الشيخ صادق اللاريجاني(*)
بقلم: الشيخ محمد حسن القمّي([1])
2ـ طريقة المصالح والمفاسد الواقعيّة
والأفضل أن نعمِّم الكلام عن خصوص الحُسْن والقُبْح الى المصالح والمفاسد الواقعية، فندّعي الملازمة بين إدراكها وبين الإرادة والكراهة، وبما أنّ الله تبارك وتعالى عالمٌ بجميع المصالح والمفاسد الكامنة والظاهرة صحّ القول بهذه الملازمة في شأنه تعالى شأنه.
والمشكلة الرئيسة التي نواجهها في هذه الطريقة هي أيضاً: إثبات عدم خلوّ واقعةٍ من الوقائع من المصلحة أو المفسدة.
والتحقيق أنّ الواقعة بعد تضارب المصالح والمفاسد فيها لا يخلو أمرُها من أحد وجوه ثلاثة: فإمّا أن تكون ذات مصلحة؛ وإمّا أن تكون ذات مفسدة؛ وإمّا تكون خاليةً من أيّ ملاكٍ مفروض، وهذا أيضاً على قسمين؛ إذ قد تكون خاليةً منهما رأساً ومن البداية؛ وقد تكون فيها من كلا نوعَيْ الملاك، أعني: المصلحة والمفسدة؛ إلاّ أنهما تساقطا بعد تساويهما وعدم رجحان أحدهما على الآخر، فبقيت الواقعة كأنّها خاليةٌ من أيّ ملاكٍ.
والكلام في الوجهين الأوّلين يشابه تماماً ما تقدّم في الطريقة الأولى في تقريب الملازمة، وما يَرِدُ عليها من الإشكالات والإجابة عنها.
وأمّا الوجه الثالث بكلا قسمَيْه فهو على نحوَيْن:
فتارةً يوجد هناك ما يقتضي جعل الإباحة لتلك الواقعة، فالإباحة المجعولة في مثل ذلك إباحةٌ اقتضائية، كما إذا كان هناك مصلحةٌ في تسهيل الأمر على العباد وإطلاق عنانهم في تلك الواقعة.
وأخرى لا يتوفَّر ما يقتضي ذلك، والإباحةُ في هذا القسم إباحةٌ لا اقتضائية.
وقد حاول الإمام الخميني& أن ينقض على القاعدة بهذا النحو الأخير، على أساس أنّه لا معنى لجعل الإباحة في مثل ذلك، بعد أن كان الفعل خالياً من أيّ ملاكٍ يدعو إليه؛ فإنّه لغوٌ، كما أنّه لا مجال لتحقيق الإرادة والكراهة فيه أيضاً؛ لأنهما من توابع العلم بالمصالح والمفاسد، ولا مصلحة ولا مفسدة على الفرض في البين، وهذا يعني أنّ الإباحة في مثل ذلك إباحةٌ عقليّة بَحْتة.
قال في (مناهج الأصول): وثانياً: لم يقُمْ دليلٌ على عدم خلوّ الواقعة من الحكم، بل الدليل على خلافه؛ فإنّ الواقعة لو لم يكن لها اقتضاءٌ أصلاً، ولم يكن لجعل الإباحة أيضاً مصلحةٌ، فلا بُدَّ أن لا تكون محكومةً بحكمٍ، والإباحة العقلية غير الشرعيّة المدَّعاة…إلخ([2]).
والإنصاف أنّ افتراض كون الفعل خالياً من أيّ ملاكٍ يدعو الى البعث والزجر، ولو بالعناوين الثانوية الطارئة، بعيدٌ جدّاً، كما عرَفْنا مثلَ ذلك في الحُسْن والقُبْح، وهذا مما يؤدّي إلى الاطمئنان بأنّ الفعل ـ أيّ فعلٍ ـ لا يخلو إما أن يكون ذا مصلحة؛ أو ذا مفسدة، إما بنفسه أو بالعناوين العَرَضيّة الثانوية، كما يشهد به الوجدان.
إلاّ أنّ هذا المقدار من البيان قد لا يكفي لإثبات القاعدة إثباتاً علمياً كلِّياً مبرهناً، فنقول في هذا الصدد: إنّ الجواب على ذلك يرتبط بما يتخذ من موقفٍ في تفسير حقيقة الإباحة كحكمٍ شرعيّ وما يسبقها من ملاكٍ وإرادة، ويستصعب الأمر فيها إذا قيست الى أخواتها، كالوجوب والحرمة؛ حيث إنها أحكامٌ تتعلَّق بالأفعال أو التروك في المراحل الثلاث، أعني: الملاك والإرادة والإنشاء، بمعنى أنّ الملاك في الوجوب مثلاً منصبٌّ على الفعل، كما أنّ الشوق والإنشاء منصبّان عليه أيضاً، وهذا بخلاف الإباحة؛ إذ المفروض أنّ متعلق الإنشاء فيها ليس متعلّقاً للملاك والإرادة.
فهل الإباحة غير مسبوقةٍ بشيءٍ منهما؟ وكيف ذلك، بعد افتراض تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد؟! أو أنّ الملاك والإرادة فيها منصبّان على شيءٍ آخر غير متعلّق الإنشاء؟ وما هو ذاك الشيء؟
وقد عرفنا في الأبحاث المتقدّمة أنّ هذه الصعوبة قد أدَّتْ ببعض المحقِّقين إلى القول: إنّ الملاك في الإباحة قائمٌ بنفس الجعل. كما عرفنا هناك أيضاً ما يوهن هذا الاتجاه، بحيث يحتِّم علينا أن نحملها على السَّهْو والمسامحة؛ بداهة أنّه لو كان الملاك قائماً بنفس الجعل كان معناه السقوط بنفس الثبوت. مضافاً إلى أنّ الجعل يلغو عندئذٍ بالنسبة إلى المكلَّفين، ولا يعود إليهم من ذلك أيّ نفعٍ، كما هو واضحٌ. وسيأتي في الأبحاث القادمة ما تنحلّ به هذه العقدة.
ومجمل القول: إنّ الأفضل أن يقال: إنّ الملاك في الإباحة الاقتضائية قائمٌ بنفس إرخاء عنان العبد وإطلاقه، وهذا شيءٌ غير الجعل الشرعي للإباحة، ولا يسقط بنفس الثبوت، كما لا يكون لَغْواً بالنسبة إلى المكلَّفين. والتفصيل في موضعه.
والذي نريد أن ندَّعيه في المقام هو القول بتوفُّر هذا الملاك؛ أعني ما يقتضي جعل الإباحة ـ بالوجه الذي عرفْتَ إجماله ـ في كلّ موردٍ لا ملاك فيه، أو لا ترجيح لأحد الملاكين على الآخر؛ وذلك بدعوى أنّ التسهيل وإطلاق العَنَان بنفسه مصلحةٌ تكفي ملاكاً لجعل الإباحة، من دون أن يلاحظ أنّه يؤدّي إلى ملاكٍ آخر أو لا يؤدّي، فنفسُ كون المكلَّف مطلق العنان ومرخّصاً في مقام العمل، بحيث لا يحسّ بالضيق([3]) والكلفة من ناحية الشريعة، أمرٌ مشتملٌ على مصلحةٍ عامة، وهذا معنى ما قد يُقال من أنّ مصلحة التسهيل مصلحةٌ عقلائية نوعيّة.
وهذا الإطلاق والتسهيل يقتضي جعل الإباحة الشرعية، لولا الموانع الرادعة عنه. وأمّا تعلّق الإرادة والشوق بهذا الإرخاء والإطلاق فلا يمكن أن يمنع عنه أيّ مانعٍ. كما سبق أن عرَفْنا أنّ الإرادة هي لبُّ الحكم وروحه.
نعم، يبقى علينا تحقيق أنّ هذه الإرادة تشريعيّةٌ بفعل الغير أو أنّها إرادةٌ تكوينيّة تتعلَّق بفعل النفس؛ بدعوى أنّ الإباحة وإطلاق العَنان ممّا يتقوّم بالجعل الشرعي، ولا وجود لها وراءه. وهذا ما ينبغي التكلُّم عنه في الأبحاث الآتية، في ما تفترق به الأحكام الخمسة عن بعضها.
ونحن نعتقد أنّ هذه الدعوى ـ أي كون إطلاق العنان بنفسه مصلحةً تدعو الى جعل الإباحة ـ ممّا يشهد به الوجدان، وهو خيرُ برهانٍ للإيقان، ولا أقلَّ من الاطمئنان.
وهناك طريقةٌ أخرى، لا مجال للتشكيك فيها، وهي: إنّ إطلاق العنان والإرخاء إنْ لم يكفِ بنفسه مصلحةً مقتضيةً لجعل الإباحة، فلا أقلَّ من تسبيبه تمكّن المكلَّف من إسناد الفعل والترك إلى المولى سبحانه؛ فإنّ الإسناد كما يتيسَّر بالوجوب والحرمة أو الندب والكراهة، كذلك يتيسَّر بالإباحة.
ومن الواضح أنّه لا مجال بعد ذلك لافتراض الفعل خالياً من أيّ ملاكٍ، بل هناك ملاكٌ يدعو دائماً إلى جعل الإباحة، فيما إذا كان الفعل خالياً من ملاكٍ في وجوده وعدمه، وهذا يعني أنّ الإباحة لا تكون إلاّ اقتضائيّةً، خلافاً لما هو المشهور من انقسامها إلى: الاقتضائية؛ واللا اقتضائية.
ولا يخفى أنّه لا مجال للتضارب بين هذه المصلحة وبين ما قد يكون في الفعل أو الترك من مفسدةٍ، ومن ثمّ خلوّ الفعل والترك من أيّ ملاكٍ يدعو إلى الجَعْل، كما قد يُتوهَّم؛ فإنّ هذه المصلحة لا تخضع للتضارب والانكسار؛ لأنّ الفعل ـ بعد افتراض هذا التضارب والتساقط ـ لا يزال يحسن إسناده إلى المولى سبحانه، فيكون فيه اقتضاءٌ لجعل الإباحة والرخصة.
بل يمكن أن يُقال: إنّ هناك طريقاً ثالثة، وهي: إنّ إرخاء العَنان بنفسه مطلوبٌ المولى، من دون نظرٍ إلى مصلحة التسهيل، بمعنى أنّ مطلوب المولى هنا مثل مطلوبية إرخاء العَنان عند العقل، فكما أنّه يرى المكلَّف مرخيّ العَنان عند تساوي الملاكات، فكذك المولى، وهذا يعني أنّنا نقطع بأنّ إرخاء عنان العبد ثابتٌ عند الشارع أيضاً، ولو لم يجعل على طبقه إباحةً شرعيّة؛ فإنّ هذا الثبوت بنفسه كافٍ لإضافة إرخاء العنان إلى المولى في وعاء التشريع.
والمستَخْلَص من جميع ما تقدَّم أنّ هناك طريقتين عقليتين لإثبات المطلوب:
أولاهما: دعوى عدم خلوّ الوقايع من الحُسْن والقُبْح، وبما أنّ الله تعالى عالمٌ بجميع ذلك فلا بُدَّ أن تكون لديه إرادةٌ أو كراهةٌ له.
والمشكلة الرئيسة في هذه الطريقة هي عدم الدليل على حَصْر الأمور في الحَسَن والقبيح، فلا يمكن في ضوئها الاحتجاج بالقاعدة في مقام البحث، وإنْ صحّ الاستناد إليها في مقام الاستنباط، بعد توفُّر الوثوق والاطمئنان.
والثانية: دعوى عدم خلوّ الوقايع من المصالح أو المفاسد، المقتضية للجعل والتشريع بالنسبة إليها.
وهذه طريقةٌ تامّة قطعيّة في ضوء ما سبق، وإنْ لم يثبت بها، ولا بسابقتها، أكثر من الإرادة والكراهة كما عرفْتَ. هذا كلُّه في المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية: المدارك النقليّة للقاعدة
أشَرْنا في ما سبق إلى أنّ الأصحاب لم يتعرَّضوا لهذه الجهة بالتفصيل، واقتصروا على القول: إنّ المسألة ضروريةٌ؛ أو إنها محلّ الاتفاق والإجماع؛ أو إنّ الأخبار متواترةٌ بها؛ أو غير ذلك من التعابير المختلفة.
ولا يخفى أنّه لا مجال في المقام لدعوى الضرورة، بقدر ما تقدَّم من إنكار بعض كبار الأصحاب، كالمحقِّق الخراساني والمحقِّق الرشتي والإمام الخميني([4]).
وأمّا الإجماع فحيث إنه مدركيٌّ قطعاً؛ بعد تمسُّك الأكثرين به، ولو بالإشارة والإضمار، أو أنّه محتمل المدركيّة في الأقلّ؛ إذا احتمَلْنا أنّ استنادهم إليه لم يكن إلاّ تبريراً لما انتقل إليهم من ارتكازٍ، فلا مجال للاستناد إليه في المقام.
مضافاً إلى ما قد يُقال من أنّ المسألة ليست تعبُّديّةً بَحْتة، بل المقصود فيها كشف الواقع، وأنّه هل تخلو واقعةٌ من حكمٍ أم لا؟ فلا ينبغي الاستناد فيها إلى ما لا يفيد اليقين بالإتقان، كما قد يحمل عليه ما تقدَّم عن المحقِّق الرشتي& في هذا المقام، وإنْ كان لا يخلو عن إشكال أو إبهام؛ لأنَّ المسألة وإنْ كانت ذات وجهة كلامية، وقد حقِّق في محلّه أنّه لا مجال للتعبُّد في ما كان المطلوب فيه الحصول على نفس الواقع؛ إلاّ أنها تدرس في المقام كمبدأ للمجالات الفقهيّة والأصوليّة، وهي؛ باعتبارها باحثةً عن تعيين الوظيفة العمليّة، ممّا يصحّ تدخُّل التعبُّد والتنزيل فيها، ويكون من الصحيح حينئذٍ أن يستند في إثبات المسألة الى الإجماع والأخبار.
ومهما كان فالأمر ينتهي أخيراً إلى الأخبار الكثيرة التي يستند إليها في هذا الصدد.
ولا يفوتنا، قبل استعراضها ودراستها، أن نشير إلى ما يبحث عنه في أبحاث فلسفة الدين بعنوان: نطاق الدين ومدى سعته، وما بين ذاك البحث وهذه المسألة من الصلة والترابط؛ والغرض أنّ الروايات الآتية واضحة الدلالة في تلك المسألة، دون المقام؛ إذ لا تخلو دلالتها عليه من غموضٍ أو إبهام.
وتوضيح الحال: اختلفت الكلمة في أنّ الدين الحنيف هل يتكفّل جميع الشؤون الدخيلة في الحياة الإنسانية، من العقائد والمعارف والأخلاق والعبادات والمعاملات والشؤون الكونيّة والعلوم التجريبية وغيرها، كما هو المختار؛ أو يختصّ بما له دخلٌ في هداية الإنسان وإرشاده إلى السعادة الأبدية، كما عليه عددٌ من الأعلام؛ أو أن الدين لا يتعرّض إلاّ للمجالات الشخصية والوظايف الفردية، كالعبادات وقسم من الأخلاقيات، كما عليه الكثير من أتباع الغربيّين المنتحلين شريعة الإسلام؛ أو غير ذلك من الاتجاهات الخارجة عن قيود التديُّن والتشرُّع؟
وعمدة المستند للمختار ـ مضافاً إلى الوجوه العقلية ـ هي المستندات النقلية، المتمثِّلة في: آية التبيان الشريفة؛ وما ورد من الأخبار في تفسيرها أو ما تدلّ منها على ذلك على حدةٍ، من دون نظر إلى الآية الشريفة. وسوف يتّضح ذلك أكثر من خلال الأبحاث الآتية، فانتظِرْ.
وكيف كان فما يمكن الاستدلال به في بادئ النظر على المطلوب عدة روايات:
الرواية الأولى: ما رواه الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله× قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيءٍ، حتى واللهِ ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن، إلاّ وقد أنزله الله فيه»([5]).
والرواية معتبرةٌ بناء على المختار من اعتبار روايات كتاب الكافي.
وقد فسَّر الإمام× بذلك قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. واستظهر منها كثيرٌ من الأعلام؛ بقرينة ما في ذيلها من كون القرآن هدايةً ورحمة؛ وكذا غيرها من القرائن العقلية، اختصاص نطاق الدين بما يدخل في السعادة الأبدية للإنسان، فلا مجال للأخذ بالعموم المستفاد من «كلّ شيءٍ». ولا يبعد أن تكون الرواية المتقدّمة مؤيِّدةً لهذا الاستظهار.
ولكنّ الصحيح هو الأخذ بعموم الحكم، بعد أن كان الظاهر منها الفرق بين صفة البيانيّة والهداية، فكأنّ القرآن موصوفٌ بعدة أوصاف مختلفة، منها: إنّه تبيان لكلّ شيء، ومنها: إنّه هدىً ورحمة وبشرىً للمسلمين. ويشهد لهذا التعميم ما تعدَّدت روايته عن الأئمة الأطهار^، من علمهم بجميع ما كان وما يكون، بعد أن كان عندهم القرآن الذي هو تبيانُ كلّ شيء([6]). نعم، لا يمكن أن يكون القرآن بهذه الظهورات العُرْفية التي نفهمها كذلك، فلا بُدَّ أن يُراد به تلك المراتب والبواطن التي لا يمسّها إلاّ المطهَّرون، في كتابٍ مكنون، ولا يعزب عنه من مثقال ذرّةٍ، والله بكلّ شيء عليم.
وأمّا دلالة الرواية على ما نحن فيه فتقريبُ الاستدلال بها أنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الله تبارك وتعالى لم يترك شيئاً يحتاج إليه العباد إلاّ وقد أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله.
ولا يخفى على الناظر قصور الرواية في بادئ النظر عن إثبات المطلوب؛ إذ لا بُدَّ أن يكون في الفعل مصلحةٌ أو مفسدةٌ حتى يُقال: إنَّ الناس محتاجون إلى الحكم الشرعي؛ لكي يتمكّنوا من خلاله من استيفاء المصلحة ودفع المفسدة، وأما إذا كان خالياً عنهما فلا حاجة لهم حينئذٍ إلى الحكم.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ الرواية لا تدلّ على أكثر من توفُّر الجعل الشرعي في كلّ موضعٍ يحتاج إليه الناس، وأمّا أنّهم يحتاجون إلى الحكم في كلّ واقعةٍ فهذا ما لا دلالة لها عليه.
نعم، قد يقال: إنّ الحكم الشرعيّ بنفسه ممّا يحتاج إليه الناس؛ إذ يتيسّر إسناد الفعل والترك إلى المولى سبحانه، وهذا بنفسه من مصحِّحات الجعل الشرعي، على ما تقدَّم، وهكذا تصحّ دلالة ما ورد بهذا المضمون من الأخبار الكثيرة على المطلوب.
إلاّ أنّه لا يبقى حينئذٍ إطلاقٌ للقاعدة تشمل به بعض المواضع التي استند إليها فيه، وذلك مثل: مسألة الضدّ، على ما يأتي في الخاتمة؛ إذ إنّ الاحتياج مرفوعٌ بعد العلم بحرمة عدم الإزالة بناءً على ثبوت الملازمة في الضدّ العام، ولا تبقى حاجةٌ حينئذٍ إلى العلم بحكم الصلاة التي هي ملازمةُ الإزالة على الفرض؛ لأنّها غير جائزةٍ على أيّ حالٍ، سواء تعلَّق بها حكمٌ خاصّ أم لا.
الرواية الثانية: ما رواه الكليني، عن محمد بن يحيى، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة قال: سأل أبا عبد الله× بعضُ أصحابنا عن الجَفْر؟ فقال: هو جلدُ ثورٍ مملوءٌ علماً، قال له: فالجامعة؟ قال: تلك صحيفةٌ، طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم، مثل: فخذ الفالج، فيها كلّ ما يحتاج إليه الناس، وليس من قضيّةٍ إلاّ وهي فيها، حتّى أَرْش الخَدْش»([7]).
وموضع الاستدلال هو الفقرة القائلة: «ليس من قضيّة إلاّ وهي فيها»؛ إذ قد يقال: إنّ المقصود بالقضيّة هو الواقعة والفعل، وكون القضية فيها إنّما هو بوجودها التشريعي، بمعنى أنّ لكلّ قضية حكماً شرعيّاً عند الله تعالى.
إلاّ أنّ الأشبه أنّ المقصود بالقضيّة هو ما قضى الله تعالى به، وحكم على وفقه، فالقضيّة تعني الحكم والتشريع، ويكون المعنى حينئذٍ: إنّه ما من حكمٍ شرعي إلاّ وهو فيه، وهذا أجنبيٌّ عن المطلوب. والتأكيد بأَرْش الخَدْش، الذي هو موضوع الحكم لا نفسه، إنّما هو باعتبار حكمه على أيّ تقديرٍ، سواء كانت القضية تعني الحكم أو الواقعة.
الرواية الثالثة: ما رواه الكليني، عن عليّ بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حسين بن المنذر، عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر×، قال: سمعتُه يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يَدَعْ شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله|، وجعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على مَنْ تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»([8]).
وكأنَّ صاحب الفصول& قد استند في ما حكَيْنا عنه سابقاً إلى مثل هذه الرواية، لما أشار إليه من أنّ لله تعالى في كلّ واقعةٍ حكماً، أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله.
وفقرة الاستدلال هي قوله×: «وجعل لكلّ شيء حدّاً»؛ إذ الظاهر أنّ المقصود بالحدّ هو الحكم، سواء كان إلزاميّاً أو ترخيصيّاً.
ولا يَرِدُ الإشكال بأنّ قوله×: «وجعل على مَنْ تعدّى ذلك الحدّ حدّاً» إنما هو في غير الإباحة بالمعنى الأعمّ.
والوجهُ في الدفع أنّ التعدّي عن الإباحة معقولٌ أيضاً، ولهذا نعتقد أنّ بعض الاحتياطات الفقهيّة خلاف الاحتياط.
وتؤيِّد المطلوب نفسُ هذه العبارة، أعني قوله×: «وجعل على مَنْ تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»؛ فإنّها تعني أنّ تلك الحدود قابلةٌ للتعدّي والعصيان، فلا تنطبق على الحدود الماهويّة المقدَّرة في مرحلة الخلق، بل ينحصر انطباقها على الحدود الشرعية.
والحاصلُ أنّ الظاهر تماميّة هذه الرواية في إثبات المطلوب، وقد ورد بهذا المضمون رواياتٌ أخرى، تبلغ ستّاً، جمعها الشيخ الحُرّ العاملي& في الفصول المهمّة([9]).
الرواية الرابعة: ما رواه الكليني أيضاً عن عليّ بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حمّاد، عن أبي عبد الله×، قال: سمعتُه يقول: «ما من شيءٍ إلاّ وفيه كتابٌ أو سُنّةٌ»([10]).
وقد كنّا نرى أنّ هذه الرواية وما ورد بمضمونها من الروايات لا دلالة لها على المطلوب، كما أنّ الأمر كذلك لو لم نلاحظ معها شيئاً آخر من القرائن الحافّة بغير هذه الرواية([11])؛ إذ مجرَّد ورود شيءٍ من الكتاب أو السُّنّة على شيءٍ لا يعني ثبوت الحكم الشرعي له، فرُبَما كان ذاك الشيء من المعارف والعقائد والأخلاقيات أو غيرها من الأبحاث الكونيّة، إلاّ أنّ الصحيح ـ كما تفطَّن إليه بعضُ حاضري مجلس البحث ـ تماميّة دلالتها على المطلوب، عندما نلاحظ القرائن الحافّة بها.
وتوضيح الأمر: إنّ أكثر هذه الروايات قد وردَتْ في ذيل الأخبار الناهية عن العمل بالقياس، وحيث إنّ القياس إنّما هو في الأحكام كان من الواجب أن يكون المقصود بهذه الأخبار أنّ لكل شيءٍ حكماً مبيَّناً في الكتاب والسُّنّة، وإلاّ لم يكن هناك تناسبٌ بين الردّ والمردود، كما هو واضحٌ.
إنْ قلتَ: إنّ القياس يجري كذلك في غيرها، كالعقائد، فليس من الواضح أن يكون المنع الوارد في الأخبار عن خصوص القياس في الأحكام؛ بل لعلّ المنع في الأخبار الدالّة على أنّ أوّل مَنْ قاس إبليس اللعين منصبٌّ على القياس في الاعتقاد.
وتوضيحه: إنّ ابليس لعنه الله قاس شرافة النار من الطين على شرافة نفسه من آدم، فزعم أنّه لمّا خُلق هو من النار، وهي أشرف ممّا خُلق منه آدم، فلا محالة يكون هو أشرف من آدم. مع أنّ هذا لا يكفي دليلاً على زعمه الفاسد؛ فإنّ الشرافة بيد الله تعالى، يخرج الحيّ من الميّت، والميِّت من الحيّ، والشريف من الوضيع، والوضيع من الشريف. وهذا كما ترى قياسٌ في الاعتقاد.
قلتُ: أوّلاً: إنّ القياس الدارج في عصر الأئمّة^ كان منصبّاً على الأحكام والحلال والحرام، كما يتَّضح بأدنى مراجعةٍ.
وثانياً: لو سُلِّم أنّ القياس كان مستعملاً في الأحكام وغيرها كفى ذلك لإثبات المطلوب أيضاً؛ لأنّه لا مجال للتشكيك في أنّ القياس كان يستعمل في الأحكام، ولو في الجملة، فيجب أن تدلّ هذه الروايات على عدم خلوّ الواقعة من الحكم الشرعيّ في الأقلّ، وإلاّ لم يصلح هذا التعليل، أعني «ما من شيءٍ إلاّ و…»، للردع عن القياس في الأحكام، كما ورد في بعض الأخبار؛ لنفس ما عرفْتَ من النكتة.
الرواية الخامسة: فقرةٌ من خطبة النبيّ| في حجّة الوداع، وقد رواها الكليني، عن عدّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضّال، عن عاصم بن حُمَيْد، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر× قال: «خطب رسول اللهﷺ في حجّة الوداع فقال: أيّها الناس، واللهِ، ما من شيءٍ يقرِّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتُكم به، وما من شيءٍ يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتُكم عنه…، الحديث»([12]). وقد ذكرها المحدِّث النوري& في المستدرك، نقلاً عن كتاب عاصم بن حُمَيْد، عن أبي حمزة، مثله([13]).
وتقريب الاستدلال أنّ الظاهر أنّ المراد بما يقرِّب من الله تعالى وجنّته هو المصالح الكامنة في الأشياء، كما أنّ المراد بما يبعِّد منها هو المفاسد كذلك، وقد دلّ النبيّ الأعظم| على كلّ ذلك بالأمر والنهي، وهذا يعني أنّه ما من واقعةٍ فيها مصلحةٌ أو مفسدةٌ إلاّ وقد أمر الله تعالى بها أو نهى عنها، وحيث إننا قد أثبَتْنا عدم خلوّ الوقائع من المصالح والمفاسد، بناءً على توفُّر مصلحة التسهيل والإضافة العبوديّة في كلّ واقعةٍ، كانت النتيجة عدم خلوّ الوقائع من الأحكام الشرعيّة.
ولا يخفى أنّ الاستدلال بها بهذا التقريب قد يعني أنّ المصالح والمفاسد الواقعيّة مقرِّبةٌ إلى الجنّة أو مبعِّدة عنها قبل أن يأمر بها النبيّ|، إذا افترَضْنا أنّ المقصود بالمقرِّبات والمبعِّدات ذلك، كما هو الظاهر من الرواية.
مع أنّ هذا لا معنى معقولاً له؛ إذ المصالح والمفاسد الواقعيّة وإنْ كانت لها آثارٌ تكوينية خاصّة، كما أنّ لها اقتضاء القُرْب والبُعْد، بمعنى أنّ ارتكابها وفَوْتها قد يسبِّب حالةً اقتضائية لارتكاب المعاصي وترك الفرائض، إلاّ أنه لا مجال للقول بكونها بأنفسها، ولو لم يعلم المكلَّف بها، مقرِّباتٍ ومبعِّداتٍ فعلية. وقد اتفقوا على نفي ذلك في مسألة التجرّي؛ إذ رأَوْا أن العقاب بالنار والثواب بالجنّة لا يترتَّب إلاّ على الدواعي، دون المصالح والمفاسد الواقعيّة.
والحاصلُ أنّه لا مجال للقول بأنّ المصالح والمفاسد الواقعيّة مقرِّباتٌ قبل تعلُّق الأمر والنهي بها.
ويبقى حينئذٍ أن يُراد بما يقرِّب إلى الجنّة أو يبعِّد عنها الأفعال الخارجيّة. إلاّ أنّ اتّصافها بصفة التقريب والتبعيد إنّما هو من جهة تعلُّق الأمر والنهي به. فالمعنى أنّه ما من شيءٍ يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النّار إلاّ وهو في جملة ما أمرتُكم به، وما من شيءٍ يبعِّدكم من الجنّة ويقرّبكم إلى النار إلاّ وهو في جملة ما نهيتُكم عنه.
ولكنّه خلافُ ظاهر الرواية، كما هو واضحٌ، ولا دلالة لها حينئذٍ على المطلوب، كما لايخفى على المتأمِّل.
أو يُراد بذلك ما تمّ حكمه من جانب العقل، كالكذب والظلم، ممّا لا يخفى كونها مقرِّبةً إلى النار ومبعِّدة من الجنّة، فإنّ اتصافها بالتقريب والتبعيد لا يتوقّف على تعلُّق الأمر والنهي بها.
وهذا أيضاً يخالف العموم المصرَّح به في الرواية، بقوله|: «ما من شيءٍ». ولكنّه أقرب الوجوه. وعدم دلالة الرواية على المطلوب بناءً على هذا الوجه أوضح من سابقه، فتأمَّلْ جيّداً.
الرواية السادسة: النبويّ المشهور المرويّ في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها، القائلة: «إنّما الأمور ثلاثة: أمرٌ بيّنٌ رشدُه فيُتبَّع؛ وأمرٌ بيّنٌ غيُّه فيُجتَنَب؛ وأمرٌ مشكلٌ، يُرَدُّ علمُه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله|: حلالٌ بيّن؛ وحرامٌ بيّن؛ وشبهاتٌ بين ذلك. فمَنْ ترك الشبهات نجا من المحرَّمات، ومَنْ أخذ بالشبهات ارتكب المحرَّمات، وهلك من حيث لا يعلم»([14]).
وتقريب الاستدلال بها ـ كما عن بعض المعاصرين([15]) ـ أنّ الأمور قد حصرت فيها في الحلال والحرام، وأمّا الشبهة فهي دائرةٌ بينهما، كما يظهر من الرواية، والمراد بالحلال معناه الأعمّ، فيكون المقصود أنّ الواقع لا يخلو أمرُه عن الحليّة أو الحرمة، والمكلَّف في فرض الشك مردَّدٌ بينهما، ومن الواضح أن هذا لا يجامع افتراض خلوّ الواقع من الحليّة والحرمة معاً.
ولكنّ الصحيح أنّ المقسم هنا هو المكلَّف الملتفت، ولا نظر للرواية إلى الواقع، حتى يُقال: إنّ الواقع لا يخلو من غيرهما.
ودعوى أنّه لو كان هناك في الواقع حالةٌ ثالثةٌ خاليةٌ من الحكم لكان من الواجب أن تكون داخلةً في أطراف الاشتباه، فلا تدور الشبهة بين الحلال والحرام فقط، مدفوعةٌ بأنّه لا ملازمة بين علم المكلَّف أو جهله وبين ما هو الواقع وراء ذهنه، فقد لا يكون هناك حكمٌ أصلاً، مع أنّ المكلَّف يتخيَّل دَوَران الأمر بين الحليّة والحرمة([16]).
نعم، تتمّ دلالة هذه الرواية أيضاً، بناءً على ما تقدَّم من انحصار الإباحة في الاقتضائية؛ إذ الفعل لا يكون خالياً من أيّ مصلحةٍ، فيكون مقتضياً لجعل الإباحة، بمعنى أنّ الفعل إذا لم يكن حراماً ولا واجباً ولا مندوباً ولا مكروهاً فهو مباحٌ بالإباحة الجَعْلية لا محالة؛ أو الإراديّة ـ إذا كان هناك ما يمنع من الجعل ـ، ومن ثَمَّ صحّ الحَصْر في الرواية.
ولكنّك خبيرٌ بأنّ هذا ليس من دلالة الرواية في شيءٍ، وإنّما هو الدليل العقلي المتقدِّم. وكيف كان فلا دلالة للرواية بنفسها، ولا بضمّ غيرها، على المطلوب.
هذه نبذةٌ من الروايات والأخبار التي يمكن أن يُدَّعى في بادئ النظر دلالتها على المطلوب. وفيها ما هو تامٌّ في الدلالة والسند، فيثبت به القاعدة. إلاّ أن التواتر المدَّعى عند الأصحاب غيرُ ثابتٍ عندنا.
المرحلة الثالثة: الدليل المركَّب من العقل والنقل
وقد خطر بالبال أخيراً أنّه بالإمكان الاستدلال على القاعدة بطريقةٍ ثالثة، مركّبةٍ من الدليل العقلي والنقلي.
وتقريبه أن يُقال: إنّ الوقائع الخارجيّة إنْ كانت ذات مصالح أو مفاسد فلا شَكَّ في عدم خلوِّها حينئذٍ من الحكم، وإنْ كانت خاليةً من أيّ مصلحةٍ أو مفسدة ـ وذلك على فرض عدم تماميّة ما سبق من انحصار الإباحة في الاقتضائيّة ـ فلا بُدَّ أن تكون محكومةً بشيء من الأحكام الأربعة، كما هو واضحٌ.
وحينئذٍ نستدلّ على جعل الإباحة الشرعية فيها ببعض ما ورد من الأخبار والآيات الدالّة على أنّ ما لا يكون حراماً في الشريعة فهو حلالٌ، كما قد يُدَّعى دلالة قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ (البقرة: 29) على ذلك.
وقد حاول جمعٌ من الفقهاء والمحدِّثين أن يثبتوا أنّ الأشياء كلّها على الحلّ، عدا ما استُثني منها؛ استناداً إليها وإلى مثلها من الآيات والأخبار، ومنها:
ـ ما في الكافي والمحاسن: قلتُ لأبي عبد الله×: أخبرني، جُعلتُ فداك، لِمَ حرَّم الله الخمر والدم ولحم الخنزير؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرِّم ذلك على عبده، وأحلّ لهم سواه، من رغبةٍ منه في ما حرَّم عليهم، ولا زهدٍ في ما أحلَّ لهم، ولكنّه عزَّ وجلَّ خلق الخَلْقَ، وعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلّه لهم وأباحه؛ تفضُّلاً منه تبارك وتعالى عليهم؛ لمصلحتهم، وعلم عزَّ وجلَّ ما يضرّهم، فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ وأباحه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلاّ به، فأمره أن ينال منه بقدر البُلْغة، لا غير ذلك([17]).
وفقرة الاستدلال هي قوله×: «وأحلّ لهم سواه»؛ فإنّه ظاهرٌ في حلِّية كلّ شيءٍ سوى ما حرَّمه على العباد. نعم، الظاهر أنّ المقصود بذلك خصوص الأطعمة، أو فقُلْ: إنّه المورد في الرواية، إلاّ أنها تتمّ دلالتها على المطلوب بانضمام عدم القول بالفصل بين المأكولات وغيرها؛ إذ لم يقُلْ واحدٌ من الفقهاء بالتفصيل في المقام بين الأكل وسائر الأفعال.
وبالجملة، فهذه طريقةٌ ثالثة مركَّبة من العقل والنقل. ولعلّ هناك بعضَ الآيات والروايات الأخرى لها دلالةٌ على حلِّية ما لم يُحرَّم، قد تظهر بالفحص والتأمُّل أكثر من ذلك.
خاتمةٌ: بعض المباحث الأصوليّة المتوقِّفة على هذه القاعدة
عَرَفْنا في ما سبق أنّ لهذه القاعدة تأثيراً مهمّاً في الأبحاث الكلاميّة، ولا سيَّما مسألة نطاق الدين الإسلامي ومدى سعته.
وأمّا الأبحاث الأصوليّة فقد توقَّف البحث في شطرٍ منها على هذا المبدأ، ونخصّ بالذكر منها:
أوّلاً: مسألة التخطئة والتصويب. وهي بذاتها أيضاً تدخل في عدّة أبحاث، كالاجتهاد والتقليد، وكذا في مسألة التعبُّد بالظنون عندما يعترض عليه باستلزامه التصويب أو تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، وكلاهما باطلٌ لا سبيل إلى الالتزام به، فقد استند إلى قاعدة نفي الخلوّ في تبرير بطلان التصويب حَسْب تقريبَيْه: المعتزلي؛ والأشعري.
وتوضيح الحال: إنّ التصويب قد يُراد به خلوّ الواقع من أيّ حكمٍ، مع قطع النظر عمّا تؤدّي إليه الإمارة ورأي المجتهد، فيكون الحكم الواقعيّ ما يؤدّي إليه نظر المفتي والأمارة، ولا واقع للحكم وراء ذلك، وهذا ما يُسمّى بالتصويب الأشعري؛ وقد يُراد به تقيُّد الأحكام الواقعيّة بعدم قيام الأمارة على الخلاف، فإنْ قامت تبدّلت الأحكام الواقعيّة إلى ما تؤدّي إليه الأمارة. وهذا ما يُسمّى بالتصويب المعتزلي.
أمّا القسم الأوّل فلا رَيْبَ في بطلانه؛ إذ لا معنى للأمارة وحجِّيتها إذا لم يكن هناك حكمٌ في الواقع.
وأمّا القسم الثاني فالأكثر على استحالته؛ لاستلزامه أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه، المستتبع للدَّوْر المَحَال، كما عليه القوم؛ أو اللَّغْوية، كما هو المختار، تَبَعاً لجملةٍ من الأعاظم، وخالف في ذلك الشهيد الصدر&؛ إذ رأى أنّ أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول أمرٌ ممكن، ولا يؤدّي إلى الدَّوْر، ومن هنا حاول إبطال هذا القسم من التصويب، بل كلا القسمين منه، من طريقٍ آخر، وهو كونهما مستلزمين لخلوّ الواقع من الحكم، فيبطلان بالضرورة، وهكذا تتوقَّف المسألة على قاعدة عدم الخلوّ([18]).
إلاّ أنّ الصحيح عندنا عدم توقُّف إبطال التصويب على هذه القاعدة؛ لما تقدَّم في محلّه من استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوعه، وإنْ صحّ عَدُّ هذه القاعدة مع ذلك من المبادئ الأحكامية؛ لتوقُّف البحث الأصوليّ عليها، ولو على بعض المباني([19]).
وثانياً: مسألة أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟
وقد استند في تبرير ذلك إلى أحد وجهين:
الأوّل: دعوى مقدّميّة أحد الضدَّيْن لعدم الآخر، وبما أنّ عدمه حرامٌ، لثبوت المسألة في الضدّ العامّ، كانت مقدّمته حراماً أيضاً.
الثاني: دعوى الملازمة والسراية على أساس أنّ عدم أحد الضدَّيْن إنْ لم يكن مقدّمةً لوجود الآخر، فلا أقلّ من كونه ملازماً له، فتسري منه الحرمة إليه؛ وفقاً لكبرى يجب إثباتها مُسْبَقاً، وهي: سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر.
وقد اعترض على هذا الوجه ـ مضافاً إلى المنع من حرمة الضدّ العامّ، وكبرى السراية ـ بأنّ عدم أحد الضدَّيْن إنما يلازم وجود الآخر إذا كانا بلا ثالثٍ، دون ما إذا لم يكونا كذلك، كالصلاة وعدم الإزالة.
ومن هنا حاولوا دفع هذا الاعتراض على أساس أنّ الملازمة قائمةٌ بين الصلاة وعدم الإزالة، دون العكس، وبما أنّ عدم الإزالة حرامٌ؛ للتسليم بالقاعدة في الضدّ العامّ، فلا بُدَّ من أن تكون الصلاة محكومةً بها أيضاً؛ وذلك أنه لا يمكن أن تكون محكومةً بغيرها من الأحكام الخمسة؛ لاجتماع الحكمين المتضادَّيْن في عدم الإزالة، بعد تسرّي حكم الصلاة إلى ملازمها، ولا يمكنها أن لا تكون محكومةً بشيءٍ منها؛ لعدم خلوّ الواقع من الحكم، فينتهي الأمر أخيراً إلى الحرمة. وهكذا يستند إلى هذه القاعدة في هذه المسألة الأصوليّة.
وقد ذكر الشهيد الصدر& في هذا الصدد أنّ ذلك موقوفٌ على كون قاعدة عدم الخلوّ بمعنىً خاصّ للحكم، أعني الإنشاء والتسريع، لا بمعنى عدم خلوّ الواقع من الموقف الشرعي، وعدم تحيُّر المكلَّف شرعاً في مقام العمل بحَسَب الواقع؛ إذ لا مانع حينئذٍ من خلوّ الصلاة من أيّ حكمٍ؛ لأنّ المكلَّف ليس متحيِّراً في ذلك في مقام العمل، حتّى وإنْ لم تكن الصلاة محرَّمةً شرعاً([20]).
وقد سكت& عن المسألة بهذا المقدار، وإنْ كان الظاهر منه المَيْل إلى الثاني، وأنّه لا يُراد بالقاعدة إلاّ مجرّد عدم كون المكلَّف متحيِّراً في مقام العمل بحَسَب المواقف الشرعيّة الإلهيّة.
وقد ردّ صاحبُ المنتقى& على هذه الطريقة ـ أعني التتميم المذكور ـ بنفس البيان أيضاً([21]).
وكيف كان فالوجه في مبدئيّة القاعدة لهذه المسألة توقُّف البحث فيها على هذه القاعدة، ولو على بعض الأسس والمباني، كما سبق نظيره.
وثالثاً: قاعدة لا ضَرَر، وهي وإنْ كانت في الواقع قاعدةً فقهيّة، إلاّ أنّ المتداول عند الأصحاب ذكرها في علم الأصول على وجه الاستطراد.
وقد استند في إثبات شمولها للأحكام العَدَميّة إلى قاعدة منع خلوّ الواقع من الحكم.
وتوضيح الأمر: إنّه قد اعترض على القول بالتعميم على أساس أنّ الظاهر من أخبار الباب إنّما هو نفي التشريع والحكم الضَّرَري، ومن الواضح ـ كما يقتضيه التقييد بالإسلام ـ أنّ العدم ليس بحكمٍ، فلا يدخل في موضوع النفي.
وقد أجاب عن ذلك بعضهم بأنّ عدم الحكم يُعَدّ عند العُرْف رخصةً وإباحةً، ومن الواضح أنّ الترخيص والإباحة حكمٌ من الأحكام الخمسة، فيدخل في موضوع القاعدة، ثمّ يرتفع بها عن المورد، وينتج من ذلك أن الفعل الفلانيّ ليس بمباحٍ، وبما أنّ الواقعة لا تخلو من حكمٍ كان مقتضى التناسب بين الحكم وموضوعه أن يكون ذاك الفعل محرَّماً، وهكذا تستعمل قاعدتنا هذه في إثبات شمول اللا ضَرَر للأحكام العَدَميّة.
واعترض على ذلك الشهيد الصدر&؛ إذ رأى أنّ المقصود بقاعدة نفي الخلوّ ليس إلاّ أنّ الشريعة كاملةٌ تامّةٌ، ولا نقصان فيها، ولا إهمال، فلها في كلّ واقعةٍ موقفٌ خاصّ بها. وهذا أعمّ من الإلزام والترخيص، بمعنى عدم الحكم؛ لأنّ هذا العَدَم يُعَدّ موقفاً شرعيّاً أيضاً إذا كان مسبوقاً بالالتفات، والأدلّة لا تقتضي أكثر من ذلك([22]).
أقول: هاهنا ملاحظتان:
الأولى: تتوجَّه على أصل هذا المنهج للاستدلال؛ إذ لا يخلو من غرابةٍ؛ وذلك لأننا إذا افترضنا دخول الترخيص في موضوع القاعدة ـ بعد التسليم بكونه عَدَميّاً ـ فلا حاجة بعد ذلك إلى ضمّ قاعدة عدم الخلوّ واستنتاج الحرمة، وبعبارةٍ أخرى: لا دَخْل لقاعدة عدم الخلوّ في إثبات شمول اللا ضَرَر للأحكام العَدَمية إذا افترضنا أنّ الترخيص حكمٌ عُرْفاً؛ لأنّ المقصود حاصلٌ بنفس هذا الافتراض، من دون حاجةٍ إلى الاستناد إلى عدم الخلوّ.
نعم، يمكن أن يدفع اعتراضٌ مقدَّر، وهو أنّ مجرّد ارتفاع الإباحة باللا ضَرَر لا يعني ثبوت حكمٍ آخر، فلا يبقى حائلٌ دون هذا الارتفاع.
ولكنّ الصحيح أنّه لا حاجة مع ذلك إلى هذه المحاولات؛ إذ لا يتوقّف ترتُّب الفائدة والثمرة العملية على إثبات الحرمة بحدّها للفعل بعد أن انتفى عنه الترخيص والإباحة باللا ضَرَر؛ فإنّ ارتفاع الإباحة لا يكفي بنفسه لحكم العقل بالتنجُّز وفقدان العذر.
الثانية: تتوجَّه على ما أفاده الشهيد الصدر& في هذا الصدد، من أنّ المقصود بذلك ليس إلاّ أنّ للشريعة موقفاً تجاه أيّ واقعةٍ من وقايع الحياة، وهذا أعمّ من الحكم وعدمه.
وتوضيح الملاحظة: إنّ هذا المبدأ إنْ كان مبدأً عقليّاً، فمن الواضح في ضوء ما تقدّم أنّ الواقعة لا تخلو من لبّ الحكم وحقيقته، ولا يعقل خلوّها عن أيّ إرادةٍ أو كراهةٍ، فلا يتصوَّر العَدَم في أيّ واقعةٍ حتى نحتاج الى تفسير الحكم في هذا المبدأ بالموقف، وإنْ كان مبدأً نقلياً، فبما أنّ العمدة من المدارك النقلية ما تقدَّم بعنوان: «إن الله قد جعل لكلّ شيءٍ حدّاً»، وأنّ الظاهر من الحدّ هو الحكم، كما تقدَّم، كان المقصود بالحكم في القاعدة خصوص الحكم بمعناه الإثباتي، وأمّا السلبي فليس من البيِّن ما يبرِّر إطلاق الحدّ عليه، وإنْ صحّ إطلاق الموقف عليه إذا كان مسبوقاً بالالتفات.
كما أنّ ظاهر كثيرٍ من التعابير ذلك أيضاً، كقولهم^: «فيه كتابٌ أو سُنّةٌ»، و«أنزل في القرآن تبيانُ كلّ شيءٍ»، «وبيَّنه لرسوله»؛ إذ لا يخفى ظهورها في الأمور الوجودية، لا في مجرّد عدم الحكم، وإنْ كان مسبوقاً بالالتفات.
وهناك مواضعُ أخرى قد يُستعان فيها بهذه القاعدة تظهر بالفحص والتأمُّل.
وبهذا نختتم الكلام على قاعدة (عدم خلوّ الواقع من الحكم)، راجين من الله سبحانه ما هو أهله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
الهوامش
(*) أحد الفقهاء البارزين، ومن أبرز أساتذة الفكر والفلسفة. رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران. يُعَدّ أحد أبرز نقّاد بعض التيّارات الإصلاحيّة.
([1]) يمثِّل هذا البحث تقريراً لمحاضرات الشيخ الأستاذ صادق اللاريجاني(حفظه الله)، في دَوْرته الأصولية الثانية، عندما كان يبحث في مبادئ علم الأصول عن المبادئ المتعلِّقة بالحكم الشرعيّ. وقد استغرق البحث عن هذه المسألة تسعة مجالس تقريباً، لمدّة أسبوعين أو أكثر من السنة الدراسيّة (1426 ـ 1427هـ).
وقد ألحَقْنا بها ما أفاده سماحته بعدها، أو ما كان له دَخْلٌ في إغناء البحث، من تنسيقاتٍ أو زياداتٍ أو تقديماتٍ وتأخيراتٍ، ممّا قد صحَّحه سماحته بالكامل، بعد الملاحظة النهائية سَطْراً بعد سطرٍ. وقد أثبتنا في الهامش بعض الأمور ممّا قد لا يخلو من فائدةٍ ـ وهي مُلاحَظَةٌ أيضاً، ومؤيَّدة في الغالب ـ، وترَكْنا بعضاً آخر عسى أن يتيسَّر الكلام عنها في مجالٍ أوسع إنْ شاء الله. وزعمي أنّ مقتضى طبيعة هذه المسائل، التي لم يشبع البحث عنها مستقلاًّ لدى الأصحاب، أن تكون بحاجةٍ أكثر إلى تضارب الحجج والآراء فيها، والعصمةُ عند أهلها، والله المستعان.
([2]) السيد روح الله الموسوي الخميني، مناهج الأصول إلى علم الأصول 2: 18، مؤسّسة النشر للآثار، قم، 1415هـ.
وقد حكى ذلك عنه مقرِّرو بحثه أيضاً، على اختلاف بينهم في تقريب المعنى المراد أو التبعيد عنه:
فمن الأوّل: ما نقله الشيخ محمد حسين السبحاني التبريزي في تهذيب الأصول 1: 235، انتشارات إسماعيليان، قم، 1382هـ: «على أنّ عدم خلوّ الواقعة من حكمٍ لم يدلّ عليه دليلٌ، لو لم يدلّ على خلافه؛ إذ الإباحة المسبّبة عن اقتضاء التساوي إباحة شرعيّة، وتعدّ من الأحكام. وأمّا إذا فرضنا عدم اقتضاءٍ للواقعة أصلاً فلا بُدَّ أن لا يكون لها حكمٌ شرعيّ، إذ جعل الإباحة بلا ملاكٍ لغوٌ، فينطبق على الإباحة العقلية قَهْراً، ويخلو من الجواز الشرعي. ولكنّ المقام من نظائره».
ومن الثاني: ما نقله الفاضل اللنكراني في معتمد الأصول 1: 123، 1423هـ، فقال: «هذا، مضافاً إلى أنّ استحالة خلوّ الوقائع من الحكم ممنوعةٌ؛ فإنّ هذا لو سُلِّم فإنّما هو بحَسَب الحكم الواقعي لا الفعلي، مع إمكان أن يُقال بعدم استحالة خلوّها من الحكم بحَسَب الواقع أيضاً؛ فإنّ الإباحة التي منشؤها عدم تعلُّق حكمٍ شرعيّ به، بمعنى أنّ جواز فعله لعدم تعلّق النهي التحريمي، ولا التنـزيهي، به، وجواز تركه لعدم تعلُّق الأمر الوجوبي، ولا الاستحبابي، به أيضاً، في الحقيقة ليس بحكمٍ. نعم، الإباحة التي منشؤها خلوّ الفعل من المصلحة والمفسدة أو تساويهما، الراجعة إلى جعل الشارع إياها لذلك، حكمٌ من الأحكام الخمسة، بخلاف الإباحة بالمعنى الأوّل، كما لا يخفى».
ولا يخفى خروجه عن نطاق المراد، على أنّه ممنوعٌ في نفسه، كما يظهر بأدنى تأمُّلٍ.
([3]) هاهنا دقيقةٌ أصرّ عليها الأستاذ(حفظه الله)، وهي: إنّ المقصود بالتسهيل ليس إحساس المكلَّف بالسَّعة وعدم الضيق من جانب الشريعة؛ إذ لو كان كذلك لم يكن هناك أيّ اقتضاء لجعل الإباحة في فرض الجهل، ومن ثمَّ اختصت الإباحة بالعالمين بها، وعادَتْ تلك المحاذير العقلية والنقلية، بل المقصود بمصلحة التسهيل تلك المصلحة التي قد تفوت عن المكلَّف وقد لا تفوت، وهي مصلحة إرخاء عنان العبد في عالم التشريع، وعدم كونه بحَسَب الواقع مكلَّفاً بشيءٍ، فإنْ اتفق أن علم المكلَّف بهذا الإرخاء والإطلاق فقد استوفى ملاك الإباحة، وإنْ لم يعلم بذلك فالإباحة على واقعها، محفوظةٌ تَبَعاً لانحفاظ ملاكها، وإنْ لم يتيسر للمكلَّف استيفاؤه؛ بسبب جهله بها، فتأمَّلْ جيِّداً.
([4]) يجدر بنا الإشارة هاهنا إلى ما أفاده بعض المحشّين على الرسائل (التبريزي الميرزا موسى) في أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 235، الطبعة الحجرية، إذ قال: «…أمّا أن نقول بوجود حكم واقعيّ في كلّ واقعة، كما هو ظاهر مذهب الخاصة، ووردَتْ به أخبارهم ـ وإنما عزَوْناه إلى ظاهر مذهبهم؛ لأن الثابت من مذهبهم بالضرورة، وشهد به العقل، هو عدم خلوّ الوقايع المبتلى بها، دون غيرها ـ فالتمسّك في ذلك بالأخبار لا يناسب دعوى الضرورة، كما هو المدّعى، وإنْ ادُّعي تواترها…».
([5]) محمد بن يعقوب الكليني، الأصول من الكافي، كتاب فضل العلم، ح10، 1391هـ.
([6]) الكليني، الأصول من الكافي، كتاب الحجّة، باب أن الأئمة^ يعلمون علم ما كان وما يكون…إلخ، ح2.
([7]) الكليني، الأصول من الكافي، كتاب الحجّة، باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة÷، ح5.
([8]) الكليني، الأصول من الكافي، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح2.
([9]) الحُرّ العاملي، الفصول المهمّة 1: 480، 1418هـ.
([10]) الكليني، الأصول من الكافي، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح4.
([11]) راجِعْ في ذلك: البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، باب المنع عن القياس، فقد ورد فيها روايات ثلاث مشتملة على هذا التعبير مذيّلة بالمنع عن القياس.
([12]) الكليني، الأصول من الكافي 2: 73.
([13]) الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل 13: 27، 1408هـ.
([14]) الكليني، الأصول من الكافي، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح10.
([15]) نبّه على ذلك بعض فضلاء مجلس البحث سلَّمه الله. والمستند هو الشيخ المحقِّق الميرزا جواد التبريزي، وذلك في كتابه دروس في مسائل علم الأصول 2: 25؛ حيث ردّ على كلام المحقِّق الخراساني بقوله: «وأما ما ذكره الماتن من عدم خلوّ الوقايع من الأحكام الإنشائية فقد بيَّنّا أنّ الحكم الإنشائي بالمعنى الذي ذكره ليس بحكمٍ، ولا تكليفٍ أصلاً، مع أنّ معتبرةَ عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله× ـ في حديثٍ ـ قال: «…قال رسول الله|: «حلالٌ بيِّن؛ وحرامٌ بيِّن؛ وشبهاتٌ بين ذلك…الخبر» ظاهرةٌ في انحصار الأفعال في المحلَّل والمحرَّم فعلاً وجَعْلاً، كما لا يخفى».
([16]) لا شَكَّ في ظهور الرواية في انحصار حالات المكلّف الملتفت في هذه الثلاثة، أعني: القطع بالحرمة؛ أو القطع بالحلِّية؛ أو التردُّد بين الحلِّية والحرمة، ومن الواضح أنه لو كانت هناك حالة ثالثة في الواقع، غير الحلِّية والحرمة، وهي الخلوّ منهما، المساوق للخلوّ من أيّ حكمٍ، لكان من الواجب أن تكون داخلةً أيضاً في أطراف تردُّدهم، إلاّ أن يفترض أن هذه الحالة الثالثة لا تستكشف للمكلَّفين أبداً ولو بدرجةٍ ضئيلة، وهذا كما ترى بعيدٌ للغاية.
نعم، يمكن النقاش في الاستدلال بالرواية؛ إمّا بدعوى كون الحلِّية والحرمة فيها أعمّ من العقلية والشرعية ـ كما قد يؤيِّدها التعبير عنهما في صدرها بالرشد والغيّ ـ، وقد ذكر الأستاذ(حفظه الله) أنّ هذا خلاف ظهور الرواية، ولم أعرف الوجه فيه، بعد أن كان الإمام× في مقام الإرشاد إلى حكم العقل بحُسْن الاحتياط، لا في صدد التشريع، كما حقِّق في الأصول؛ ولا أقلَّ من الإجمال، فتسقط الرواية عن صلاحية الاستدلال؛ وإمّا بدعوى أنّ الحلِّية وإنْ كانت هاهنا حلِّية شرعية، إلاّ أنّ الاكتفاء بها وبالحرمة وعدم التعرُّض لتلك الحالة الثالثة إنّما هو من أجل اتحادهما من حيث النتيجة في مقام العمل؛ بدّ اللاحَرَجية العقليّة في تلك الحالة، فكأن التعرُّض للحلِّية الشرعية يغني عنها، وإمّا بالمنع عن ظهور قوله|: «وشبهاتٌ بين ذلك» في حصر أطراف التردُّد فيهما؛ بدعوى أنّ استعمال مثل هذا التعبير في بعض الأطراف عُرْفيّ أيضاً؛ فإنّ إثبات شيءٍ لا يدلّ على نفي ما سواه، فتأمَّلْ.
([17]) العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار 62: 134، 1403هـ.
([18]) السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول 4: 216، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، قم، 1417هـ.
([19]) قد يُقال: لا وجه لحَصْر البحث في الخاتمة على ذكر ما يتوقّف من الأبحاث الأصولية على هذه القاعدة، وإنّما المهمّ استعراض مواقع من علم الأصول قد استُفيد فيها من قاعدة عدم الخلوّ، حتى ولو لم تتوقّف تلك المسألة الأصوليّة عليها. ومن الواضح أن بإمكان شيخنا الأستاذ(حفظه الله) أن يضمّ إلى ما يدّعيه من استلزام هذا التصويب للدَّوْر المَحال إشكالاً آخر، وهو استلزام هذا التصويب خلوّ الواقع من الحكم. وهذا المقدار يكفي لعدّ القاعدة من المبادئ الأحكامية، ولخروج البحث عنها عن اللَّغوية، فلا حاجة حينئذٍ الى القول بأن توقُّف البحث الأصولي عليها، ولو على بعض المباني، كافٍ في عدّها من المبادئ الأحكامية؛ لعدم الحاجة إلى التوقُّف أصلاً، فافْهَمْ جيّداً.
([20]) الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول 2: 297.
([21]) السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول 2: 356 ـ 357، 1418هـ.