الشيخ صادق اللاريجاني(*)
بقلم: الشيخ محمد حسن القمي([1])
تمهيدٌ
اشتهر في لسان الفقهاء والأصوليين (أن الواقعة لا تخلو من حكمٍ)، وأنّه ما من ظاهرةٍ من ظواهر الحياة إلاّ ولها حكمٌ شرعي. وقد أرسلها بعضُهم إرسال المسلَّمات؛ بينما ناقش فيها بعضٌ آخر. ولكنّهم ـ مع ذلك ـ لم يعقدوا لذلك بحثاً خاصّاً على حِدَةٍ، وإنّما تعرّضوا لها في أثناء البحوث الأصولية على وجه الإشارة والاختصار، عدا مَنْ شذَّ منهم، كالمحقِّق الخراساني& في فوائده، على ما يأتي ذكره إنْ شاء الله.
ولا يخفى أنّ هذه المسألة من المبادئ التصديقية الأحكامية لعلم الأصول؛ إذ قد يُستعان بها في نطاق القياسات الأصولية، ويعتمد عليها في استحصال قواعدها، وهذا ما يفرض علينا أن نفرد لها بحثاً مستقلاًّ؛ لكي ندرس من خلال ذلك ما يتّصل بهذه القاعدة من بحوثٍ، في مختلف الجوانب وشتّى الجهات، على ما هو حقُّها، فنقول، وبالله الاستعانة:
الكلام على هذه القاعدة يقع في مقامين:
المقام الأوّل: في بيان المراد بالقاعدة، وتحرير موضع النزاع فيها.
المقام الثاني: في تحقيق المسألة، وبيان الرأي الصواب فيها. وتلحقهما:
خاتمةٌ: في استعراض بعض ما يتوقَّف على هذا المبدأ من المباحث الأصولية؛ لكي يتَّضح بذلك أثره في هذا العلم أكثر فأكثر.
وإليك تفصيل هذا الإجمال:
المقام الأوّل: بيان المراد بالقاعدة وتحرير موضع النزاع فيها
وينبغي من أجل ذلك استعراض الأمور التالية:
الأمر الأوّل: الحكم الشرعيّ في القاعدة
والكلام على ذلك في جهتين:
الجهة الأولى: أقسام الحكم وأنواعه
وبما أنّ للحكم انقساماتٌ عديدة، فالكلام يقع ضمن عدّة نقاط:
1ـ الحكم التكليفيّ والوضعيّ
أمّا الأحكام التكليفية فالظاهر أنّ المراد بالحكم في موضوع القاعدة مطلق أقسامها الخمسة، حتّى الإباحة، فيكون المعنى: إنّ الواقعة لا تخلو عن حكمٍ شرعيّ، حتّى لو كان ذلك الحكم الشرعيّ هو الإباحة.
والغرضُ أنّ النزاع في هذه القاعدة إنّما هو بعد الفراغ عن كون الإباحة حكماً مجعولاً؛ إذ لو قيل: إنّ الإباحة بقسمَيْها: الاقتضائية؛ واللااقتضائية، ليست إلاّ عدم جعل الأحكام الأربعة لم يبْقَ لهذا النزاع معنىً محصَّلٌ؛ لوضوح إمكان خلوّ الواقعة حينئذٍ من الحكم، بل وقوعه؛ وذلك فيما إذا لم يكن هناك أيّ مصلحةٍ أو مفسدة تدعو إلى البعث أو الزجر، كما في الإباحة اللااقتضائية؛ أو كانت المصلحة في إطلاق العنان والترخيص، كما في الإباحة الاقتضائية.
وكذلك الأمر لو قيل: إن خصوص الإباحة اللااقتضائية أمرٌ عدميّ، دون الاقتضائيّة. اللهمّ إلاّ أن يُبنى على ما بنَيْنا عليه من انحصار الإباحة في الاقتضائية، كما سيأتي قريباً؛ إذ لا مجال بناءً عليه لدعوى خلوّ الواقعة عن الحكم، فيما إذا لم يكن فيها أيّ اقتضاءٍ للترك أو الفعل؛ إذ لا يوجد هناك واقعةٌ كهذه، وسيأتي الكلام عن هذه إنْ شاء الله تعالى.
وأمّا الأحكام الوضعية فالذي يقتضيه التتبُّع في كلماتهم، بل الرؤية العابرة لعباراتهم، هو القطع بأنها أجنبيّة عن مرامهم من حيث الأساس، كما سيظهر ممّا يأتي من النصوص إنْ شاء الله تعالى. غير أن هذا المقدار لا يكفي لقصر البحث على الحكم التكليفي، وإخراج الحكم الوضعي من موضوع القاعدة، كما هو واضحٌ، فمن الجدير بنا أن نتساءل: هل تخلو الواقعة من الحكم الوضعيّ أم لا؟
ورُبَما يسبق إلى الوَهْم أنّه لا مجال لهذا البحث في الأحكام الوضعيّة إذا افترضنا أن المقصود بالواقعة هو الفعل؛ لأن الأحكام الوضعية كثيراً ما لا تتعلَّق بالأفعال، بل بالأشياء الخارجية أو ذوات المكلَّفين، كما هو واضحٌ، وحينئذٍ فمن الطبيعي أن تخلو منها بعض الأفعال، ولا حاجة في ذلك إلى بحثٍ ونظر.
ولكنّك خبيرٌ بما فيه من الخَبْط الواضح، حتّى لو افترضنا أن المراد بالواقعة خصوص الأفعال؛ فإن جواز تعلُّق الأحكام الوضعية بالذوات، وعدم انحصار متعلّقها بالأفعال، لا يلازم خلوّ بعض الأفعال عن الحكم الوضعيّ؛ بداهة أن بالإمكان أن لا يكون هناك فعلٌ إلاّ وله حكمٌ وضعيّ، ومع ذلك لا تكون الأحكام الوضعيّة خاصّةً بالأفعال، بل تتعلَّق بغيرها من الذوات والأشياء أيضاً، وهذا يعني أنه بالإمكان تعميم النزاع بالنسبة إليها، بتقريب أنه: هل يمكن أن تخلو الواقعة من حكمٍ وضعيّ أم يجب أن يكون لكلّ فعلٍ وواقعة حكمٌ وضعيّ؟
وتوهُّمُ أن البحث عن الأحكام التكليفية سوف يغنينا عن الكلام على الأحكام الوضعية، بعد العلم بأنّه لا مجال لحكمٍ وضعيّ إذا لم يكن هناك حكمٌ تكليفيّ، مدفوعٌ بأنه سواءٌ بنَيْنا على أنّ الأحكام الوضعيّة بأَسْرها منتزعةٌ عن الأحكام التكليفية ـ كما عليه الشيخ الأعظم& ومَنْ تبعه ـ، أو قلنا: إنها بأَسْرها مجعولاتٌ مستقلّة، أو قلنا بالتفصيل، وإنّها قد تكون منتزعةً عنها؛ وقد تكون مجعولاتٍ مستقلةً تقع في موضوعها، فلن نكون ـ على أيّ تقديرٍ ـ في غنىً عن هذا البحث بشأن الأحكام الوضعيّة خاصّةً؛ حتّى إذا افترضنا تماميّة القاعدة في الحكم التكليفيّ.
وهذا واضحٌ على الوجهين الأخيرين، ولا مجال ـ بناءً عليهما ـ لتوهُّم الملازمة بينهما؛ لأنّ الأحكام الوضعيّة حينئذٍ ـ إمّا كلّها أو بعضها ـ بحاجةٍ إلى جعلٍ مستقلّ، ولا يكفي مجرّد جعل الأحكام التكليفية لحدوثها، وهذا يعني أنه بالإمكان أن يكون هناك واقعةٌ بلا حكمٍ وضعيٍّ على الرغم من ثبوت حكمٍ تكليفيّ لها، فلا بُدَّ من البحث عن خلوّ الواقعة عن الحكم الوضعيّ أيضاً.
وأمّا على الوجه الأوّل فكذلك؛ وذلك لأنّ الحكم الوضعيّ وإنْ كان ـ بناءً عليه ـ ملازِماً للحكم التكليفيّ ملازمة المنتزع لمنشأ انتزاعه، إلاّ أنَّ الملازمة من طرفٍ واحد، وليس الحكم التكليفي ملازماً لانتزاع الحكم الوضعيّ منه؛ إذ ليس كلّ حكمٍ تكليفيّ ينتزع منه حكمٌ وضعيّ، وإنْ كان كلّ حكمٍ وضعيّ منتزعاً من حكمٍ تكليفي، وهذا واضحٌ بأدنى تأمُّلٍ.
وعليه فإثبات أنّ الواقعة لا تخلو من الحكم التكليفيّ لا يغنينا عن الكلام في خلوّ الواقعة عن الحكم الوضعيّ، فلا بُدَّ من عقد بحثٍ مستقلٍّ عن خصوص الأحكام الوضعيّة.
إلاّ أنّ وجهة نظرنا في هذه الرسالة مقصورةٌ على الأحكام التكليفية، ولا نبحث عن خلوّ الأفعال وعدم خلوّها من الحكم الوضعيّ؛ فإنّ ذلك ممّا يتطلّب مجالاً آخر من البحث، لعلّ التوفيق يساعدنا عليه فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.
وقد يُقال: إنّه لا يبعد القول بعدم الخلوّ فيها أيضاً، على أساس أنّ أفعال المكلَّفين كلّها مملوكةٌ لهم بالمِلْكيّة الشرعية الذاتية. والمِلْكيّة حكمٌ وضعيّ، وهذا يعني: عدم خلوّ فعلٍ من الأفعال عن الحكم الوضعيّ.
وكيف كان، فتحقيق القول في ذلك ـ إيجاباً وسلباً، وما يترتّب عليه من الثمار الأصولية أو الفقهية، موكولٌ إلى مجالٍ آخر.
2ـ الحكم الواقعيّ والظاهريّ
فإن من الواجب علينا أيضاً أن نتساءل عن موقعهما في هذا النزاع، وأنه هل يشملهما معاً، أو يختصّ بأحدهما دون الآخر؟
والجواب: إنه بالإمكان في بادئ النظر دخول القسمين في محلّ النزاع، إلاّ أن المصرَّح به في بعض الكلمات ـ على ما يأتي إنْ شاء الله تعالى ـ اختصاص ما سيأتي من الأدلّة بالحكم الواقعيّ، وخروج الحكم الظاهريّ عن موضوع القاعدة، وهذا يعني إمكان خلوّ الواقعة من الحكم الظاهريّ.
وقد يُقال: إنَّ الظاهر ممّا أفاده الشيخ الأعظم& في مجاري الأصول العمليّة هو الحصر العقلي([2])، ومن الواضح أنّ معنى ذلك حكم العقل بعدم خلوّ الواقعة من الحكم الظاهريّ أيضاً.
والجواب: إن المقصود في المقام هو الحكم الشرعي، فلا يعمّ الاحتياط والتخيير العقليّين المشتمل عليهما ما ذكره الشيخ الأعظم& بذاك الصدد.
وكيف كان فالكلام في هذه الرسالة مقصورٌ على الحكم الواقعيّ، ودراسة المسألة في الحكم الظاهريّ ـ إيجاباً وسلباً، والبحث عمَّا يترتَّب عليه من الآثار ـ موكولٌ إلى مجالٍ آخر.
3ـ الحكم المولويّ والإرشاديّ
لقد قسَّم المحقِّق الشعراني الحكم الشرعيّ إلى: مولويّ؛ وإرشاديّ، ثم ادَّعى دخول القسمين في موضوع القاعدة. وإليك نصّ ما أفاده حول القاعدة:
لا يجوز خلوّ الواقعة عن حكمٍ، وهذا واضحٌ بعدما ثبت تبعيّة الأحكام للحُسْن والقُبْح الذاتيّين؛ وأما بناءً على مذهب الأشاعرة فيجوز أن لا يحكم الشارع في واقعةٍ بشيء أصلاً. ولا بُدَّ أن يكون الحكم هاهنا أعمّ من الحكم المولويّ والإرشاديّ؛ فإن معرفة الله تعالى لها حكمٌ، وهو الوجوب؛ لحُسْنها الذاتيّ، لكن ليس وجوبه مولويّاً. وكذلك ملازم المحرَّم له حكمٌ ألبتّة، وليس حكمه الوجوب والاستحباب وغيرهما، إلاّ الحرمة، ولكنّ حرمته إرشاديةٌ، ومقدّمة الواجب واجبةٌ بالوجوب الإرشاديّ، وكذلك الإطاعة واجبة إرشاداً([3]).
ويُلاحَظ عليه:
أوّلاً: ما سيأتي من عدم ابتناء وتوقُّف هذه القاعدة على القول بالحُسْن والقُبْح الذاتيين للأشياء، وأعمّية البحث عن المصالح والمفاسد والحُسْن والقُبْح.
وثانياً: إنّ المقسَّم لما ذكره من الإرشادي والمولوي هو الأمر، دون الحكم؛ وذلك لأنّ الحكم هو الإنشاء بداعي جعل الداعي المنتَزَع عنه البعث والزجر، وهذا ـ كما ترى ـ لا يلائم إلاّ المولويّة، وأما الإرشاد فهو الإنشاء بداعي الإرشاد، وهذا لا ينتزع عنه البعث ولا الزجر، ومن ثَمَّ لا مجال للمولويّة فيه.
وبالجملة الإنشاء في كلّ موردٍ مصداقٌ للداعي الذي ينشأ لأجله، فإنْ كان بداعي البعث فهو بعثٌ، وإنْ كان بداعي الزجر فهو زجرٌ، وإنْ كان بداعي الإرشاد فهو إرشادٌ، وإنْ كان بداعي الامتحان أو السخرة أو التعجيز أو غيرها فهو مصداقٌ لها. وليس الحكم إلاّ خصوص الإنشاء بداعي البعث والزجر.
وأمّا الأمر فبما أنّه عبارةٌ عن الصيغة التي ينشأ بها البعث، من دون ملاحظة ما يدعو إليه، صحّ انقسامه إلى: مولويّ؛ وإرشاديّ. فالأمر المولويّ ما كان بداعي البعث، والأمر الإرشاديّ ما كان بداعي الإرشاد. وهكذا الكلام في النهي.
نعم، لو قيل: إن حقيقة الإرشاد تشتمل على نوعٍ من الإلزام، كما هو المختار، صحّ ما ذكره في الجملة، والتفصيل في محلّه.
الجهة الثانية: مراتب الحكم ومراحله
فهل أن الحكم التكليفيّ داخلٌ في موضوع القاعدة بجميع مراتبه أم لا؟
والتحقيقُ أنّ المراد بالحكم هاهنا لا يخلو بادئ النظر عن أحد المراتب الأربعة:
أوّلها: أن يُراد به مرتبة الإرادة، التي هي روح الحكم وحقيقته؛ فإنّ العقل إنما يحكم من أجلها بوجوب الطاعة والامتثال، واستحقاق العقوبة بالتعدّي والعصيان.
ثانيها: أن يُراد به مرتبة الإنشاء بالمعنى المختار، أي الإنشاء بداعي جعل الداعي، لا بالمعنى الذي ذكره المحقِّق الخراساني&، الفاقد للبعث والزجر؛ إذ قد تكرَّر منّا مراراً، تَبَعاً للمحقِّق الأصفهاني&، أنّ الإنشاء الفاقد للبعث والزجر إمّا أن يكون مقترناً بداعٍ آخر غير البعث والزجر فيكون مصداقاً لذلك الداعي، وأجنبياً عن الحكم الشرعيّ؛ وإمّا أنْ لا يكون مقترناً بأيّ داعٍ مفروض، وهو محالٌ؛ لأن الإنشاء فعلٌ اختياريّ، ولا معنى للفعل الاختياريّ إذا لم يكن هناك داعٍ يدعو إليه.
نعم، المصطلحان مشتركان في مقابلتهما للفعليّة، إلاّ أنّ المقصود عندنا بالفعلية يختلف عمّا هو المقصود له&، كما يأتي.
ثالثها: أن يُراد به مرتبة الفعلية. والمقصود بها تلك المرتبة التي تحصل للحكم بعد فعليّة الشرائط والقيود المأخوذة فيه؛ وهي كونه ثابتاً في ذمّة هذا المكلَّف أو ذاك بخصوصه. فوجوب الحج له فعليّةٌ على ذمّة المكلَّف المستطيع زائدةٌ على وجوده قبلها في عالم التشريع، وهذا يعني أنّ البعث والزجر قد يتعلَّقان بالعناوين والجهات، لكنْ مشروطَين بأمور رُبَما لا تكون موجودة في نفس الحين، فتكون فعليّة البعث والزجر معلّقة على فعليّة تلك الأمور، كما تقدَّم البحث عن ذلك مشبعاً في موضعه. فليس المقصود بالفعليّة ما ذكره المحقِّق الخراساني&، من انقداح البعث والزجر في نفس المولى؛ فإنّ ذلك ممّا يتقوَّم به الحكم في مرحلة الإنشاء، كما تبيَّن.
رابعها: أن يُراد به مرتبة التنجُّز. والمقصود به كون الحكم بحيث يقع موضوعاً لحكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة. وهذا غير الفعليّة المتقدِّم ذكرها؛ إذ رُبَما يكون الحكم فعلياً بفعليّة موضوعه، ولكنّه غير منجّز بعدُ؛ لعدم علم المكلَّف به، بناءً على اشتراط العلم في المنجّزيّة فقط؛ إمّا عقلاً، كما هو مفاد القضية القائلة بقُبْح العقاب بلا بيان؛ أو شرعاً، كما هو مفاد حديث الرَّفْع وما يشبهه.
ولا شَكَّ أنّ هذه المرتبة الرابعة لا تدخل في موضع النزاع؛ بداهة أن كثيراً من الأحكام الشرعية الفعليّة غير منجّزة بالنسبة إلى كثيرٍ من المكلَّفين؛ لعدم العلم بها، فلا مجال بعد ذلك لدعوى عدم خلوّ الواقعة ـ أيّ واقعةٍ ـ عن الحكم التنجيزي.
نعم، يمكن القول بذلك على سبيل الموجبة الجزئيّة، بمعنى أن الحكم المجعول لا بُدَّ أن يبلغ مرتبة التنجُّز، ولو في بعض الأحيان، وبالنسبة إلى بعض المكلَّفين، وإلاّ كان جَعْله لَغْواً. أمّا أنه لا بُدَّ في كلّ واقعةٍ من حكمٍ تنجيزيّ على سبيل الموجبة الكلّية فهذا ممّا لم يدلّ عليه دليلٌ، بل الدليل على عدمه، كما عرفْتَ.
كما لا شَكَّ أنّ المرتبة الثالثة خارجةٌ أيضاً عن مصبّ النزاع؛ لوضوح أنّ كثيراً من الأحكام المجعولة ليست بفعليّةٍ؛ تَبَعاً لعدم فعليّة موضوعاتها، ولو في الجملة، كما إذا لم يكن المكلّف مستطيعاً، فإنّ وجوب الحجّ ليس فعليّاً بالنسبة إليه، وإنْ كان ثابتاً في مرحلة الإنشاء. وهذا المقدار ممّا لا رَيْبَ فيه، ولا شَكَّ يعتريه.
ولا يخفى أنّ المراد بالفعليّة في مصطلح المحقِّقَين الخراسانيّ والعراقيّ نفس الإنشاء مع انقداح البعث والزجر في نفس المولى؛ وأمّا المحقِّق النائيني وأتباعه فالفعلية عندهم هي الإنشاء المتحقِّق موضوعه وقيوده.
وما ذكَرْنا من خروج الفعليّة عن موضع النزاع إنّما هي الثانية، وأمّا الفعلية بالمصطلح الأوّل ـ التي هي الإنشاء، حَسْب مصطلح المحقِّق النائيني ـ فهي داخلةٌ في موضع النزاع بلا رَيْبٍ؛ حيث يدّعي الشيخ الآخوند& إمكانَ خلوّ الواقعة منها بقوله: «وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعيّ، لا الفعلي»([4])، بل وقوعَه في موارد الجهل وقيام الأمارة على الخلاف بقوله: «إنّ قضية حجّيتها، أي الأمارات، ليس إلاّ تنجُّز مؤدّياتها عند إصابتها، والعذر عند خطئها، فلا يكون حكمٌ أصلاً إلاّ الحكم الواقعيّ، فيصير منجّزاً فيما قام عليه حجّةٌ من علمٍ أو طريقٍ معتبر، ويكون غير منجّزٍ، بل غير فعليٍّ، فيما لم تكن هناك حجّةٌ مصيبة، فتأمَّلْ جيّداً»([5]). بينما ينكره آخرون؛ إمّا لكونه على خلاف ظواهر الأخبار المتواترة ومعاقد الإجماعات من اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين فحَسْب، أو مضافاً إلى استلزامه أخذ العلم بالحكم في موضوعه، وهو دَوْرٌ أو لَغْوٌ.
وقد عثَرْنا بعد ذلك على كلامٍ يُحكى عن القائد الراحل& بهذا الصدد في بعض تقارير بحثه؛ ففي (تنقيح الأصول): «وأمّا ـ ثانياً ـ فلأنّا لا نسلِّم امتناع خلوّ الواقعة عن حكمٍ، فإنّ الممتنع خلوّها عن الحكم واقعاً، لا الحكم الفعليّ، فإنّه لا يمتنع خلوّها عن الحكم الفعلي»([6])؛ وكذا في (معتمد الأصول) حيث قال: «فإنّ هذا لو سلِّم فإنّما هو بحَسَب الحكم الواقعيّ، لا الفعلي»([7]).
ولا يوجد عن ذلك شيءٌ في هذا الموضع من (مناهج الوصول)، الذي كتبه هو بنفسه&، كما لا يوجد عنه شيءٌ في سائر التقارير.
وبهذا يتعيَّن أن يكون النزاع في إحدى المرتبتين الأوليّين: مرتبة الإرادة والكراهة؛ ومرتبة الإنشاء بداعي جعل الداعي المنتَزَع عنه البعث والزجر، وينصبّ البحث عندئذٍ على أنّ الواقعة هل تخلو عن الإرادة والكراهة أم لا؟ وعلى الثاني([8]): هل تخلو عن الإنشاء أم لا؟
الأمر الثاني: الوقائع، بين الكلِّية والجزئيّة
أقول: الظاهر أنّ المراد بها الوقائع على صفة الكلّية، من دون الاختصاص بالموارد الخاصّة، ككُلِّيّ الحجّ والصلاة والعدل وصلة الأرحام و…؛ لأنّ الكلام في الأحكام الشرعية المجعولة على نهج القضايا الحقيقية؛ لوضوح أنّ النزاع ليس في الحكم المجعول على نهج القضية الخارجيّة، مثل: وجوب صلاة الليل على النبيّ الأعظم|، وجواز التزويج بأكثر من أربع زوجات له|، أو غير ذلك.
والوجهُ في ذلك خروجُ تلك الفئة من الأحكام عن نطاق البحث الفقهيّ قطعاً، بعدما لم تكن لها شأنيّة لشمول نوع المكلّفين وعامّتهم، ومن المعلوم أنّ الكلام إنّما هو في الأحكام الشرعية التي يحاول الفقيه استنباطها من الأدلة، والتي لها نحوٌ من الكلِّية بالنسبة إلى أصناف المكلَّفين وشعوبهم، وأمّا الأحكام الخارجيّة الخاصّة بشخصٍ أو أشخاص محدَّدين من المكلَّفين فلا صلة بينها وبين البحث الفقهيّ، كما هو واضحٌ.
وبهذا يتّضح أنّه لا فرق بين الكلِّية والجزئية من حيث النتيجة؛ إذ لو ادُّعي أنّ كلّ واقعةٍ جزئية لا تخلو من حكمٍ أيضاً كان لازمه عدم خلوّ تلك الواقعة بكلِّيتها وطبيعتها من ذاك الحكم؛ لنفس النكتة. والأمر سهلٌ بعد الوضوح.
الأمر الثالث: نفي الخلوّ، بين العقليّ الثبوتيّ والنقليّ الإثباتيّ
فهل المسألة سنخ مسألةٍ عقليّة ثبوتيّة، يستند فيها إلى الملازمات العقليّة التي تفيد عدم خلوّ الواقعة عن الحكم، بمعنى عدم الإمكان؛ أو سنخ مسألةٍ نقليّة إثباتيّة، يستند فيها إلى الآيات القرآنيّة والروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة والطهارة^؟([9]).
والمتصوَّر في بادئ النظر وجوه ثلاثة:
أحدها: أن تكون المسألة عقليّةً بَحْتة، ولا يدلَّ عليها شيءٌ من الكتاب والسنّة.
والثاني: أن تكون المسألة نقليّةً بَحْتة، ولا تدلّ عليها ملازمةٌ عقلية.
والثالث: أن تكون المسألة ممّا يدرك بالعقل، ويؤيَّد بالنقل، أي إنّهما متطابقان على عدم خلوّ الواقعة من الحكم الشرعيّ، ولم يسكت أحدهما عن ذلك، وهذا بخلاف الوجهين المتقدِّمين، حيث إن الشرع قد سكت ـ على الأوّل ـ عن إبداء الموقف تجاه هذه المسألة، كما أنّ العقل قد عجز ـ على الثاني ـ عن تحديد الأمر، وأنّه هل تخلو الواقعة من الحكم أو لا؟
وأيّاً ما كان فسوف يتَّضح من خلال البحوث الآتية إنْ شاء الله تعالى أنّ الظاهر من كلمات الأصحاب اختيار واحد من الوجهين الأخيرين، وأنّ المترائي من أكثرهم هو الثاني. وأما الوجه الأوّل فلم نجِدْ قائلاً به بينهم، وإنْ كان قد يستظهر ذلك من كلمات المحقِّق الشعراني& المتقدِّمة. ولا يخلو من وجهٍ إذا بُني على عدم تماميّة ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى من الأدلّة النقلية، أعني: الإجماع والأخبار، للدلالة على المطلوب.
قول الشهيد الثاني في القاعدة
ويجدر بنا في الختام أن نستعرض ما ذكره الشهيد الثاني& بصدد هذه القاعدة في (تمهيد القواعد)، ممّا يتَّضح في ضوئه الظروف التي تربَّى فيها هذا النزاع، والتطوُّرات التي حصلت له إلى اليوم؛ فإنّ هذا قد يساعدنا على أن نتعرَّف الحدود المرتسمة لهذا البحث عند الأصحاب، حتّى نكون آخذين بعين الاعتبار ـ عند تقييم الأدلّة ـ دلالتها على تلك الفكرة العامّة عن القاعدة، لا على تفسيرٍ نحن ندَّعيه اليوم.
قال الشهيد الثاني&: فائدةٌ، وهي خاتمة القسم الأوّل: ليس كلّ مجتهدٍ في العقليات مصيباً، بل الحقّ فيها واحدٌ؛ فمَنْ أصابه أصاب؛ ومَنْ فقده أخطأ وأثم إجماعاً. وأمّا المجتهد في المسائل الفرعيّة ففيه خلافٌ يبنى على أنّ كلّ صورةٍ هل لها حكمٌ معيّن أم لا؟
وقد لخَّص الرازي هذا الخلاف فقال: اختلف العلماء في الواقعة التي لا نصَّ فيها على قولين:
أحدهما ـ وبه قال الأشعريّ وجمهور المتكلِّمين ـ: إنه ليس لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكمٌ معيّن، بل حكمه تعالى فيها تابعٌ لظنّ المجتهد. وهؤلاء هم القائلون بأنّ كلّ مجتهدٍ مصي. واختلف هؤلاء؛ فقال بعضهم: لا بُدَّ أن يوجد في الواقعة ما لو حكم الله تعالى فيها بحكمٍ لم يحكم إلاّ به؛ وقال بعضهم، لا يشترط ذلك.
والقول الثاني: إنّ له تعالى في كلّ واقعة حكماً معيّناً.
وعلى هذا فثلاثة أقوال:
أحدها، وهو قولُ طائفةٍ من الفقهاء والمتكلِّمين: يحصل الحكم من غير دلالةٍ ولا أمارةٍ، بل هو كدفينٍ يعثر عليه الطالب اتّفاقاً، فمَنْ وجده فله أجران، ومَنْ أخطأه فله أجرٌ.
والقول الثاني: عليه أمارةٌ، أي دليلٌ ظنّي. والقائلون به اختلفوا؛ فقال بعضهم: لم يكلَّف المجتهد بإصابته؛ لخفائه وغموضه؛ فلذلك كان المخطئ فيه معذوراً مأجوراً، وهو قول جمهور الفقهاء، وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة؛ وقال بعضهم: إنّه مأمورٌ بطَلَبه أوّلاً، فإنْ أخطأ وغلب على ظنّه شيءٌ آخر، تغيَّر التكليف، وصار مأموراً بالعمل بمقتضى ظنِّه.
والقول الثالث: إنّ عليه دليلاً قطعيّاً. والقائلون به اتفقوا على أنّ المجتهد مأمورٌ بطَلَبه، لكنْ اختلفوا؛ فقال الجمهور: إن المخطئ فيه لا يأثم، ولا يُنْقَض قضاؤه، وقال البشر المريسي بالتأثيم، والأصمّ بالنقض.
والذي نذهب إليه أن له تعالى في كلّ واقعةٍ حكماً معيناً، عليه دليلٌ ظنّي، وأنّ المخطئ فيه معذورٌ، وأنّ القاضي لا يُنْقَض قضاؤه([10]).
المقام الثاني: مبادئ القاعدة وأدلّتها
وتفصيل الكلام عن ذلك يقع في: مقدّمةٍ، وثلاث مراحل:
مقدّمة
وفيها نستعرض بعض ما للمنكرين والمثبتين من النصوص والعبارات؛ حتى يتبيَّن من خلالها الاتجاهات المختلفة في هذا المجال، فنقول:
من جملة المنكرين للقاعدة المحقِّق الخراساني& في (فوائد الأصول)، حيث قال: «…ظهر الحقّ في المقامين، وهو في المقام الأوّل جواز خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعيّ، بحيث لم يكن فيها بعثٌ أو زجر، ولا إرادةٌ أو كراهة ومولويّة، ولا أمرٌ ونهي…»([11]).
وقد أشبع الكلام عن ذلك بتفصيلٍ، فشدّ النكير على دعوى عدم الخلوّ بكلتا مرتبتي الحكم الداخلتين في محلّ النزاع، على ما تقدَّم، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى.
ومنهم القائد الراحل& في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العامّ، حيث ردَّ على المقدمة الثانية من مقدّمات وجهها الثاني بقوله: «وثانياً: لم يقُمْ دليلٌ على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم، بل الدليل على خلافه…»([12]).
ومنهم المحقِّق الرشتي&، في بدايعه، حيث ردَّ على ما حكاه عن صاحب (الفصول)، في ذيل البحث من جواز كون المتلازمين مختلفين في الحكم، بتوقُّفه على مقدّمتين فاسدتين: إحداهما: لا تمتُّ إلى بحثنا بصلةٍ؛ والثانية: عدم جواز خلوّ الفعل عن شيءٍ من الأحكام الخمسة. وهي أيضاً واضحة الفساد. ودعوى القطع بذلك ممّا ينبغي صدوره من مثله؛ إذ لا سبيل إلى القطع بذلك، لا من جانب العقل، ولا من جانب النقل، وأيُّ دليلٍ يفيد القطع؟ أمّا العقل فلأنه لا يستقلّ بثبوت الحكم بكلّ واقعةٍ، وأمّا النقل فقد ورد أنّه ما من واقعةٍ إلاّ ولها حكمٌ مفرد عند الله. إلاّ أنّ اعتماد مثله على مثله في أمثال المسألة كما ترى([13]).
وسوف يتّضح إنْ شاء الله تعالى من خلال الأبحاث الآتية تماميّة الدليل العقلي والنقلي في المسألة. لكننا لم نعثر على النصّ الذي ذكره، ولعلّه نقل بالمضمون. وكيف كان ففي ما يأتي من الروايات كفايةٌ عنه.
ولا يبعد أن يكون قوله: «في مثله» إشارة إلى ضعف تلك الرواية سنداً. كما يحتمل أن يكون قوله: «في أمثال المسألة» إشارة إلى عدم كفاية أخبار الآحاد في المسألة، بناءً على أنّها مسألةٌ واقعيّة، وليست تعبّديةً بَحْتة. وسوف يأتي الكلام ذلك عند البحث الإثباتي، فإنّ هذا لو تمّ لعمّ الإجماع والروايات إذا لم يثبت تواترها.
ومن جملة المثبتين للقاعدة: صاحب (الحاشية على المعالم)، حيث قال&: «وأمّا على أصول الإماميّة، على ما دلّت عليه نصوصهم المتواترة من أئمّتهم، من كون حكم الله تعالى في الواقعة واحداً بحَسَب الواقع، وأنّ له تعالى في كلّ واقعة حكماً مخزوناً عند أهله، أصابه مَنْ أصابه وأخطأه مَنْ أخطأه»([14]).
وظاهره: الاكتفاء بالأخبار في مقام الاستدلال.
ومنهم: صاحب الفصول، حيث قال& في كلامٍ له: «لأنّا نقول: هذا الاحتجاج مبنيٌّ على ما ثبت عندنا بالأخبار والآثار من أن لله تعالى في كلّ واقعةٍ حكماً معيَّناً بيّنه لنبيّه صلوات الله عليه، وبيَّنه النبيُّ لأوصيائه^، فالأحكام كلّها مقرّرة عندهم، مخزونة لديهم، وليس في الواقع واقعةٌ خاليةٌ عن الحكم»([15]).
وفي كلامٍ آخر له: «ومنها: تواتر الأخبار المروية عن الأئمّة الأطهار^، الدالّة على أنّ الله في كلّ واقعةٍ حكماً معيّناً، بيَّنه لنبيِّه|، وبيَّنه نبيُّه لوصيِّه، إلى أن ينتهي البيان إلى آخر الأوصياء. فجميع الأحكام محفوظة عنده، مخزونة لديه، حتّى مثل: أرش الخدش، فما دونه. وهذه الأخبار وإنْ كانت واردةً بعباراتٍ مختلفة، وألفاظ متفاوتة، إلاّ أنّها مشتركةُ الدلالة على ما ذكرناه، فهي متواترةٌ بالمعنى»([16]).
وظاهرهما انحصار المستند في الأدلّة النقلية.
ومنهم: الشيخ الأعظم الأنصاري&، على ما في تقرير بحثه في الألفاظ: «نعم، لو انضمّ إلى ذلك مقدّمة خارجية أخرى، كقولهم باللطف؛ أو قولهم بعدم جواز خلوّ الواقع من الأحكام، كما يستفاد من جملة الأخبار…»([17]).
وظاهره أيضاً الاتّكاء عليها، من دون استنادٍ إلى دليل العقل.
كما ويظهر منه ذلك عندما حكى كلاماً عن المحدِّث الإسترآبادي&، في مسألة الاحتياط، وهو قوله: «وقد تواتر عنهم^ وجوب التوقُّف فيما لم يعلم حكمها، معلّلين بأنه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعةٌ عن حكمٍ قطعيّ واردٍ من الله تعالى»([18])؛ حيث لم يردّ عليه في ذلك بشيءٍ، واكتفى بالقول: إنَّ ذلك لا يمتّ إلى بحثنا بصلةٍ، ممّا قد يعني ارتضاءه له.
ومنهم: المحقِّق الآشتياني&، في (بحر الفوائد)؛ إذ قال في كلامٍ له: «وبالجملة: الذي قام عليه الدليل([19])، ونطق به السنّة والإجماع، عدم جواز خلوّ الواقعة من الحكم الواقعي؛ وأمّا عدم جواز خلوّها من الحكم الظاهري إذا لم يتوقَّف العمل عليه فلم يقُمْ به دليلٌ أصلاً، كما اعترف به دام ظلُّه في الجزء الثاني من الكتاب»([20]).
وقد تكرَّر هذا القول منه، ومن صاحب (الأوثق)، من عدم الدليل على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم الظاهري، إذا لم يحتج إليه في مقام العمل، تَبَعاً لما أفاده الشيخ& بقوله: «ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكمٍ ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل، نظير: ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب»([21]).
وكيف كان فعبارته غيرُ صريحةٍ في انحصار الدليل في الأخبار والإجماع.
ومنهم: المحقِّق الخراساني&، في (الكفاية)، حيث قال: «فهو وإنْ كان خطأ من جهة تواتر الأخبار وإجماع أصحابنا على أن لله تبارك وتعالى في كلّ واقعةٍ حكماً يشترك فيه الكلّ»([22]).
وكذا قال في (درر الفوائد): «كما يكون بالإجماع والضرورة من المذهب في كلّ واقعةٍ حكمٌ يشترك فيه الأمّة»([23]).
ومنهم: المحقِّق العراقي&، على ما في (نهاية الأفكار)، حيث قال: «إلاّ أنّه مع كونه خلاف الإجماع وما تواتر عليه الأخبار من أنّ له سبحانه في كلّ واقعةٍ حكماً يشترك فيه العالم والجاهل»([24]).
ومنهم: السيد الخوئي&، في مبحث الاجتهاد والتقليد، فقد قال: «مضافاً إلى الإجماع والأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ لله حكماً في كلّ واقعةٍ يشترك فيه العالم والجاهل»([25]).
وكيف كان فالمشهورُ أنّه ما من واقعةٍ إلاّ ولها حكمٌ شرعيّ. واستدلّ على ذلك بالعقل والنقل. كما يمكن أن يستدلّ عليه بما يتركَّب منهما.
فالكلام في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: المبادئ العقليّة للقاعدة
لا يخفى أنّ هذه القاعدة قد ابتنَتْ في كلمات الأكثرين على مسألة التحسين والتقبيح الذاتيين للأشياء؛ فقد عقدوا البحث في إثبات الملازمة بين تحسينها وتقبيحها وبين تعلُّق الإرادة والكراهة بها، فأنكر الملازمة جمعٌ؛ وأثبتها آخرون.
