د. حاتم الجياشي(*)
الخلاصة
إنَّ هذه الدراسة خارجةٌ عن النقاش الدائر اليوم في آليّات التجديد الفقهي من زاوية تجدُّد الأحكام الشرعية، في هل هذا يكون من داخل المنهج المقنِّن لعلم الفقاهة أو من داخل الفقه نفسه، من خلال التأويل ببُعْدَيْه: التشخيصي؛ والتنزيلي، أو لا يكون من خلال أدوات المناهج التأويليّة الحديثة التي تدور حول العلوم الإنسانيّة المعاصرة؟ فهنا لا يهمّنا هذه النقاشات؛ لأنها كلّها باحثةٌ إما من الداخل أو من نفس الفضاء، بينما هذه الدراسة معنيّةٌ بفلسفة الفقه كونها علماً فوقانيّاً لا دَخْل لها بهذه الحيثيّات، وإنما لها دخالة المراقب والراصد للعمليّة برمّتها، سواء كانت أصولية أو فقهية؛ لتقويمها ومناقشة المبادئ والمباني فيهما بطريقة علمية نَقْدية. وليس غرضنا هنا هو الردّ والمناقشة في مَنْ أعطى عمل فلسفة الفقه لعلم الأصول؛ لأن هذا العلم واضح المعالم والوظيفة، لا يختلف فيه أغلب المسلمين إلاّ ما ندر، وخصوصاً إذا كان المتكلِّم لا يصنَّف من علماء الأصول أو الفقه؛ لأنهم هم أنفسهم يذهبون إلى أن الأصول علمٌ يهمّه تقديم القانون والتقنين؛ لغرض استنباط الفقيه للأحكام الشرعية. والأمر الآخر الجدير بالذكر هو أن علم الأصول هو علمٌ عمله في حدود العوامل المؤثِّرة في عملية الاستنباط ومدى نجاح الفقه والاجتهاد، رغم خصوبته النظرية، لكنْ لا يمكن إدراجه في الإطار الفلسفي، لهذا اكتفى الباحث هنا بتوضيح فلسفة الفقه، من حيث الرؤية والهدف، وبيان ما يقع في طريق هدف هذه الدراسة، كبيان التقارب والافتراق بين فلسفة الفقه من جهة مقاصد الشريعة؛ ومن جهة أصول الفقه، وبالتالي عند وضوح الرؤية والهدف لهذا المجال يكون ميدان الفقاهة أرضاً غزيرةً وواسعةً؛ لاستكناه فلسفة الفقه، ونتيجة ذلك يكون لدينا فقيهٌ شمولي ومعاصر.
مقدّمةٌ
فلسفة الفقه علمٌ يعتبر باكورةً في التكوُّن والولادة في رحم الحواضر العلمية، سواءٌ كانت أكاديمية أم دينية. وهذه الولادة لا تتعدّى في تاريخها العقدين والنصف من الزمن، ونتيجة هذه الولادة المبكِّرة حصل نشاطٌ فكري في تأطيرها، وتحديد معالمها، وتشخيص موضوعها، بل ذهب النشاط إلى أبعد من ذلك في تحديد علاقة هذا العلم الجديد بباقي العلوم الأخرى، ولا سيَّما الفقه والأصول؛ لوضوح اندكاكها بها؛ لأن لعلم فلسفة الفقه مساحتين، إذا صحّ التعبير: مساحة خاصة، وهي دراسة الخلفيات المعرفية والمصادر القبلية التي يقوم هَرَم الفقه عليها، من تحليل وتقويم واكتشاف؛ وأما المساحة العامّة فهي دراسة كيفية إفادة الفقيه من مناهج أخرى في عملية الاستنباط، لكنْ لا بُدَّ من جعل هذه المناهج فقهيّةً، من خلال إرفاقها بالعملية الاستنباطيّة، وبعبارةٍ أخرى: صاحب فلسفة الفقه يدرس ويحلِّل المنهجين الخاصّ والعامّ اللذين استفاد منهما الفقيه في عملية الاستنباط. لكنْ كلّ علمٍ يمكن للفقيه الاستفادة منه لا بُدَّ له أوّلاً من إثبات ما يريد إدخاله بالمنهج الخاصّ، إذن هنا تكمن ثمرة فلسفة الفقه في معرفة ذلك بدراسة الخلفيات والقبليات للفقيه في العملية الاستنباطية، وكيفية الاستفادة من المنهجين الخاصّ والعامّ. علماً أن جوهر هذه العملية كانت موجودةً في كلمات الفقهاء، بل يعملون بها، لكنْ لا بعلمٍ مستقلّ، له موضوعه وآلياته ومحدَّد المعالم، كذلك تسميته بفلسفة الفقه لم يكن معروفاً إلاّ في السنوات المنصرمة، ولم تتبلور الدعوة إلى اتخاذ علمٍ بهذه السمة إلاّ في العقد الأخير، كما ينقل أن مجلة (نقد ونظر)، التي يصدرها القسم الإعلامي في الحوزة العلمية، وباقتراح أحد العلماء، قامت بإنشاء قسمٍ يعنى بدراسة فلسفة الفقه، على غرار ما ظهر في الحواضر العلمية من انبثاق فلسفةٍ بجوار كلّ علمٍ، والتي يكون عملها هو تحليل ماهية العلم التي هي بجواره، وفَهْمه فَهْماً عميقاً؛ لمعرفة الخلفيات والقبليات والمناهج المتَّبعة؛ ليقوم بشرح تنظيمها الأليق بها، وكذلك معرفة مَدَيات هذه المناهج وغاياتها، والاطِّلاع على العوامل والظروف التي تتحكَّم في كيفية تقنين أُسُس ذلك العلم التي هي بجانبه ومرتكزاته. إذن الفضاء الذي تدور في فلكه غير الفضاء الذي يدور فيه علم أصول الفقه، باعتباره العلم المقنِّن للفقيه؛ لكي يستنبط الأحكام الشرعية، فهذا الأمر عبارةٌ أخرى عن عملية داخل المنهج الخاصّ، وفلسفة الفقه قدمها أسبق في ذلك؛ لأن نظرها فوقاني موجَّهٌ للفقيه في ممارسته لعملية الاستنباط من حيث المنهج، سواء كان خاصاً أو عاماً، وكذا يساهم في تسليم وإذعان الفقيه في رؤيته الكونية، وفي كافّة العوامل الأخرى، من سياسية واجتماعية وثقافية وغير ذلك.
نعم، بقي هنا أمرٌ لا بُدَّ من إيضاحه للقارئ الكريم، بعد هذه المقدمة المقتضبة، وهو أن لا تذهب بنا المذاهب حول هذا العلم الذي كانت ولادته سريعةً وقريبةً، ونقول بأنه سوف يرفع جميع العوائق والمطبّات في طريق الاستنباط، وإنما علينا أن ننتظر إكمال قواعده ومبانيه، والمرتكزات التي يقوم عليها، وتخومه التي يقف عندها؛ لأنه إلى الآن فيه أخذٌ وردّ، ولم يُقْبَل في الحواضر العلمية بشكلٍ كامل؛ لأسباب كثيرة، لا يسعني التحدُّث عنها بشكلٍ كامل ومفصّل؛ مراعاةً لعدم الخروج عن عنوان البحث، وإنما أكتفي هنا بذكر أحدها، وهو أن كثيراً من مطالبها ومسائلها متداولةٌ في كلام بعض الفقهاء، غاية الأمر الاسم غير مذكور ومطروح بهذا الإطار، ومنها أيضاً أن المشاكل التي تقع في طريق الاستنباط ليست بسبب معرفة الفقيه بفلسفة الفقه، أو عائدةً لها، وإنما هي أسبابٌ ترجع إلى قصور علم الأصول التي عمل العلماء عليه، وأسباب ترجع إلى علوم أخرى يستخدمها الفقيه في عملية الاستنباط.
والأمر الآخر الجدير بالذكر هنا هو سؤالٌ يطرح: هل عمل فلسفة الفقه هو تحديد موقع الشريعة وغاياته الكلّية؟ فإذا كان الجواب: نعم ففلسفة الفقه تحمل في داخلها مقاصد الشريعة، التي حدث كلامٌ ولغطٌ بين الكتّاب والعلماء حول أن فلسفة الفقه علمٌ إعلائي ومقاصد الشريعة تابعٌ وشعبةٌ منها، كما ذهب الشيخ المهريزي([1])، أو أن علم مقاصد الشريعة علمٌ قائمٌ بنفسه، وليس تابعاً أو شعبةً من فلسفة الفقه.
والسؤال الآخر الذي يأتي هنا هو: هل فلسفة الفقه هي شعبةٌ من شعب الأصول التي يعمل الفقيه قواعده في عمليه الاستنباط أو لا، وإنما تولَّد داخله، كما حدث له أنه تولد داخل الفقه([2])، وبعد ذلك انفرد وأصبح علماً قائماً برأسه؟
وهذه التساؤلات وغيرها حتَّمَتْ على الكاتب التطرُّق إلى التفرقة بين فلسفة الفقه وعلم أصول الفقه من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى التفرقة بين فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة. وقبل الخوض في ذلك ينبغي توضيح المبادئ التصوُّرية للبحث؛ ليتَّضح للقارئ جليّاً المصطلحات التي ذُكرَتْ في عنوان البحث:
الفلسفة، لغةً واصطلاحاً
أما لغةً فالفلسفةُ كلمةٌ معرَّبة من الكلمة اليونانية القديمة، والمركَّبة من مقطعين، هما: فيليا أي حُبّ، وصوفيا أي الحكمة، فيكون معناها حُبّ الحكمة أو حُبّ المعرفة والتعليم، فيلوصوفيا.
وأرجع بعضهم هذا التعريف إلى سقراط، الذي وصف نفسه بالفيلسوف؛ رغبةً منه في تمييز نفسه عن السفسطائيين، الذين يدَّعون الحكمة. وأرجعه بعضٌ آخر إلى إفلاطون، حيث استخدمها في وصف سولون وسقراط([3]).
وأما اصطلاحاً فإن الفلسفةَ هي دراسةُ ما يتعلَّق بأمورٍ كالوجود، والمعرفة، والقِيَم، والعقل، واللغة، من خلال التفكُّر في هذه المسائل والنظر إليها بمنظورٍ فلسفي إدراكي. أمّا ماهية الفلسفة فلا يمكن تحديدها عبر مفهومٍ واضح؛ إذ إنها لا تحدّد إلاّ بطريقة ممارستها. فخلافاً للعلوم الأخرى لا تتعلَّق الفلسفة بجزءٍ معين من الحقيقة، بل بالكلّ؛ إذ تبحث في ماهية الشيء ومصدره وكينونته. ومن حوافز التفكُّر الفلسفي: نتائج تقليص الغرائز، وإدارة المعرفة، والدهشة، والشكّ، ومسألة الحواسّ.
وكان أوّل مَنْ أطلق هذا المصطلح على الحكمة هو الفيلسوف اليوناني والعالم الرياضي الشهير فيثاغورس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد. والفلسفة هي أمّ العلوم. وقد تتغيَّر وجهات نظرها في الإجابات المقدّمة للمشاكل مع تغيُّر الظروف على مرّ التاريخ وتعاقب العصور، إلاّ أن جوهرها ظلّ متشابهاً إلى حدٍّ بعيد. وتحتوي الفلسفة على الصعيد الإنساني تصوُّرات اجتهادية كلِّية لقضايا مصيرية تمسّ كينونة الإنسان ووجوده في الماضي والحاضر والمستقبل، إذ إن الفلسفة تتطرَّق إلى طبيعة النفس البشرية، وتدرس الغاية من هذه الحياة إلى آخر القضايا الجوهرية من حياة الإنسان([4]). فالفارابي يعرِّفها بأنها: العلم بالموجودات بما هي موجودةٌ. وأمّا عند الكندي فإنها: علم الأشياء بحقائقها الكلِّية، حيث يؤكِّد أن الكلِّية هي أحد خصائص الفلسفة الجوهرية، التي تميِّزها عن غيرها من العلوم الإنسانية([5]). وأمّا كَانْط فيرى أن الفلسفة هي المعرفة الصادرة عن العقل([6]). وأما الفلسفة بمعناها البسيط، كما وصفها برندار ولسون، فهي عبارةٌ عن مجموعة من المشكلات تدور حول الله، والفضيلة، والإدراك، والمعنى، والعلم، وما إلى ذلك([7]).
الفقه، لغةً واصطلاحاً
الفقهُ في اللغة هو الفَهْمُ المطلق، والفطنة([8]). واستدلوا عليه بقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ﴾ (هود: 91)، وقوله سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ (الإسراء: 44). وقيل أيضاً بأن الفقه هو الفَهْم الدقيق، كما إذا قيل: فقهت الكلام، يعني فهمت ما يقصد به وما أخفي وراءه من مقاصد أخرى. وأمّا في آيات القرآن فيأتي الفقه بمعنى الإدراك الدقيق([9]).
وقد مرّ تعريف الفقه اصطلاحاً عند الأصوليين بعدّة تغييرات، فكان يعني كلّ ما جاء عن الله سبحانه، من عقيدةٍ، وأحكام، وأفعال النفس وجوارحها، فهو مرادفٌ لمعنى الشرع؛ ثمّ أصبح يعرَّف بالعلم بالأحكام الشرعية الفرعية، المستمدّة من الأدلة التفصيلية([10]). وهذا التعريف فيه نوعٌ من التخصيص، بحيث قاموا بإخراج جزءٍ منه، وجعلوا هذا الجزء علماً مستقلاًّ بذاته، فسمّوه علم التوحيد، أو علم الكلام والعقائد، بحيث أصبح تعريف الفقه لباقي علوم الشرع. وأمّا تعريف الفقهاء فهو العلم بالأحكام الشرعية العمليّة تحديداً من الأدلّة التفصيلية، فاستثنيَتْ كل الأحكام الشرعية غير العملية أو الاعتقادية، كأعمال القلوب والأخلاق([11]). وقيل: إن الفقه باصطلاح الفقهاء هو: الأحكام والمسائل التي جاء في بيانها وَحْي من الله سبحانه، ثم استنبط منها المجتهدون وأهل الإفتاء، أو ما توصَّل له أهل التخريج من مسائل وأحكام هامة([12]).
فلسفة الفقه، تعريفٌ وتوضيح
المجال المعرفي الذي يتَّخذ من الفقه موضوعاً له، فيبحث حول مبادئ وأسس القضايا الفقهية بحثاً نظرياً وتحليلياً، ويبين دَوْر العلوم والعوامل المختلفة في عملية الاستنباط الفقهي بنظرةٍ تاريخية([13]). وفي تعريفٍ آخر لها: علمٌ يبحث في الأصول الموضوعة للفقه والاجتهاد الفقهي، الذي يتعرَّض لمحورين مهمين:
الأوّل: المسائل العامة والكلِّية، كأهداف الفقه، وحدود دائرته، والعلاقة بين الفقه والزمان، ومصادر الفقه، ومنهج التحقيق التاريخي للفقه، ومناهج تفسير النصوص، والعلاقة بين الفقه والعلوم الأخرى.
الثاني: المسائل الناظرة إلى عمل الفقه والفقيه، والتي ترجع إلى العوامل المؤثِّرة في اجتهاد الفقيه، ومعرفة نفس الاجتهاد، والعوامل المؤدِّية إلى اختلاف الفقهاء…إلخ([14]).
والتعريف الآخر لفلسفة الفقه، الذي هو الأكمل بنظري: كلّ دراسةٍ خارج فقهية تعمل على رصد علم الفقه رصداً توصيفياً وتحليلياً ومعيارياً لهويّته ومساراته ومصادراته ومناهجه ومساحاته وعلاقاته، بعقليّةٍ فلسفية غير متقيِّدة بالضرورة بالإطار الاعتقادي([15]).
فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة، بين التفرُّد والاشتراك
لا ينكر عاقلٌ العلاقة بين العلمين، بل التأثير المتبادل بينهما، لكنّ هذا لا يعني أنهما علمٌ واحد؛ لأن لكلّ علمٍ معالمه وحدوده وأهدافه وغاياته. وهنا لا نروم أهداف الدين بشكلها العامّ؛ حتّى لا يكونا في إطارٍ واسع، ويُدرَسا في علم فلسفة الدين، وإنما نريد دراسة جنبةٍ محدَّدة ومشخَّصة بالفقه للإجابة عن التساؤلات التي تَرِدُ على الفقه والشريعة، وهذا ما يُسمّى بفلسفة الفقه. ويمكننا أن نقول: إن فلسفة الفقه علمٌ فوقاني، وأمّا علم مقاصد الشريعة فهو علمٌ داخلي ناظرٌ إلى الأهداف والغايات التي يرومها الفقه والفقهاء، وتحديدها أيضاً، وتحديد الطرق الموصلة إليها، ودراسة تأثيرها في عملية الاستنباط لدى الفقيه، ومعرفه نوع الوشائج بين الأهداف والغايات، وأيضاً معرفة كون هذه الأهداف والغايات أصليّةً أو فرعيّة([16]). نعم، علم المقاصد أقدم تدويناً من فلسفة الفقه، لهذا ينقل أن أوّل مَنْ طرحها هو إمام الحرمين الجويني(474هـ)، في كتاب البرهان في أصول الفقه، وبعده جاء الغزالي(505هـ) فطرحها في كتاب المستصفى في علم الأصول، وبعده جاء الآمدي(631هـ) فطرحها في كتاب الإحكام في أصول الأحكام، وبعده جاء ابن السبكي وابن تيمية، إلى أن جاء بعد ثلاث قرون الشاطبي(790هـ)، ويُعتَبَر أوّل مَنْ طرحها بشكلٍ مفصَّل في كتابه الموافقات في أصول الشريعة. ولسنا هنا في طور السرد التاريخي بقدر تناولنا للمسألة من زاوية القِدَم والسَّبْق، وهنا جاء دَوْر ابن عاشور(1396هـ)، الذي جاء منادياً ومؤسِّساً لعلم مقاصد الشريعة، في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، وبعد ذلك جاء العلماء بعدهم شارحين لمذهب الشاطبي وابن عاشور([17]). وأمّا على مستوى المدرسة الشيعية فإن هذا العلم أزهر في أواخر القرن الثالث الهجري، فخرج بعنوان كتاب العِلَل. ونكتفي بهذا القدر، فلا نطيل هنا في نقل الكتب التي أُلِّفَتْ في هذا المضمار، أو أيُّها أسبق بالتدوين، مع أنه يوجد قولٌ بأن الشيعة من مدرسة أهل البيت^ هم الأسبق بذلك.
ففلسفه الفقه علمٌ يتناول تحليل ماهية هذا العلم، وفَهْمها فَهْماً عميقاً من حيث الخلفيات والقبليات، والوقوف على منهجها، ويقوم بالتنظيم الأتمّ لمنهجه، وتحديد دائرته وأهدافه، ومعرفة العوامل المتحكِّمة في التقنين لأركان ذلك العلم ومرتكزاته. إذن توجد مساحةٌ مختصّة بفلسفة الفقه، وهي النظر إلى موضوعها من الأعلى، أي من خارجه؛ حتّى يتسنّى لها التحليل والتفسير لهذه الظاهرة، لمعرفة حدودها وأبعادها، التي يقف عندها، ولا يتجاوز تخومها.
وأمّا المقاصد فهي لا تنظر من الأعلى أو الخارج، وإنما هي ناظرةٌ بين جوانبه، أي من الداخل، فهي غير ناظرة إلى القبليات والفرضيات المخفية خلف القواعد الكلِّية للعلم، التي تساهم في صياغة المفاهيم للعلم، وتحدِّد اتجاهه.
والأمر الآخر الجدير بالذكر هو أن فلسفة الفقه تجعل في متناول الفقيه أدوات أخرى لم تكن داخلةً في عملية الاستنباط؛ لأنها كانت مستترةً خلف الأدوات الكلاسيكية، إذا صحّ التعبير، التي كان يستخدمها الفقيه آنذاك، التي لم تكن في دائرة اهتمامهم، ولم يأتِ في فكرهم الحاجة إليها. وكذلك تحتاج فلسفة الفقه في تنقيبها في النتائج والمعطيات التي تخرج على يد الفقيه من عملية الاستنباط إلى أدواتٍ تستخدمها هي من نتاج علومٍ أخرى، كما هو معمول به في الحفريات الأثرية، التي يعمل علماؤها بمعونة العلوم الأخرى، وإلاّ لا تتمّ أهدافهم وتحليلاتهم التي يجرونها على الآثار التي تستخرج. فهنا كذلك، إن فلسفة الفقه تتمّ عمليّتها بمعونة أدواتٍ مستقاةٍ من علوم أخرى، بعد صبغها وعجنها بعلم فلسفة الفقه، وتخرج بمخرجاتها، حتّى لا يقول مستشكلٌ: هي عبارةٌ من مجموعة علومٍ، وليس علماً برأسها. وهذا ما اصطلحنا عليه بالمنهج العامّ في مقدمة البحث. هذه الأمور التي تكلَّمنا عنها مختصّة بفلسفة الفقه، وهي لا تتعدّى إلى علم مقاصد الشريعة، بينما مقاصد الشريعة لها اهتمامٌ ومجالٌ هو خارج علم فلسفة الفقه؛ لأنها علمٌ يهتمّ بالتعرُّف على أهداف وغايات الشريعة الكلِّية والفرعية، وتحديدها للحكم والمصالح والملاكات الملاحظة من قِبَل الشارع في الحكم، وهذا خارج مجال فلسفة الفقه. نعم، إنها ـ أي فلسفة الفقه ـ تشترك مع أصول الفقه ومقاصد الشريعة في لقاء الفقه مع هذين العلمين. والجدير بالذكر أن هذين العلمين داخلان في حيِّز الفقه، بينما فلسفة الفقه خارجةٌ عن هذه العملية([18])، وبعبارةٍ أخرى: إن فلسفة الفقه تدخل في عملية الاستنباط بشكلٍ غير مباشر، بينما لهذين العلمين دخالةٌ مباشرة فيها.
فلسفة الفقه ووظيفة علم الأصول
إنّ المتطلِّع صاحب الدقّة المعرفية يميِّز بين فلسفة الفقه وأصول الفقه بأدنى تأمُّلٍ، فإنّ الأول ليس في قاموسه السعي إلى التنظير للفقيه لكي يعمل هذا التنظير من خلال القواعد والقوانين التي جعلها في متناول يده لغرض الاستنباط، بينما هذا عمل أصول الفقه وجوهره، وبالتالي يكون عمل فلسفة الفقه هو تحليل هذه الظاهرة وتفسيرها([19]). إنّ الخلط الذي حصل في التفريق بين العلمين، أو أنّ أحدهما شعبة من الأصول أو هو علم مقاصد الشريعة، بل هذا الخلط أيضاً حصل عند أصحاب هذا العلم وروّاده؛ لأنّه لم تتَّضح عندهم الرؤية والأهداف، ولا المعالم والحدود؛ لهذا وقعوا في دمج العلوم، أو جعلها جزءاً من كلٍّ، أو أنّه ليس بعلمٍ برأس، بينما الأمر واضحٌ بأدنى تأمُّلٍ والتفاتٍ إلى أنّ الأصول هدفه الوصول إلى الحكم الشرعي من خلال القوانين والقواعد التي أُعدَّتْ للفقيه لإعمال ظاهرة الاستنباط، وأمّا فيلسوف الفقه فليس ناظراً إلى العملية كعملية، إنّما هو ناظر إلى الخلفيات والملابسات التي جعلت الفقيه يصل إلى حكمٍ شرعي معيّن. وكذا تفسير هذه الظاهرة وتحليلها؛ فالأصولي أعماله وسَعْيه من أجل إنجاز العملي الفقهي من حيث الاستنباط، وجعل يد الفقيه مليئةً بأدوات الاستنباط، بينما فيلسوف الفقه ينصبّ اهتمامه على فَهْم ذلك الإنجاز في عمل الفقيه، والعمل على تفسيره وتحليله. وبعبارةٍ أخرى أكثر جلاءً: إنّ وظيفة أصول الفقه التقنين لاستنباط الأحكام الشرعية من قِبَل الفقيه، بينما فلسفة الفقه مجالها ليس جهاز التقنين، وإنّما هو جهاز الاستنباط الفقهيّ نفسه، الذي هو أحد موضوعات فلسفة الفقه. إذن فلسفة الفقه هي عمليةٌ تقييمية وتفسيرية لعملية الاستنباط، بينما أصول الفقه هو أداة توظيفية في عملية الاستنباط. وبعبارةٍ أكثر وضوحاً: إنّ حدود أصول الفقه هو العوامل المؤثِّرة في عملية الاستنباط، الأعمّ من المشاركة وعدم المشاركة بالفعل، فالمهمّ هو الأدوات الفاعلة والموجّهة لعملية الاستنباط؛ لأنه قد لا يدخل عنصرٌ في عملية الاستنباط بشكلٍ مباشر، كالعناصر الأصولية، التي تساهم في توجيه العمل الاستنباطي للفقيه فقط([20])، سواء من جهة تحديد المنهج للفقيه في هذه الظاهرة، أو المساهمة في تحقيق الإذعان لدى الفقيه، كما في الرؤية الكونية والعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية…إلخ.
وبالتالي هو ليس عضواً في العملية الاستنباطية، وإنّما هو مراقبٌ وراصد للخطوات التي يتَّخذها الأصوليّ والفقيه، ومفسِّرٌ للخطوات التي يتَّخذها في التعامل مع القوانين التي قنَّنها أصول الفقه له، والعلوم التي يعملها في عملية الاستنباط. فالنتيجة من ذلك أنّ فلسفة الفقه مجالها ومحيطها هو التقويم والتحليل والتأمُّل والتفسير؛ وأمّا الأصول فمجاله ومحيطه هو تأطير القوانين التي يجعلها بيد الفقيه؛ لكي يجري عملية الاستنباط بيدٍ مليئةٍ بالأدوات الداخلة في استنباط الأحكام الشرعية، فهذه هي حدود وظيفته وعمله، ولا دخل له بفلسفة الفقه من هذه الجهة، وإنْ كان هو وليد هذا العلم، كما قيل، فهو كما حَدَثَ مع الأصول وليد رَحِم علم الكلام، وقد نشأ في طيّات علم الفقه الذي يُعَدّ القدر الجامع بين الفقهاء؛ كونه أداةً مؤهّلةً للنظر الاجتهادي([21])، وإنْ كان ولد من رحم الكلام، ونشأ في كنف الفقه، لكنْ يبقى له مجاله الذي خرج عن كونه علم كلام أو فقهاً، وإنّما أصبح مقنّناً ومنظّراً قانونيّاً له، وأمّا فلسفة الفقه فيبقى مجالها غير ما هو موجودٌ ومعمولٌ في أصول الفقه.
الأمر المهمّ الآخر الذي يجعل فلسفة الفقه خارجةً عن محورية الأصول ومحيطه هو أنّه عندما يمارس فيلسوف الفقه عملية التحليل والتقويم والتفسير فإنّه خالٍ من كلّ قَيْدٍ وتقيُّدٍ، سواءٌ كان فقهيّاً أو فقاهتيّاً، بينما الأصوليّ والفقيه نفسه لا يخرجون عن هذه القيود في عملهم مقابل القضايا الفقهية.
وحتّى لا نبخس هذا العلم أدواره ووظائفه في إعمال الفقيه لعملية الاستنباط، التي منها يوفِّر الاعتبارات المنهجية للفقيه، وأيضاً مراقباً لأعمال الفقيه لعملية الاستنباط من خلال فحص الأدوات التي استخدمها الفقيه في العملية؛ ومنها: إعطاء الفقيه خريطةَ عملٍ في كيفية إجراء الخطوات التي يتَّخذها الفقيه في العملية الاجتهادية؛ ومنها: جعل أدوات التقييم والتقرير لعملية الاستنباط من جانب بناء المفاهيم، وتقنين المباني اللغوية، وتكوين أركان المتبنّيات الفقهية([22])، وليس واردنا هنا استقراء جميع ما يقدِّمه الأصول من وظائف، وإنّما أرَدْنا فقط تبيين ما رُمْنا إيضاحه من وظيفةٍ بشكلٍ لا يخرجنا عن جوهر هذا البحث، والباحث كان ملتفتاً إلى ذلك، لكنْ كان يروم جعل الأمر واضحاً لدى القارئ الكريم ما بين فلسفة الفقه وأصول الفقه، فالمتصوَّر ممّا تقدّم هو وضوح المجالات والحدود التي يقف عليها كلا العلمين، بل بروز وظيفتين كمجالين لكلٍّ منهما فضاءٌ يعمل به. ولنتوقَّف هنا؛ لكي لا نخرج عن إطار هذه الدراسة وهدفها.
رؤية فلسفة الفقه، ودَوْرها
إنّ فيلسوف الفقه أُفُقه وسَعْيه هو بيان وتعريف حقيقة الفقه، من خلال إبراز هويته على مستوى التاريخ والثقافة والاجتماع، وتبيين العناصر التي أعدَّت ذهنية الفقيه في عملية الاستنباط؛ فقد أفضَتْ هذه الأمور إلى تعدُّد الرؤى والتصوّرات حول فلسفة الفقه تجاه الفقه، من خلال تحديد موضوع الفقه بشكلٍ دقيق، وهدفه، وكذلك تحديد المعيار الأنسب والأدقّ في تقسيم علم الفقه، وهذا يتمّ من زاوية تحليل المسائل الفقهية المختلفة. ففلسفة الفقه تجعل أمام الفقيه أدواتٍ تسدّ فيه الطريق أمام المتنوِّرين والمفكِّرين الذين طرحوا رؤيةً بأنّ الفقه يعتني بجانب علاقة المكلَّف بربِّه، ولا دَخْل لها بعلاقة المكلَّف مع أبناء جنسه، والأمر الآخر أنّ الفقه يهتمّ بالشأن الفرديّ، ولا دَخْل له بالشأن الاجتماعيّ (ما يسمّى بالفقه الاجتماعي)، فهنا تنبري فلسفة الفقه لتبيين هذه الأمور وغيرها بالتحليل والتأمُّل والنَّقْد؛ لتبيِّن هذه الأرضيات الهشّة للفقيه؛ ليعمل على جعلها صلبةً. فإنّ رؤية الفيلسوف هي البحث والتحليل لكلّ عنصرٍ من عناصر الاستنباط الفقهي من حيث المنهج، فهل هي إدراكات عقلية، كمقدّمة الواجب وامتناع اجتماع الأمر والنهي؟ وأيضاً في مصادره، هل هي مصادر عُرْفية أو عرفانية أو فلسفية أو تاريخية؟ وكذا النتائج والمخرجات من عملية الاستنباط التي أجراها. وكلّ هذه العملية التي يمارسها الفيلسوف في متابعة عملية الاستنباط من قِبَل الفقيه؛ ليرفع جميع الإشكالات ويسدّ جميع الثغرات التي تؤخذ على الفقه كعلمٍ، والفقيه كعالمٍ، بالبحث والتحليل والتأمُّل والنَّقْد. وبهذا يبيِّن للفقيه نقاط القوّة والضعف بعد التحليل والتقييم. وكذا تقف فلسفة الفقه على تأثُّر الفقيه بسائر العلوم الأخرى، وتأثير نفس هذه العلوم في الفقه نفسه؛ لتقوم بتحليل ذلك من خلال نظمها وتنقيتها، وكذا دراسة لغة الفقيه المستعملة في الفقه، أهي لغة واجباتٍ أو حقوقٍ؟ وما هي مَدَيات لغة الفقيه، وارتباطها بأخلاقيّات الفقه؟ وما هو مقدار انسجامها معه؟ وهل لغة الفقه لغة رموز وإشارات أم هي لغة عُرْفية أم غير ذلك؟ وهل المسائل المنتجة والمتولّدة من قِبَل الفقيه هي مسائل معرفية موضوعية أم هي مسائل تعبِّر عن البُعْد المعرفي والنفسي والثقافي للفقيه؟ فالرؤية التي يحملها فيلسوف الفقه وهمُّه الجوهري العمل في مجال الفقه كعلمٍ، والفقيه كعالمٍ؛ ففي الأوّل الأهداف، والحدود، والمعالم، والعلاقات بين الفقه والزمان والمكان ومصادر الفقه، والعلاقات بينه وبين العلوم الأخرى، والمناهج المستخدمة في تفسير النصوص، وفي التحقيق التاريخي للفقه؛ وأمّا الثاني فهو في كيفيّة عمل الفقيه، والعوامل المؤثِّرة في استنباطه، ومعرفة عملية اجتهاد الفقيه، والعوامل المؤدِّية إلى اختلاف الفقهاء. ويؤيِّد هذا ما تكلّم به السيّد الشهيد الصدر الأوّل في مجلّة الأضواء النجفية بقوله: «إنّ العامل الذاتي في الاجتهاد أنّه قد يكون عاملاً مؤثِّراً يجرّ الفقيه في مجال استنباطه إلى مكانه الخطأ، عبّر عنه بعاملين مهمّين: الأوّل: عامل الهدف، بمعنى الأثر الذي نتوخَّاه من عملية الاجتهاد في واقع الحياة؛ والثاني: عامل الفنّ، أي درجة التعقيد والعمق في أساليب الاستدلال، التي تختلف في مراحل الاستنباط، وتَبَعاً لتطوُّر الفكر العملي.
فهنا تتَّضح جليّاً رؤية فلسفة الفقه ودَوْرها في تبيين الأمر وإيضاحه للفقيه المستنبط في قراءته للنصوص (الكتاب والسُّنَّة)، بأن يقرأها من جوانب وزوايا متعدّدة، هذا بوصفه فقيهاً مستنبطاً؛ وأمّا بوصفه ناقداً للعملية برمّتها فإنّه يقرؤها من جنبةٍ وزاويةٍ خارجية فوقية. وكذا تحدّد المباني والمعايير التي يرتكز عليها الفقيه؛ لأنّ المباني التي بين أيدينا، من مطبوعٍ ومدروس، لا تبيِّن لنا كيفية استناد الفقيه في فتواه، أهي ناظرة إلى المستقبل أم هي ناظرةٌ إلى مجتمع بعينه أو إلى جميع المجتمعات مع اختلاف الطبائع والأعراف؟ وهل الفكر الحداثوي أقحم في مقدّماته أو استند في استنباطه لنظرية علمية…؟.
وبالتالي ففلسفة الفقه جاءت لتبيين ماهية الفقه، من خلال تحليله من حيث الركائز والمباني، والتأمُّل فيه، وتقييمه من زاوية نَقْده البنّاء؛ ليصبح واضحاً من حيث المكوّنات والمنطلقات، والقدرة على إدارة الحياة بجميع مجالاتها بشكلٍ تامّ.
وهي بهذا خرجَتْ عن حيِّز مَنْ قال: إنّها هي نظرية المقاصد؛ لأنّ مجالَ المقاصدي دراسةُ أهداف التشريع وفقاً للعملية الاجتهادية في الشريعة نفسها، بينما دائرةُ فيلسوف الفقه الأهدافُ، وعلاقتها بالفقه نفسه؛ لأنّ الفقه جهدٌ بشريّ لا بُدَّ له من غاياتٍ وأهداف، فالحريّ هنا هو النظر إليها وإلى ما تؤول إليه؛ فإنّ فلسفة الفقه تتجشّم عناء التصدّي للإجابة عن الأسئلة الكلّية والعامّة المثارة حول أُسُس الفقه من كلّ ما ذكر.
فكلُّ الأمور التي تصدّى لها فيلسوف الفقه في دائرة عمله موجودة، ولها شواهد كثيرة. فعندما نتصفَّح الآثار العلمية الخاصّة بهذه الدائرة تنبئ عن كلّ الهواجس والمؤاخذات التي تَرِدُ من قِبَل المتنوِّرين والمفكِّرين الجُدُد. فعلى سبيل المثال في توضيح أحد ميادين فلسفة الفقه: في البناء التصوّري للغزالي حول النصّ بطرفَيْه (الكتاب والسُّنَّة) من أهداف وغايات فإنّها تنطلق من أساسين: أوّلهما: هو كونه أشعريّاً كلاميّاً؛ والثاني: كونه صوفيّاً غنوصيّاً، وهذا التصوّر الأشعري ينطلق من أنّ النصّ (القرآن الكريم) صفةٌ من صفات الذات الإلهية، وأنّ الصوفي متَّجهٌ إلى حَصْر غاية الوجود الإنساني على الأرض في تحقيق الفوز والفلاح في الآخرة، وأنّ هذه الغاية يمكن الوصول إليها وتحقيقها عبر تحقُّق الوجود الإنساني الأمثل في الواقع والمجتمع، أمّا الغزالي فلا يرى تحقيقها إلاّ عبر الزهد في الدينا والانقطاع إلى الله وترك ما سواه.
ومن هاتين الجنبتين للغزالي يتّضح مشروعه الفكري الذي قدّمه من خلال كتبه وتعاليمه للمسلمين؛ لهذا إذا أرَدْنا أن نفهم تصوّرات الغزالي للنصّ من حيث الأهداف والغايات فلا بُدَّ من فَهْم طبيعة مشروعه الفكريّ حَسْب ظروف عصره وواقعه.
الأمر الجدير بالذكر أنّ الغزالي يضع الفقه في إطار علوم الدنيا، بوصفه العلم الذي يؤدّي إلى تعريف عمارة منازل الدنيا، إذن هو علم يرجع إلى علوم الدنيا؛ إذ إنّه يحدّد للإنسان المسلم طرق السلوك الفردي والاجتماعي في هذه الدنيا؛ كونها منفذ الآخرة، هذا من جانبٍ؛ ومن جانبٍ آخر يقول الغزالي: إنّ كتاب «إحياء علوم الدين»، بحَسَب الظاهر والشكل، من حيث التقسيم والتبويب، هو كتاب فقه، وأمّا بحَسَب المضمون فهو كتاب فقه طريق الآخرة. والمفهوم من هذا الكلام أنّ التشابه بين علم الدنيا وعلم طريق الآخرة يكون بالشكل فقط، دون المضمون، فهو يكون ـ أي علم الفقه الدنيوي ـ معبراً إلى الآخرة، وبهذا يكون ممهّداً لعلم السلوك إلى الله. إذن يقع في رتبةٍ أدنى حَسْب تصنيف الغزالي. وبهذا يتَّضح أنّ الفكر الغزالي الصوفي قد جعل طريقين أو قانونين: أحدهما: القانون الذي يعمل الفقهاء على استنباطه (بالمباشرة ـ أو بالقياس ـ الاجتهاد) لإخراج الحكم الشرعي؛ والقانون الثاني أو الطريق الآخر فهو خاصّ بتحديد الضوابط والشروط للسلوك الباطني، وهو يستخرج إمّا بالتأويل من النصّ، وهذا خاصٌّ بأهل الباطن، وبالتالي فإنّ ثنائية الدنيا والآخرة تحدّد لعلم الفقه وظيفته في إطار الحياة الدنيا.
والشاهدُ الآخر على ما يرومه صاحب فلسفة الفقه، ويتطلَّع إلى معالجته وتقويمه، هو ما تطرَّق إليه الشهيد مطهَّري، حين ميَّز بين نوعين من الفقهاء، وقال: «إنّ التفريق بين الفقيه الذي يعيش في غرفته وذاك الذي يعيش في واقع الحياة ومتغيّراتها، ويعتبر أنّ المناخ والرؤية التي تحيط بالفقيه لها الأثر الواضح في وَعْيه واستيعابه لمسائل الحياة، وكيفية انعكاس ذلك على استنباطاته. فالذي يعيش مثلاً في قم؛ لقلّة مياهها، ليس كالذي يعيش في طهران، التي فيها الماء متوفِّر؛ فالأوّل يفكِّر في كيفية تطهير ماء البئر؛ لاستخدامه في الشرب؛ والآخر يفكِّر مثلاً في استثمار وفرة المياه. ونفس الكلام يجري في قضيّة العربي والأعجمي. وكذا في القروي والمدني»([23]).
ففلسفة الفقه تدرس الفقه كظاهرة معرفية ليس بكونه منها، وبهذا تكسب قيمتها التي تعلو بها على علم الفقه؛ كونها تعمل بالتحليل والبحث والتأمُّل والتقييم والنَّقْد؛ لتخرج بعلمٍ أعلائيّ؛ لتجعله بيد الفقيه المستنبط؛ ليعرف مكامن القوّة والضعف في عمله كفقيهٍ، ومعرفة ذاته من حيث العوامل النفسية التي أحاطَتْ عمله، والثقافة التي يحملها، والبيئة التي نشأ فيها. فالأمثلة المتقدِّمة شواهد على العملية التي ناتجها هو سدّ الثغرات التي يدخل منها المستشكلون من المتنوِّرين والمفكِّرين. وهذا ما يبيِّن أنّ فلسفة الفقه لا تعالج ظاهرةً واقعيةً خارجةً، وإنّما تعالج العلم نفسه الذي تنتمي إليه، فهي تدخل في حيِّز الإضافة، لا في حيِّزٍ يجعلها تعالج أمراً عامّاً، كالفلسفة العقلية العامّة. والأمر الآخر الجدير بالذكر هنا هو أنّ منهج وعمل فلسفة الفقه ليس هو التوصيف وكفى، وإنّما عملها، زيادةً على التوصيف، التحليل والتقييم والنَّقْد من حيث المنهج والمعايير المتَّبعة في استخراج الأحكام، وبالتالي هي جامعة للبُعْدَيْن: الوصفي؛ والتحليلي، لكلّ عمل الفقيه، والفقه الذي اصطلح عليه الشيخ الأستاذ طلال الحسن في بحثه حول هذا الأمر بمصطلح الفقاهة الجامع للمحورين. إذن لا معنى لعزل عمل الفقيه كمُفْتٍ ومستنبط؛ لأنّ فلسفة الفقه تدرس جميع ما يقوم به الفقيه من جهد، شرحاً واستدلالاً، وصياغةً قانونية، كما في الرسائل العملية، وإنْ تعددت الميادين. وهذا ما يَردّ ما ذهب إليه الشيخ مبلِّغي في فصل عمل فلسفة الفقه عن ميدان الإفتاء الذي مارسه الفقيه كجهدٍ([24]). وهذا ما جعلنا نختار التعريف الجامع لفلسفة الفقه، وأيضاً تجلية الرؤية هنا من حيث الرصد والإبراز لهذا العلم؛ ليخرج عمليّة الفقيه بتمامها بعيدةً عن الإيرادات عليها. وبالتالي يصبح عندها الفقيه خاليَ الوفاض من جميع ما يؤدلج فكره؛ ليكون في حلٍّ منها في ممارسته لعملية الاستنباط، وهو في كامل اختياره وحرِّيته، وهذا بحدّ ذاته يُعَدّ وَعْياً عقلانيّاً للفقيه؛ نتيجة ما قدَّمته فلسفية الفقه له. وبالتالي هذا هو جوهر رؤية الفلسفة للفقه في جعل مكانة للفقه في المستقبل تليق به كعلمٍ مؤسّس لرؤية وأهداف شاملة للفرد والمجتمع؛ ليكون متميِّزاً عن باقي العلوم، خالياً من الثغرات التي تثير حوله الإشكالات والاستفهامات. إذن رؤية فلسفة الفقه تقدِّم وصفاً وتحليلاً وتقييماً ونَقْداً للفقاهة؛ لتكون بشكلٍ مقنع لنفس العاملين في هذا الميدان في المستقبل. ففلسفة الفقه تساعدهم على الاستعداد لتطبيق ما أنجزَتْه فلسفة الفقه للفقاهة بالطريقة الصحيحة، وإنْ كان يمكن الوصول إليها بعد مرور مدّةٍ من الزمن، وإنْ كانت طويلةً. فمن الضروري شرح رؤية فلسفة الفقه وتفسيرها للعاملين في ميدان الفقاهة بأسلوبٍ واضح ومقنعٍ، مع بيانٍ لمعالمه وأهدافه وحدوده وغايته. فعندما يعرف الفقيه بأنّ فلسفة الفقه تزوِّده بالمخرجات الواجب تحقيقها، كالمعايير الخاصّة لقياس الأداء ومراقبة الأعمال في هذا المجال والمضمار، وأيضاً إيضاح الأُسُس القانونية لوجود علمٍ كهذا، فخُذْ، على سبيل المثال، العالمَ السنّي المعروف أبا حامد الغزالي، الذي تكلّمنا عنه قبل برهةٍ، والذي جعل من الفقه علماً دنيويّاً، وهو تقبله بهذه الحدود أي الحدود الدنيا؛ لأنّ الدنيا هي مجرّد معبرٍ طارئ للآخرة، وهو بهذا يصبح وَسَطاً بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة، وبالتالي يكفي اللازم منه لتحقيق الغاية من وجود الإنسان، كما ذهب إليه الغزالي. وهذا ما يجلي كُنْه الهجوم الذي قام به الغزالي على فقهاء عصره؛ بسبب تجاوزهم مقدار الضرورة من العلم؛ لأنّهم دخلوا في الفروع والتشعُّبات، وحَسْب كلامه: طلباً للوجاهة عند الحكّام والسلاطين، فتحوَّل العلم بذلك عن غايته وهدفه طلباً للدنيا وزخارفها([25])؛ لهذا دخل في ضيقٍ من انتشار هذا العلم؛ بسبب اهتمام العلماء به من حيث التوسعة في أصوله وفروعه، في حين أنّه يرى قليله يكفي ما دامت الغاية متحقِّقةً منه في حفظ النفس والنسل. وبالتالي يأخذ الغزالي على الفقهاء التوسعة غير الضرورية في الفقه. والواضح من موقف الغزالي أنّه ينكر على الفقهاء عملهم للغاية التي يؤمن بها، وهي حفظ النسل والنفس، فنحن نسأل هنا: لماذا هذه الإدانة للفقهاء مع أنّها تطاله وإدانةٌ له؟! في مقام الجواب يمكن أن يُقال إنّ هذه إدانةٌ لمرحلةٍ قبلية، أي قبل الأزمة في حياة الغزالي، الذي وعاها، وأسهم العلماء في تعقيدها، لا من جانب إعمال دَوْرهم في مواجهة الانحراف والتصدّي له، وإنّما المساهمة في تبريره، بل مساندته، وبالتالي يدين عصره الذي اختلط الحكّام بالسلاطين، وركنوا إلى الدنيا، مع أنّ هذا الكلام يشمله، وليس في حِلٍّ منه، كما في كتابه «الردّ على الباطنية» الذي كتب أصلاً بأوامر سلطانيّة في الردّ على الشيعة في تفنيد آرائهم ومعتقداتهم([26]). والطريف أنّ كلّ ما دان به الفقهاء الآخرين عمله هو وزيادة، كما في بعض كلماته؛ ومنها: «فكانت الحيرة تغيّر وجه المراد، وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد، حتّى خرجت الأوامر الشريفة المقدَّسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف الكتاب أعلاه». وعند ملاحظة كلمة «خادم» نرى أنّها إشارةٌ إلى نفسه، وأشار إلى الخليفة العبّاسي بصفات القداسة والنبوّة، فهو تسخيرٌ للعلم في خدمة السياسة والحاكم. وهنا يدخل الميدان صاحب فلسفة الفقه؛ ليقوم بالتحليل والتقييم والنَّقْد في معرفة مواقف هذا الفقيه في الاستنباط والإفتاء، أهي موضوعية أم تحيُّزية؛ نتيجةً لخلفيته الثقافية وميولاته النفسية والبيئة التي هو فيها…؟ والأمر الآخر للغزالي هو عندما عمل على تفنيد الفكر الشيعي في قضيّة الإمام الحجّة#، الذي استند إلى أُسُس عقلية، فهو قد تجاهل هذه الأُسُس التي ادَّعاها على الشيعة في إثبات إمامة الثاني عشر([27])، كما يدّعي ذلك. ففي الباب التاسع من الكتاب نفسه، في إقامة البرهان الفقهي الشرعي على الإمام الحقّ في عصره، وهو الخليفة العبّاسي، الذي يعبّر عنه بـ «الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله»، هو ألبس خليفته ما ألبسه الشيعة للإمام الحجّة#. ونحن هنا لا نطيل الكلام بالشاهد من الساحة الفقهية السنّية. وأمّا في جانب المدرسة الشيعية فالشواهد ليست قليلةً، لكنْ نكتفي بشاهدين، منها:
الأوّل: ما تشكِّله الحوادث الاجتماعية من ظروف للإفتاء، فهاهنا يظهر الفقيه بمظهر الوطنية عندما يكون مثقلاً بهموم وطنه، ما يؤدّي به إلى قراءة النصّ من خلال تلك الهموم والهواجس التي أثقلَتْه. والشاكلة نفسها إذا ما كان الفقيه يعيش ظرفاً آخر، كالجهاد، فهو يرى النصوص متوجِّهةً إلى الجهاد. وهذا شاهدٌ على أنّ الضغط النفسي والبيئي له تأثيرٌ على الموقف الفقهي للفقيه.
والشاهد الثاني في قضيّة وجوب الخمس، عندما يذهب فقيهٌ إلى عدم وجود دليلٍ على وجوب الخمس قبل الصادقَيْن’؛ ولهذا قال بأنّ الخمس ضريبةٌ شخصية وملك شخصيّ للإمام وأقربائه، ولم يكن مناسباً في العصر الذي ساد فيه الفقر والعوز أن يجبيها من الناس، على خلاف الزكاة. وأمّا الفقيه الآخر فيعدّ الخمس ضريبةَ دولةٍ؛ لسدّ قسطٍ من حاجاتها وميزانيتها، وأنّ الملكية ملكيّة منصبٍ، لا ملكية شخصٍ. وهنا يأتي دَوْر فلسفة الفقه؛ لتحلِّل كلا الرأيين، مع أدلّتهما، دون أن تتدخّل في عملية الاستنباط لديهم، فتضع أمام الأوّل سلبياته وإيجابياته، وكذلك أمام الآخر.
والأمر الآخر: الشعائر وتأثيرها على موقف الفقيه في جميع المواقف المتنازعة والشديدة التي عاشها في بيئته، بحيث تؤدّي هذه الأجواء به إلى التوقُّف عن الإفتاء، أو الانجرار والتَّبَعيّة للتأثيرات المتقدِّمة.
والأمثلة كثيرةٌ في هذا المضمار، لكن نكتفي بهذه الشواهد؛ حتّى لا نخرج عن صلب البحث وهدفه. ومن هذه الأمور تتبلور رؤية فلسفة الفقه للنظر في مجال الفقاهة وإعادة بنائها، بل إبراز مجالات جديدة تواكب التحوُّلات الحياتية المتسارعة، والعمل على دفع الإشكالات التي تَرِدُ على هذه العملية باستمرارٍ، ممّا يجعل هذه العملية حيّةً في جميع التحوّلات والتغيّرات، دون أن تتأثَّر الفقاهة مع وجود فلسفتها.
الهَدَف من فلسفة الفقه
الهدف الجوهريّ ومركز عمليات فيلسوف الفقه هو الاجتهاد الذي هو حجر الزاوية في دائرة الفقاهة؛ لأنّها الحركة الفكرية لدى المجتهد لإعمالها في استنباط الأحكام الشرعية. ولهذه الحركة مجالاتها ومقارناتها والنتائج المتوخّاة من ذلك. وهذا البحث من خصوصيات فلسفة الفقه؛ لأنّ الفقهاء، وقبلهم الأصوليون، لم يبحثوا هذه العملية بكونها حركةً فكريةً يقوم بها إنسانٌ، وفي نطاق المجتمع الخاصّ به بجميع ما تحتويه من ملازماتٍ ومقارناتٍ، فهنا يقوم فيلسوف الفقه بتحليل مسيرة المجتهد هذه وتفسيرها، أو العملية الاجتهاديّة ومَنْ يقيِّمها وينقدها؛ ليخرج هذه العملية بأقلّ خسائر أو أخطاء؛ لأنّ عمله ليس بالهيّن، ليخرج بعمليّةٍ اجتهاديّة للمجتهد، خاليةٍ من الاختلال أو الالتباس أو الضعف؛ ليجعل مجالاً لحلول الأزمات أو التساؤلات أو الإشكالات عليها؛ وفي الوقت نفسه يوقف المجتهد على جميع الحيثيّات التي وقفَتْ خلف عملية اجتهاده واستنباطه للحكم الشرعي. وهنا يمكن لنا أن نتساءل: أهذا الحكم نفّذ نتيجة ما يحمله الفقيه من رؤيةٍ كونية أو نتيجة عُرْفٍ دينيّ أو أعراف وعادات اجتماعية وبيئية تقف خلفها؟ وهكذا دواليك.
وبالتالي يخرج لنا مجال علمي خالٍ من هذه الإيرادات والتساؤلات. وهذا هو الهمّ الأوّل والغاية الجوهريّة لفلسفة الفقه. وهذا ليس هو الهدف الوحيد لفيلسوف الفقه، بل إنّ كلّ علمٍ لا بُدَّ له من أهدافٍ يرومها ويعمل على إيجادها؛ لأنّه عندما نقول: إنّنا نفهم ظاهرةً ما فهذا يعني أنّنا نجد علاقةً تربط بينها وبين الظواهر الأخرى؛ وأمّا إذا لم نجِدْ هذه العلاقة فإنّها تبقى غامضةً وغير مفهومة أو معروفة. والأمر الآخر عندما نصف بتقريرنا للظواهر القابلة للملاحظة وبيان علاقة بعضها ببعض؛ إذ يقوم المختصّون في مجال علمٍ ما بجمع المعلومات باستخدام الطرق الفنِّية، كالملاحظة والتأمُّل والرصد، وهنا يأتي دَوْر تفسير هذه الظاهرة ،بعد فَهْمها ومعرفة كُنْهها؛ حتى يستطيع معرفة نفس الظاهرة وفَهْم غيرها من الظواهر، فعند ذلك يكوِّن فَهْماً دقيقاً للظاهرة، وبالتالي يكوِّن تفسيراً دقيقاً لها، وبعد ذلك يكون الحكم حولها دقيقاً، وهذا هو الهدف الصحيح للعلم، فيكون الهدف هو القدرة على التحكُّم بحدوث ظاهرةٍ ما.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ الأهداف هي ثمرة أيّ علمٍ يسعى إلى تحقُّقها، فلا يوجد علمٌ بلا أهداف، وبالتالي هو نهايةٌ علميّة لبدايةٍ نظريّة؛ لتحقيق غايةٍ، أو الإنجاز المتحقِّق على أرض الواقع.
إذن فلسفة الفقه لا تخرج عن هذه الأُطُر؛ كونها علماً له هدفٌ، والذي نقصده هنا هو القصد والغرض المحدَّد الذي تقوم به هذه الفلسفة؛ للوصول بنشاطها إلى أهداف قابلة للقياس، وبالتالي يحصل التغيير المرغوب القيام به في المجال العلمي التي عملت به، سواءٌ كان التغيير قريباً أو بعيداً، المهمّ أن يقود إلى التطوّر في هذا العلم، مما يجعل الفضاء فسيحاً أمام الفقيه والفقه، بجعل أدواتٍ جديدةٍ بيده لم تكن داخلةً في عملية الاستنباط؛ لأنّها لم تكن واردةً في حيِّز اهتماماته وأفكاره، فتصل الفقاهة (الفقه والفقيه) إلى المعرفة التامّة المحيطة بالإنسان، الشاملة لجميع التحوّلات الاجتماعية، وقوانينها العامّة. وهذه النظرة الشاملة ينبغي أن تبتني على جميع المعطيات العلمية والفلسفية المقامة حول الإنسان والمجتمع من جهةٍ؛ وجميع معطيات الوَحْي من جهةٍ أخرى، وبدون ذلك لا يكون الفقيه صاحب نظرةٍ شاملةٍ ومحكمةٍ، وبالتالي لا يصبح فقيهاً معاصراً.
ولو لم يكن إلاَّ هذا الهدف لكان كافياً. وكذا ترنو إلى بيان حقيقة علم الفقه، والكشف عن هويته التاريخية والاجتماعية، وبالتالي تبيِّن حقيقة صياغته بعد تفكيك نسيجه؛ ليتم تشخيص ما يندكّ في المعرفة الفقهية، وما تنصبغ به المعرفة من رؤيةٍ كونية أو ثقافية أو محيطيّة للفقيه؛ وأيضاً جعل أدواتٍ جديدة في متناول الفقيه لاستعمالها في مجال الاستنباط؛ والأمر المهمّ الآخر هو تقديمها حلولاً ورؤىً لإزاحة التساؤلات والمشكلات من طريق الفقه والفقيه، بإطار علمٍ يكون عَوْناً وسَنَداً لا غنى للفقيه عنه، وإلاَّ يبقى كما هو([28])، أي كما كان، فهي لا تقف عند حقبةٍ زمنية محدّدة. ومن الأهداف التي سوف نسوقها هنا؛ ليكون القارئ مطَّلعاً على أهداف هذا المجال من المعرفة بشكلٍ جليّ ـ ونتمنّى أن نرفع ولو شيئاً يسيراً من الغموض الذي يلفّها ـ ما يلي:
إنّها تجعل الفقاهة محيطةً بالشريعة وما يُراد منها ومفرداتها ومميِّزاتها؛ إذ رُبَما لا يتبادر إلى ذهن الإنسان المسلم اليوم عندما يسمع بمصطلح الشريعة الإسلامية إلاّ مجموعةٌ خاصّة من مفردات هذا المصطلح، والحال أنّه يمثِّل منظومةً كاملةً وشاملةً لكلّ جوانب الحياة من جهةٍ؛ كما أنّها جامعةٌ لكلّ ما من شأنه تطبيق هذه المنظومة في الحياة العملية للإنسان، ولعلّ الذي نراه اليوم في الواقع المعيشي للمسلمين، من قصور في فَهْم واستيعاب مفهوم الشريعة الإسلامية، نابعٌ من انحصار الشريعة الإسلامية بذلك الجانب الضيِّق من الشعائر، وببعض الأحكام القانونية، التي لا تكاد تطبَّق في واقعنا الحاضر. فلكي يكون الفقيه شموليّاً لا بُدَّ من قيامه بإعادة صياغة المصطلح والمفهوم الشرعيّ، وإعادة أصالته ومداه الذي يستحقّه؛ من أجل أن يأخذ مكانه الطبيعي في صياغة التصوُّرات، وتشكيل مفردات الفَهْم النظري والتطبيق العملي في حياتنا الإنسانية. وهذا كلُّه ما تعمله فلسفة الفقه للفقيه؛ ليكون الفقيه شموليّاً وعصريّاً، مواكباً للتطوُّر في الحياة الإنسانية، كفردٍ ومجتمعٍ.
فالمستفاد ممّا تقدَّم أنّ فلسفة الفقه عندما تجعل أدواتٍ جديدةً ومصادر لم تكن بيده، ولا كانت من اهتماماته أو أفكاره فيما كان، فإنّها تجعل من الفقاهة مدركةً لسعة الشريعة وشمولها لجميع وقائع الحياة؛ وأيضاً تجعل منها واقفةً ومطَّلعةً على المحطّات الثلاث التي لا بُدَّ للمستنبط الوقوف عليها؛ لتتولَّد منها أحكامٌ مراعية لهذه المحطّات، وهي: صفة الواقعية، والوَسَطية، والعقلانية، التي تتمتّع بها الشريعة الإسلامية. وبالتالي فإنّها لا تتأطَّر بزمانٍ ومكانٍ معيّنين، ولا تختصّ بصنفٍ من الناس، ولا بخصوص قومٍ أو جنسٍ، وبالتالي لا تكون مستوعبة لجوانب الحياة وحَسْب، بل تقدِّم حلولاً للمعضلات والمشاكل التي تحيطها([29]).
ومن الأهداف المهمّة جعل الفقاهة واقفةً على مواكبة التطوُّرات الحياتية عن طريق ميزة الجمع بين الثبات والمرونة والجَنْبة التطوُّرية التي امتازَتْ بها، ممّا يدلّ على أنّ الأحكام الإسلامية، من مفاهيم وأنظمة وقوانين ومعتقدات، كلُّها تسير على أساس منطقٍ منسَّق وموحَّد، بشكلٍ جعل من بعضها أساساً وأداةً وقوّةً تساعد على تطبيق بعضها الآخر، وبالتالي تمهِّد لتنفيذه وإنجاح مهمّته، من غير أن يحصل بينهما نوعٌ من التناقض أو التعارض.
وكذا من أهدافها جعل الفقاهة واقفةً على المقصود من تَبَعيّة الشريعة الإسلامية للمصالح والمفاسد الواقعية، وإدراك أهمِّية هذه التَّبَعيّة التي تُعَدّ ميداناً من ميادين البحوث التي تبحثها فلسفة الفقه([30]). والمقصود من هذه التَّبَعيّة هو أنّ الأحكام الإلهية جميعها تابعةٌ لمصالح ومفاسد موجودة مسبقاً في متعلَّقاتها، وإنْ كان من الممكن أن لا تكون تلك المصالح والمفاسد قابلةً للكَشْف والفَهْم من قِبَل الإنسان نفسه.
وأيضاً جعل الفقيه واقفاً ومدركاً لقيمة حيثية التعامل مع الأشياء حين التقنين (الموضوعية)، وقيمتها التشريعية العالية، ونعني بها أن تتركَّز الموضوعية في نزاهة الفقاهة من اندساس المصالح الذاتية والعوامل اللاشعورية، التي تساهم ـ بوَعْيٍ أو بدون وَعْيٍ من الفقيه ـ في أحكامه، وقوانينه التي يفتي بها.
وأيضاً ما تقوم به فلسفة الفقه تبيين حدود الفقه والدائرة التي يعمل فيها؛ لأنّ هذا الأمر من بحوثها التي اختلفَتْ فيه الآراء، فمثلاً: ذهب الفارابي في تبويب العلوم إلى جعل العلم المدني قسيماً للفقه، وعَدَّ موضوع العلم المدني هو السياسة وكيفية إدارة المجتمع([31]).
وأيضاً من أهدافه هو أنّ فيلسوف الفقه يقوم بإثبات كثيرٍ من مسائل الفقه؛ على اعتبار أنّ في علم الفقه كثيراً من المسائل والقضايا يستعملها بلا دليل عليها، إلاّ الافتراض بصحّتها؛ كونها ليست من مسائله، وهي ما تسمّى بالقبليات والفرضيات، وبتعبير القدماء: المبادئ التصديقية، أي يعتقد بصدقها من دون قيام دليلٍ عليها، وهذه المفروضات يمكن أن تكون شعوريّةً أو لا شعوريّة، وقد تكون صريحةً أو مضمرةً، فالفقيه عند استنباط الحكم الشرعي من فعل المعصومين وتقريرهم يستند على مفروضاتٍ، فهذه الأمور تقوم فلسفة الفقه لتبيِّن للفقيه صحّتها أو سقمها، وبالتالي تزداد أهمِّية العمل من خلال الفرضيات في دفع الفقيه إلى الاعتقاد بأنّ مراجعة الكتاب والسُّنَّة توفِّر لنا أحكاماً وواجباتٍ خالدةً وثابتةً.
والأمر الآخر الذي تهدف إليه تبيين مكانة الفقاهة بين العلوم الأخرى من جهةٍ؛ وتوضيح العلاقة بينهما من جهةٍ أخرى. فإنّ فيلسوف الفقه عندما يأخذ على عاتقه الخَوْض في الفضاء الأوّل فإنّه يجد اتّجاهين في إعطاء الجانب الإيجابيّ المكانة، والآخر هو إبراز الجانب السلبيّ للمكانة، فقبل إبراز جنبة السلب أو الإيجاب لا بُدَّ من تفسير هذين الاتّجاهين وتحليلهما؛ للخروج برأيٍ جامع لهما. فمثلاً: يقول العلاّمة الحلّي في كتابه «تذكرة الفقهاء»: «أمّا بعد، فإنّ الفقهاء هم عمدة الدين، ونقلة شرع رسول ربّ العالمين، وحفظة فتاوى الأئمّة المهديّين (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهم ورثة الأنبياء، والذين يفضل مدادهم على دماء الشهداء، وقد جعل رسول الله| النظر إليهم عبادة، والمجالسة لهم سعادةً، واقتفاء أثرهم سيادةً»([32]).
وفي هذا الصدد قال الفاضل المقداد: «وبعد، فإنّ الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفاً وفضلاً، ولا يخفى احتياج الكلّ إليه، وكفى بذلك نبلاً»([33]).
هذا من جانبٍ؛ وأمّا جانب الانتقاد فتوجد فيه أقول وآراء، لكنْ نكتفي هنا بعلمين من مدرستين مختلفتين، هما: الغزالي؛ وصدر المتألِّهين؛ إذ ذهب الغزالي إلى أنّ شيوع هذا العلم وانتشاره واهتمام العلماء به بالتوسعة في أصوله وفروعه غير صحيحٍ، بل كان القليل منه يكفي لتحقيق الهدف منه، وهو حفظ النفس والنسل لا غير؛ لهذا أخذ بالتقريع والتجاوز على فقهاء عصره؛ بسبب تجاوزهم حدّ الضرورة بالفقه، على حَسَب تعبيره، ولم يكتَفِ بهذا فحَسْب، بل ذهب إلى اتّهامهم في توسعتهم بالفقه من حيث الفروع والتشعُّبات بكونهم طالبين للوجاهة عند الحكّام والسلاطين، وبالتالي حوَّلوا بوصلة الفقه من تحقيق الفلاح الأخروي إلى طلب للدنيا وزخارفها([34]).
وأمّا صدر المتألِّهين فكلامه قريبٌ من معنى ما ذهب إليه الغزالي هنا، وكما ذَكَرْنا سالفاً، في كونهم ادَّعوا أنّ هذا العلم علم الدين، وعلم كتاب الله وسُنَّته، وتركوا علم طريق الآخرة، وبالتالي رفضوا بالكلِّية طريق الفقه والمعرفة عن الله بإدراك عظمته وجلالته وتوحيده وتقديسه، وأنّ منه البدء والإنشاء، وإليه العود والرجعى([35])، فهنا تأتي فلسفة الفقه؛ لتحلِّل هذا الاختلاف ومنشأه؛ للخروج بنتيجةٍ علمية ينتج من خلالها معرفة دائرة نفوذ الفقه، وأيضاً معرفة كيفيّة فَهْم النصوص، وبالتالي معرفة الاجتهاد.
وأمّا الهدف الآخر فهو معرفة العلاقة القائمة بين الفقه والعلوم الأخرى، وتوضيحها من حيث وجودها أو عدمها. لهذا نقول: يمكن أن نفهم العلاقة من جهتين: إيجابية؛ وسلبية. فالإيجابية نقتنصها من نفس أجوبة الفقهاء أنفسهم حول دخول كثيرٍ من العلوم في عملية الاستنباط التي يستخدمها الفقيه. فمثلاً: يذكر الشهيد الأوّل في أحد كتبه ثلاثة عشر شرطاً للفقيه، كإحاطته باللغة، والنحو، والصرف، وكيفية الاستدلال والاطّلاع على مفاهيم الألفاظ([36]). وهذا ما نراه أيضاً في كلام السيّد الخميني في بيانه للعلاقة المتقدِّمة، بأنّ الفقيه يحتاج إلى إحاطة بعلوم العربية، والمنطق، والمحاورات العرفية، والمعرفة العرفية للموضوعات، ويعدّها من الأمور اللازمة للفقيه([37]). فالنتيجة من ذلك أنّ الفقيه ذو صلة بهذه العلوم، وإلاَّ لماذا يجب على الفقيه أن يهتمّ بها ويتعلّمها؟! فالاستفادة من هذه العلوم في عملية الاستنباط ليست بنحوٍ مباشر، بل هي نقلها وجعلها مقدّمةً في عملية الاستنباط، بلا إقامة البرهان والدليل على صحّتها. فإذا قام الفقيه بمثل هذا الأمر، وجعلها مقدّمةً في عمله قبل إثباتها بالطريقة الفقهية الخاصّة، فإنّه بذلك خرج حقيقةً عن الممارسة الفقهية كفقيهٍ، ولا يُعَدّ مثل هذا عملاً فقهيّاً، ولن تكون النتيجة نتيجةً فقهيةً، وبهذا لا تصحّ الاستفادة منها في الفقه؛ لأنّ المحذور يكمن عندما يتمّ إدخال أمرٍ في الفقه قبل أن يتمّ إثباته أو الاستدلال عليه، ومن ثمّ التعامل معه كبقيّة القضايا الفقهية. ففلسفة الفقه توضِّح أبعاد العلاقة وكيفية الاستفادة منها بأدواتها وآليّاتها الخاصّة. وهذا هدفٌ مهمّ تضطلع به فلسفة الفقه؛ لأنّها تخطو بقدم العقل، وتثبِّت مسائلها وعملها به؛ لأنّها تستخدم لغةً فنّيةً واصطلاحاتٍ خاصّةً، أي تستفيد من إعمال العقل؛ لتقوم بتحليل كلّ مسألةٍ جديدة وفقاً لهذه اللغة. وكذلك يجري الأمر هنا في كُنْه العلاقة بين الفقه والزمان، وذلك بتحريرها وتوضيحها والوقوف عليها وعلى أبعادها؛ لأنّ موقع اهتمام الفقيه والفقاهة بشكلها العامّ والإنسان وشؤونه الحياتية، وهذه الحياة لها بُعْد التبدّل والتغيّر المرتبط بالإنسان، هذا من جانب تقلّبات الحياة؛ وأمّا من جانب القوانين الدينية فإنّ جوهرها سِمَته الثبات، لا التغيُّر، فهنا يأتي دَوْر فيلسوف الفقه؛ ليحلّ هذه المشكلة من خلال بيان العلاقة بين الفقه والزمان، من حيث دراستها من حيث الأُسُس والآليات، والإشكالات التي توجِّهه لها، وليس هذا فحَسْب، بل يحتاج فيلسوف الفقه إلى دراسة مجالاتٍ أخرى، كشمول الشريعة وخلودها، وصلاحيات الحكومة في التشريع والأحكام الثانوية، والأمور الإمضائية والأوامر الإرشادية والمولوية وغيرها، كلّ هذه الأمور يبحثها حتّى يبيِّن مَدَيات هذه العلاقة وأبعادها.
الأمر الآخر هو توضيح المنهج المتَّبَع لدى الفقيه، وتبيينه في عملية الاستنباط من حيث السعة والضيق، أو دخول فردٍ أو إخراجه من داخل المنهج المتَّبع في تبيين دخالته في العملية أو عدم دخالته، أو جدوائيته أو عدمها.
والأمثلة كثيرةٌ في هذا المضمار. فإنّ دراسة المنهج المتَّبع في تفسير النصّ إنْ كان بذهنيّة عارفٍ أو فيلسوفٍ أو أصوليّ أو أخباريّ، ونَقْدها، ودراسة النظريات الجديدة لعلماء الغرب في هذا المجال، واختيار المنهج المناسب أو المسلك الصحيح، فكلُّ ذلك راجعٌ إلى فيلسوف الفقه. وهذا العمل خطوةٌ أسبق من علم الأصول، الذي يقدِّم آليات تنفيذها أو استخدامها؛ لأنّ هذا من عمله، وليس مجال فلسفة الفقه([38]). وأمّا الفقه فقد تقدَّم أنّه يستعين بعلوم مختلفة، وبالتالي فهو يحتاج إلى مناهج أخرى تعينه في عملية الاستنباط، مع أنّ منهجه الأساس مرتبطٌ بالآيات والروايات، فكان اللازم عليه استخدام المنهج النقليّ، وهذا يلزم تحقيقه في الروايات، وعندما تصل النوبة إلى التفسير والاستنباط من النصوص يحتاج هنا إلى اللغة وتوابعها، ومن ارتباط البحوث الفقهية بالقواعد العُرْفية والاجتماعية يحتاج إلى الخبرة اللازمة وكيفية إعمالها، وعند اعتماده على العقل؛ كونه أحد مصادر التشريع، يحتاج إلى المنهج العقلي، وهكذا. فالفقيه عند إعمال هذه المناهج في دوائرها الفقهية بخطأ في التطبيق يؤدّي إلى أخطاء جسيمة وكبيرة. فمثلاً: الفقهاء الذين يعملون المنهج العقلي في المعاملات يختلفون كثيراً عن الفقهاء الذين يعملون المنهج العُرْفي الصحيح في هذه البحوث. وهذا ما نشاهده جليّاً في الشروح على الكتب الفقهية من قِبَل الفقهاء الذين يختلفون باختلاف المتبنّيات الفكرية؛ فإنْ كان منهج الفقيه فلسفيّاً فإنّه ينعكس في شرحه للكتاب؛ وإنْ كانت المتبنّيات الفكرية عُرْفيةً فإنّها تنعكس في شرحه للكتاب نفسه. فالكتاب واحدٌ، والشرح متعدِّدٌ بتعدّد الرؤى الفكرية([39]). إذن الاختلاف اختلاف رؤىً ومبانٍ؛ والشاهد ما تقدَّم أعلاه. فالمتحصِّل أنّ للفقاهة ميادين تخوض فيها، ونتيجة لذلك تتعدَّد المناهج التي يعضدها الفقيه في المجال الاجتهادي. فالمهمّة التي يقوم بها فيلسوف الفقه هنا مهمّةٌ خطيرة وجسيمة، من دراستها، وتحديد هويّتها، ومدى الاحتياج إليها، وإدخالها أو إخراجها، وإضافتها، كلّ هذا ميدانه ووظيفته. هذا بالنسبة إلى المنهج المتَّبَع في دائرة الفقاهة. وأمّا بالنسبة إلى المصادر المتّبعة أو الموظّفة في العملية الاجتهادية لاستنباط الأحكام الشرعية فالكلام الذي جرى هناك يجري نفسه هنا. وينبغي أن نبيِّن للقارئ الكريم أمراً مهمّاً، وهو وجود رأيٍ يقول: إنّ علم الأصول يحمل في طيّاته الكثير من الدراسات والتحقيقات لمصادر الفقه؛ لتكون بين أيدي الفقيه، ورأيٍ آخر يذهب إلى أنّ موضوع علم الأصول نفسه هو الأدلّة الأربعة، أو الأدلّة بما هي هي([40]).
فالنتيجة أنّ التحقيق في مصادر الفقه ليس من وظيفة فلسفة الفقه. وهذا ليس كما يطرح؛ لأنّ فلسفة الفقه لا دَخْل لها بعمل الفقيه، فضلاً عن عمل الأصولي. فالميدان الذي يعمل فيه الأصول لا دَخْل لفيلسوف الفقه به، مع تنزُّلنا في ذلك؛ نتيجة قبول علم الأصول للأصول الموضوعة فيه، فإنّه هنا سيبحث في المصادر نتيجة المتَّسع المتأتّي من تلك الأصول. وكذلك لاختلاف الآراء فيها تأثير في عملية الاستنباط، فمثلاً: من أيّ طائفةٍ من الآيات يتمّ استخراج الأحكام؟ أو هل يمكن إخراج الأحكام من القصص القرآنية([41])؟
والأمر نفسه يجري في السنّة الشريفة.
وكذا بالنسبة إلى العقل الذي يُعَدّ أحد مصادر التشريع، من حيث حدود تدخُّله، وما هي النتائج المترتِّبة على تدخّله؟
هذا مع تنزُّلنا؛ وأمّا إذا تتبَّعْنا معهم فإنّنا سنجد في التعاريف التي سيقت لعلم الأصول خروج الكثير من المسائل، ولو لم نخَفْ أن نخالف عهدنا للقارئ بعدم الخروج من جَوْهر الدراسة، أو الخروج عن الهدف والغاية لهذه الدراسة، لكنّا نقلنا جميع التعاريف، لكنْ نترك المجال للقارئ بالرجوع إلى المصادر؛ ليرى ما ذهبنا إليه، بأنّ الكثير من المباحث ستخرج من علم الأصول ودائرته، مثل: مباحث الألفاظ جملةً وتفصيلاً، وهي التي لها الحظّ الأوفر من مباحث علم الأصول؛ وكذا قسم من مباحث العقل، ولا سيّما المستقلاّت العقلية، وهذا ما رأيناه عند بعض الأصوليين في عدم تناول مباحث الألفاظ([42])؛ وأيضاً العقل، فإنّ كلمات الأصوليين فيه مختلفة، وفي بعضها خلطٌ بين أنّه مصدرٌ للحجِّية أو الوظيفة([43]).
فالمحصَّل من ذلك: حتّى لو قلنا: إن بعض المصادر تحرّر في الأصول، فهذا لا يخرج فلسفة الفقه من وظيفتها وعملها، فتبقى المباني الكلامية للفقه، فإنّها تبحث فيها؛ لأنّ دائرتها خارجةٌ عن علم الأصول من حيث المسائل، ولم نلحظ أصوليّاً تعرَّض لهذه المسائل في أصوله أو موضوعات الأصول بشكلٍ عامّ.
إذن فلسفة الفقه تقدِّم منظومةً معرفيةً كاملةً وجامعةً للفقيه والفقاهة بشكلٍ عامّ، من زاوية أعلائية، من خلال طبيعته الاكتشافية؛ لأنّ عمود هذا العلم هو اكتشاف المجهول ونقله إلى فضاء المعلوم، فكلّنا أملٌ بأن يصبح عندنا في قابل الأيام علمٌ يكون خَيْر عَوْنٍ للمنظومة الفقهية، بل جَذْرها وأسّها الذي يرفع الكثير من الأزمات والإشكالات التي واجهت هذه المنظومة الكائنة، فإذا تمّ هذا العلم ونضج جيّداً فإنّه يشكِّل طفرةً نوعيةً في مجال الفقاهة بشكلٍ عامّ، وفي عمل الفقيه بشكلٍ خاصّ. ونكتفي بهذا القدر من الأهداف المتحقِّقة من هذا العلم.
النتائج
1ـ إنّ فلسفة الفقه في انطلاقة مسيرتها الفكرية كانت نظرتها منصبّةً على حدود ما هو واقع، أي ما هو كائنٌ؛ لتجعله أكثر شموليةً وإحاطةً بجميع زوايا الحياة الإنسانية، وبالتالي يكون الفقيه شموليّاً ومعاصراً.
2ـ إنّ طابعها طابع رفع الحُجُب التي صنعَتْها عوامل كثيرة عن الفقاهة، وبالتالي يرتفع الجهل المصطنع؛ ليكون معلوماً. ففلسفة الفقه كشفَتْ ذلك للفقيه، فهي إذن لم تخرج عن طابعها العلمي، ولم تتحوَّل بوصلتها عن هدفها في إيضاح متعلَّقها من زاوية كلِّيته وشموليته بالآليّات التي تمّ إيضاحها في رواق البحث؛ حتّى لا يحصل إرباك واضطراب في متبنّياتها وأفكارها ومواقفها، التي أدَّتْ بالتالي إلى سوء ظنٍّ به، كعلمٍ جديد جاء ليرفع ما يرفع من تعثُّرات وهَفَوات في طريق الفقه والفقيه، أو اتّخاذ مواقف أكثر تشدُّداً مقابله من الفقهاء. وهذا ما تحدّثنا عنه في طيّات الدراسة.
3ـ إنّ صميم ثورتها على القديم والتراث وما هو موجودٌ عائدٌ إلى تغيير ثقافة الفقيه التي ابتنَتْ على القديم بثقافة عصره؛ بسبب أنّ الفقيه ما يزال مشدوداً بثقافته ومتبنّياته إلى كتب الأقدمين، الذين لا يعرفون ما حصل بالعالم من تغيُّر وتطوُّر، فيبقون العقل المسلم على قلبٍ حسّاس، ولسانٍ معبِّر عن خوالج ذلك القلب.
4ـ إنّ الفلسفة التي نعنيها هنا هي عبارةٌ عن زوايا عدّة من التأمُّلات النظرية والتحليلية والعقلانية والتقييمية والنَّقْدية، وليست معنيّةً بقضايا فارغة؛ لسؤالها عن أمور غيبية، وليس لها واقعٌ محسوس، بل جاءَتْ لمعرفة ماذا وراء ما يدركه الفقيه باستنباطه للأحكام الشرعية؟ لا لأنّ الرؤية تكون بالعين أو السمع بالأذن، فيعدّ هذا الملاذ الأخير في إثبات ما هو كائنٌ بحَسَب ما يتبنّاه أصحاب التجربة العلمية أو المنطق الوضعي.
5ـ المنهج الذي سارَتْ عليه فلسفة الفقه هو ما أخذَتْه مركزاً لإنتاجها الفكريّ، وهو المنهج العقلي الذي خوطب به العقل الإنساني؛ باعتباره أداةَ التفكير العلميّ المنظَّم؛ لأنّه الوحيد الذي يمكن للمنهج العلمي أن يتَّخذه وسيلةً في تحقُّق أغراضه العلمية، والكشف عن الظواهر التي يريد تعليلها بظواهر أخرى.
6ـ عملت على الرفع من شأن الفقاهة في عملها تجاه الإنسان، من صَوْن كرامته، ومعالجتها لجميع ما يحيط به من ملابسات وإشكالات وأزمات، وركَّزت أفكارها على هذه الخصوصية، من توقير مكانة الإنسان، وتقديس كرامته، كما هو اليوم في الحياة الغربيّة، أي أن تظهر هذه الظاهرة بمظهرٍ جامعٍ مانعٍ كما أفرزَتْها.
7ـ إنّ فلسفة الفقه؛ بوصفها علماً مستقلاًّ شأنه التأمّل والتفسير والتحليل والتقييم والنَّقْد، تنظر إلى مجال الفقاهة بشكله الجامع للمجتهد والاجتهاد من جهةٍ فوقانية؛ لتعمل عليه بأدواتها المذكورة، وموضوعها هو الفقه نفسه وكلّ ما يتعلّق به.
8ـ محاربتها للنزعة اللاعقلية الشائعة في عملية الاستنباط آنذاك، التي هي قائمة كلّها على ما تأثَّر به الفقيه وآمن به من أبحاث علمية ونظريات في مجاله الكائن.
9ـ إنّها علمٌ أعمّ من مجال مقاصد الشريعة، وإن عدّه بعضهم مساوياً لها؛ لكنْ نحن أشَرْنا في داخل البحث إلى أنّه يمكن إدراجها في دائرة علم الأصول، وليس فلسفة الفقه.
نعم، يمكن أن يقع كلاهما في دائرة الاستفادة في عملية الفقاهة، فإنّهما لم يخرجا جَذْريّاً عن البنية التحتية لعملية الاستنباط، لكنّ فلسفة الفقه تبقى ـ بما تحمله من مقوّمات فكرية رصينة ـ هي البوابة الأمينة للحفاظ على الفقاهة غضّةً طريّةً على مرّ العصور، على الرغم من دعوات الفقه والفقيه المستمرّة لإعمال العقل، إلاّ أنّه في المقابل يرى أنّ أصالة هذا الفضاء تكمن في روحانياتها، بما تشمله من قِيَم دينية وأخلاقية ومشاعر إنسانية.
10ـ إنّ نظرتها إلى التراث كانت من خلال رؤيةٍ عقلية متكاملة، تستلهم عناصر القوّة منه، ثمّ تنسجها في ثوبٍ جديد. ولقد رفضَتْ الرؤى التقليدية التي تنظر إلى التراث بكونه من المسلَّمات التي يجب أن نأخذ بها كما هي، دون أن تخضع للنَّقْد والتحليل والتقييم.
لهذا أصبح العقل الأداة الفعّالة لاستخراج الدلالات والمفاهيم التي يشملها النصّ الديني، والتي نادَتْ بضرورة أن يكون العقل (فلسفة الفقه) هو الأداة المستخدمة للكشف عن بواطن النصّ الدينيّ؛ لتأسيس رؤيةٍ مستقبلية تطوِّر من الواقع المعاش، وهذا لا يعني أنّها عملية داخلية، وليس فوقية، أو أنّها تعمل عمل الفقيه في الاستنباط، لا أنّ القصد هنا هو أن تجعل نظرة الفقه أو الفقيه مختلفةً جَذْريّاً في إعمال أدواته واستنباطه للأحكام الشرعية.
11ـ إنّ فلسفة الفقه تجعل الفقيه بشكلٍ خاصّ يوظّف النصّ الدينيّ توظيفاً مغايراً للأُطُر التقليدية السائدة، وأيضاً تقدِّم للفقيه رؤيةً عقليةً تقيِّم التواصل البنّاء بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية، وبالتالي تعمل على تطوير الواقع من خلال التطبيق الفعلي لمبادئ هذا الدين بالشكل الأمثل.
12ـ إنّ لهذا العلم جذوراً تاريخيةً موجودةً ومسجّلةً عند علمائنا القدامى، لكنْ ليس كما هو واضحٌ اليوم في المعالم والأدوات والحدود ودائرة العمل، بما أنّها تمتلك رؤية العالم الناقد الراصد بعمقٍ لقضايا ومشاكل مجتمعه، والبيئة التي كان يعيشها الفقيه والفقه (الفقاهة)، مع هذا تبقى أطروحةً جديدةً تحتاج إلى كثير من النَّقْد والإبرام والأخذ والردّ؛ ليصبح علماً قائماً بنفسه، مبتعداً عن التشكيك في أركانه ومعالمه.
التوصيات
1ـ حريٌّ بالمنصف والدارس والمتأمّل لواقعنا في الفضاء الفقهي أن يضع مكانةً مرموقةً لفلسفة الفقه؛ لما تقوم به من جهود مضنية في تصحيح المسار في مجال الفقاهة.
2ـ الأجدر بالمراكز العلمية والبحثية تقدير الدَّوْر الذي تقوم به فلسفة الفقه وتثمينه، وأن لا يقلّ عمّا قامت به الفلسفة المضافة للعلوم التي اقترنَتْ بها قديماً وحديثاً.
3ـ إنّ هذه الدراسة قد تناولَتْ جانباً مهمّاً من جوانبها الجوهرية من حيث الرؤية والأهداف المترتِّبة عليها؛ وأمّا الدراسات التي كتبت عن هذا العلم فلم تُحِطْ ـ باعتقادي القاصر ـ بكلّ جوانب أفكارها وأعمالها التي تقدِّمها بشكلٍ دقيق، ودليلنا الأخذ والردّ والتحليلات القريبة والبعيدة عمّا يدور في أفكار هذا العلم، بل بعض المفكِّرين قد نسبوه إلى علم الأصول أو مقاصد الشريعة، بل إنّ بعضهم انجرّ به الكلام إلى إلغائه من أصله.
4ـ أن تُكثَّف الدراسات بطريقة موضوعية حول جدوائية الدراسات الحداثية في إيجاد حلول لبعض مشاكل التفكير العلمي حول الظاهرة الفقاهة.
5ـ تسليط الضوء على حدود فلسفة الفقه ومَدَياتها التي دعا إليها مؤسِّسو هذا العلم، والمدافعون عنه، فلمعرفة حدودها دَوْرٌ أساس في علاج كثير من القضايا الدينية، وبالتالي تجنيب الدين كثيراً من المشاكل التي زجّ بها من دون أيّ عُذْرٍ.
6ـ أن يحافظ الباحث على النقطة الجوهرية في دراسة الظاهرة التي دعا إليها، مع المحافظة على مسألة تعالي الفقه؛ لارتباطه بالدين، ما ينجرّ بالتالي للوَحْي، وعدم السماح للدراسات الحداثية أو غيرها بنزع هذا التعالي، فزوالُ تعالي هذا العلم وارتباطه بالدين زوالٌ للقضيّة الدينية برمّتها.
7ـ عدم التسرُّع في استخدام المناهج المستوردة من أُفُق ثقافات أخرى، لم تولد من رحم الدراسات الإسلامية المتَّزنة والأصيلة، فكثيراً ما تؤدّي مثل هذه المناهج إلى نتائج لا تمتّ إلى الروح الدينية بصلةٍ، كما حصل مع بعض الفقهاء أو المفكِّرين في بدايات عقود حياتهم.
8ـ لا بُدَّ من الفحص عن الأفكار التي تقف خلفها النَّزَعات الأيديولوجية وكشفها ونَقْدها. وهذه القراءات كثيراً ما تستهدف هذه النزعات التي تريد أن تدافع عن أيديولوجيا معيَّنة في مقابل الأيديولوجيا التي تنبثق من رحم التجربة الدينية القويمة.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة، متخصِّصٌ في الفلسفة الإسلاميّة. من العراق.
([1]) مهدي مهريزي، مدخل إلى فلسفة الفقه: 7، دار الهادي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1423هـ ـ 2002م.
([2]) سعيد رحيميان، فقه وزمان: 53، انتشارات نويد شيراز، إيران ـ شيراز، ط1، 1379هـ.ش.
([3]) رجب بودبوس، تبسيط الفلسفة: 13 ـ 14، دار الجماهير للنشر والتوزيع، بنغازي ـ ليبيا، ط1، 1425هـ.
([5]) ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية: 13 ـ 14، دار الثقافة، القاهرة، ط1، 1920م.
([6]) عايدة عبد الحميد، نظرية المعرفة عند كانط: 70، دار صادر، بيروت ـ لبنان، ط3، 1414هـ.
([7]) برندان ولسون، الفلسفة وقضاياها: 9، ترجمة: آصف ناصر، ط2، 1995م.
([8]) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط4، 2014م.
([9]) مجموعة من المؤلِّفين، الموسوعة الفقهية الكويتية: 11 ـ 12 (بتصرُّف)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط2، 1404هـ ـ 1983م.
([10]) المصدر السابق: 12 ـ 13.
([11]) المصدر السابق: 13 ـ 12.
([12]) عبد الكريم بن علي النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن: 18، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1999م.
([13]) محمد مصطفوي، فلسفة الفقه (دراسة في الأسس المنهجية للفقه الإسلامي): 13، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت ـ لبنان، ط1، 2008م.
([14]) مهدي مهريزي، مدخل إلى فلسفة الفقه: 132.
([15]) حبّ الله، المدخل إلى فلسفة الفقة دراسة في الهوية والمساحة والجدوائية: 14.
([16]) عبد الجبار الرفاعي، فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة: 505، دار الهادي، بيروت ـ لبنان، ط2، 1429هـ ـ 2008م.
([18]) المصدر السابق: 25 ـ 26.
([19]) محمد مصطفوي، فلسفة الفقه دراسة في الأسس المنهجية للفقه الإسلامي: 15 ـ 16.
([20]) المصدر السابق: 16 ـ 17.
([21]) الحافظ ابن السمعاني، قواطع الأدلة: 153، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ ـ 1997م.
([22]) مهدي مهريزي، مدخل الى فلسفة الفقه: 130.
([23]) عبد الجبار الرفاعي، فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة: 32.
([24]) مبلغي، پيش درآمدي بر فلسفهإي فقه، مجلة فقه، العدد 59 ـ 60: 23.
([25]) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: 22 ـ 56، دار ابن خلدون، بيروت، ط1، 2005م.
([26]) أبو حامد الغزالي، الردّ على الباطنية: 32، دار الكتب الثقافية، الكويت، ط1، 1964م.
([27]) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2014م.
([28]) عبد الجبار الرفاعي، فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة: 32.
([29]) محمد الدسوقي، التجديد في الفقه: 9، دار المدار الإسلامي، بيروت، ط1، 2006م.
([30]) عمر بن سلمان الأشقر، تاريخ الفقه الإسلامي: 212، دار النفائس، الأردنّ، ط3، 1991م.
([31]) أبو نصر الفارابي، إحصاء العلوم: 41 ـ 106، تحقيق: عثمان محمد، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1925م.
([32]) الحسن بن يوسف الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 3، إحياء التراث، قم ـ إيران، ط1، 1414هـ.
([33]) الفاضل المقداد، التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 3، مكتبة المرعشي النجفي، مطبعة الخيام، قم ـ إيران، 1404هـ.
([34]) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: 22 ـ 56.
([35]) محمد بن إبراهيم صدر المتألهين، شرح أصول الكافي 2: 58 ـ 59، مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگي، طهران، ط1، 1383هـ.ش.
([36]) محمد بن جمال الدين العاملي، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: 3، إحياء التراث، بيروت، ط1، 1419هـ.
([37]) روح الله الخميني، الرسائل 1: 96 ـ 99، مؤسسة إسماعيليان، قم ـ إيران، ط1، 1440هـ ـ 2019م.
([38]) المجلّة الفصلية التخصصية (نقد ونظر)، العدد 2: 129 ـ 137، 1374هـ.ش.
([39]) محمد حسين الأصفهاني، الحاشية على المكاسب (للشيخ الأنصاري): 121 ـ 130، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، إيران ـ قم، ط1، 1414هـ.
([40]) محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 8، تحقيق: الشيخ عباس علي الزارعي السبزواري، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران ـ قم، ط8، 1432هـ.
([41]) مجله آينه، سيري در فوائد الأصول، العدد 27: 23 ـ 24، جامعة الشهيد بهشتي، طهران، 1397هـ.ش.
([42]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 43 ـ 46، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، قم ـ إيران، ط1، 1431هـ.