أحدث المقالات


السيد جعفر محمد حسين فضل الله

أفرزت الثورات في البلدان العربيّة والإسلاميّة كثيراً من القضايا التي ينبغي التوقّف عندها، كما فرضت إشكاليّات وأسئلة أمام الفقه الإسلامي، تتعلّق خصوصاً بفقه هذه الثورات، ينبغي معالجتها والإجابة عليها في العمق، وليس على هامش بعض المسائل، والتي تقدّم فيها إجابات تبدو ساذجة بعض الشيء أمام تعقيدات الواقع.

فلم يعد صحيحاً أو سليماً، أن يعمد الفقيه إلى إبراز الرأي الفقهي بعموميّات لفظيّة تعطي الفكرة العامّة، على شكل فرضيّات، كأن يفتي الفقيه بجواز الخروج على الحاكم والسلطان إذا ما انحرف عن الشريعة، أو لم يحكم بالعدل، أو ما إلى ذلك، ممّا يُغفل كثيراً من التفاصيل التي ينبغي على الفقيه ملاحظتها كما يُلاحظ تفاصيل الطهارات والنجاسات وحالات الشكّ في الصلاة وما إلى ذلك.

وفي الوقت نفسه، بات الأخذ ببعض الروايات التي تأمر الإنسان بالصبر أمام جور الحاكم، كالذي رواه أحمد أن رسول الله (ص) قال: "يا أبا ذر، كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ قال: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتّى ألحقك، قال: لا، ألا أدلّك على ما هو خير لك من ذلك؟ تصبر حتى تلحقني". وعن حذيفة بن اليمان أنّ رسول الله (ص): "يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهديي ولا يستنّون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله ان أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع". رواه أحمد ومسلم. فإنّ الأخذ بهذا النوع من الروايات يعطّل عدداً كبيراً من الآيات القرآنيّة التي تأمر بالعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم بما أنزل الله، والتي تأمر بالقتال "في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً"، والتي تتحدّث عن أنّ الله "لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم"، وما إلى ذلك ممّا يدلّ ـ في شكلٍ مباشر وغير مباشر ـ على أنّ الإنسان مسؤولٌ عن تغيير الواقع الظالم نحو العدل، والباطل نحو الحقّ.. بل إنّ ذلك ـ بمنطق الحياة ـ يلقي بظلاله على إيمان الفرد وهدايته؛ لأنّ القبول بظلم الحكم كأمر واقع، والذي قد يستمرّ إلى عقودٍ طويلة بل قرون ـ كما حدث في الحاضر والتاريخ ـ سوف يُلقي بتأثيرات كبيرة على المجتمع والفرد على حدّ سواء، ولن تكون المسألة مقصورةً على سلوكٍ للحاكم مجرّدٍ عن التداعيات الاجتماعية والنفسية والإيمانيّة، التي يُمكن أن تشوّه الذهنيّة، فيفسد المجتمع تبعاً. وهذا هو ما نبّه عليه رسول الله (ص) عندما قال لأصحابه: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر! قالوا: ويكون ذلك يا رسول الله؟! قال: نعم، وشرٌّ من ذلك؛ كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف!، قالوا: يا رسول الله، ويكون ذلك؟! قال: نعم، وشرٌّ من ذلك؛ كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً!"؛ فإنّ تشوّه الذهنيّة والمفاهيم هي مسألة قهريّة تراكميّة تحصل من خلال طريقة المجتمع والأفراد في التعامل مع مفردات المنكر والمعروف في الواقع.

ولذلك، نظنّ أنّ الفقه الذي ينتج مثل هذه الآراء الفقهيّة التي تجعل المجتمع يرزح تحت نير الظالمين والمفسدين والمنحرفين، فقط لأنّهم ـ في لحظةٍ ما ـ تسلّطوا على رقاب الأمّة ومقدّراتها، وتحكّموا بحاضرها ومستقبلها، ويعطّل ـ في ذلك ـ نسبة كبيرة من الآيات والروايات بحيث تُصبح بلا موضوع في الواقع، هو فقه يُعاني من أزمة، ولا بدّ من إعادة النظر في بعض قواعده؛ لأنّ العلم لا بدّ أن يحقّق التجانس والانسجام في طبيعة النتاج المعرفي، ولا يُمكن أن يواجه إشكالات كبيرة، تصل إلى حدّ تعطيل جزء كبير من القرآن والسنّة، ويمرّ عليها مرور الكرام.

وفي كلّ الأحوال، فقد طرحت الثورات الحديث كثيراً من الأسئلة أمام الفقه الإسلامي عموماً، السنّي والشيعي على حدّ سواء؛ لأنّ كثيراً من التعقيدات التاريخية والمعرفية ألقت بظلالها على طبيعة النتاج الفقهي، والذي بقي في دائرة العموميّات ومحدوديّة التفريع؛ لأنّ الفقه ابن الواقع، وأسئلته وإشكاليّاته يفرضها الواقع؛ ولم يبلغ واقعٌ هذا المستوى من الحركيّة السريعة، ومن التعقيد ما بلغه الواقع الحالي الذي أفرزته الثورات في العالم العربي والإسلامي ولا تزال. وكنموذج من الأسئلة التي طرحتها هذه الثورات أمام الفقه نورد الآتي:

– ما هي مسوّغات الثورة؟ ما هي مسوّغات المطالبة بإسقاط النظام؟ وما هو النظام أصلاً الذي لا يرضى به الإسلام؟ وما هي موارد الخروج لأجل الإصلاح؟ وما هي الثوابت التي لا يمكن السكوت عليها في الحكم ليصحّ مطالبته بالإصلاح؟

– ما هي الوسائل التي يتمّ من خلالها تحقيق الإصلاح في الدول المختلطة طائفياً أو مذهبيّاً؟ وما هي الوسائل التي يتمّ من خلالها منع توجيه الحركة الثوريّة أو الإصلاحيّة لكي لا تبدو كحركة مذهبيّة؟

– ما هو دور الإعلام في مواكبة الثورات؟ ما هو حكم التضخيم الإعلامي بهدف المساهمة في تحقيق النصر؟

– إذا دار الأمر بين جور الداخل واستغلال الخارج، فما هو الحكم؟ هل هو الصبر أم ترجيح أحدهما، ولأيّ سبب؟ وإذا كان لا يمكن ضبط الثورة في الداخل من أن تتفاعل تصاعدياً بما يكشف الواقع كلّه أمام الأعداء، فهل يجوز المخاطرة والمجازفة؟ وهل أنّ الأساس هو الداخل، وليُترك الباقي للمشيئة الإلهيّة؟

– من الذي يقود عمليّة انتقال الثورة إلى مستوى النظام الجديد؟ وما هي واجبات الثوريّين؟ ومن الذي يجب عليه أن يتحمّل مسؤوليّة حماية الثورة من الخلل الذي يكتنف مسيرة الانتقال؟

– ما هو مصير أركان النظام الجائر الذي أزالته الثورات؟ هل يُمكن قلب صفحة، أم يجب المحاسبة؟ وما هي القواعد التي تحكم تحديد المصلحة العامّة التي تفرض هذا أو ذاك؟

– ما مدى مشروعيّة الثورة المسلّحة؟ وما هي مواردها؟ وهل الثورة السلميّة مقدّمة على الثورة المسلّحة؟

– ما هو الحكم الشرعي تجاه لجوء السلطات إلى القتل؟ هل يجب الإصرار على سلميّة التحرّك حتى لو أدى إلى القتل؟ وما هي موارده على فرضه؟

ونعتقد هنا أنّ هذه الأسئلة، وغيرها، لا بدّ أن يعالجها الفقه الإسلامي، سنّياً كان أو شيعياً، وينبغي أن يكون ذلك في مؤتمرات مشتركة جادّة، يُشارك فيها علماء المسلمين جميعاً، بهدف الوصول إلى نتائج فقهيّة حاسمة، تتكوّن بموجبها قاعدة مبدئيّة لتوجّه إسلامي، فوق المذهبي، تتّصل بالموقف الإسلامي الشرعي للإنسان المسلم، إلى أيّ مذهب انتمى، من أنظمة الحكم في البلد الذي يعيش فيه. نقول ذلك؛ لأنّ ثمّة مشكلتين يعانيهما المسلمون، وعلماؤهم أيضاً، في هذا المجال:

الأولى: أنّه في البلدان المختلطة مذهبيّاً، يواجه المسلمون موقفين مختلفين، قد يكون أحدهما يرى بأنّ موقفه الشرعي هو الثورة، ويرى الفريق الآخر أنّ موقفه الشرعي هو طاعة ولاة الأمر وعدم جواز الخروج عليهم؛ ما يعني أنّ المسألة السياسية البالغة الخطورة والمصيريّة تُصبح جزءاً من الاختلاف المذهبي، في الوقت الذي تساهم مقاربتها على مستوى الأدلّة المشتركة إلى ضبط معايير الحكم على الواقع إلى حدّ كبير، بما يضعف من التنافر في المبادئ الذي تحكم حركة المذاهب. بل قد نقول هنا، إنّ ذلك يحدّ من قدرة السلطة السياسيّة على اللعب على عنصر التمايز المذهبي لاستغلاله في تفريق الرأي العامّ في موقفه تجاهها، بحجّة أنّ الحركة الإصلاحيّة أو الثوريّة هي حركة مذهبيّة وليست كما تبدو، أو تبرز شعاراتها.

الثانية: أنّ الصراعات السياسيّة التي أخذت بُعداً مذهبيّاً في التاريخ، ألقت بظلالها على النظريّات الفقهيّة أو مفاعيلها ـ كما أشرنا ـ، والتي ـ ربّما ـ نشأت في ظروف ضاغطة على الفكر، أو صدرت ممّن يُسمّون بـ "وعّاظ السلاطين"؛ وبالتالي يساهم البحث المعاصر لهذا الموضوع الذي فرض الواقع أكثر من تلاقٍ شعبيّ مميّز في أكثر من ساحة نضاليّة أو ثوريّة أو إصلاحيّة، على مستوى الشعور والحركة، من قبل أتباع المذاهب والطوائف المتنوّعة، يساهم في تعزيز القدرة على تجاوز الركام التاريخي وتأثيراته، والاقتراب أكثر فأكثر إلى نتائج مشتركة في هذا المجال.

وممّا قد يُذكر في هذا المجال، أنّ الحركة الثوريّة التي انطلق بها الإمام الحسين بن عليّ (ع)، ونتيجة للصراع المذهبي، أصبحت جزءاً من التراث المذهبي لفريق من المسلمين دون آخر، ولذلك بات قسم كبير من المسلمين، ويشكّلون الأغلبيّة العددية، غير معنيّين بدراسة هذه الحركة الثوريّة على المستوى الشرعي والفكري السياسي عموماً، مع أنّها ثورة لم تنطلق مذهبيّاً، ورموزها ـ بدءاً من الحسين (ع) ـ هم من آل البيت والصحابة والتابعين، وشعاراتها كانت شعارات نبويّة إسلاميّة مبدئيّة جرى تطبيقها على الواقع على المستوى الشرعي، كما في قول الإمام الحسين (ع): "أيّها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله" ثمّ قال (ع) ـ في مقام التطبيق ـ: "ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر".

وقد كانت نتائج هذه الثورة صرخة مدوّية، وهزّة عنيفة للواقع الذهني الذي سَكِر لأكثر من ثلاثة عقود على مقولاتٍ تنظّر لقبول الأمر الواقع، ما أنذر بتشوّه خطير في المفاهيم الإسلاميّة التي يقارب بها الناس الواقع ويحكمون عليه.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الاستغراق في الجانب المذهبي من جهة، وعدم وجود التنظير الفقهي الكافي للثورات مع وضوح تطبيقاتها العمليّة من جهة ثانية، هو الذي قد يدفع بعلماء اليوم، من السنّة والشيعة، لكي لا يتفاعلوا وجدانيّاً بالقدر الكافي مع الثورات؛ بل قد يقع بعضهم في فخّ التصنيف للثورات أو الحركات الإصلاحيّة تبعاً لمذهب جمهورها؛ وبذلك يفوّت العالم الإسلامي، بعلمائه، وبجماهيره تبعاً لهم، الفرصة السانحة التي ينتقلون بها من الملل إلى الأمّة، بكل ما للأمة من معنى متعدّد الأبعاد، سياسيّ واقتصادي واجتماعي وحضاري؛ وبذلك يسمح العالم الإسلام، بجماهيره وعلمائه، للمستكبرين من اللاعبين الدوليّين بمصائر الشعوب، أن يلعبوا على الوتر المذهبيّ ليسرقوا انتصارات تحقّقت في مواقع من الأمّة، ويُراد لعدواها أن تنتشر في سائر المواقع.

وبالإمكان أن نفترض أنّ تحديداً دقيقاً لقضايا ما نسمّيه بـ "فقه الثورة والإصلاح" وأحكامها المتّصلة بها، قد يوجد أرضيّة خصبة لتوحيد الرؤية لدى الحركات الإسلاميّة، أو الأفراد المسلمين، كما لدى المجتمعات الإسلاميّة بأسرها؛ باعتبار أنّ الفقه يلعب الدور الأساسي، والموجّه الرئيس للسلوك الإيماني للإنسان المسلم. وممّا لا شكّ فيه أن توحيد الرؤية يُلقي بظلاله على تلاقي في الخطط والبرامج العمليّة، بما يحقّق مستوى أعلى من التجانس في حركة الواقع، تنقل الفعل الإسلامي التغييري والإصلاحي من مستوى الفعل المتشتّت إلى الفعل المتناغم الذي يختصر المسافات الزمنيّة في الوصول إلى النتائج المرجوّة.

كما أنّ لتفعيل الحراك الفكري الفقهي لدى علماء المسلمين، في واحدة من أكثر القضايا وجدانيّة اليوم، يساهم في نقل دور علماء الدين، من دور المنفعل البطيء بالواقع، إلى الصانع والموجّه والمولّد السريع لحركة الواقع؛ كما في نقله من الانغماس في التنظير للسلطان إلى الانشغال بالتنظير للإسلام والجماهير، مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف:28)

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً