أحدث المقالات

صابر محمود الحباشة

 

 ما انفكّ العالم الإسلامي يشهد انفضاض عرى التواصل الهشة أصلا بينه وبين سائر أطياف البشرية، منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر من سنة 2001م. حيث أضحى منتهى أمل المسلمين أن يرفعوا عن أنفسهم تهمة "الإرهاب" التي صارت تلقى عليهم جزافا وأصبحوا يُؤخذون بالظّنة حيثما حلّوا. وأصبح الغرب المتربّص – أو قل تنامى تيار في الغرب – يرفع شعار مجانبة هؤلاء القوم ويدعو إلى حظر كل تعاون أو تحاور بدعوى أن فينا إما الإرهاب الفعلي أو إرهاب كامن، قد يتطور – ما لم يُتصدَّ له – ليصبح إرهابا بالفعل.

وليس المقام مقام تكرار مقولة المؤامرة ولا يجدر بنا أن نَلُوكَ كلاما يتصل بتعويم مفهوم "الإرهاب" حتى يشمل ما يريده الغرب من تجريد الأمّة من كلّ مقوّمات القوّة، التي لا قوام لها إلا بها، ولكننا نودّ في هذه الورقة أن نركّز على جانبين مهمّين في مواجهة الإرهاب المؤذي والإرهاب الضارّ بصنفيه اللازم والمتعدّي:

       الجانب الأوّل يتعلق بالإصلاح على مختلف الصعد: إصلاح الواقع وإصلاح الخطاب وردم الفجوة بين الواقع والخطاب.

       الجانب الثاني يتصل بالإسهام الإيجابي في نبذ الإرهاب وتجفيف ينابيعه، حتى يكون المسلمون قُدوةً لغيرهم في مناهضة العداء المجانيّ، مقابل عدم التنازل عن الحقوق المستلَبة.

وبين يدي هذين الجانبين، عليّ أن أضع بعض النقاط التوجيهية التي ستنير درب هذه القراءة:

1/ لا ينبغي لنا أن نعزف عن موالاة الإصلاحات التي لا يجب أن تتوقف، ما دامت الحياة قائمة: فكل يوم يطلّ علينا الغرب بالجديد على مختلف الأصعدة التكنولوجية والنظرية والعلمية والعملية… ونحن نترنّح – إلا من رحم ربّك – في ذهول أو نوصد الباب ونصمّ الآذان ونركن إلى العيش الوهمي في القرون الخوالي ترنُّمًا بنهضات السلف الصالح واتقاءً لوهج العصر اللافح.

2/ أثبتت الأجيال الحالية من أبناء الأمة الإسلامية أنها قادرة على كسب قصب السبق في مختلف المجالات: فمن إتقان التكنولوجيا استعمالا وإنتاجا، إلى وضع بعض النظريات والمعادلات، مرورا بالابتكار الفنّيّ والصناعيّ والتألّق الرياضيّ والثقافيّ، وهذه كلها دلائل ومؤشرات على حيوية الأمّة وشبابها الدائم، ولله الحمد والمِنّة. ولكن، وأمام هذه التطلعات الزاحفة نلاحظ بيُسر فقدان الأنساق الثقافية المجتمعية المهيّأة لاحتضان هذه المواهب والخبرات والكفاءات. لذلك تجدها تبدع في بلدانها قليلا ولكن مواهبها تتفتق وتظهر عبقريتها في سياقات غربية بشكل لافت، مما يدعونا إلى مراجعة بنى مجتمعاتنا ومؤسساتنا: ماذا أعددنا لهؤلاء المبدعين كي ينصرفوا إلى صناعة التفوّق؟

3/ إنّ الخطاب الديني – على الرغم من صدق نوايا القائمين عليه – ظلّ مرتهنا بحالة سكونية وبالمحافظة على الوضع القائم بمختلف التباساته. ولعلّ ثقل التمسّك بالفروع ومخافة انفلات زمام التوازن الاجتماعي الهشّ، قد أورثا إحجاما عن المعالجة الجذرية لمواطن الانكفاء ومواضع الاكتفاء بالميسور من التقليد، ولا يتجلى ذلك في الإقرارات والفتاوى والسياسات العامة فحسب، بل ينعكس ذلك حتى على تصميم الخُطب والخطابات والمقررات والموادّ التعليمية التي لم تُحدَّث إلا شكليّا، بمعنى إضافة الألوان والمؤثرات الصوتية وتقنيات التصوير، دون أن تلمس عمق الخطاب وروح النصّ كي يكون الوعي ناضجا في اتساق بين ثوابت الدين الواضحة ومقتضيات العصر اللازمة.

4/ ثمة حاجة لا مندوحة عنها تتمثل في ضرورة التوقف عن تغذية الحساسيات الفئوية التي تعرقل التفاهم الاجتماعيّ، خصوصا في ظلّ تنامي النزعات المتطرّفة التي تغذّيها مصالح معيّنة. فلا تكون مقاومة هذا المدّ الجامح بتعلية خطاب موازٍ له يبادله أساليب الطرح نفسها، بل ينبغي أن يرتقي الأداء المدافع عن الاعتدال إلى مصافّ الخطاب الكونيّ الذي تلتفّ حوله العقول الناضجة بقطع النظر عن انتماءات أصحابها ومصالحهم وأهوائهم. وهذا لا يتمّ إلا بالانتباه إلى تقنين أساليب الحجاج وتوقّي المغالطة وإعلاء صرح العلوم العقلية، كي تكون عاصمةً لنا من الزيغ ورابطةً لتأصيل الحقّ، دون الحاجة إلى التقاذف بالنصوص، وهو ميدان لهج السلف الصالح بضرورة عدم توخّيه، لما فيه من شبهة الاحتمال وعدم تأكُّد الرجحان.

5/ ثمة ضرورة أكيدة لرفع الحواجز بين الأدب الإسلاميّ والأدب العالميّ، لعدّة أسباب: منها رفع سقف الجماليات في الأدب الإسلامي لكيلا يقتصر على مواضيع نبيلة تُطرح طرحًا مُمِلاًّ غير ذي تأثير، بل يخضع القبول به إلى معيار المجاملة والمداراة. فضلا عن أنّ واقع السماء المفتوحة، يُلزمنا بعدم التغاضي عن البصر بما يتلقاه شباب اليوم من إبداعات عالمية في مختلف الفنون: ما كان منها متاحا في الفضاء العموميّ وما لم يكن كذلك (أقصد مدى إتاحة بعض الفنون في واقع بعض البلاد الإسلامية، من عدمه، سواء لأسباب تنظيمية أو لأسباب عُرفية، أو سواها…). فلا شكّ في أنّ هذه الموادّ الثقافية التي يُقبل عليها الشباب تصلهم دون مصفاة تربوية أو توجيه محلّيّ أو إسلاميّ، ولا يمكن مواجهة هذا المدّ بقطع السبل دونه، فللشباب طرائق تكنولوجية كثيرة لفكّ هذا الخيار الإقصائيّ. لذلك فالحلّ الأمثل يكمن في تحصين شبابنا كي لا يُصاب في مقتل، وذلك بتعزيز الأدب الإسلاميّ – دون الحاجة إلى تسميته بالإسلاميّ، بالضرورة – ويكون ذلك بتجاوز الأنماط التقليدية السكونية الجامدة التي تمثل ذلك الضرب من الأدب، لأنها أورثت نفورا منه – غير صريحٍ – لأنه أضحى مفارقا للتاريخ ماضويَّ الوجهة نمطيّ الأساليبِ مُكرَّرَ القضايا. فينبغي أن يطاله التجديد شكلا ومضمونا، ليكون بديلا مقبولا عن الآداب الأجنبية الغازية بقيمها المفارقة للتصوّر الإسلامي للحياة.

6/ يجب معالجة القضايا الموجودة على الساحة في حرية موزونة لا وفق قيود صارمة تحول بيننا وبين الطرح السليم للقضايا. وهنا لا بدّ من العناية بالدراما لما لها من مفعول سحريّ في التأثير في الناشئة، بحيث تتغلغل في وجدانهم وتنغرس في خُطاطاتهم الذهنية التي تضبط أنماط تفكيرهم وقوالب تدبيرهم وتُشكِّل وعْيَهم وضروبَ سلوكهم وتفاعلهم مع غيرهم.

التلفزيون والسينما والأنترنيت والوسائط الرقمية، عموما، مجالات لتشكيل الرأي وصناعة الأجيال لم يتمّ استغلالها بشكل أمثل، في أمّتنا، بل تمّ إهدار كثير من الطاقات والأموال في حوارات بيزنطية أو في الإلهاء الهادف إلى صرْف الناس عن طرح الأسئلة الحقيقية. في ظلّ جمود الأكاديميين وجُبنهم عن الاضطلاع بدور الأنتلجنسيا الثقافية الريادية الفاعلة في تغذية التطوّر ورفد النهوض إلى مصافّ الدول الصاعدة.

ودون الخوض في مقولة "نظرية المؤامرة" فثمّة توجّس حقيقيّ من "حقيقة الدعوة إلى الحوار بين الحضارات على الرغم من عدم معارضة الإسلام لهذه الدعوة، وترحيبه الشديد بها، واتفاقها مع الموقف الإسلاميّ العامّ. ومصدر الشكّ يبدو في مصداقية الدعوة الغربية إلى حوار الحضارات".

نحن في عصر ولج فيه شباب المسلمين في مواقع الأنترنيت واشتركوا في الصفحات الاجتماعية، وأضحوا لا يعتمدون على الوسائط التقليدية المأمونة والمراقبة للمعرفة. وبذلك فقد أصبحت أوامر المربّين ونصائح أولياء الأمور بين قوسين؛ حيث ينزوي الشابّ إلى جهاز حاسوبه أو هاتفه الجوّال، في حِلٍّ من الانصياع لتلك التوجيهات، في خلوته. وإن اضطُرّ إلى أن يتراجع عن عزلته أمام سائر أفراد عائلته، فما ذاك إلا تكتيك ليربح وقتا أطول متسمّرا أمام دفق المعلومات والعلاقات التي توفّرها له الأنترنيت.

على أنّ هذه السلبية التي يمكن أن يُرمى بها شباب اليوم، في عزوفهم عن مظاهر الحوار والنقاش التقليدية ورغبتهم عن المطالعة وقراءة الكتب الورقية، إلا قليلا، ليست سلبية مطلقة. ولا أدلّ على ذلك من إسهام الثورة المعلوماتية في توفير عناصر النجاح والسرعة للثورة التونسية التي انتظمت في الواقع الافتراضي قبل الواقع الحقيقيّ.

وقد استعاض الشباب بالحوار الرقمي على شبكة الأنترنيت عن الحوار الحقيقي المباشر، وتكاملت الأدوار فصدّر شباب تونس الثورة إلى شباب مصر بعد أن حقّقوا أهدافهم الإستراتيجية بإزاحة جيل من الشيب سيطروا على مقدّرات البلد حقبة مديدة، ولم يفكّروا في إعداد الجيل اللاحق كي يحمل عنهم المشعل، بل عمدوا إلى إقصائهم وتهميشهم في الواقع، وتسويفهم بالوعود الزائفة التي لا تتجاوز الخطب الرنانة والمبادرات الورقية عن السنة الدولية للشباب والاستشارة الوطنية للشباب وغيرها من الألاعيب المحلّية التي حاول النظام تسويقها على الصعيد العالميّ. غير أنّ الشباب أبى إلاّ أن يأخذ نصيبه غلابا، ولم ينتظر أن يمنّ عليه الجيل السابق بالتغيير، بل صنعه بنفسه بتضحياته وبدماء شهدائه.

ويؤكد الفيلسوف الألمانيّ بيتر سلوترديك[1] أنّ الحركات الإسلاموية تستعمل الشباب العاطل والزائد عن الحاجة، بحكم الانفجار السكاني للعالم الإسلامي[2] لتكوين " بنك غضب إسلامي عالمي" لا سيما وقد فشلت معظم الدول الإسلامية في بناء دول تنهض على مشروع الحداثة المتكاملة لا الحداثة "المبتورة"، كما جرى الأمر في بعض المحاولات. 

وحسب التحليل الذي ذهب إليه سلوترديك فإنّ ما يسمّيه هذا الفيلسوف الألماني "الإرهاب الإسلامويّ" الماثل بخطره الداهم، يُعدّ بوجه من الوجوه – حسب تحليله –  وريث الثورة البُلشفية الشيوعية والثورة الفرنسية، من قبلها، حيث إنّ الزمن الحالي أصبح زمنا لا تتوفر فيه شروط الحركات الثورية القائمة على صراع الطبقات وعلى "الانتقام من المظالم بنفي شروط الظلم البنيوية"[3]. وعلى هذا قد يكون "الإرهاب الإسلامويّ" نكوصا عن مُنجز الثورات لأنه يُعيد الحسم والفصل إلى الآخرة والسماء، بعد أن سحبته تلك الثورات إلى الدنيا والأرض.

وحسب تحليل سلوترديك تعدّ الثورات استعجالا للعقاب الذي كان ينتظر الظالمين أخرويّا، وفق ما تُثبته العقائد الدينية، بشكل يجعل هؤلاء يُعاقبون دنيويّا في ظلّ الثورة. كما أنّه يتمّ استعجال نعيم المظلومين والمسحوقين الذي كان مؤجَّلا إلى يوم القيامة، فعن طريق الثورة أصبح هؤلاء يتنعّمون بالسعادة في دنياهم. أمّا في حالة "الإرهاب الإسلامويّ" فالضحيّة يستعجل انتقاله إلى ما يعتقد أنه ينتظره من سعادة أخروية، تكون بديلا عن شقائه وبؤسه الدنيويّ، لأنه يرى أنّ "الشهادة" تطهير له من الأدران التي علقت به، في سالف عمره، وتُعدُّ طريقة موته درسا للآخر في التضحية والفداء والخلاص.

ونجد قراءات ومعالجات تلفزيونية كثيرة، لا سيما عن طريق المسلسلات التي تبثُّ في فترات ذروة المشاهدة خلال شهر رمضان المعظّم. وقد بثّ عدد من القنوات الفضائية مسلسلي "ما ملكت أيمانكم" و"الجماعة". حيث يتّجه الأوّل إلى نقد التناقض لدى الرؤوس المدبِّرة في الجماعات التكفيرية بين الزجّ بالأغرار في عمليات لاإنسانية، من أجل تحقيق مآرب دنيوية ومنافع قريبة.

أمّا المسلسل الثاني فقد حاول تقديم قراءة نقدية للإمام حسن البنّا ولجماعة الإخوان المسلمين مبرزا سعيهم الحثيث للوصول إلى الحُكم مهما كانت الأسباب، ممتطين صهوة الدعوة وسيلةً لتحقيق تلك الغاية التي يسعوْن إليها، دون أن يتوانوْا في التوسّل بأيّ سبب يحقّقها لهم.

والملاحظ أنّ الساحة العربية الدرامية غير متكافئة، لأنها موجَّهة لخدمة حسابات سياسية تدعمها بعض أنظمة الحكم القائمة، لأنّها تمرّر إيديولوجيات تتوافق معها أو تلتقي في جزء كبير معها. ولا يعني ذلك افتقار المشهد الإعلامي الفضائي إلى توجّهات مناقِضة لها أو مختلفة عنها، ولكن البرامج والقنوات لا تعرض وجهات النظر المتعارضة بشكل يدلّ على العدالة أو الإنصاف؛ فبعض الآراء مغيّبة ولا تُتداول إلا مشحونة بأحكام قدحية ومواقف سلبية وأفكار مسبقة تفتقر إلى أدنى درجات الاستماع إلى هذا الآخر الذي يُوصف بأسوإ النعوت.

وتبعا لهذا الإقصاء – مهما كانت دوافعه تبدو بريئة أو تربوية أو مصلحة الوطن – فقد انطلقت موجات الشباب الرافض لهذا الانغلاق الإعلامي المشهود في تسقّط أخبار تلك الوجهات المنبوذة رسميّا، عبر وسائط حديثة لعل أبرزها الأنترنيت وما توفّره من مواقع وصفحات اجتماعية كالفيسبوك وتويتر وما شاكلها. وما تبثّه قنواتها من مقاطع فيديو ومقالات وتعليقات ومعلومات ومعطيات، تتفاوت في صدقيتها ولكنها تشترك في كونها تمكّنت من الإفلات من الرقابة الأبوية الصارمة سواء من قبل الأسرة أو المجتمع أو الدولة.

وقد أثبتت ثورة الحرية والكرامة في تونس التي اندلعت يوم الجمعة 10 صفر 1432 هـ الموافق 14 يناير 2011 م، أهمّية وسائل الإعلام الحرّة والأنترنيت في توجيه الشباب وتحويل طاقاتهم من العطالة إلى العمل من ردّ الفعل السلبيّ إلى الفعل الحضاريّ الإيجابيّ الذي سيسطّره التاريخ بأحرف من ذهب.

قد لا تكون أحداث ما سُمّيَ بمجموعة سليمان ذات التوجّه الأصوليّ (أتباع القاعدة في بلاد الغرب الإسلاميّ) في موفى 2007م إنذارا بفشل المعالجة الأمنية في احتواء مطالب الشباب الذي يعيش صحوة إسلامية وحقوقية، عمّمتها القنوات الإخبارية والأنترنيت فضاءً افتراضيّا هشًّا، من ناحية، ولكنه من ناحية أخرى حمّالٌ لآمال هذه الأجيال الجديدة وأحلامها بكلّ قوة وعنفوان. للثورة أسباب قريبة وأسباب بعيدة. فالسبب القريب أن يُهان شابّ ذو حظّ من التعليم ارتضى أن يعمل ليكسب قوته بعرق جبينه فتوصد دونه الأبواب ويُطعن في كرامته الإنسانية. أمّا الأسباب البعيدة للثورة فهي قتل الأمل واستباحة الأحلام: عندما تعمد السلطة إلى تجاهل التشريك الحقيقيّ للشباب في صُنع القرار وفي إنقاذه من براثن البطالة التي تودي به – في غياب الإحاطة السليمة – إلى الوقوع فريسة سهلة للتطرّف والإرهاب سواء اتجه إلى الغير القريب والبعيد أو إلى الذات. فتصاعد وتيرة الانتحارات ليست حوادث فردية معزولة في المجتمع المسلم، ولكنها مؤشّر مُؤذنٌ بالوقوع تحت طائلة عنف وقمع مُمنهجيْن من قِبل سلطة صمّاء فاسدة. فيكون العنف المضادّ هو الردّ الآليّ، أو تصريف العنف وتعديته إلى الغير، خصوصا وقد تعطّلت لغة الحوار وتغوّلت أجهزة النظام القمعية، حتى أصبحت تأكل أقرب الأقربين إليها.

في السنة الدولية للشباب، أطلق العنان للفعاليات التي تمعن في تهميش هذا الشباب الذي – باسمه يتمّ إقصاؤه، ويُجعل حفنة من أبناء الواسطة ناطقين باسمه. فكأنّ الشباب أضحى وسيلة أخرى تُمتطى وتُهان من أجل الوصول إلى صيتٍ عالميّ مزيَّف، لأنه مُرتَّب في أركيسترا صهيوأمريكية تقايض الرضا والتزكية بالقضاء على رائحة الإسلام السياسيّ. وبما أنّ الأنظمة القمعية املتخلّفة ممعنة في تنفيذ الأوامر بشكل آليّ – وقد جنّدت اليسار الاستئصاليّ الحاقد لتلوين هذا الهدف القذر – فقد فشلت في سماع صفّارات الإنذار التي تعالت منذ وقت بعيد بأنّ محاربة الإسلام السياسيّ يجب أن تكون بمعزل عن محاربة الدين الإسلاميّ، بل تعامت عن ذلك وأخذت الناس بالظِّنة وحُوصر أهل المساجد وضيّقوا الخناق على المتحجّبات، حتى بعد أن أيقنوا أنّ هذا الزيّ لا علاقة له بالانتماء الطائفيّ الذي جاء المنشور 108 يحذّر منه. فقد كان التحجّب علامة الانتماء إلى تيار الاتجاه الإسلامي الذي راج في الثمانينات بين الطلبة والشباب، فحُورب وأُقصي على مرحلتين: في زمن بورقيبة وفي زمن بن علي. أمّا العودة إلى اللباس الشرعي في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة فيُعزى إلى تأثير الصحوة الإسلامية التي ولّدها الانفتاح على الفضائيات العربية والخليجية التي تبثّ خطابا دينيّا وتدفّق ثقافة دينية سعى النظام في تونس إلى تجفيف منابعها، وفق سياسة ممنهجة أشرفت على تنفيذها أيدٍ علمانية استئصالية ذات هوى ماويّ[4].

طبعا لم تكن عودة الناس في تونس إلى الدين وليدة حسّ دينيّ مفاجئ، ولكنها جاءت ضربا من الارتماء في أحضان دافئة، بعد أن ولغ النظام الدكتاتوريّ ذو القفازات الحريرية (التي شهد النظام العالمي الجديد بمطابقتها بمواصفات الجودة الأوروأمريكية !!) في دمه وحاربه في قوته… مع تسخيره آلة إعلامية رهيبة تصدع العقول وتحوّلها عن حقيقة الوضع إلى تأمّل "إنجازات" "صانع التغيير" والانبهار بـ"المعجزة الاقتصادية التونسية"، وغيرها من العناوين التي تُخفي شعبا مقموعا وشبابا مستأصَلا من روحه.

وقد اعتمد النظام على سلسلة من العمليات التي تقوم على الإلهاء: بالكرة والفنّ والمهرجانات وتيسير سبل الحصول على المتع الحسّية المختلفة، حتى تنادى الصعاليك بتبجّح أنّ فضل هذا النظام عليهم عظيم إذ جعل الشراب وبنات الليل أيسر من شرب الماء.

وفي المقابل يُضيَّق الخناق على كلّ ملتزِمٍ زكلّ ذي مبدإ. فبعد أن قضى مأربه المتمثل في محق الإسلاميين متوسِّلا بحِرَفية اليساريين ليملأوا الساحة الفارغة وليكوّنوا جوقة مديح صاخبة، دار دورته عليهم وسقاهم من الكأس نفسها، فطردوا شر طردة أو أُلجموا أو دُجِّنوا، فالدكتاتورية لا تُقيم وزنا إلا لفرد واحد، ولا تستعمل الآخرين إلا كأعواد ثقاب، تستخدم بسرعة وتُلقى بسرعة.

الدرس المستفاد أنّ التناقض بين القول والفعل لا يمكن أن يبقى منهج حياة أو سياسة طويلة الأمد. والحكمة المستفادة أنّ الشعوب العاقلة لا تضع بيضها في سلّة رجل واحد مهما وعدهم بوعود الجنّة الديموقراطية والحياة الكريمة، فالأولى أن تُوضع مؤسسات رقابية تحاسب الرئيس قبل المرؤوس وتحصي عليه أنفاسه، قبل أن ينقلب الحمل فرعونا.



[1] Sloterdijk, Peter: (2007) Colère et temps. Essai politico-psychologique. Traduit de l’allemand par Olivier Mannoni. Libella –Maren Sell, p311.

[2]يشير العادل خضر في مقاله "المسلم الأخير أم الثائر الأخير؟" المنشور في موقع (الأوان) إلى أنّ زلوترداك يقدّم أرقاما بيّن فيها أنّ عدد السّكّان المسلمين في العالم قد تضاعف ثماني مرّات خلال قرن. فبعد أن كان المسلمون يعدّون 150 مليون نسمة سنة 1900، بلغ عددهم سنة 2000 مليارا ومائتي مليون نسمة. وعلى هذا النّحو أصبح عددهم يمثّل سلاحا ديمغرافيّا، وهو سلاح حديث العهد.

[3]العادل خضر، مقاله عن زلوترداك، موقع الأوان، الجزء الثاني.

[4] نسبة إلى ماو تسي تونغ الزعيم الشيوعيّ الذي ذكر له أتباعه أنّ ضحايا سياسته يبلغون أكثر من 30 مليونا (حسب الأرقام الرسمية)، فما كان منه إلا أن قال: إنّ جثثهم ستسهم بفاعلية في تسميد أرض الصين العظيمة !!

ويبدو أنّ من يسيرون على دربه وعلى درب مالتوس، لا يعبأون بتدمير البشر، في سبيل إنجاح مشاريعهم وتصديق معادلاتهم.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً