أحدث المقالات

التَّصوُّف والتَّشيُّع دراسة في العلاقة الجدلية

 

في حوار مع د. نصر الله بورجوادي

ترجمة: محمد عبد الرزاق

 

من هو د. نصر الله بورجوادي؟

* ولد الدكتور نصر الله بورجوادي سنة 1322 هجري شمسي في مدينة طهران.

بعد إكماله للدراسة الثانوية، سافر إلى أمريكا، وتخرج عام 1345 هـ. ش في جامعة سان فرانسيسكو بدرجة بكلوريوس في الفلسفة. ثم نال الماجستير والدكتوراه، في التخصص نفسه في عامي 1349 و 1356هـ.ش. من جامعة طهران. عيِّن معيداً في الفلسفة والمنطق والعرفان الإسلامي في جامعة شريف الصناعية بين عامي 1350 و 1363 هـ. ش، ثم أصبح مساعد أستاذ في الفلسفة في جامعة طهران من عام 1363 حتى سنة 1376 حين أصبح أستاذاً فيها، ولا يزال حتى يومنا هذا.

أما الوظائف، السابقة والحالية، التي تولاَّها فهي:

       رئيس مركز التعليم في جامعة شريف الصناعية.

       مدير قسم المنشورات في الجامعة نفسها.

       عضو في جمعية اللغة والأدب الفارسيَّين.

       رئيس موسوعة العالم الإسلامي.

       رئيس مركز الإصدار الجامعي ومدير ورئيس تحرير صحيفة (وزين نشر دانش).

وقد صدرت له مجموعة من المقالات والكتب بالفارسية والإنجليزية.

q يجدر بنا بداية أن نسأل الدكتور عن هدفهِ من التحقيق في مجال التصوُّف؟

د. پورجوادي: يصعب على المرء التحدث عن نفسه وخصوصياته الدينية، لكني أقول في مقام الإجابة عن سؤالكم: إنَّني، ومع كوني ترعرعت في عائلة دينية لها إطلاع كامل على المسائل الدينية والعقديَّة، كنت وكسائر تلاميذ الثانوية والجامعة آنذاك، أرغب في دراسة الطب، لكن سرعان ما اكتشفت رغبتي الجامحة في دراسة علم النفس والفلسفة. فواصلت دراستي في الفلسفة جامعياً، وكتبت موضوعات في فلسفة الأديان وفلسفة اللغة التحليلية. ونظراً لما عشته من تجارب وأحداث دينية شهدت، في وجودي، نقلة نوعية، فاتجهت نحو تراثنا الديني الفلسفي والعرفاني لابن سينا، وملا صدرا وابن عربي، وما توافر من الأشعار الفارسية لشعراء مثل العطار النيشابوري وغيرهِ. ثم تحولت مسألة التحقيق في الأمور التي من هذا النوع فغدت من طموحاتي. وقد اعتمدت في التحقيق على أصول البحث والتحليل التَّاريخيَّة، فلو أردت مطالعة تاريخ التصوف والعرفان، مثلاً، فلا بد من أن تكون نظرتي للموضوع بعيدةً عن اعتقادي الخاص ومعتمدة على أساليب علمية صرفة. فإن نحن رفضنا إعادة النظر في البحوث العقدية إذن فما هي الجدوى من التحقيق فيها؟

q لماذا اختصت الغالبية من بحوثك ورسائلك بالمرحلة الممتدة من صدر الإسلام حتى القرن الخامس الهجري؟

د. پورجوادي: لقد انصبَّ جل اهتمامي على تاريخ العرفان وفكره، وخصوصاً العرفان في إيران، وقدَّمت أعمالاً في هذا المجال. كذلك لي دراسات محدودة للعهد المعاصر، لكن بقي مصب اهتمامي طوال 15 – 20، عاماً على القرون المتقدمة لأنها مرحلة تبلور الحضارة والفكر الإسلاميين. فقد شكل القرنان الثالث والرابع، مثلاً أهم مراحل تكوين الفلسفة الإسلامية، ولم يغيّر الذين جاؤوا بعد ابن سينا الكثير ممّا وضعهُ سابقاً. وحتى إذا ما أردنا التطرق للمراحل المتأخرة، فإننا لا محالة نرجع في ذلك للفارابي وابن سينا. فهكذا تكون الحال أيضاً إذا ما أردنا التحقيق والبحث في العلوم العرفانية والدينية فلا بد من الرجوع إلى قرون الإسلام الأولى. لذا نرى أن أهمية الحضارة الإسلامية وما لها من علوم عقلية ونقلية تعود للقرون الأولى للإسلام، أي لا بد من مراجعة مصادر هذهِ العلوم وينابيعها ومعرفة من أين نشأتْ؟

q يظهر أن تأسيس محيي الدين بن عربي وأتباعه للعرفان النظري قد أحدث تحوُّلاً جذرياً في أصول العرفان والتصوف. وقد يعدّه بعض الباحثين انحرافاً عن العرفان الحقيقي، ويقولون: إن هكذا نوع من العرفان جاء ليقضي على العرفان الحقيقي. فما هو رأيكم؟

د. پورجوادي: ابن عربي هو من الشخصيات المهَّمة جداً، لكننا نواجه في طريقنا للتعرف إليه إشكالات عديدة. لذا علينا التحقُّق من بيانات ابن عربي بشكل دقيق للوقوف على ما أحدثهُ من تحوُّل في هذا المجال. فقد تناول في بحوثه موضوعات تطرق لها آخرون من قبل، كآرائه في بحث الولاية مثلاً؛ إذ ترجع سابقة الخوض في هذا الموضوع إلى عهد الحكيم الترمذي. وهكذا بالنسبة لأبحاث ابن عربي في الأسماء الإلهية.

إنَّ من أهم المصادر التي كان يرجع إليها ابن عربي كتاب: "إحياء العلوم، للغزالي وما ورد فيه من متبنَّيات في ما يخص الأسماء الحسنى. إذن، فهو لم يبتكر شيئاً جديداً؛ إذ إن غالبية هذه المتبنَّيات قُرِّرت سابقاً، سوى أنّ ابن عربي قد منحها أطراً فلسفية جديدة. ولم تخل آراؤه من هفوات خصوصاً في ما يتعلق بالتشيُّع وغيرهِ من البحوث العلمية والعرفانية. ويعتقد بعض الباحثين بأن ابن عربي قد ابتكر بعض المصطلحات والواقع خلاف ذلك. فكما أخفق في خصوص اسماعيل واسحاق كذلك أخفق في ما يتعلق بالتمكين والهواجس من مصطلحات. ففي الحقيقة إن هذهِ المفردات يعود تاريخها لمئات السنين، إلاّ أن ابن عربي كان يستلهم منها بعض المفاهيم، مستعيناً بقوة الإدراك التي كان يتمتع بها، ومن خيالٍ خصب وقدرة على الاستيعاب.

لقد فلسف ابن عربي وصدر الدين القونوي وأتباعهما العرفان، الأمر الذي أدى إلى ابتعادهم عن التيارات العرفانية في إيران. ففي الحقيقة أن اتجاه ابن عربي في العرفان كان مغايراً لما هو متداول باللغة الفارسية لدى الإيرانيين؛ وذلك لجهله باللغة الفارسية؛ إذ كانت العربية لغة العرفان والتصوف الأولى حتى أواسط القرن الخامس، لذا كانت جميع الكتب التي تصدر في تلك المرحلة مكتوبة باللغة العربية. بل وحتى العرفانيات الفارسية كانت تكتب من قبل الإيرانيين في رسائلهم بالعربية.

في أواسط القرن الخامس، دخلت الفارسية منافسةً للعربية في التصوف والعرفان، فأصبح لها تفوُّق في بعض المجالات؛ وذلك أنَّ الفارسية هي التي جعلت من الشعر العرفاني شجرةً لها امتدادها في أرجاء العالم الإسلامي. أتذكَّر المرحوم عثمان يحيى، في مؤسسة دائرة المعارف، حين أثنى على ابن عربي وأشعاره فقال: لم ينظم العرفان أحدٌ بعد ابن عربي بهذه الروعة. فرد عليه الشاعر المصري صلاح الصاوي قائلاً: لو كنت مطَّلعاً على اللغة الفارسية وتاريخها لما ادعيت هذا الادعاء، فإن الفارسية مليئة بهكذا نوع من الأشعار، بل وبما يفوق أشعار ابن عربي أيضاً، وهذه حقيقة واقعية.

كانت أهم العوامل التي ساعدت اللغة الفارسية، في مجال العرفان، الأشعار العرفانية نفسها. فقد تضمنت مثنويات(1) سنائي وجلال الدين الرومي وما نظم العطار النيشابوري وحافظ وسعدي والخواجوي والكرماني وغيرهم ابتكاراتٍ قل نظيرها في الشعر العربي العرفاني. وليس من أسماء لامعة في العربية سوى ابن الفارض وابن عربي، في مقابل الوفرة الوفيرة من الشّعر الفارسي الذي عمَّ آسيا والامبراطورية العثمانية وشبه القارة الهندية، بل وترك بصماتهُ أيضاً على ابن عربي نفسهِ. ولست وحدي من يدَّعي ذلك، إنما جميع الذين حققوا في هذا المجال ذهبوا إلى أن ابن الفارض قد تأثر بالشعر الفارسي من قبل الإيرانيين الذين توافدوا على مصر.

والجدير ذكرهُ هنا أن العرفاء وأصحاب المدارس الصوفية كانوا يجيدون اللغتين، وظلّوا كذلك حتى عصر ابن عربي، فلم تقتصر قراءات الإمام الغزالي – مثلاً – على العربية فقط، فقد مكَّنه إطلاعه على الشِّعر الفارسي وتراكيب لغته من كتابة مبحثٍ رصينٍ في باب "السماع" ضمن كتاب إحياء العلوم. وهكذا بالنسبة لعين القضاة الهمداني، أو نجم الدين كبرى وروزبهان الشيرازي (ممن كانوا بعيدين عن قواعد الفارسية والتصوف الخراساني). بالإضافة لتأثر أولئك الذين لا يجيدون الفارسية بالمؤلفات العربية التي كان يدونها الإيرانيون. وهذه ميزة لم تتوفر لدى ابن عربي؛ حيث أنهُ بقي في قطيعة مع لغة العرفان الفارسية. لذا اتصفت أسس الفكر العرفاني لديهِ بالفلسفة. فظلت آثارهُ خاليةً من خصوصيات مدرسة التصوف والعرفان الفارسية.

كان لصدر الدين القونوي دور في نشر آراء ابن عربي عندما قام بتصنيفها وتدرسيها للآخرين. واللافت للنظر هنا أنهُ كان يلقي دروسهُ بالفارسية صبحاً وبالعربية عصراً، أو بالعكس، مستعيناً بالألفاظ الفارسية عند الحاجة. وقد نتج عن جهود القونوي في قونية بلورة علم عُرف بالعرفان النظري تستند أسسهُ على الفلسفة الأفلاطونية الحديثة. إضافةً إلى انتماء بعض المطالب كالولاية والأسماء والصفات، ممَّا كان يطرح من قبل المتصوفة، إلى ذلك العلم. وقد حظي هذا العلم باهتمام الفلاسفة وتوجههم لهذا النوع من العرفان، وإن خضع للنقد في ما بعد.

q ربما كانت هذه النزعة الفلسفية سبباً في عدم انتماء أي مدرسة صوفية لمحيي الدين ابن عربي.

د. پورجوادي: نعم هذا صحيح، فحتى أولئك الذين كانوا ينظرون إلى هذه الموضوعات من الناحية النظرية، كانوا يبحثون عن شخصٍ ذي بصيرةٍ للاستعانة به على أدعيتهم وطقوسهم العبادية وإرشادهم لها.

q كانت اللغة الفارسية تماشي، في نصوصها، السليقة والمقام من دون التقيّد بالمصطلحات والبحوث الفلسفية. ألم يكن ذلك ناشئاً عن التجربة العرفانية الواقعية؟ وما هو الحد الفاصل بين العرفان أو التصوف الإيراني وسائر مدارس العرفان؟

د. پورجوادي: هنالك صنفان من اللغة: أحدهما اللغة المتداولة في الفلسفة، والآخر لغة الشعر والشعراء. وتكون الفلسفية منها لغة انتزاعية مجردة، فعندما نتطرق لموضوع العدل والمحبة – مثلاً – سيكون مصب اهتمامنا على صميم هذه المفردات مجرَّدة عن عرضياتها، بينما تصورها لنا لغة الشعر بخيالات واسعة كأنها لباس للبدن، في حين أنها ليست مادية. وكما يقول السهروردي: يمكننا أن نسمَّي عالم الشعر بالملكوت والمثال والنظائر.

وهكذا لو أرادوا الخوض في بحوث الحقيقة المطلقة، فيشبهونها مثلاً بضياء الشمعة، ثم يصنفون مراحل إدراك الحقيقة وكنهها في علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، هذه الأمور جميعها مندرجة تحت أطر حكاية الشموع والفراش المتهاوي حول شعاعها. إنّ الفراشة تبقى في مرحلة الإخبار ما لم تلمس الحقيقة وتشاهد نورها، كالشخص الذي يسمع بالخبر من دون أن يراه بأم عينهِ. إلاّ أن شعاع الشمع قد يسمح للفراشة برؤية بعض الأشياء، وإنْ لم يتسنَّ لها رؤية النور نفسهِ. وبذلك يمكنها إدراك ماهيات هذا العالم. وهذه هي مرحلة علم اليقين. وعندما تبصر النور تكون قد أدركت بذلك عالم الشهود وهذه مرحلة عين اليقين. وإذا ما ألقت بنفسها على شعلة الشمع واحترقت فقد نالت مرحلة حق اليقين.

هذا تشبيهٌ يستعين به الخواجه نصير الدين الطوسي في معرض شرحهِ لمراحل هذا الطريق ونهايته، أي حق اليقين. وقد سبقهُ الحلاج من قبل في ذلك. لكن لغة ابن عربي في العرفان تختلف عن ذلك تماماً، فلا تحتوي الفتوحات، أو "فصوص الحكم" على هكذا نوع من التعبيرات. نعم، قد يشير في بعض أشعارهِ إليها من الاستغراق في معجمها الشعري. وهكذا الحال بالنسبة لتلامذتِهِ، إلاّ من كان منهم فارسياً أو متأثراً بالفرس.

لغوياً، يعود منشأ هذين القسمين من اللغة للعهد الإسلامي، حيث كانت اللغة الفارسية هي لغة العرفان والشعر لدى من تأثر بها من هنود كأمير خسرو الدهلوي وبيدل وكذلك العثمانيين.

q ما هو الفرق بين التصوف الفارسي وغيره من مدارس التصوف من جهة نظر أرباب المعرفة وسيرهم؟

د. پورجوادي: من ناحية المذهب والعقائد لا يوجد فرق بين أنواع التصوف، فالصوفي الشافعي – مثلا – في إيران يتحد في عقائدهِ مع الصوفي الشافعي في مصر. أما من الناحية الاجتماعية فهما يختلفان بلا شك نظراً لاختلاف الثقافتين. وقد وقع الخلاف في داخل المجتمع الصوفي في إيران، فشهد انقسامات عديدة، فوصف بعض منهم بالإباحية وتعرض لانتقاد الفرق الأخرى من الصوفية، فدوَّنت من أجل ذلك الكتب والرسائل، أمثال: غلطات السالكين أو الأخطاء التي أثبتها أبو نصر السراج في اللمع، وما كتبهُ روز بهان البغلي، وانتقادات الغزالي اللاذعة في الرسالة الإباحية، وابن الجوزي في تلبيس إبليس. فجميع تلك الانتقادات وُجِّهت إلى من اتصفوا بالإباحية من متصوفة إيران. والخلاصة: لم يكن للتصوف والعرفان في العالم الإسلامي شكل منسجم باسم التيار الصوفي، بل خضع التصوف والعرفان لمراحل تاريخية متبانية، فمثلاً كان يطلق في إيران، في مرحلة من المراحل، على المدارس العرفانية اسم المتصوّفة، وإن لم ترتبط بالتصوف أساساً. وفي القرن الثالث أيضاً لم تكن نيشابور وغيرها من المدن لتشهد مقولة التصوف، بينما كان توجد فيها مذاهب عرفانية عديدة.

ولم يكن "الملاميون"، في القرن الثالث في نيشابور من المتصوفة، ولا الحكيم الترمذي، ولا أبو بكر الوراق في ما وراء النهرين. فكان الصوفي يطلق على أهل العراق خاصة. وكذا "الكرامية" لم يكونوا متصوفةً أيضاً.

وإذا رجعنا لابن سينا، في النمط الثامن والتاسع من الإشارات وغيرها من آثارهِ، سنجدهُ لم يتطرق للتصوف والمتصوفة حتى في كلمة واحدة. بينما كان يذكر العرفاء ومقاماتهم كثيراً. فلماذا لم يذكر ابن سينا شيئاً عن المتصوفة؟ هل كان رافضاً لهم؟ الجواب: لا لم يكن كذلك. فلو أن ابن سينا كان يعيش في القرن الثامن، وتجنب ذكر المتصوفة، لالتمسنا لهُ عذراً في ذلك، بينما لم يكن ذلك حاكماً في نهاية القرن الرابع وبداية الخامس بأن يخشى الشخص أن يتطرق لمواضيع التصوف وأهلهِ فيكتم رفضهُ لهم.

وقد كان في زمن ابن سينا مؤلفون كالسلّمي وأبي نصر السراج خلقوا أجواءً باسم التصوف، وأدرجوا تحتها جميع النزعات العرفانية، إلاّ أنهم جعلوا فروقاً بين أصناف التصوف، لذا كانوا يقولون: إن أوائل متصوفة أصفهان هو علي بن يوسف البنا وتلميذهِ علي بن سهل الإصفهاني. بينما، من دون شك، كان يوجد من قبلهم زهادٌ وعبادٌ اتصفوا بالصِّفات نفسها. حيث كانت هذهِ المنزلة في القرن الثالث مختصةً بجملة من مشايخ القوم وحتى تصوفهم كان لهُ طابع خاص يختلف عن سواه.

وهناك إجماع على وجود عارف باسم ابن يزدانيار في عصر الجنيد وأبي الحسين النوري عرف بتصوفه الخاص بمدينة (أرومية). ومن الملفت للنظر أن الكلابادي، في كتاب التعرف، وعندما يعدد المتصوفة، يذكر واحداً لكل مدينة. وعدَّ بعضُ الباحثين ذلك أنموذجاً ومصداقاً لا غير، والحال أن ذلك كان يتضمن دلالة مهمَّة هي ذكرهُ للرواد والشخصيات البارزة لكل مدينة، كأبي بكر الأبهري في أبهر، وابن يزدانيار في أرومية، وعلي بن سهل الأصفهاني في أصفهان وغيرها من مناطق خراسان وما بين النهرين والجبال. فهؤلاء هم أناس عظام حافظوا على مبادئهم وصانوها. من هنا نجد وقوع خلاف بين علي بن سهل والجنيد في ما يخص تصوف ابن يزدانيار، إذ إنّه صنّف بوصفه صاحب مذهب مستقل في التصوف.

والخلاصة، إن العرفان في تلك المدن كان قائماً بشخصياتها، لأن السلالات والتكتلات اليوم لم تكن موجودةً آنذاك. وقد ذكرت هذهِ الموضوعات كي لا نتوهم وجود حركة موحدة امتدت تاريخياً حتى وصلت إلينا.

q هل تؤيدون الرأي القائل بوجود منهج للتصوف الفارسي هو الحب، وبأن منهج العرفان عند ابن عربي هو المعرفة؟ وما هو المنهج الأسمى؟

د. پورجوادي: كان هذا الموضوع محل خلافٍ في سالف العصر، ومن الأسئلة التي طرحت: ما هو الأرجح بين الحب والمعرفة؟ فنسب بعضهم ذلك للمعرفة وآخرون قالوا بأرجحية المحبة. غير أن مما يجدر ذكرهُ، في ما يخص الحب في العرفان أو التصوف الفارسي – وإن لم يكن مستحسناً استخدام مفردة التصوف هنا، إلا أن انعدام مرادفٍ لها ألجأنا لذلك اضطراراً – هو أن الحب كان يمثل ديناً ومعتقداً بالنسبة لإيران في مرحلة من المراحل.

وقد أشرت سابقاً، في أغلب مقالاتي، إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الخالق والإنسان مع صعوبة شرحها. فحقيقتها كحقيقته – عز وجل – لا يمكن إدراكها. حيث إن العلاقة بين الإنسان وربهِ هي علاقة من نوعٍ فريدٍ مختلف عن علاقة الأخوة والأبوة مثلاً، فهذه علاقة معينة واضحة. لكنّ العلاقة مع الله – جل وعلا – لا مثيل لها. فكما أننا لا نستطيع وصف الباري كذلك علاقتنا بهِ يستحيل وصفها. إلاّ أننا نجد أنفسنا مضطرين للتحدث عنها وعن الدين والعلاقات الاجتماعية الإنسانية للاستعانة بها في وصف علاقتنا مع الله – جل شأنهُ _. وهذه الأمور جميعها قيود تفرضها اللغة. ففسَّروا العلاقة تلك بتفسيرات عديدة وتشبيهات مختلفة، فقال بعضهم: إن علاقة الإنسان ببارئهِ كعلاقة الابن بأبيه، وآخرون قالوا: كالعبد والمولى أو المعلم والتلميذ أو كعلاقة الكلي بأجزائهِ. وشبَّههُ جماعةٌ بشعاع الشمس وذراتها الضئيلة. أما في تعاليم ديننا فقد ورد التأكيد على صفة العبودية خصوصاً. فالإنسان عبدٌ ومعبودهُ الله، أو رقٌّ وهو مولاهُ. فهذهِ العلاقة قد ورد ذكرها في القرآن ولها قدسيتها الخاصة. وهناك صفات أخرى أيضاً ورد ذكرها في القرآن الكريم، كعلاقة المحبة في قوله تعالى: ﴿يُحبّهم وَيُحبّونهُ﴾، فالمحبَّة هنا أيضاً هي مرآة عاكسة لعلاقة الإنسان بخالقِهِ، إلاّ أن أولويات الخطاب الديني أكدت على علاقة العبودية أكثر من غيرها.

إهتم الإيرانيون، في حقبة من تاريخهم، بموضوع المحبة إهتماماً منقطع النظير، فجعلوا من العشق وشيجةً للعلاقة بين الله والإنسان، ففسَّروا سائر المفاهيم والمقولات وفاقاً لهذهِ النظرية، وعدّوا كل كائن عاشقاً لخالقهِ. فالأرض والزمن والبحار والشمس وجميع المخلوقات هي عاشقة. هذا النَّمط من العشق المفترض بين الإنسان والخالق هو تعبير يفسح في المجال أمام صلاحية بعض التأويلات، فقالوا في خصوص العهود – مثلاً – وفقاً لمقولة العشق: أنَّ الله هو المعشوق الأزلي الذي عاهد الإنسان، فوجب علينا الوفاء بعهده كأي عاشقٍ مخلصٍ. وقد تضمنت فكرتهم هذه شروطاً ومميزات، منها استحالة عكس العبودية. فيبقى الرب رباً والإنسان عبداً للأبد. إلاّ أنك في مقام علاقة العشق تقول: إنهُ – عز وجل – هو الذي أراد مبتدئاً ثم الإنسان ثانياً، فإرادتهُ سبقت إرادة الإنسان، أي يحبهم قبل أن يحبّوهُ. يقول يزيد البسطامي: إنهُ كان يعتقد، وطوال ثلاثين عاماً، بأنهُ يحب الله، ثم كشف بعد ثلاثين سنة أنهُ هو في البداية طلبنا ودعانا.

ولعلاقة العشق والمحبة خصوصية أخرى تجسَّدت على لسان الشعراء. فإنكم عندما تتحدثون عن العشق تعنون بذلك لوازمهُ من حسن وجمال. وعندما قلتم: إنَّ الإنسان عاشقٌ، ففي هذهِ الحالة يكون المعشوق وهو الله متَّصفاً بالحسن والجمال، وهو الجمال المطلق بحق. من هنا يكتسب حديثكم هذا طابعاً فنياً وشعرياً في الوقت نفسه. فيأتي دور القيم الجمالية لتثبت أنَّ هذا العالم هو مظهر جمال الخالق، فكل ما في هذا العالم هو من أنوار حسنهِ.

وجاء في الشعر الفارسي لقد شع نور وجهك بأزليته المطلقة، فتجسد العشق وألهب أرجاء الكون.

فهذا الكون، في الحقيقة هو صنع صانع، أي عملٌ فنِّيٌ. وكان قديماً يطلق على الأعمال الفنية "صنع". والصانع هو الفنان والرسام بعينهِ. فالعالم أيضاً هو صنعٌ وعمل فنيٌ، وكما أن الفنانين والرسامين يتركون تواقيعهم أسفل لوحاتهم، كذلك الباري تعالى ترك صفة جماله على هذا العالم بمثابة ذلك التوقيع، لأن الجمال جمال الله لا غير، وكل ما ترونهُ من جميلٍ في الكون يحمل توقيع بارئهُ لا محالة. وتختلف نوعية علاقة الإنسان بالعالم وبني البشر عما مرّ من تعريف للعلاقة.

إنّ ما نقل من كون آية ﴿يُحبّهم وَيُحبّونهُ﴾ قد نزلت بحق العجم لتشرِّفهم بالإسلام لاحقاً، وأن الله يحبُّ الفرس والفرس يحبونهُ، ذلك كلُّه بمثابة توقيع منهُ على جباههم، فكون العشق الإلهي دين للفرس هو حقيقة تاريخية ثابتة منذ القدم. من هنا كان أدبهم أدباً عاشقاً. وهو بٌعدٌ يفتقدهُ عرفان ابن عربي، فهو لم يتناول مسألة العشق كما فعل الإيرانيون. إن العرب توصلوا للموضوع بشكل محدود جداً، ثم اهتم به الفرس ونشروهُ في سائر ثقافاتهم محدثين بذلك تحولاً كبيراً في جميع المجالات، مع المحافظة على صفة العبودية وبُعدِها في الوقت نفسه، فتأكيدهم على العشق في آدابهم كان ملازماً لمفهوم العبودية من دون إهمالهِ، لذا بقيت علاقة العبودية تحتفظ بقدسيتها.

q أين يكمن اختلاف النظر بين بعض العرفاء كأحمد مع محمد الغزالي، أو اختلاف شمس مع جلال الدين الرومي قبل أن يلتقيا؛ حيث أنّ أحدهما كان بدافع العشق والآخر بفعل الخوف؟

د. پورجوادي: يمكن رصد ذلك من جهتين: إحداهما عن طريق سير العرفاء الذاتية، فمع أن أبا حامد قد درس المناهج التقليدية من كلام وفقه والعلوم العقلية والنقلية إلاّ أنهُ شهد انقلاباً في ذاتهِ غيَّر مسير حياتِهِ. بينما كان أحمد ومنذ البداية يطالع كتباً جانبية إضافةً إلى المناهج، فدرس الفقه مثلاً، لذا كان يقال: إنَّه فقيه، وهكذا في علم الكلام ولهُ آراءً فيهِ أيضاً، وإنْ لم يكن من المتكلمين الكبار. أما الجهة الأخرى في الموضوع فهي رأي هؤلاء في مسألة التصوف، فقد منح أحمد الغزالي قضية العشق أهمية بالغة، وهو من القائلين بثبوت علاقة العشق والمحبة الأزليين، وإن الإنسان عاشق من الأزل، ويعترف بوجود عهد بين العاشق والمعشوق أيضاً. بينما لم يعدّ الإمام الغزالي قضية العهد أمراً واقعياً بل قال بمجازيتهِ نافياً عنهُ الحقيقة، ولا يعترف بعالم الذر، ولا يقول بثبوت عهد الله لذرية آدم، ناهيك عن اختلاف الاثنين في السليقة والنزعة، فكان أحمد الغزالي شاعراً، في حين لم يمتلك أبو حامد الحس الشاعري.

q هل تعدّون العرفان أمراً دينياً أو أنهُ أعم من ذلك؟ هل هو نابع من صميم الديانات أو أنهُ من الممكن رصدهُ خارج دائرة الأديان؟ وهل هو حقيقة دينية أو أنهُ درجة تنتمي لدين؟ وما هي نوعية العلاقة بين العرفان والدين من وجهة نظركم؟

د. پورجوادي: كان العلم الوجداني، أو ما يصطلح عليه أهل العرفان والتصوف بعلم المعاملات، موجوداً في مختلف الأديان، من مسيحية ويهودية وبوذية،فجميع هذهِ الديانات تهتمّ بمسألة إدراك النفس لكمالاتها، وقضية تجرد النفس هي من الموضوعات المطروحة في جميع الأديان.

أفلوطين أيضاً كان في الاتجاه نفسه، وكان لعرفانهِ تأثير على المسيحية والإسلام. ويمكننا فرض طابع يتجاوز الجانب الديني للعرفان؛ وذلك بلحاظ الجوانب النظرية منهُ. وتكتسب هذه النواحي النظرية قليلاً من النزعة الفلسفية.

وهناك جماعة غربية اليوم اسمها (New Age) تسعى إلى اختلاق عرفان مزيف، فيجب على من كان عملياً في صدد تزكية النفس أن يكون منتمياً لمذهب أو سنة. فجميع الأديان تنص على ضرورة الانتماء لسنة أو طريقة معينة، أو كما نعبر عنهُ نحن بضرورة استناد الأعمال والأفعال لموازين الوحي والرسالة السماوية، أما على صعيد البعد النظري والفلسفي فمن الممكن افتراض حالاتٍ مختلفة خارجة عن دائرة الدين.

q لو عددنا الدين وسيلة ناجحة في إيصال البشر للغاية الإلهية، فإن مسار البحث سيختلف تماماً. في هذه الحالة يكون العرفان مجهوداً بشرياً كسائر ممارسات البشر الهادفة للارتقاء بمستوى الإنسان نحو الأفضل. لذا نجد الأديان تشير إشارات مختصرة إلى موضوع العرفان، فما هو رأيكم في ذلك؟

د. پورجوادي: يعود هذا التمايز بين الدين والعرفان إلى ما تفرضونه أنتم من تعريف لهما.

فلو عرفنا الدين بأنه مسألة اجتماعية غايتها سعادة الإنسان أو توفير القوانين لهُ لتحصيل سعادة الدنيا والآخرة، فإننا هنا سنلمس فرقاً واضحاً بين الدين والعرفان. وإن أخذنا هدف الدين من معرفة الله بعين الاعتبار ففي هذهِ الحالة علينا الفصل بين الدين والعرفان.

ينسب بعض المحدّثين لابن عباس أنهُ قال في معرض تفسيرهِ لآية ﴿وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون﴾: إن الله خلق البشر ليعرفوه، فما الغاية من الصلاة والصيام؟ فنحن لا نصلي من أجل أداء حركات رياضية، ولا نصوم لسلامة المعدة خصوصاً! فيجب أن تكون لهذهِ الأعمال أهداف أسمى من الماديات وحدود دائرة الدنيا، وَإن فسرّنا الدين بهذهِ الطريقة فلن يكون بإمكاننا أن ندعي بأن العرفان هو من صنع البشر.

q نحن ننظر إلى الفلاسفة بوصفهم أناساً وظفوا ثرواتهم العلمية إلى جانب الموهبة الإلهية، استجابة لدعوة الله عز وجل، فتارةً يدركون الحقيقة وأخرى يضلون في طريق الخرافات. ويحتل الدين، لدى الفلاسفة، مكانةً مرموقة، وإن كانت الفلسفة مستقلة عن الدين، فقد يهتم بها الدين أحياناً أو يقف ضدها في أحيان أخرى. وهكذا بالنسبة للعرفان فهو لم يأت مع الأنبياء، أي أن يدعوا الناس لمصالحة الله، بل إن العرفان لا بد من أن ينبثق من ذات الإنسان ونزعاته، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يلجأ للعرفان حتى في حالة لم يبعث إليه الأنبياء. نعم تضمن بعث الرسل إرشاداً ودعماً لجميع الطبقات، ومنهم ذوو المعنويات فعززوا من عرفانهم. وهذا هو أروع ما منحهُ الدين لطبقة العرفاء، فكان لهُ دور ملحوظٌ في تعزيز موقف العرفان. العرفان بدوره أسهم في فهم الدين بصورة أفضل وفي إدراك جوهرهِ، لكن بقيت هوية العرفان مستقلة عن الدين.

د. پورجوادي: أوافقكم في ذلك لو أننا لم نجعل العرفان في مقابل الدين.

q يقال: إنَّ العرفاء سرعان ما يتوافقون في ما بينهم، وإن الوسط العرفاني قليلاً ما يشهد خلافات بين أربابهِ، وكذلك قيل: إن الدين كلما طرح في مستويات متدنِّية ضاعف ذلك من مواضع الخلاف بين الأديان. ولعل ذلك يعدّ دليلاً على أنّ العرفان أعم من الدين، فإننا قد نشاهد عارفاً من الهندوس يجالس ويحاور العارف المسلم بانسجام واضح، ولا يصدق ذلك – مثلاً – على الفقهاء أو المتكلمين.

د. پورجوادي: لهذا الدليل أعتقد بأن العرفان يمثل خطوة الإنسان الأولى نحو التخلي عن نرجسيته ودائرة الأنانية، فإن الإنسان عندما يتجاوز النفس – بمعناها الاصطلاحي – ويتسامى، آنذاك يكون بإمكانِهِ أن يطرح الخلاف جانباً، ذلك لأن منشأ جميع الخلافات هو حب الأنا، فإن أهملهُ سينصرف اهتمامه للمبدأ وتعيين الحق والحقيقة، تاركاً وراءه الخلافات، فيتبلور الاتحاد عبر مفهوم التوحيد وحقيقته.

q لو سلَّمنا باستقلالية العرفان، في هذه الحالة لن يبقى معنى لتسلسل الأذكار التي يتناقلها العارف من شيخ إلى شيخ حتى يصل تواترها للرسول(ص)، لأن حقيقة اتصال الإنسان بالله – عز وجل – تكون عبر تسلسل الأفراد واحداً بعد آخر؛ الأمر الذي يشرحهُ لنا الدين. وإذا كانت الأذكار مجدية فما الحاجة للاتصال؟ ويظهر في دين خاتم الرسل(ص) أن جميع المسؤوليات تقع على عاتق شخصٍ واحد، فإن كان للكاهن أو القسيس دور في الأديان السابقة، فليس ذلك مشهوداً في آخر الأديان، إذ لا توجد فيه وساطات بين السماء والأرض، وحتى من يأتي من أولياء كان واجبهم الإرشاد والهداية من دون التسيير والأدلجة اللذين كانا أساساً في العرفان.

د. پورجوادي: إنّ موضوع تناقل الأذكار بين شيوخ التصوف حتى يصل نسبها للرسول(ص) هو قضية تاريخية لا أدري مدى صحتها، فهل معنى مفهوم الذكر الصوفي الآن متطابق مع مراد القرآن منهُ، وهل كان في القرن الثاني والثالث بالمعنى نفسه، فنحن لم نحقق في ذلك حتى الآن.

ليس بإمكاننا – من الناحية التاريخية – إثبات اتصال التلميذ عبر ما يلقنهُ شيخهُ من أذكار. وأنا أرى أن ذلك من إفرازات حركة الإخباريين في مقابل العقليين والمعتزلة، فالمتصوفة كانوا في بادئ الأمر من السنة وتأثروا كثيراً بالإخباريين. ففي تاريخنا لا يمكن إثبات اتصال أحد بالرسول أو الإمام علي (عليهما أفضل الصلاة والسلام) فنحن نبقى في تشكيكٍ بين العتمة والنور بالنسبة للقرنين الثاني والثالث؛ وذلك نظراً لما لعبهُ الإخباريون من دور مؤثر آنذاك.

وبعيداً عن مسألة التاريخ وإثباتاتهِ، فأنا شخصياً أعتقد بأن الشخص الذي يهذب نفسهُ ويطهرها من الكذب والذنوب، سيكون لأذكاره التلقينية أثرها في المقابل. فالمرشد كذلك سيكون مفتقداً لهذا التأثير إذا انعدمت فيه تلك الصفات والمميزات، كما لو يتخيَّر الفرد أذكاراً بنفسهِ.

q هذا صحيحٌ، فإن استيعابي لما يلقيهِ عليّ المعلّم أعلى بكثير ممّا إذا قرأت الموضوع بنفسي. لكن المشكلة تكمن في قضية أخرى، وهي ما إذا كانت أعمالك الدينية تقبل منك في حالة صحتها وإن لم تكن عاملاً بالفتوى، هذا بالنسبة للدين ظاهراً وعملاً، وفي الجانب الروحي والمعنوي بإمكان المرشد المجرب أن يساعد في إحراز الذكر النافذ لصميم الروح، لخلق مناخات تسهم في رفع الاحتياجات وحل المشكلات. لكن أن يكون نيل هذه الدرجة منوطاً بتلقي الأذكار من فم المرشدين، فهذا ما يتنافى مع الدين الإسلامي ومبدأ أن كل إنسان يعين مصيرهُ بنفسهِ. والإشكالية الأخرى هي أن القائلين بالاتصال التاريخي المتسلسل، يحاولون إثبات استحالة المضي في الأعمال عقلاً من دون ذلك الاتصال.

د. پورجوادي: يحاول العديد، في مجال الفلسفة، من الانتساب لابن سينا – مثلاً _، والحال أن الفلسفة تفكيرٌ عقليٌ لا يصدق عليه ذلك. أما في مجال التصوف فيعتقد بعضٌ ممّن تأثروا بمنهج الإخباريين بضرورة وجود ذلك التواصل والاتصال.

q إذن فالاتصال لا أصول لَهُ في العرفان؟

د. پورجوادي: لا يمكن الجزم تاريخياً بتلك التسلسلات والتواترات، فإن ظهورها جميعها يعود للقرن الخامس وما بعده.

q تصريحكم هذا فيه نوع من نقد التصوف. ومن المناسبة بمكان أن نتطرق للانتقادات المختلقة التي وجهت للتصوف سواء من داخلهِ أم من خارجهِ، فهل التصوف قابل للنقد في الأساس؟ وقد أورد الفقهاء والفلاسفة وحتى المتصوفة أنفسهم – على مر التأريخ – انتقادات للتصوُّف، فهل تؤيدونها؟

د. پورجوادي: كان المتصوفة أبرز نقاد التصوف، أمثال: اللمع أو غلطات السالكين، وملاحظات الغزالي. وأنا اعتقد بأنَّ الواجب يحتم علينا اليوم إجراء دراسات وتحقيقات علمية تاريخية، فليس لدينا مصادر في تاريخ التصوف سوى بعض التذكرات، أمثال نفحات الأنس.

ولَمْ يزوِّدنا الآخرون بجديد سوى التكرار والإعادة. ففي الحقيقة يوجد هنالك العديد من الرسائل والكتب، يجدر بنا أن نجمعها وندرسها بمنهجية علمية، فإن غالبية انتقادات الفقهاء – على سبيل المثال – كانت وليدةً لعوامل اجتماعية وتاريخية خلال القرون الأربعة والخمسة الأخيرة. كان لحافظ – كما نعلم – مواقف انتقادية تجاه المتصوفة. فلتسليط الضوء على ذلك لا بد لنا من رصد المتصوفة المعاصرين لهُ، لنعرف ما هو نوع تصرفاتهم الاجتماعية آنذاك، ومن هم شخصيات التصوف البارزة في تلك المرحلة، لقياسها بأوضاع المراحل الأخرى. فعلى سبيل المثال، كان، في بغداد، في القرن الثالث، شخصيات مهمة تختلف عن أولئك الذين جاؤوا في المراحل اللاحقة في شيراز وأصفهان، وأطلقوا على أنفسهم متصوفة.

q كانت رؤى علماء العهد الصفوي وفقهائه سطحيةً، بينما اتصفت انتقادات المتصوفة في القرنين: الرابع والخامس بعمق وتركيز أكثر، فهل خضعت للدراسة والتحقيق؟

د. پورجوادي: نعم، نوعاً ما حظي ذلك باهتمام العديدين، وهناك كتب عديدة في هذا المجال. وقد قمتُ أنا شخصياً ببعض التحقيقات في المجال نفسه، وكان كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي – مثلاً – من أهم انتقادات كبار الشيعة للتّصوُّف.

وقد أفاد صاحب كتاب تبصرة العوام الكثير من ابن الجوزي. أما ابن الجوزي فكان قد جمع بين آراء المتصوفة والغزالي.

ملا صدرا، أيضاً، كان يعتمد في نقد المتصوفة على آراء الآخرين، لاسيما الغزالي. وقد توهم بعض أنَّ ملا صدرا كان يروي مواضيعهُ عن المتصوفة في عصرهِ خصوصاً، والواقع خلاف ذلك، فلو أمعنتم النظر في ذلك لوجدتم أن الغزالي – مثلاً – قد أثبت المطالب نفسها بخصوص متصوفة عصرهِ، ثم إن بعض ملاحظات ملا صدرا لا تعود لمتصوفة عصرهِ أساساً، أي إن ملا صدرا كان قد نقلها نصاً عن الآخرين.

q ما هي العلاقة بين التصوف والتشيع؟ ولماذا غالبية الفرق الصوفية هم من السنة؟

د. پورجوادي: في الحقيقة نحن لا نعلم كيف بدأ التصوف أو المذاهب العرفانية بمختلف أشكالها، غير أن القدر المتيقن في المسألة هو وجود شخصيات صوفية في القرن الثالث، ولا تتوافر معلومات وافية عن القرن الثاني. فقد قيل عن أبي هاشم – مثلاً – إنهُ كان صوفياً، لكن أي صوفي هو في ذاته؟ فهل كان مرتدياً للألبسة الصوفية أو أن للموضوع دلالات أخرى أوسع من ذلك؟

هناك كثيرون ذكروا الحسن البصري ضمن مشايخهم في رسائلهم وتذكراتهم. فأساساً لم يكن مصطلح الصوفي متداولاً آنذاك لنقول: إنهم كانوا متصوفةً. وليست ثمة معلومات مؤكدة في هذا الباب للبحث في مسائلة. ولهذا الدليل ليس بإمكاننا تحديد دور الإمام الصادق(ع) مع وجود تفسير عرفاني منسوب إليهِ، ذكرهُ السلّمي. بالإضافة إلى مصادر أخرى. كذلك نقلوا التفسير نفسه عن الإمام الرضا(ع). وقد تضمنت كتب العرفاء والمتصوفة العديد من أقوال الإمام الصادق(ع). وأنا لا أرى هذا إلا إجحافاً بحق الصادق(ع)، فقد بقي البعد العرفاني من فكرهِ مجهولاً. فهو إن لم يكن من مؤسسي العرفان الإسلامي، فلهُ في أقل التقادير إسهام كبير فيهِ. لقد بينّت مطالعات (ماسسينون وبيل نويا) وغيرهم ممن حققوا في القرون الأولى نقاطاً مهمَّة في هذا المضمار.

q كان تحليل بيل نويا مستنداً على التفسير المنسوب للإمام الصادق(ع)، فهل يحتفظ تحليلهُ بمصداقيتهِ. إذا كان هناك تشكيك في ثبوت التفسير نفسهِ؟

د. پورجوادي: ليس التفسير وحدهُ دليلنا في ذلك، فقد رووا عن الإمام الصادق(ع) في غير مصدر، وقد نسبوا مصباح الشريعة لهُ(ع) أيضاً، ثم إن جميع النصوص العرفانية نُسبت للإمام(ع) من قبل الشيعة والسنة.

كذلك إنّ وجود اسم الإمام الصادق(ع) في الكثير من مصادر أبناء العامة هو دليل آخر على الجانب العرفاني في شخصيتهِ. لقد بقي العديد من مجريات القرن الثاني مبهماً لدينا، فبقيت حقيقة علاقة التشيع بالتصوف في بقعة الإبهام.

ظهر التصوف ونما في المجتمع السني، واستمر ذلك لعدة قرون. أما الشيعة فكانت تحتفظ بتعاليمها الروحية والمعنوية قبل دخولها دائرة التصوف. فيجب أن لا نغفل عن دور الأئمة لاسيما الإمام الصادق(ع) في الجوانب المعنوية. لذا كان رافد الشيعة في هذا المجال هو من داخل محيطها. وقد تمتع الشيعة الإثنا عشرية بنظرة منفتحة على ما يحيط بهم من أفكار، فكانوا يأخذون من الآخرين ما يوافقهم من أفكار مع إدخال بعض التغييرات عليها لتتطابق مع اتجاه التشيع بصورة كاملة، فكان تلقيهم لفكرة الولاية – مثلاً – بادرةً جيدة في جملة الافكار المستوحاة من الآخرين.

قدمتُ في مؤتمر خارج القطر مقالة بالإنجليزية، ذكرت فيها أنهُ كان للتشيع تعامل مزدوج مع التصوف في بعض الحقب الزمنية، وخصوصاً في القرن السابع وما بعدهُ، أي تجسد هذا الازدواج في التعامل في زمن الخواجه نصير فصاعداً. لقد كانت الشيعة تخالف الجوانب الاجتماعية والعملية في فكر المتصوفة، في حين تعدّ بحوثهم النظرية وتعاليمهم العرفانية إسلامية في ذاتها. حتى أن ملا صدرا لم يكن رافضاً لبحوثهم النظرية إلاّ أنهُ كان معترضاً على ممارساتهم العملية والاجتماعية من بدع وإباحية وابتذال. وقد وجدت جماعات أيضاً رفضت بحوثهم العقلية والعرفانية، كبعض الإخباريين والقشريين.

q ما هي المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في إثبات أصول التصوف الشيعي؟

د. پورجوادي: تأريخياً، لم نتعرف إلى معارفنا الإسلامية بشكل مطلوب، والتصوف واحد منها. ولدينا تفاسير عديدة غير مطبوعة، فلا بد من توفر المصادر والنصوص في متناول الأيدي لإجراء الدراسات التاريخية عليها بدقة. وتاريخ التصوف بدورهِ لهُ ارتباط – بشكل أو بآخر – بتاريخ الحديث. ولم يقدم تاريخ الحديث في بلدنا – حسب علمي – بطريقة علمية. فأنا لا أعرف في مجال تاريخ الحديث محققاً حقيقياً.

q كان للإسماعيلية، في هذهِ المرحلة، النصيب الأوفر من بحوث ومطالب في خصوص الإمامة والولاية الروحية. ولم يحظ هذا الاتجاه بتجسيد واضح في آثار الشيعة الإثني عشرية، فلم تتضمن الكتب الروائية في القرنين: الرابع والخامس مثل هذه البحوث باستثناء "الكافي". فالريادة في هذا الباب هي للإسماعيلية من دون غيرها. وقد أخذت آراؤهم في القرن السابع تشق طريقها إلى كتب العرفاء، فتأثر الشيعة بهم لاسيما في بحوث الإمامة والولاية الروحية، حيث حظيت نظرياتهم بقبول واسع من قبل الشيعة.

د. پورجوادي: تاريخ التأويل هو الآخر لم يُحقّق بشكل مطلوب – للأسف الشديد _. أما الإسماعيلية فلهم فهمهم وانطباعهم الخاص عن نظرية التأويل وهذه النظرية ليست مختصة بهم؛ إذ يوجد غيرهم ممن بحث في هذا المجال، فنحن لدينا مصادرنا في هذا الباب، فلا يمكن حصر التأويل الشيعي بالإسماعيلية خاصة. وان كنت أؤيد تزايد الاتجاه العرفاني لدى الشيعة في القرنين: السابع والثامن فصاعداً، إلاّ أني أرفض نسبة هذا التأثر للتأويل. وكتاب ابن ابي جمهور الإحسائي هو خير مصداقٍ في هذا المجال.

q ما هو مفهوم الإمامة ودور الإمام في المجتمع؟ فلطالما مررنا ببحث الإمامة مرور الكرام؟ وحتى النصوص الكلامية المختلفة لا تفي بالغرض، فما هو مركز الإمام بوصفه خليفة للرسول(ص)؟ ينقل عن آية الله البروجردي أنهُ كان يفرض مركزين للأئمة: أحدها المرجعية والأخر الحكومة الظاهرية. ولم تتحقق الحكومة الظاهرية وبحثها اليوم منتفٍ. فلتكن بحوثكم وتحقيقاتكم في المرجعية الدينية خاصة. وهناك منزلة أخرى قدمها المتصوفة وأيدتها الشيعة، وهي الولاية التكوينية وكذلك الولاية الروحية بمفهوم إرشاد السالكين وإعانتهم. ويمكن من خلال الولاية الروحية تفسير قضية
المهدي(عج) بشكل أفضل. والسؤال هنا هو: هل أن بحث الولاية الروحية من البحوث الأساسية في التشيع، أو أنهُ طرح معالجة لبعض المشاكل التي طرأت على المذهب؟

د. پورجوادي: ليس بإمكاني الخوض في تفاصيل تاريخ التشيع، فهو ليس من اختصاصي. هناك أشخاص يحققون في تاريخ التشيع في قرونهِ الأولى. لكن الذي يمكنني قولهُ هو: إن غالبية تلك البحوث تتضمن جوانب تاريخية، فبحث الولاية – على سبيل المثال – ظهر في العالم الإسلامي في القرن الثالث. فقد أخذ ابن عربي في هذا الباب من الحكيم الترمذي، ثم جاء المتصوفة وحققوا في الموضوع بشكل موسع. وكما تفضلتم أنتم لا بد لنا من تتبع نصوص الشيعة كي يتسنى لنا تحديد البداية التاريخية لظهور بحث الولاية في التشيع. أما بحث الإمامة فهو موجود، لكن متى ولد بحث الولاية؟ وهكذا بحث العصمة لا بد من تحديد بدايتهِ التأريخية. ومن الصعب تلقي ما يعود للقرنين: الثاني والثالث بقبول تام وضرسٍ قاطع، فلم يبق من تلك المرحلة الاّ القليل اليسير، إلاّ ما تمَّ تناقله عبر المراحل اللاحقة. فتفسير الإمام الصادق(ع) – مثلاً – وصلنا عن طريق شخص عاش في القرن الرابع، أي أنهُ أثبتهُ ضمن تفسير، فوصلنا بهذهِ الطريقة بعد مئتي عام.

q يظهر أن الإنسان المعاصر بحاجة ماسة للعرفان والتصوف أكثر من أي وقت مضى، لكنّ محيطنا مليء بالزيف والأكاذيب الغريبة، فما هو الحل؟

د. پورجوادي: في الحقيقة إنّ الإنسان بحاجة لهكذا أجواء. وقد بنت الناس آمالاً على دينها، من جملة ما بني عليه مسألة العرفان التي اشتد رواجها هذه الأيام، كما كان سابقاً، وكذلك الاحتيال والتزييف كان سابقاً، كما نشهدهُ اليوم.

q ما هي السبل المتَّبعة في تمييز الحقيقي من المزيف؟

د. پورجوادي: أعتقد بأن المرشد يجب أن يكون ذا بصيرة، وقيم معنوية، أي بإمكانهِ إثبات الحقائق للآخرين. كما كان يقول ابن سينا.

q المشكلة في الوقت الراهن هي أن النوع المتداول من العرفان هو ذلك الذي من الممكن ربطهُ بعلم النفس والسايكلوجيا من دون العرفان المرتبط بصميم الأديان؟

د. پورجوادي: نعم، هذا صحيحُ، فكل شيء عرضة للتحول والتغيّر. فكثير من معالم الماضي كانت على شاكلة حالها في القرون الوسطى – أي تنسب للقرون الوسطى من دون سلبيات هذا المصطلح – ثم تغيرت غالبيتها. وهذا بلا شك ينطبق على العالم الإسلامي أيضاً، فالمجتمع يبحث كل تجديد لمعالمهِ ومضمونها، فإن لم تقدموها بصياغة جديدة لن يقبلها الناس، فلابد من إظهارها بحُلّةٍ جديدة ثم تُقدَّم لهم.

وقد نسبت بعض الأمور لبعض الفرق والمذاهب في القرون الوسطى، لا يعلم مدى صحتها. فمثلاً كان يقال: إن مذاهب العرفان في تلك المرحلة كانت ترفض حق السؤال، فليس لك حقٌ في الاستفسار، فلا خيار عندك سوى الانصياع الأعمى، فلا تطلبوا المعرفة والإدراك وفهم الأمور حتى لا يحق لكم قراءة كتاب. وهذا أسلوب كان متبعاً من قبل بعض الجماعات.

لكننا عندما نطالع التاريخ نجد خلاف ذلك؛ حيث كان هدف العرفان اكتساب الآخرين للعلم والمعرفة والتنوير لتتفتح آفاقهم وتتنامى أحاسيسهم. ففي مجال تفسير القرآن – مثلاً – عليهم أن يفهموا مراد القرآن وفحواه. وهكذا بالنسبة للأحاديث والروايات. فلا بد من أن يتوصلوا لحكمة كل شيء ويعلّموها للآخرين، وقد كان العرفاء والمتصوفة يدرسون الناس في بيوتهم وملتقياتهم. فالرسالة القشيرية هي كتاب من كتب العرفاء التعليمية.

وبشكل عام، نحن نعيش في الوقت الراهن ظروفاً حرجة سواءً على صعيد الدين أم العرفان. فهناك العديد من الأسئلة تدور في أذهان الناس لم تكن مطروحة سابقاً، ولعل زماننا هذا هو الذي وصفتهُ بعض الروايات بأن على أهله اللجوء للجبال حفاظاً على دينهم.

q ما هو السر في استقطاب العرفان للأفراد، بحيث نرى العرفاء يحظون باحترام جميع الأفراد حتى مخالفيهم، فهل سبب ذلك هو الشخصية المنزهة لديهم خاصة، أو يضاف إلى ذلك كون العرفان ذا حقيقة ملموسة في المجتمع؟

د. پورجوادي: لا فرق بين هذين السببين، فإن أولئك الذين منحوا العرفان مصداقية ملموسة هم الأشخاص المنزَّهون أنفسهم ، الذين تخلوا عن أنانيتهم ولم تكن دعوتهم سوى بدافع الحق بعيداً عن عرض المطمعِ.

q أي أن المقصود هو فرض شخصية منزهة تدعونا إلى الله خاصة، لترشدنا اليوم إلى طريق الحق والحقيقة. إذن ما هي المعطيات الملموسة وراء إتباعنا لها؟ فإن معنى العرفان الرفيع وهدفه يصعب الحصول عليهما بهذهِ السرعة وإن تأقلم بعض الأفراد مع ذلك، لكنّ عامة الناس يرغبون في ما هو سهل ويسير، فمثلاً هم يطلبون حلولاً سريعة لمشاكلهم النفسية. فكتب علم النفس هذه الأيام تحظى بشعبية عالية، ويطلبها الكثيرون. إذن أليس ذلك تقليل من شأن العرفان وحطٌّ من منزلتهِ؟ وهل من الممكن ان تطلب من العرفان تقديم معطيات للناس في هذا المضمار؟

د. پورجوادي: أنا لا أرى في ذلك مساساً بمنزلة العرفان. ولا تنتقص تلك الكتب منهُ. فمهما كان هو عبارة عن إرشادات يتبعها الناس. فأنا مثلاً كنت قد قرأت وقبل عشرين عاماً كتب "كاستاندا"، ولعلها كانت من أهم الكتب التي استمتعت بمطالعتها. فأنا أعتقد بأن هذهِ الكتب عبارة عن دروس في الإنسانية كمؤلفات العطار وجلال الدين الرومي، التي تعلمنا كيف نتعامل وكيف ننال إنسانيتنا وأن لا نتشدد في الأمور. وفي العرفان أيضاً تتوافر هكذا معطيات، فقد كان الخطباء سابقاً يقحمون في حديثهم أبياتاً لمثنوي وبعض قصص الأخلاق والعرفان كي ينفسوا عن الناس ما هم به، ويعودون بهم لحياتهم الطبيعية. فلمعالجة المشاكل لابد من منح الإنسان سبلاً وتعاليم تلقنهُ كيف يواجه الصعاب في حياتِهِ، فالإنسان معرض للموت والمصائب، لذا لابد من وجود قوة في داخلهِ تقاوم تلك الصعاب.

إن غالبية الذين يذهبون وراء هذه الأمور، بسبب تعرضهم لبعض الصدمات والمصائب في حياتهم، لا يجدون سبيلاً أمامهم سوى المدارس العرفانية بوصفها طرقاً للتغلب على تلك المحن التي تلمّ بهم.

 

الهوامش



1 ـ المثنوي (مزدوج الشَّطر): شكل شعري يعرفه الشعران: العربي والفارسي، وبخاصة الشّعر القصصيّ والتعليمي، ويطلق عليه اسم المزدوج كذلك. ويلتزم الشاعر فيه قافيةً واحدةً في شطري البيت، ولا يلتزم هذه القافية في القصيدة كلها (المحرر). راجع: د. عبد المجيد زراقط، الإبداع الأدبي العربي: قضايا وإشكالات، دار الغدير، بيروت، ط. 1، 2003م.، ص. 99 و100.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً