عاشوراء الحسين وعاشوراء الشيعة .. تعدّد الأهداف والوسائل
محمد إسفندياري
أ. محمد إسفندياري(*)
ترجمة: محمد عبد الرزاق
مدخل
في العاشر من محرّم سنة 61هـ حدثت واقعة في إحدى أصقاع العالم الإسلامي بقيت عالقةً في الأذهان – على تمادي القرون بها – شعلةً متوهجة، وكانت الواقعة عبارة عن مقتل سبط النبي على أيدي من يدّعون الولاء لذلك النبي نفسه؛ ومنذ ذلك الحين حدّثنا التاريخ عن عاشوراء كما أورثنا عاشورائين: عاشوراء الحسين، وعاشوراء الشيعة، هما محلّ بحثنا الحالي.
عاشوراء الحماسة
عاشوراء قمّة في الحماسة وقمّة في التراجيديا؛ فلم يبصر تاريخ البشرية حماسةً بهذا الرقي، ولا تراجيديا بهذه الدموية، وبماذا يمكن مقارنة الراميانة والإلياذة وأوديزه وأناهيد أو الشاهنامة بسفر عاشوراء؟ وعاشوراء حماسة؛ لأن قائدها ترجّل فرداً أمام الحكم الفاسد والسفاك، فلم يبايع يزيداً وقال: مثلي لا يبايع مثله([1])، ولم يرضخ للبطش والسلطة ولم يرض بالذلّ والهوان بديلاً؛ لأنه قال: إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً([2])؛ فظلّ ثابتاً على موقفه قاتل وأثقل بالجراح حتى قُتل، وكانت كلّ جراحاته من وجهه، أي أنه لم يُدبر أمام القوم([3]).
وقد اختُلف في عدد شهداء كربلاء بين (73) إلى (200) شهيد، وليس هذا بالمهم، إنما السرّ يكمن في تضحية الحسين بجميع ما يملك – قليلاً كان أو كثيراً – والجود بالنفس أقصى غاية الجود، فقدّم كل شيء في رسم هذه الحماسة الرائعة، قدّم الأهل والأصحاب، وقُتل الجميع، إذاً فليس عدد القتلى ثلاثةً وسبعين، بل هو «جميع الموجودين»، وقد يصغر عدد الثلاثة والسبعين إذا ما قورن بمعركة سقط فيها بضعة آلاف من القتلى، لكنّ الحال يختلف مع كربلاء؛ لأنّ مجاهديها كافّة قد قتلوا عن بكرة أبيهم، فشهداؤها هم «الكل»، ولا يُهدف من هذا العدد القليل تعظيم معنى كربلاء، لكنّ ما يرفع شأنها هو استشهاد كلّ رجال المعركة فيها؛ من هنا باتت حماسةً خالدة. يقول «سيلونا»: إنّ أقصى ما تقدّمه النفس في كل عصر وزمان وأمام كلّ حكومة هو التضحية فتفنى من أجل المبدأ، والإنسان بما يملك ويقدّم([4]).
لم يكتف الحسينB بتقديم نفسه بل قدّم القربان تلو القربان، ومن بين قرابينه ذووه وأهله بما يقارب الستة عشر رجلاً، بينهم أخوه الذي كان عضده وولده وكان عينه التي يبصر بها. لقد حاول الشيوخ والأقرباء نصيحة الإمام الحسين بالتراجع عن قراره نظراً للظروف المحيطة وانطباعهم عن الأجواء الحاكمة ففشلوا في ذلك، ومضى هو في طريقه على قلّة العدّة والعدد ليسجّل أروع حماسة تاريخية ألهمت الإنسان الحرية ومقارعة الظلم والموت وقوفاً، موتاً غبطته روح الحياة في قرارتها، حقاً أيّة حماسة أسمى من مفاهيم عاشوراء؟! تلك التي سجّلت سطورها على رمضاء حامية وفلاةٍ خاوية، لكنّها خلّدت أسطورةً لكلّ الأجيال.
عاشوراء التراجيديا
وجهان لعملة واحدة – كما يقال – وجهها الأول في الحماسة والآخر في التراجيديا، وأيّ تراجيديا أفجع من هذه؟! أن يُقتل ويُصرع أمام الحسين أخوته والخلّص من أصحابه بل حتى طفله الرضيع، ولم يقف الظلم عند هذا الحدّ، فقتل سبط الرسول على يد من ادّعى الانتماء لدين الرسول(ص)، ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ، بل فصل – أيضاً – الرأس عن الجسد، ومن ثم داست الخيل بحوافرها على جسده الشريف، بعد ذلك حمل الرأس على الرماح وطيف به من ولاية إلى أخرى، ولم يُكتفَ بذلك بل ضربت شفاه الرأس المقطوع وأسنانه بالعصا، وحرقت الخيام وسُبيت النساء أسارى يحدو بهنّ الحادي من بلدٍ الى بلد؛ فحقاً أيّ فجيعة أمضى من هذه الفاجعة؟ وهي لا تزال حيّةً تستجري دموع العيون على ما تقضى من عمرها من قرونه، فهل لها نظيرٌ في التاريخ؟ لقد علقت ذكرى الحسين بالأرواح والألسن وما زالت دماه تغلي في العروق لا سكون لها، وكما يقول العطار النيسابوري:
لقد أراقوا ما أراقوا من الدماء
وسيبقى هذا الدم يغلي حتى يوم القيامة
فكلّ الدماء تسيل وتمضي
ووحده ذلك الدم بقي مخلّداً على مرّ العصور([5]) .
إنّ ما حصل بكربلاء لم يكن حرباً أو معركة، بل استباحة وإغارة على ركب الحسين، فلم تراعَ أبسط قوانين الحرب وتعاليم الإسلام، بل لم يراع حتى ما كانت تلتزم به العرب في الجاهلية([6])؛ فمن تلك الأصول النزال والمبارزة وجهاً لوجه، أو عدم التعرّض للنساء والأطفال، ومنها أيضاً أن لا يؤسر المسلم، وحرمة المثلة بجسده و.. لقد تجاهلوا هذه القوانين كلّها في كربلاء وأغاروا واستباحوا كلّ محرّم؛ فلم يقاتل جيش يزيد جيشَ الحسين، بل أغار عليه بمذبحة غادرة، فكان منهم ما لم يكن في حروب الإسلام مع الكفر، فالجيش يعلم أنه أمام طائفة من المسلمين، لكنّهم مارسوا ما لا يجيزه الإسلام حتى مع المحاربين الكفار؛ فواقع قتال الحسين كان عبارة عن مجزرة تاريخية وجريمة بأبشع صورها.
وإذا كان قد قيل في وصف وحشية المغول: إنهم قتلوا، أحرقوا ومضوا، فإنّ جيش يزيد مارس ما هو أفظع من ذلك بكثير؛ لأن أفراده قتلوا وأحرقوا وأسروا، ولم يتردّدوا في ارتكاب أيّ جريمة، ولذلك نسمع الإمام السجّاد يقول في وصف الفاجعة: «لا يومَ كيومك يا أبا عبد الله، ولا مصيبة كهذه المصيبة، حتى ما جرى يوم مقتل الحمزة بأحُد أو جعفر في مؤتة»([7]). وكما يقول أبو ريحان البيروني: لقد دار مع الحسين وأهل بيته ما لم يدر في ملّة، بل ما لم يدر مع الأشرار من الناس من قتل وعطاش وإحراق وحزّ للرؤوس ووطء للأجساد..([8]).
إنّ الكشف عن معنى (ثار الله) يدلّنا على جلل سفك دم الحسين؛ فالثأر يأتي بمعنى الدم وبمعنى الطالب بالدم، وهو ما ينطبق على مفهوم ثار الله أيضاً، فإذا فسّرناه بالدم فهو من باب الإضافة الشرفية؛ فالحسين ثار الله أي دمه، على غرار إضافة الأسماء إلى لفظ الجلالة بداعي تشريفها كما يقال: يد الله، عين الله، بيت الله، أي أنه كان الآمر ببناء البيت، إذاً فالحسين دم الله المسفوك، وسفك دمه سفكٌ لدم الإله. فثار الله هو ذلك الدم الذي شرّفه وحرّم سفكه. أما إذا أخذنا بالمعنى الآخر للثأر وهو المنتقم، فسيكون من قبيل تعابير الكناية، أي أن الله وليّ دم الحسين وهو الطالب بثأره، وعليه لن يكون حساب المذنبين إلا مع الخالق عز وجل([9]).
وأياً كان المعنى المقصود لكلمة (ثار الله)، يبقى المقدار المتيقّن منها هو حرمة سفك دم الحسينB، وأنّ ذلك جرم وجناية ما بعدها جناية، لكن الجناية جاءت بعد خمسين عاماً على رحيل الرسول(ص)، وسفك دم الله بأبشع الصور، فهل ثمة تراجيديا أكثر دمويةً من إراقة الدم السماويّ على الأرض؟!
عاشوراء، تعدّد القراءات والتفاسير
عندما ندقّق في مقولة عاشوراء نجدها مزيجاً من عنصري: الحماسة والتراجيديا مع استحالة الفصل بينهما، لكنّ الكلام هنا في الأصالة فأيهما الأصل: الحماسة أم التراجيديا؟ والردّ على السؤال سيكون ملزماً بآلية في التعامل مع حياتنا، فمن أيّ «زاوية» نرصد المشهد الكربلائي؟ بمعنى كيف لنا أن نقرأ كربلاء؟ فالموضوع دخيل في آلية القراءة وفي آلية التوفيق في الحياة العملية.
تأسيساً على ذلك، يمكن رصد الموقف من ناحيتين، وحسب الشاعر جلال الدين الرومي من منظارين، أو كما يقول الغربيون من زاويتين: «الطابع السياسي» و «الطابع العاطفي»، ولكلّ طابع عاشوراؤه، فعلى صعيد السياسة تبدو أمامنا حماسة عاشوراء، وعلى الصعيد العاطفي تطالعنا التراجيديا، فإن نظرنا لها من المنظار السياسي استوحينا حماستها السياسية، وإذا كانت نظرتنا من زاوية العاطفة تجسّدت أمامنا المشاهد التراجيدية، ووفقاً لهذا ليست عاشوراء وحدها ما يتعدّد بل السلوك أيضاً تابع في التعدّد هذا.
لو جعلنا «الحماسة» هي الأصل في عاشوراء، كانت النتيجة نبذ الخوف والذل،والوقوف بوجه كل يزيد، وذلك بما ألهمتنا تلك الحماسة من أصول الحريّة والمقاومة والتمسّك بالعزة والشهادة. أما إذا اتخذنا «التراجيديا» أصلاً في قراءة عاشوراء، كانت النتيجة مأتماً دائماً وعزاءً سرمداً، واقتصرت نشاطاتنا على إقامة مجالس العزاء وسكب الدموع فيها، وتختصر كربلاء في الدمع والتطبير وتأسيس الهيئات والمواكب، ولا شك أنّ الأصالة عائدة إلى الحماسة لا إلى التراجيديا، نعم التراجيديا هي واحدة من لوازم المواقف الحماسية، لكنّ الأساس والأصل والغاية الأهمّ تنبع من تأصيل الطابع الحماسي لتلك الثورة، إنها الثورة التي بدأها الحسينيّون بالحماسة وختمها اليزيديون بالفاجعة، فعنصر التراجيديا جاء معلولاً لخطيئة الأعداء، ثم إنها تراجيديا بمنظارنا الضيّق، وإلا فهي عند بطلة كربلاء من الجميل الرائع، ألم تقل زينب عند مشاهدة وقائع الفاجعة: «ما رأيت إلا جميلاً»؟([10])، فلم يقتل الحسين من أجل حداد الأمّة الى أبد الآبدين، وإنما قدّم نفسه وضحّى بروحه ليحيي الأمّة بدرس التحرير والعزة، إنه خرج للإصلاح في أمّة جدّه، ألم يقل: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»؟([11])، ألم يقل: «لكم بي أسوة»؟([12])،إنه(ع) أسوةٌ في الإصلاح ومقارعة الظلم، وليس ذريعةً لالتزام الرثاء والبكاء وتهميش أهداف عاشوراء الحقيقية.
عاشوراء بين النزوع العاطفي والمطالعة السياسية
ظلّت الرؤية العاطفية هي الطاغية على المشهد العاشورائي؛ وذلك بسبب تغيّب الشيعة عن الساحة السياسية تحت ضغط بعض العوامل، أما في القرن الرابع عشر وبعدما دخل التشيّع معترك السياسة بقوة، فقد بدأ يغلب طابع السياسة في قراءة معطيات عاشوراء، فبينما كانت الرؤية العاطفية تركّز على مصاب الحسين(ع) وتبكيه.. جاءت الرؤية السياسية وأضافت إلى ذلك مفردات السياسة والنضال والحماسة عند الحسين، موظفةً المأتم والمصائب فيما يصبّ في صالح الهدف الأصلي.
في السابق، كانت الرؤية العاطفية تحجّم عاشوراء عند حدود التراجيديا وتختصر شخصية الحسين في معاناته ورزيّته، ويشهد على ذلك ما وصلنا من عناوين وما تواتر على الألسن من قاموس المأساة، من قبيل مصطلحات: البكاء، الدمع، المصيبة، الحزن والغم، البلاء والابتلاء، العزاء، المأتم، الظمأ، الأسر([13]). أما في الوقت الحاضر وبعد غلبة الطابع السياسي على قراءات عاشوراء، تجلّى عنصر الحماسة بيّناً، فلم يعد الحسين فيه رمزاً للعزاء والمأتم وإنما أصبح رمزاً للحريّة والخلاص، ويؤيد ذلك المتداول من عناوين ومفردات هذه الحقبة والتحوّل الذي طرأ على مجراها بالتزام أدب الحماسة، من قبيل: التحرر والحرية، الثورة، النهضة، الخروج، النضال، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإصلاح، الحكومة، السياسة، العدالة([14]).
إنّ هذا التحوّل في مفردات الماضي والحاضر كفيلٌ بتفسير التمايز الجوهري في رؤى الفريقين؛ ففي السابق كانوا يردّدون الحسين في كلمتين هما: المصرع والمقتل، أما في الوقت الحاضر فيمكن ملاحظة شيوع مفردتين تمجّدان إنجازات الحسين هما: الثورة والشهادة، والبون شاسعٌ جداً بين الرؤيتين، كما يتضح لنا أنّ هذا التحوّل لم يأت من منطلق لفظي أو من التفنّن في صياغة هذا اللفظ أو ذاك، وإنما كان نابعاً من اختلاف الرؤية لجوهر ومعنى الحسين وعاشورائه؛ إنّ كلمتي: المصرع والمقتل تشيران الى البُعد المأساوي في الظلم النازل على الإمامB، كما أنه ليس بعيداً أن يؤدّي تكرارهما إلى التقليل من شأنه وانكساره أمام الموقف الظالم، بينما تشير كلمتا: الثورة والشهادة إلى مدى جهادهB ورفضه للظلم فصنع بذلك الثورة فهو هنا ثائر مجاهد. ونستنتج من ذلك أن مفردات من قبيل المصرع والمقتل لا توحي إلا بمعاني الاستعطاف والعزاء النابعة من منطق العاطفة في تراجيديا عاشوراء، أما كلمات مثل الثورة والشهادة فتدلّ – في أصدق دلالاتها – على الاستنهاض والحماسة، وهي معانٍ نابعة من حماسة السياسة وسياسة الحماسة عند عاشوراء.
بعبارة مجملة، إذا كانت نظرتنا لعاشوراء سياسيةً باعتبار الحماسة أصلاً فيها، فالنتيجة ستكون «الإسلام الحماسي»، و«حسين الشهادة»، وليس حسين المصيبة والعزاء، بل «حسين الدم» وليس حسين الدمع، وسيكون هذا إسلاماً ملهماً من الحماسة الحسينية فيخلق الحماسات ويهدّ صروح الظالمين بسلاح الشهادة ويروي شجرة الحرية بالدماء الأبية. نعم سيظلّ البكاء أيضاً مفردةً من مفردات هذا الإسلام، لكنّ هدف الحسين ليس البكاء، كذلك الشفاعة حاضرة بين المفردات لكنّ دور الحسين ليس مقتصراً عليها ولن يكون شفيعاً لكلّ من هبّ ودب.
أما إذا كانت نظرتنا عاطفيةً بوصف التراجيديا أصلاً في عاشوراء، فستكون النتيجة «إسلام المراثي»،و «حسين المصائب»،وليس حسين الشهادة،بل «حسين الدمع» وليس حسين الدم. وسيكون الهدف الأساس كامناً في غرض الرثاء، والملاحظ في ذلك أنه لا يجنى من وراء إقامة العزاء إحياءٌ لمفاهيم الحسين، وإنما المراد والهدف قائمان بالعزاء نفسه، أي إنه هو الموضوع في القضية، وبذلك يُستبدل الهدف بالوسيلة والنتيجة بالمقدمات. فتغسل – حسب هذا الإسلام – كبائر الذنوب بقطرة دمع يذرفها الباكي كفارةً عن خطاياه؛ فيتحول الدمع إلى هدف، ويأخذ صفة المطهّرات فيزيل نجاسات الدنيا، الأمر الذي سينتج عنه إعراض أتباع هذا الدين عن العمل واكتفاؤهم بغرض البكاء. لقد شهد الماضي نادبين على الحسين أكثر منهم ثائرين معه، وتفوّق شعراء الرثاء على شعراء الثورة والملحمة، فما أكثر ما قيل في رثائه والبكاء عليه في مقابل ما كان ينبغي أن يحتفى بإنجازه الثوري والحفاظ عليه؛ لأن النظرة الغالبة كانت عاطفيةً، هذا من جانب، ومن جانب آخر وجدوا في البكاء على عاشوراء عملاً سهل المؤونة لا يتطلّب كثيراً من العناء، فلا شك أنّ تأبين الحسين أسهل بكثير من اقتفاء أثره في الثورة والخروج على الظالم، والجلوس في المجالس والبكاء على المصيبة أهون في نظر العامّة من الوقوف بوجه اليزيديين ومواجهتهم؛ لأن مطلب مجالس العزاء دمع والملاحم مطلبها دماء، والناس تلبّي نداء «حي على الصلاة» أكثر من تلبيتها نداء «حي على الزكاة»، فكيف إذا كان النداء «حي على الجهاد»؟!
هدف الثورة الحسينية بين التعمية والتحريف
الإمام الحسين من الشخصيات التي قُتلت مرتين وظُلمت مرّتين، فالظلم الأوّل كان عندما قتلوه، والآخر عندما سعوا في طمس أهدافه وتحريفها، فظلموه في عاشوراء وتكرّر الظلم في أكثر منها، فالإجحاف كلّ الإجحاف وقع بتعمية هدف الثورة الحسينية. وعلى الرغم من بقاء اسم الحسين إلا أنّ الذي غيّب هو الهدف الحسيني، إذاً فهناك حسينٌ استشهد في حادثة التاريخ وحسين ظلّ يستشهد على مرّ التاريخ، وبعد دهس جسده الشريف دُهست أهدافه، فهذا من عدوّ مجرم وذاك من صديق جاهل.
فمن مصاديق وأد أهدافه ما يقال من أن خروجه كان أمراً شخصياً وواجباً فردياً لا يمكن تطبيقه على غيره، إقرأوا ما جاء في كتاب يحمل عنوان «مقصد الحسين»: لا يمكن التحدّث عن تفاصيل كربلاء وتفسير ما جرى فيها إلا في إطار مفهوم التكليف الشخصي([15]). ونقرأ أيضاً في «ناسخ التواريخ»: كان الحسين عالماً بمصير استشهاده وعزم عليه، وذلك تابعٌ لحكمة لا يُدرك سرّها إلا الله.. وليس لنا أن نقول: لماذا ألقى بنفسه في التهلكة؟ لأنّ تكليفه خارج عن تكاليف الخواص والعوام([16]).
ومن مصاديق تعمية الأهداف ما كان يصل حدّ التحريف أيضاً، بحيث بات يقال: إنّهB قُتل من أجل أن يبكي عليه الناس فتغفر ذنوبهم لا غير؛ فهذا الشريف الطباطبائي يقول: لا شك أن دعوات الإمامB مستجابة، ولو دعا على القوم لهلكوا كما يجزع عليه المؤمنون من الأوّلين والآخرين ويبكوه دهورهم، ويتمنّوا الحضور معه ليفوزوا فوزاً عظيماً، وبذلك تغفر ذنوبهم ما تقدّم منها وما تأخر، ويكون بكاؤهم كفارةً لها، وهذا الجزع والبكاء لا يتحقق إلاّ باستشهاده، إذاً فحقيقة استشهاده كفارةٌ لجميع المذنبين([17]).
وأسوأ من ذلك ما أورده النراقي في كتاب محرق القلوب، حيث قال: .. لقد ارتضى الحسينB مصيرَ الشهادة من أجل نيل منصب الشفاعة الكبرى التي من خلالها يستخلص جميع الموالين والمحبّين.. وهذه درجة لا ينالها إلا باستشهاده؛ لأنّ محو معاصي الأمة والشفاعة لها متوقّف على مسيل الدم وبروز الألم([18]). وتتلخّص هذه النظرية في أنّ الحسين استشهد من أجل نيل الشفاعة، فصار شهيداً لكي يكون شفيعاً؛ فيما لم يتطرّق الإمام لموضوع الشفاعة منذ انطلاقه من مكّة وحتى مهواه على رمضاء كربلاء، بل تحدّث عن مسائل أخرى. إن هذه النظرية عبارة عن تحليل مسيحي النزعة للثورة الحسينية، فكما أنهم يرون في صلب المسيح فديةً لخطايا البشر، كذلك عدّوا الحسين واستشهاده بغرض الشفاعة وغفران الذنوب، ومما يؤسف عليه تغلغل الوعي النصراني في ديننا وليست الإسرائيليات وحدها([19]).
لقد حملت عاشوراء في تاريخها ظلامتين ومصابين، أحدهما أبلغ من الآخر؛ ففي ظهيرة عاشوراء ظلم الإمام الحسين، وفي عاشوراءات لاحقة ظلم فكر عاشوراء الحسين، وأفرغت عاشوراء من محتواها وحُرّفت أهدافها، وإن كان في هذا الكلام غرابة على من لم يعرف عاشوراء أو عرفها ولم يطّلع على تاريخها، لكن إذا تصفّحنا التاريخ وقرأنا مصير عاشوراء سنتلمّس عن كثب مأساوية الواقع المرّ. حقاً لم يفد الشيعة بشكل مناسب من نتاج عاشوراء، ولم يطبّقوا مفاهيمها بصورة صحيحة، ولم يوظّفوا سلاحها في مقارعة الظلم، بل كان جلّ همّهم أن يقيموا على أحزانها ومراثيها وحسب، فيما هي مليئة بالعبر والشخصيات الرائعة التي يمكن استلهام أسمى دروس الحرية من سيرتها بما يضمن لنا تحرّرنا ونشر العدالة في كلّ مكان، فلو كنّا قد اقتدينا بعاشوراء – وحدها – لما دامت حكومة ظالمة في ربوع أراضي الإسلام. لكنّ الذي يدعو للأسف هو استبدال التاريخ حماسة عاشوراء بتراجيديّتها؛ فلم يبق من كلّ تلك الملاحم سوى مواكب العزاء ومنابر الخطباء، وكأنّ الحسين كان قد خرج وقتل من أجل نعيه والبكاء عليه لا غير، والأسوأ من ذلك انجرار مراسم العزاء إلى هاوية الخرافات والبدع من قبيل التطبير وضرب السلاسل، وهي بدعٌ لا أساس لها في حقيقة تلك المراسم، ولم تمارس في أيّ مراسم أخرى في العالم، وليس العزاء إلا ما يكابده القلب من حزنٍ وأسى، لا ما يمارَس من تطبير الرأس وغيره.
أحياناً كانت بعض مواكب العزاء تتحوّل إلى ساحات تناحر وعراك بين المشاركين فيها من أجل التنافس على احتلال هذا الشارع أو ذاك الميدان، وبالطبع ما أكثر من يسقط بين جريح وقتيل، والسبب في ذلك عائدٌ إلى تغلغل بعض الفتوّات والأشقياء في أعضاء المواكب والهيئات ممّن كان يحاول طرح نفسه وفتل عضلاته إشباعاً لرغبته في التغلّب على الآخرين. ويروي لنا الرحّالة الإيطالي (بيتر دلاواله) المرافق للشاه عباس الأول أنموذجاً لهذه الظاهرة المأساوية في مواكب العزاء الحسيني مبيّناً رغبة الشاه عباس نفسه في إثارة مثل هذا الخلاف والتناحر من أجل إمتاع نظره والتفرّج على تلك المشاهد، من قبيل ما رواه عن مراسم العزاء في شهر رمضان ومحرّم حيث قال: تتجمهر المواكب حول الميدان الواقع قبالة القصر والمسجد الكبير، ثم تتفرّق بعد الدعاء [وهو لابد للشاه]، وكان وزير إصفهان وأمين الخزانة يتابع المشهد مع بعض فرسانه لمنع وقوع حوادث شغب بين المعزين أنفسهم على مداخل الشوارع المؤدّية للساحة، وهو أمرٌ يحدث كثيراً في مثل هذه المراسم ويحصد نفوس المشاركين، علماً أن الشاه عباس كان يستمتع بمشاهد العنف هذه آخذاً جانب إحدى الهيئات في الدفاع عنها، وبعد اندلاع الفتنة يختبئ هو ومرافقيه في أحد البيوت المجاورة ويبقى يتفرّج على المعركة من النوافذ، هذا بالنسبة لمراسم استشهاد الإمام عليB([20]).
أما بالنسبة لمراسم استشهاد الحسين، فهي تماماً كسابقتها إلا أنها تتمتع باهتمام أكبر ورسمية أوسع – كمّاً ونوعاً وشدّة – في التناحر والعراك بين الفتوّات، كنت ممتطياً حصاني يوم عاشوراء أشاهد الدركيّين عاجزين عن السيطرة على أعمال الشغب، وقد وردتني الأخبار بوقوع أحداث مشابهة في المدن الأخرى انتهت بعودة البعض مدمّى الرأس والوجه إلى بيوتهم([21]).
إن عاشوراءات التاريخ مليئةٌ بهذه المشاهد وغيرها ممّا يضرب الناس على رؤوسهم وصدورهم أو على رؤوس ووجوه أخوتهم فيها، في حين لم يطلقوا كلمةً واحدة بوجه الظالمين، إما لأنهم لم يعرفوا الظالمين أو لأنهم لا يجدون حاجةً في ذلك وهو الأسوء، فيما المرجوّ من واقع عاشوراء تذكير الوجدان بالحسينيين واليزيديين في كلّ عصر ومكان، وعلى الأمة التي تحيي ذكرى عاشوراء أن تفكّر وتبحث في عاشورائها، أين الحسينيون وأين اليزيديون؟ وما الواجب عمله على كلّ فرد؟ وما هي وجهته؟ نصرةً لهذا الجانب ومناهضة لذاك، اقتداءً بسيرة الحسين في عاشورائه، وتكراراً لتلك الواقعة بجميع مفاهيمها وقيمها.
تجدر الإشارة إلى أنّ أحاديث الحسين كانت تنصّ على اسم يزيد تارةً، وعلى مثيله تارة أخرى، قالB: «على الإسلام السلام إذ قد بليت الأئمة براعٍ مثل يزيد»([22])، وقال في موضع آخر: «مثلي لا يبايع مثله»([23]). فأما ما ورد فيه الاسم صريحاً فهو مرتبط بعصره آنذاك، وأما ما كان على سبيل أمثاله فليس مختصاً بعصرٍ بل هو لكلّ الدهور، وليس ليومٍ واحد بل لكلّ الأيام، وهنا يرسم الإمام للعالم ملامحه المستقبلية تنبيهاً للأجيال القادمة؛ لأنّ الحديث إنما هو عن تكرّر يزيد واليزيديين تباعاً، وهو عن شخصية عامة وليس عن شخص بعينه؛ فحديثه عن كلّ من كان مثله في مواجهة من هو مثل يزيد، فلا ينبغي له الركون والتراجع، إذاً فحديثه عن طريقٍ يحتاج إلى مواصلة، تلك الطريق التي لم تنته بعدُ وما زالت في طور التكامل، وهي التي كانت من قبل الحسين وستظلّ من بعده أيضاً تفتّش عن السائرين، بعبارة أخرى: في أيّ يوم وفي أي مكان يتسلّم الحكم شخص مثل يزيد سيكون ذلك اليوم عاشوراء والمكان كربلاء، فالحسين من تمرّد على اليزيدي ولم يخضع لبطشه.
المجدّد الكاشاني وإحياء مفهوم عاشوراء
في العام 1326ش/1947م توجّهت المواكب والهيئات الحسينية إلى منزل العالم المشوّه سياسياً والمجدّد آية الله أبي القاسم الكاشاني، وألقى في الجماهير خطاباً عاشورائياً ملفتاً فريداً من نوعه بين الخطابات الدينية آنذاك، وقد تطرّق – من خلال عرض أهداف ثورة الحسين والاقتداء بها – إلى انحطاط الدول الإسلامية والظلم المحدق بشعوب إيران وباكستان وفلسطين، ودعا الناس حينها إلى التعبئة لإقامة عاشوراء من جديد، وقال ما لم يقله الآخرون أو ما لم يكن يفقهوه.
جاء في الخطاب: أيها السادة! يا من تجمهر من أجل العزاء! هل تعلمون لماذا استشهد الحسين بن عليB؟ إنّ ما يقال في حصر تلك الغاية بالشفاعة للأمة عارٍ عن الصحة، إنهB عدوٌ لمن ينحرف عن هدفه المقدّس ولا يتورع عن هتك حرم الإسلام، فهل لهذه المنابر أثرٌ في الحدّ من فواحش المدينة. لقد أراد الحسين القضاء على الظلم المستفحل في المجتمع وتعليم الجميع درس الشهامة والتضحية، كان ينهى الناس عن الانصياع للظلم والجور والتواني في إحقاق الحق طرفة عين أبداً، لقد اختار الشهادة للحدّ من أوضاع مشابهة لما نحن فيه هذه الأيام، ولو كنّا عمِلنا بمفهوم التضحية الحسيني لما عشنا هذه الظروف القاسية أبداً.. أيها السادة! إذا كنتم في كربلاء وسمعتم نداء الحسين، فهل ستكونون بجانبه مع كلّ تلك الآمال والأهداف؟ فإذا كنتم مستعدين لإعانته إذاً فلماذا لا تبادرون الآن بذلك وتسيرون على دينه ونهجه المقدّس؟!.. إنّ حال المسلمين على عهد يزيد أفضل ممّا نحن عليه اليوم؛ لقد كان الكفار يؤدّون الجزية والخراج للمسلمين، أما اليوم فقد وطئت هاماتنا، وبينما كان الدين آنذاك آخذاً بالتوسع والانتشار، نجده اليوم مشرفاً على الزوال، إنّ وضعنا الاجتماعي أسوأ بكثير ممّا كان إبّان حكم يزيد..([24]).
يُذكر أنّ الكاشاني كان مشوّهاً بسبب هذه الخطابات السياسية؛ لذا فهو يعرّج على الأحكام والتهم الصادرة بحقه فيقول: سيعتبرني بعضهم من السياسيين؛ لأنّني تكلّمت في هذا الموضوع، وسيشيع عنّي أنني صرت سياسياً..([25]).
ومهما يكن من أمر، فإنّ التحدّث بهذه اللغة وفي مثل هذه الأيام يكاد يكون مستغرباً، كأن يدعو المعزّين الى الاقتداء بالحسين والحال أن العزاء عندهم من الضروريات المسلّم بها ولا تأثير في أفكارهم لمعايير التحرّر والتمرد على الظالم، فهم يبكون من أمد بعيد على مظلومية الحسين لكنهم لم يفكّروا بسبب ذلك الظلم، إنّ عاشوراء حاضرة في هذه الأجواء بلا روح؛ لأنّها مفرّغة من الثورة والحماسة، بينما كان المفروض – حسبما يقول الحكيمي ـ: لو أنّ واحدة من مناسبات عاشوراء المتكرّرة أقيمت كما رسم لها الأئمة لكانت كفيلةً بتغيير مصير الأمم([26]).
كيف صارت السلطة نفسها ترعى عاشوراء الثورة ضدّ السلطة؟!
لقد حرّفت أهداف عاشوراء مراراً على طول التاريخ حتى أنها طمست بحيث لم تعد تشكّل تهديداً لأنظمة الغطرسة والاستبداد، ويكفي دليلاً على ذلك أنّ سلاطين الجور باتوا هم الرعاة والمؤسّسون لتلك المراسم والمجالس، كما هي الحال بالنسبة لملك الجور الشاه عباس الصفوي؛ حيث كان يقيمها بنفسه ويشارك في تفاصيلها أيضاً، أو كما «كان الديكتاتور ناصر الدين شاه القاجاري الذي لم يرَ تعارضاً بين ممارساته القمعية وتوفير أفضل وأحدث الإمكانات بغية إقامة مراسم التشابيه»([27])، يضاف إلى ذلك اهتمام الحاكم البهلوي بشهر محرّم وجلوسه تحت منابر العزاء. وهذا الدكتور محمد مهدي ركني واحدٌ من رجال الدين المستنيرين في خراسان، كتب عن مراسم العزاء بمدينة مشهد بين الأعوام 1320 – 1340ش/1941 – 1961م: كانت الهيئات الدينية والمواكب الحسينية آنذاك تابعةً للسلطة الطاغية بأكثر من شكل ومنفذةً لمآربها، ولهذا السبب كان العلماء المجدّدون ينتقدونهم؛ لأنهم كانوا يرون في ذلك استغلالاً لعاطفة الشعب الصادقة بما يصبّ في المرامي الخبيثة لسلطة الجور، يُذكر أن عدد الهيئات في مشهد بلغ في وقتها سبعين هيئةً وموكباً([28]).
ويؤيّد الأمر عينه عالمٌ آخر من الطراز نفسه ومن المهتمين بشأن خراسان، وهو علي أمير بور، حيث يقول: لقد تحوّلت الهيئات الدينية تحت ظلّ الثورة الإسلامية ووصايا رجال الدين الواعين إلى عنصر فعّال في الحفاظ على كيان الدولة وقيم الثورة بعد أن كانت منقادةً – عن تضليل – لمآرب الاستعمار ومكايده([29]).
على أيّ حال، بقيت عاشوراء عالقةً في ذاكرة التاريخ لكنّها ابتعدت عن هدفها؛ الأمر الذي جعل الظالمين لا يرون مانعاً وخطراً في مراسمها، حتى تراهم أوّل الحاضرين فيها، وهذا في واقعه نتيجة لانتشار المراسم المفرّغة من الهدف والفلسفة المنشودة بين الناس، حتى باتت تلك المراسم تُدار من قبل حكام الجور أنفسهم، فما عادوا يرون منافاة بين جورهم وإقامة مثل هذه الشعائر. فإن كانت تكلفتها الدمع المجرّد وإظهار اللوم، فما أسهل ذلك، وما الداعي لمنعها؟
كان هذا الاتجاه السلبي يثير حفيظة الطبقة الواعية من المستنيرين، فتتعالى انتقاداتهم له، فلم يكونوا ملحدين أو مرتدّين، وانما كانوا متقدّمين في فكرهم على عوام الناس، لقد قالوا أشياء أخذ بها رجال الدين الإصلاحيون فيما بعد، ومن بين هؤلاء محمد تقي بهار الذي هجا في قصيدةٍ له بعض المشاركين في مراسم العزاء ومواكبها؛ لجهلهم بحقيقة الحسين، فقال:
أصبح خادم الحسين شمرَ هذا الزمان
ثم يلعنه مائة مرّة في اليوم
هناك من يهتف بحياة يزيد كلّ صباح بتملّق وهم بالمئات
وهنا يلعنونه وهو جثةً هامدة، يلعنونه وحسب!
وبينهم مئات من عُبيد الله ماثلة
وهم يشكون عُبيد الله وهو مقبور([30])
كان هذا الواقع المرّ مشهوداً، مثل ما حصل في محرّم سنة 1330ش/1951م إبان هجوم الروس على مدينة تبريز عندما أخذوا ثقة الإسلام التبريزي لحبل المشنقة في يوم عاشوراء، فما كان من الجماهير إلا أن تسير في طريقها تلطم على صدورها دون أن تلحظ ظلم يزيد، كانوا يشتكون ظلم يزيد بالألسن وينادون: «يا حسين يا حسين»، لكنّهم يغضّون البصر عن إعدام تابعٍ للحسين في نهجه على أيدي الجيش الأحمر([31]).
وقبيل تنفيذ الحكم قرّرت بعض الطلائع الحرّة أن تحشد الجماهير في مكان الإعدام وتستنهض همّهم في إنقاذ هذا العالم، ولهذا الغرض توجّهوا إلى إحدى هيئات المدينة وكانت مركزاً لمواكب التطبير، وهناك قالوا لزعيمهم: إنكم مستعدّون لضرب رؤوسكم بالسيف من أجل الحسين، فهل تعلمون بأمر إعدام ثقة الإسلام على أيدٍ أجنبية مستبدّة؟ أنتم بأعداد مؤلّفة وهم لا يتجاوز عددهم المائتي جندي؛ فتعالوا وأثبتوا موقفكم وانتماءكم الحسيني بإنقاذه، وتيقنوا أنّ الحسين يثمّن هذه الرجولة أكثر من أيّ شيء آخر، فكان ردّ زعيم القوم باللغة التركية: أخي العزيز، إنهم يحملون أسلحةً قاتلة!([32])، وما أصدق ما قاله جلال الدين الرومي في مواكب مدينة حلب:
إذن، اندبوا أنفسكم أيها الغافلون
فغفلتكم وجهلكم أفجع من ذلك الموت
إبك على دينك المهجور، إذا لم يكن فيه إلا هذا التراب الغابر([33]).
استشهاد عاشوراء بعد استشهاد الحسين
نعم، هذا هو واقع الحال الذي يتحدث عنه الحكيمي فيقول: يضاف إلى استشهاد الإمام الحسين يوم عاشوراء، استشهاد عاشوراء نفسها على مسرح التاريخ؛ فقد غُيّب مبدؤها (العدالة)، ففي كل عاشوراء شهيدان يجب رثاؤهما([34])، ولو أنّ الإنسان أدرك كُنه عاشوراء وأبعادها، لنسي مصاب الحسين المحزن ولانقطع عن نصب المآتم عليه([35])؛ تأسيساً على ذلك، ثمّة ظلم في حقّ الحسين ظهيرة عاشوراء، وظلمٌ في حقّ عاشوراء على مرّ التاريخ، فلابد من بكاء الأول بعين والثاني بالعين الأخرى.
عاشوراء وآفة الإفراط والمبالغة
كان أرباب المراثي هم الورثة الأوائل – في القرون السابقة – للإمام الحسينB بدلاً من حملة الثورة والحماسة، وعندما منع رضا شاه (1313 – 1320ش) مراسم العزاء وإقامة المجالس الحسينية تعالت أصوات المرجعية والشعب بالفاجعة والاستغاثة، لكنّها لم تتعالَ خلال القرون المنصرمة عندما هجرت معالم كربلاء الثورية.
لقد بدا الانحراف يظهر أولاً عند استبدال عاشوراء الثورة بالمراثي والأحزان، وثانياً بدخول الخرافات على الثانية؛ فالكارثة الأولى في تنزيل عاشوراء الثورة منزلة المراثي، والأخرى في نفوذ الخرافة والتحريف إليها، وهذا ليس انحرافاً يسيراً، إنّ استبدال الثورة بالرثاء والرثاء بالخرافة يمثل انحرافاً مضاعفاً وأخطاء متراكمة، وسنتطرق هنا لكارثة الخرافات والمحرَّفات في النصوص الكربلائية ودواعيها.
لقد شهدت قصة عاشوراء بطولتين في الذروة: إحداهما في الإمام الحسينB وهي الإيجابية، والأخرى في يزيد وهي السلبية، فكان الحسين وأصحابه في ذروة المجد والعزة والمظلومية، كما كان يزيد وجيشه في ذروة النذالة والوحشية، فالحسين حقّق أعلى درجة في العزة والمظلومية، وكان عدوّه قد حقّق أعلى درجة في التعسّف والدناءة بخرقهِ قوانين الحرب وارتكابه تلك المجزرة البشعة، فكلّ شيء في عاشوراء كان في الذروة، ذروة الخير وذروة الشر، الشجاعة والجبن، الظالم والمظلوم، العزة والذلة؛ وإذا سلمنا بهذه الحقيقة، قادتنا للتسليم بقابلية حادثة عاشوراء لكلّ أنواع المبالغة والتهويل، لأنها مستعدة بطبيعتها لتمكين ظاهرة التعظيم المفرط من اقتحام جنباتها، فعلى سبيل المثال، لو قيل: توجد حيتان ضخمة في النهر، لصعب التصديق بها، بينما لو قيل بوجودها في المحيط الفلاني لما استبعد التصديق. إنّ عاشوراء بمثابة ذلك المحيط المترامي الأطراف المهيأ لنفوذ كلّ أنواع المبالغات والإفراط فيه، ومن لوازم هذا الاتساع بروز آفة إلصاق ما هو كاذب بها، الأمر الذي يستدعي التنبّه وعدم الخلط بين العقيدة والتاريخ، فعقيدتنا في الحسين أنه كان في قمّة المجد، وفي يزيد أنه كان في قمّة النذالة والظلم، لكن لا ينبغي أن تتحوّل هذه العقيدة إلى ذريعة لإقحام المبالغات بين حقائق التاريخ.
ويستحسن هنا ذكر أنموذج لنمطية تلك المبالغات، من قبيل ما روي في شجاعة الحسين وأبي الفضل العباس؛ فقد أحصى الفاضل الدربندي القتلى على يد الحسين في خمسين ألف مقاتل، بل في مائة ألف أو يزيدون([36])، بينما أثبت ابن عصفور البحراني رقم ثلاثمائة وثلاثين ألف مقاتل، وفي رواية أخرى أربعمائة ألف، أما من قتل على يد أبي الفضل العباس فقد بلغ خمساً وعشرين ألف قتيل([37]). وتخلّصاً من بعض الإشكاليات وقع هؤلاء المبالغون في مبالغتين إضافيتين: الأولى عدّ جيش ابن زياد في (460) ألفاً، بل بلغ الرقم (500) ألف في بعض الروايات، وأعجب من ذلك الرقم (1600000)([38]). أمّا الثانية، فجاءت لدفع استحالة مقتل هذا العدد الهائل في المدّة المعروفة عن واقعة الطف، فقالوا في تبرير ذلك: إنّ يوم عاشوراء كان (72) ساعةً، وأنّ الله – عزوجل – أخّر الشمس في كبد السماء فلم تغب([39]).
أما تمديد يوم عاشوراء إلى سبعين أو أكثر، فهو افتراء من الراوي ولم تذكره المصادر إطلاقاً، ثم إنّ المسعودي – وهو من معاصري الكليني – لم تتجاوز مبالغته في عددهم أكثر من 1800، أو 1950 عند شهر آشوب ومحمد بن أبي طالب([40])، ولو تنزلنا على رغبة الصياغة التاريخية وفرضنا مدّة خمس ساعات قضاها الحسين في قتال الأعداء وأنه يقتل واحداً كلّ ثانية – وهو مستحيل – فإنّ غاية ما يصله عدد القتلى هو (1800)؛ فأين هذا العدد من الخمسين أو المائة ألف؟! إنّ أصل هذه المبالغات يعود للاعتقاد الراسخ بشجاعة الإمام الحسينB، الأمر الذي شكّل ذريعةً بيد البعض ليضيف على عدد القتلى ما يشاء([41]).
تأصيل البكاء والخرافة هدفاً للحادثة
ثمّة عامل آخر ساعد على انتشار الخرافة في نصوص عاشوراء، وهو سعي البعض لإبكاء الجمهور أياً كانت وسيلته، معتبرين البكاء غايتهم القصوى من فلسفة عاشوراء. وكما نعلم فهناك روايات عديدة في ثواب البكاء والإبكاء على مصاب الحسين، وقد اتخذ بعضهم هذه الروايات ذريعةً لاختزال فكر الحسين وثورته في الدمع والنحيب، متجاهلين – في السياق ذاته – كلّ شيء خارج عن ذلك، بوصف البكاء هدفاً أوحد للقضية، وإذا تأطّرت عاشوراء بهذا الهدف وحده فمن الطبيعي أن يعمد أولئك النعاة إلى الزيادة في مأساوية كربلاء بنقف الحنظل والفلفل طلباً لكمّية أكبر من الدمع الهاطل. لقد تحوّلت عاشوراء عند بعضهم إلى رواية مفعمة بالدراما، تحيطها جملةٌ من العناصر المساعدة على إبدائها في أشجى صورة تستفزّ الدموع.
لا شك في أنّ هناك طائفة بين الناس ترفض الواقع الخالص من الزوائد، ولا تنقل ما تسمعه أو تراه أو تقرأه كما هو، فلا مناص من إضافة بعض المحفزات وتجنيحه قبل تقديمه، فكلّ حقيقة تمرّ عليهم لابد وأن يتلاعبوا بها، وهذا ما اعترف به خالد بن صفوان، فقال: «إني لأسمع الحديث مجرّداً فأكسوه، ممرّطاً فأريشه»، وسمع عنه أيضاً: «إني لأسمع الحديث فلا أحدّث به حتى أتوبله وأفلفله، وأسعتره»([42]).
لابدّ هنا من التنبّه لمسألة هامة تخصّ الروايات الواردة في فضل البكاء، وهي استحالة إدراك مقصودها دون الرجوع إلى زمن صدورها وسبب هذا الصدور، وهو أمرٌ أشبه بأسباب النزول التي تعيننا على فهم محتوى الآيات؛ فلنفرض الرواية هي المتن (Text)، وزمن الصدور وسببه أرضيةً لذلك المتن (Context) فلن يتسنّى إدراك معنى المتن دون مراجعة أرضيّته.
كان الأمويّون يعدّون يوم عاشوراء عيداً لهم فيحتفل الناس به بالثوب الجديد وتبادل الحلوى وإبراز كل المباهج ومظاهر الفرح والسرور([43])، وفي المقابل جاءت ردّة فعل أتباع التشيّع على هذه الظاهرة المناهضة لمذهبهم وحسينهم فدعوا الناس إلى بث الحزن والأسى في يوم عاشوراء والبكاء والإبكاء، فمثل موضوع إقامة المأتم في هذا القرن وتلك الأرضية موقفاً مخالفاً للسلطة الحاكمة ومبادرةً ثورية، بمعنى الانتماء إلى حزب الحسين ورفض الحكم الأموي وقتلة الحسين، بعبارة أخرى، إنّ لروايات البكاء مفهوماً من جهة ومقصوداً من جهةٍ أخرى، فالمفهوم ظاهرٌ للعيان تكشف عنه الروايات بنصوصها الحاضرة أمامنا، أمّا المقصود فهو عبارة عن حالة التضامن مع فكر الحسين ورفض حكم قتلته، فالبكاء هنا تعبيرٌ عن خنجر في صدور أعدائه؛ ولهذا السبب نجد بعض الروايات توصي أيضاً بالتباكي([44])؛ فلو كان البكاء في ذاته هدفاً لكان التظاهر به ضرباً من اللغو والعبث، لكنّ التأكيد على التظاهر بالبكاء يدلّنا على أنّ الهدف ليس في البكاء المحض، وإنما في أمرٍ آخر يقبع وراء البكاء نفسه.
لكنّ الذي حصل تغييب هذه الفلسفة الكامنة وراء المأتم والبكاء، فبات البكاء هدفاً قائماً بذاته، الأمر الذي جرّ بعضهم – بداعي إبكاء العوام الذي كان وسيلةً لا غاية – إلى خلط الصدق بالكذب بغية تحقيق هذا الهدف، إذاً هناك انحرافان حصلا على هذا الصعيد: الأول عدّ البكاء هدفاً بعدما كان وسيلة، والثاني تجويز شتى الوسائل بغية تحقيق هذا الهدف.
فلننظر إلى مهدي النراقي، ذلك العالم الأبرز في عصره، صاحب المؤلّفات الثمينة كجامع السعادات ومشكلات العلوم، كيف ترجّل عن صهوته العلمية بذريعة نيل الثواب، فعوّل على الضعيف من الروايات في كتابه: محرق القلوب، فكتب في تبرير رواية الأخبار الضعيفة والعمل بها يقول: «إنّ من المشهور بين العلماء وفقهاء الإمامية جواز الأخذ بالأخبار الضعيفة فيما يتعلّق بالمستحبات والمكروهات والمواعظ والحكايات، بمعنى أنّ ما يوجب منه الثواب لصاحبه عملاً أو تركاً سيكرمه الله تعالى على العمل بالمستحبّ أو ترك المكروه، وإن كان الرجل قد عمل بالحديث الضعيف. كذلك لو ورد خبرٌ ضعيف فيما يخصّ قصص الأمم السابقة جاز أيضاً للخطباء والرواة تناقله.. من ذلك يُفهم تعلّق الثواب والأجر برواية الأخبار الضعيفة وغير المعتبرة عن حياة النبي(ص) وأهل بيته(، ومن ينقل منها ما يبكيه ويبكي غيره فإنّ له أجر من بكى وأبكى في مصيبة سيّد الشهداء»([45]).
وما تطرّق له النراقي هنا ليس إلاّ ما عُرف بقاعدة التسامح في أدلّة السنن المستندة لجملة من الأحاديث، لكنّ هذه القاعدة:
أولاً: مختصّة بالمستحبات والمكروهات فقط، ولا يجري حكمها على القصص والحكايا([46])، وهو ما دعا ابنه أحمد النراقي في كتاب: عوائد الأيام، إلى نقده ورفض الفكرة برمّتها([47]).
ثانياً: لو فرضنا صدق هذه القاعدة على الأخبار والقصص، نسأل هنا عن هدف التأليف في الإمام الحسينB: هل هو تدوين التاريخ أم المصائب؟ فإن كان المؤلَّف كتاباً علمياً في أمور التاريخ امتنع درج الروايات الضعيفة فيه، وإن كان كتاباً في المصائب وما يُتلى على المنابر فالموضوع مختلف تماماً.
ثالثاً: حتى لو كان من نمط كتب المنابر والمصائب، فلماذا ندوّن من المصائب ضعيفَها؟ فكربلاء حزينةٌ بما فيه الكفاية ورواياتها المعتبرة في ذلك تفي بهذا الغرض.
ظاهرة النعاة تحت المنابر
قسّم علماء المسلمين – منذ القدم – المجتمعَ الى طبقات، منها: المفسّرون، المتكلمون، الفقهاء، الفلاسفة، وإلى جانب هذه الطبقات العلمية أيضاً ثمة مجاميع أخرى ليست في عداد العلماء لكنّها قريبة منهم وفوق مستوى عامّة الناس، وهم نعاة المراثي والمدّاحون والرواديد ووظيفتهم قراءة المصائب الحسينية وإبكاء الناس؛ إذاً فالنعاة أعلى مرتبةً من العوام – كما في الماضي – ولا يصلون مرتبة العلماء ولم يدّعوا ذلك إطلاقاً، ولعلّ من إشارات ذلك امتناعهم اعتلاء المنبر والاكتفاء بتلاوة المصائب والمقتل من تحته، مع ذلك تبقى هذه الجماعة الأكثر التصاقاً بقضية الحسين والراعي الأول لعاشوراء في المراثي.
وقد شكّلت طبقة النعاة منطلقاً لانبثاق الخرافات والتحريف في مشاهد عاشوراء، وقد اقتضت المرحلة تقسيم الأعمال كلاً بحسبه، فالفقه للفقهاء والعقائد للمتكلّمين وهكذا فروع العلوم الأخرى، أما تاريخ الإمام الحسين وسيرته – لا سيما القسم الأهمّ من حياته – فقد أوكل أمرُه للنعات، فإذا شئنا الاستشهاد بالقرآن قلنا: >تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى< (النجم: 22)؛ فلم يتطلّب النعي في الناعي شروطاً كثيرة، إذ يكفي امتلاكه صوتاً شجيّاً يساعده على إبكاء الحاضرين؛ وبذلك نكون قد أوكلنا موضوع الحسين إلى غير العلماء، وإنما إلى الغانين ذوي الأصوات الجيدة، وهذه الطبقة لا معرفة لها بمنهجيات التاريخ بل لا تحصيل دراسيّ لديها، فهم – أولاً – تابعون لرأي العوام، ومنقادون – ثانياً – لعواطفهم ومشاعرهم الجياشة، ولا هدف لهم – ثالثاً – سوى الإبكاء، وكل واحدة من هذه الصفات كفيلة – رابعاً – بسريان الخرافة والتحريف إلى نصوص عاشوراء، فكيف لو اجتمعت معاً في جماعةٍ ما؟ إذاً ما العمل؟ هل الحلّ إقصاء النعاة وسحب البساط من تحتهم؟ بالطبع ليس كذلك؛ لأنه إلغاء للمعادلة برمّتها، وإنما يكمن في تثقيف هذه الطبقة وتوجيهها نحو الصواب، أو بعدم تسليم زمام المنابر إلى أيديها؛ فإذا كانت لمنبر الحسين قدسيّته فكيف يجوز تمليكه للنعاة تحته؟ فلا ينبغي لعلماء الدين «الاستنكاف» من صعود المنابر وإيكال القضية لغيرهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المحدّث النوري كان من أوّل المبادرين إلى نقد النعاة فهاجمهم هجوماً عنيفاً قبل ارتقائهم درجات سلم المنبر الأولى، جاء في مقدمة كتابه اللؤلؤ والمرجان: «لقد اشتكى السيد محمد مرتضى الجونبوري الهندي – أيّده الله – الوضعَ المأساوي للنعاة عندهم بما ينسجون من أكاذيب وخرافات دون أيّ اكتراث، حتى وصل بهم الحدّ إلى التحريض وتجويز ذلك بداعي إبكاء المؤمنين ليبعدوه عن دائرة المعصية.. ويظهر أنّ سماحته ظنّ في مدن العتبات المقدسة بإيران خيراً بابتعادها عن مثل هذا البلاء، فلم تدخلها البدع والأكاذيب، وأنّ الأمر مقتصرٌ على بلاده فقط، متناسياً انتشار هذا التلوّث بانتشار مصادره في كلّ مكان، لكنّ المهمة ملقاة بطبيعة الحال على مراكز الحوزة العلمية والمتشرعة في العتبات المقدّسة؛ فلو أنهم لم يغضّوا الطرف وأشرفوا على فصل الصحيح عن السقيم والصادق عن الكاذب من أقوال هذه الطبقة ونهوهم عن الإفتراء، لما وصل بهم الحال إلى ما هم عليه من عدم الاكتراث والتجرؤ في نشر الأكاذيب الفاضحة؛ فجعلوا المذهب عرضةً للسخرية والانتقاص»([48]).
بدعة التطبير
تعود غالبية مظاهر العزاء الحسيني وأنماطها إلى اجتهادات عامّة الناس، فهم من يديرها ويؤسّس لها بشكل مباشر، وقد ابتكروا لذلك أشكالاً متعدّدة من قبيل: اللطم على الصدور، وضرب الصدور([49])، والضرب بالسلاسل، ونصب الأغلال، والتطبير([50])، ولم يتلقّ الناس هذه الأنماط من عالمٍ من العلماء، وإنما جاؤوا بها من قبل أنفسهم دون تدخّل العلماء فيها، إلا أنهم – فيما بعد – أجازوا بعضها وحرّموا بعضها الآخر.
وكان في انفراد عامّة الناس ودخالتهم المباشرة في ابتكار تلك الأنماط السبب الأساس في تسلّل الخرافة والتحريف لمضامين عاشوراء ومراسم العزاء، وإن كان دافعهم – دون أدنى شك – عن حسن نية وصدق عاطفة، ومن يشكّك في هذا فعليه التشكيك بحسن نواياه أولاً، لكنّ الكلام ليس في حُسن النية وعدمه، وإنما المسألة متعلّقة بوعي أولئك العوام، وليس لحسن النية أن يحلّ محلّ الوعي، بل من المستحيل استبدال أحدهما بالآخر، ومن قال بوعي عامة الناس، فإما أن يكون منهم أو من مضلِّليهم.
يميل العوام بطبيعتهم لكلّ ما هو غريب من الأساطير والخرافات وسرعان ما يعدّونه من الدين، وتراهم يحكمون العقل ميزاناً في جميع أمورهم الدنيوية، لكن إذا جاء دور الدين تعطّل ذلك الميزان ومالوا نحو الباطل، وهذا نابعٌ من زعمهم استهجان تحكيم العقل في المجال الديني، وأنّ ذلك يسيء لدينهم فيجب حينئذٍ تعطيل العقل، والواقع إنّ العوام من الناس والسذج يقفون في مقدّمة المتبضّعين من سوق الخرافة، بل إنهم من أوائل المسجّلين على تجهيزها سلفاً، وما أصدق مقولة ديورانت وأتباعه: يرغب عامة الناس في دين تملؤ أبعادَه المعاجزُ والأساطير والأسرار([51]).
لم يحصل ذات مرّة أن شرّع لنا عامة الناس أحكاماً في أمور الدين كالصلاة أو الصيام أو الحج، لكنّ إهمال ترسيم أطر محدّدة للشعائر الحسينية ترك الباب مفتوحاً أمامهم؛ فبادروا إلى تقديمها بما يتماشى مع أذواقهم الخاصّة وميولهم، فجاء بعضها مشوباً بالخرافة والبدع.
ويفسّر العزاء عند سائر الأمم بملازمة الحزن والأسى ولبس السواد والجزع والبكاء، وأحياناً باللطم على الصدور والرؤوس، ويؤيّد ذلك الأعراف الحاضرة عند أبناء المعمورة وحتى عند المسلمين، لكنّه لم يحصل أن يضرب أحدُهم رأسه بالسيف والسكّين، أو يثقب بدنه بالأغلال أو يحرق نفسه جزعاً وحزناً على عزيزٍ يفقده. نعم قد يجرّه الجزع في أقصى صوره إلى إيجاد جروح طفيفة نتيجة بعض ضربات اليد المجرّدة. أما تطبير الرأس بالسيف، وتخديش الظهر بالشفرات، أو ثقب الأبدان بالأغلال والحديد، أو إحراق الجسد وما شاكل ذلك.. فليس من العزاء في شيء، حتى وإن قيل: إنّه لا يضرّ بالجسد، أو لا يُسيء لسمعة الدين؛ فإذا كان الملاك في هذا هو العرف – كما يسمّيه الفقهاء – فإنّه لا يؤيّد دخول تلك المظاهر في مفهوم العزاء أو التأبين، والدليل على ذلك عدم ممارسة هذه الأفعال من قبل الفاقدين والوالهين على موتاهم في أنحاء العالم الأخرى.
لكن يمكن رصد المسألة من زاوية أخرى؛ فهل هذه الأعمال موجبة لإضرار النفس أم لا؟ وهل هي مُضعفة لشوكة الدين ومكانته أم لا؟ يضاف إلى ذلك معيار آخر يتساءل عمّا إذا كان يصدق على تلك الممارسات مفهوم مجالس العزاء والرثاء أم لا؟ إنّ ظاهرة التطبير وما شابهها من أعمال لا تدخل في معاني العزاء إطلاقاً، حتى وإن لم توجب ضرر النفس، ولا يعدّها العرف من هذا القبيل؛ لأنّه لم يمارسها في حياتهم اليومية، فلو عمّمنا الإشكالية الشرعية لهذه الظواهر تبقى في ذاتها خارجةً عن مصداقية العزاء الحقيقي، إذاً المطلوب – أولاً – إثبات انخراط قضية التطبير في حقيقة مصاديق العزاء، ومن ثم يأتي الكلام في جوازها أو عدمه.
إنّ خير دليل على عدم تأييد العرف العام لإقحام التطبير في مصاديق رثاء الموتى ومواساتهم هو انتفاء هذه الظاهرة بين الناس في الحالات المشابهة، وقد يقال: إنّ الحسين فوق فَقْد كلّ عزيز، ولابد أن يتناسب عزاؤه مع مكانته الرفيعة، نقول: هذا صحيح، ونضيف عليه: «أين الثرى من الثريا؟»، وكلّنا إذعان بهول المصيبة التي حلّت بركب الحسينB، مما يستحيل مقارنته بالسابق واللاحق لها، ولا يكفي في الحزن والأسى إطباق السماء على الرؤوس وليس التطبير وحده. لكنّ السؤال المطروح هو دخول هذه الممارسة فيما يصدق عليه العزاء وعدمه.
ولنا سؤال نوجّهه للفقهاء القائلين بجواز أو استحباب التطبير، وهو: متى كان ضرب الرأس بالسيف وشجّه نمطاً من أنماط الحزن والعزاء على الميت؟ وهل ثمة عرف أيّد ذلك؟ إلا إذا عدّينا مذهب «لومبين» عُرفاً من الأعراف الاجتماعية، وهذا لن يقدّم لنا إلا عاشوراء من الصعلكة والإجرام ووأد شمسها في التراب. وسؤالنا الآخر لأولئك الفقهاء هو: إذا كان التطبير مباحاً أو مستحباً فلماذا تُعرضون عن ممارسته؟ إنكم لا تقولون بمخالفة هذا العمل للشرع المقدّس، لكنكم ترون فيه منافاةً للشخصية والكبرياء فلم تمارسوه بالمرّة، إذاً كيف يكون هذا منافياً لشخصيّاتكم ولا ينافي مكانة الحسين وعاشوراءه؟
وفضلاً عن عدم صدق مفهوم العزاء على التطبير، فإنّ مجرّد حمل هذه الآلة الجارحة يعدّ جرماً، فلم تُستعمل خلال القرنين الماضين إلا في أعمال الشرّ والتعدّي على الآخرين؛ فكان الأشرار من الفتوّات والأشقياء في المدن الكبرى يستخدمونها في استفزاز الآخرين وانتهازهم، لقد تحوّل هذا السيف من سلاح حروب إلى وسيلة في التعدّي على حقوق الآخرين وإيجاد الرعب والعنف في المجتمع. يقول عبدالله المستوفي في هذا الخصوص: في الماضي كان من أبرز دلائل شجاعة الفتوّات في حارات طهران العربدة والسكر في الشوارع وحمل الخناجر والسيوف وإغلاق الطرق والمعابر([52]). كما جاء أيضاً في قاموس (دهخدا) [بالفارسية] تعليقاً على معاني «قمة» [والتي تعني في العربية السلاح ذي الحدّين وهو أصغر من السيف]: «يعدّ سحبها والتلويح بها كناية عن الشر والطغيان»([53])، ولهذا يمنع حملها في القانون الإيراني.
في المقابل نجد الفقهاء كثيراً ما يمعنون النظر في أحكام آلات الموسيقى المستخدمة في مواكب العزاء؛ فيرفضون استخدام بعضها، وهذا النوع من التمحيص والتدقيق – بلا شك – من الأمور الملحّة، لكن كيف سقط حكم آلةٍ جارحة بهذا الحجم من تلك التدقيقات؟ فإذا كان استخدام آلات الموسيقى حراماً، فإنّ استخدام آلة الشر والعنف حرامٌ من باب أولى.
ومن المفارقات أيضاً ما يروى عن امتناع خطباء المنبر من استعمال مكبّرات الصوت الحديثة معتبرينها من «أبواق ومزامير» الشياطين، لكنّ هؤلاء المحتاطين تخلّوا عن احتياطهم عندما واجهوا موضوع التطبير؛ لقد شهدت السنون الماضية ممارسات غريبة على هذا الصعيد، فكان بعضهم يضع شفرات متعدّدة على قبضة السلاسل ويقرع بها ظهره حتى تنزل الدماء منه، كما كان هناك من ينخر جسده بواسطة الأقفال والأغلال، كما كانت الشيعة في الهند وباكستان توقد النيران وتقفز عليها، إلا أنّ هذه الممارسات انقرضت شيئاً فشيئاً، وبقي منها التطبير على حاله، ولا يزال بعض الفقهاء يقول بجوازه بل باستحبابه أيضاً، والحال أنّه لو جاز ذلك لسرى جوازه على تلك الأعمال المنقرضة؛ لأنها جميعاً من نمط واحد والإفتاء بجواز واحد منها إفتاءٌ بجواز أترابها؛ فما الفرق بين الضرب بالحربة والسيف والضرب بالشفرة؟ أو ما الفرق بين شجّ مَفْرَق الرأس ونخر الجسد بالأغلال؟ ومهما وضعت أسماء لهذه الممارسات، استحالت تسميتها بالعزاء والرثاء ونأت عن مصاديقهما، ويمكن أن نطلق عليها استعراضات مذهبية، ولا نعني بالاستعراض مفهومه الفنّي، ولا بالمذهبي أنّها مما أقرّه المذهب، بل هي عبارة عن بعض الممارسات التي تقدّم للمشاهد باسم المذهب، وهي وإن كانت بهدف العزاء لكنّها ليست من مصاديقه إطلاقاً، وهذا من قبيل أن يلتزم أحدهم الصمت بهدف العزاء والحزن وإثبات مشاركته فيه، فسكوته وإن جاء بهدف العزاء إلا أنه لا يندرج – بحالٍ من الأحوال – ضمن مصاديق العزاء.
إذن، كيف حدث وشقّت طريقها هذه الآلة القبيحة (الحربة) إلى الشعائر الحسينية؟ القصّة – باختصار – أنّ الفاضل الدربندي كان يرى في العزاء هدفاً يجوّز جميع الوسائل في تحقيقه، فالتجأ إلى موضوع التطبير ونظّر، وكان يقول: إنّ الغاية من خلق العالم هي إقامة العزاء على الحسينB: «إنّ الدنيا وما خلق لأجل إقامة عزاء الحسين فيها»([54]). وما أكثر ما كتب ووضع من كلام بغية تسخين المشاعر، فشرّع ما كان ممنوعاً، وقد وردت أكثر تلك الأكاذيب في كتابه (أسرار الشهادة) الذي سبقت الإشارة إليه. وكان من جملة محاولاته ادّعاء دفن رأس القاسم بن الحسن في الضريح الكائن في منطقة تجريش شمال طهران، والمعروف أنه استشهد يوم عاشوراء، وكان يبغي من زعمه هذا استثارة المشاعر في مواكب العزاء هناك. فما كان من الميرزا فرهاد – معتمد الدولة وهو من نجباء أمراء القاجار وصاحب الكتاب القيّم في الإمام الحسين – إلا أن طالبه بتقديم الدليل على ذلك، فأخرج الدربندي قرآناً من جيبه وقال: أقسم بهذا القرآن بأنّ هذا القبر هو مدفن رأس القاسم بن الحسن المقتول بوقعة الطف([55]).
هكذا كانت مبادرات الدربندي؛ حتى وصلت إلى تأسيس ونشر فكرة التطبير، يقول المستوفي في هذا الخصوص: إنّ ضرب الرؤوس بالسيف والشفرات يوم عاشوراء كان من ابتكارات هذا العالم في تلك الشعائر، أو في أقلّ تقدير من المروّجين لهذه الظاهرة؛ فزعم الثواب في ارتكاب هذا المحرم([56]). كما قال مهدي بامداد أيضاً كلاماً مشابهاً: لقد جوّز ما كان مخالفاً للأصول الإسلامية، وسنّ ضرب الرأس بالسيف والشفرة في ذكرى عاشوراء، ومارس ذلك بنفسه أيضاً.. ومنذ ذلك الحين درج العوام.. اقتفاءً لعمله على التطبير في عاشوراء([57]). كذلك كان من جملة ما انتشر بين الناس آنذاك لبس الأطواق والقلائد على الرقاب تمثلاً بكلاب الحسين ومجانينه، والزحف على الصدور في زيارة مراقد الأئمة، والسجود على أعتاب الأضرحة والصحون، ولابد من تنبيه هؤلاء المعزّين إلى أنّ الحسين ليس بحاجةٍ إلى الكلاب، بل إلى الإنسان، ولا إلى المجانين بل للعقلاء، ولا يريد سجوداً لنفسه، وإنما يريد عبادة الله خالصة.
أين هو فقه الشعائر الحسينية؟!
وليست هذه الأعمال والشعارات إلا مصداقاً لمفهوم (سباق الدين) والانجرار – بداعي الخوف من القصور والتقصير – إلى الغلوّ والإفراط في الأداء حتى التدلّي من الهاوية والسقوط فيها، إنّ للدين حدوداً لا يمكن تجاوزها، وإن كان على حساب التديّن المزعوم. لقد بات حرياً بفقهائنا الكتابة في فقه الشعائر الحسينية في عصرنا والشروع في طرح الوسائل والإمكانات المتعدّدة، تبييناً للمطلوب والمرفوض في هذا الباب؛ فليس ثمّة كتاب مستقل في فقه هذه الشعائر، والحال أنّ الناس تمارسها وتعكف عليها لمدّة شهرين من كل عام دون أن تطّلع على أحكامها الشرعية.
يُذكر أنه عندما اعترض آية الله البروجردي على بعض مظاهر العزاء في شهر محرّم جوبه بالانتقاد وقيل له: نحن مستعدّون لتقليدك في كلّ أيام السنة باستثناء هذه الأيام من محرّم، وكل من يتصدّى للبدع والخرافات يُتهم مباشرةً بالخروج عن منظومة الحسينB وشعائره. هكذا كان السذج ومضلّلوهم يلجمون أفواه المستنيرين؛ إذاً كيف تتمّ المعالجة وما سُبلها؟
أحد تلك السبل تصدّي الحوزة العلمية لشرح أحكام فقه الشعائر الحسينية؛ وذلك باستنباطها من مظانّها وتقديمها على شكل رسائل علمية وعملية لكافّة المستويات، ولابد من تنفيذ ذلك بما لا يترك مجالاً للعوام بالمخالفة وعدم الامتثال للتقليد في هذه المسائل، وهو ما لا يحصل إلا بعزيمة الإصلاحيين من العلماء وترك التقية والخوف، والتضحية في سبيل تهذيب مراسم العزاء الحسيني، كما فعل العلامة السيد محسن الأمين في كتابه (التنزيه لأعمال الشبيه).
ضرورة الإصلاح، النوري والأمين أنموذجاً
تنقسم الشعائر الحسينية إلى نوعين: قراءة المراثي على المنابر، ومواكب العزاء، أمّا الأول فمصدره النعاة، وتُدار المواكب من قبل الناس بشكل مباشر، وهنا يكمن السبب في نفوذ الخرافة والبدعة لهذين النوعين، وقد سبقت الإشارة إليه. لكن ما يجب الاهتمام به الآن هو تهذيب نصوص المراثي ومظاهر العزاء صيانةً لهاتين الشعيرتين، وقد كان من المبادرين لهذه المهمّة الصعبة خلال القرن المنصرم عالمان من كبار علماء الشيعة، ولم يعتن الآخرون بذلك؛ فظلّ الأمر مسكوتاً عنه تماماً.
أما العالم الأول فكان الميرزا حسين النوري – صاحب مستدرك الوسائل – الذي ألّف كتابه اللؤلؤ والمرجان سنة 1319هـ، ونظّر فيه لضرورة توفّر شرطين أساسيّين في النعاة قبل ارتقائهم المنبر تهذيباً لأدائهم، فوضع في الدرجة الأولى شرط الإخلاص، وفي الثانية شرط الصدق؛ كاشفاً من خلال ذلك عما يتلبّد خلف الستار من رياءٍ وكذب.
ثم جاء من بعده العلامة محسن الأمين – صاحب كتاب أعيان الشيعة – وكتب مؤلّفه (التنزيه لأعمال الشبيه) سنة 1346هـ، متصدّياً من خلاله لتهذيب مظاهر العزاء والتطبير ومراسم التشابيه الاستعراضية؛ حيث إنّ معنى التنزيه هو تنزيه الحقائق من التحريف، كما هو المعنيّ في كتاب اللؤلؤ والمرجان الذي تعهّد فيه النوري بمحاربة الخرافة وتنزيه المنبر عنها، بينما جاء كتاب السيد الأمين من أجل تهذيب مواكب العزاء من الخرافات والأساطير، على أن قصب السبق كان من نصيب كتاب اللؤلؤ والمرجان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد حظي اللؤلؤ والمرجان بقبول واسع، بخلاف التنزيه الذي عورض كثيراً وكتبت حوله الردود والرسائل([58]).
نقد فكرة حاجة الناس إلى الخرافة لتثبيت دينها
والمؤسف أنّ مشروع هذين العالمين لم يستكمل بعدهما، فاستفحلت نظريات العوام مرّةً أخرى، والأسواء من ذلك أنك تسمع بعض الأصوات تتعالى بالتهريج والفوضوية إذا ما طُرقت مواضيع التنزيه والتهذيب في الشعائر الحسينية، زاعمين أنّ ذلك ارتداد عن الفكر الحسيني برمّته، ويفسّرون نقد مظاهر العزاء رفضاً لأصل العزاء فيصوّرون الانتقاد على أنه مخالفة شاملة.
ونحن بدورنا نصرّح – علناً – أنّه لا يوجد شيعي، بل مسلم، بل إنسان حرّ يخالف فكرة عزاء الحسينB، فالعين التي لا تدمع لمصاب الحسين، والقلب الذي لا يشجى في مأتم الحسين ليسا من الإنسانية في شيء، وأنّ كل من يرفض العزاء الحسيني فهو أمويّ الهوى والنزعة وإن كان من مسمّيات التشيع أو الإسلام. باختصار، لم يقم أحد خلال القرن المنصرم بالاعتراض على أصل فكرة العزاء الحسيني، وما نحن بصدده هو الإصلاح في مصاديق ذلك العزاء ومراسمه دون توجيه أيّ انتقاد للعزاء بما هو عزاء في ذاته، لكنّ أولئك المهرّجين ضلّلوا الرأي العام بخلطهم الأوراق، وبثوا الخلاف والفرقة بذريعة مواجهة أعداء الحسين وعاشورائه، علماً أنّه كانت هناك طائفة من الراديكاليين ترفض مبدأ محاربة الخرافة أساساً بزعمهم أنّ لتلك الخرافات دوراً في تثبيت الدين والتفاف الناس حوله، وهم لا يرون في البدع تضعيفاً لكيان الدين، وإنما يقولون بعكس ذلك تماماً، أي أنّ الخرافة هي التي تؤمّن حيوية الروح الدينية لدى الشعوب، مع أنّ الخرافة بدعة، والبدعة عند المحافظين مرفوضة بكلّ أشكالها، لكنّهم هنا لم يعيروا بالاً لتلك البدع؛ لأنهم اعتبروها بدعاً حسنة تُسهم في الحفاظ على التفاعل مع الدين.
ويمكن تفنيد هذه النظرية بما يلي:
1ـ إنما يحفظ الإسلام بالمنطق القويم والعقلانية المثلى.
2ـ الهدف لا يبرّر الوسيلة، وعليه لا يمكن استخدام وسائل غير شرعية في سبيل الحفاظ على الشرع.
3ـ حتى لو سلّمنا بوجود طبقة من العوام تُيّمت ببعض الخرافات الدينية فتمسّكت بدينها، لكننا لا ننسى في المقابل أنّ هناك من فرّ من الدين بسبب تلك الخرافات ذاتها، وهي التي قد شوّهت صورة الإسلام في نظر البعض.
4ـ لابد في الحفاظ على الدين من الاقتداء بأئمة ذلك الدين، فلسنا أحرص من البابا على المسيحية ولا من المعصوم على الإسلام؛ فهذا هو سيّد الأئمة لا يؤيد توظيف أساليب فاقدة للعقلانية والمنطق في طريق الحفاظ على الدين وكيانه، وخير دليل على ذلك ما روي عن النبي(ص) من حادثة كسوف الشمس بُعيد وفاة ابنه إبراهيم، حيث سرعان ما زعم الناس اتصال هذه الظاهرة بنبأ وفاة ابن الرسول الأكرم(ص)، وبمجرد أن سمع(ص) بالخبر خرج إلى الناس وقال: أيها الناس! إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياة أحد([59])؛ فليس هناك شخص أكثر حرصاً على الإسلام من النبي(ص)، لكنه لم يتوسّل بالخرافة بغية تثبيت أقدام المسلمين على دينهم، بل إنه لم يسكت عنها أيضاً بل صرّح برفضها رفضاً قاطعاً، فأين من هذا المنطق أولئك الدعاة إلى تبرير إقحام الخرافات في الدين طلباً لاستمالة العوام والدخول فيه أو البقاء عليه فحرصوا على عدم (تشويش) خواطرهم الراكدة، فليس التسابق مع أئمة الإسلام إلا تخلّفاً عن ركبهم الحق، وهذا هو معنى الإفراط والتفريط بعينه، ومصدر كليهما الجهل المحض.
والغريب أنّ ذوي البدع يغلّقون مسامع الناس بشمع الخرافات التي تجري على ألسنتهم، فيما كان واجب الأنبياء في نشر رسالاتهم يتمحور في أمرين: التلقين وتجريد الناس من الباطل المقيم في مسامعهم وآذانهم، أي أنهم يطرحون عقيدةً ويلغون عقيدة سابقة؛ فإن كانت ثمة ضرورة في الحفاظ على أمزجة الناس وخواطرها فلماذا بعث الأنبياء بكلّ تلك الكتب والرسالات؟ وأين ذكرت مجاراتهم للعوام في الإبقاء على الخرافة والتحريف؟ بل في خلاف ذلك يكمن السبب في محاربة الأنبياء وكثرة خصومهم في مطلع بعثتهم؛ ذلك أنهم يمثلون ثورةً على كلّ باطل في المجتمع وخرافة، ولأنهم لم يؤسّسوا تعاليمهم ممّا يصدر من أفواه العوام بل بما يوحى إليهم من السماء. ودع عنك قصص الأنبياء وراجع تاريخ المصلحين بشكل عام، فهذا سقراط يحاجج ألقيبيادس فيسأله: أين تعلّمت هذه المعتقدات؟ فأجابه: من الناس، فقال سقراط: لستَ بالعالم الحصيف([60]).
وتلخيصاً لما مضى نقول: ثمة ضرورة ملحّة – أولاً – لتنزيه وتهذيب كلام النعاة والخطباء، وكذلك هي الضرورة قائمة – ثانياً – لإصلاح مظاهر المواكب والهيئات العزائية، وهذه المهمّة منوطة برجال الدين قبل أيّ أحد آخر، ويتعيّن عليهم لتحقيق هذا الهدف أن لا يخشوا ردّة فعل العوام ومضلّليهم فيداهنوا أو يجاملوا على حساب ما هو أسمى وأبقى، وليشتروا ذلك بأرواحهم إن لزم الأمر.
الهوامش:
(*) باحث متخصّص في التراث والببلوغرافيا.
([4]) سيلونه، نان وشراب: 435، ترجمه للفارسية: محمد قاضي، طهران، زرين، 1381ش/2002م، ط.16، يقول آندرا جيد: (مآل كل تضحية تحقيق للوجود، وكلّ ما تتركهُ في خلجاتك يبحث عن وجوده، ومن أراد تحقيق ذاته ألغى وجوده؛ لأنّ التفاني في الذات إثبات لها»؛ انظر: مائده هاى زميني ومائده هاى تازه: 272، ترجمة: حسن هنرمندي، طهران زوار، 1357ش/ 1978م.
([5]) فريد الدين العطار النيشابوري، خسرو نامه: 25، تحقيق أحمد سهيلي خوانساري، طهران، زوار 1355ش/1976م.
([6]) راجع في ذلك: جلال الدين الفارسي، انقلاب تكاملي إسلام: 704 ـ 710، طهران، دار العلم والثقافة، 1361ش 1982م.
([8]) أبو ريجان البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية: 420، تحقيق: برزيز اذكائي، طهران، مركز نشر ميراث مكتوب، 1380ش/2001م، ط1.
([9]) للتحقيق في ذلك يراجع: الميرزا أبو الفضل الطهراني، شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور 1: 226 ـ 229، 448 ـ 452، تحقيق السيد علي موحّد الأبطحي، قم، محقق الكتاب، 1370ش/1991م، ط3؛ وعلي شريعتي، حسين وارث آدم: 111ـ 122، طهران، منشورات دار القلم، 1360ش/1981م.
([10]) ابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف: 201، تحقيق فارس تبريزيان (حسون)، طهران وقم، دار أسوه، 1375ش/1996م.
([13]) تظهر في أسماء وعناوين المؤلّفات السابقة مفردات تراجيدية كثيرة، منها: طريق البكاء، طوفان البكاء، عمّان البكاء، أمواج البكاء، رياض البكاء، مفتاح البكاء، منبع البكاء، مخزن البكاء، معدن البكاء، مناهل البكاء، مجرى البكاء، سحاب البكاء، عين البكاء، كنـز الباكين، مبكى العيون، مبكى العينين، المبكيات، بحر الدموع، فيض الدموع، عين الدموع، سحاب الدموع، ينبوع الدموع، منبع الدموع، دمع العين، مدامع العين، مخازن الأحزان، رياض الأحزان، قبسات الأحزان، مثير الأحزان، مهيّج الأحزان، نوحة الأحزان وصحيفة الأشجان، أحزان الشيعة، بحر الحزن، كنـز المحن، بحر الغموم، بحر الغم، قصص الغم، واحة الغموم، الهم والغم، مشرط الغم، كنـز المصائب، مجمع المصائب، وجيزة المصائب، إكليل المصائب، للإطلاع يراجع: محمد اسفندياري، كتابشناسي تاريخي إمام حسين%: 38 ـ 39، طهران، وزارة الإرشاد والثقافة الإسلامية، 1380ش/2001م، ط1.
([14]) بينما شاعت في كتابات المتأخرين مفردات الثورة والحماسة والسياسة بشكل لافت من قبيل: في ظلال الحرية، زعيم الأحرار، الحسين حامل لواء الحرية، الحسين سيّد الأحرار، الحسين رمز الحرية، الملحمة الحسينية، ملحمة عاشوراء، ملحمة كربلاء، رجال الثورة، رسالة الحسين الثورية وظروفها الحرجة، ثورة الحسين، ثورة الطفّ، النهضة الحسينية، نهضة عاشوراء، الأهداف الاجتماعية عند الحسين بن علي%، وتحليل دوافع ثورة كربلاء، الثورة الخالدة، للإطلاع المرجع السابق.
([15]) ميرزا أبوالفضل زاهدي قمي، مقصد الحسين: 9، قم، مؤسسة بيروز، 1350ش/1971م، ط2، وجاءت هذه النظرية رداً على سؤال بعضهم عن مسألة الاقتداء بالإمام الحسين في مواجهة سلاطين الجور.
([16]) ميرزا محم تقي سبهر (لسان الملك)، ناسخ التواريخ، في أحوال سيد الشهداء% 1: 266، طهران، المكتبة الإسلامية، 1398هـ.
([17]) ميرزا محمد باقر شريف الطباطبائي، أسرار شهادة آل الله صلوات الله عليهم: 133 ـ 134، [دون مشخصات مكتبية].
([19]) يُذكر أن الكاتب مجيد محمدي كان قد صرّح بهذه النظرية في مقاله (فرهنك عاشورا در عصر سكولار) [عاشوراء في العصر العلماني] محاولاً تصوير فكرة الفدية بشكل أكثر منطقيةً. لكن على فرض التسليم بمنطقية هذه الفكرة يبقى من الصعب تطبيقها على ثورة الحسين واستشهاده. وقد يكون من السهل تضمين عشرات الأهداف للحسين في ثورته ويبقى الموضوع قائماً في تحديد أحدها، ثم إنّ التاريخ عبارة عن علم نقلي ولابد لنظرياته أن تنطوي على مقاييس النقل والرواية. أما فرضياتنا فهي وإن كانت على قدر من الصحّة، لكنّ الصعوبة تكمن في فرضها على ذلك التاريخ، فهو ليس محلاً لتأسيس الأفكار بقدر ما هو مظنّة للبحث عن الأخبار، إذاً يتعيّن علينا البحث في صفحاته عن أهداف الحسين من خلال المأثور عنه من أقوال.
لكن ما الذي دعا الكاتب إلى هذا التنظير؟ نقرأ جواب هذا السؤال في نصّه الآتي: «هناك تطابق كبير بين النظرة المسيحية لمعاناة الإمام والوضع المهيمن على العالم الحديث»، يظهر أن الولع بـ «عالم الحداثة» لا يزال مسيطراً على مفكّرينا، وليست حداثة اليوم إلا بديلاً عن ماركسية الأمس، فبينما كان المستنيرون متأثرين بالماركسية سابقاً نراهم اليوم متأثرين بالحداثة، فلم يتخلّصوا من المستنقع الأول حتى سقطوا في الآخر، ففي الأمس القريب كانت الماركسية رمزاً للنضال، أما اليوم فالحداثة باتت تساوي المنطق، والغربنة تساوي الثقافة. انظر: عاشوراء دركذار به عصر سكولار (مجموعة مقالات): 207 ـ 225، إعداد: حسين نوراني نزاد وأمين جالاكي وسمية عالمي بسند، طهران، كوير، 1383ش/2004م، ط1.
([21]) المصدر نفسه 1: 563، بتصرّف؛ وأيضاً يراجع: نصر الله فلسفي، زندكاني شاه عباس أول 3: 7 ـ 9، طهران، جامعة طهران، 1353ش/1974، ط3.
([24]) مجموعة من خطابات آية الله الكاشاني 1: 21، 26 ـ 27، جمعها: م. دهنوي، طهران، جابخش، 1361ش/1982م.
([26]) محمد رضا حكيمي، سرود جهشها: 72، طهران، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1378ش/1999م، ط9؛ ولعلّ مقولة حكيمي هذه قد تجلّت في عاشوراء 1399هـ (آذر 1357ش)، حيث شهدت إيران هذا اليوم أضخم مظاهرة في تاريخها ضدّ الحكم البهلوي بوحي من نهضة الإمام الحسين%، وليس هناك يوم بين أيام الثورة الإسلامية في إيران أهمّ من هذا اليوم المصيري، فالحقيقة كان سقوط نظام الشاه مؤرّخاً بهذا اليوم تحديداً وليس هو إلا عبارة عن استفتاء عام اُجري دون تسجيل أسماء؛ للاطلاع يراجع: محمد اسفندياري، بيك آفتاب، بزوهشي در كارنامه زندكي وفكري آية الله السيد محمود طالقاني :245 ـ 258، قم، صحيفة خرد، 1383ش/2004م، ط1.
([27]) حميد عنايت، أنديشه سياسي در اسلام معاصر: 313، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، طهران، خوارزمي، 1372ش/1993م، ط3.
([30]) ديوان أشعار ملك الشعراى بهار: 263، طهران، آزاد مهر، 1382ش، ط1؛ أيضاً يراجع ما جاء من شعره: 332 ـ 333؛ ولبهار أشعار عصماء في مدح أهل البيت(.
([31]) والميرزا علي التبريزي المعروف بثقة الإسلام التبريزي هو أحد تلامذة حوزة النجف الأشرف وصاحب الكتاب القيّم (مرآة الكتب)، كان من قادة الحركة الدستورية بتبريز. وعلى الرغم من إغارة الجيش الروسي على مدينته ووصايا أقربائه بالرحيل إلا أنه لم يعبأ بكلّ ذلك وظلّ صامداً فيها حتى اعتقاله وإحضاره إلى القنصلية الروسية، وهناك قال مخاطباً القنصل الروسي: أنا أعمل بواجبي الإسلامي والوطني، لأنّي لا أرتضي خضوع المسلمين للأجانب، وقد طلبوا منه تأييد تواجد هذه القوات بذريعة عجز الحكومة الإيرانية عن إقرار الأمن في مدينة آذربيجان، فرفض وقال لهم: انسحبوا أنتم من هنا وأعدكم بإقرار كامل للأمن والقانون. هذه المواقف وغيرها هي التي قادته وبعض رفاقه إلى حبل المشنقة في يوم عاشوراء. يراجع: دائرة المعارف تشيّع 5: 218 ـ 219، طهران، محبي، 1375ش/1996م، ط1.
([32]) مصطفى دلشاد الطهراني، مدرسة حسيني: 17، طهران، دريا، 1381ش/2002م، ط16؛ نقلاً عن محمود عنايت، نكين (العدد 23، فروردين 1346): 2.
([33]) الرومي، مثنوي معنوي، الكتاب الرابع: 843 ـ 844، تحقيق: قوام الدين خرمشاهي، طهران، دوستان، 1379ش/2000م.
([38]) المصدر نفسه: 345، 417 ـ 418: ويراجع في نقده: النوري، لؤلؤ ومرجان در شرط بله أول ودوم منبر روضه خوانان: 160 ـ 161، 184 ـ 185، تحقيق: حسين استد ولي، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1375ش/1996م، ط1.
([41]) ومن تلك المبالغات ما تقل عن عاقبة قتلة الحسين% في الحياة الدنيا وما وقع عليهم من بلاء وعذاب، فتذكر إحدى الروايات بأنّ رجلاً منهم ابتُلي بعاهة في جهازه التناسلي بحيث بلغ طوله ستة أمتار مما اضطرّه لحمله على كتفه حيناً أو إلى طيّه على رقبته حيناً آخر. ومما يزيد في السخرية أنّ راوية الخبر من النساء، وإنّك لترى هذا الخبر ـ على سخفه ـ يتداول بين هذا الكتاب وذاك زعماً في إثبات فضيلة للحسين%؛ للاطلاع أكثر على هذا الموضوع أنظر: بحار الأنوار 45: 311؛ ومحب الدين الطبري، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 144، القاهرة، مكتبة القدسي، 1356؛ وابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 4: 56، تصحيح: سيد هاشم رسولي محلاتي، قم، منشورات العلامة؛ وعبد الله البحراني، عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال 17: 613، قم، مدرسة الإمام المهدي، 1365، ط1؛ والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي، ملحقات الإحقاق 11: 533 ـ 535، و27: 351 ـ 352، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1415هـ، ط1؛ ومحمد باقر المحمودي، عبرات المصطفين في مقتل الحسين% 2: 367، 369، قم، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، 1415هـ، ط1.
([42]) أبو القاسم حسين الراغب الإصفهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 1: 123، قم، المكتبة الحيدرية، 1374ش/1995م، ط1.
([43]) السيد جعفر مرتضى العاملي، المواسم والمراسم: 82 ـ 87، طهران، منظمة الإعلام الإسلامي، 1408هـ، ط2، جاء في زيارة عاشوراء: اللهم إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أمية وابن آكلة الأكباد.. وهذا يوم فرحت به آل زياد وآل مروان بقتلهم الحسين صلوات الله عليه.
([46]) للتحقيق في هذا الموضوع تراجع أحاديث (من بلغ) التي يفهم منها اقتصارها على المستحبات والمكروهات دون الحكايا والقصص، وقد جمعها السيد عبد الله شبر في باب مستقل من كتابه الأصول الأصلية والقواعد الشرعية: 164 ـ 165، قم، مكتبة المفيد، 1404هـ.
([47]) أحمد النراقي، عوائد الأيام: 793 ـ 794، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1375ش/1996م، ط1.
([50]) يرجع تاريخ ما نشاهده في هذه الأيام من مراسم العزاء إلى القرن الرابع، حيث كانت النساء أيضاً تخرج للمشاركة فيها ناثرات الشعور وهو ما انقرض لاحقاً. ويروي ابن كثير في أحداث سنة (352): (في عاشر المحرّم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه أن تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسموح من الشعر وأن يخرجن في الأسواق حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهنّ، يلطمن وجوههن، ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب)، ابن كثير، البداية والنهاية 11: 243؛ وعن عاشوراء سنة (354) كتب يقول: «.. وغلّقت الأسواق وعلّقت المسموح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهنّ، ينحن ويلطمن وجوههنّ في الأسواق والأزقة على الحسين»، المصدر نفسه: 254؛ أيضاً ينظر: تاريخ ابن خلدون 3: 452، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1391هـ.
([51]) ويل ديورانت، درسهاى تاريخ: 207، ترجمه للفارسية: أحمد بطحائي، طهران، مؤسّسة الثورة الإسلامية للنشر والتوعية، 1368ش/1989م، ط5؛ ويقول (هيوم) في هذا الصدد: «لابد لدين العوام أن يضجّ بالعجائب والأسرار بحثاً عن الخفاء والظلمة»، تاريخ طبيعي دين: 88، ترجمه للفارسية: حميد عنايت، طهران، الخوارزمي، 1360ش/1981م، ط3.
([52]) عبد الله المستوفي، شرح زندكاني من يا تاريخ اجتماعي وإداري دورة قاجارية 3: 324، طهران، زوار، 1384ش/2005م.
([58]) أنظر: ثورة التـنـزيه: رسالة التنـزيه تليها مواقف منها وآراء في السيد محسن الأمين ضمن كتابشناسي تاريخي إمام حسين%: 153 ـ 156؛ وقد ترجم جلال آل أحمد هذا الكتاب للفارسية تحت عنوان (عزاداري ها نا مشروع) [اللامشروع في مراسم العزاء] سنة 1322ش/1943م، ولم يمض يومان على صدوره حتى جمع من الأسواق وأحرقت جميع نسخه؛ أنظر: يك جاه ودو جاه ومثلاً شرح أحوالات: 72، طهران، فردوس، 1376ش/1997م، ط1؛ وقد ظلّت تلك الترجمة قيد النسيان حتى أعيد نشرها بعد نصف قرن وبالعنوان نفسه.