أحدث المقالات

د. حسين أترك(*)

ترجمة: مرقال هاشم

المقدّمة

تسعى هذه المقالة في مجال الكلام الإسلامي إلى دراسة ونقد آليّة المتكلِّمين ـ ولا سيَّما منهم المتكلِّمون الشيعة ـ في تأويل بعض آيات القرآن، التي تدلّ في ظاهرها على ارتكاب الأنبياء للمعاصي. إن الرأي الكلامي للشيعة في مجال العصمة واضحٌ ومتناغمٌ جداً. فإذا ما استثنينا الشيخ الصدوق وأستاذه (ابن الوليد) ـ اللذين يجيزان سَهْو النبيّ ـ فإن جميع المتكلِّمين الشيعة يتفقون على العصمة الكاملة والمطلقة للأنبياء من جميع أنواع المعاصي، صغيرها وكبيرها، عمداً أو سهواً، قبل النبوة وبعدها، ويذهبون إلى الاعتقاد ببراءتهم من جميع أنواع الخطأ والنسيان في تلقّي الوحي وإبلاغه، وفي تطبيق الأحكام، وجميع الأمور الدينية، وحتّى الأمور العادية في الحياة([1]).

قال السيد المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء: «قالت الشيعة الإمامية: لا يجوز عليهم [الأنبياء] شيءٌ من المعاصي والذنوب، كبيرةً كانت أو صغيرةً، لا قبل النبوّة ولا بعدها»([2]).

وقد نسب العلاّمة الحلّي في أنوار الملكوت ذلك إلى الإمامية فقال: «أقول: ذهبت الإمامية إلى أن الأنبياء^ معصومون ـ قبل البعثة وبعدها ـ عن الصغائر عمداً وسهواً، وعن الكبائر كذلك. وخالفهم فيه جميع الفِرَق»([3]).

وقد ذهب الإمامية في عقيدتهم هذه إلى الحدّ الذي قالوا معه بعصمة الأنبياء حتّى من ارتكاب الأعمال المخالفة للمروءة، مما يُعَدّ نقصاً وخفّةً للوجهاء، ويُعَدّ مخالفاً لشأن ذوي المقامات العالية من الأشخاص. ومن ذلك أنهم قالوا على سبيل المثال: «إن الذي عليه اعتقاد الشيعة الاثني عشرية هو وجوب أن يكون حجّة الله معصوماً عن الذنوب الكبيرة والصغيرة، ومنزَّهاً من المعاصي، قبل النبوة وبعدها، عمداً أو نسياناً، وأن يكون مبرّأً من كلّ رذيلةٍ أو عيبٍ يدلّ على الخسّة والهوان، ويكون سبباً في تفرُّق الناس عنه، وتنفُّرهم منه»([4]).

إن هذا الاعتقاد الأوسع في مفهوم عصمة الأنبياء قد خلق مشكلةً أمام المتكلِّمين الشيعة في ما يتعلَّق بالآيات التي تدلّ في ظاهرها على ارتكاب المعصية والعمل الشيطاني من قِبَل الأنبياء، أو يدلّ على توبتهم واستغفارهم ومطالبتهم بالعفو من الله، أو يدلّ على عتاب وعقاب الله لهم، وهي أن الأنبياء لو كانوا معصومين مطلقاً فماذا تعني نسبة المعصية إليهم، أو طلب الغفران من الله، أو عتاب الله لهم؟ على ما ورد في صريح بعض آيات القرآن الكريم، من قبيل:

ـ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (الفتح: 2).

ـ ﴿لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ﴾ (التوبة: 117).

ـ ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ (التوبة: 43)، في مورد النبيّ الأكرم|.

ـ ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: 121)، في مورد النبيّ آدم×.

ـ ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، في مورد النبيّ يونس×.

وما إلى ذلك من الآيات الأخرى([5]).

لقد عمد المتكلِّمون الشيعة وسائر المتكلِّمين الإسلاميين القائلين بالعصمة إلى تقديم آليّاتٍ متعدّدة للتغلُّب على هذه المشكلة، ورُبَما كان من أهمّها جعل مصطلح «ترك الأَوْلى»، وحمل الآيات والكلمات الدالّة على العصيان على «ترك الأَوْلى». إن الأنبياء لم يرتكبوا المعاصي والذنوب أبداً، ولكنهم قد يتركون أو ينسون ـ في بعض الموارد ـ القيام بالأفضل من الأعمال أو يتركون الأَوْلى، وبسبب علوّ شأنهم ورفيع مقامهم يُعَدّ تركهم لهذا النوع من الأعمال بمنزلة المعاصي والذنوب، ويتوبون من فعلتهم، من باب «حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين».

إن الأسئلة الأصلية في هذا التحقيق عبارةٌ عن: هل يُعَدّ اللجوء إلى آلية «ترك الأَوْلى» ناجعاً في تأويل الآيات المرتبطة بذنوب الأنبياء؟ أو إذا أرَدْنا أن نلقي نظرةً جامعة على نظرية العصمة في الكلام الشيعي هل سيتعارض ذلك مع القسم الآخر من نظرية العصمة، أي الأدلة العقلية للعصمة؟ وبعبارةٍ أخرى: هل الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء متناغمةٌ مع صدور ترك الأَوْلى عنهم، أو أنها تستلزم عصمة الأنبياء^ بما في ذلك ترك الأَوْلى؟

إن الأسئلة الأخرى التي يجب بحثها في هذا التحقيق عبارةٌ عن: ما هو ترك الأَوْلى؟ وهل ترك الأَوْلى عملٌ خاطئ؟

إن أسلوب التحقيق في هذه المقالة تحليليٌّ ـ انتقاديٌّ، والغاية منه نقد آليّة القول بـ «ترك الأَوْلى» في تبرير الذنوب الصادرة عن الأنبياء، وإثبات عدم تناغمها مع الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء^.

إن هذه المقالة، من حيث بحثها مفهوم ترك الأَوْلى، وبحث عدم تناغمها مع الأدلة العقلية على العصمة، تُعَدّ مقالةً مبتكرةً وجديدة، ولم يتمّ التعرُّض لهذه المسألة حتّى الآن بشكلٍ مباشر في مقالةٍ أو فصلٍ من كتابٍ في موضوع الكلام الإسلامي.

وقد عمد المتكلِّمون الإسلاميّون بشكلٍ رئيس إلى تلقّي آلية ترك الأَوْلى بالقبول، وقاموا بتوظيفها في تبرير أعمال الأنبياء.

والمقالة الوحيدة التي تعرَّضَتْ لمسألة ترك الأَوْلى بشكلٍ مباشر هي مقالةٌ بعنوان «الإمام الرضا× وترك الأنبياء للأَوْلى في القرآن الكريم»([6])، لكاتبَيْها: احتشامي نيا؛ وخوش رفتار»([7])؛ حيث كان هذان الكاتبان في صدد نفي ترك الأنبياء للأَوْلى.

إن أهمّية هذه المقالة تكمن في أنه لو تمّ القبول برؤيتها فسوف يكون من الضروري إعادة النظر في نظرية الإمامية في القول بالعصمة المطلقة، وجواز ارتكاب بعض الأخطاء والزلاّت بالنسبة إلى الأنبياء.

1ـ مفهوم ترك الأَوْلى

يجب قبل كلّ شيءٍ تحديد المعنى الاصطلاحي لـ «ترك الأَوْلى»، أو الاصطلاح المرادف له والمعبِّر عنه بـ «ترك الأفضل». لم يبحث المتكلِّمون الإسلاميّون حول معنى هذا المصطلح، رغم أهمّيته الكبيرة، ورُبَما كان السبب في ذلك ما رأَوْه من وضوح هذا المفهوم والمصطلح. بَيْدَ أن إيضاح معنى هذا المصطلح مهمٌّ للغاية في بيان الهدف من كتابة هذه المقالة.

أـ المعنى اللغوي

«الأَوْلى» من مادة «ولي» بمعنى «الأحقّ» و«الأجدر» و«الأحرى»، فقولهم: «فلان أَوْلى بهذا الشيء» يعني هو الأجدر والأحقّ به([8]). كما أن المعنى الآخر لـ «ولي» هو القُرْب، ومن ذلك أنه عندما يقول الله تعالى: ﴿أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ (آل عمران: 68) يعني بذلك أنه أقرب الناس إليه.

بالنظر إلى الصورة التفضيلية لـ «أَوْلى»، الدالّة على مقارنة شيءٍ بالأمور الأُخَر، يمكن القول: إن استعمال مفردة «أَوْلى» حيث يكون لفردٍ أو شيءٍ بسبب مزيّته أحقّية وجدارة أكبر بالقياس إلى الأفراد الآخرين أو الأشياء الأخرى.

وقد تمّ تعريف «الفضل» لغةً بمعنى «الزيادة»([9])، و«ضدّ النقص»([10]). إن الفضل يعني امتلاك مزيّةٍ وإضافة في كلّ شيءٍ حَسَنٍ بالنسبة إلى الأصناف والأشياء الأخرى المجانسة له. فالحصان الذي يكون أسرع من أفراد فصيلته يكون له فضل السرعة عليها، والسكّين لها فضل الحدّة والقطع بالقياس إلى قطعة الحديد الأخرى، والشخص الكريم والشجاع له أفضلية على أبناء جنسه في البذل والشجاعة.

ولا يستعمل الفضل في الزيادة في الصفات القبيحة، بل تستعمل الزيادة في النقص والخبث. فلا يُقال للشخص العصبيّ وسيِّئ الخلق: له فضل العصبية وسوء الأخلاق على الآخرين.

وعليه فإن «الأفضل» هو الشخص الذي يكون له المزيد من الفضل بالقياس إلى الآخرين، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن ذلك العالم هو الأعلم من بين جميع العلماء.

وعلى هذا الأساس يكون ترك الأفضل أو ترك الأَوْلى هو القيام بالفعل المتَّصف بالحقّ والفضل، بَدَلاً من القيام بالعمل «الأحقّ» والأفضل من بين جميع الأعمال الأخرى.

ب ـ المعنى الاصطلاحي

من خلال البحث في مصادر الكلام الإسلاميّ يمكن لنا الحصول على هذا المعنى لـ «ترك الأَوْلى»:

1ـ ارتكاب الفعل المكروه

لقد عمد بعض المتكلِّمين الإسلاميّين في بيان معنى «ترك الأَوْلى»، في بادئ الأمر، إلى تقسيم نهي الشارع إلى ثلاثة أقسام، وهي:

أـ النهي المولوي الإلزامي، الذي يتكفَّل ببيان تحريم شيءٍ. وملاك هذا القسم هو المبغوضية الشديدة لذلك الأمر بالنسبة إلى المولى، واشتماله على مفسدةٍ كبيرة، من قبيل: تحريم شرب الخمر، والزنا، والكذب، وغير ذلك من المحرَّمات التي لا يجيز الشارع ارتكابها.

ب ـ النهي المولوي غير الإلزامي أو نهي الكراهة، الذي يكشف عن كراهة شيءٍ ما. وملاك هذا القسم هو المبغوضية واشتمال الشيء على مفسدةٍ لا تبلغ حدّاً كبيراً، ولا يصل النهي عنها إلى حدّ الإلزام. وارتكاب هذا القسم وإنْ كان جائزاً، بَيْدَ أن عدم ارتكابه هو الأفضل، من قبيل: كراهة تناول الطعام على جنابةٍ.

ج ـ النهي الإرشادي، الذي لا يكون ارتكابه مبغوضاً، ولا ينطوي على مفسدةٍ أو حسابٍ وعقابٍ أخروي، ولكنه ينطوي على مفسدةٍ دنيوية وآنية.

يذهب هؤلاء المتكلِّمون إلى الاعتقاد بأن ارتكاب الأنبياء للنهي المولوي التحريمي المبغوض للشارع ـ والذي ينطوي على مفسدةٍ أخروية ودنيوية ـ مُخِلٌّ بعصمتهم، ولكنْ لا إشكال في مخالفة النهي الإرشادي. ولم يتحدَّثْ هؤلاء عن مخالفة النهي الكراهتي، ولكنْ يبدو أنهم ـ بالنظر إلى اشتماله على المفسدة؛ وكونه مبغوضاً لله ـ يرَوْن هذا القسم مُخِلاًّ بالعصمة أيضاً، أو أن ارتكابها في الحدّ الأدنى لا يليق بالأنبياء([11]).

وقد ذهب عددٌ آخر من المتكلِّمين المعاصرين بدَوْرهم ـ ضمن بيانهم أن مخالفة النبيّ آدم للنهي الإلهي إنما كان مخالفةً للنهي المولوي غير الإلزامي ـ إلى القول بأن المراد من ترك الأَوْلى وترك الأفضل في كلمات علماء الإسلام هو هذا المعنى([12]). وقد ذهب إلى القول بأن معنى ترك الأَوْلى هو ارتكاب الفعل المكروه والعمل المرجوح، وإنْ لم يعتبر ذلك تخلُّفاً عن القوانين الإلهية، ورذيلةً من الرذائل، بَيْدَ أنه لم يَرَ ارتكاب هذه الأعمال لائقاً بالأنبياء([13]). إن ترك الأَوْلى في هذا المعنى يعادل القسم الثاني من الأقسام الثلاثة المذكورة آنفاً؛ أي إنه من النهي الكراهتي.

2ـ ارتكاب الأعمال المخالفة لشأن النبيّ

قسَّم بعض المتكلِّمين الذنب إلى قسمين، وهما:

1ـ المعصية المطلقة المخالفة للإرادة القطعية الإلزامية لله، وتسمّى بـ «العصيان».

2ـ المعصية النسبيّة، التي يكون اتصافها نسبيّاً بالنظر إلى اختلاف الأشخاص والشرائط الخاصّة.

إن «المعصية النسبية» هي العمل الذي يكون في حدّ ذاته مباحاً، ولا يكون قبيحاً في نفسه، إلاّ أن عُرْف الناس لا يَعُدّ اقترافه من قِبَل شخصٍ بعينه قبيحاً، من قبيل: أن يعمد الشخص الثريّ والمتمكِّن إلى إنفاق مالٍ قليل لا يليق بشأنه. فإن هذا العمل وإنْ كان مصداقاً للإنفاق والعمل الصالح، ولكنّ الناس يَعُدُّونه قبيحاً([14]).

إن المتكلِّمين يستفيدون أحياناً في تعريف «ترك الأَوْلى» من العبارة المعروفة: «حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين»، حيث يمكن اعتبارها تعبيراً آخر عن المعصية النسبية. إن الذي يُعَدّ عملاً حَسَناً بالنسبة إلى الأبرار قد يُعَدّ معصيةً بالنسبة إلى المقرَّبين من الباري تعالى([15]). ومن الواضح أن استعمال كلمة الذنب والمعصية هنا إنما يأتي على سبيل المجاز.

3ـ عدم الالتفات الكامل إلى الله

هناك من المتكلِّمين الشيعة مَنْ عرَّف ترك الأَوْلى بـ «القصور والتقصير في بذل تمام الاهتمام بالمحبوب، والغفلة عن الله سبحانه وتعالى، ولو بسبب ارتكاب الفعل المباح». إن مثل هذا الأمر يُعَدّ بالنسبة إلى المقرّبين من الله والأنبياء معصيةً. إن هذا الأمر ليس تخلُّفاً عن القوانين الإلهية ونتيجةً عن الأخلاق السيئة. إنه يرى أن ارتكاب مثل هذا الذنب لا يتنافى مع أدلة عصمة الأنبياء، ولا يضرّ بأهداف النبوّة، من قبيل: إرشاد الناس وتزكيتهم. إن الأدلة النقلية تشير إلى أن الأنبياء كانوا يسعَوْن إلى ترك هذه الأمور، ولكنهم عند ارتكابها كانوا يلومون أنفسهم، ويطلبون المغفرة، ويجهشون بالبكاء؛ بسببها([16]).

يمكن إدراج هذا التعريف ضمن التعريف الثاني. إن الغفلة عن الله لا تُعَدّ ذنباً بالنسبة إلى الناس العاديين، ولكنْ ذات هذا الأمر المباح يُعَدّ ذنباً بالنسبة إلى الأنبياء؛ حيث يتوقّع منهم المزيد من الطاعة لله عزَّ وجلَّ. وبطبيعة الحال فإن الحقّ هو أن لا نرى في هذا تعريفاً لـ «ترك الأَوْلى»، بل هو مصداقٌ لـ «ترك الأَوْلى»، وهو الغفلة عن الله ولو للحظةٍ من الزمن.

4ـ ترك أفضل فعلٍ ممكن

وفي تعريفٍ آخر لترك الأَوْلى تمّ تعريفه بترك أفضل فعلٍ ممكن، حيث له مصداقان، وهما: أوّلاً: ترك الفعل الأفضل، والقيام بفعلٍ حَسَنٍ آخر دونه في الفضل([17])؛ والآخر: ترك فعل مباحٍ وردَتْ التوصية بالعمل به. والعتاب على الترك هنا يأتي من باب الحثّ والتشجيع على القيام بالفعل، دون العقوبة على الترك.

«ترك الأَوْلى ليس من المعاصي؛ فإن الأَوْلى وغير الأَوْلى يشتركان في كونهما مباحين، وإنما يُعاتَب على ترك الأَوْلى، لا [على]([18]) سبيل العقوبة، بل على سبيل الحثّ على فعل الأَوْلى»([19]).

إن اختلاف هذا التعريف عن التعريف الأوّل يكمن في أن ترك الأَوْلى في هذا المعنى لا يكون ممنوعاً أصلاً، ولا توجد فيه مفسدةٌ، في حين أن فعل المكروه في التعريف الأوّل يقع مورداً للنهي، وهو على كلّ حال يشتمل على مفسدةٍ.

والاختلاف الآخر هو أن ترك الأَوْلى بهذا المعنى ليس غير مذموم فحَسْب، بل هو موردٌ للمدح والثناء أيضاً؛ وأما في المعنى الأوّل فحتّى إذا لم يكن ارتكابه مذموماً، فهو في الحدّ الأدنى لا يقع مورداً للرضا، ويشتمل كذلك على الحدّ الأدنى من المفسدة.

وأما اختلاف التعريف الرابع عن التعريف الثالث فيكمن في أن ترك الأفضل والقيام بالعمل المشتمل على فضلٍ يكون عبارةً عن ترك الأَوْلى طبقاً للتعريف الثالث، فإنْ اقترن بذكر الله لا يكون تركاً للأَوْلى.

5ـ خلاصة المعنى الاصطلاحي

بالنظر إلى المعنى اللغوي الذي تقدَّم ذكره لـ «الأَوْلى» و«الأفضل» يمكن القول:

إن الاستعمال الحقيقي وغير المجازي لهاتين المفردتين إنما يكون حيث يكون لشيء صفةُ أفضلية وإيجابية زائدة على أشياء أخرى، ولذلك يكون القيام به هو الأَوْلى والأفضل لتحقيق الغاية والهدف المنشود. وعلى هذا الأساس فإن العمل الأَوْلى أو العمل الأفضل هو العمل الذي يكون هو الأحقّ والأفضل من بين الأعمال المتّصفة بالحقّ والفضيلة. ومن هنا فإن ترك الأَوْلى والأفضل يعني الاكتفاء بالعمل الحقّ والمشتمل على فضيلةٍ وحقٍّ أقلّ بالقياس إلى العمل الأَوْلى والأفضل.

وعلى هذا الأساس لا بُدَّ من الوصول إلى نتيجةٍ مفادها: إن استعمال هذين المصطلحين إنما يكون في موردٍ حيث لا يكون للعمل أيّ حقٍّ أو فضلٍ، من قبيل: الفعل المكروه (التعريف الأوّل).

وأما الاستعمال المجازي وغير الحقيقي فيمكن لنا وبشكلٍ عام أن نرصد أربع حالاتٍ لاستعمال مصطلح «ترك الأَوْلى»:

1ـ في مورد الأمرين اللذين يكون أحدهما أفضل من الآخر يُترك الأمر الأفضل (الاستعمال الحقيقي لترك الأَوْلى).

2ـ في مورد الأمرين اللذين يكون أحدهما مشتملاً على فضلٍ، بينما الآخر مباحٌ ولا ينطوي على أيّ فضلٍ، يتم ترك الأمر المشتمل على الفضل (الاستعمال المجازي لترك الأَوْلى).

3ـ في مورد الأمرين اللذين يكون أحدهما خالياً من الفضل، والآخر مشتملاً على النقص والفساد، يُتْرَك الأمر المباح (الاستعمال المجازي لترك الأَوْلى).

4ـ في مورد الأمرين اللذين يكون أحدهما أكثر نقصاً وفساداً من الآخر يُترك الأمر الأقلّ نقصاً وفساداً (الاستعمال المجازي لترك الأَوْلى).

إن الارتباط الذي يؤدّي إلى جواز استعمال «ترك الأَوْلى» في الموارد الثلاثة الأخيرة هو المقارنة، ونسبية النقص والفساد، وحكم العقل بدفع الأفسد بالفاسد؛ أي بالشيء الذي لا يشتمل على نقصٍ أو فساد، أو يكون نقصه وفساده أقلّ بالمقارنة مع الآخر، فيُقال تسامحاً: إن القيام به هو الأفضل والأَوْلى والأحسن. وبعبارةٍ أخرى: يُقال للشيء الأقلّ سوءاً بالقياس إلى الأكثر سوءاً: إنه هو الأفضل، مجازاً.

وفي الحقيقة فإن للعقل حكمين: الأوّل: ضرورة ترجيح الأفضل على الفاضل؛ والآخر: صورة دفع الأفسد بالفاسد، أو ترجيح الفاسد على الأفسد، حيث يُقال للثاني في بعض الأحيان: إنه هو الأفضل أو الأَوْلى، مجازاً. ونتيجةً لذلك يُقال لتركه تركاً للأَوْلى.

ويمكن لهذين الحكمين العقليين أن يندرجا ضمن الحكم بضرورة ترجيح الراجح، أو ممنوعية ترجيح المرجوح.

وعلى هذا الأساس يجب حَصْر الاستعمال الحقيقي لمفهوم «الأَوْلى» أو «الأفضل» في الأفعال التي لا تكون مباحةً وجائزةً لذاتها فحَسْب (شرط الإباحة)، ولا تشتمل على فضلٍ وكمالٍ (شرط الفضل) فحَسْب، بل تشتمل على فضلٍ وكمالٍ أكبر على جميع الأعمال الممكنة الأخرى (شرط الأولوية) أيضاً. وعليه فإن «ترك الأَوْلى» هو ترك الأمر الحَسَن الذي تكون لفعله أولويّةٌ وأفضليةٌ على جميع الأعمال الحَسَنة الممكنة والمتاحة.

وعلى هذا الأساس، فإن التعريف الاصطلاحي الرابع هو الأصحّ، بالمقارنة إلى التعاريف الأخرى. ويجب اعتبار التعريف الأوّل، أي ارتكاب المكروه استعمالاً مجازيّاً لترك الأَوْلى؛ لأن ارتكاب المكروهات ليس من ترك الأَوْلى، ولا ينطوي فعل المكروه على أيّ فضلٍ أو كمالٍ أبداً.

ويبدو أن بالإمكان الجمع بين كافّة هذه التعريفات الأربعة، وذلك من خلال القول بأن كلّ واحدٍ من هذه التعريفات يبيِّن قسماً خاصاً من ترك الأَوْلى، الأعمّ من استعماله الحقيقي والمجازي.

إن ارتكاب الفعل المكروه ـ سواء أكان من قبيل: النهي المولوي غير الإلزامي أو النهي الإرشادي ـ لا يكون مستحسناً؛ لما يشتمل عليه من المفسدة؛ وعليه سوف يكون تركه هو الأَوْلى، وارتكابه تركاً للأَوْلى (التعريف الأول).

إن الشخص الذي يقوم بالعمل المباح والجائز، الذي يُعَدّ بالنسبة له ـ بالنظر إلى مكانته وشأنه ـ نقصاً، يكون قد ترك الأَوْلى (التعريف الثاني).

إن الغفلة عن الله ـ لأيّ سببٍ من الأسباب ـ بالمقارنة إلى الالتفات التامّ والكامل له، تُعَدّ مصداقاً لترك الأَوْلى (التعريف الثالث).

إن الذي يترك العمل الأفضل الممكن، وكان يمكنه فعله، ويكتفي بفعل الأمر الحَسَن الآخر، والذي يكون حُسْنه أقلّ من الأَوْلى، يكون تاركاً للأَوْلى (التعريف الرابع).

وعلى هذا الأساس، فإن نقطة الاشتراك بين جميع هذه التعريفات تكمن في أنه من خلال المقارنة بين عملٍ وعملٍ ممكن آخر كان يجب من الناحية العقلية أو العُرْفية؛ بسبب خصائص أحدهما (اشتماله على الفضل والكمال الأكبر أو اشتماله على نقصٍ أقلّ)، ترجيحه على الأمر الآخر، ولكنه يترك ولا يتمّ ترجيحه. وبعبارةٍ أخرى: إن ترك الأَوْلى يعني ترجيح المرجوح.

2ـ إثبات بطلان ترك الأَوْلى

أـ بطلان ترك الأَوْلى من الناحية العقلية

إن المسألة الهامة والأساسية في سياق الهدف الذي ينشده الكاتب في هذه المقالة هو إثبات بطلان ترك الأَوْلى. إن السؤال المهمّ يقول: هل ترك الأَوْلى خطأٌ؟ لقد ورد تعريف الخطأ لغةً بمعانٍ متعدّدة. ومن بين معانيه: نقيض الصواب([20])؛ والمعنى الثاني: الارتكاب العمدي للذنب والمعصية([21])؛ والمعنى الآخر له هو أنه يرادف السهو، وبمعنى الارتكاب غير العمدي لأمرٍ ما([22]). إن المنشود من بين هذه المعاني في السؤال المتقدِّم هو المعنى الأول، أي ضدّ الصواب. والصواب لغةً يعني العمل الصائب والصحيح. وعلى هذا الأساس يكون الخطأ هو العمل غير الصائب وغير الصحيح.

بالنظر إلى هذا المعنى اللغوي يتحوّل السؤال القائل: «هل ترك الأَوْلى خطأٌ؟» إلى هذا السؤال القائل: «هل ترك الأَوْلى عملٌ غير صحيح؟».

إن الجواب عن هذا السؤال يتّضح بالنظر إلى المسائل المتقدّمة في بيان المعنى الاصطلاحي لترك الأَوْلى. هناك قاعدةٌ عقلية ثابتة تقول: «إن ترجيح المرجوح على الراجح باطلٌ». وهذه قضية يكفي في تصديقها تصوّر الموضوع والمحمول فقط. وبعبارةٍ أخرى: إنها من القضايا التي تكون «قياساتها معها». لا شَكَّ في أن عقل الإنسان يرى أن ترك الأفضل والقيام بالعمل المشتمل على فضلٍ أدنى وأقلّ في الظروف المتكافئة أمرٌ باطلٌ. إن العقل البشري يرى أن ترك العمل الذي لا ينطوي على فسادٍ، وارتكاب العمل الفاسد، وترك العمل الفاسد وارتكاب العمل الأفسد، غيرُ صحيحٍ. وبعبارةٍ أخرى: إن ترك الأَوْلى وترجيح المرجوح باطلٌ من الناحية العقلية.

وقد يُشكل بالقول: لماذا ترَوْن بطلان ترك الأَوْلى من الناحية العقلية، والحال أنه قد لا يكون ذات العمل باطلاً في نفسه، من قبيل: أن يقوم شخصٌ بتقديم المساعدة إلى شخصٍ واحد، لا إلى شخصين، فعلى كلّ حال سوف يكون عمله مصداقاً للعمل الصالح، والإحسان ليس باطلاً؟!

والجواب: يوجد هنا أمران: أحدهما: الإحسان إلى شخصٍ واحد؛ والآخر: ترجيح الإحسان إلى شخصٍ واحد على الإحسان إلى شخصين. إن لهذين الأمرين حكمين مختلفين: الأوّل: صحيح؛ والثاني: غير صحيح. وقد يكون الأمر في ظروف خاصّة مصداقاً لكلا الأمرين؛ فالشخص الذي يستطيع أن يُحسن إلى شخصين، ويترك هذا الأمر الأرجح ويحسن إلى شخصٍ واحد فقط، يُعَدّ فعله هذا هنا؛ من حيث ترك الأمر الأرجح، خاطئاً، لا من حيث نفس العمل الصالح. وعلى هذا الأساس فإن ترك الأرجح أو ترك الأَوْلى يُعَدّ من الناحية العقلية عملاً خاطئاً وغيرَ صحيحٍ.

ب ـ بطلان ترك الأَوْلى من الناحية الأخلاقية

إن ترك الأَوْلى وترجيح المرجوح على الراجح ليس باطلاً وخاطئاً من الناحية العقلية فحَسْب، بل هو خاطئٌ من الناحية الأخلاقية أيضاً.

ولبيان عدم الصوابية الأخلاقية لترك الأَوْلى يمكن الاستعانة بأخلاق الفضيلة عند أرسطو. إن المصطلح البديل لترك الأَوْلى هو ترك الأفضل. ولكي ندرك معنى الأفضل يجب أن نتعرَّف على معنى الفضيلة. يرى أرسطو أن معيار الفضيلة في كلّ عملٍ وشعور يتمثَّل في حدّ اعتداله. ففي كلّ عملٍ، من قبيل: تناول الطعام، أو في كلّ شعورٍ، من قبيل: إظهار الغضب، يكون حدّ فضيلته هو الحدّ الوَسَط والاعتدال([23]). وعلى الرغم من وجود الكثير من الاختلافات بين شُرّاح أرسطو حول مفهوم الاعتدال، بَيْدَ أن الرأي الحقّ هو تفسير الاعتدال بالتعادل والتناسب الشامل للاعتدال الكمّي والكيفي كلاهما. وفي الحقيقة فإن مراد أرسطو من التوصية برعاية الاعتدال، واعتباره فضيلة، هو القيام بالعمل المناسب، بطريقةٍ مناسبة، في الوقت المناسب، والمقدار المناسب.

وبعبارةٍ مختصرة: إن العمل الفضيل هو العمل المتناسب مع الشرائط والظروف([24]).

ويمكن لنا أن نستنتج من كلمات أرسطو ستّة معايير للعمل الفضيل. فالعمل الفضيل هو العمل الذي يتمّ القيام به 1ـ في الزمان المناسب؛ 2ـ بشأن الموضوع المناسب؛ 3ـ تجاه الشخص المناسب؛ 4ـ لعلّةٍ وغايةٍ مناسبة؛ 5ـ بأسلوبٍ مناسب؛ 6ـ بالحجم والمقدار المناسب([25]).

ومن ذلك، على سبيل المثال، أنه عند عروض حالة الغضب تكون الفضيلة بأن يقوم الشخص في لحظة الغضب بمقارنة حالته، وما إذا كان من الأفضل له أن يغضب بعد توجيه الإهانة له مباشرةً أو عليه أن يتأنّى في إظهار حالة الغضب. إن الغضب من الإهانة أمرٌ صائب، ولكنّه لا يكون صائباً بسبب عدم دخول المسمار في الخشب. والغضب على الأب والأمّ خاطئٌ، ولكنه صائبٌ على الظالم والجائر. إن الغضب دفاعاً عن الحقّ أمرٌ صحيح، بَيْدَ أنه يكون خاطئاً إذا كان بدافع التسلُّط على الآخرين. وتارةً يكون الأسلوب الصحيح لإظهار الغضب بإظهار الامتعاض؛ وتارةً بالسكوت؛ وتارةً بالصراخ. كما أن المقدار المناسب والصحيح للغضب يكون مختلفاً باختلاف الموارد؛ بمعنى أننا لو علمنا أن الأسلوب الصحيح لإظهار الغضب يكمن في الصراخ يتعيّن علينا بعد ذلك دراسة نسبة هذا الصراخ، وما هو مستوى الشدّة المناسبة في هذا الصراخ، الذي يجب أن نعبّر به عن الغضب؟

وعلى هذا الأساس فإن العمل الفضيل من وجهة نظر أرسطو إنما يكون مباحاً لذاته إذا اشتمل على جميع الخصائص والصفات الستّة المتقدِّمة بشكلٍ صحيح. فلو أن عملاً مباحاً لم يتمّ القيام به في إحدى خصائصه بشكلٍ صحيح لن يبلغ حدّ فضيلته، وسوف يكون رذيلةً.

ومن هنا فإن الفضيلة والرذيلة من حيث ذات وصفات العمل معقودٌ بالصحة وعدم الصحّة؛ فبعض الأفعال؛ بسبب القبح الذاتي، تغدو غير صحيحةٍ، من قبيل: الظلم؛ وبعض الأفعال الأخرى؛ بسبب صفة وكيفيّة الإتيان بها، من قبيل: الحبّ المفرط للطفل، والذي يسمى تدليلاً.

بعد بيان معايير فضيلة العمل من وجهة نظر أرسطو، وإدغامه في الحالات الأربعة المبيَّنة لاستعمال مصطلح «ترك الأَوْلى» في الكلام الإسلاميّ، يمكن لنا أن نستنتج من ذلك أن ترك الأَوْلى أو ترك الأفضل، حيث يكون بمعنى القيام بفعلٍ أقلّ فضيلةً؛ لافتقاره إلى بعض معايير الفضيلة الستّة بالمقارنة إلى العمل الآخر (الحالة الأولى والثانية)، أو مفتقراً في الأساس إلى بعض هذه المعايير، بمعنى أن فاعله ـ على سبيل المثال ـ لم يقُمْ به بدافعٍ مناسب أو بالمقدار المناسب أو في الزمن المناسب (الحالة الثالثة والرابعة)، لا يكون من الناحية الأخلاقية صحيحاً.

وسوف يتّضح هذا البحث (عدم الصوابية الأخلاقية لترك الأَوْلى) في المستقبل بشكلٍ أكبر، من خلال بيان بعض مصاديق ترك الأَوْلى في أعمال الأنبياء.

لقد اتّضح حتّى الآن أن «ترك الأَوْلى» عملٌ خاطئ وغيرُ صائبٍ من جهتين: فأوّلاً: إن هذا العمل مخالفٌ لحكم العقل القائم على ترجيح العمل الراجح والأَوْلى، وثانياً: إن ترك الأَوْلى من الناحية الأخلاقية يعني ارتكاب العمل في إحدى أوصافه الستّة، من قبيل: الغاية، والمقدار، والأسلوب، والموضوع، والشخص، والزمان، أقلّ فضلاً وتناسباً بالقياس إلى العمل الراجح أو المشتمل على فضلٍ وتناسبٍ، أو أن يكون في الأساس مفتقراً إلى بعض هذه الأوصاف.

ج ـ عدم صوابية ترك الأَوْلى بالتمسُّك بمفهوم الوظائف المهنية

الأسلوب الآخر لإثبات بطلان خطأ ترك الأَوْلى يتلخَّص في الاستفادة من مفهوم «الوظائف المهنية»، أو المستلزمات المتناسبة مع شأن الأنبياء^.

إن الوظائف المهنية في فلسفة الأخلاق تعني المستلزمات والوظائف التي يجب على الشخص أن يقوم بها ويمتثلها؛ بسبب امتلاكه لمهنةٍ خاصّة. إن الوظائف المهنية هي وظائف لا تجب على الشخص بما هو شخصٌ، وإنما تجب عليه لاتصافة بهويّةٍ ومهنةٍ خاصّة تميِّزه من الآخرين فقط، من قبيل: لبس الزيّ العسكريّ للقوات النظامية. وبعبارةٍ أخرى: إن وظائف الفرد يمكن أن تكون على نوعين، وهما: الوظائف العامة، التي يجب على كلّ إنسانٍ بما هو إنسانٌ أن يلتزم بها؛ والوظائف الخاصّة أو المهنية، التي يجب على بعض الأفراد أن يلتزم بها؛ بسبب اتصافه بعنوانٍ خاصّ، كأنْ يكون طبيباً أو مهندساً أو مدرِّساً وهكذا. وتارةً تكون وظائف هذين القسمين متطابقةً، من قبيل: منع الكذب؛ حيث يكون ذلك داخلاً ضمن الوظائف العامّة لكلّ إنسانٍ، كما هو أحد الوظائف المهنيّة للأطباء في تعاطيهم مع المرضى؛ ولكنْ قد يحدث أحياناً أن يكون المباح من حيث الأخلاق العامّة محظوراً من جهة الأخلاق المهنية، من قبيل: الأكل والشرب الذي يُمْنَع في أغلب المهن أثناء فترة العمل، أو إقامة علاقةٍ خاصّة مع المريض الخاضع للعلاج في مهنة الطبّ. إن ترك الوظائف المهنية خاطئٌ بنفس نسبة خطأ ترك الوظائف في الأخلاق العامّة، وتترتَّب عليها في بعض الأحيان عقوباتٌ لا تترتَّب على الوظائف الأخلاقية العامة.

يمكن عدّ الأبحاث التي ذكرها المتكلِّمون الإسلاميّون تحت عنوان المحرَّمات النسبية، أو الواجبات المتطابقة مع شأن الأنبياء، أو بعبارة: «حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين»، بياناً آخر عن الوظائف المهنية في فلسفة الأخلاق.

وقد ذهب الكثير من المتكلِّمين إلى اعتبار عتاب الأنبياء؛ بسبب قيامهم ببعض الأعمال المباحة، من هذا الباب؛ حيث إن شأن الأنبياء كان يستلزم عدم ارتكاب حتّى هذا النوع من الأمور المباحة. وقد ذكَرْنا سابقاً أن بعض المتكلِّمين فسَّر ترك الأَوْلى بالمعصية النسبيّة؛ بمعنى ارتكاب الأعمال المخالفة لشأن النبيّ. وقد ذكر الفاضل المقداد في بيان خطأ ترك الأَوْلى أن الدليل على ذلك هو مخالفته للشأن الرفيع للنبيّ الأكرم| والأئمّة الأطهار^. وقال في هذا الشأن ما مضمونه: «أجل، قد يُراد من ترك الأَوْلى فعل المكروه أو ارتكاب المرجوح أحياناً. إن ترك الأَوْلى وإنْ لم يكن معصيةً، ولا تخلفاً عن القوانين، ولا يُعَدّ رذيلةً من الرذائل الأخلاقية، ولكنّ صدوره من مثل: رسول الله| والأئمّة الأطهار ـ سلام الله عليهم ـ، لا يتناسب مع شأنهم»([26]).

إن الأنبياء؛ بسبب مهنة([27]) النبوّة تترتَّب عليهم مستلزمات خاصّة، لا تترتّب على الأشخاص العاديين، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن ذكر الله باستمرارٍ غيرُ واجبٍ على الأشخاص العاديين، ولكنّه واجبٌ على الأنبياء، ولذلك يقع بعض الأنبياء مورداً للعتاب؛ بسبب غفلتهم الآنيّة عن ذكر الله سبحانه وتعالى.

والآن، بعد القبول بهذه المقدّمة القائلة بأن الأنبياء لهم وظائف مهنيّة خاصّة، يكون الاستدلال على خطأ وبطلان ترك الأَوْلى واضحاً جدّاً من زاوية الأخلاق المهنية:

1ـ إن تركَ الأَوْلى، الذي عبَّر عنه المتكلِّمون بترك الأعمال المخالفة لشأن الأنبياء، مصداقٌ لترك الوظائف المهنية للنبوّة.

2ـ إن تركَ الوظائف المهنية من قِبَل الشخص المكلَّف برعايتها خاطئٌ وباطل.

3ـ إذن ترك الأَوْلى عملٌ خاطئٌ وباطل.

3ـ ترك الأَوْلى آليّة تبرير أخطاء الأنبياء

إن جعل مصطلح «ترك الأَوْلى» من قِبَل المتكلِّمين يُعَدّ إحدى الآليات الواردة في تبرير الآيات التي تدلّ في ظاهرها على ارتكاب الأنبياء للمعاصي.

وقد عمد بعض المتكلِّمين الإسلاميين في التعاطي مع الآيات الدالّة على معاصي وذنوب الأنبياء إلى بيان آليّةٍ عامّة للدفاع عن عصمتهم، على النحو التالي: «واحتجّ المخالف الذاهب إلى جواز صدور الكبائر عنهم بعد البعثة سهواً، وجواز الصغائر عمداً أيضاً، بقصص الأنبياء التي نُقلَتْ في القرآن أو الأحاديث أو الآثار. وتلك القصص توهم صدور الذنب عنهم في زمان النبوّة.

والجواب عن تلك القصص إجمالاً: إن ما كان منها منقولاً بالآحاد وجب ردُّها؛ لأن نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء. وما ثبت منها تواتراً فما دام له محملٌ آخر حملناه عليه، ونصرفه عن ظاهره؛ لدلائل العصمة؛ وما لم نجِدْ له محيصاً حملناه على أنه كان قبل البعثة، أو كان من قبيل: ترك الأَوْلى، أو من صغائر صدرَتْ عنهم سَهْواً، ولا ينفيه (أي لا ينفي كونه من قبيل: ترك الأَوْلى أو الصغائر الصادرة سَهْواً) تسميته ذنباً»([28]).

وهناك مَنْ أجاز صدور المعصية عن الأنبياء في ثلاث حالات فقط، وهي:

1ـ ارتكاب المعصية عن سَهْوٍ ونسيان.

2ـ أن تكون المعصية المقترفة مصداقاً لترك الأَوْلى.

3ـ ارتكاب المعصية بسبب خلط النبيّ بين العمل المباح والعمل المنهيّ عنه([29]).

وفي ما يلي نشير إلى بعض موارد الاستفادة من طرق ترك الأَوْلى في تبرير أخطاء الأنبياء.

أـ قصّة النبيّ آدم (عليه السلام)

إن قصّة النبيّ آدم× واحدةٌ من الموارد التي اعتبرها الكثير من المفسِّرين والمتكلِّمين من مصاديق ترك الأَوْلى، وارتكاب الأنبياء للمنهيّ عنه من قِبَل الله سبحانه وتعالى([30]).

لقد تمّ تصوير ترك الأَوْلى هنا بالمعنى الأوّل؛ أي ارتكاب النهي الإرشادي لله تعالى.

وكذلك؛ حيث إن ارتكاب النهي الإرشادي مخالفٌ لشأن ومرتبة نبوّة آدم، فإن الله سبحانه وتعالى قد عاتبه على ذلك.

وبطبيعة الحال هناك مَنْ لا يتّفق مع هذا التفسير، ولا يرى في مخالفة النهي الإرشادي ما يستدعي الصفح والمغفرة([31]).

ب ـ قصّة النبيّ يوسف (عليه السلام)

إن النبيّ يوسف×، عند إطلاق سراح أحد السجناء من سجن فرعون، طلب منه أن يذكره ويتشفَّع له عند حاكم مصر. ولكنّ هذا الأمر لم يكن مقبولاً عند الله؛ لما فيه من الغفلة عن ذكر الله، وجعل عبد الله وكيلاً له. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى قد عاتب النبيّ يوسف على ذلك بقوله: ﴿قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: 42).

وفي روايةٍ عن النبيّ الأكرم| تؤيِّد هذا التفسير، قال: «لولا كلمة يوسف ما لبث في السجن ما لبث»([32]).

لقد ذهب أكثر المفسِّرين إلى اعتبار هذا الفعل من النبيّ يوسف× مصداقاً لترك الأَوْلى. إن المطالبة بالمساعدة من الآخرين أمرٌ مباحٌ للناس العاديين، ولكنّ هذا الأمر لا يتناسب مع شأن الأنبياء^؛ إذ لا ينبغي لهم الغفلة عن الله سبحانه وتعالى ولو للحظةٍ واحدة([33]).

ج ـ قصّة النبيّ موسى (عليه السلام)

إن النبيّ موسى× في النزاع الذي حدث بين شخصين: أحدهما: من بني قومه؛ والآخر: من الأقباط، انتصر للمظلوم منهما، فوكز القبطيّ، وأسقطه أرضاً، ممّا أدى إلى موته، فندم النبيّ موسى× على ذلك، وسأل الله المغفرة. وقد بيَّن القرآن الكريم ذلك بقوله: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ (القصص: 15).

في الدفاع عن عصمة النبيّ موسى×، الذي ارتكب عملية القتل هنا، تمَّتْ الاستفادة من مفهوم ترك الأَوْلى، وقيل: إن ذلك الشخص كان مستحقّاً للقتل، ولكنْ كان من الأفضل للنبيّ موسى× أن يُرجئ قتله إلى حين نزول الأمر بذلك من قِبَل الله سبحانه وتعالى. ولذلك فقد اعتبر النبيّ موسى أنه ظالمٌ لنفسه، واعتبر أن ما قام به كان من عمل الشيطان([34]).

د ـ قصّة النبيّ يونس (عليه السلام)

في قصّة النبيّ يونس× قيل: إن المراد من ارتكاب الظلم الذي صدر عنه، على ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، هو ترك الأَوْلى، بمعنى الصبر([35]). إن الصبر فضيلةٌ لا يمكن توقُّعها من كلّ شخصٍ، ولكنْ بالنظر إلى شأن ووظيفة الأنبياء فهي متوقَّعةٌ منهم؛ حيث يجب أن يتوفَّروا على المزيد من الصبر في دعوة الناس إلى الإيمان. وقد كان النبيّ يونس صابراً ومجاهداً في دعوة قومه إلى الإيمان، ولكنّه ترك الصبر الأكبر الذي هو أَوْلى، ولذلك فقد وصف نفسه بأنه ظالمٌ لنفسه.

هـ ـ فعل النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله)

إن من بين الموارد التي استفاد فيها المتكلِّمون من مفهوم ترك الأَوْلى لتأويل أفعال الأنبياء كثيراً هي القصة المرتبطة بطرد النبيّ الأكرم| لبعض المؤمنين، الأمر الذي أدّى إلى نزول قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 52).

وكانت قصّة ذلك أن بعض الكبار والأثرياء من مشركي قريش قد التقوا النبيّ الأكرم|، وقالوا له: إذا كنت تريد منا أن نؤمن فإن شرطنا على ذلك هو أن تطرد هؤلاء الفقراء من حولك، فاستجاب النبيّ الأكرم| لطلبهم؛ طمعاً في هدايتهم ودعوتهم إلى الإيمان، وأرجأ لقاءه بالمؤمنين من الفقراء إلى إشعارٍ آخر. ولم يقَعْ هذا مورداً لرضا الله سبحانه وتعالى، وأنزل عليه الآية المذكورة.

ولا يرى المتكلِّمون، في تبريرهم لهذا الفعل النبويّ في طرد المؤمنين، إهانةً وإساءةً واستخفافاً بهم، بل هو مجرّد إرجاءٍ لوقت اللقاء بهم إلى موعدٍ آخر. ومن هنا لا يكون في هذا النوع من التصرُّف معصيةٌ، بل هو مجرّد تركٍ للأَوْلى. فالأَوْلى في نظر الله سبحانه وتعالى هو تقديم المؤمنين على المشركين في كلّ الظروف والأحوال.

وقد ذهب العلاّمة المجلسي في تبرير سلوك النبيّ الأكرم| إلى اعتباره مجرّد خطأ في الاجتهاد؛ بمعنى أن النبيّ الأكرم| رأى أن تحديد موعدٍ آخر للمؤمنين لا يؤدّي إلى تفويت مصلحةٍ للمؤمنين، سواء في أمور دينهم أو دنياهم؛ وعليه فإن من الأفضل أن يغتنم هذه الفرصة من أجل هداية هؤلاء الكفّار والمشركين الذين أقبلوا عليه. وإن الخطأ في الاجتهاد موردٌ للعفو والغفران، باتّفاق جميع الفقهاء([36]).

وقال الفخر الرازي، في تأويل استناد الظلم إلى النبيّ الأكرم|: إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه المناسب. إن أولئك الفقراء كانوا يستحقّون التعظيم والتبجيل من قِبَل النبيّ الأكرم|، ولكنّه طردهم من مجلسه، ولقد كان هذا ظلماً، ولكنّه لا يعني ارتكاب المعاصي وترك الواجبات، بل بمعنى ترك الأَوْلى والأفضل. ثمّ قال في معرض الدفاع عن العصمة النبوية: إننا نحمل جميع الموارد ـ التي هي من هذا القبيل ـ على ترك الأفضل والأَوْلى([37]).

4ـ الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء

سوف نشير في هذا القسم إلى بعض الأدلّة العقلية على عصمة الأنبياء؛ ليتّضح الدليل الذي استند إليه المتكلِّمون في ادعاء عصمة الأنبياء من جميع أنواع الأخطاء والذنوب، حتّى ما كان منها صادراً عن سَهْوٍ أو نسيانٍ.

إن قيمة هذا البحث تكمن في سَعْينا إلى إثبات ما إذا كانت هذه الأدلّة تجيز ارتكاب ترك الأَوْلى من قِبَل الأنبياء^؟

أـ وثوق الناس واعتمادهم

رُبَما أمكن اعتبار الدليل العقلي الأهمّ على عصمة الأنبياء هو ضرورة وثوق واعتماد الناس على الأنبياء من أجل تحقيق الهدف من النبوّة([38]).

إن شكل الاستدلال على النحو التالي: لو شاهد الناس صدور الذنب والخطأ عن النبيّ فإنهم سيفقدون الثقة به والاعتماد عليه، ونتيجةً لذلك لن يتَّبعوه، وبالتالي لن يتحقَّق الهدف من البعثة، وإن إرسال الرسل ـ الذي هو فعلٌ إلهيّ ـ سوف يكون عَبَثاً، ولكنّ التالي باطلٌ، فالمقدَّم مثله. وعليه فإن الأنبياء معصومون من جميع المعاصي والأخطاء، عمداً أو سهواً، صغيرها وكبيرها، قبل النبوة وبعدها.

وقال بعض المتكلِّمين في بيان هذا الاستدلال: «لا بُدَّ لكلّ نبيٍّ أن يكون موضع ثقة عموم الناس قبل كلّ شيءٍ، بحيث لا يجدون في كلامه أيّ احتمالٍ للكذب والخطأ والتناقض؛ إذ إن مركزه سوف يتزلزل في غير هذه الحالة. وإذا لم يكن الأنبياء معصومين فإن المتذرِّعين سوف يحتجّون لعدم إيمانهم بإمكانية خطأ الأنبياء، كما أن الباحثين عن الحقيقة يتزعزع إيمانهم بصحّة محتوى دعوتهم، فيرفض الطرفان رسالاتهم، أو في الأقلّ لا يكون تقبُّلهم لها مصحوباً بحرارة الثقة والإيمان. هذا الدليل ـ الذى يُسمَّى «دليل الاعتماد» ـ يعتبر من أهمّ أدلّة عصمة الأنبياء»([39]).

إن النقطة الأهمّ في هذا الاستدلال تكمن في أنه في صدد نفي إمكان واحتمال صدور جميع أنواع الذنوب والأخطاء من الأنبياء، ويرى أن إمكان صدوره يمثِّل احتجاجاً من قِبَل المخالفين؛ إذ حيث يوجد احتمالُ ارتكاب الذنوب من قِبَل النبيّ لا يمكن الاطمئنان بأقواله وأفعاله. وإن التَّبَعيّة لمَنْ يحتمل الخطأ في حقِّه غير واجبةٍ عقلاً. وبالتالي فإنه لتحقُّق الاعتماد التامّ والكامل من قِبَل الناس على النبيّ، وتحقُّق أهداف البعثة، يقوم الافتراض على وجوب عصمة الأنبياء بشكلٍ كامل؛ بحيث لا يحتمل الناس في حقِّهم أيّ نوعٍ من أنواع الخطأ والزلل. كما يعتمد الناس على الله بشكلٍ كامل؛ بسبب عدم إمكان صدور أيّ خطأ عنه.

ب ـ نقض الغرض من إرشاد الناس

الدليل العقلي الآخر على عصمة الأنبياء هو أن الغرض من بعثة الأنبياء وإرسال الرسل يكمن في إرشاد الناس إلى المصالح الواقعية، ومنعهم من ارتكاب المفاسد، وإعداد المقدّمات لتزكيتهم، وإيصالهم إلى المقام اللائق بالكمال الإنسانيّ، وسعادته في الدنيا والآخرة.

وإن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلاّ بإثبات العصمة للأنبياء؛ لأن الأنبياء إذا ارتكبوا أدنى معصيةٍ أو خطأ، سواء أكان ذلك عن نسيانٍ أو عمدٍ وعصيان، لن يكتب التحقُّق لإرشاد الناس إلى المصالح الحقيقية، والنهي عن المفاسد الواقعية؛ لأن تصديق الخاطئ والناسي والعاصي يمثِّل نقضاً للغرض من الرسالة، ومخالفاً للحكمة الإلهية. وعليه يجب أن يكون الأنبياء معصومين من جميع الأخطاء والنسيان والمعاصي([40]).

ج ـ وجوب اتباع النبيّ

ومن بين الأدلة على عصمة الأنبياء ـ والذي يمكن اعتباره دليلاً عقليّاً بَحْتاً، كما يمكن اعتباره دليلاً عقلياً ـ نقلياً أيضاً ـ أنه على أساس فلسفة ضرورة إرسال الرسل من ناحيةٍ فإن إطاعة الناس للنبيّ واجبةٌ عقلاً (الدليل العقلي)، أو إن الله سبحانه وتعالى قد أمر الناس بإطاعته (الدليل النقلي)، من قبيل: قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ (النساء: 59)([41])، أو قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: 31)؛ ومن ناحيةٍ أخرى لو لم يكن النبيّ معصوماً، وأخطأ في إبلاغ تعاليمه، أو نسي، أو عصى، فلن تكون التَّبعيّة له واجبةً، وسوف يلزم من ذلك محذور اجتماع النقيضين([42]).

د ـ دليل اللطف

لقد ذهب بعض المتكلِّمين في إثبات عصمة الأنبياء إلى التمسُّك بقاعدة اللطف. إن العصمة لطفٌ إلهيّ في حقّ الأنبياء في أمر الدعوة إلى الدين وتبليغ أحكامه وتعاليمه، وهذا يؤدّي إلى جعلهم أكثر توفيقاً ونجاحاً في أداء تكاليفهم، والاضطلاع بمسؤولياتهم. وهذا هو مفهوم اللطف؛ إذ قيل في معناه: «اللطف ما يقرِّب المكلَّف من أداء التكليف».

كما أن عصمة الأنبياء لطفٌ في حقّ العباد أيضاً؛ حيث يجعلهم ذلك أكثر توفيقاً ونجاحاً في العمل بتكليفهم المتمثِّل بتصديق الأنبياء.

ويجب على الله سبحانه وتعالى ـ طبقاً لقاعدة اللطف ـ أن يقوم بكلّ ما من شأنه أن يقرِّب العباد إلى طاعته؛ إذن يجب على الله أن يعصم الأنبياء من الأخطاء والمعاصي والنسيان([43]).

هـ ـ إعراض القلوب أو السقوط من أعين الناس

ومن بين الأدلّة الأخرى على إثبات عصمة الأنبياء أن النبيّ إذا أخطأ أو زلَّتْ به القَدَم سوف يكون الإنكار عليه واجباً، الأمر الذي سيؤدّي بدَوْره إلى سقوط النبيّ من أعين الناس، أو يؤدّي إلى إعراض قلوبهم عنه، وعندها لن يطيعه الناس، وتنتفي الفائدة من البعثة([44]).

5ـ نقد مفهوم ترك الأَوْلى في الدفاع عن العصمة

كما ذكَرْنا سابقاً فإن مصطلح «ترك الأَوْلى» قد تمّ اختراعه من قِبَل المتكلِّمين الإسلاميين لتوجيه وتأويل ظواهر بعض الآيات القرآنية الدالّة على صدور الذنب والمعصية من الأنبياء.

فقد عمد المتكلِّمون الإسلاميون، من خلال حمل هذا النوع من الآيات على ترك الأَوْلى، إلى نفي تهمة ارتكاب المعاصي والذنوب عن ساحة الأنبياء.

إن النبيّ آدم ونوح ويوسف وموسى ويونس وغيرهم من الأنبياء^ لم يرتكبوا ذنباً، وإنما كلّ الذي صدر عنهم لم يكن سوى تركاً للأَوْلى.

ونحن نرى أن اعتقاد المتكلِّمين الشيعة ـ القائلين بالعصمة المطلقة للأنبياء ـ في القول بجواز ارتكاب ترك الأَوْلى من قِبَل الأنبياء يتعارض مع عصمتهم من جهتين:

الأولى: تتمثَّل في تعارض هذه القاعدة مع الاعتقاد بعصمة الأنبياء من جميع أنواع السهو والخطأ، على ما هو عليه اعتقاد متكلِّمي الشيعة.

الثانية: تتمثَّل في تعارض هذه القاعدة مع الأدلة العقلية على العصمة، والتي استفاد المتكلِّمون الإسلاميون منها في إثبات عصمة الأنبياء.

وفي هذه المقالة سوف نقتصر على التعرُّض للجهة الثانية فقط. فعلى أساس الأدلة العقلية على العصمة لا ينبغي للأنبياء أن يرتكبوا حتّى ما كان من قبيل: ترك الأَوْلى.

إن الصورة العامّة للاستدلال تكون على هذه الشاكلة:

المقدّمة الأولى: ترك الأولى خطأٌ وباطل.

المقدمة الثانية: طبقاً للأدلة العقلية ـ المستفادة من قِبَل المتكلِّمين من الشيعة ـ لا ينبغي بالأنبياء أن يرتكبوا أيّ خطأ أو عملٍ مجانب للصواب؛ لأن ذلك يؤدّي إلى عدم وثوق الناس بهم، ويؤدّي إلى نقض الغرض من إرشادهم، وعدم لزوم تبعيّتهم للأنبياء، وإعراض قلوب الناس عنهم، وسقوطهم من أعين الناس.

النتيجة: إن الأنبياء لا ينبغي لهم أن يرتكبوا حتّى ما كان من قبيل: ترك الأَوْلى.

أـ خطأ أعمال الأنبياء

لقد تمّ بحث المقدّمة الأولى في مفهوم ومعنى ترك الأَوْلى بالمقدار الكافي.

إن ترجيح المرجوح خطأٌ بحكم ضرورة العقل.

ففي قصّة النبي آدم× كان ينبغي لآدم أن يطيع النهي الإرشاديّ لله سبحانه وتعالى، ولكنه لم يُطِع.ْ ونتيجةً لذلك فإن ما قام به كان خطأً ومجانباً للصواب.

وإن النبيّ يوسف× قد غفل عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وجعل من عبد الله وكيلاً لتحرير نفسه من السجن. وكان من الأجدر به في ضوء مهمّته وحرفته النبويّة أن لا يغفل عن الله ولو للحظةٍ واحدة. وعليه فإنه لم يقُمْ بذكر الله بالمقدار الصحيح (في جميع لحظات حياته)، وإن ما قام به من الاستعانة بالشخص الخطأ (السجين المحرَّر) لم يكن صائباً. وعليه فإن ما قام به النبيّ يوسف× كان خطأً من عدّة جهات.

وكان ما قام به النبيّ يونس× مصداقاً لترك الأَوْلى؛ إذ كان الأجدر به؛ لشأن النبوّة، أن يتَّسع صدره لقومه، وأن يتحلّى بالمزيد من الصبر في دعوتهم إلى الله، وأن لا يسارع إلى الامتعاض منهم، وأن لا يستعجل الدعاء باللعنة عليهم والانتقام منهم. وعليه فإن استقامته في دعوة الناس إلى الإيمان لم تكن بالمقدار الصحيح، وإن دعوته ومطالبته بتعذيبهم لم تكن قد صدرَتْ عنه في الوقت المناسب. وعليه فإن النبيّ يونس× كان مخطئاً في ذلك أيضاً.

كما أن ما قام به النبيّ الأكرم| من طرد المؤمنين من مجلسه، واهتمامه بالمشركين ـ وإنْ كان بدافع دعوتهم وهدايتهم إلى الإسلام ـ، كان خاطئاً ومجانباً للصواب في نظر الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي بنبيّ الإسلام أن يقوم بترجيح المشركين على المؤمنين. إن عملية الترجيح هنا بالنسبة إلى الشخص لم تقَعْ بالشكل الصحيح. وكان الحقّ أن يتمّ ترجيح المؤمن على المشرك دائماً وأبداً. وعليه فإن ما قام به النبيّ الأكرم| من ترجيح المشرك على المؤمن كان خطأً أيضاً، واستحقّ لذلك توجيه العتاب إليه من الله عزَّ وجلَّ.

ب ـ عدم تناغم ارتكاب ترك الأَوْلى مع أدلة العصمة

1ـ عدم التناغم مع دليل وثوق واعتماد الناس على الأنبياء

طبقاً لدليل الوثوق يُدَّعى بأن الناس إذا شاهدوا صدور معصيةٍ أو خطأ من النبيّ، عمداً أو سهواً، كبيرةً أو صغيرةً، قبل البعثة أو بعدها، فإنهم سوف يفقدون ثقتهم به، ولن يعتمدوا عليه، ونتيجةُ ذلك أنهم لن يتَّبعوه. وعليه يجب أن يكون النبيّ معصوماً من جميع أنواع الخطأ والزلل.

وكما هو واضح فإن الأنبياء ـ في ضوء هذا الاستدلال ـ يجب أن يكونوا منزَّهين حتّى عن ترك الأَوْلى؛ لأن ترك الأَوْلى نوعٌ من الخطأ أيضاً.

وكيف يمكن للناس أن يعتمدوا على نبيٍّ يجوز في حقّه ارتكاب الخطأ؟!

وكيف يمكنهم الاعتماد على النبيّ آدم×، في حين أنه يخالف النهي الإرشاديّ الصادر عن الله سبحانه وتعالى؟! إن الذي يخالف النهي الإرشاديّ بإمكانه أن يخالف النهي المولويّ أيضاً.

وكيف يمكن الاعتماد على النبيّ يوسف×، في حين أنه يلجأ في خلاصه من الحبس إلى عبدٍ عاجز من عباد الله؟! رُبَما أمكن في حقِّه والحال هذه أن يغفل عن ذكر الله في ما هو أهمّ من هذا الموقف، ويصدر عنه لذلك حكمٌ خاطئ.

وكيف يمكن الاعتماد على النبيّ موسى×، في حين أنه يعمد إلى قتل شخصٍ دون أن يصدر الأمر إليه من عند الله بذلك، وإنْ كان المقتول مستحقّاً للقتل؟!

كما نقل عن بعض المتكلِّمين الإسلاميين أنهم ـ للوثوق الكامل من قِبَل الناس بالأنبياء ـ قد فسَّروا العصمة بمعنى نفي احتمال وإمكان صدور أيّ نوعٍ من أنواع الخطأ والزَّلَل من الأنبياء: من الضروري لكلّ نبيٍّ قبل أيّ شيءٍ أن يكون موضع اعتماد الناس، بحيث لا يَرِدُ هناك أيّ احتمالٍ للكذب والخطأ والتناقض في كلامه… لو لم يكن الأنبياء معصومين لأمكن للمخالف؛ بسبب إمكان الخطأ في حقّ الأنبياء، أن يحتجّ عليهم بعدم إيمانه بهم([45]).

إن الغرض من بعث الأنبياء^ هو لفت نظر الخلق إليهم بوصفهم مقدّمة لتوجُّههم إلى الله تعالى والآخرة… ولا يمكن لهذا الغرض أن يتحقَّق إلاّ من خلال الاعتماد الكامل على أفعال الأنبياء وأقوالهم، ولا يمكن لهذا الاعتماد أن يحصل إلاّ إذا لم يشاهد أحدٌ من الناس طوال حياته صدورَ خطأ أو زلّةٍ منه، وهذا في العادة لا يكون ممكناً إلاّ إذا كان متَّصفاً بمَلَكة العصمة([46]).

2ـ عدم التناغم مع دليل نقض الغرض من إرشاد الناس

قيل في الدليل الثاني على العصمة: إن الغرض من بعث الأنبياء ـ الذي هو تربية وإرشاد الناس إلى المصالح الحقيقية وردعهم عن المفاسد الواقعية ـ لا يتحقَّق إلاّ بالعصمة؛ لأن الأنبياء إذا جاز عليهم أن يرتكبوا أيّ خطأ أو نسيانٍ أو معصيةٍ فلن يتحقَّق إرشاد الناس إلى المصالح الحقيقية والنهي عن المفاسد الواقعية.

قال بعض المتكلمين ما محصّله: «…لأن الذي يجوز عليه الخطأ وارتكاب المعاصي سوف يكون عاجزاً عن إرشاد الناس إلى الحقّ، وحملهم على طاعته»([47]).

وهنا يؤكِّد المتكلِّمون على جواز وإمكان الخطأ أيضاً. لو ارتكب نبيٌّ خطأً، من أيّ نوعٍ كان، حتّى ولو كان من قبيل: ترك الأَوْلى، سوف ينفتح في حقِّه باب إمكان وجواز الخطأ. وإن الذي يُحتَمَل في حقِّه الخطأ لا يكون جديراً بهداية الناس؛ إذ يمكن في كلّ لحظةٍ أن يقع في الخطأ في تشخيص المصلحة أو المفسدة، ويضلّ الناس بذلك. إذن يجب أن يكون الأنبياء معصومين من جميع أنواع الخطأ، بما في ذلك ترك الأَوْلى.

3ـ عدم التناغم مع دليل وجوب اتباع النبيّ

الاستدلال الثالث على العصمة كان ـ من ناحيةٍ ـ عبارةً عن إثبات وجوب إطاعة النبيّ على أساس حكم العقل أو الآيات القرآنية؛ ومن ناحيةٍ أخرى لو لم يكن النبيّ معصوماً، وكان عرضةً للخطأ في أوامره، لن يكون اتّباعه واجباً، وهذا اجتماعٌ للنقيضين. وعليه يجب أن يكون النبيّ منزَّهاً عن جميع أنواع الخطأ والزَّلَل.

إن عدم تناغم هذا الاستدلال مع ارتكاب ترك الأَوْلى واضحٌ أيضاً؛ فكيف يمكن إطاعة نبيٍّ لم يُطِعْ الأوامر الإلهية وإنْ كانت إرشاديّةً؟! وكيف يمكن إطاعة أمر نبيٍّ في التوسُّل بالله والتوكُّل عليه، في حين أن هذا النبيّ بنفسه قد غفل عن ذكر الله وتوسَّل بغيره؟! وكيف يمكن إطاعة نبيٍّ والحال أنه نفسه لم يتمتَّع بالصبر والاستقامة اللازمة في ما يتعلَّق بواجب النبوة في هداية الناس ودعوتهم؟! إذن يجب على الأنبياء أن يكونوا معصومين حتّى من ترك الأَوْلى.

4ـ عدم التناغم مع دليل اللطف

كان الاستدلال الرابع على إثبات عصمة الأنبياء هو التمسُّك بقاعدة اللطف. إن العصمة لطفٌ من الله في حقّ الأنبياء في أمر الدعوة وتبليغ الدين، ويؤدّي بهم إلى أن يكونوا أكثر نجاحاً وتوفيقاً في أداء تكليفهم.

والإشكال الذي يَرِدُ هنا يقول: لو كانت العصمة من الذنب والنسيان والسَّهْو لطفاً من الله؛ لكي يقوم النبيّ بوظائف وتكاليف النبوة بشكلٍ أفضل، فلماذا لم يُفِضْ الله لطفه في حقِّهم، ويعصمهم من ارتكاب ترك الأَوْلى؛ ليُتمّ بذلك لطفه في حقِّهم؟! وعليه فإنه حيث اعتبرت قاعدة اللطف ضروريّةً لذات الدليل، وعلى أساس ذات ملاك عصمة الأنبياء من الذنوب، تبدو العصمة من ترك الأَوْلى لازمةً أيضاً. إذن يجب أن يكون الأنبياء معصومين حتّى من ترك الأَوْلى أيضاً.

5ـ عدم التناغم مع دليل إعراض القلوب

كان الاستدلال الخامس عبارةً عن أن النبيّ لو ارتكب خطأً أو زلّةً وجب الإنكار عليه، وهذا يؤدّي إلى سقوطه من أعين الناس.

إن عدم تناغم هذا الدليل مع ترك الأَوْلى واضحٌ أيضاً؛ فإن ترك الأَوْلى يؤدّي بدَوْره إلى سقوط الأنبياء من أعين الناس أيضاً. أَفَلَسْنا عند قراءتنا لقصص الأنبياء في القرآن ـ حيث ارتكبوا ترك الأَوْلى ـ نقول في أنفسنا: يا ليتهم لم يرتكبوا ترك الأَوْلى؟ وكنا نتمنّى لو أن النبيّ آدم× لم يأكل من ثمار الشجرة المحظورة؛ ولو أن النبيّ موسى× لم يرتكب قتل الرجل القبطي قبل أن يصدر إليه الأمر بذلك من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وليت النبيّ يوسف× لم يغفل عن ذكر الله. إذا كان الأمر كذلك فمن الضروري أن يكون الأنبياء معصومين حتّى من ارتكاب ترك الأَوْلى؛ كي لا يسقطوا من أعين الناس.

6ـ النتيجة

لقد تمّ السعي في هذه المقالة إلى بحث ونقد طريقة المتكلِّمين الإسلاميّين ـ ولا سيَّما المتكلِّمون من الشيعة ـ في جعل مفهوم «ترك الأَوْلى» لتوجيه بعض الأفعال الصادرة عن الأنبياء، والتي تبدو في ظاهرها أنها من الأخطاء والذنوب.

واستَنْتَجْنا من ذلك أن ترك الأَوْلى؛ حيث يكون خطأً من الناحية العقلية والأخلاقية، إذن لا يمكن لنا أن ننكر أن ما قيل في مورد تصويب أفعال الأنبياء تحت مُسمّى «ترك الأَوْلى» هو في الحقيقة نوعٌ من الخطأ والزلل. وإن القبول بخطأ أعمال الرُّسُل لا يتناغم مع الأدلّة المذكورة لإثبات عصمتهم؛ لأن هذه الأدلّة، من قبيل: الثقة بالأنبياء والاعتماد عليهم، وتحقُّق الغاية من إرشاد الناس، ووجوب اتّباع النبيّ، وعدم إعراض قلوب الناس، وقاعدة اللطف، تنفي صدور جميع أنواع الخطأ، بل حتّى ما كان من قبيل: احتمال أو إمكان صدور أيّ نوعٍ من أنواع الخطأ والزَّلَل عن الأنبياء.

وعلى هذا الأساس، إذا اعتبرنا هذه الأدلة متقنةً ومحكمة لا يبقى أمامنا من مندوحةٍ سوى اتخاذ الخطوة الأخيرة أيضاً، واعتبار الأنبياء معصومين حتّى من ارتكاب ترك الأَوْلى أيضاً.

وعليه فإن ما ذهب إليه المتكلِّمون الشيعة من امتناع صدور أيّ نوعٍ من الذنوب والأخطاء عن الأنبياء، وأنهم لا يرتكبون سوى ترك الأَوْلى، ليس صحيحاً؛ إذ إن الأدلّة الكلامية التي تُساق لإثبات العصمة تقتضي بدَوْرها أن يكون الأنبياء معصومين حتّى من ارتكاب ترك الأَوْلى أيضاً.

والمشكلة التي سوف تمثل أمامنا في هذه الحالة هي أن الآيات التي تبدو في ظاهرها تدلّ على صدور الذنوب والمعاصي من الأنبياء سوف تتربَّص بنا وتترصَّدنا، وسوف نفقد السلاح الأمضى لدى الكلام الإسلاميّ والشيعيّ في تفسير تلك الآيات وتأويلها.

ومن هنا يجب إما التفكير في العثور على حلٍّ آخر لهذه الآيات، من قبيل: اعتبارها من الآيات المتشابِهة التي لا يمكن للعقل أن يصل إلى معرفتها وفَهْم كُنْهها وحقيقتها، ونعتبر جميع الروايات الواردة في هذا الشأن ضعيفةً؛ أو أن نرفع اليد عن الأدلة الكلامية المذكورة لإثبات عصمة الأنبياء من جميع الأخطاء.

ويذهب كاتب هذه السطور إلى تبنّي طريقة الحلّ الثانية، حيث يرى عدم تمامية الأدلّة العقلية المذكورة لإثبات عصمة الأنبياء، وأنه ليس من اللازم اشتراط وثوق الناس وهدايتهم والقول بالعصمة المطلقة من جميع أنواع الخطأ والزَّلَل في تحقُّق الغرض من الرسالة، ومن الممكن أن تثبت رسالة ونبوّة الأنبياء الذين يصدر عنهم الزَّلَل بنسبة 1%، ويصيبون طوال حياتهم بنسبة 99%([48]).

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الفلسفة في جامعة زنجان ـ إيران، متخصِّصٌ في مجال فلسفة الأخلاق.

([1]) انظر: الشيخ المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية 4: 424، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، قم، 1413هـ؛ الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: 129، المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، قم، 1413هـ؛ السيد المرتضى، الذخيرة في علم الكلام: 337، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1411هـ؛ سديد الدين الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد 1: 424، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1412هـ؛ محمد حسين المظفر، دلائل الصدق 2: 378، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1422هـ.

([2]) السيد المرتضى، تنـزيه الأنبياء: 2، منشورات الشريف الرضي، قم، 1250هـ.

([3]) العلاّمة الحلّي، أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 196، تحقيق: محمد نجمي الزنجاني، منشورات الشريف الرضي، ط2، 1363هـ.

([4]) انظر: إبراهيم الموسوي الزنجاني، عقائد الإمامية الاثني عشرية 1: 41، مؤسسة الأعلمي، ط3، بيروت، 1413هـ.

([5]) انظر: عضد الدين علي بن محمد الجرجاني الإيجي، شرح المواقف 8: 267 ـ 268، تصحيح: بدر الدين نعساني، منشورات الشريف الرضي، قم، 1325هـ؛ فخر الدين الرازي، الأربعين في أصول الدين 2: 167، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1986م.

([6]) عنوانها في الأصل الفارسي: (إمام رضا× وترك أولاي أنبيا در قرآن).

([7]) انظر: محسن احتشامي نيا، وأمين خوش رفتار، إمام رضا× وترك أولاي أنبيا در قرآن (الإمام الرضا× وترك الأنبياء للأَوْلى في القرآن الكريم)، مجلة سفينة، العدد 41 (11): 25 ـ 49، 1392هـ.ش. (مصدر فارسي).

([8]) انظر: لويس معلوف، المنجد في اللغة: 919، نشر پرستو وانتشارات پيراسته، 1374هـ.ش؛ محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 15: 407، مركز تحقيقات علوم كامپيوتري إسلامي (جامع الأحاديث، نور 2).

([9]) انظر: فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 5: 442، مركز تحقيقات علوم كامبيوتري إسلامي (جامع الأحاديث، نور 2).

([10]) انظر: ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 5: 524.

([11]) انظر: عددٌ من الكتاب، في رحاب أهل البيت^ 40: 34 ـ 35، المجمع العالمي لأهل البيت^، ط2، 1426هـ.

([12]) انظر: جعفر السبحاني، عصمة الأنبياء: 99، مؤسسة الإمام الصادق×، قم.

([13]) انظر: السيد محسن خرازي، بداية المعارف الإلهية في شرع عقائد الإمامية 1: 258، مؤسسة النشر الإسلامي، ط4، قم، 1417هـ.

([14]) انظر: السبحاني، عصمة الأنبياء: 99.

([15]) انظر: الرازي، الأربعين في أصول الدين 2: 167؛ خرازي، بداية المعارف الإلهية في شرع عقائد الإمامية 1: 258.

([16]) انظر: خرازي، بداية المعارف الإلهية في شرع عقائد الإمامية 1: 258.

([17]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 4: 599، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب×، قم، 1379هـ.ش.

([18]) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من الأصل. (المعرِّب).

([19]) الخواجة نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل (المعروف بنقد المحصل): 371، دار الأضواء، ط2، بيروت، 1405هـ.

([20]) انظر: الطريحي، مجمع البحرين 1: 125؛ ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 1: 65.

([21]) انظر: ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 1: 67؛ الطريحي، مجمع البحرين 1: 124.

([22]) انظر: ابن منظور الأفريقي، لسان العرب 1: 66.

([23]) انظر: أرسطو، أخلاق نيكوماخوس (علم الأخلاق إلى نيقوماخوس): 64، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد حسن لطفي، نشر طرح نو، طهران، 1378هـ.ش.

([24]) انظر: حسين أترك، نظرية اعتدال در أخلاق إسلامي (نظرية الاعتدال في الأخلاق الإسلامية): 123 ـ 126، انتشارات پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي، طهران، 1395هـ.ش. (مصدر فارسي).

([25]) انظر: المصدر السابق: 126 ـ 128.

([26]) الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية: 258 ـ 259، تحقيق وتعليق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي، دفتر تبليغات إسلامي، ط2، قم، 1422هـ.

([27]) لا يخفى أن استعمال مفهوم الحرفة وإطلاقها على النبوة هنا يأتي من باب المسامحة.

([28]) الإيجي، شرح المواقف 8: 267 ـ 268.

([29]) انظر: فخر الدين الرازي، المحصّل: 526، تقديم وتحقيق: الدكتور أتاي، دار الرازي، عمان، 1411هـ.

([30]) انظر: أبو بكر أحمد الرازي الحنفي، شرح بدء الأمالي: 277، تحقيق: أبو عمرو الحسيني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1422هـ؛ عددٌ من الكتاب، في رحاب أهل البيت^ 40: 37.

([31]) انظر: مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 4: 600.

([32]) القاضي عياض، الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 2: 387 ـ 388، دار الفيحاء، ط2، عمان، 1407هـ.

([33]) انظر: المصدر السابق 2: 389.

([34]) انظر: الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية: 274 ـ 275.

([35]) انظر: الرازي، الأربعين في أصول الدين 2: 160؛ سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد 5: 58، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، منشورات الشريف الرضي، أوفست قم، 1409هـ.

([36]) انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 71: 43، مؤسسة الشفاء، بيروت، 1404هـ.

([37]) انظر: فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب 12: 541، دار إحياء التراث العربي، ط3، بيروت، 1420هـ.

([38]) انظر: السيد عبد الله شبّر، حق اليقين في معرفة أصول الدين: 136، أنوار الهدى، ط2، قم، 1424؛ السيد هاشم الحسيني الطهراني، توضيح المراد: 649 ـ 650، انتشارات مفيد، ط3، طهران، 1365هـ.ش.

([39]) ناصر مكارم الشيرازي، دروس في العقائد الإسلامية: 143، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب×، ط3، قم، 1385هـ.ش.

([40]) انظر: خرازي، بداية المعارف الإلهية في شرع عقائد الإمامية 1: 251؛ محمد حسين المظفَّر، دلائل الصدق 4: 375؛ علي بامياني، خلافة الإمام عليّ× بين النصوص الدينية والتغطية الإعلامية: 18، مؤسسة السيدة زينب، ط2، بيروت، 1420هـ.

([41]) وانظر أيضاً: المائدة: 92؛ النور: 54؛ محمد: 33؛ التغابن: 12.

([42]) انظر: التفتازاني، شرح المقاصد 5: 51؛ الإيجي، شرح المواقف 8: 265 ـ 266 ؛ السيد عبد الله شبّر، حق اليقين في معرفة أصول الدين: 136؛ محمد حسين المظفّر، دلائل الصدق 4: 182 ـ 183.

([43]) انظر: محمد جعفر الأسترآبادي، البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة 3: 20، تحقيق: مركز مطالعات وتحقيقات إسلامي، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1382هـ.

([44]) انظر: العلاّمة الحلّي، تسليك النفس إلى حظيرة القدس: 187، تحقيق: فاطمة رمضاني، مؤسّسة الإمام الصادق×، قم، 1426هـ.ش؛ السيد عبد الله شبر، حقّ اليقين في معرفة أصول الدين: 136؛ محمد حسين المظفَّر، دلائل الصدق 4: 182.

([45]) انظر: مكارم الشيرازي، دروس في العقائد الإسلامية: 143.

([46]) انظر: السيد هاشم الحسيني الطهراني، توضيح المراد: 649 ـ 650.

([47]) انظر: علي بامياني، خلافة الإمام عليّ× بين النصوص الدينية والتغطية الإعلامية: 18.

([48]) لقد قام كاتب هذه المقالة بنقد هذه الأدلّة في مقالةٍ أخرى له تحت عنوان: (مناقشة الأدلة العقلية على العصمة في الكلام الشيعي).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً