هذا التكليف فعليّاً في حقِّه أيضاً، وجب عليه من الناحية العقلية أن يعثر على طريقٍ للقيام بكلا الأمرين معاً؛ وإذا عجز عن ذلك كان معذوراً. في هذا النوع من الموارد تارةً يكون كلا الواجبين على مستوىً واحدٍ من الأهمّية، من قبيل: إنقاذ شخصين غريقين، دون أن يكون إنقاذ أحدهما أهمّ من إنقاذ الآخر؛ وتارةً أخرى يكون هناك أهمٌّ ومهمٌّ، من قبيل: حكم الوجوب الفوري بتطهير المسجد من النجاسة الأهمّ من وجوب الصلاة مع سَعَة الوقت.
في الحالة الأولى يحكم العقل بأن المكلّف مخيَّرٌ بالقيام بأحد الواجبين. وعليه، يكون المكلّف معذوراً في ترك التكليف الآخر، من دون أيّ تقييدٍ في التكليف. ولو أن المكلّف خالف الأمر، ولم ينقذ أيّ واحدٍ من الغريقين، فسوف تثبت في حقِّه عقوبتان، وإنْ انشغل في الوقت نفسه بارتكاب فعلٍ حرام، سوف يكون مستحقّاً لثلاث عقوبات؛ لأن البحث يقع في الأحكام القانونية، وهي ناظرةٌ إلى عموم المكلّفين، وليس إلى حالة التزاحم واجتماع التكاليف بالنسبة إلى بعض المكلّفين.
وفي الحالة الثانية؛ حيث يكون هناك مهمٌّ وأهمّ، فإن العقل لا يحكم بالتخيير، وإنما يحكم بوجب امتثال الأهمّ. وعليه، فإن المكلَّف لو انشغل بامتثال الأهمّ سوف يكون معذوراً في ترك المهمّ، وليس عليه عقاب. وأما لو انشغل بامتثال المهمّ فلن يكون معذوراً في ترك الأهمّ، وإنْ كان ما قام به صحيحاً. وعليه، يكون مستحقّاً للثواب؛ بسبب امتثال المهمّ، ومستحقّاً للعقاب ـ في الوقت نفسه ـ؛ بسبب تركه لامتثال الأمر الأهمّ. وكذلك لو ترك الأمرَيْن كان عليه عقابان، وإن ارتكب حراماً آخر في الوقت نفسه كان عليه ثلاث عقوبات. وعليه، أوّلاً: إن الأهمّ والمهمّ مثل المتساويين؛ حيث يكون التكليف بهما فعليّاً. وثانياً: في الأحكام القانونية ـ كما فيما نحن فيه ـ لا يكون الأمر بالشيء مقتضياً لعدم الأمر بضدّه.
ثم أكّد السيد الخميني على أن خطأ أساتذة الأصول نشأ ـ على ما يبدو ـ من الخلط بين الخطابات القانونية والخطابات الشخصية. ثمّ قال: قد يُشْكَل بأن الإهمال في مقام الثبوت غير معقولٍ، وأن المولى في مقام الجعل يعلم بحالة التزاحم بالنسبة إلى المكلَّف، وبالتالي فإنه إما أن يعمل على تقييد جعله بالنسبة إلى حالة عدم التزاحم، أو يعمل على تقييد ذلك. وفي الحالة الأولى يلزم تعلُّق الإرادة التشريعية للمولى بالمحال، وفي الحالة الثانية يلزم التقييد.
ونقول في الجواب عن هذا الإشكال: إن الحاكم في جعل الحكم إنما يكون ناظراً إلى موضوع حكمه وكلّ ما يكون داخلاً فيه، وإن الحالات العارضة على المكلّف أو العارضة على التكليف بعد إتمام الجعل لا تكون داخلةً في الموضوع. وعلى هذا الأساس، لا يوجد إهمالٌ بالنسبة إلى جعل المولى في مقام الثبوت. وأما أن يجب على المولى لحاظ جميع الحالات العارضة على التكليف والمكلّف، وأن يجعل الجعل مطلقاً أو مقيَّداً، ولا يمكنه أن يتركه مهملاً، فإن هذا الشيء باطلٌ بالضرورة.
وفي ختام هذا البحث قال الإمام الخميني أيضاً: إن ما قيل حتّى الآن بشأن الخطابات القانونية إنما كان بالنظر إلى القوانين العُرْفية والطريقة العقلائية بين السلاطين والموالي من جهةٍ، وبين الرعايا والعبيد من جهةٍ أخرى. وحيث إن الأحكام الشرعية تشتمل على زَجْرٍ وبَعْثٍ، وإن الاحتجاج بدَوْره أمرٌ عقلائيّ بالمطلق، فإن الشارع يضطر في مورد الاحتجاج إلى انتهاج الأسلوب العُرْفي([38]).
الآثار الفقهيّة والأصوليّة
1ـ قاعدة «الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار»
بناءً على القول بتقييد التكاليف بالقدرة، فإن التكاليف الشرعية لا تكون من البداية شاملةً للعاجز، وإنما تخصّ الأشخاص القادرين على الفعل والترك. ومع ذلك فإن قدرة المكلّف القادر على الفعل والترك قد تزول بعد بلوغ التكليف مرحلة الفعلية، وقد يعود زوال القدرة إلى أحد هذه الأسباب:
السبب الأوّل: عصيان المكلَّف. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن المكلّف يمكنه أن يقيم الصلاة في أوّل وقتها، ولكنه يؤخِّر الصلاة حتّى لا يبقى أمامه وقتٌ كافٍ للقيام بالواجب. وفي هذه الحالة فإن المكلَّف وإنْ كان لا يستطيع امتثال الحكم بوجوب الصلاة، إلاّ أن سبب عجزه وزوال قدرته يعود إلى معصيته وعدم إطاعته للمولى.
السبب الثاني: تعجيز الذات، بمعنى أن المكلّف يستطيع امتثال التكليف في وقته، ولكنّه يقوم بشيءٍ بحيث لا يعود بمقدوره امتثال التكليف، أو لا يأتي بمقدّمات الواجب، وبالتالي سوف يعجز عن الإتيان بالواجب. كأنْ يحين وقت الصلاة، ويكون الماء والتراب للطهارة متوفِّراً لديه، ولكنه يتعمَّد إراقة الماء وتنجيس التراب، وبذلك يعمل على تعجيز نفسه عن إقامة الصلاة؛ إذ لا يعود بمقدوره تحقيق الطهارة الواجبة للقيام بالصلاة عن طهارةٍ.
السبب الثالث: العجز المفاجئ للمكلَّف، والذي يقع بسببٍ خارجٍ عن إرادة المكلّف، كأن يدخل وقت الصلاة على المكلّف ويكون لديه ماءٌ وترابٌ، ولكن يهجم عليه شخصٌ فيقوم بإهراق مائه وتنجيس ترابه. وفي هذه الحالة يكون عجزه عن الطهارة طارئاً عليه، ولذلك لا يمكنه أداء الصلاة عن طهارةٍ، دون أن يكون له يدٌ في هذا العجز؛ لأن سبب العجز كان بعاملٍ داخلٍ عليه من الخارج.
من الواضح أنه في الحالة الأولى ـ أي حالة العصيان ـ يكون العقاب ثابتاً، بمعنى أن المكلَّف يكون مسؤولاً، ويكون مستحقّاً للعقاب؛ بسبب معصيته؛ لأن العقل الذي يعتبر التكليف بغير المقدور قبيحاً، ويرى قُبْح معاقبة المكلّف العاجز، لا يكون ملاكه في استحقاق العقاب أن تكون قدرة المكلّف باقيةً في كامل وقت الواجب، بل ملاكه مجرّد وجود القدرة على الامتثال، حتّى إذا لم تستمرّ إلى آخر الوقت. وإن هذا الملاك موجودٌ في الحالة الأولى.
وأما الحالة الثانية فسوف نتعرَّض لها في القسم اللاحق بشكلٍ مستقلّ.
وأما في الحالة الثالثة فيجب علينا القول بالتفصيل بين حالة ما إذا كان المكلّف يعلم بأنه سوف يعجز، ولكنه قصّر ولم يفعل شيئاً حيال عجزه، ولم يمتثل الواجب حتّى عرض له العجز بالفعل؛ وبين حالة ما إذا لم يعلم:
ففي الحالة الأولى ـ التي كان يعلم فيها منذ البداية أنه سوف يعجز ـ يكون مستحقّاً للعقاب؛ لأن علم المكلّف بأنه سوف يعجز يجعله مثل الحالة الأولى؛ أي مثل الشخص الذي يتعمَّد تأخير صلاته بحيث لا يبقى لديه وقت لأداء الواجب، وبذلك يعمل على تعجيز نفسه عن امتثال التكليف؛ لأن الشخص العاصي يعلم أن للصلاة وقتاً محدّداً، وأن وقت الصلاة سوف ينتهي بعد انقضاء هذه المدّة، وعندها لن يكون قادراً على الامتثال، ومع ذلك لم يمتثل الواجب.
وإن الشخص العالم يعلم أيضاً أنه سرعان ما سيعجز عن أداء التكليف، ولن يعود بمقدوره امتثال الواجب؛ ولذلك يكون لديه وقتٌ محدَّد للامتثال، ويعلم أنه بعد هذا الوقت المحدّد سوف يعرض له العجز، ولن يكون بعدها قادراً على امتثال الواجب؛ ولكنه والحال هذه تقاعس ولم يمتثل الواجب في ذلك الوقت الذي كان قادراً فيه على القيام به، ولذلك يكون هو الآخر بحكم العاصي.
وأما في حالة عدم العلم فلا يعود بالإمكان القول: إن المكلّف يستحقّ العقاب بسبب عدم امتثال الواجب؛ لأن سبب عجزه كان خارجاً عن إرادته واختياره، كما أنه لم يكن عالماً بأنه سوف يعجز([39]).
إن للمتكلِّمين والأصوليين عبارةً شهيرةً تشير إلى هذه المسألة: «الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً»، بمعنى أن عدم القدرة إذا كان سببه سوء اختيار المكلّف فسوف يكون المكلّف مستحقّاً للعقاب؛ لأن استحقاق العقاب لا يتوقّف على وجود واستمرار القدرة إلى آخر الوقت.
بَيْدَ أن السؤال المهمّ هنا هو: إنه بعد عجز المكلّف بسوء الاختيار هل من الصحيح أن يعمل المولى على توجيه التكليف إليه؟ وبعبارةٍ أخرى: عندما نقول: إن الاضطرار بسوء اختيار المكلّف لا ينافي اختياره فهل المراد منه أنه لا ينافي اختياره من جهة استحقاق العقاب فقط، إلاّ أن أصل التكليف الفعلي لا يكتب له البقاء، ويسقط عن عهدة المكلّف، أم لا يتنافى من ناحية التكليف أيضاً، وإن التكليف لا يسقط من عهدة المكلّف، ويبقى فعلياً؟
بناءً على القول بتقييد الأحكام بالقدرة فإنه مع وقوع العجز ـ لأيّ سببٍ كان، ولو بسوء اختيار المكلّف ـ يسقط التكليف عن عهدة المكلّف. وبالتالي فإن العقاب في حالة سوء اختيار المكلّف لا يرتفع، ويبقى المكلّف مستحقّاً للعقاب؛ بَيْدَ أن تكليفه بغير المقدور محالٌ عقلاً، ولذلك فإن التكليف بالنسبة إليه يسقط عن الفعلية.
وعلى هذا الأساس، فإن مشهور الأصوليين أضافوا ـ بعد هذه العبارة الشهيرة ـ عبارةً أخرى أيضاً، وقالوا: «إن الاضطرار بسوء الاختيار لا يُنافي الاختيار عقاباً، ولكنّه ينافيه خطاباً»، ومرادُهم من المنافاة هو سقوط التكليف([40]). ومع ذلك فإنه؛ بالنظر إلى رفضنا لمبنى تقييد الأحكام بالقدرة، لا يوجد دليلٌ على سقوط فعلية التكليف. وعليه فإننا لا نرتضي القسم الثاني من العبارة المذكورة.
كما أن السيد الشهيد الصدر قد ردَّ ببيانٍ آخر قولَ مشهور الأصوليين في مورد سقوط التكليف بسوء اختيار المكلّف. يقول&: إذا كان مراد المشهور من أن الخطاب والتكليف لا يتَّجه إلى العاجز وأن التكليف يسقط عنه هو زوال وسقوط جدوائية ومحرّكية ودافعية التكليف كان هذا الكلام صحيحاً ومتيناً بالكامل. وبعبارةٍ أخرى: إنْ كان معنى المنافاة هو أن العاجز ـ أيّاً كان سبب عجزه ـ لن يتحرَّك باتجاه الفعل، ولذلك فإن الخطاب لا ينطوي على أيّ محرّكيّةٍ بالنسبة إلى متعلّقه، كان هذا الكلام صحيحاً تماماً؛ لأن المكلّف عندما يكون عاجزاً لا يكون هناك معنى للمحرّكية، سواء أكان عجزه بسوء اختياره أم لم يكن بسوء اختياره. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن العاصي بعد أن يدخل الأرض المغصوبة حتّى إذا كان خطاب: «لا تغصِبْ» باقياً بالنسبة إليه على فعليّته فإن هذا لا يُحْدِث محرّكية بالنسبة إلى هذا الخطاب؛ لأنه مضطرٌّ إلى الخروج، وإن هذا الخروج منه يُعَدّ عملاً غصبيّاً([41]).
وأما إذا كان مرادهم أن التكليف يسقط عن الفعلية، وأن التكليف ـ بمعنى المجعول ـ يكون ساقطاً، فهذا غيرُ صحيحٍ؛ والدليل على ذلك هو أن وجوب المجعول إنما يرتفع فيما لو كان مشروطاً بالقدرة من حيث الوجود، ومن حيث البقاء. وأما إذا كان وجوب المجعول مشروطاً بالقدرة من حيث الحدوث فقط، بمعنى أنه مشروطٌ بالقدرة في خصوص ذلك المقدار الذي يحقّق المسؤولية والعقوبة، وفي هذه الحالة سوف يكون مجرَّد حدوث القدرة في أول الوقت كافياً لصحّة المسؤولية والعقاب، ويعمل على تحقيق المسؤولية، ولا ضرورة إلى بقاء القدرة إلى انتهاء الوقت.
وعلى هذا الأساس، يجب أن نرى إلى أيّ حدٍّ يكون التكليف المجعول مشروطاً بالقدرة؟ وهل هو مشروطٌ بحدوث وبقاء القدرة إلى نهاية الوقت أم هو مشروطٌ بالقدرة بمقدار ما يحقّق مسؤولية المكلّف؛ أي بمجرَّد حدوثها في أول الوقت؟
والجواب هو أن التكليف المجعول إنما يكون مشروطاً بالقدرة بمقدار تحقيق العقاب فقط؛ لأن المولى قد وضع التكليف بداعي تحريك المكلّف، وإن تحريك المكلّف إنما يمكن حيث يكون هناك عقابٌ، ويحكم العقل باستحقاق المكلّف للعقاب في حالة العصيان. وعلى هذا الأساس، ما لم يكن هناك عقابٌ لن يكون تحريك المكلّف من قِبَل المولى ممكناً. وعليه فإن تحريك المكلّف يكون مشروطاً بالعقاب.
وبالنظر إلى ما سبق ذكره من أن العقاب ـ بنظر العقل ـ إنما يكون مشروطاً بحدوث القدرة، ولا يكون مشروطاً ببقائها، فإن التكليف المجعول الذي يتمّ وضعه بداعي تحريك المكلّف سوف يكون مشروطاً بحدوث القدرة؛ إذ بمجرّد حدوث القدرة يكون العقاب ثابتاً، وبمجرّد ثبوت العقاب يتحقّق تحريك المكلّف أيضاً. وبالتالي يجب تصحيح العبارة الشهيرة، والقول: «إن الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً»، حيث المراد من الخطاب في هذه العبارة هو فعليّة التكليف المجعول، وليس فاعلية التكليف([42]).
2ـ إمكان الأمر بـ «الجامع بين المقدور وغير المقدور»
إن الفعل غير المقدور، من حيث تعلّق التكليف به، قابلٌ للتصوُّر على شكلين:
الشكل الأوّل: أن يكون متعلّق التكليف عنواناً لا يكون مقدوراً في جميع حصصه وأقسامه، ويكون التكليف قد تعلّق بعين هذا العنوان.
الشكل الثاني: أن يكون متعلّق التكليف عنواناً، أو أن يكون ـ بعبارةٍ أخرى ـ عنواناً جامعاً، وتكون بعض حصصه وأقسامه مقدورةً، وبعضها الآخر غير مقدور.
من الواضح أنه طبقاً للمبنى الثاني ـ أي عدم تقييد التكاليف بالقدرة ـ يكون الأمر على كلا الشكلين ممكناً، وليس هناك أيّ إشكالٍ فيه. في حين أنه طبقاً لمبنى تقييد الأحكام بالقدرة سوف تنطبق قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور على الشكل الأوّل، ويكون جعل هذا النوع من الحكم والتكليف من قِبَل المولى مستحيلاً.
ولبحث ما إذا كانت قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور تنطبق على الشكل الثاني من التكليف ـ بمعنى التكاليف والأحكام التي يكون بعض حصصها مقدوراً وبعضها الآخر غير مقدور ـ أو لا تنطبق يجب أن نرى كيفيّة وشكل تعلّق الحكم بالعنوان الذي وقع متعلّقاً للحكم الشرعي. لو أن حكماً تعلّق بهذا العنوان الجامع على نحو الإطلاق الشمولي أو العموم الاستغراقي أو المجموعي فمع ذلك سيكون هذا النوع من التكليف مستحيلاً أيضاً؛ والدليل على هذه الاستحالة هو أن معنى الإطلاق والعموم الشمولي هو انحلال الحكم إلى آحاد أفراد ذلك العنوان، وعليه فإن كل حصّةٍ وكلّ قسمٍ مقدور وغير مقدور من العنوان سوف يقع متعلقاً للحكم، وبالتالي فإن آحاد الحصص غير المقدورة من العنوان تقع بدَوْرها متعلقاً للحكم، وسوف تكون من مصاديق التكليف بغير المقدور، وهو محالٌ مثل الشكل الأوّل.
وأما إذا كان تعلّق الحكم بالعنوان الجامع على نحو الإطلاق أو العموم البَدَلي، وبعبارةٍ أخرى: إذا كان مطلوب المولى من التكليف حصّةً واحدة وقسماً واحداً من مجموع حصص العنوان، ففي مثل هذه الحالة سوف يكون محلّ البحث هنا هو: هل هذا العنوانُ الجامع بين الحصص المقدورة وغير المقدورة مقدورٌ؟ وبالتالي هل التكليف بهذا العنوان عقلانيٌّ أيضاً أم أن هذا العنوان الجامع لا يكون مقدوراً، ويكون التكليف به محالاً أيضاً؟
لقد وقعَتْ هذه المسألة محلاًّ للبحث بين العلماء، وهناك أقوالٌ في هذا الشأن:
إن المحقّق النائيني من القائلين باستحالة تعلُّق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وقال بأن ظاهر صيغة الأمر في أن الحكم صادرٌ بداعي تحريك وبعث المكلَّف، بمعنى أن المولى قد أصدر هذا الأمر بداعي إيجاد الدافع في نفس المكلّف. وعلى هذا الأساس؛ حيث يكون تحريك المكلّف نحو الفعل غير المقدور له محالٌ، فسوف يكون هذا الظهور الحالي قَيْداً لُبِّياً متصلاً بالخطاب؛ حيث يقيّد متعلق الخطاب بالحصّة المقدورة([43]).
بَيْدَ أن هذا الدليل غيرُ صحيحٍ؛ لأن اعتبار القدرة في التكليف ـ سواءٌ أكان بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ـ إنما هو بسبب أن التكليف بغير المقدور لَغْوٌ، ومن الطبيعي أن يؤدّي هذا الدليل إلى استحالة تعلُّق التكليف بالحصة غير المقدورة فقط، ولكنّه لا يؤدّي إلى تعلّق التكليف بصرف الحصّة المقدورة؛ إذ غاية ما يتقضيه هدف المولى من بعث وتحريك المكلّف هو أن يكون متعلّق التكليف مقدوراً، ومن الواضح أن الجامعَ بين المقدور وغير المقدور مقدورٌ أيضاً. وعليه، ليس هناك إشكالٌ في تعلُّق الخطاب بالجامع بين المقدور وغير المقدور. وفي هذه الحالة لا يعود هناك فرقٌ بين أن يكون اشتراط القدرة في التكليف بحكم العقل أو بمقتضى نفس الخطاب([44]).
وعلى هذا الأساس، لا يكون هناك سوى طلبٍ وتحريكٍ واحد فقط، وقد تعلَّق بمتعلَّق الأمر على نحو صرف الوجود، ومتعلّق الأمر بدَوْره هو الجامع بين الفعل الاختياري وغير الاختياري. وهذا الجامع مقدورٌ بالنسبة إلى المكلّف؛ إذ يكفي في القدرة على نحو صرف الوجود أن يكون بعض الأفراد مقدوراً.
ومن الجدير ذكره بطبيعة الحال أنه طبقاً للقول بعودة التخيير العقلي إلى التخيير الشرعي فإن الأمر الذي تعلّق هنا بصرف الوجود ينحلّ إلى أوامر بعدد الأفراد، بحيث يكون وجوب كلّ واحدٍ من الأفراد مشروطاً بترك الأفراد الأخرى. وفي هذه الحالة يَرِدُ إشكالٌ بالنسبة إلى تعلّق الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وبعبارةٍ أخرى: لو قلنا بأن الأمر الذي تعلّق بالعنوان الجامع على نحو صرف الوجود يسري من العنوان إلى المعنون، وبالتالي يكون لدينا أمرٌ بالنسبة إلى الحصّة الاختيارية، ولدينا كذلك أمرٌ آخر بالنسبة إلى الحصّة غير الاختيارية أيضاً، وهنا لا يمكننا القول بأن الأمر قد تعلّق بالجامع بين المقدور وغير المقدور. ومهما كان فإن هذه النظرية غيرُ صحيحةٍ، وإن التخيير العقلي لا يعود إلى التخيير الشرعي. ففي موارد التخيير العقلي لا يوجد سوى أمرٍ واحد يتعلّق بالطبيعة والعنوان الكلّي، وعلى نحو صرف الوجود([45]).
وتظهر ثمرة هذا البحث فيما لو أن الحصّة غير المقدورة أصبحت بعد ذلك مقدورةً للمكلّف؛ فإنه بناء على رأي المحقِّق النائيني القائل بعدم وجود وجوب بالنسبة إلى هذه الحصّة من البداية، يكون وجوب هذه الحصّة بحاجةٍ إلى دليلٍ آخر؛ وأما بناءً على القول بإمكان الأمر بالجامع فلا نحتاج إلى دليلٍ آخر لإثبات وجوب هذه الحصّة، ويمكن لنا التمسُّك بذات دليل الأمر بالجامع؛ لأن هذا الدليل قد شمل الحصّة المقدورة والحصّة غير المقدورة منذ البداية، وإن الإشكال الوحيد الذي كان موجوداً هو عجز المكلَّف بالنسبة إلى الحصّة غير المقدورة، وقد ارتفع هذا الإشكال بحَسَب الفَرْض.
وأما الثمرة الأخرى المترتِّبة على ذلك فهي أنه لو حدث امتثالُ الحصّة غير المقدورة عَرَضاً وصدفةً، ومن دون اختيارٍ من قِبَل المكلّف؛ فإنه بناء على رأي المحقِّق النائيني لا يتحقَّق امتثال الواجب بذلك؛ إذ لم تكن هذه الحصّة مشمولةً للوجوب أصلاً، ولم تكن داخلةً في التكليف والعهدة؛ وأما بناءً على قول العلماء الآخرين القائلين بالإمكان ـ من أمثال: المحقِّق الثاني([46])، والسيد الشهيد الصدر ـ يكون هذا الامتثال مُجْزِياً، وبذلك يسقط التكليف عن عهدة المكلّف([47]).
3ـ جواز التعجيز قبل دخول الوقت
إن لتعجيز النفس عن امتثال التكليف صورتين: الأولى: أن يتحقَّق التعجيز بعد فعلية الوجوب؛ الثانية: أن يتحقّق التعجيز قبل فعلية الوجوب، من قبيل: الشخص الذي يكون بحوزته ماء وتراب للطهارة، فيعمل قبل دخول وقت الصلاة على إهراق الماء وتنجيس التراب، إن هذا الشخص يكون قد أعجز نفسه عن إقامة الصلاة عن طهارة في زمن وجوب الصلاة.
من الواضح أن تعجيز النفس عن العمل بالواجب في الصورة الأولى غير جائزٍ؛ لأنه معصية.
وأما في الصورة الثانية فإنه بناءً على عدم القول بتقييد الأحكام والتكاليف بالقدرة يكون المكلّف مع ذلك مستحقّاً للعقاب؛ لفعلية التكاليف والأحكام الشرعية بالنسبة إلى عموم المكلّفين، وإن العقل يرى قُبْح تعجيز المكلّف لنفسه، سواء صدر عنه هذا التعجيز قبل دخول الوقت أو بعده، ويراه مستحقّاً للعقاب؛ لأن الملاك قد أصبح فعلياً في حقّه، وإنه بتعجيزه لنفسه يكون قد فوَّت ملاك الفعل ومصلحته.
وأما بناءً على القول بتقييد الأحكام والتكاليف بالقدرة فيمكن القول: إن هذا الأمر جائزٌ، ولا يكون المكلّف بنظر العقل عاصياً؛ إذ لم يكن هناك عند تعجيزه لنفسه وجوبٌ فعلي بالنسبة إليه، وبعد دخول الوقت لا يوجد وجوبٌ فعلي في حقّه أيضاً؛ لأن الأحكام الشرعية مشروطةٌ بالقدرة، والمفروض هنا أن المكلّف لم تعُدْ لديه القدرة على القيام بالفعل.
ولكنْ مع ذلك لا يكون هذا الكلام تامّاً؛ إذ إنما نظر إلى القدرة العقلية (في مصطلحها الأول) فقط، وتجاهل القدرة الشرعية. والصحيح هنا هو وجوب التفريق بين القدرة العقلية والقدرة الشرعية. توضيح ذلك: إن القدرة ـ التي هي شرطٌ في الوجوب ـ لو كانت هي القدرة الشرعية فإن التعجيز المذكور سوف يكون جائزاً؛ إذ بالنظر إلى أن المكلّف قد أعجز نفسه لا يكون هناك ملاكٌ ثابت في حقّه عند حلول الوقت؛ فالفرض على أن ملاك الواجب بعد دخول الوقت إنما يكون ثابتاً في حقّ الشخص القادر فقط، وبالتالي يكون بإمكانه أن يعمل قبل حلول الوقت على تعجيز نفسه.
وأما إذا كانت شرطية القدرة في التكليف عقليةً فلا يجوز للمكلّف أن يعمل على تعجيز نفسه قبل دخول الوقت عقلاً؛ إذ إن ملاك الواجب بعد دخول الوقت ثابتٌ في حقّ القادر والعاجز على السواء؛ وعليه فإن العقل يحكم بأن المكلّف لا يجوز له أن يعمل على تفويت ملاكٍ من المقرَّر أن يكون فعليّاً في حقّه بعد حلول الوقت، ويعمل على تعجيز نفسه عن امتثال التكليف([48]).
وقد يُدَّعى أنه في ضوء قاعدة «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» يمكن القول: إن كلّ شرطٍ عقلي هو في الحقيقة شرطٌ شرعي أيضاً؛ وعليه فإن جميع الآثار التي تترتّب على شرعية شرط القدرة تترتَّب على عقلية شرط القدرة أيضاً([49]).
4ـ وجوب القضاء
لو عجز المكلّف عن القيام بواجبٍ مأمورٍ به في وقته، كالذي يُغْشى عليه ولا يتمكّن من أداء صلاة الصبح في وقتها، أو الذي يمرض في شهر رمضان فلا يستطيع الصوم، فهل يقضي هذا الشخص صلاته وصيامه أم لا؟
وهنا لو كان المبنى الفقهي لنا هو أن وجوب القضاء يحتاج إلى دليلٍ آخر؛ أي إننا لا نستطيع إثبات وجوب القضاء بنفس دليل وجوب الأداء، لا يكون في البين استعمالٌ وتطبيقٌ لدليل اشتراط القدرة في الأحكام والتكاليف. وأما إذا كان المبنى الفقهي لنا هو أن وجوب قضاء الفعل الذي أُمر به المكلّف ولم يتمكّن من القيام به في وقته لا يحتاج إلى دليلٍ آخر، ويمكن إثبات وجوب القضاء بنفس دليل وجوب الأداء، فتكون مسألة اشتراط القدرة في الأحكام والتكاليف مُجْدِيةً وقابلةً للتطبيق بالنسبة إلينا.
توضيح ذلك: إننا لو علمنا بأن ملاك الحكم يكون فيما نحن فيه فعلياً حتى في حقّ العاجز أيضاً، وإن الفعل الواجب، مثل: الصلاة، ينطوي على مصلحةٍ حتى بالنسبة إلى العاجز عن أدائها في وقتها، بَيْدَ أن هذه المصلحة تفوته بسبب عجزه عن أداء الصلاة في وقتها، عندها يكون القضاء واجباً على هذا المكلّف العاجز.
وأما إذا قلنا بأن ملاك الحكم لا يشمل العاجز من الأساس، ولا يكون الحكم فعليّاً في حقّه، فإنه بالنظر إلى وجود عجزه بالنسبة إلى امتثال الصلاة في وقتها لن يكون قد فاته الملاك والمصلحة، وبالتالي لا يكون القضاء واجباً على المكلّف.
وبعبارةٍ أخرى: لو قلنا بأن القدرة شرطٌ في الملاك أيضاً، ولذلك لا يكون فعلياً بالنسبة إلى العاجز، فلا يكون القضاء واجباً. وأما إذا قلنا بأن القدرة ليست شرطاً في الملاك، ولذلك يكون الملاك فعليّاً حتّى في حقّ العاجز أيضاً، ففي هذه الحالة يكون القضاء واجباً.
وبعبارةٍ أخرى: لو كانت القدرة التي هي شرطٌ في التكليف قدرةً عقلية (في مصطلحها الأوّل) يكون القضاء واجباً؛ وأما إذا كانت القدرة شرعيةً فلا يكون القضاء واجباً.
فكيف يمكن لنا أن نعرف أن القدرة المذكورة شرعيّةٌ أم عقليّةٌ؟
لو أن الشارع المقدَّس قد ذكر القدرة واشترطها ضمن دليلٍ، وكانت القدرة موجودةً في المدلول المطابقي للكلام، فسوف ندرك بالدلالة الالتزامية أن الملاك مشروطٌ بالقدرة أيضاً؛ وأما لو لم يذكر الشارع المقدَّس القدرة في المدلول المطابقي للخطاب الشرعي، وكان الخطاب مطلقاً من جهة القدرة، فإن المسألة هنا تكون على صورتين:
الصورة الأولى: لو قلنا بأن القدرة شرطٌ في ذات التكليف؛ أي إنها شرطٌ في مرتبة الجعل والاعتبار، ففي هذه الصورة سوف يكون حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة قرينةً على تقييد إطلاق الخطاب الشرعي بالقدرة، وكأنّ التكليف الشرعي لم يتَّجه إلى العاجز أصلاً، وإنما هو متَّجهٌ في الأصل إلى القادر فقط.
وفي هذا الحالة لا نستطيع إثبات أن ملاك الحكم ثابتٌ في حقّ العاجز أيضاً، وأنه قد فاته الملاك بسبب عجزه؛ إذ لا دليل لنا على ذلك؛ لأن الاعتبار يُعَدّ هو المدلول المطابقي للخطاب، والملاك بدَوْره هو المدلول الالتزامي للخطاب، وبالتالي فإنه عندما يسقط المدلول المطابقي للخطاب في شموله للعاجز عن الحجِّية، ويختصّ بالقادر فقط، فإن المدلول الالتزامي للخطاب ـ أي الملاك ـ سوف يسقط عن الحجِّية أيضاً؛ لأن المدلول الالتزامي تابعٌ في حجِّيته للمدلول المطابقي. وعليه لا يكون لدينا دليلٌ يكشف عن فعلية الملاك في حقّ العاجز، وأنه سوف يفوِّت هذا الملاك بسبب عجزه. وعليه، لا يجب عليه القضاء([50]).
ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أن كلامنا هذا لا يعني أننا قد أثبتنا بواسطة تقييد الخطاب عدم وجود الملاك في الفعل غير المقدور، بل غاية ما أثبتناه هو أننا لا نمتلك دليلاً على بقاء الملاك، وهذا وحده يكفي للقول بعدم وجوب القضاء؛ لأن وجوب القضاء في مفروض المسألة يحتاج إلى وجود دليلٍ يحقِّق موضوع وجوب القضاء ـ بمعنى فوت الملاك ـ، في حين أننا لا نمتلك هذا الدليل.
الصورة الثانية: أما بناءً على النظرية الصحيحة، أي عدم تقيُّد الأحكام والتكاليف بالقدرة، فيكون الملاك مطلقاً وشاملاً للقادر والعاجز على السواء، وإن الخطاب لا يتقيَّد بالقرينة العقلية، كما هذه هو مقتضى نظرية الخطابات القانونية للإمام الخميني([51]). وفي هذه الحالة يتمّ إثبات الإطلاق على مستوى المدلول المطابقي؛ أي في مرتبة الاعتبار، وتَبَعاً لذلك يتمّ إثبات إطلاق الخطاب في المدلول الالتزامي؛ أي في ملاك الحكم.
وبالتالي يثبت أن ملاك الحكم يكون فعلياً في حقّ العاجز أيضاً، وبسبب عجزه يكون قد فوَّت الملاك والمصلحة ـ وإنْ كان معذوراً في ذلك ـ، ولذلك لو زال عجزه بعد ذلك، وأمكنه الإتيان بالواجب، وجب عليه قضاء الواجب؛ لأن ملاك الحكم كان فعلياً في حقّه أيضاً([52]).
5ـ الصدور غير الاختياريّ للفعل من المكلَّف
لو أن المولى أمر بفعلٍ، وكان المكلّف عاجزاً عن امتثال ذلك الفعل، ثم صدر عنه ذلك الفعل صدفةً ومن دون اختياره، عندها هل يكون هذا الفعل مُجْزِياً عن المأمور به، ويكون مسقطاً للتكليف عن عهدة المكلّف، أو يبقى الوجوب على حاله، ويتعيَّن على المكلّف أن يعمل على قضاء الواجب بعد الوقت؟
والجواب هو أننا لو قبلنا بأن القدرة لا تكون شرطاً في مرتبة الجعل عندها لن يكون هناك محذورٌ في توجيه الخطاب إلى العاجز، وشمول الخطاب له، لذلك لا يكون هناك إشكالٌ في سقوط التكليف عن عهدته بامتثال هذا الفعل غير الاختياري؛ لأن الخطاب الشرعي مطلقٌ، ومن خلال الاستفادة من إطلاق الخطاب في المدلول المطابقي، وتَبَعاً لذلك في المدلول الالتزامي، نثبت أن الوجوب ومبادئه فعليّةٌ في حقّه، ونتيجة لذلك فإن العمل الذي قام به يكون مصداقاً للواجب، ويُسقِط الوجوب عن عهدته، ولذلك لا يكون هناك دليلٌ على وجوب القضاء.
وأما لو قلنا بأن التكاليف الشرعية مشروطةٌ بالقدرة في مرحلة الجعل فعندها لن يكون الشخص العاجز مكلّفاً، ولا يكون مخاطباً بحكم الوجوب، أي إن المدلول المطابقي للخطاب يسقط عن الحجِّية بالنسبة إلى هذا الشخص، وتَبَعاً لذلك يسقط المدلول الالتزامي عن الحجِّية في حقّ هذا الشخص أيضاً. وبالتالي لن يكون لدينا دليلٌ على فعلية ملاك الحكم في حقّه أيضاً.
وعلى هذا الأساس، لو صدر عنه فعلٌ غير اختياريٍّ يكون قد صدر عنه فعلٌ لم يكن مخاطباً بالنسبة إلى وجوبه؛ لأن التكليف إنما كان فعلياً في حقّ الأشخاص القادرين فقط، هذا أوّلاً. وثانياً: لا يوجد لدينا دليلٌ على أنه قد استوفى ملاكاً من خلال قيامه بهذا الفعل؛ ولذلك لا يمكن أن نثبت أن الفعل الذي قام به كان مُجْزِياً، ولا حاجة معه إلى القضاء. وعليه؛ لكي ندرك ما إذا كان القضاء واجباً على هذا الشخص أم لا لا يمكننا الاستعانة بدليل الأداء، ويتعيَّن علينا العثور على الجواب في بحث الإجزاء، ونبحث هل تجري البراءة في هذه الحالة أم أصالة الاشتغال؟([53]).
6ـ المقدّمات المفوِّتة
قد يتوقّف الواجب المؤقَّت في بعض الموارد على مقدّمةٍ عقلية أو شرعية، بحيث إن المكلَّف لا يتمكَّن من الإتيان بتلك المقدّمة في زمن الواجب. لذلك فإنه إذا لم يقُمْ بتلك المقدّمة قبل حلول زمان الواجب سوف يفوته أداء الواجب. إن مقتضى القاعدة الأصولية في مثل هذه الحالة ـ بناءً على القول بتقييد التكليف بالقدرة ـ عدم مسؤولية المكلّف تجاه هذا التكليف؛ إذ إنه قبل حلول الوقت لا يكون هناك وجوبٌ، ولا يكون هناك حكمٌ قد بلغ مرحلة الفعلية؛ كي يكون المكلّف مسؤولاً من ناحية ذلك الوجوب عن إعداد مقدّمات الواجب. وعليه، لو أنه ترك المقدّمة قبل الوقت فإنه مع حلول وقت الوجوب لا يكون وجوبٌ على عهدته؛ ليكون مرتكباً للذنب والعصيان بتركه. ولذلك لا يكون مرتكباً للمخالفة من الأساس. ومن هنا يمكن القول: إن القاعدة الأصولية تقتضي أن لا يكون المكلّف مسؤولاً عن مثل هذه المقدّمة.
ولكنْ في بعض الأحيان تكون للواجب مقدّمةٌ مفوِّتة على الدوام؛ بحيث إن المكلّف لو لم يقُمْ بتلك المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة فسوف يعجز عن القيام بالواجب في وقته المحدَّد دائماً. وقد ذهب العلماء القائلين بتقييد التكاليف بالقدرة ـ خلافاً للحالة السابقة التي تمّ فيها رفع المسؤولية عن المكلّف ـ إلى الاتفاق في مورد وجوب إعداد المقدِّمات المفوِّتة على الدوام. ومع ذلك واجهوا مشكلةً في تفسير كيفية وجوب المقدّمة قبل حلول الوقت ودخول التكليف في عهدة المكلّف. وقد اختلفَتْ آراؤهم في هذا الشأن. وسوف نكتفي في هذه المقالة بمجرّد إشارةٍ مختصرة إلى ثلاثة موارد من هذه التفاسير، والتي هي من أشهر التفاسير في هذا الشأن. ثمّ نبحث في التفسير الثالث ـ الخاصّ ببحث اشتراط القدرة في الأحكام والتكاليف ـ بتفصيلٍ أكبر.
التفسير الأوّل: هو التفسير المنسوب إلى الشيخ الأنصاري، وقد ورد في تقريرات درسه([54]). فقد ذهب الشيخ الأنصاري ـ في ضوء هذا التفسير ـ إلى إنكار الوجوب المشروط من الأساس، حيث يرى أن الواجب فعليٌّ حتّى قبل تحقُّق قيوده وشروطه، ويعتبر جميع القيود ـ بما في ذلك قيد الزمان ـ قيداً للواجب. وعليه؛ حيث يكون الوجوب فعليّاً حتى قبل دخول الوقت، فإن المحرّكية نحو مقدّمات الواجب تبدأ قبل دخول الوقت.
التفسير الثاني: عن صاحب الفصول؛ حيث ارتضى القول بالواجب المشروط، ولكنّه قال بإمكان الواجب المعلّق([55]). يقول: في جميع الموارد التي يدلّ فيها الدليل الشرعي على ضرورة الإتيان بالمقدّمة المفوِّتة قبل وجوب ذي المقدّمة يتّضح أن الوجوب يكون على شكل الوجوب المعلّق، بمعنى أن زمان الوجوب يكون سابقاً على زمان الواجب. وكذلك في كلّ مورد يدلّ الدليل الشرعي على الوجوب بشكلٍ معلّق فإننا نحكم بمسؤولية المكلّف تجاه المقدّمة المفوِّتة.
التفسير الثالث: قال به المحقِّق النائيني([56]). يقول: إذا كانت القدرة ـ التي هي قيدٌ في الواجب ـ عقليّةً (بمفهومها الأوّل) فهذا يعني أن المكلّف بترك المقدّمة المفوِّتة ـ والذي يؤدّي إلى عجزه عن امتثال الواجب في وقته ـ يكون قد فوَّت على نفسه تحصيل ملاك الوجوب في زمان فعلية الوجوب؛ لأن ملاك الوجوب في القدرة العقلية يشمل العاجز عن التكليف أيضاً؛ في حين أن هذا الأمر لا يجوز من الناحية العقلية؛ لأن تفويت الملاك بواسطة التعجيز مثل تفويت التكليف بواسطة التعجيز.
وأما إذا كانت القدرة ـ التي هي شرطٌ في التكليف ـ قدرةً شرعية (بمفهومها الأول)، بمعنى أن تكون دخيلةً في الملاك، فإنْ لم يعمل المكلّف على إعداد المقدّمات المفوِّتة قبل حلول الوقت، وتَبَعاً لذلك يكون قد أعجز نفسه عن امتثال الواجب في وقته، فلن يكون هناك ملاكٌ فعلي في حقّه؛ ليؤدّي الأمر إلى فواته؛ ولذلك لا يكون هناك مانعٌ من ترك المقدمة المفوِّتة.
وعلى هذا الأساس، حيثما تمّ إثبات مسؤولية المكلّف تجاه المقدّمات المفوّتة نكتشف أن القدرة ـ التي هي شرطٌ في التكليف ـ مقدّمةٌ عقلية، وليست دخيلةً في ملاك الحكم. كما أنه حيثما يدلّ الدليل الشرعي على أن القدرة المذكورة عقليّةٌ، وليست دخيلةً في ملاك الحكم، نكتشف أن المكلَّف ليس مسؤولاً تجاه المقدّمات المفوّتة.
ومن الجدير ذكرُه ـ بطبيعة الحال ـ أن ذات الدليل الدالّ على وجوب الواجب لا يكفي لإثبات الملاك في حقّ المكلّف، ونحتاج في ذلك إلى دليلٍ خاصّ؛ إذ إن دليلاً من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: 97) يحتوي على مدلولٍ مطابقيّ، وهو وجوب الحج، ويحتوي على مدلولٍ التزاميّ أيضاً، وهو الملاك؛ أي إن الحج ينطوي على ملاكٍ وعلى مصلحةٍ. ولكنْ حيث إن المدلول المطابقي ـ أي وجوب الحج ـ مشروطٌ بالقدرة والاستطاعة فإنه حيث يعمد المكلّف إلى ترك المقدّمات المفوِّتة، مثل: السفر، فسوف يعجز عن امتثال التكليف، ولذلك فإن المدلول المطابقي للخطاب بالنسبة إليه سوف يسقط عن الحجِّية، وتَبَعاً لذلك سوف يسقط المدلول الالتزامي للخطاب عن الحجِّية بالنسبة إلى العاجز أيضاً. وبالتالي فإنه لا يمكن لنا أن نستفيد من هذا الدليل الشرعي لإثبات أن الملاك ثابتٌ في حالة القدرة وفي حالة العجز على السواء([57]).
وعلى أيّ حالٍ فإننا في ضوء نظرية عدم تقييد التكاليف بالقدرة لا نحتاج إلى هذه التفاسير والتبريرات، وإن المكلَّف مسؤولٌ تجاه إعداد المقدّمات المفوِّتة؛ لأن التكاليف والأحكام الشرعية ليست مشروطةً بالقدرة. وعلى هذا الأساس، لو أن المكلّف تقاعس عن توفير المقدّمات المفوّتة فإن العقل سوف يحكم بقُبْح ذلك، ويراه مستحقاً للعقاب؛ لأن الملاك كان فعليّاً في حقّه حتى قبل حلول وقت الواجب، وإنه من خلال تقاعسه عن إعداد المقدّمة يكون قد فوَّت على نفسه ملاك الفعل والمصلحة.
7ـ أحكام التزاحم
عندما يحدث التزاحم بين أمرين فإنه؛ طبقاً لنظرية عدم تقييد الخطابات بالقدرة، يكون كلا الأمرَيْن المتزاحمين فعليّاً في وقتٍ واحد، من دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى القول بالترتُّب، وإنْ تعلّق التكليف بغير المقدور؛ لأن الخطابات غير مقيّدةٍ بالقدرة. ولكنْ في الوقت نفسه لا يُطلَب من المكلّف الإتيان بكلا التكليفين؛ لأنه عاجزٌ عن الإتيان بهما معاً، والعقل يراه معذوراً في ذلك، بَيْدَ أن نتيجة فعليّة كلا الأمرين هي أن المكلَّف بأيِّهما أتى ـ سواء في ذلك الأهمّ أو المهمّ ـ يكون ما أتى به صحيحاً؛ إذ طبقاً لهذه النظرية يكون لكلا الأمرين خطابٌ بالنسبة إلى المكلّف، ويكونان فعليّين في حقّه.
وعلى هذا الأساس، فإن إحدى النتائج المهمّة لمسألة تقييد أو عدم تقييد الخطابات بالقدرة هي أنه في حالة افتراض إثبات عدم تقييد الخطابات بالقدرة لا تكون هناك بعد ذلك حاجةٌ في باب التزاحم إلى طريقةٍ لحلّ مسألة الترتُّب. هذا في حين أننا ـ في ضوء نظرية تقييد الخطابات الشرعية بالقدرة ـ نحتاج إلى الترتُّب لحلّ موارد التزاحم بين أمرين؛ إذ بالنظر إلى القول بتقييد جميع التكاليف بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ من قِبَل هذه الجماعة لا يكون هناك إمكانٌ لفعليّة كلا الأمرين المتزاحمين في وقتٍ واحد؛ ولذلك يجب لحلّ هذه المشكلة رفع اليد عن إطلاق التكليف المهمّ، وجعل وجوبه مشروطاً بعدم الإتيان بالتكليف الأهمّ؛ أي إنه يجب القول بالوجوب الترتُّبي بالنسبة إلى الواجب المهمّ.
ويمكن تصوير وقوع التزاحم بين واجبين على عدّة أشكال:
الشكل الأوّل: أن يقع التزاحم بين واجبين فوريين، من قبيل: التزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق ووجوب تطهير المسجد من النجاسة.
الشكل الثاني: أن يقع التزاحم بين واجبٍ فوري وبين واجبٍ موسَّع ضاق وقت امتثاله، من قبيل: التزاحم بين وجوب تطهير المسجد من النجاسة ووجوب الصلاة في آخر الوقت، بحيث لو بادر المكلّف إلى تطهير المسجد فإن الصلاة سوف تفوته.
الشكل الثالث: أن يقع التزاحم بين واجبٍ فوري وواجبٍ موسَّع لا يزال وقته موسَّعاً، من قبيل: المثال السابق، مع فارق أن المكلّف يمتلك الوقت الكافي لامتثال كلا الواجبين.
إن الشكلين الأوّلين يقعان في حالةٍ واحدة؛ لأن البحث يدور مدار امتثال أيّ واحدٍ من الأمرين. وفي مثل هذه الحالة يجب تقديم الواجب الذي يحظى بأهمِّية أكبر من حيث الملاك. وإن الواجب الآخر ـ بناءً على القول بالترتُّب ـ يكون وجوبه مشروطاً بعدم الاشتغال بالواجب الأهمّ. وكذلك لو كان كلا الواجبين على درجةٍ واحدة من الأهمِّية من حيث الملاك يكون المكلَّف مخيّراً بالإتيان بأيٍّ منهما؛ لأن كلا الوجوبين ـ بناء على القول بالترتُّب ـ يكون مشروطاً بعدم الاشتغال بالآخر. ومع ذلك فإنه بناء على القول بعدم تقييد التكاليف لا تكون هناك حاجةٌ إلى الترتُّب، وتكون جميع الأوامر المذكورة مطلقةً، غاية ما هنالك أنه بامتثال أحدهما لا يمكن للمكلّف أن يأتي بالآخر، وسوف يكون معذوراً بحكم العقل.
وأما الشكل الثالث فهو يختلف عن الشكلين الأوّل والثاني؛ إذ التزاحم في هذا الشكل يقع بين الواجب الفوري وبين حصّةٍ معيَّنة من الواجب الموسَّع، ولذلك يجب التعرُّض له بشكلٍ مستقل، ويوجد هنا عدّة أقوال:
أحد هذه الأقوال هو القول بعدم وجود تزاحمٍ بين هذين الأمرين؛ لأن المكلّف قادرٌ على امتثال كلا الواجبين، ومن شروط التزاحم أن لا يكون المكلّف قادراً على امتثال كلا الواجبين، وأنه إذا امتثل أحدهما فسوف يفوته الآخر. وأما هنا فيمكن امتثال كلا الواجبين معاً، فمثلاً: يمكنه أن يؤجِّل الصلاة، ويبادر إلى إزالة النجاسة من المسجد، ثمّ يُصلّي بعد ذلك.
إن الدليل على عدم وجود التزاحم هنا هو أن الأمر بالصلاة قد تعلَّق بالجامع بين الحصص؛ أي الحصّة التي تزاحم إزالة النجاسة وسائر الحصص الأخرى، وعلى الرغم من عدم قدرة المكلّف على الإتيان بالحصة التي تزاحم الإزالة؛ لأن هذه الحصة تزاحم الواجب الفوري، لكنه قادرٌ على القيام بسائر الحصص الأخرى. وعلى هذا الأساس، يمكن للمكلّف أن يأتي بالجامع في غير الحصة المزاحمة، وأن يقوم بإزالة النجاسة بوصفها واجباً فورياً عليه، دون أن يكون هناك تضادٌّ بين الواجبين. هناك بين هذين الأمرين انسجامٌ وتناغمٌ، وحيث لا يكون في البين تضادٌّ بينهما لن يكون هناك تزاحمٌ في البين أيضاً.
وبطبيعة الحال لو أن المكلّف ترك إزالة النجاسة، وجاء بالصلاة أوّلاً، فإنه سوف يكون قد عصى الأمر بالإزالة؛ لأن إزالة النجاسة من المسجد واجبٌ فوري، بَيْدَ أن صلاته ستكون صحيحةً؛ إذ لا يزال الأمر بالحصة المزاحمة موجوداً، وذلك الأمر ليس سوى الأمر بجامع الصلاة.
القول الآخر: إن هناك تزاحماً بين الأمر بإزالة النجاسة وإطلاق الأمر بالصلاة؛ وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يتعلّق الأمر بمطلق الصلاة بحيث يشمل حتّى الحصة المزاحة لإزالة النجاسة من المسجد أيضاً؛ إذ على فرض تحقُّق المزاحمة مع الواجب الفوريّ المتمثِّل بإزالة النجاسة لا يمكن البعث والتحريك نحوه. وعلى هذا الأساس، لا يكون هناك أمرٌ بالصلاة في أول الوقت؛ لأن الأمر بالإزالة لا ينسجم مع إطلاق الأمر بالصلاة، الشامل للحصّة المزاحمة أيضاً.
إن القول الصحيح في هذه المسألة هو أن هذه المسألة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة إمكان تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور؛ فإنْ قلنا في تلك المسألة بعدم إمكان تعلُّق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وكذلك لو اعتبرنا القدرة التكوينية بمعناها الأعمّ شرطاً في الواجب، فهذا يعني أن التكليفَ بالجامع بين الحصة التي يكون هناك ما يزاحمها وسائر الحصص الأخرى التي لا يكون في البين ما يزاحمها غيرُ ممكنٍ؛ لأن المكلف بالنسبة إلى الحصّة المزاحمة لا يمتلك القدرة التكوينية بمعناها الأعمّ، والتكليف هنا يكون بالجامع بين الحصة المقدورة وغير المقدورة أيضاً.
ونتيجةً لذلك يقع التزاحم بين الأمر بجامع الصلاة والأمر بإزالة النجاسة من المسجد؛ لأن دليل التضادّ بين الأمر بجامع الصلاة والأمر بإزالة النجاسة هو عجز المكلَّف عن الجمع بين هذين الأمرين. وبعبارةٍ أخرى: إن سبب عدم إمكان فعلية هذين الأمرين في وقتٍ واحد بالنسبة إلى هذا المكلّف هو أن المكلّف عاجزٌ عن امتثالهما معاً، ولذلك لا بُدَّ من الرجوع إلى قوانين باب التزاحم؛ أي تقديم الحكم الذي يحظى بأهمِّية أكبر.
ولكنْ؛ بالنظر إلى ما قلناه من عدم وجود إشكالٍ في الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، لن يكون هناك مانعٌ من تعلُّق التكليف بجامع الصلاة الأعمّ من القسم المزاحم وغير المزاحم. ولذلك سوف يكون الأمر بالجامع مع الأمر بالإزالة فعلياً. ونتيجةً لذلك لو أن المكلّف امتثل تلك الحصّة من الصلاة المزاحمة لإزالة النجاسة من المسجد فإن صلاته سوف تكون صحيحةً، ولكنّه يكون عاصياً في الوقت نفسه.
8ـ العلم الإجماليّ
في مباحث علم الأصول يذكرون بعض الأركان للعلم الإجمالي، وحيثما زال أحد هذه الأركان تزول منجِّزية العلم الإجمالي أيضاً. وعليه فإنه حيث يتمّ ادّعاء سقوط منجِّزية العلم الإجمالي يجب أن يكون أحد أركان العلم الإجمالي قد زال، وإلاّ فإنه لن يكون هناك ما يدعو إلى سقوط المنجِّزية عن العلم الإجمالي.
قد يكون لأطراف العلم الإجمالي ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون جميع الأطراف مقدورةً. وفي هذه الحالة لا يكون هناك شكٌّ في منجِّزية العلم الإجمالي.
الحالة الثانية: أن تكون جميع أطراف العلم الإجمالي غير مقدورةٍ. وفي هذه الحالة ـ بناءً على القول بتقييد التكليف بالقدرة ـ لا يكون هناك شكٌّ في عدم منجِّزية العلم الإجمالي؛ لأن التكليف هنا سوف يكون تكليفاً بغير المقدور.
وأما الحالة الثالثة فهي أن يكون أحد أطراف العلم الإجمالي مقدوراً والطرف الآخر غير مقدورٍ، من قبيل: أن نعلم بأن الماء في أحد الإناءين قد أصابَتْه نجاسة، ولكنْ لا تكون لدينا القدرة على تناول الماء من أحد الإناءين.
في الحالة الثالثة، بناءً على القول باشتراط القدرة في التكاليف وانحلال الخطابات الشرعية إلى الخطابات الجزئية، لن يكون العلم الإجمالي منجّزاً. وهناك مَنْ قال بأن سبب عدم منجّزية العلم الإجمالي في هذه الحالة يعود إلى زوال الأوّل من العلم الإجمالي؛ أي إن العلم بالجامع لا يكون موجوداً في هذه الحالة؛ لأن الطرف غير المقدور لا يكون موضوعاً للتكليف الفعلي؛ إذ إن التكليف الفعلي مشروطٌ بالقدرة، وبالتالي فإن العلم بالجامع سوف يزول أيضاً([58]).
بَيْدَ أن السيد الشهيد الصدر، ضمن إشكاله على هذا الدليل، قال بأن عدم منجّزية العلم الإجمالي في هذه الحالة يعود إلى اختلال الركن الثالث([59]).
وأما بناءً على القول بعدم تقييد التكاليف بالقدرة، وعدم انحلال التكاليف إلى الخطابات الجزئية، فإن العلم الإجمالي لا يسقط عن المنجّزية في أيٍّ من الحالتين الثانية والثالثة.
خلاصةٌ واستنتاج
تعرّضنا في هذه المقالة إلى بحث تقييد التكاليف بالقدرة. وبعد الردّ على أدلة القائلين بتقييد التكاليف بالقدرة، أثبتنا بناءً على نظرية عدم انحلال الخطابات الشرعية، أن الأحكام الشرعية غير مشروطةٍ بالقدرة. ثمّ انتقلنا بعد ذلك إلى بيان الثمار والنتائج الفقهية والأصولية المترتِّبة على هذا البحث.
وفي البحث عن قاعدة: «الاضطرار بسوء الاختيار لا يُنافي الاختيار» كانت النتيجة التي توصَّلنا إليها هي وجوب تصحيح هذه العبارة ـ سواءٌ قبلنا بالتقييد أو لم نقبل به ـ، والقول: «إن الاضطرار بسوء الاختيار لا يُنافي الاختيار عقاباً وخطاباً». وبطبيعة الحال فإن المراد من الخطاب هو الفعلية والتكليف المجعول، وليس فاعلية التكليف.
وفي البحث عن إمكان الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور ذكَرْنا أنه بناءً على القول بالتقييد إذا كان الحكم قد تعلّق بهذا العنوان الجامع على نحو الإطلاق الشمولي أو العموم الاستغراقي أو المجموعي فإن هذا النوع من التكليف سيكون محالاً؛ وأما إذا كان تعلّق الحكم بالعنوان الجامع على نحو الإطلاق أو العام البدلي، وكان مطلوب المولى من التكليف ـ بعبارةٍ أخرى ـ حصّةً واحدة من مجموع حصص العنوان، فلا إشكال في تعلّق الخطاب بالجامع بين المقدور وغير المقدور. وكذلك قلنا: إنه بناءً على القول بعدم التقييد ليس هناك أيُّ مانعٍ أو محذورٍ في الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور.
وفي بحث جواز التعجيز قبل حلول الوقت توصَّلنا إلى نتيجةٍ مفادها: إنه بناءً على عدم قبول تقييد التكاليف بالقدرة تكون التكاليف الشرعية فعليّةً بالنسبة إلى عموم المكلّفين، ولو أن مكلّفاً عمد إلى تعجيز نفسه عن امتثال التكليف ـ سواءٌ قبل دخول الوقت أو بعده ـ فإن العقل سيعتبر هذا الفعل قبيحاً، ويرى فاعله مستحقّاً للعقاب. وأما بناءً على القول بالتقييد فإن القدرة ـ التي هي شرطٌ في الوجوب ـ إن كانت قدرةً شرعية فسوف يكون التعجيز المذكور جائزاً، وأما إذا كانت شرطية القدرة في التكليف عقليةً فلا يجوز له من الناحية العقلية أن يعجِّز نفسه قبل حلول الوقت.
وفي بحث القضاء قلنا: لو كان المكلّف عاجزاً عن القيام بالواجب الذي أُمر به في وقته المحدَّد، إذا كان المبنى الفقهي لنا هو أن وجوب القضاء لا يحتاج إلى دليلٍ آخر، وأنه يمكن إثبات وجوب القضاء بالاستفادة من ذات دليل وجوب الأداء أيضاً، ففي مثل هذه الحالة لو علمنا أن القدرة شرطٌ في الملاك أيضاً ـ وبذلك لا يكون الحكم فعليّاً بالنسبة إلى العاجز ـ لا يكون القضاء واجباً. وأما لو علمنا بأن القدرة ليست شرطاً في الملاك ـ ولذلك يكون الملاك فعليّاً حتّى في حقّ العاجز ـ لا يكون القضاء واجباً في مثل هذه الحالة.
وفي بحث الصدور غير الاختياري للفعل من المكلَّف كانت النتيجة هي أن المولى لو أصدر أمراً بامتثال فعلٍ، وامتثله المكلّف ـ العاجز عن امتثال ذلك الفعل ـ صدفةً ومن دون اختياره، فلو قلنا بأن القدرة ليست شرطاً في مرتبة الجعل عندها لن يكون هناك محذورٌ في توجُّه الخطاب إلى العاجز وشمول الخطاب له، ومن هنا لا إشكال في سقوط التكليف عن عهدته بعد القيام بهذا الفعل غير الاختياري.
وأما لو قلنا بأن الأحكام الشرعية في مرحلة الجعل غير مشروطة بالقدرة فعندها لا يكون الشخص العاجز مكلّفاً، ولا مخاطباً بحكم الوجوب. وبالتالي لا يكون لدينا دليلٌ على فعلية ملاك الحكم في حقّه أيضاً، ولذلك لا يكون لدينا دليلٌ على أنه قد استوفى الملاك بواسطة قيامه بهذا الفعل، ولذلك لا يمكن لنا أن نثبت أن الفعل الذي صدر عن المكلَّف [من دون اختياره] مسقطٌ للقضاء.
وفي بحث التزاحم قلنا: إنه حيث يقع التزاحم بين أمرين؛ فإنه طبقاً لنظرية عدم تقييد الخطابات بالقدرة يمكن لكلا الأمرين المتزاحمين أن يكون فعليّاً بشكلٍ متزامن، ولا تعود هناك حاجةٌ إلى القول بمسألة الترتُّب. وأما بناءً على نظرية تقييد الخطابات الشرعية بالقدرة من أجل حلّ موارد التزاحم بين أمرين فسوف نكون بحاجةٍ إلى الترتُّب.
وكذلك في بحث التزاحم بين الواجب الموسَّع والواجب المضيَّق قلنا: إن هذه المسألة ترتبط بشكلٍ وثيق بمسألة إمكان تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور. وبالنظر إلى ما قلناه من عدم وجود إشكالٍ في الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور إذن لا يكون هناك ما يمنع من تعلُّق التكليف بجامع الصلاة الأعمّ من الحصّة المزاحمة مع إزالة النجاسة. وبالتالي لو أن المكلَّف امتثل حصّة الصلاة المزاحمة لإزالة النجاسة تكون صلاته صحيحة، ولكنّه يكون عاصياً في الوقت نفسه.
وفي بحث المقدّمات المفوِّتة توصَّلنا إلى أنه بناءً على القول بالتقييد فإن القاعدة الأصولية تقتضي عدم كون المكلّف مسؤولاً عن المقدّمات المفوِّتة. وأما إذا كان الواجب مشتملاً على مقدّمة مفوِّتة على الدوام فهناك إجماعٌ على وجوب إعداد هذا النوع من المقدّمات. ولكنْ هناك ثلاثة تفسيرات حول كيفية دخول وجوب هذه المقدّمة في عهدة المكلّف قبل حلول وقت ذي المقدّمة، وكان التفسير الثالث هو الوحيد المرتبط بمحلّ بحثنا، وهو أن القدرة ـ التي هي قيدٌ في الواجب ـ إذا كانت عقليةً بالمعنى الأوّل، الذي هو عدم تدخّل القدرة في الملاك، يكون معنى ذلك أن المكلّف بسبب تركه للمقدّمة المفوّتة، الأمر الذي أدّى إلى عجزه عن امتثال الواجب في وقته، قد حرم نفسه من تحصيل ملاك الوجوب في زمن فعليّة الوجوب، وهو أمرٌ لا يجيزه العقل.
وأما إذا كانت القدرة ـ التي هي شرطٌ في التكليف ـ قدرةً شرعية بمعناها الأول؛ أي أن تكون دخيلةً في الملاك، ففي هذه الحالة لو لم يقُم المكلّف بالمقدّمات المفوِّتة قبل دخول الوقت، وتَبَعاً لذلك يقوم بتعجيز نفسه عن امتثال الواجب في ظرفه، ففي مثل هذه الحالة لن يكون الملاك فعلياً في حقّه؛ ليكون قد عمل على تفويته، لذلك لا يكون هناك إشكالٌ في ترك المقدّمة المفوِّتة.
ومع ذلك قلنا: إنه في ضوء نظرية عدم تقييد التكاليف بالقدرة لا تكون هناك حاجةٌ إلى هذه التفسيرات والتوجيهات، ولا يكون المكلّف مسؤولاً تجاه إعداد المقدّمات المفوِّتة.
وفي الختام قلنا، في بحث العلم الإجمالي: إنه إذا كان أحد أطراف العلم الإجمالي مقدوراً والطرف الآخر غير مقدور؛ فإنه بناءً على القول باشتراط القدرة في التكاليف وانحلال الخطابات الشرعية إلى الخطابات الجزئية لن يكون العلم الإجمالي منجّزاً؛ وأما بناءً على القول بعدم تقييد التكاليف بالقدرة، وعدم انحلال التكاليف بالخطابات الشخصية والجزئية، فإن هذا الخطاب لا يسقط عن الفعلية، ويبقى العلم الإجمالي منجّزاً.
الهوامش
(*) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في كلِّية الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة (قسم الفقه ومبادئ الشريعة الإسلاميّة) ـ جامعة الإمام الصادق×، طهران.
(**) أستاذُ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في قم، وأستاذٌ مساعِدٌ في قسم الفقه ومبادئ الشريعة الإسلاميّة في جامعة الإمام الصادق× في طهران.
([1]) انظر: الفاضل محمد الموحد اللنكراني، سيري كامل در أصل فقه (جولة كاملة في أصول الفقه)، (تقريرات دادستان) 6: 188، الفيضية، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).
([2]) ما بين المعقوفتين إضافةٌ من عندنا؛ ليستقيم بها المعنى. (المعرِّب).
([3]) انظر: الفاضل الموحد اللنكراني، سيري كامل در أصل فقه (جولة كاملة في أصول الفقه)، 6: 188، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).
([4]) انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 2: 58، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر، 1428هـ.
([5]) انظر: رضا إسلامي، قواعد كلي استنباط (ترجمة فارسية وشرح لدروس في علم الأصول) 3: 23، دفتر تبليغات إسلامي حوزه علميّه قم، 1387هـ.ش.
([6]) انظر: محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول (تقريرات السيد محمود الهاشمي الشاهرودي) 6: 10، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي طبق مذهب أهل البيت^، 1417هـ.
([7]) انظر: العلاّمة الحلي، نهاية الوصول إلى علم الأصول، 1: 548، مؤسّسة الإمام الصادق×، 1425هـ.
([8]) انظر: العلامة الحلي، أصول الفقه، 2: 111، مكتبة الفقه والأصول المختصّة، 1432هـ.
([9]) انظر: مجموعة من الباحثين، موسوعة الفقه الإسلامي طبق مذهب أهل البيت^ 32: 73، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي طبق مذهب أهل البيت^، 1423هـ.
([10]) انظر: مركز اطلاعات ومدارك إسلامي، فرهنگ نامه أصول فقه (معجم أصول الفقه): 356، پژوهشگاه علوم وفرهنگ إسلامي، معاونت پژوهشي دفتر تبليغات إسلامي حوزه علمية قم، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).
([11]) انظر: المصدر السابق: 359.
([12]) انظر: الراغب الإصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 657، دار العلم ـ الدار الشامية، 1412هـ.
([13]) محمود عبد الرحمن، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، 3: 73، دار الفضيلة، 1419هـ.
([14]) انظر: مجموعة من الباحثين، موسوعة الفقه الإسلامي طبق مذهب أهل البيت^ 7: 409.
([15]) انظر: محمد صنقور، المعجم الأصولي، 2: 375، منشورات الطيّار، 1428هـ.
([16]) انظر: المصدر السابق: 376.
([17]) انظر: المصدر السابق: 373.
([18]) انظر: المصدر السابق: 373.
([19]) انظر: مركز اطلاعات ومدارك إسلامي، فرهنگ نامه أصول فقه (معجم أصول الفقه): 874.
([20]) انظر: المصدر السابق: 874.
([21]) انظر: المصدر السابق: 874.
([22]) انظر: السيد أبو القاسم الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 1: 500، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1422هـ؛ الميرزا محمد حسين النائيني، أجود التقريرات (تقريرات السيد أبو القاسم الخوئي) 1: 199، مطبعة العرفان، 1352هـ.
([23]) انظر: السيد الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 1: 234.
([24]) انظر: المصدر السابق 1: 501.
([25]) انظر: الميرزا النائيني، أجود التقريرات (تقريرات السيد أبو القاسم الخوئي) 1: 101.
([26]) انظر: السيد الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 1: 505.
([27]) انظر: المصدر نفسه؛ الميرزا محمد حسين النائيني، فوائد الأصول (تقريرات الكاظمي) 1: 144، مؤسسة النشر الإسلامي، 1376هـ.ش؛ الميرزا النائيني، أجود التقريرات (تقريرات السيد أبو القاسم الخوئي) 1: 199.
([28]) انظر: السيد الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 2: 357.
([29]) انظر: المصدر السابق 1: 504.
([30]) محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول (تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر) 4: 147، الدار الإسلامية، 1317هـ.ش.
([31]) انظر: محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول (تقريرات السيد محمود الهاشمي الشاهرودي) 2: 67.
([32]) انظر: السيد الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 1: 501.
([33]) انظر: الإمام روح الله الخميني، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1: 38، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1415هـ.ش.
([34]) انظر: الإمام روح الله الخميني، جواهر الأصول (تقريرات المرتضوي اللنگرودي) 3: 312، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1376هـ.ش؛ الإمام روح الله الخميني، مناهج الوصول إلى علم الأصول 2: 24، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1415هـ.
([35]) انظر: الإمام الخميني، جواهر الأصول (تقريرات المرتضوي اللنگرودي) 3: 312؛ الإمام الخميني، مناهج الوصول إلى علم الأصول، 2: 24.
([36]) انظر: الإمام الخميني، مناهج الوصول إلى علم الأصول، 2: 28.
([37]) انظر: الميرزا النائيني ، فوائد الأصول (تقريرات الكاظمي) 1: 336.
([38]) انظر: رضا إسلامي، نظريه عدم انحلال خطابات قانون (نظرية عدم انحلال الخطابات القانونية)، 1388هـ.ش. (مصدر فارسي).
([39]) حسن محمد فياض حسين العاملي، شرح الحلقة الثالثة 3: 37، شركة المصطفى لإحياء التراث، 1428هـ.ش.
([40]) انظر: السيد الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 2: 357.
([41]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 2: 208، مؤسسة النشر الإسلامي، 1418هـ.
([43]) الميرزا النائيني، أجود التقريرات (تقريرات السيد أبو القاسم الخوئي) 1: 102؛ الميرزا النائيني، فوائد الأصول (تقريرات الكاظمي) 1: 144.
([44]) انظر: السيد الخوئي، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الفياض) 1: 503.
([45]) انظر: محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول (تقريرات السيد محمود الهاشمي الشاهرودي) 6: 10.
([46]) انظر: الميرزا النائيني، فوائد الأصول (تقريرات الكاظمي) 1: 367.
([47]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 2: 210.
([48]) انظر: المصدر السابق 1: 331.
([49]) انظر: المصدر السابق 2: 290.
([50]) انظر: المصدر السابق، 1: 317.
([51]) انظر: الإمام الخميني، جواهر الأصول (تقريرات المرتضوي اللنگرودي) 3: 316؛ الإمام الخميني، مناهج الوصول إلى علم الأصول، 2: 26.
([52]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 1: 317.
([53]) انظر: المصدر السابق 2: 217.
([54]) انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، مطارح الأنظار (تقريرات أبو القاسم الكلانتري) 1: 251، 268، مجمع الفكر الإسلامي، 1383هـ.ش.
([55]) انظر: محمد حسين الحائري الإصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية 1: 79، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404هـ.
([56]) انظر: الميرزا النائيني، فوائد الأصول (تقريرات الكاظمي) 1: 197.
([57]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 2: 238.
([58]) انظر: الميرزا النائيني، فوائد الأصول (تقريرات الكاظمي) 4: 54.