والظاهر من كلماتهم في بادئ النظر هو انحصار الطريق العقلي للبحث في تلك الملازمة، بحيث إذا ثبتت ثبتت الدعوى عقلاً، وإذا لم تثبت لم يمكن إثبات الدعوى بوجهٍ عقليّ آخر، وإنْ كان هناك مجالٌ بعدُ للوجوه النقليّة.
ولكنّ الصحيح ـ كما تُشْعِر به بعضُ الكلمات ـ أن بالإمكان أن نستدلّ على هذه القاعدة من طريقةٍ أخرى عقليّةٍ أيضاً، وهي: الملازمة بين المصالح والمفاسد الواقعيّة وبين الإرادة والكراهة، أو بينها وبين الجَعْل الشرعي ـ بناءً على إنكار الإرادة والكراهة في الأحكام الشرعيّة، كما تبنّاه المحقِّق الأصفهاني& ـ، وهذا يعني تواجد طريقتين عقليّتين بهذا الصدد، نسلكهما كالتالي:
1ـ طريقة التحسين والتقبيح العقليّين
وقد جرى البحث عن ذلك ضمن قاعدة (كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع)، فإنّ هذه القاعدة قد يُراد بها إثبات أصل توفُّر الحكم الشرعي فيما إذا كان هناك حكمٌ عقليّ، من دون نظر أصلاً إلى إثبات المطابقة بينهما؛ وقد يُراد بها إثبات أنّ للشرع حكماً مطابقاً للحكم العقليّ، بمعنى أنّ العقل إذا كان حاكماً بحسن شيءٍ فللشرع أيضاً حكمٌ مطابق له، سواء كانت هذه المطابقة في نوع الحكم، من حيث كونه إلزاميّاً أو غيرَ إلزاميٍّ، أو في المتعلَّق، بمعنى أن يكون الحكم الشرعيّ متعلّقاً بنفس ما تعلَّق به الحكم العقليّ.
قال المحقِّق الخراساني& بهذا الصدد: «فائدةٌ: قد اشتهر بين المتأخِّرين النزاع في الملازمة بين حكم العقل والشرع، بمعنى أنه كلّما يكون تمام ملاك حكم العقل، بحيث لو اطّلع عليه العقل يحكم بحُسْن الفعل به أو قبحه، يكون تمام ملاك حكم الشرع، حتّى يكون العقل في ما استقلّ به دليلاً عليه وكاشفاً عنه، أو لا؛ كي لا يكون عليه دليلاً؟ وهذه الملازمة هي التي تكون مفاد القضيّة المعروفة: (كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع).
ولا يخفى أنّ هذه القضية قد تُقال في مقابل مَنْ يرى جواز خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعيّ، فيكون المقصود إثبات أصل الحكم الشرعيّ، مقابل مَنْ ينفيه. فإثبات المطابقة غير ملحوظةٍ أصالةً. وقد يُقال في مقابل مَنْ يرى صحّة حكم الشرع على خلاف حكم العقل، فيكون المقصود بها إثبات المطابقة بعد الفراغ عن ثبوت الحكم الشرعيّ فيها([26]).
ولا يخفى على الناقد البصير أن التمايز بين الجهتين إنّما هو بمجرد اللحاظ، بمعنى أنّ النظر مقصورٌ في الجهة الأولى على إثبات أن للشرع حكماً شرعيّاً في كلّ واقعةٍ. ويستدلّ على ذلك بالملازمة بين الحُسْن والقُبْح الذاتيين للأشياء وبين الإرادة والكراهة، حيث إنّ الواقعة لا تخلو من حكمٍ عقليّ، وهو الحُسْن أو القُبْح، فكذا من الشرعيّ. ومن الواضح أنّ هذه الملازمة إذا تمَّتْ فسوف تثبت بها المطابقة بين الحكم الشرعيّ والعقليّ أيضاً؛ لأنّ العقل إنما يدرك لزوم تعلُّق الإرادة الشرعية بنفس ما هو حَسَن عقلاً، وتعلُّق الكراهة بنفس ما هو قبيحٌ عقلاً. إلاّ أنّ هذه المطابقة غير ملحوظةٍ في هذه الجهة، ولا يراد إثباتها فيها، وإنّما المقصود إثبات أنّ للشرع حكماً في كلّ موردٍ يكون للعقل فيه حكمٌ. وهذا كلّه بخلاف الجهة الثانية؛ فإن المطلوب فيها إثبات المطابقة.
والحاصلُ أن الطريقة العقلية الأولى لإثبات القاعدة دعوى الملازمة بين الحُسْن والقُبْح الذاتيين للأشياء وبين تعلُّق الإرادة بها والكراهة؛ لوضوح أنّ العاقل إذا التفت إلى ما في الفعل من حُسْنٍ وفضيلةٍ فلا محالةَ يشتاق إليه، كما أنّه إذا التفت إلى ما فيه من قُبْحٍ ورذالةٍ ينزجر عنه ويكرهه، وهذا يعني أنّ الشارع، الذي هو عالمٌ بجميع المحاسن والقبائح، لا يخلو إمّا أن يكون مريداً لتلك الوقائع، وهذا فيما إذا كانت حَسَنةً؛ أو يكون كارهاً لها، وهذا فيما إذا كانت قبيحةً، وبهذا يثبت أن الواقعة لا تخلو من الإرادة أو الكراهة، وقد عرفْتَ أنهما روحُ الحكم ولُبُّه.
نقاشاتٌ وردودٌ
وما قيل أو يمكن أن يُقال في الردّ على هذه الطريقة وجوهٌ ثلاثة:
1ـ نقاش المحقِّق الخراساني
الوجه الأوّل: ما أفاده المحقِّق الخراساني& بهذا الصدد. ويمكن تنسيق إفادته ضمن الفقرات التالية:
الفقرة الأولى: إن الحكم يُطْلَق ويُراد به إمّا الإرادة والكراهة؛ وإمّا الإنشاء من دون انقداح البعث والزجر؛ وإمّا الفعلية، وهي: مرتبة انقداح البعث والزجر في نفس المولى؛ وإمّا التنجُّز.
وحقيقة الحكم هي: الإرادة؛ والكراهة، وبهما يقع الخطاب موضوعاً لوجوب الامتثال. والفاقد لهما صورةٌ للحكم مجرّدةٌ عن واقعه.
الفقرة الثانية: إن مجرّد حُسْن فعلٍ أو قُبْحه عقلاً لا يستتبع إرادة العقلاء إيّاه أو كراهتهم له، بحيث يبعثون إليه عبيدهم أو يزجرونهم عنه، بل لا بُدَّ من انضمام دواعٍ وأغراض أُخَر في حصولهما.
والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: شهادة الوجدان؛ فإنّا لا نجد من أنفسنا حصول الإرادة بمجرّد ملاحظة حُسْن فعل الإحسان؛ فرُبَما لا نريد الإحسان إلى شخصٍ، بل نكرهه، وإنْ كنّا مستحقّين للتحسين لو فعلنا ذلك.
والآخر: شيوع اختيار الأفعال القبيحة وترك الأفعال الحَسَنة من العقلاء أنفسهم، ومن الواضح أنّ الفعل الاختياريّ مسبوقٌ بالإرادة والشوق الأكيد المحرِّك للعضلات، ولو تَبَعاً([27]). وهذا دليلٌ على عدم الملازمة بين تحسين الفعل وإرادته، والسرُّ أن الداعي، الذي هو سبب الإرادة، يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وغلبة الشهوات، والتفاوت في المَلَكات، وملاحظة نظام الكائنات.
الفقرة الثالثة: في تكميل البحث بذكر اعتراضين على المختار، والإجابة عنهما:
أمّا الأوّل فهو أنّ الحُسْن والقُبْح إذا كانا ـ حَسْب المختار ـ عبارةً عن استعجاب العقل ورضاه بالفعل أو استغرابه وسخطه عليه فلا معنى لانفكاكهما عن الإرادة والكراهة بعد مساوقتهما لهما، حَسْب هذا التقريب.
والجواب عنه واضحٌ بعد ملاحظة ما سبق من شهادة الوجدان وعمل العقلاء.
ولعلّ الحلّ المقصود بهذا الجواب: هو أنّ إرادة المريد ورضاه بالفعل لا تتأثَّر برضا العقل واستعجابه فحَسْب، حتّى تتكوَّن الملازمة بينهما، بل هناك مؤثِّرٌ لسائر الدواعي والأغراض النفسية.
وأمّا الثاني فهو أنّ تأثُّر الإرادة بتلك الأغراض والدواعي المخالفة للحُسْن العقلي لو تمَّ فإنّما يتمّ في ما سوى الله تبارك وتعالى، فلا وجه لتسرية الدعوى من العقلاء إلى الله تبارك وتعالى؛ لوضوح أنّ الإرادة والكراهة فيه تعالى ليست إلاّ علمه بمصلحة الفعل ومفسدته، ولا حُسْن ولا قُبْح إلاّ بالمصلحة والمفسدة.
وقد أجاب عن ذلك بما محصَّله: إنّ الإرادة كسائر الصفات فيه تعالى، وإنْ اتَّحدَتْ مع العلم وجوداً ومصداقاً، إلاّ أنّ مجرّد العلم بالمصلحة كما أنّه ليس بإرادةٍ تكوينيّة موجبة لتحقُّق المراد، كذلك ليس بحَسَب المصداق إرادةٌ تشريعية موجبة لبعث العباد نحو المراد.
والوجه في ذلك إمكان توفُّر ما يمنع عقلاً عن البعث والزجر، كما في صورة مزاحمة ما فيه المصلحة الملزمة بما كان أهمّ منه؛ لأنّ البعث إلى غير الأهمّ أو إليهما معاً قبيحٌ، دون البعث إلى خصوص الأهمّ، كما لا يخفى، مع أنَّ المهمّ باقٍ على ما هو عليه من المصلحة؛ أو كعدم الاستعداد في بعض العباد؛ لقُرْب عهدهم من الإسلام، أو أيّ أمرٍ آخر لا نعرفه ولا يلزم معرفته، كما في الصبيّ الذي لطفت قريحته وحسن ذكاؤه؛ فإنّ أفعاله ذات مصالح ومفاسد، ومع ذلك فهو غير مكلَّفٍ بالأحكام بالضرورة.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ البعث والزجر؛ باعتبارهما فعلين من أفعال المولى، لا بُدَّ من تبعيّتهما، إضافةً إلى مصالح متعلَّقهما ومفاسده، للمصالح والمفاسد الكامنة في نفسَيْهما، فرُبَما يكون المتعلَّق ذا مصلحةٍ ملزمة في نفسه، إلاّ أنّ البعث إليه يستوجب بعض المفاسد، فمجرّد كون الفعل ذا مصلحةٍ أو مفسدةٍ لا يستتبع البعث والزجر.
وقد استنتج& من جميع هذه الفقرات:
أوّلاً: جواز خلوّ الواقع عن الخطاب والجَعْل، أي مرتبة الإنشاء والفعلية، حَسْب رأيه، ومرتبة الإنشاء، حَسْب المختار.
وثانياً: جواز خلوّ الواقع عن روح الخطاب وحقيقته، أعني: الإرادة والكراهة([28]).
تعليقاتٌ على النقاش
ولنا على إفادته& في المقام عدّة تعليقات:
التعليقة الأولى: إنه لا وجه لتخصيص البحث أوّلاً: بمسألة الحُسْن والقُبْح؛ وثانياً: بالأسلوب العقليّ؛ إذ من الممكن دراسة القاعدة في ضوء المصالح والمفاسد الواقعية، كما أنّ الأسلوب النقلي، أعني: الاستدلال بالروايات والأخبار، ممّا يعيننا كثيراً في هذا المجال.
وتوضيح ذلك: أمّا أوّلاً: فقد تقدَّم في مسألة الحُسْن والقُبْح العقليين عدم الملازمة بينهما وبين المصالح والمفاسد الواقعية، إلاّ على بعض المباني. وقد عرَفْنا هناك إنكار الملازمة بينهما من المحقِّق الأصفهاني& بالصراحة، على أساس أنّ الحُسْن والقُبْح ليسا إلاّ من البناءات العقلائية على مدح طائفةٍ من الأفعال وذمّ طائفةٍ أخرى منها، وهذا المدح والذم ينشآن من الملاكات النوعية العقلائية، وأمّا الأحكام الشرعيّة فقد تنشأ من الملاكات الشخصيّة. وأمّا بناءً على المختار من كون الحُسْن والقُبْح وصفين واقعيّين فهما متقاربان مع المصلحة والمفسدة في الموضوع. والتفصيل في محلّه.
وأمّا ثانياً: فلأنّ إثبات الخلوّ وعدمه، كما قد يمكن بالأدلّة العقليّة، كذلك يمكن بالأدلّة النقلية، ولا ينحصر طريق إثباته بالعقل، فلا وجه لحصر البحث في المسلك العقلي، وعدم استعراض الآيات والروايات التي ادُّعي في كلمات الكثيرين تواترها على المطلوب.
نعم، يمكن تبرير ذلك بأنّ القوم حيث استعرضوا البحث عن هذه القاعدة في خلال البحث عن قاعدة الملازمة، وكان موضوع هذه الملازمة، أي ما حكم به العقل، مساوقاً للحُسْن والقُبْح العقليّين ـ على ما هو المشهور، لا على المختار من كون هذا العنوان ذا جهاتٍ عديدة ـ، انصبّ النزاع في كلامهم على الحُسْن والقُبْح العقليّين، ولا يعني ذلك أنّهم يحصرون البحث بطريقه العقلي. وكيف كان فلا بُدَّ من توسيع البحث من هذه الجهة، سواء تمّ التبرير المذكور أم لا.
والحاصلُ أنّ علينا البحث:
أوّلاً: عن الملازمة بين الحُسْن والقُبْح وبين الإرادة والكراهة.
وثانياً: عن الملازمة بين المصلحة والمفسدة وبين الإرادة والكراهة.
وثالثاً: عن الأدلة النقلية، كالضرورة والإجماع والروايات، التي تدَّعى دلالتها على عدم خلوّ الواقع عن الحكم.
التعليقة الثانية: إنّ ما أفاده كنقضٍ على الملازمة، من صدور الأفعال القبيحة من العقلاء، يحتاج إلى ضمّ ما به يتمّ الاستدلال، وهو أنّه مهما أمكن تعليق الإرادة التكوينية بالفعل القبيح فلا محالة يمكن تعلّق الإرادة التشريعية به؛ لأنّ الفرق بينهما في المتعلَّق؛ حيث إنّ التكوينية تتعلَّق بفعل النفس، والتشريعيّة بفعل الغير. وهذا واضحٌ.
ويَرِدُ عليه: إنّ التقوى الفاعلة في النفس الإنسانية مختلفة، والقائلون بالملازمة إنّما يريدون بها الملازمة بين الحُسْن والقُبْح العقليّين والإرادة والكراهة العقليّين. وما ذكره& عليها خارجٌ عن موضوعها من حيث الأساس؛ لأنّ العاقل المرتكب للقبيح ليس فاعلاً بما هو عاقلٌ، بل بما هو ظالمٌ أو شرٌّ أو متوهِّمٌ أو متخيّلٌ أو غير ذلك، ولا سيَّما إذا بنَيْنا على ما ذهب إليه نفسه& في حقيقة الحُسْن والقُبْح، من أنّ لكلّ قوّةٍ من القوى الإنسانية ملائماتٍ ومنافراتٍ من الأفعال، والحَسَن والقبيح فعلان: أحدهما ملائمٌ للقوّة العاقلة؛ والآخر منافرٌ لها، بحيث يستتبع أحدهما رضاها واستعجابها، والآخر سخطها واستغرابها.
والأوّل من النقاشين المتقدّمين منصبٌّ على نفس هذه النُّكْتة؛ لوضوح أنّ الفعل إذا كان ملائماً للقوة العاقلة فلا محيص من أن يستتبع ذلك رضاها واستعجابها به؛ وإذا كان منافراً لها فلا محيص من أن يستتبع ذلك سخطها واستغرابها منه، وليس القُبْح والحُسْن على ما تبنّاه إلاّ الاستعجاب والاستغراب.
وما أجاب عنه غيرُ تامٍّ، سواء في ذلك الوجدان أو النقض بعمل العقلاء؛ إذ من المعلوم أنَّ العاقل بما هو عاقلٌ لا يجد من نفسه كراهة للحُسْن العقلي، كما أنه لا يرتكب القبيح العقلي بما هو عاقلٌ، بل بما هو متخيّلٌ أو متوهّمٌ.
التعليقة الثالثة: إنّ ما ذكره من النقوض في الفقرة الثالثة لا يكفي مؤونة ما هو بصدده؛ وذلك للوجهين التاليين:
الوجه الأوّل: إنّ من الواضح أنّ القائل بالملازمة ـ سواءٌ في ذلك الملازمة بين حُسْن الفعل وإرادته، أو الملازمة بين المصالح والإرادة ـ لا يقصد إلاّ المصالح والمفاسد المستقرّة بعد الكسر والانكسار، وأمّا المصلحة الثابتة في الشيء قبل ملاحظة العناوين والجهات الثانوية فمن الواضح أنّه لا ملازمة بينها وبين الإرادة والكراهة. وما ذكره المحقِّق الخراساني& من النقوض إنّما يتمّ دون هذا الأساس؛ لوضوح عدم المصلحة النهائية بعد ملاحظة تنفُّر العباد، أو المصلحة المزاحِمة الأهمّ، أو مصلحة التسهيل في الصبيّ مثلاً، أو غير ذلك.
الوجه الثاني: إن البحث ينصبّ تارةً على الملازمة بين الحُسْن والقُبْح العقليّين وبين الإرادة والكراهة، وأخرى على الملازمة بينهما وبين البعث والزجر، أو الخطاب حَسْب تعبير الآخوند&. ومن الواضح: أنّ الكلام هاهنا إنما هو في القسم الأوّل، كما صرّح بذلك هو نفسه&، في تحرير محلّ النزاع، وفي مطاوي كلماته أيضاً، لكنّه ـ وللعجب ـ قد ساق البحث في الفقرة الثالثة من كلامه إلى البعث والزجر، فذكر أنّ المصلحة في المتعلَّق لا تكفي بنفسها للبعث والزجر؛ لاحتمال وجود المانع، مع أنّ الكلام إنما هو في الإرادة والكراهة. ولا وجه للخلط بين المسألتين.
توضيح ذلك: إنّ الإرادة وإنْ كانت من الأفعال النفسانية، إلاّ أنّها ليست فعلاً خارجيّاً تابعاً لأغراضٍ مستقلّة، ولا يعقل التفكيك بين ملاك المراد وملاك الإرادة، بل هي تابعةٌ للمراد تَبَعيّة المعنى الحرفي للمعنى الاسميّ، وهذا بخلاف البعث والزجر؛ فإنّهما فعلان خارجيّان تابعان لأغراضٍ خاصّة بهما، فقد يتوفَّر الملاك في فعلٍ ولا يتوفَّر في البعث إليه أو الزجر عنه.
والمحصَّل:
أوّلاً: إن الكلام إنّما هو في المصالح والمفاسد بعد مرحلة الكسر والانكسار، وتقديم الأهمّ على المهمّ، فلا تتمّ النقوض المذكورة.
وثانياً: إنّه لو افترضنا تماميّتها فسوف لا يثبت لها شيءٌ أكثر من عدم الملازمة بين الحُسْن والقُبْح وبين البعث والزجر، وأمّا الإرادة والكراهة، اللتان هما حقيقة الحكم وروحه، والبحث منصبٌّ عليهما، فلا، كما تبيَّن.
2ـ خلوّ بعض الوقائع عن الإرادة
الوجه الثاني: أنْ يُقال: إن الحَسَن، كما قد يكون لزوميّاً، كذلك قد يكون ندبيّاً غير لزوميٍّ؛ وهكذا القبيح. وهذا بخلاف الإرادة؛ فإنّها لزوميّةٌ دائماً فحَسْب. ومن الواضح أنّ الحَسَن غير اللزوميّ لا يصلح لأن تنقدح منه الإرادة اللزوميّة في نفس الآمر، فلا بُدَّ من خلوّ بعض الوقائع عن الإرادة.
وتوضيح ذلك: إن الإرادة التشريعية موازنةٌ للإرادة التكوينية. والفارق بينهما أمران:
أحدهما: إنّ الإرادة التكوينية تتعلَّق بفعل النفس، والإرادة التشريعية تتعلَّق بفعل الغير.
والآخر: كما أنّ الإرادة التكوينية هي الشوق المستَتْبِع لحركة العضلات نحو المطلوب، فكذلك الإرادة التشريعية هي الشوق المستَتْبِع لحركة العضلات نحو المطلوب، إلاّ أنّ المريد التشريعيّ يستخدم عضلات المخاطب كآلةٍ للوصول إلى المطلوب، والمريد التكويني يستخدم عضلات نفسه لذلك. وهذا القيد، أي (استتباعها لحركة العضلات)، فصلٌ مقوِّم لحقيقة الإرادة.
وهذا كلُّه يعني أنّه متى ما وُجدَتْ إرادةٌ تشريعية فلا بُدَّ من أن تكون على حدٍّ تستتبع حركة العبد، بمعنى أنّها لو وصلت إلى العبد، وكان العبد منقاداً لحركته نحو المراد، وهذا كما ترى لا يجامع إلاّ فرض كون الإرادة لزوميّةً؛ لأنّ الإرادة غير اللزومية لا يشترك فيها البلوغ إلى حدّ الاستتباع المذكور، وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لكون الحَسَن غير اللزوميّ مستَتْبِعاً لإرادةٍ لزوميّة، كما هو واضحٌ، وبالتالي سوف يكون هناك حالاتٌ خالية عن الإرادة والكراهة، وتكون القاعدة منتقضةً بها.
اعتراضٌ وجواب
وقد يُجاب عن هذا الوجه:
أوّلاً: بالمنع عن الحُسْن والقُبْح غير اللزوميّ، كما هو قضيّة ما عليه المحقِّق الأصفهاني&، من إرجاع المحاسن والقبايح العقليّة إلى حكمٍ عقليّ واحد، وهو: حُسْن العدل وقُبْح الظلم؛ إذ من الواضح أنّه لا مجال للحُسْن غير اللزوميّ على هذا الأساس.
ولكنّنا لم نخضَعْ دون القول بهذا الاتّجاه فيما سبق، وقلنا: إن الوجدان خير شاهدٍ على محاسن وقبائح متكثِّرة لا ترجع إلى حُسْن العدل وقُبْح الظلم؛ فإن الإيثار حَسَنٌ، وطلب الكمال حَسَنٌ، من دون ملاحظة عنوان العدالة ومدخليّتها فيهما. وقد وافَقَنا على ذلك جماعةٌ من الأصوليين، كالسيد الشهيد& وغيره، وهذا يعني توفُّر محاسن أو قبائح غير لزوميّة.
وثانياً: بأنّه لا وجه لحصر الإرادة التكوينية باللزومية؛ لوضوح أنّ اقتضاءَها للتحرُّك ـ فيما إذا كانت مستَتْبِعةً له ـ مختلفةٌ بالشدّة والضعف، بمعنى أن اقتضاءَها للتحرُّك قد تكون على درجةٍ توجب داعياً غيرَ أكيدٍ في نفس العبد، وهذه هي الإرادة غير اللزومية. فلزومية الإرادة وعدمها تابعةٌ لشدّتها وضعفها، وبما أنها تنقسم إلى شديدة وضعيفة بلا رَيْبٍ ـ خلافاً للمحقِّق النائيني&([29]) ـ فلا محالة تكون لزوميّةً عند الضعف.
نعم، نفس التحرُّك الخارجي من العبد لا يتّصف بالشدة والضعف دائماً، وإنْ اتّصف بهما غالباً ـ إمّا باعتبار دفع الموانع؛ وإمّا باعتبارٍ آخر ـ، إلاّ أنّ اقتضاء التحرُّك مختلفةٌ دائماً ـ كما عرفْتَ ـ، حَسْب اختلاف درجة شوق المولى إلى الفعل، الناتج من اختلاف درجة المصالح الواقعية.
وثالثاً: بأنه لو سلَّمنا بأنّ الحُسْن قد يكون غير لزوميٍّ، وسلَّمنا أن الإرادة التكوينية لا تكون إلاّ لزوميّةً، فإننا لا نسلِّم قياس التكوينيّة بالتشريعيّة، ومن ثمّ إسراء ما في أحدهما من الخصوصية إلى الأخرى.
توضيح ذلك: إنّ تمامية الاستدلال موقوفةٌ على الموازنة بين الإرادتين، فيُقال عندئذٍ: إنّه إذا ثبت عدم الملازمة بين حُسْن الشيء وإرادته تكويناً؛ وذلك لكون الحُسْن غيرَ لزوميٍّ في بعض الأحيان، فسوف يثبت عدم الملازمة بين حُسْن الشيء وإرادته تشريعاً؛ لنفس النُّكْتة؛ فإن الإرادتين من سنخٍ واحدٍ، وكلّ ما يمتنع في إحداهما يمتنع في الأخرى.
والجواب: إنّه لا دليل على هذه الموازنة؛ لوضوح أنّ إرادة فعل الغير لا تكون محرِّكةً لعضلات الآمر نفسه، ولا لعضلات المخاطب، وإنما هي حقيقةٌ تكوينية نفسانية متعلِّقة بفعل الغير، لها مراتب عديدة، بين شديدةٍ تستتبع عدم الرضا بالترك، وضعيفة لا تستتبع ذلك. وهذا بخلاف الإرادة التكوينية، فإنها؛ لكونها متعلِّقةً بفعل النفس، محرِّكةٌ لعضلات المريد، ولا معنى ـ على الفرض، لا على ما هو الحقّ، كما سبق ـ للشدّة والضعف فيها، كما عليه عدّةٌ من الأصوليين.
ورابعاً: بأنه لو سلَّمنا بالأمور الثلاثة المتقدِّمة، أي كون الحُسْن غيرَ لزوميٍّ أحياناً، وكون الإرادة التكوينية لزوميّةً دائماً، وكون الإرادة التشريعيّة تابعةً في الخصائص للتكوينيّة، فإننا لا نسلِّم بأنّ الحُسْن غير اللزوميّ لا يستتبع إرادةً لزوميّة؛ وذلك لأننا لو افترضنا استتباع الإرادة للتحرُّك يساوق كونها لزوميّةً أمكن القول مع ذلك بالملازمة بين الحُسْن غير اللزوميّ وبين الإرادة اللزوميّة؛ وذلك لأنّ العاقل بما هو عاقلٌ إذا علم بالحُسْن والقُبْح غير اللزوميّين، وعرف الرجحان الموجود في الفعل أو الترك، تحرَّك لا محالةَ إلى إتيان الحَسَن وترك القبيح. ولو اتفق أحياناً امتناعه من ذلك فليس ذلك إلاّ لتدخُّل الوَهْم أو الخيال أو الحسّ، وإلاّ فالعاقل بما هو عاقلٌ لا يترك الراجح أخذاً بالمرجوح، ولا يأتي بالمرجوح تَرْكاً للراجح.
إنْ قلتَ: هذا في خصوص المزاحمة، قلتُ: ما من مرجوحٍ يترك إلاّ وقد كان مزاحماً للأخذ براجحٍ، وما من راجحٍ يؤخذ إلاّ وقد كان مزاحماً بترك مرجوحٍ، فافهَمْ جيّداً. هذا في الإرادة التكوينيّة.
وتطبيقُها في التشريعيّة أنّ العاقل بما هو عاقلٌ إذا أدرك الحُسْن غير اللزوميّ في فعل الغير اشتاق إليه، وتكوَّنت لديه إرادةٌ إلى ذلك الفعل؛ أداءً لما يقضي به العقل، وبالتالي تصدّى لتحصيله، والتسبّيب إلى تحريكه، وجعل الداعي في نفسه، وذلك بالبعث نحو الفعل، وهذا يعني أن الحُسْن غير اللزوميّ قد استتبع إرادةً لزوميّة ـ أي مؤدِّيةً إلى التحريك، كما يزعمه القائل ـ، فتأمَّلْ جيّداً.
3ـ بطلان انحصار الأمور في القبيح والحَسَن
الوجه الثالث: إن الملازمة المذكورة إنما تجدي في المقام إ ذا ثبت انحصار الأمور والأشياء في القبيح والحَسَن، بأن لا يكون هناك واقعةٌ إلاّ وهي إمّا حَسَنة أو قبيحة، ولكنّ التالي باطل؛ لعدم البرهان عليه، لو أريد به عدم الخلوّ ولو بالعناوين الثانوية، وإنْ كان مظنوناً أو ممّا يطمأنّ به؛ ولشهادة الوجدان على خلافه، لو أريد به العناوين الأوليّة وذوات الأشياء.
ونستخلص من جميع ذلك قصورَ الطريقة الأولى عن إثبات المطلوب، لا لعدم الملازمة بين الحَسَن والقبيح وبين الإرادة والكراهة؛ بل لعدم الدليل على حصر الوقائع في الحَسَن والقبيح، ولو بالعناوين الثانوية.
هذا من جهة قصور هذه الطريقة عن إثبات الملازمة بين حُسْن الفعل وإِرادته.
وأمّا الملازمة بين حُسْنه وتوجُّه الخطاب إليه، أو فقُلْ: الإنشاء بداعي جعل الداعي، فهناك مانعٌ عامّ يعيق إثباتها، وهو أنّ الخطاب بما أنّه فعلٌ خاصّ، وإنْ كان ناشئاً عن العلم بالملاك وتوفُّر الإرادة، إلاّ أنه تابعٌ أيضاً لمصالح مستقلّةٍ فيه أو مفاسد كذلك، كما تقدَّمت الإشارة إلى ذلك فيما سبق. فمجرّد إثبات الحَسَن والقبيح أو الإرادة والكراهة لا يكفي مؤنة إثبات الخطاب بعد إمكانية ابتلائه بالموانع.
نعم، غاية ما يمكن أن يُقال عن ذلك هو اقتضاء الإرادة والكراهة للبعث والزجر، وأمّا فعليّة هذا الاقتضاء فمرهونةٌ بإحراز عدم المانع من البعث والزجر، وأنَّى إلى ذلك من سبيلٍ قطعيّ؟
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) أحد الفقهاء البارزين، ومن أبرز أساتذة الفكر والفلسفة. رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران. يُعَدّ أحد أبرز نقّاد بعض التيّارات الإصلاحيّة.
([1]) يمثِّل هذا البحث تقريراً لمحاضرات الشيخ الأستاذ صادق اللاريجاني(حفظه الله)، في دَوْرته الأصولية الثانية، عندما كان يبحث في مبادئ علم الأصول عن المبادئ المتعلِّقة بالحكم الشرعيّ. وقد استغرق البحث عن هذه المسألة تسعة مجالس تقريباً، لمدّة أسبوعين أو أكثر من السنة الدراسيّة (1426 ـ 1427هـ).
وقد ألحَقْنا بها ما أفاده سماحته بعدها، أو ما كان له دَخْلٌ في إغناء البحث، من تنسيقاتٍ أو زياداتٍ أو تقديماتٍ وتأخيراتٍ، ممّا قد صحَّحه سماحته بالكامل، بعد الملاحظة النهائية سَطْراً بعد سطرٍ. وقد أثبتنا في الهامش بعض الأمور ممّا قد لا يخلو من فائدةٍ ـ وهي مُلاحَظَةٌ أيضاً، ومؤيَّدة في الغالب ـ، وترَكْنا بعضاً آخر عسى أن يتيسَّر الكلام عنها في مجالٍ أوسع إنْ شاء الله. وزعمي أنّ مقتضى طبيعة هذه المسائل، التي لم يشبع البحث عنها مستقلاًّ لدى الأصحاب، أن تكون بحاجةٍ أكثر إلى تضارب الحجج والآراء فيها، والعصمةُ عند أهلها، والله المستعان.
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 1: 25، 1425هـ.
([3]) أبو الحسن الشعراني، المدخل الى عذب المنهل: 325، 1373هـ.ش.
([4]) المحقِّق الخراساني، درر الفوائد: 132، 1417هـ.
وفي حاشية المشكيني على الكفاية 2: 28 (منشورات دار الحكمة): «ويشهد لما ذكرنا من أنّ عدم الخلوّ إنّما هو في الأحكام الواقعية، لا الفعلية، ما نقل عن سيِّد الموحِّدينﷺ: إن الله تعالى سكت عن أشياء، ولم يسكت عنها نسياناً…، الخبر. (وسائل الشيعة 18: 129 الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح61)، فإن نسيانها كنايةٌ عن عدم بلوغها الى المرتبة الفعلية». والصحيح: «عدم نسيانها» وإلاّ كانت دالّةً على العكس، كما لا يخفى.
([5]) المحقِّق الخراساني، درر الفوائد: 249.
([6]) التقوي الاشتهاردي، تنقيح الأصول (تقرير بحث القائد) 2: 115، مؤسَّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1418هـ.
([7]) الفاضل اللنكراني، معتمد الأصول 1: 123، 1423هـ.
([8]) هذا على المشهور؛ وأما على ما ذهب إليه المحقِّق الأصفهاني&، من المنع عن الإرادة والكراهة في أحكام الله تعالى، فمن الواضح أنّ خلوّ الواقع منهما لا يعني خلوّه من البعث والزجر؛ فإنهما منبعثان عنده عن المصالح والمفاسد، لا عن الإرادة والكراهة، فيتَّجه البحث عندئذٍ حتّى على القول بخلوّ الواقع عنهما.
([9]) وفي حاشية المشكيني على الكفاية أنّ عدم الخلوّ لا ينافي إمكانه، حيث قال: «وهذا أيضاً ممكنٌ ولا ينافيه عدم خلوّ الواقعة عن الحكم؛ لأنه لا ينافي دعوى الإمكان». (أبو الحسن المشكيني، الحاشية على الكفاية 2: 72، قم المقدَّسة، انتشارات لقمان، 1413هـ).
([10]) زين الدين العاملي (الشهيد الثاني)، تمهيد القواعد: 321، مكتب الإعلام الإسلامي، 1214هـ.
([11]) المحقِّق الخراساني، فوائد الأصول: 313، 1407هـ.
([12]) السيد روح الله الموسوي الخميني، مناهج الأصول إلى علم الأصول 2: 18، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، 1415هـ.
([13]) الميرزار حبيب الله الرشتي، بدايع الأفكار: 386، الطبعة الحجرية.
([14]) الشيخ محمد حسين الأصفهاني، الفصول في الأصول: 85، 1420هـ.
([15]) الشيخ محمد تقي الأصفهاني، هداية المسترشدين: 341، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المقدّسة.
([17]) الكلانتري، مطارح الأنظار 2: 339، 1425هـ.
([18]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 2: 185، 1425هـ.
([19]) لا يبعد أن يكون مراده بالدليل هو الدليل العقلي؛ نظراً إلى المقابلة بينه وبين السنّة والإجماع.
([20]) محمد حسين الأشتياني، بحر الفوائد 1: 86، الطبعة الحجرية، 1404هـ.
([21]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 2: 145.
([22]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 469، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1417هـ.
([23]) المحقِّق الخراساني، درر الفوائد: 71، 1410هـ.
ولعلّ الجَمْع بين هذا وبين ما سبق نقله من فوائد الأصول هو المنع من الدليل العقلي، وإثبات القاعدة بالدليل النقلي.
كما يحتمل بملاحظة السياق أن يكون كلامه هذا ناظراً إلى مسألة الاشتراك فحَسْب، بمعنى أنّ الإجماع والضرورة قاضيان باشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل. ويضعِّفه ما سبق منه من اختصاص القاعدة بالحكم غير الفعليّ.
ولكنّ الغالب على ظنّي أنّ الأكثر من هذه الإجماعات المحكيّة والتواترات المدّعاة ليست إلاّ لجهة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، دون مسألة الخلوّ وعدمه.
كما يحتمل أن يكون ذلك كلّه بناءً على مسلك القوم، لا على مختاره؛ أو يكون من التبدُّل في الرأي.
ويضعِّف الكلَّ تصريحه في المصدر الأول (الفوائد) ـ بعد قليلٍ ـ بأن الواقعة لا تخلو من حكمٍ، كما هو مذهبنا، وقد عاتب صاحب (وقاية الأذهان) صاحب الكفاية على هذا التهافت، فراجِعْ: الشيخ محمد رضا الأصفهاني، وقاية الأذهان: 348، 595، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المقدّسة، 1413هـ.
وكيف كان فتواتر الأخبار وقيام الإجماع على ذلك ليس بتلك الدرجة التي لا يختلف فيها اثنان، ولذلك نرى الشيخ، على ما في (المطارح)، يقول: «كما يُستفاد من جملةٍ من الأخبار». وكذا في الهداية في الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئي&): «وادّعى بعضهم تواتر الأخبار على أنّ له تبارك وتعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم به والجاهل». وهذا ظاهرٌ أيضاً في مسألة الاشتراك، لا في الخلوّ وعدمه. كما يتَّضح بالمراجعة. وللتحقيق مجالٌ.
([24]) الشيخ محمد تقي البروجردي، نهاية الأفكار 4 (ق2): 30، 1422هـ.
([25]) السيد محمد الواعظ البهسودي، مصباح الأصول: 3، 445، مكتبة الداوري، قم، 1417هـ.
([26]) المحقِّق الخراساني، فوائد الأصول: 312، 1407هـ.
([27]) لا يخفى أنّ الشوق حالةٌ نفسيّة وجدانيّة، وتوفُّرها في بعض ما يُكْره عليه الإنسان قد لا يساعده الوجدان؛ فإن مجرّد كون الفعل المكروه مقدّمة لدفع ما هو أشدّ كراهةً منه قد لا يكفي سبباً لتلك الحالة النفسيّة، وإنْ أصرّ على ذلك شيخنا الأستاذ (حفظه الله).
([28]) المحقِّق الخراساني، فوائد الأصول: 312.
([29]) الشيخ محمد علي الكاظميني، فوائد الأصول (تقرير بحث الشيخ النائيني) 1: 135 ـ 134، 1402هـ.