أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

الشهادة،هذا المفهوم الكلي الذي تمتد مصاديقه عبر التاريخ يعانق فيها الماضي الحاضر في قضية محورها الأخلاقي والقيمي هو: التضحية لأجل أهداف إنسانية سامية تكون في طول المشروع الإلهي.

ولكن حينما تصبح الشهادة محور واقعة تاريخية مازالت أصداؤها تتردد رغم بعدها الزمني، وتتواتر رغم فجاجة أحداثها المؤلمة، فلا نستطيع إلا أن تقف أمام هامة الشهداء وهامة تضحياتهم العظيمة، والتي لا تدلل غالبا إلا على قصورالأمة وعدم قدرتها على مواجهة الاستبداد بكل عناوينه ومصاديقه، مما حدا بهؤلاء العظماء بأن يضحوا بأنفسهم من أجل حرية الآخرين، وإزالة الحجب المانعة لوعيهم، ورفع الظلم عنهم ومواجهة كل أنواع الانحراف في الأمة لتعود الصحوة للعقول.

إن أبسط ما يمكن أن يقوم به عاقل لبيب هو أن يتامل في حياة الشهداء وحراكهم ومقاصده التي لأجلها ضحوا بأغلى ما يملكون أي أنفسهم، لأن التامل في هذه الخصوصيات المهمة في الحراك دون الانبهار بالشخصيات، له أثر كبير في إعادة بناء فكر الشهادة على أسس سليمة بعيدة عن الشخصانية والمذهبية وأي نوع من آنواع العصبيات، وتركز على الغايات والمقاصد التي تخص حراك الشهداء عبر التاريخ، لكي نستطيع أن نخرج بنظرية عن الشهادة، تكون قادرة على وضع أسس وقوانين لهذا المبدا العظيم، و يكون لها اثر في إعادة إحياء روح الثورة والنهضة في حياة هذه الأمة التي تمرض ولكن لا تموت.

فالشهيد حينما يخرج ليقاتل أو ليقدم نفسه فهو يفعل ذلك لأجل جماعة من الناس أو لنقل من أجل الأمة التي تتعرض للتآمر من داخلها بأنظمة فاسدة ومن الخارج بمحاولة لسلبها ثرواتها وروحها وهويتها، فيكون قرار الشهادة لأجل هدف هو نهضة الأمة وعودة عزتها وكرامتها وزوال كل أسباب الخطر من فساد داخلي أو استعمار خارجي، وهو ما يجب أن يتم تحقيقه بعد الشهادة من قبل الذين عليهم أن يكملوا مسيرة الشهيد. فالشهيد عمّد مسيرته بدمه وقدم نفسه، وهو أعلى سقف يمكن أن يهددنا به العدو الداخلي والخارجي وهو الموت، فحينما لا تخضع حتى لو كان الموت لك مصير حتمي، فإن ذلك يعني أن العدو أُسْقِط ما في يده، ولم يعد لديه وسيلة يهدد بها، وبالتالي فتحت كل الخيارات أمام الشعوب بعد شهادة الشهداء، خيارات استمرار النضال وعدم الخوف من الموت حتى تحقيق المطالب التي لأجلها قدمنا الشهداء، وليس فقط تحقيقها بل الحفاظ عليها وتطويرها، وعدم السماح بمصادرة أي منجزات للأمة، وأهم منجز هو الدم الذي بذل لأجل العدالة والكرامة والتخلص من الاستبداد والاستعمار.

هكذا فهم للشهادة سيكون له بالغ الاثر في تقليص الهيمنة العسكرية والإحلال الثقافي، لأن ثقافة الممانعة والمقاومة ستكون الأصل في المنهجية التي ستتخذها الأمة كقناعة راسخة في المواجهة، مستمدة قناعتها من أرواح الشهداء الذين يحيون بيننا بفكرهم وأهدافهم ودمائهم وتضحياتهم، التي لا يرقى لها الطير وينحدر منها السيل.

فكيف لو اجتمع المنهج والمقاصد والأهداف في شخصية مرموقة تاريخية لها ثقلها في الميزان النبوي والوحياني؟

هنا يكون الطريق أوضح والحجة أبلغ، فدراسة تلك الشخصية العظيمة والثورة التي صنعتها وظروفها السابقة واللاحقة، تمكننا من القيام بعملية قياس منهجي وفق قاعدة ” تلك الأيام نداولها بين الناس ” لنشخص آليات العمل السليمة، بتشخيص الواقع وعمل مقاربات له مع تلك الثورة الإنسانية ثورة كربلاء.

إن الحسين ع كما قال عنه رسول الرحمة محمد ص: “حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، وأبغض الله ممن أبغض حسينا”.

فكيف يكون النبي ص من حسين؟

أليست المضامين وتفسيراتها تكمن في ثورة كربلاء وانعكاسها على مسيرة الدعوة المحمدية وأثرها في إعادة انبعاث الدين المحمدي من تلك الثورة؟

لماذا للحسين ع كل تلك الخصوصية ؟؟ أليس هدف البعثات النبوية إقامة العدل والدعوة لعبادة الله وحده أي التوحيد؟ أليس التاريخ يثبت أن الاستبداد سمة راسخة في الحكام الذين عبدوا السلطة ونسوا الله؟ فلم الحسين عليه السلام حاز على كل هذه المكانة العظيمة التي أسسها نبي الرحمة؟ أليس في الحسين خصوصية هي كربلاء؟ وكلنا يعلم أن في كربلاء واجه الحسين ع الطغيان والكفر كله، وأبى الذل وقدم الموت عليه في سبيل تحرير العقول والذات البشرية من رهن العبودية لغير الله؟ إذا الحسين عليه السلام تابع تحقيق هدف بعثة الأنبياء وهو التوحيد والعدل بدمه وبكل ما يملك، لأن النبوة قد ختمت، والرسالة قد أُكْمِلَت مع تشويه واضح وجلي لوعي الناس، فلا بد من إعادة إحياء للأهداف في نفوسهم.

أسئلة تستحق التأمل خاصة إذا ما قاربناها مع واقعنا وشاهدنا الحملة الكونية ضد ثقافة الاستشهاد والمقاومة ومحاولة تشويه المفهوم وخلطه بمفاهيم دخيلة، ومحاولة تمييع الممارسة الاستشهادية بالخلط بين قتل الاعداء الحقيقيين وقتل الأبرياء. بل محاولة عسكرة المفهوم والتركيز على البعد العاطفي منه، بما يحوله لشعار دون مضمون فكري تأسيسي يخترق العقول والقلوب ويضمن سيلانه لكل الأجيال فيتراكم معرفيا مع التقادم ويتطور تطبيقيا مع مرور الزمن.

إننا بحاجة لقراءة الحسين ع وعاشورائه قراءة خارجية،أي خارج الزمان والمكان، قراءة فضاؤها العالم وحدودها الإنسان، قراءة خارج المذهب والطائفة لأن ذلك سيخرج هذه الثورة إلى العالمية ويجعل كل معالمها وحيثياتها وأهدافها عالمي.

فالزمن الذي وقعت فيه الثورة زمن كان يهيمن عليه الاسلام شكلا وكانت القوة العظمى للمسلمين، لذلك كان حدود الحدث التاريخي مقصورة على هذه النظرة، لكن الله في القرآن جعل من التاريخ تاريخ آني لحظي يزول ويفنى بفناء صاحب القضية فقط، ليعلمنا عبرا أو ليعلمنا كيف نعالج نوائب الدهر، وأحداث تعتبر في القرآن تأسيسية تطرح نظرية أو منهج تتجاوز الشخوص لتصبح سنن وقواعد منهجية ثابتة.

وثورة الحسين ع هي من القواعد المنهجية الثابتة التي تجاوزت لحظات الزمن والتاريخ الزمني إلى تاريخ الإنسان وصناعة الحضارة.

وزماننا هو شبيه بذلك الزمن وإن اختلفت موازين القوى، فاليوم الرب هو الاستكبار الذي يدفع باتجاه مبايعته تحت تهديد السلاح وإغراء السلطة والمال والنفوذ، والاتباع له هم تلك الأنظمة المستبدة والأقلام المستأجرة ومثقفي السلطة وفقهاء البلاط، وأما الشعوب فهي الأكثر مظلومية واضطهادا، فمواجهة يزيد بالأمس كانت مع مبدأ رفض الظلم والاستعباد واحياء ثقافة الرفض والممانعة ومقاومة الظلم، واليوم الحرب الكونية هي ضد خط الممانعة الرافض والرافع لشعار ” اللا ” في وجه شعار ” النعم “، هو خط هيهات منا الذلة…. وقراءة نهضة ابا عبد الله في إطار زمني ومذهبي وطائفي هو ظلم شديد لابي عبد الله الحسين ع وللشعوب المظلومة، وهو تمكين للظالم وللمستبد، إن أهمية القراءة المقاصدية لتاريخ حدث مهم كواقعة كربلاء تكمن في فهم الأهداف الكبرى والمنهج والأدوات، وفهم كيفية الاستفادة من هذه الواقعة المتجددة في كل عصر وإن اختلفت المصاديق دونما تشويه في التطبيق أو حرف مسارها عن الأهداف الحقيقية الإلهية، أو تحولها لوسيلة تشتيت وفتنة.

الإحياء وآليات التطبيق :

في أي بحث علمي موضوعي يفترض أن يتسم البحث بالدقة، فسلامة المقدمات ضرورية لسلامة النتائج. فلكي نشخص مسألة ما هل هي في دائرة التشريع المقررة في خمس مساحات تكليفية هي : الحلال والحرام والمكروه والمستحب والمباح، أو هي في دائرة هذا ما وجدنا عليه آباءنا، كموروث وعادة وعرف وتقليد،

وكوننا نسعى لسلوك السبيل الأقصر الموصل للصراط وهو صراط المعصوم، وبما أننا نتعاطى مع معصوم فيفترض أن نتجرد من كل أسلحتنا القتالية الحزبية والمذهبية وحتى أهواءنا النفسية، فاتباع شريعة الله يكون كما يريد الله من خلال من أرسله لا كما تهوى أنفسنا. وأي سلوك ظاهري عاطفي يعبر عن الحب والميل من قبل أفراد، يفترض أن يأخذ بالحسبان :

أولا :مآلات ذلك على الجماعة التي ينتمي لها الأفراد.

ثانيا : تشخيص خصوصية الزمان والمكان وضرورات المرحلة.

ثالثا : المجتمع الذي ينتمي له وخصوصيته التي تقتضي مراعاتها بما لا يضرب الأطر العامة للاستقرار الاجتماعي وأمنه، وبما لا يقوض مكتسبات ذلك المجتمع ومنجزاته في صدد التعايش والتسامح.

رابعا وهو الأهم على الاطلاق : انعكاس أي سلوك على رسالة من يحب وأهدافه، كون رسالة المصلح وأهدافه تتناسب مع سعة شخصيته، فحينما يكون شخص وجوده الوظيفي عالمي وهو الكشف عن واقع التشريع وإزالة الحجب عن عقول البشر للوصول إلى الحقيقة، وهداية الناس لأقصر الطرق المحقق لسعادتها، فإن شخصية عالمية بأهداف عالمية كهذه تفرض على الاتباع والمحبين بأن يرتقوا بأدائهم وفهمهم إلى هذه العالمية، كونهم المؤتمنين عليها أولا، والمعبرين عنها ثانيا، والذين يفترض أن يكملوا مسيرة عالميتها ثالثا.

خامسا: أهمية إدراك مبدأ أن لكل مقام مقال، وهو مبدأ يمكن سريانه على الخطابات الدينية الخاصة في هذه الواقعة، وعلى التطبيقات التي يمكن من خلالها إيصال رسالة المناسبة للعالم خاصة فيما يتعلق بالشعائر.

فلا يصبح في هكذا حال مسموحا بالسلوكيات والممارسات غير المنضبطة مع كل هذا الزخم العالمي والعطاء الذي قدمته تلك الشخصية على هذا الطريق.

وحتى في دائرة العادات والاعراف والتقاليد والموروث فهناك معيار في تصنيفها هو العقل والشرع خاصة في تعاطينا مع شخصيات نموذجية ومع رسالتها، وهو ما يتطلب منا تقييم منهجي علمي مستديم لكل ما جاء بعد تلك الواقعة والمسيرة، كي نعيد سيرنا على النهج ونضبط إيقاعه بما يناسب إلهية الحركة، وقيمة التضحيات التي قدمت لأجلها.

فالمسألة ليست سباق في الحب كمي، وليست عنتريات ولا مزايدات أو مصادرة على المطلوب لأننا :

أولا: نحن كبشر في خندق واحد اليوم مستهدفين في إنسانيتنا ووجودنا الوظيفي من قبل المستبدين والظالمين.

ثانيا:الكم ليس عبرة وحده، ولكن الكيف له أصالة يتبعه الكم والجمع بينهما غنيمة.

وهنا صراع بين العقل والعاطفة في ساحات الاستفادة من معين المعركة الخالدة. فلا نستطيع أن نقدم “نوعا” جافا قاسيا بلا روح يعتمد العقل بالفكرة منهجا خالصا، ولا نستطيع أن نقدم “كمَّا” سطحيا عاطفيا تفيض به الدمعة دون أن نعي عمق الثورة ودلالاتها ومآلاتها وأهدافها العالمية.

فالمفروض أن لا نعيش هذا الصراع، والأجدى كيف نقترب من الحقيقة الكاملة، وكي نفعل يجب أن تتناغم خطاباتنا وممارساتنا وأدواتنا مع متطلبات كينونتنا المتكاملة والمتوازنة بين الوجدان)العاطفة) والعقل.

ففي كربلاء ينقل لنا التاريخ مواقفا قبل الواقعة وبعدها جلاها الفرزدق حينما اختصر المشهد في وصفه للناس ” قلوبهم معك وسيوفهم عليك”،فكانوا في كربلاء يبكون الحسين عليه السلام رغم مشاركتهم في قتله وتقطيعه وسرقته، وهو ما يدلل أن المعيار العاطفي ان كان وحيدا في ساحة الإنسان فهو معيار خطير قد يسبب انحرافا خطيرا في واقع الأمة.

لذلك كان الضبط العقلي للفكر والعقيدة والمنهج مطلبا وجوديا حقيقيا لأنه من موجبات تحصيل المعرفة، وسيجعل الناس في معسكر الحسين عليه السلام لا في معسكر عدوه رغم بكائهم عليه.

فالفكرة نتاج للعقل ولكن شريطة أن تكون منضبطة المقدمات وصالحة الوسائل لتحقق نتائج صحيحة، وكلما ارتقت الفكرة ارتقت معها العاطفة لتصبح الفكرة بالعقل مندكة بالعاطفة وترتقي إلى مستوى الوجدان الالهي الشبيه بوجدان الحسين عليه السلام الذي كان يرى كربلاء ساحة للعشق الالهي رغم مأساوية المشهد وكان يردد: ” أرضيت يا رب خذ حتى ترضى “.وهذا يجلي حالة العاطفة التي انضبطت على طريق العقل والفكرة.

إذا نحن بحاجة “للعقل” و “الوجدان” و “للكم” و “النوع”، في خطاباتنا وممارساتنا وأدواتنا ومناهجنا وسلوكنا وأهدافنا كي نكون مخلصين لأمرين :

١.صاحب الثورة وتضحياته

٢.عالمية الثورة وأهدافها

الأدوات والآليات:

في إحياء مناسبة كمناسبة واقعة كربلاء فإننا أمام خيارين هما الشعائر والطقوس، فهل ما نقوم بإحيائه هي شعائر حسينية أو طقوس عاشوراء؟

واقعا إن إحياء عاشوراء يتضمن شعائرا وطقوسا، فالشعائر كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم يقال له شعار أو شعائر، وقال الشّعار: العلامة، وأشعرت أعلمت، الشعيرة العلامة وشعائر الله أعلام دينه[1].وفي الاصطلاح شعائر الإسلام هي ماذهب الشرع إليه وأمر القيام به كالفراذض من صلاة وحج وزكاة وغيرها، والشعيرة كذلك ناقة الهدى ونحوها مما يهدي لبيت الله[2]. فالشعيرة في الإسلام يجب القيام بها.

أما الطقوس فيعرفها ليج leach بأنها نوع من أنواع السلوك الاجتماعي له صفة رمزية تنعكس في صورة الشعائر والممارسات الدينية، وأحيانا يعبر عنها في سياق العادات والتقاليد، كما توضح الطقوس بحسب آراء ليج معالم التركيب الاجتماعي، إذ تتعدد أنماط العلاقات الاجتماعية المتناسقة بين الأفراد والجماعات، إذن الطقوس ليست نوعا من أنواع الحدث وإنما هي وسيلة إعلامية تعبر عن أنواع الأحداث والتصرفات الاجتماعية، وذلك لخاصيتها الإعلامية البارزة، هذا فضلا عن وجود طقوس لا تتميز عن خاصيتها الإعلامية[3].

لذا فلاطقوس هي ممارسات ثقافية منها ديني ومنها اجتماعي، وهذه الطقوس إما نابعة من تاريخ المجتمع أو مستوردة من الخارج.. وتكاد أغلب المجتمعات في العالم تمارس الطقوس في حياتها لكن تختلف الممارسات من مجتمع إلى آخر. ففي المجتماعت المتمدنة تكون الطقوس جزءا من هويتها الثقافية وتراثها الثقافي فيمارسون الطقوس كاعتزاز بتاريخهم الثقافي، فيشكل الطقس لهم مظهرا خارجيا ليس إلا. زما في المجتماعت البداذية فالطقوس تشكل عندهم هويتهم الدينية وروح التضامن والقداسة، فلم تشكل الطقوس لهم مظهرا خارجيا بل جزء مهم من تكوينهم الوجودي.[4] إن هذا الفرق بين الطقوس والشعائر يجعلنا ندرك أهمية الآلية التي علينا أن نمثل بها الحسن ع وثورته الخالدة عبر التاريخ، وكيفية إيصالها للأجيال اللاحقة بروح عصرية نهضوية تحتفظ في عمقها بأصالة الحدث وأهدافه ومقاصده وعمق الشخصيات التي مثلته ورساليتهم..

ونحن دوما ما كنا نقرأ ونسمع عن حاجتنا للتجديد في طرح عاشوراء كشعائر وكخطاب وضرورة المواءمة والعصرنة مع الراهن، وقد طرحت محاولات عديدة ومهمة في الآليات والأدوات في حركة التطوير، جلها كمي لا نوعي.

فتم على سبيل المثال لا الحصر استغلال الفضاء مع ثورة الاعلام، ففتحت الفضائيات كوسيلة لنشر الثورة الحسينية، وكثرت المجلات التي تناقش ملف عاشوراء وتستفيد منه، وبات لدينا مسرحا حسينيا يجسد لنا المعركة حسيا.

لكن جل ما سبق مازال يعاني نوعيا مما عانى منه الخطاب المنبري، من حيث الطرح الشعائري الطقوسي فقط للقضية، وعدم التدقيق في الواقعة من حيث مصداقية وسند ما تم سرده من أحداث حصلت والنصوص التي وردت عن المعصوم عليه السلام.فالسبق إلى الفضيلة مهم ، لكن العبرة في مدى ما قدمته بعض الأدوات للثورة.

فالفضائيات والمسارح والمجلات التي تحاكي الثورة أهميتها تحدد من خلال ما قدمته هذه الأدوات من سعة إدراك في وعي الناس، وما قدمته من قيم ومعايير إلهية يفترض أن تنعكس على سلوك الناس ومدى مواجهتهم للظلم والظالمين ورفضهم للاستبداد، وقدرتهم في الدفاع عن حقوقهم وارسائهم للعدالة وقبولهم لها وللحق ومعاييره.

ولا أحد هنا ينكر أي جهد يقدم في سبيل الارتقاء، مهما كان بسيطا شريطة أن تنطبق عليه معايير العقل والشرع.

فالفوضى باسم الشعائر الحسينية ليست فقط مرفوضة عقلا بل شرعا، وما نعنيه بالفوضى هو الاستمزاجات والاستحسانات الفردية التي لا تنطبق عليها معايير العقل والشرع، والتي لمجرد ورودها عن السابقين تحولت لشرعا يُدان به مقدسا فوق النقد والتقييم، والخلط بين الشعائر والطقوس أدي لإسباغ حالة القداسة على كل الممارسات دون السماح حتى لمحاولات النقد والتقييم وهي محاولات عقلية صحية تحتاجها الثورات خاصة التاريخية منها لأنها تبقيها في دائرة الضوء وتؤكد على ديمومتها.

المطلوب هو التنضيج دوما لما يقدم هذه الثورة بطريقة يتم الاستفادة منها كونها ثورة خالدة أصيلة، وهو ما يعني قدرتها على تقديم نموذج دائمي متحرك في كل زمان ومكان.

وهنا تكمن قدرتنا على جعلها كمدرسة حيوية تحاكي واقعنا وتكون قادرة لأن تعالج إشكالياتنا الراهنة لا أن تعمقها وتعقدها من خلال ممارسات منتسبيها. فالحسين عليه السلام خرج للاصلاح الذي شرَطَه بأنه لا أشرا ولا بطرا. كلما كانت الأهداف سماوية عالية اعتقد يفترض أن تكون آلياتنا المحققة لتلك الأهداف ترتقي لمستوى سماويتها وعالميتها.

فنحتاج لذلك ضبط ومنهجة مستديمتين من خلال التقييم والنقد،وانفتاح أفق دون تحسسات تيارية او حزبية أو مدرسية حوزوية، بل تحت عنوان اعرف الحق تعرف أهله ويعرف الرجال بالحق،وعنوان الحكمة ضالة المؤمن. مع قدرتنا على فهم سعة استيعاب الثورة للجميع من خلال تنوع الشخصيات التي انضوت تحت راية الإمام الحسين عليه السلام وسعة استيعابها لكل تلك التنوعات الفكرية والمرجعية.

ودون أن يعتقد أحدنا أنه هو فقط حامي الحمى عن الحسين ع، فحب الحسين اخترق قلوب العالم المسلم وغيره لأنه عالمي وليس مذهبي.

فالعالمية تتطلب رسالة عالمية وأدوات عالمية، وإلا الاستمرار في مذهبة القضية الحسينية هو قتل لها متجدد،وهي كل متكامل لا يمكن أن يُؤْتي الثمار المرجوة منه في حال تم تجزأته ومذهبته.

الموضوع ليس رفض وقبول لجزئيات هي محل اختيار الناس ومحترمة فلكل طريقته في التعبير، إنما الموضوع في تحويل طرح ثورة عاشوراء من طرح عالمي متكامل إلى طرح شعائري طقوسي فقط أو شعائري استمزاجي غير منضبط شرعا وعقلا، وهذا لا يعني انتقاصا بالشعائر أبدا ولكن هو اعتراض على اقتصار الطرح فقط بالشعائر مع مزجها بطقوس كانت صالحة في زمن وهي الآن مع الثورة التكنلوجية وزمن الصورة باتت غير صالحة، أو عدم حتى انضباط الشعائر وفق معايير الشعائر الالهية، ومواءمتها مع ما ذكرناه مقدما.

فلو استطعنا اليوم تطوير الشعائر وغربلة الطقوس وفق معطيات العصر الحديث -وهذا طبعا من باب مخاطبة الثورة بلغة الزمان والمكان – ودون أن ندعي مصاديق الشعائر المطلوبة فما ينفع في دولة قد لا ينفع في دولة أخرى ومع الالتفات لعدم التخلي عن الأصيل فيها والأساسي الثابت.

إضافة إلى القدرة على تشخيص المصلحة والمفسدة في ممارسة بعض الشعائر من عدمها وفق معطيات الواقع المحيط.

فلا ضير بما يعبر عن رمزية الحدث، ولكن أن تتحول عاشوراء فقط إلى رموز أو أي شكل من أشكال التعبير العاطفي وتفرغ من الفكرة والعقل، هو ما نتمنى أن نبتعد عنه ليس كممارسة شعائرية فقط، وأنما كمنهج طرح للثورة العاشورائية.

فكل زمان ومكان له ما يناسيه وما يحاكي به الثورة ويطرحها بشكل عالمي وهو ما يتطلب دمج الفكرة مع العاطفة.فإذا ما امتلكنا فكر استراتيجي عاشورائي، استطعنا الخروج برؤية حول الشعائر الأنسب ممارسة في إيصال فكرة عاشوراء بما يتناسب ومقومات الوضع المحيط.

إذا نحن نحتاج واقعا الى:

١- تطوير المنهج بعد مراجعته مراجعة منهحية علمية موضوعية أحد مراجعها النص الثابت والممارسات المنضبطة عقلا وشرعا.

٢- مناغمته مع الواقع المحيط

٣- طرحه بما يليق بعالميته

٤- الأخذ بالحسبان كلا بعديه العاطفي والفكري

٥- محاكاة وضع البلد وما يناسبه ونحتاج واقعا تقييم مستمر مع الالتفات للمجتمع وليس فقط للفرد وهذا مهم.

٦.ضرورة ربط إشكاليات الواقع وأهم التحديات الثقافية وأهم التساؤلاتالمطروحة على مائدة الفكر خاصة فيما يتعلق بالهوية الدينية والقومية، والتحديات التي يواجهها الأجيال بعد العولمة وطرح معالجاتها العميقة التي تسقط الشبهات واستلها منهج الحجة والدليل الذي استخدمه سيد الشهداء مع أعدائه لازالة الشبهات ودرء الفتن. مع الاخذ بالحسبان الوسائل العصرية والانتقالمن اسلوب التلفين والالقاء الى اسلوب الندوات الحوارية التي يعبر فيها الشباب والشابات عن وجهات نظرهم لتسليحهم بالمنهج القويم في كيفية معالجة الشبهات والأسئلة والشكوك التي تطرحها النفس عليهم.

وهو ما يتطلب تسلح الخطيب او الخطيبة المنبرية بثقافة عالية واتساع واسع على الشبهات العصرية والثقافة الغربية لفهم عمق التشابكات وكيفية حلها والاجابة على اشكالياتها العميقة.

فقضية الحسين عليه السلام عليها أن تستمر وتصل للأجيال دون تشويه وتحريف لفكرها وأهدافها ومساراتها، فاليوم هناك استهداف حقيقي لثورة عاشوراء، لأنها المعين المستديم الصافي الذي عَبَر الزمن ومستمر في العبور للتاريخ وللزمان والمكان ليواجه كل ديكتاتور وطاغية واستعمار وكل محاولات سلب إنسانية الإنسان، وسلب عزته وكرامته، بل يواجه كل طغيان باسم الدين، فثورة عاشوراء هي ثورة عالمية لتحقيق العدالة و نفي كل أنواع العبوديات لغير الله تعالى، وأي تشويه لها هو واقعا اعتداء لا يقل عن اعتداء جيش بن سعد على الحسين عليه السلام في يوم العاشر من محرم.

___________________

[1] تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ح12، دار إحياء التراث العربي، بيروت 2002 ص 40

[2] أحمد عطية الله:القاموس الإسلامي، ج4، مكتبة النهضة العربية المصرية، القاهرة، 1976

[3] اجتماعية التدين الشعبي/ دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية/ مهتدي الأبيض، الرافدين ط١، ٢٠١٧، ص ٢٩،٣٠

[4] مصدر سابق ص ٣٠،٣١

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً