أحدث المقالات


إيمان شمس الدين

في ظل التطورات الراهنة والمتسارعة التي تعيش فيها المنطقة من ثورات متنقلة بين الدول كان لإرادة الشعوب فيها الكلمة الفصل,يطل علينا الكاتب والمفكر الأستاذ أحمد شهاب بكتابه الحداثة المغلولة مفارقات الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة ليقدم مجموعة من الأفكار التي لو طرحت في وقت آخر لكنا أول القائلين عنها أنها أفكار نظرية لمثقف يعيش في برجه العاجي البعيد عن واقع الناس وهمومهم.

إلا أن تلاقي ما طرحه المؤلف في ظل ما يحدث من تحولات جيوسياسية في المنطقة استطاع أن يقارب ما بين النظرية والواقع وأن يضع الكثير من الحلول أمام بعض الأنظمة التي قد يأتي دورها في التغيير من قبل شعوبها ومن الممكن أن تؤخذ بعض هذه الافكار وتحول إلى مشاريع عمل قادرة على بناء دولة للشعب فيها دوره في تشكيل سلطتها وبناء مؤسساتها بل دور في مراقبة ومتابعة السلطة والتقليل من فرص الاستبداد والاستئثار.

ففي الفصل الاول الذي عنونه المؤلف بالدولة المعاصرة وبعد عرضه لتطور فكرة الدولة من الدولة القديمة إلى الدولة الوطنية الحديثة وما يربط بينهما ومن ثم شرحه لمفهوم السيادة وما اعتراه من تغيرات خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر, تناول فكرة تقييد السيادة والشبهات التي تطرح حولها.

فالسيادة وفقا للمفهوم التقليدي هي أن الدولة صاحبة السلطة العليا في إقليمها وتدير شؤونها الداخلية والخارجية باستقلال ووفقا لإرادتها,ولا تعلوها في ذلك سلطة إلا بحدود القواعد الآمرة في القانون الدولي وما تلتزم به من معاهدات دولية.وفي عصرنا الحالي مع تطور المجتمعات البشرية لم تعد للدولة السيادة المطلقة لان التنظيم الدولي يحد بشكل كبير من حرية الدولة,ومبدأ تقييد السيادة يعني وضع القيود على كيفية ممارسة الدولة لحقوقها ,بما يضمن مصلحة المجتمع الدولي,وعليه فإن مبدأ تقييد السيادة يؤثر على حقوق السيادة من حيث الكم,ولكنه لا يمس بها من حيث النوع.

وفي كتابه الحداثة المغلولة يطرح الباحث مبدأ تقييد السيادة حيث يقول أن عدد كبير من الباحثين يعتبر دعوة تقييد السيادة بحجة التقليل من التسلط والاستبداد على الشعوب هي دعوة مخادعة أطلقتها الدول الكبرى لتبرير تدخلها المستمر في شؤون الدول الاخرى ونهب خيراتها تحت مبرر ولافتة "الشرعية الدولية".بينما يميل طرف آخر إلى القول بأهمية إخضاع الدولة ,لاسيما في العالم العربي ودول العالم الثالث,للتقييد من قبل قوى دولية,لرفع معاناة المجتمعات التي يغيب عنها الحد الادنى من الحريات السياسية والفكرية.

ولكن كيف يرى الكاتب الزميل أحمد شهاب محاذير هذه الفكرة من جهة وتبعات التسليم لهذه المحاذير من جهة أخرى, وما هو موقف التيارات الاسلامية منها , وما هو البديل الصالح من وجهة نظر المؤلف.

يطالعنا الكاتب على مبدأ تقييد السيادة مستعرضا وجهات النظر المختلفة حول هذا المبدأ ثم يبين محاذير التسليم لهذه الرؤى, ويسلط الضوء على رأي التيارات الاسلامية والقومية حول هذا المبدأ ثم يطرح ما يتبناه من رأي يشكل من وجهة نظرنا فكرة مشروع إن تحولت لساحة العمل قد تحدث تغييرا اصلاحيا مثمرا في تقييد السلطة لحساب الدولة والشعب.

فتحت مبررات الخوف من التدخل الخارجي في انتهاك السيادة وبعضها مبررات مشروعة وما ارتكبته بعض الأنظمة من انتهاكات صارخة في حقوق الانسان والتضييق على الحريات وما وفره ذلك من غطاء للعمل الداخلي بعيدا عن المراقبة والمحاسبة ,ولا سيما من الخارج.. قال:لقد وجدت هذه الانتهاكات في الفلسفات السياسية ما يدعمها ويؤكد ضرورة تنازل المواطنين عن حقوقهم الطبيعية لمصلحة السلطة.واعتبار ذلك التنازل المقدمة الموضوعية لضمان السلم الأهلي,والاستقرار الاجتماعي.معتبرا أن على هذه السياقات,انبنى مفهوم السيادة ولفترة طويلة.مبينا أن المعادلة باتت على الشكل التالي:إن أي خروج على رؤى السلطة ,أو أي أحلام أكبر يحملها المجتمع فلسوف تفسر بكونها انحرافا يجب أن تبادر السلطة إلى تقويمه.والمعالجة وغالبا ما تتم المعالجة بطريقة أمنية لا يحسنها إلا جلاوزة غلاظ يسحقون آدمية هذا المختلف-المعارض,الذي"يهدد سيادة الدولة ووحدتها الداخلية".. 

والجدير بالقول أن الباحث يخرج من هذا برؤية لو كنا قرآناها قبل الثورات المتنقلة في الاقطار العربية لكنا وجدناها بعيدة المنال,ولكن وبما أننا نعيش أجواء عملية لما رآه الكاتب ,نجد أن عملية التغيير سواء من الداخل بضغط الخارج أو بضغط الشعوب من الداخل, هي عملية واقعية حقيقية وليست مجرد تطلعات. حيث وجد الكاتب كنتيجة موضوعية لما سبق أن:" هكذا يصبح موضوعيا البحث عن طرق إطلاق يد الشعوب في عملية تحديد مصائرها ,وتحديد مستوى أحلامها وطوحاتها ,وحقها في ممارسة اختياراتها من غير ضغوط,وانتخاب من يحقق تلك التطلعات والأحلام من دون سقف يفرض عليها من الداخل,أو أن تفرض عليها آليات من الصراعات والخلافات الداخلية الضيقة التي لا يمكن أن تخرج منها إلا وهي خائرة القوى ومستنزفة ماديا ونفسيا.فما هو مستنكر ومرفوض وضع قيود خارجية,ينبغي أن يكون مستنكر أيضا وضع قيود داخلية.ذلك أن تقييد المجتمعات والشعوب هو أخطر بما لا يقاس من تقييد السلطة,بينما هذا الاخير بما يكون مدخلا مناسبا لاطلاق الآخر".

وحيث تحدثنا عن مبدأ تقييد السيادة ,فسنستعرض ما خلص إليه الأستاذ أحمد شهاب من رؤية قد تقدم مشروعا عمليا كحل لإشكالية تقييد السيادة رغم ما سنطرحه عليها من تساؤلات. 

فبعد عرضه لهواجس الاصلاحات الخارجية ومبررات من يؤيدها يجد الكاتب أن المشروع الرسمي في الاصلاح بات يتراوح بين الرفض المطلق للاصلاح في جانبه السياسي,وبين قبول نسبي يشترط التدرج,والتدرج يعني أن الاصلاح يأتي من داخل النظام.

وأما عن موقف التيار الاسلامي من الاصلاح الخارجي يقول:"..نرى جناحا كبيرا من التيار الاسلامي يشاطر القيادات الحاكمة الرأي,إذ ينظر إلى دعوات الاصلاح من الخارج بكثير من الريبة والتحفظ,رغم استياء شريحة كبيرة منهم من الأوضاع السائدة…. ثم يوضح مثلب هذه المواقف قائلا:" على أن الرفض الاسلامي للتدخلات الخارجية لا يقابله مشروع واضح للاصلاح من الداخل.وكل ما تطرحه هذه التيارات هو مجموعة من الانتقادات الموجهة إلى الحكومات من جهة وإلى العالم الغربي من جهة أخرى.أما البديل فلا يزال بعيد المنال".

ويستعرض كيفية الانتقال بصور سلمية إلى حال ديموقراطي يتسم بالاستقرارومأمونا من خطر العودة إلى الاستبداد بتبنيه لمشروع جديد طويل المدى ينبني على ضرورة اعتراف الدولة "بالإنسان الجديد" الذي يرتبط بخطين متوازيين: الأول وطني ويتعلق به الشأن السياسي وحقوق المواطن السياسية,,والثاني عالمي ويتعلق به الشأن الإنساني العام والحقوق العالمية.

في المستوى الأول – كما يقول الكاتب – يكون للدولة إضافة للقوى السياسية والاجتماعية في كل بلد أن تضع متطلبات للعمل السياسي – الديموقراطي الذي يكفل حق الجميع بالمشاركة في صناعة القرار السياسي,ووضع الضوابط المنظمة لعملية المشاركة في بلورة هذا القرار.على المستوى الثاني تقف الدولة عند خط أحمر ولا تتعداه,وهو يتصل بكل ما يمكن أن يدخل في إطار الحقوق الأصيلة للإنسان أيا يكن جنسيته أو لونه أو عقيدته.وفي هذا المستوى يحق للمواطن أن ينظم نفسه في إطار منظمات مدنية وإنسانية عامة,تتواصل مع المنظمات الشبيهة خارج الدولة,وتشكل جماعات ضغط تمنع الدولة من التسلط,وتعيد للمجتمع المدني اهتماماته ودوره الحقيقي,ويتم ذلك بتحويل الظواهر المحلية أو الاقليمية إلى ظواهر عالمية".

بشكل عام يميل الكتاب في بعض أفكاره رغم عمقها إلى النظرية ويبتعد فيها عن الواقع العملي, فكان بعضها علاجيا واقعيا وأخرى كانت تنظيرية مثالية.

ولسنا بصدد رفضها بل بصدد تهيئة القابليات والأرضيات لتطبيقها وهو ما يتطلب ورشة عمل في ساحة العقل العربي لتخرج من إطار النقد والهدم إلى إطار النقد والبناء.

فما تناوله الباحث باقتضاب عن موقف التيارات الاسلامية حول مشروع التغيير بالضغط الخارجي نستطيع القول من باب نقد الفكرة أو تثويرها أن تسليط الضوء على هكذا موقف يتطلب منا إنصافا إحاطة الموقف بكل حيثياته وظروفه التاريخية والراهنة, فواقع التيارات الاسلامية حول هل قدمت بديلا فاعلا أم لا, يحتاج منا قراءة موضوعية تستقرئ الظروف التي نشأت فيها التيارت الاسلامية وواقع تحولاتها الفكرية سياسيا ومساحات المشاركة التي سمحت لها ,ورغم أن الكاتب يذكر هذه النكات في فصول لاحقة ويستعرضها ,إلا أنه في بداية الكتاب يطرح رأيه في نقد تعاطي التيارات الاسلامية مع مشروع التغيير.

هناك عوامل ممانعة داخلية أهمها ممارسات الأنظمة المستبدة في التضييق على الكثير منها ,وما تلاه ذلك من قمع وتعذيب حتى وصلنا إلى وصم تلك التيارات بالارهاب واستخدامها الفزاعة التي تخيف الشعوب مما افرز حالات انكفاء كثيرة على الذات.بل لجأ الكثير من هذه التيارات نتيجة ممارسات القمع إلى السراديب فتبلورت الرؤى في معارضة الأنظمة وفق هذه الثقافة المغلقة على الذات حيث لم يتاح لها ولمدة طويلة من الزمن فضاءات حرة للتنظير الحر والممارسة للنظريات على أرض الواقع.

أما العوامل الخارجية هو المشروع الأمريكي في المنطقة وموقفه من التيارات الاسلامية وعدم تحديده لمدلول ومصداق مصطلح الارهاب وإطلاقه بطريقة حولته لسلاح فتاك ضد من لم يدعم المصالح والمشاريع الأمريكية في المنطقة ,كان سببا في فقدان ثقة هذه التيارات بأي مشروع خارجي للاصلاح إذ لا يمكن أن نفصل بين المشروع وأصحابه أو ما يسمى بين الفعل والفاعل.

ورغم أننا لا ننكر تقصير الكثير من التيارات الاسلامية أو إخفاقها في بلورة البديل الاصلاحي الناجح ,إلا أننا أيضا لا ننكر أن هناك محاولات حثيثة من قبل بعض التيارات الاسلامية في محاولة تقديم بديل صالح إلا أن مخاضها في ذلك كمخاض مريم التي تريد أن تلد عيسى وسط اليهود دون أب.فتخشى من وصمها بالعار من ذوي قرباها من جهة ومن جهة تريد أن تبلغ ما أراده الله منها لا ما ارادوه الجماهير منها.ولنا وقفة قصيرة هنا كإضافة إن صح التعبير على سبب قصور العمل السياسي عند التيارات الاسلامية كما نراها,فقد حاولت هذه التيارات استلهام النظريات السياسية للحكم من مناشئ فكرية إما مادية أو انحرفت عن تجربة الرسول كرئيس دولة في صدر الاسلام باستخلاصها من تجارب ابتعدت في رؤيتها عن رؤية الرسول في كيفية بناء دولة على أسس العدالة.

ومن استلهم من تجربة الرسول صلى الله عليه وآله ,إما صبغها بفهمه الخاص أو لم تأخذ تجربته تراكما زمنيا لتثويرها معرفيا من حيث النضج والخطأ والتصحيح.

ولا ننكر تداخل المعرفي مع الصراعات السياسية القائمة على مبدأ المصلحة الذي أفرز أيضا واقعا مضرا بالتجربة الاسلامية قدمت فيها المصالح على الثوابت , ونتيجة الاقصاء الممارس ضد هذه التيارات الاسلامية اعتقدت بعضها أن الصول للسلطة أقصر الطرق لتطبيق ما تتبناه من فكر وإيديولوجيا فخسرت الكثير من ثوابتها على هذا الطريق وبهذا النهج, والذي أفرز واقعا مضرا بالتجربة الاسلامية في الحكم وقدم نماذج غير سليمة ولها جنبة تسلطية أدت إلى عزوف الكثيرين عنها,مع غياب أو شبه غياب للتثوير المعرفي في العقل العربي الاسلامي,والاعتماد غالبا على استنساخ تجارب الآخرين أو محاولة استلهام تجارب التاريخ ولكن بعين مذهبية إقصائية فوتت علينا كثير من الكنوز المعرفية والحقائق في كيفية بناء الدولة على أسس حضارية انسانية,أدت إلى بتر الرؤية وعدم موضوعيتها وبالتالي ظهور ضعفها أمام النظريات الغربية.

أو قامت بعض التيارات بعمل خلطة مازجت فيها بين النظريات الغربية والفهم الاسلامي للدولة بطريقة أسقطت النظريات على الفهم الاسلامي بقبليات غير متجردة مما أيضا ألبس الاسلام لبوسا ليس له ولا منه.

وحتى من حاول الاستفادة من نتاج العقل الغربي دون التنازل عن أصالة الرؤية الاسلامية لم يستطع الخروج منها من واقع النظريات إلى واقع التطبيق.  

وسلط  المؤلف الضوء على مشروع "الإنسان الجديد" ودوره في بناء الدولة الحديثة وتنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع بطريقة تقلل من فرص الاستبداد والهيمنة على مقدرات الشعب والتسلط على رقاب الناس.

وقد تعرضنا للمشروع سابقا,وهنا تثار مجموعة من التساؤلات حول هذا المشروع,حيث أننا دوما ما نواجه الاشكاليات على مستوى تطبيق النظرية.

خاصة في بيئة الخليج التي مازالت تحمل موروث قبلي وعشائري وتخضع لمفهوم الولاء والطاعة ليس للدولة وإنما للسلطة,ومع شبه غياب لمقومات ثقافة المواطنة والتعايش.

فكيف يمكن التطبيق في ظل شبه غياب لمؤسسات المجتمع المدني في الخليج ,حيث أنها من جهة مكبلة بالقوانين الحكومية التي وضعت لحفظ السلطة من أي دور فاعل وناجز لهذه المؤسسات, ومن جهة اخرى أصبحت أسيرة التبعية التمويلية من قبل الحكومة ,وما يمكن اعتباره شراء مبطن لها لتصبح مشلولة في أداء دورها التوعوي, وفي ظل مجتمع غير مدرك لحقوقه وواجباته بل لمواطنية صالحة تحوله من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة البناء والتنمية والتحرر من كل تبعات الذات إلى أولوية المجتمع والدولة واداء دور رقابي وشراكي في السلطة؟

فالمفكر حينما يضع النظرية قد لا يلتفت لوضع آليات للتطبيق قادرة على تقعيلها بشكل إيجابي,وأعتقد أن أهم ما نحتاجه في تفعيل مشروع الإنسان الجديد الذي يساهم في بناء الدولة الحديثة هو:

أولا:نحتاج إلى إعادة صياغة قوانين متحررة من السلطة تعيد تنظيم مؤسسات المجتمع المدني بطريقة تؤهلها لتقوم بدورها في الرقابة والتوعية والمساهمة الفاعلة في بناء مجتمع يمارس دوره في الشراكة الكاملة في بناء الدولة والوطن,وتكون القوانين من جهة رقابية ومن جهة تنظيمية.

ثانيا:عمل ورش تأهيلية في منظومة الحقوق والواجبات من جهة ومن جهة تأهل هذه المؤسسات لتكون مطلعة على وظيفة مؤسسات المجتمع المدني في الداخل من جهة,ووظيفتها المتصلة بمثيلاتها من الخارج من جهة أخرى.

ثالثا:إدخال منهج دراسي خاص بمؤسسات المجتمع المدني ودورها وأهميتها في المدارس والمؤسسات التعليمية وهو دور وزارة التربية والتعليم,لتتحول إلى ثقافة عامة.

في الفصل الثالث من القسم الأول من كتابه الحداثة المغلولة يذكر الاستاذ أحمد شهاب أنماط التحول الخمسة,ونحن إذ نسلط الضوء على نمط التحول الخامس والذي ينعكس واقعا على ما يجري من أحداث في منطقتنا تتناسب وهذا النمط الذي عنونه ب" التحول بالعدوى الديموقراطية".

حيث يقول في توضيح مراده:"وهو الذي تجري وقائعه تحت تأثير العدوى الديموقراطية أو ما يطلق عليه "نظرية الدومينو ".إذ يلاحظ الدارس لحركة التحول,أن نجاح الديموقراطية في بلد معين يمكن أن يدفع بالناشطين في الدول المجاورة إلى استدعاء النموذج ومحاولة تطبيقه .."

وإذ أننا نعيش عمليا هذا النمط والذي أبدى إلى حد معين نجاحه وتأثيره ,إلا أن الثغرة في هذا النمط هو عدم أخذ الثائرين في الحسبان خصوصية الدول ومدى تأثير استدعاء نفس النموذج إلى دول مجاورة ومحاولة تطبيقه.

فمثلا وجدنا مدى التفاعل بين ثورة تونس ومصر في انتقال العدوى الديموقراطية وبآليات متشابهة حتى بات الراصد لحركة المطالب حينما يحدث تقدما في مصر يتوقع انتقاله وبشكل سريع إلى تونس.

إلا أن الأمر في ليبيا واليمن كان مغايرا تماما وذلك بسبب الطبيعة التي يقوم عليها النظامين,إضافة إلى عدم نجاح هذا النموذج في البحرين وأيضا للطبيعة التي يقوم عليها الحكم في تلك الدولة وهو نظام التوريث.

ففي ليبيا واليمن تعقيدات النظام القائمة على الولاءات العشائرية والقبيلة ومجموعة من التعقيدات الجغرافية والالتزامات الخارجية التي على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر التغيير في هذه البلدان يجب أن لا يخرج في زمامه عن هيمنتها, كون أن مصالحها مرتبطة بشكل مفصلي في تلك الدول سواء الاقتصادية أو الأمنية,حيث سلط المؤلف الضوء على هذه الثغرة في نمط العدوى الديموقراطية قائلا:"إن من أبرز مثالب مشروع التغيير ارتباط مشروع التغيير بالمشروع الأمريكي ومصالحه في المنطقة,واستمرار دعم الولايات المتحدة الأمريكية لأنظمة قمعية,فلا تزال أمريكا تتعامل بطريقة أقرب إلى الانتقائية مع قضية الديموقراطية".

وما يلقت الكاتب إليه هو حقيقة حاولت وسائل الاعلام العربية في ثورة اليمن وليبيا والبحرين والموالية لتلك الأنظمة تغييبه وتلفيقه بدول أخرى كمشروع هيمنة على منطقتنا, إلا أن المشروع الحقيقي الذي يجب أن نخشاه في ظل هذه الثورات هو المشروع الأمريكي الذي يسعى دوما وتاريخيا إلى تمكين وجوده الذي يخدم من جهة استمرار هيمنته على العالم ومن جهة تمكين الكيان الصهيوني من إحكام قبضته على المنطقة كذراع له ضاربة,رغم ما يبديه قوليا من تذمر وقلق إلا أنه عمليا إما يدعم استمرار تلك الأنظمة القمعية أو أنه يبحث عن شبيه لها بديل برتوش ديموقراطية صورية,حتى يبقي على نفوذه في المنطقة.ولتدهب عند الأمريكي الشعوب إلى الجحيم.

ويختم المؤلف كتابه في الفصل السادس مسلطا الضوء على موضوع صناعة الديموقراطية في الخليج والذي يناقض فرص إمكان قيام ديموقراطية محلية في دول مجلس التعاون يتم نسجها وفق الظروف المتاحة مع إمكانية الاستفادة من التجربة الغربية والخروج من حالة الانبهار بديموقراطيتها.

وحول فرص التحول الديموقراطي في الخليج وبعد استعراضه للعوامل المتوافرة في منظومة الخليج العربي والتي تمهد الطريق لقيام ديموقراطية فيها يقول:"إن ما يثار في السنوات الأخيرة من ضرورات التطوير السياسي في الخليج إنما يستهدف في الغالب تطوير وتغيير الحكومات لا الحكم. أما نقد الحكم فيتركز في هذا المقام ,على توجيه نظر الاسرة الحاكمة إلى ضرورة تدارك الأخطاء وموارد القصور,وتقديم الكفاءات العلمية والسياسية من أبناء الأسرة الحاكمة,ومن خلال تفعيل أدوات المشاركة العصرية,وقد اقترح بعض الناشطين في دول الخليج صيغة الملكية الدستورية كأحد الحلول التوفيقية بين استمرار الحكم الوراثي ومتطلبات الحداثة السياسية.".

وعل ما يحدث اليوم في البحرين والمملكة العربية السعودية من مطالبات بإصلاحات حقيقية كان عنوانها الأساس الملكية الدستورية هي مصداق لذلك,وكما قال الكاتب هي حل توفيقي كي يحقق التطور والتحول الديموقراطي في دول مجلس التعاون الخليجي.

يقع الكتاب في قسمين وستة فصول ويناقش أهم قضايا الفكر السياسي التي تشاغل كثير من المفكرين ويطرح العديد من المشاريع التي قد تشكل أرضية مهمة فيما لو تبنتها مؤسسات المجتمع المدني لإحداث تغير تدريجي في أنظمة الحكم وبناء الدولة.

وهو من الكتب التي تعتبر إضافة حقيقية للعقل العربي وخاصة الخليجي.   

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً