أحدث المقالات

قضية المرأة في منظومة الفكر الباديسي

الدكتور محمد بن سمينة

جامعة الجزائر

 

المبحث الأول: المرأة في مرآة التاريخ

 إن الحياة الإنسانية كسائر أنواع الحياة الأخرى تقوم على قانون الزوجية: الذكر والأنثى، الرجل والمرأة، يقول الله تعالى: "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون".(1)

وتمثل الأسرة في هذه الحياة الإنسانية الخلية الأولى لبناء المجتمع، كما تمثل المرأة العمود الفقري في هيكل المجتمع لنهوضها بوظيفتها الطبيعية المزدوجة الأولى، الوظيفة التربوية (أُمَّاً) والوظيفة الاجتماعية (زوجة)، فهي (أم) تنهض بمهمة تربية الأولاد على مبادئ دينهم وتعاليمه وقيمه، تعلمهم مكارم الفضيلة وتحصنهم من أدران الرذيلة، وهي زوجة صالحة تقوم بشؤون زوجها، ترعى مصالحه وتحفظه في عرضه وفي أولاده وفي ماله، وتحرص على ما يريح باله ويسعد حاله، وتحقق له بذلك السكينة المنصوص عليها في القرآن الكريم، وبهذا يكون للمرأة المضطلعة بوظيفتها التربوية الاجتماعية، كما يكون للأسرة الراشدة،يكون لكليهما عظيم الأثر في تماسك بنيان المجتمع وفي تلاحم بنية الأمة ومن ثم فإن من نهض بالمرأة وبالأسرة في ضوء قيم الأمة ومقوماتها، يكون قد نهض بأمته على المنهج السوي والصراط المستقيم، ومن قصر في القيام بهذا الواجب، فقد أخل بمسئوليته نحو مجتمعه ونحو وطنه.

 

الأسرة المسلمة هدف قديم جديد لمخططات الغزاة:

كان الغزاة الأوروبيون وهم يجهزون جيوشهم لاحتلال بلاد المسلمين في العصر الحديث يدركون هذه الأهمية لما تنهض به الأسرة الرشيدة في تماسك صرح المجتمع؛ ولذلك كانت هذه الأسرة على رأس ما استهدفه أولئك الغزاة بالأمس في إطار هجمتهم التغريبية، وإن هذه الأسرة ذاتها هي اليوم في مقدمة ما يستهدفه أولئك الذين يقفون في الوقت الراهن وراء العولمة في توجهاتها الاجتماعية والثقافية.

ويدخل في إطار هذه الهجمة القديمة الجديدة ما يدور هذه الأيام من جدل ونقاش في أكثر من بلد من بلاد المسلمين حول جملة من القضايا الاجتماعية يأتي في مقدمتها: المنظومة التربوية (المناهج، المقاصد، والغايات) قانون الأسرة، الحقوق المزعومة للمرأة.

وينسى أولئك المروجون لهذه الدعاوى أن محاولات من سبقهم على هذا الطريق قد باءت بالفشل، وستبوء – بحول الله – بأسوأ من ذلك محاولات أخلافهم اليوم، وذلك بما جابهها وسيجابهها من المواقف المشرفة، والجهود المخلصة لأعلام الأمة مصلحين ومفكرين وأدباء، غيرة على الأسرة وذودا عن المجتمع ودفاعا عن الأمة، وكان ذلك بما غرس أولئك الأعلام في نفوس النشء من قيم ومكارم، وما نهضوا به في صفوف المجتمع من إرشاد وتوجيه، وما نشروه في أوساطها من وعي وعلم، وما رسموه أمامها من تطلعات وغايات.

وتود هذه الكلمة أن تقترب من جهود أحد أولئك الأعلام – الإمام ابن باديس – في هذا المضمار، وبخاصة ما يتصل من ذلك بقضايا المرأة والأسرة، للاستئناس بآراء الإمام في هذا المضمار، وهي مرجعية ذات مصداقية عالية لأبناء الأمة في هذا الباب.

 

الإسلام أول شريعة أعطت للمرأة حقوقها:

كانت الجاهليات الأولى (اليونانية والرومانية والعربية وغيرها) (2) قد أهانت المرأة وظلمتها  وحرمتها من حريتها وحقوقها حتى جاء الإسلام، فقال للناس: إن المرأة كالرجل ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾(3) فكانت هذه هي أول دعوة في العالم اعترفت للمرأة بإنسانيتها وأهليتها ومنحتها حريتها، وأعادت لها حق التصرف في جميع شؤونها.

وكان أول من صدّق في التاريخ الإسلامي برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وبرسالة الإسلام، امرأة هي السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها(4).

ولما دخلت الأمة الإسلامية في عصر الضعف، وبدا مد حضارتها في التراجع على إثر ضعف الروح الدينية في نفوس بعض أفرادها وتحجر العقل وانتشار الجهل، رجعت المرأة إلى بعض ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، ثم جاء العصر الحديث، فوجد المسلمين يعيشون أوضاعا هي امتداد لما كانوا يعيشونه في أعقاب فترة القرون الأولى المشهود لها بالخيرية من نبيهم الصادق المصدَّق عليه صلاة الله وسلامه، وكان من نتائج ذلك، أن سقط معظم البلاد الإسلامية تحت قبضة الاحتلال الغربي وشاءت الأقدار أن تكون الجزائر من بين شقيقاتها، الضحية الأولى لهذا الغزو، فظفر بها الاحتلال الفرنسي، وعمل من ضمن عمل على تكريس صورة ذاك التردي الذي هبط إليه المجتمع العربي الإسلامي يومئذ، فعاش المجتمع الجزائري طوال فترة الاحتلال الفرنسي في ظروف اجتماعية سيئة، وأخذت المرأة الجزائرية نصيبها من ذلك، وكان من أشد ما أصابها من ذلك وأضر بشخصيتها، ما لحق بها جراء الاحتلال من جهل بحقائق دينها وشؤون دنياها، وجمودها وانزوائها في جحر دارها بعيدة عن كل إسهام فاعل في سير الحياة العامة، فقعدت بذلك عن وظيفتها الأصلية بحسب ما تسمح لها به مواهبها وخصائصها المتميزة.

وظن بعض المتفرنجين لوقوعهم تحت تأثير الدعاية الأجنبية، أن العامل الرئيس في وضعية المرأة هذه، إنما هو الدين الإسلامي. وما ذلك في الحقيقة بصحيح، وما هو إلا محض افتراء وضرب من البهتان، ذلك أن المرأة – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – ما عرفت في التاريخ الإنساني دينا حررها من ربقة المهانة والإذلال ومنحها من الحقوق ومن أسباب التكريم مثل ما منحها الدين الإسلامي، هذه الشريعة الإنسانية السمحة العادلة التي ضمنت للمرأة حقوقها كاملة غير منقوصة في الملكية وفي الميراث، في العمل وفي تدبير شؤونها، في التصرف في أملاكها وفي أموالها.

وأما ما عليه المسلمون اليوم، من سوء المنقلب الذي هم فيه يتقلبون، إنما جاءهم ذلك من التخلف الحضاري العام الذي أصاب مجتمعهم في جميع مظاهر حياته، أثناء عصر التخلف والسقوط الحضاري، وكان من نتائج ذلك أن غزاهم مع مطلع هذا العصر الاحتلال الغربي، فزاد أوضاعهم سوءا على سوء. فأخذت المرأة المسلمة في إطار هذا التخلف الشامل نصيبها من ذلك، فحسب المستغربون أن ذلك إنما هو ظاهرة عامة في التاريخ الإسلامي وفي المجتمع الإسلامي، وأن الدعوة إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقها لم يعرفها المسلمون إلا في هذا العصر بتأثير ما جاءت به المدنية الأوروبية من نظم وقوانين.

ويحضر في ذهن القارئ الكريم أمام هذه الدعاوى هذا السؤال: هل يمكن أن يكون هؤلاء المرجفون المستلبون يجهلون تلك الحقائق التاريخية أم أنهم كانوا يعرفونها، ولكنهم يعمدون إلى قلبها والتعتيم عليها خدمة لأغراض مرسومة وأهداف معلومة؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فبم يمكن تفسير جهل أولئك المغرضين، أن أصحاب تلك المدنية التي هم بها منبهرون ولنظمها يروجون لم يعرفوا في تاريخهم تلك الحقوق المزعومة، ولم يسمعوا بها إلا بعد أن احتكوا بالمسلمين واقتبسوا تلك الأفكار النيرة من حضارتهم الرائدة في غير ما مكان وزمان؟ ألم تكن المرأة عند أصحاب تلك المدنية الغربية، من قبل انبثاق فجر الدعوة الإسلامية تعيش مجردة من إنسانيتها مسلوبة الإرادة، محرومة من أبسط حقوقها في التصرف بشؤونها الخاصة، بل العامة؟

 

الشريعة الإسلامية تكرم المرأة وتعيد لها إنسانيتها:

إذاً، إن ما عرفه المجتمع الإسلامي في العصر الحاضر من دعوات تنادي بتحرير المرأة، إنما هو نتيجة الصحوة التي عرفها المسلمون في هذا العصر، على إثر ظهور الحركات الإصلاحية، في العالم العربي الإسلامي، فنقلهم ذلك من الأعصار المتأخرة المظلمة إلى عصر النور والتنوير، عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية التالدة.

وكان أعلام تلك الحركة قد أدركوا عوامل تخلف المسلمين، فعملوا على تخليصهم من ذلك، برسم الطريق أمامهم نحو الرجوع إلى ينابيع دينهم، يستمدون منها أسباب القوة والمنعة في قلوبهم وفي عقولهم، في أرواحهم وفي أجسامهم، في العقيدة وفي الأخلاق، في الفكر وفي العمل. فكانت قضية تربية المرأة وتعليمها والنهوض بها من بين القضايا التي عني بها المفكرون والأدباء في العالم العربي الإسلامي(5).

 

المبحث الثاني : المرأة في الفكر العربي الحديث:

 سبقت الإشارة في الحلقة السالفة إلى أن المفكرين والأدباء في العالم الإسلامي قد أولوا عناية فائقة بقضية المرأة، وقد انقسمت آراؤهم حيال ذلك إلى فئات ثلاث:

1- منبهرون:  بالمدنية الغربية، منادون بتقليدها في كل شؤون الحياة، فقام هؤلاء بمطالبة المرأة المسلمة بتقليد المرأة الأوروبية في جميع مظاهر حياتها بتحريرها من كل ما يربطها بدينها وحضارتها، ومن بين هؤلاء في مصر:

 سلامة موسى (1887 ـ 1958)، محمود عزمي (1889 ـ 1954)، ملك حفني ناصف (1886 ـ 1916)، زينب فواز (1846 ـ 1914)، قاسم أمين (1865 ـ 1908)، وفي تونس: الطاهر الحداد، وأشباه هؤلاء، من بعض المتفرنجين في الجزائر(6).

2- متزمتون جامدون: ضيقوا الخناق على المرأة وحبسوها في عقر دارها بسبب جهلهم بحقيقة الدين الإسلامي ووقوعهم تحت تأثير بعض الأحاديث المكذوبة(7)، فظلت المرأة سجينة الجهل والتقليد والخرافات، ويمثل هؤلاء بعض الفقهاء المتزمتين وبعض المشعوذين الجامدين هنا وهناك، هؤلاء الذين بلغ بهم الجهل والتحجر والتزمت في هذا المجال وفي غيره، أن أنكروا على المفكرين المنادين بتربية المرأة وتعليمها دعوتهم إلى ذلك، وتجاوزوا ذلك الإنكار إلى المناهضة والمخاصمة(8).

3- معتدلون مستنيرون: حز في نفوسهم ما يرون من آثار هذه الوضعية المهينة التي تعيشها المرأة في البلاد الإسلامية بين تطرف المستغربين في الدعوة إلى التحرر المطلق وبين غلو المتزمتين في الجنوح إلى السلبية والانغلاق، فحاول هؤلاء المفكرون المعتدلون أمام ذلك أن يخففوا على المرأة من حدة هذه المعاناة، فعملوا على الأخذ بأيديها إلى ما دعا إليه الدين الإسلامي من وسطية واعتدال، وما منحها من حقوق وحريات، ففتحوا بذلك أمامها الطريق إلى النهوض بواجبها الاجتماعي والإنساني، متحررة من كل مظاهر الظلم والتسلط، متمتعة بكامل حريتها المشروعة، ومن بين هؤلاء المصلحين: رفاعة الطهطاوي صاحب كتاب (المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين)، شكيب أرسلان، محمد عبده، محمد رشيد رضا، قاسم أمين صاحب كتابي (تحرير المرأة 1889 ـ المرأة الحديثة 1900) عبد القادر المغربي، مصطفى الغلابيني، مصطفى بن الخوجة، عبد القادر المجاوي، ابن باديس، وغيرهم(9).

ومما يحسن الإشارة إليه بهذا الصدد، وهذه الدراسة تنظر في هذا الموضوع من خلال آثار أحد الجزائريين، أن معظم المفكرين والأدباء الجزائريين إنما هم من هذا التيار الثالث المعتدل المستنير.

المرأة في نتاج الجزائريين: ومن ثم يمكن القول: إن الأدب العربي في الجزائر لم يعرف ما عرفه هذا الأدب في غيرها من بعض البلاد العربية حول قضية المرأة من صراعات وخصومات بين المؤيدين والمعارضين، بين المدافعين عن حقوق المرأة التي أعطاها لها الإسلام، وبين الناكرين ذلك على الإسلام، من غربيين متعصبين، ومستغربين مستلبين، ومتزمتين جامدين.

ومما يمكن ملاحظته في هذا الباب أن العناية بقضية المرأة في الجزائر تعود إلى مرحلة النهضة (العشرينات من هذا القرن)، وبذلك يعتبر تناول هذه القضية متأخرا بمقارنته مع ظهور هذه العناية بها في المشرق (أواخر القرن التاسع عشر)، ويرجع هذا إلى أسباب موضوعية تعود إلى تأخر انطلاقة النهضة العامة في الجزائر عن مثيلاتها في المشرق. بيد أن هذا لا يعني أن الجزائر لم تعرف قبل هذه الفترة من لفت النظر إلى وضعية المرأة يومئذ فكتب في ذلك، كما يظهر ذلك في بعض الصحف الصادرة في مطلع هذا القرن(10)، وكما جاء في بعض كتابات الشيخ عبد القادر المجاوي فيما كتبه عن تعليم المرأة في شرحه على منظومة البدع لتلميذه الشيخ المولود بن الموهوب الموسوم اللمع على نظم البدع طبع بالجزائر (1330 / 1912 ) (11).

وقد تزامنت مع ظهور هذه الكتابات الجادة المحققة بعض الأصوات الشاذة: فمن هؤلاء من أنكر لانغلاقهم وجمودهم، حق المرأة في التعليم، مستدلين على ذلك بحديث مكذوب، ومنهم من غالى في الدعوة إلى تحرير المرأة لوقوع أصحاب هذا الفريق تحت تأثير بعض الأفكار الغربية الهدامة، وهؤلاء على أية حال ليسوا بكتاب، ولا بشعراء، وإنما هم بعض الصحفيين من المتفرنجين الذين شدا بعضهم شيئا من الفرنسية فأوقعهم ذلك تحت دائرة التفرنج، فكتبوا شيئا في بعض الصحف عن المرأة، فغالوا في ما كتبوا. إلا أن هذه الكتابة ما كانت لترقى إلى مستوى النتاج الأدبي، لا من حيث طرق المعالجة، ولا من حيث الشكل، فجاءت بذلك من ناحية التحليل لا تتجاوز أن تكون بعض الكتابات الصحفية العادية ومن حيث الصياغة لم تكن مكتوبة بالعربية أصلا، وإنما ظهرت باللغة الأجنبية (الفرنسية)، وهي وإن جاز من بعد ذلك، أن تندرج بهذه الخصائص ضمن النتاج الأدبي، فإنه ليس من المنهجي أن تدمج حينئذ – وحالها على ذلك الحال- ضمن الأدب المكتوب بالفرنسية.

 ولعل أول من عني بموضوع المرأة من بين الجزائريين هو الشيخ محمد مصطفى بن الخوجة: 1865-1917 الذي ألّف كتابين في ذلك هما: "الاكتراث في حقوق الإناث"(12) و"اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب"(13) وقد عني فيهما بتربية المرأة وتعليمها والنهوض بها.

ثم بدأت العناية بهذا الموضوع من بعد ذلك تزداد شيئا فشيئا مع بدايات النهضة الأدبية في مطلع العشرينات، وكان الاهتمام في هذه الفترة منصبا أساسا، على غاية مركزية واحدة، هي : الدعوة إلى تربية المرأة وتعليمها. ولا يكاد الأدباء يتجاوزون في هذه المرحلة هذا المقصد إلى غيره، لما كان عليه المجتمع الجزائري يومئذ من محافظة شديدة ثم لم تلبث هذه النظرة إلى الموضوع أن توسعت في بداية الثلاثينات، فعرفت بذلك شيئا من عمق النظر والواقعية في تناول جوانب القضية، كما يظهر ذلك في أعمال هؤلاء الكتاب" ابن باديس، عبد الحفيظ بن الهاشمي، أبي اليقظان، محمد العيد، محمد الهادي السنوسي، صالح خبشاش، رمضان حمود وغيرهم. ثم استمرت الآراء تتطور وتتبلور حول هذه القضية، إلى أن بلغت الصورة التي بلغت إليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما يظهر ذلك في آثار الكاتب أحمد رضا حوحو، ومن أبرز أعماله في هذا الباب: روايته "غادة أم القرى" 1947.

وإننا إذا استثنينا ذلك الشذوذ الذي ظهر في تناول هذا الموضوع من بعض المتفرنجين والجامدين، فإن معظم الأدباء الجزائريين قد وقفوا من موضوع المرأة موقفا معتدلا، وتناولوا جوانبه بنظرة موضوعية جادة، تتلاءم مع أهميته الاجتماعية وأبعاده الإنسانية.

ولعل من بين أبرز من عني بقضية المرأة عناية تستحق التنويه بها من الجزائريين، إبان مرحلة النهضة، إدراكا لفاعلية دورها، إيجابا وسلبا على المجتمع، هو الإمام ابن باديس الذي أبرز مكانتها في الحياة ودورها في المجتمع، فقد دعا إلى تحريرها مما يكبلها من قيود الجهل والتقليد، كما سهر على تربيتها وتعليمها ووقف في وجه المحاولات التي تعرقل مسيرتها، سواء منها تلك التي حرصت على إبقائها حبيسة الجهل والتقليد، أم تلك التي رمت بها إلى مخالب التفرنج والتغريب؟

 

المبحث الثالث : نظرة ابن باديس إلى المرأة من منظور الإسلام لها:

دور المرأة أساسي في نهضة المسلمين:

 إن الإمام ابن باديس لا ينطلق في نظرته إلى مكانة المرأة ودورها في الحياة، من تلك الحال التي تردى إليها وضعها في عصر السقوط، وإنما كان ينطلق في ذلك من منظور شريعة الإسلام التي حررتها مما كانت تعاني منه في الجاهليات الأولى من مهانة وظلم وإذلال، ومن هذه القناعة كان الكاتب يؤمن أن دور المرأة إنما هو مكمل لدور الرجل، ذلك أن الوحدة البشرية لا تكمل إلا بكمال الجنسين، فهي شقيقة الرجل في الخلقة وشريكته في الحياة، يشد الصلة بينهما قانون الزوجية العام الذي تخضع له سائر الكائنات الحية؛ ولذلك فإن الحياة الإنسانية بما فيها من نظام وعمران، لا يمكن أن يستقيم أمرها ويزدهر حالها، إلا على أساس من تضافر جهود الجنسين: المرأة والرجل »لا تقوم الحياة إلا على النوعين اللذين يتوقف العمران عليهما وهما الرجال والنساء «(14).

ويتطرق الشيخ إلى الموضوع من زاوية أخرى، مؤكدا أن المسلمين لا يمكن أن ينهضوا بنهضة حقيقية إلا إذا شاركتهم النساء في ذلك في نطاق ما يحدد الشرع لهن من صون واحتشام وعدم اختلاط: »فلن ينهض المسلمون نهضة حقيقية إسلامية إلا إذا شاركهم المسلمات في نهضتهم في نطاق عملهن الذي حدده الإسلام، وعلى ما فرضه عليهن من صون واحتشام«(15).

وإذا كانت نهضة المسلمين لن تتحقق لهم من دون نسائهم فإن الحياة الكريمة كذلك لن يظفروا بها إلا إذا كانت هذه الحياة قد مست قلوب وعقول مجموع أفرادهم نساء ورجال(16).

 

العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل وليست علاقة مساواة مطلقة:

وتوضح هذه النظرة الصائبة إلى العلاقة الحقيقية بين المرأة والرجل وتكامل دورهما في الحياة، هشاشة الأفكار الهدامة التي تنادي بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، وتكشف في الوقت ذاته سلبية أولئك الذين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية ويذهبون إلى أفضلية الرجل عليها بمجرد أنه رجل، سيطر على المرأة وتحكم في شؤونها في مرحلة زمنية اختلت فيها موازين الحكمة واعتلت فيها العقول والقلوب، فجهلت بعض النفوس المريضة ما بين وحدة العنصر البشري من تكامل، يبرز ظاهرة العدالة والمساواة بين الرجل والمرأة في التكاليف الشرعية والكرامة الإنسانية وفي الحقوق والواجبات ويوضح ما يضطلع به كل منهما من مهام في الحياة العامة والخاصة، بحسب ما جُبِل عليه من أصل الفطرة في تركيبته النفسية والجسمية(17).

ذلك أن الله قد أعطى لكل منهما من تلك الخصائص ما يلائم ما يناط بكاهله من أعباء الحياة فقد ملأ الله قلب المرأة عطفا ورقة وحنانا لتتمكن من القيام بما يناسب طبيعتها من واجب الرعاية الأسرية: الحمل، الإنجاب، التربية.

وملأ قلب الرجل بالشعور بالمسؤولية والقوامة، وغرس في نفسه غريزة الحدب على شؤون الأسرة والحرص على حمايتها والدفاع عنها.

 الحياة بين الجنسين قسمان: وقد ترتب على هذا التكوين الطبيعي الخاص بكل نوع من الجنسين أن قسمت الحياة الإنسانية إلى قسمين اثنين: قسم داخلي وقسم خارجي.

1- القسم الداخلي: تنشط المرأة في هذا القسم بقيامها برعاية البيت وشؤون الأسرة وتربية الأولاد والعناية بالحقوق الزوجية، وقيامها إذا دعت الضرورة ببعض الأعمال الملائمة لطبيعتها كالتمريض والتعليم وما يضارعهما.

2- أما القسم الخارجي: فيتحرك في آفاقه الرجل، يكد ويجد، يسعى ويرتزق من أجل توفير أسباب العيش الكريم لمن يعولهم من أفراد أسرته.

وقد أعطى الله كلا من الرجل والمرأة من "قوة العلم وقوة الإرادة وقوة العمل"(18)، القدر الذي يكفيه للقيام بوظيفته في قسمه الخاص به، ويؤكد الإمام أن المرأة "خلقت لقسم الحياة الداخلي"(19) ؛ ولذلك "أعطيت من القوى الثلاث القدر الذي تحتاج إليه فيها، وهو دون ما يحتاج إليه الرجل الذي خلق للقيام بقسم الحياة الخارجي، فكانت بخلقتها أضعف منه في العلم والإرادة والعمل، فكانت لذلك دونه في الكمال (….) ولو أعطيت المرأة مثلما أعطي لما صبرت على البقاء في قسمها، فأخلته فاختل النظام فحصل الفساد"(20).

ويوضح هذا النص أن اقتحام المرأة لميدان الرجل إخراج لها من طبيعتها التي خلقت لها، وفي هذا ما فيه من خطر على توازن شخصيتها وإخلال بوظيفتها الإنسانية التي خلقت لها وهي التربية والرعاية الأسرية.

وإن هذا الإخلال يؤدي إلى حرمان الأولاد من العطف والحب والحنان، وغيرها من مشاعر الأمومة، التي لا يمكن أن يتلقاها الطفل على وجهها الأكمل، إلا من قلب أم حنون رؤوم، وهذا الإخلال بالوظيفة الأصلية للمرأة هو الذي أدى بالمرأة الأوروبية إلى وضعيتها الشاذة مما تسبب في اعتلال كيان المجتمع الغربي واضطرابه وفساده(21).

 

تنوع وتكامل في الوظائف بين الجنسين:

وليس في هذا التنوع في الوظائف بين الجنسين، شيء من الصراع والتناقض، وإنما هو تكامل وتعاون فالمرأة أم الرجل وابنته وأخته وزوجته، وقد أمر الإسلام الرجال بالإحسان إلى النساء والرفق بهن وأخذهن بالاعتدال في جميع الأحوال. وإن الشيخ، إذ يرى أن المرأة أضعف من الرجل في الخلقة وأن الرجل يفضلها ويتقدم عليها بما تميز به دونها من (قوة العقل وقوة البدن) (22)، وهو لا يقول ذلك تخمينا، وإنما يقرر بذلك حقيقة قرآنية، وهي قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾(23).وينبغي ألا يفهم من هذه الآية الكريمة، أن القرآن يحرم على النساء ما يمكن أن يقمن به إلى جانب الوظيفة الأسرية مما يلائم طبيعتهن من مشاركة الأزواج في بعض الأعمال العامة في نطاق ما حدده الشرع لهن في هذا المضمار » من صون وعدم زينة وعدم اختلاط «(24).

 

الوظيفة الطبيعية للمرأة تربوية اجتماعية:

يقرر الإمام في هذا المضمار أن المرأة لا تصلح للولاية(25) لما ركبت عليه خلقتها النفسية من رقة ورأفة وعطف. وأن الوظيفة الطبيعية الاجتماعية لها، إنما هي » القيام على مملكة البيت وتدبير شؤونه وحفظ النسل بالاعتناء بالحمل والولادة وتربية الأولاد «(26) وإذن فإن الوظيفة الأساسية للمرأة في نظر الكاتب إنما هي بناء أسرة صالحة، وتربية أطفال ورعاية شؤون بيت، وقيام بحقوق الزوجية. ويؤكد بصفة خاصة على وظيفتين اثنتين يرى أنهما أساسيتان لعمل المرأة وهما تربية الأولاد وحفظ النسل، ويذكر أن الله قد خص المرأة من زاد الفضائل ما يساعدها على القيام » بهذين الأمرين العظيمين «(27)، وهي إذ تقوم بذلك، إنما تقدم خدمة جليلة للأمة إذ لا بقاء لأمة من الأمم إلا بانتظام أسرها وحفظ نسلها،(28) ويبرز هذا أهمية الخدمة التي تقدمها المرأة للأمة بقيامها بهذه الوظيفة الأسرية.

ويعود الإمام ثانية إلى الحديث عن هذين الجانبين الأساسيين من جوانب مهام المرأة، ويعبر عن ذلك بصورة تكاد تنطق بما يريد أن يقوله، من أن ليس للمرأة من وظيفة أحسن من تلكما الوظيفتين » خلقت لحفظ النسل وتربية الإنسان في أضعف أطواره «(29).

ويختار الإمام للتعبير عن إيمانه بهذه الحقيقة صيغة (الفعل الماضي) (خلقت) مبنياً للمجهول، ما يساعد على إعطاء هذه الدلالة بعدا قويا وحركة ضاغطة خارجة على نطاق الذات، ثم جاء من بعد صيغة البناء للمجهول تلك (بلام التعليل) للتأكيد على دلالة ثانية، وهي دلالة علة (الخلق) التي يحددها (لام التعليل) تقريرا لوظيفة المرأة وهي» حفظ النسل وتربية الإنسان«(30).

وإن الشيخ إذ يركز على الدور الأسري للمرأة، فإنه يود بذلك أن يؤكد أن المهمة الرئيسة للمرأة، إنما هي الوظيفة التربوية الاجتماعية، ويلتقي الإمام في هذه النظرة مع معظم المفكرين المسلمين في هذا العصر، ولعل أقرب هؤلاء إليه في هذه القضية هو الإمام محمد رشيد رضا الذي يذهب أن الوظيفة المثلى للمرأة هي »القيام بما خلقها الله لأجله حق القيام وميزها به على الرجل وهو أن تكون ( زوجا) صالحة محصنة، و( أما) رؤوما مربية، و( رئيسة) منزل مقتصدة منظمة «(31).وكان ابن باديس قد نشر للشيخ رضا نقلا عن مجلته ( المنار) سلسلة من المقالات في سبع حلقات تحت عنوان: " مناظرة في مساواة المرأة للرجل"(32).

ونستخلص مما تقدم أن موقف ابن باديس من دور المرأة في المجتمع كان معتدلا لانطلاقه فيه من التصور الإسلامي للموضوع، وقد تركز ذلك الموقف أساسا على الوظيفة التربوية الاجتماعية للمرأة في قسم الحياة الداخلي، مع إمكانية قيامها ببعض الأعمال الملائمة لطبيعتها ـ إن استدعت الظروف ذلك ـ في قسم الحياة الخارجي، في نطاق ما يقره الشرع في هذا المجال، وقد دفعه هذا الحديث عن خروج المرأة لبعض شؤونها إلى الحديث عما يتصل بذلك من قضية الحجاب والسفور، فكيف كان ينظر ابن باديس إلى ذلك؟ وما هي مواصفاته لهذا وذلك في نظره؟

 

المبحث الرابع : قضيـة الحجـاب والسفـور

لقد أسالت أقلام الباحثين مفكرين وأدباء في العالم الإسلامي – وما تزال – حبرا غير قليل حول قضية السفور والحجاب المتعلقة بالمرأة.

وإن الناظر في توجيهات الإسلام في هذا الباب يدرك أن الإسلام أمر النساء أن يلتزمن بالحجاب الشرعي، وهو: "ستر الحرة ماعدا وجهها وكفيها"(33) إلا أن الذي يبدو عليه بعض النساء المسلمات في الوقت الحاضر غير ذلك، فكثيرات هن النساء اللواتي تراهن يدرجن في مسارح الحياة المختلفة دون أن يلتزمن بما فرض الله عليهن من الحجاب، وأقل من ذلك اليوم، ممن وقفن عند ما أمر به ديننا الحنيف في هذا الموضوع، غير أن عدد هؤلاء المستقيمات المستجيبات لأمر الله في هذا الباب يزداد – بفضل الله وحمده – يوما بعد يوم.

 ومما يمكن أن تفسر به تلك الظاهرة، ظاهرة الإعراض عن الالتزام بالحجاب الشرعي من بعضهن، أنها تعود إلى ضعف فاعلية الروح الدينية في بعض النفوس المريضة وانتشار الجهل وسيطرة التقاليد، إلى جانب محاولات الاحتلال الذي كان ـ ولا شك ـ يدرك أن الأسرة الصالحة القوية من أهم الركائز التي تقوم عليها عملية بناء جيل قوي، محب لوطنه غيور على شخصيته وحقوقه، فحرص لذلك على إجهاض هذه العملية بمحاولة ضرب الأسرة والعمل على تفكيك عرى الأواصر بين أفرادها وإفساد أخلاق المرأة خليتها الأولى، وإفشال دورها في بناء المجتمع.

 

دعاة التجديد الزائف:

وكان بعض المستغربين من تلامذة المدرسة الأجنبية، وبعض المنبهرين بحضارة الغرب من دعاة التجديد الزائف يمالئون الاحتلال في مخططه ضد الأسرة المسلمة، فيدعون بدعوته إلى السفور وتمزيق الحجاب والمطالبة بالمساواة في الميراث، ورفض تعدد الزوجات، وحرية الطلاق وجعل العصمة بيد الرجل وغير ذلك.

وقد تصدى أعلام الإصلاح ورجال الفكر والأدب في العالم الإسلامي: مشرقه ومغربه من أمثال محمد عبده، محمد رشيد رضا، شكيب أرسلان، الرافعي، ابن باديس، الإبراهيمي، مالك بن نبي، شوقي، حافظ، الرصافي، محمد العيد، وغيرهم.. لقد تصدى هؤلاء وأضرابهم إلى هذه المحاولات الهدامة، يسفهون أحلام أصحابها ويبصرون الأمة بأخطارها، ويوضحون الرأي الصائب في الموضوع، فماذا عن موقف ابن باديس من ذلك؟

 

كان الشيخ يرى أن السفور نوعان:

1- سفور إسلامي: وهو كشف المرأة وجهها دون شعرها وعنقها عند أمن الفتنة مع عدم إظهار الزينة(34).

2-  سفور إفرنجي: وهو كشف الشعر والعنق والأطراف مع التبرج والزينة وما إليها(35).

موقف الإمام من السفور: دعا ابن باديس بصدق وحرارة إلى مقاومة هذا النوع من السفور ومنعه » فعلينا ـ معشر المسلمين ـ أن نوجه قوتنا كلها إلى منع السفور الإفرنجي الذي قد طغى حتى على نساء أمراء الشرق المسلمين ووزرائه«(36).

ويرى أن الحجاب هو: "ستر الحرة مع وجهها وكفيها وجمع ثيابها عند الخروج بالتجلبب، وبما حرم من تطيب المرأة وقعقعة حليها عند الخروج وخلوتها بالأجنبي واختلاط النساء بالرجال"(37).

ومما يمكن تأكيده في هذا الباب، أن الكاتب كان معتدلا ومرنا في موقفه من هذا الموضوع وكان مع التمسك بالحجاب الشرعي، بيد أنه كان يحتاط من أمر كشف الوجه فيراه مقبولا في الريف لأمن الفتنة وجريان العادة على ذلك هناك، ولا يراه كذلك في المدينة للخوف والفساد(38).

 

موازنة:

وكان الإمام في موقفه هذا يراعي – على أية حال – ملابسات البيئة الزمان والمكان، وإن كان يختلف في ذلك مع بعض الكتاب الجزائريين من أمثال الشيخ أبي يعلى الزواوي والشيخ عبد الحفيظ بن الهاشمي اللذين أبديا بعض التحرر في أمر الحجاب، مما أثار الرأي العام في المجتمع الجزائري(39).

وإن من يوازن بين رأي هذين الكاتبين في هذا الموضوع ورأي ابن باديس فيه، يقف على اعتدال موقف الشيخ، الذي لا يكاد يغادره في جميع آرائه ومواقفه، وبذلك فهو يقف من الموضوع موقفا وسطا بين إفراط المتفرنجين الداعي إلى سلخ المرأة من جلدها، وبين تفريط الجامدين الذين أوصدوا الأبواب في وجهها، وإن كل ما ألصقه المغرضون بالإسلام من وصمات، إنما هو من تصرفات هؤلاء وأولئك(40).

ويعلل بعض الباحثين تفريط هذين الطرفين في موضوع المرأة بدوافع الغريزة الجنسية(41).ويرد الإمام بطريقة غير مباشرة على دعاة السفور المنادين بنزع الحجاب، موضحا أن هذا الحجاب لم يضر المرأة وإنما الذي أضرها وأخرها، إنما هو حجاب الجهل، ولذلك فعلى الذين يريدون أن ينهضوا بالمرأة أن يبادروا برفع C1 » حجاب الجهل عن عقلها «(42) قبل أن يطالبوا » برفع حجاب الستر عن  وجهها «(43).

 

موقف الإمام من الحجاب:

ويرى الإمام أن الحجاب المادي قد لا يؤدي الغرض منه إذا لم يلازمه حجاب من نوع آخر، حجاب يقوم على التربية والعلم والفضيلة. ويستدل الشيخ على ذلك بما يجري في الواقع المعيش وبما يجري في التاريخ، فكثيرات هن اللواتي تراهن في الواقع متحجبات، ولكنهن غير ملتزمات في الوقت ذاته بحجاب الخلال الحميدة من طهر وعدم زينة، وعدم اختلاط، فماذا كانت النتيجة؟

إن ذلك الحجاب الشكلي لم ينفع المرأة ولم يمنعها من التردي في مهاوي الرذيلة والفساد، بينما يشهد التاريخ أن الملتزمات بالحجاب الشرعي من بنات المسلمين في عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية لم يمنعهن ذلك من أخذ العلم والإسهام في تقدم الأمة والإنسانية.

وكان الإمام قد تصدى في هذا الإطار إلى محاولات المحتلين الرامية إلى إفساد المرأة الجزائرية، ومن ثم إفساد الجيل الذي يشب في حجرها، وكان بعض المتفرنجين يقفون من وراء ذلك يغذون هذه المكائد ويستعجلون النتائج ويفترون على الله الكذب بترويجهم لما يذيعه بعض أساتذتهم من افتراءات في بعض الأوساط تزعم أن الإسلام قد حد من حرية المرأة، ومن ثم وجبت بزعمهم المناداة بتحريرها.  

وقد سبقت الإشارة في صدر هذه الدراسة إلى زيف هذه الدعاوى وتهافتها، وإن في ذلك – في ما نحسب – ما يكفي في توضيح الحال من ذاك المقال؛ ولذلك فإننا لا نقصد الرجوع إلى الموضوع بهذه الإيماءة، وإنما نود بذلك فقط أن نطرح هذا السؤال: فمم يريد هؤلاء أن يحرروا المرأة؟

فإذا كانوا يريدون أن يحرروها من دينها ولغتها وحضارتها، فهم وأسيادهم على ذلك ساهرون وعلى إنجازه متواطئون، ولكنهم في أمانيهم تلك بالخيبة والخسران آيبون.

وإن كانوا يريدون بذلك تحريرها من الاحتلال وما نجم عنه من جهل وجور وعدوان، فإن الطريق إلى ذلك قد وضعت أسس قواعده الحركة الوطنية بجميع فصائلها، ويسهر على قيادة موكب الأمة على جنبات هذا الطريق رجالها العاملون ولا يكون ذلك إلا على درب بناء الإنسان في روحه وفي جسمه، في قلبه وفي عقله، بناء قويا عن طريق التربية والتعليم والتثقيف والتوجيه، وفي هذه الغايات أولئك المستغربون زاهدون، ولمن يتطلع إليها من أبناء الأمة، أسيادهم يمانعون ويلاحقون، ويغرمون ويسجنون!

موقف ابن باديس من ظاهرة الاختلاط: وقد تصدى الإمام لبعض هؤلاء المستلبين، يفند مزاعمهم، وممن وجه لهم من هؤلاء انتقاده المباشر في هذا المجال: الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي أنكر عليه ابن باديس دعوته إلى الذهاب بالمرأة "في تيار المدنية الغربية إلى ما يخرجها عن حدود دينها ووظيفة أنوثتها"(44)

وإن خروج المرأة للقيام ببعض شؤونها في الحياة العامة، قد يجعلها تصطدم في وسط المجتمع بظاهرة الاختلاط. فماذا عليها أن تفعل إذن؟ وماذا عن موقف الشيخ من ذلك؟

نبادر بالقول: إن ظاهرة الاختلاط بين النساء والرجال أصبحت أو تكاد في الوقت الحاضر من الظواهر المتفشية في بعض البيئات الإسلامية، وقد وقف الكاتب عند هذه الظاهرة أكثر من مرة، فأكد على ضرورة الالتزام بعدم الاختلاط، وجعل ذلك شرطا ضروريا من شروط الحجاب الشرعي(45).

كما تحدث الإمام في هذا المجال عن قضية أخرى تتصل بالمرأة وهي:

قضية الزواج: تحدث ابن باديس عن مشروعية الزواج وأهميته الاجتماعية، وأوضح في هذا الصدد أن التزوج وطلب النسل سنة، رغب فيه ديننا وحث عليه، ولذلك أبان الإمام أهمية الزواج في بناء الأسرة وتكثير سواد الأمة، ونهى عما نهى عنه الشرع من التبتل لما فيه من مخالفة الشرع وانقطاع النسل(46).

قضية تعدد الزوجات: يعثر الباحث في آثار الإمام على إيماءات سريعة تفيد أنه كان يعارض ما ينادي به بعض المستغربين من منع (تعدد الزوجات)، وقد جاء ذلك في جوابه عن سؤال وجهه له أحد الفرنسيين في الموضوع، فقال له: "إن الشريعة كل لا يجوز للمسلم تجزئته فتقبل كلها أو ترد كلها"(47).

ولم يفته في هذا المجال أن يلفت النظر إلى أمر هام آخر يتعلق بقضية الزواج، وهو ضرورة الأخذ بعنصر الاختيار في هذه العملية، وأن يكون أبرز جانب يعتمد في ذلك، إنما هو جانب الدين(48).وفي ما يتصل بدفاعه عن حقوق المرأة والنهوض بها، لم يفته أن يدعو إلى العناية بالرعاية الاجتماعية لها وذلك بحثه الهيئات المختصة على تقديم المساعدات المالية اللازمة للنساء الحوامل والمرضعات الفقيرات بما يخفف عليهن من الأعباء الأسرية(49).

ويمكن أن يستخلص الدارس من خلال ما تقدم في هذه الكلمة تلك المكانة الرفيعة التي تحظى بها المرأة في الحياة، وذلك الدور الهام الذي يمكن أن تنهض به في بناء الأسرة وفي إصلاح المجتمع، ومن ثم كانت العناية بها ماسة من حيث تربيتها وتعليمها وتثقيفها، لتتمكن من القيام بدورها الأسري أحسن قيام كأم ناهضة بحسن تربية الأولاد، وزوجة صالحة قائمة بحقوق الزوجية، وربة بيت مقتصدة حسنة التدبير، وعضو نشيط في حركة المجتمع تعيش قضاياه، وتسهم في تطويره في حدود ما خلقت له، ولا يمكن أن تنهض أمة وتأخذ مكانتها بين الأمم، ويكون نصف أفرادها معطلة قواهم، مهدورة قدراتهم، ومن ثم فإن من أهم ما يساعد على ترشيد قيام المرأة بدورها في المجتمع، ويصون لها شخصيتها ويحفظ عليها كرامتها ويحررها مما يحد من حريتها، إنما هو الدين والعلم والفضيلة. وليس من سبيل أمام بلوغها هذه المقاصد السامية أحسن من التربية والتعليم؛ ولهذا كانت عناية المصلحين في الجزائر وفي غيرها من بلاد العالم الإسلامي بالمرأة كبيرة من هذه الناحية، فماذا عن إسهامات ابن باديس في ذلك؟

 

المبحث الخامس:  منهجية ابن باديس في تعليم المرأة     

 الأسرة هي المدرسة الأولى:

 يمكن القول: إن البيت هو المدرسة الأولى والمصنع الأساسي لتكوين الرجال(50) ومن ثم كانت الأسرة الخلية الأولى في بناء المجتمع، وكانت المرأة العمود الفقري في بناء صرح هذه الأسرة لقيامها بوظيفتها الطبيعية وهي العملية التربوية، تسهر على تربية الأولاد، تعلمهم الفضيلة وتجنبهم الرذيلة، وتنمو على يديها قدراتهم الشعورية والعقلية، وعن طريقها يخطون أول خطواتهم إلى العالم الخارجي، ويشكلون من مفهومها للحياة مفهومهم البسيط لظواهرها؛ ولهذا فإن أثر الأسرة الصالحة عظيم على الأمة ولا تفوز أمة بأسباب الارتقاء إلا إذا كان ذلك قد شمل أسرها، ومن ثم كانت العناية بالأمة تنطلق من العناية بالأسرة ومن خدم الأسرة فقد خدم أمته(51).مما يبرز أهمية التربية والتعليم في تكوين المرأة، ومن ثم دور المرأة المتعلمة في عملية النهوض بالمجتمع تربويا وتعليميا. وكان ابن باديس انطلاقا من هذه القناعات قد ركز في مشروعه التربوي على تربية المرأة وتعليمها، لتكون بذلك قادرة على النهوض بدورها الأسري والاجتماعي، وكان عمله في هذا الإطار مزدوجا عمليا ونظريا.

 

1– إسهاماته في الميدان العملي:

وقد اضطلع بهذه المهمة في الميدان بتخصيصه درسا يوم الجمعة من كل أسبوع يلتقي فيه بالنساء اقتداء بالرسول الأعظم (محمد عليه الصلاة والسلام)، يعظهن ويعلمهن، وكان قد أقبل على هذه الخطوة بجرأة كبيرة، فقد استشار بعض أصحابه في الموضوع فأشاروا عليه بخطورته، ومع ذلك أقدم عليه متوكلا على الله، مستعينا به، وكان لذلك أثره المبارك على المجتمع(52)، كما سعى في هذا الإطار إلى تأسيس قسم في مدرسة التربية والتعليم التي كان يرأسها وأسقط على البنات دون البنين الرسوم المدرسية، تشجيعا لهن على الالتحاق بالمدرسة » لتكون منهن بإذن الله المرأة المسلمة المتعلمة «(53).

وقد تطلع في هذا المجال إلى أبعد من هذا، ففكر في إرسال بعثة طلابية من البنات إلى سورية، وراسل في هذا الشأن في أواخر الثلاثينات مدرسة (دوحة الأدب للبنات) بالشام يعرض على إدارتها رغبته في إرسال بعثة طلابية من البنات للتعليم بها، واتصل بأوليائهن لهذا الغرض واستطاع أن يقنعهم بالفكرة وهم بإنجازها لو لا اندلاع الحرب العالمية الثانية التي حالت بينه وبين تنفيذ هذه الأمنية(54).

وتمضي الأيام ويثور الشعب الجزائري ويجاهد ويضحي وينتصر، وتكون سورية الشقيقة البلد العربي الوحيد، الذي استقبل في مدارسه وجامعاته، أول بعثة طلابية من البنات الجزائريات تذهب إلى الشرق في تاريخ الجزائر، وتتحقق بذلك ـ بمشيئة الله ـ أمنية الإمام الفقيد. ولعل هذه واحدة من إكرام الله عباده الصالحين المصلحين، بتحقيق بعض أمانيهم في خدمة الصالح العام بعد رحيلهم من عالم الشهادة إلى عالم الغيب.

 

2- إسهاماته في الحقل النظري:

قام الشيخ نظريا بدعوته العامة إلى تربية المرأة وتعليمها، كما خصص لذلك في مجلته (الشهاب) ركنا قارا بعنوان (رجال السلف ونساؤه) أوقفه على الترجمة لبعض الصحابة والتابعين، تحدث فيه عن بعض الصالحات من نساء السلف الصالح، وأوضح ما أتاحت لهن المعرفة من القيام بدورهن التربوي الأسري يقدم عن طريقهن النموذج الأمثل للقدوة الصالحة، وأحسب أن العنوان بمزاوجته بين النساء والرجال يحتوي على دلالة موحية لما يهدف إليه الكاتب من وراء هذه السلسلة من التراجم والسير التي نشرها تحت هذا العنوان. وقد زاوج فيه بين الرجال والنساء، من خيرة الرجال والنساء، إنهم أعلام من الصحابة والتابعين، وبذلك كانوا نماذج أسوة واقتداء. وفي هذه الدلالة الدينية من وجوه الإيحاء ما يصور ما يجب أن تكون عليه صور هذه المشاركة والمزاوجة بين الجنسين، ما قد يزيد في عملية الإقناع بالفكرة التي يدعو إليها الكاتب بشأن تربية المرأة وتعليمها.

دعوة شجاعة في مجتمع محافظ: ويظهر أن ابن باديس كان يشعر بصعوبة هذه المهمة التي يضطلع بالدعوة إليها في مجتمع محافظ؛ ولذلك عمد للاستعانة في دعوته هذه ببعض النصوص القرآنية والأحاديث الدينية، كما استعان ببعض البراهين المنطقية والدلائل التاريخية لحمل الناس على الاقتناع بأفكاره والاستجابة لدعوته، وقد اتصل شخصيا بأولياء البنات في هذا الشأن وحاول إقناعهم بإرسال بناتهم إلى (مدرسة التربية والتعليم) وقد نجح بعض النجاح، فالتحق بالمدرسة كوكبة من البنات، كما التحق بمدرسة (دار الحديث) بتلمسان، و(مدرسة الشبيبة الإسلامية الجزائرية) بالعاصمة مثل ذلك.

 

مشروعية تعليم المرأة:

ويستدل الإمام من التاريخ الإسلامي ومن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على مشروعية تعليم المرأة، فقد كان بعض نساء المسلمين في صدر الإسلام يحسن الكتابة، ومن بعضهن، بعض أمهات المؤمنين: (عائشة وحفصة) عليهما رضوان الله، ومنهن (الشفاء القرشية) رضي الله عنها، وقد أمرها الرسول عليه الصلاة والسلام أن تعلم (حفصة) رقية النملة(55) كما علمتها الكتابة » ألا تعلمين هذه – حفصة – رقية النملة كما علمتها الكتابة «(56).

ويقف في هذا الباب عند الأثر الشائع في بعض الأوساط والذي يشير إلى منع المرأة من الكتابة وهذا نصه » لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل وسورة النور«(57) فيؤكد على ضعفه ويحذر منه وكان مصطفى بن الخوجة قد وقف أيضا هذا الموقف من هذا الحديث(58)، كما وقف منه كذلك بعض الدارسين(59).

ويود الشيخ أن يزيد موضوع تعليم المرأة تأكيدا فيستدل على ذلك بالحديث الشريف الذي رواه أبو سعيد الخذري رضي الله عنه » قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك. فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان في ما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاب من النار، فقالت امرأة: واثنتين فقال : واثنتين(60) رواه البخاري.

وانطلاقا من هذا الإيمان واقتداء بسيرة معلم الإنسانية الأول محمد عليه الصلاة والسلام، أولى الإمام عناية كبيرة بتعليم المرأة، لاعتقاده أن التخلف الملاحظ في رجالنا إنما مرده إلى "جهل الأمهات وقلة تدينهن"(61).وذلك بسبب "عدم التربية الإسلامية في البيوت"(62)، وليس هناك من علاج ناجع أحسن من "أن نكون أمهات دينيات ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليما دينيا وتربيتهن تربية إسلامية"(63).

 

تعليم المرأة على أساس دينها:

ويظل الإمام يلح على هذه الفكرة، فيؤكد مرة أخرى على تعليم المرأة تعليما يقوم على أساس دينها وقوميتها "علينا أن ننشر العلم بالقلم في أبنائنا وبناتنا، في رجالنا ونسائنا على أساس ديننا وقوميتنا"(64) وكان يركز في دعوته هذه إلى تعليم المرأة على ناحيتين اثنتين: الناحية الدينية والناحية الاجتماعية بما يحفظ لها شخصيتها في إطار طبيعتها النسوية ويساعدها على القيام بوظيفتها الاجتماعية الإنسانية، وهي حسن رعاية الأسرة وتربية الأولاد تربية صالحة لتكون منهم رجالا صالحين "فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها وتربيتها على الأخلاق النسوية التي تكون بها المرأة امرأة لا نصف رجل ونصف امرأة، فالتي تلد لنا رجلا يطير خير من التي تطير بنفسها"(65). وكان أعلام الإصلاح يشاركونه الرأي في توجهه، هذه الوجهة السليمة في تعليم البنت تعليما دينيا(66).

ويرى الشيخ أن هذا التعليم الديني للبنت بما يقوم عليه من تعليم العربية والإسلام، عظيم الأثر على الأمة لأن المرأة النابتة في تربة هذا التعليم تنشأ على حب دينها وأمتها، فينتقل منها ذلك إلى الناشئة فيشب عناصرها على ذلك الحب وذلك الولاء للدين وللوطن وللأمة، فلا ينكرون أصلهم ولا يتنكرون لقومهم، فعلينا أن نربي المرأة على ذلك "لتلد أولادا منا ولنا، يحفظون أمانة الأجيال الماضية للأجيال الآتية، ولا ينكرون أصلهم وإن أنكرهم العالم بأسره، ولا يتنكرون لأمتهم ولو تنكر لهم الناس أجمعون"(67).

ويحذر الشيخ ابن باديس بالمقابل من مخاطر التعليم الأجنبي، تلك التي لا تتوقف عواقبها الوخيمة على المرأة فحسب، وإنما تتجاوزها إلى الذرية وإلى المجتمع. وذلك بما تنقله المعلمة بذلك التعليم إلى عقول ونفوس الناشئة من سموم المسخ والنسخ تلك التي سرعان ما تتحول إلى نكران وتنكر للذات وللملة وللأرومة.

ويبلغ الأمر بالكاتب أمام هذا المصير الخطير، أن أصبح يفضل أن تبقى البنت جاهلة على أن تتعلم ذلك النوع من التعليم الذي حاول أن يمسخها ويؤدي بالنشء إلى تلك النهاية المؤسفة وذلك العقوق النكير. "فالجاهلة التي تلد أبناء للأمة يعرفونها مثل أمهاتنا ـ عليهن الرحمة ـ خير من العالمة التي تلد للجزائر أبناء لا يعرفونها"(68).

 

المبحث السادس:  خطورة نوعية التعليم على شخصية المرأة 

نبادر بالقول: إن الفكرة التي انتهى إليها هذا البحث في الحلقة السابقة، والتي يقرر فيها ابن باديس أن المرأة المتعلمة تعليما لا يربطها بأصول دينها وشخصية أمتها، قد يدفع بها ذلك النوع من التعليم إلى التنكر لأمتها، ومن ثمة فإن المرأة الجاهلة المحافظة على دينها المتمسكة بشخصيتها تكون أوفى منها لأمتها، إن هذه الفكرة ذاتها قد وردت عند الشيخ عبد القادر المجاوي في حديثه عن تعليم المرأة في كتابه "اللمع على نظم البدع"(69).

 كما أن الواقع شاهد آخر على ذلك، ذلك أنه بالرغم من مرور حوالي أربعين سنة على رحيل شبح الاحتلال الأجنبي من أرضنا، فإن آثاره في هذه الناحية وغيرها، ما تزال ماثلة في أذهان وسلوكيات بعض الأفراد إلى درجة أن المرء يجد من يعتز بتلك الآثار ويدافع عنها. ومن شك في هذا، فيمكنه أن يختبر الواقع، فإن لسانه أفصح وأصدق من أي لسان. ومهما يكن من أمر فإن هذه العناية بالمرأة قد كلفت ابن باديس أن يدفع الثمن بملاحقة المحتلين له واستعدائهم صنائعهم عليه وعرقلة جهوده، ولم يكتف أولئك المستلبون المسخرون للقيام بهذه المهمة المنوطة بكاهلهم، عن طريق نكوصهم وقعودهم عن مسايرة أهل الحق والعلم فحسب، وإنما انتهى بهم ضلالهم ومروقهم إلى أبعد من ذلك، بيد أن الإمام استمر في طريقه واعيا بفاعلية ما ينهض به في هذا المجال على الدين وعلى الأمة، ساهرا على بذل أقصى الجهود لإنجاح المقاصد، صابرا محتسبا على ما يلقى في سبيل ذلك من بلاء، وتبعات…، وما كان من ذلك إلا أن انتصر الحق بتوفيق الله وعونه على أيدي المدافعين عنه، وزهق الباطل وهزم حزبه وباءت عصابته بالخسران المبين.

 

الخلاصـة: ومما يمكن تسجيله تتويجا للحديث عن قضية المرأة في نهاية هذه الدراسة هو:

1- يعتقد ابن باديس أن الحياة الإنسانية تقوم على قانون الزوجية التي تجعل كل طرف من الجنسين الرجل والمرأة مكملا للطرف الآخر حسبما يتميز به كل منهما من خصائص ووظائف خاصة مترتبة عن ذلك، فالرجل أقوى من المرأة معنويا وماديا، وذلك في جسمه وفي عقله: قوة العقل وقوة الإرادة وقوة العمل، مما يؤهله للقيام بدوره في قسم الحياة الخارجي، يكد ويجد، يسعى ويرتزق، يرعى ويذود. وحظ المرأة من ذلك أقل، مما يخولها للقيام بما يناسب طبيعتها في قسم الحياة الداخلي: رعاية شؤون الأسرة، وتوعية الأولاد والقيام بالحقوق الزوجية، إلى جانب قيامها ببعض الواجبات العامة في حدود ما يفرضه الشرع عليها من صون وعدم زينة وعدم اختلاط.

2- من منظور الدين الإسلامي الذي حررّها وكرّمها ونعّمها، وأعاد لها إنسانيتها وأهليتها، فركز حديثه عليها من هذه الناحية، داعيا إلى تربيتها وتعليمها، تعليما يحفظ عليها شخصيتها ويصون لها كرامتها ويساعدها على القيام بواجبها الاجتماعي. فاستطاع بذلك أن يوائم في دعوته هذه ما بين تعاليم الإسلام، وبين ملابسات البيئة ومتطلبات العصر، وفي ذلك إصلاح لها وإصلاح للأجيال التي تتربى على يديها، مستنكرا ما يروج له بعض المتفرنجين من دفع المرأة المسلمة على طريق تقليد المرأة الأوربية في قضية تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وفي السفور وغير ذلك.

وأكتفي بالإشارة في هذا الصدد، إلى أن بعض المنصفين من الغربيين أنفسهم قد رأوا صلاحية ما يراه الإسلام في هذه القضايا(70).

3- جاء حديث ابن باديس عن المرأة، مبثوثا في مواطن كثيرة من آثاره، ويكاد لا يخرج عن هذه الوتيرة لو لم يخص هذا الموضوع بعمل كامل من أعماله، وكان محاضرة، كان قد ألقاها بنادي الترقي بدعوة من إدارته أثناء إقامته بالعاصمة في صائفة 1929، وكان موضوعها حول المرأة (حالها وواجباتها وحقوقها ) (71) وكانت بعنوان (الرجل المسلم الجزائري).

ولعله يكون قد قام بها ليرد على بعض المستغربين الذين ارتفعت أصواتهم يومئذ بالجزائر مطالبة بتحرير المرأة. وقد جاء فيها من الأفكار ما يدل على ذلك، من مثل دعوته إلى العناية بالرجل إلى جانب العناية بالمرأة، الدعوة إلى رفع حجاب الجهل عن المرأة قبل رفع حجاب الستر عنها، التأكيد على تعليم المرأة تعليما دينيا، التركيز على وظيفتها الأسرية. وواضح أن هذه الأفكار توحي بأن صاحبها يقف موقفا مقابلا لما كان ينادي به حول الموضوع الواقفون في الضفة الأخرى.

 

وقد قسم الإمام محاضرته إلى قسمين:

أدار الحديث في القسم الأول عن الرجل، دوره ومكانته وقوامته، وتحدث في القسم الثاني عن المرأة، دورها، مكانتها، حجابها، تربيتها، وتعليمها، فعالج مجملا مركزا معظم ما كان قد تطرق إليه مما يتصل بالمرأة في بقية أعماله موزعاً مفصلاً، وهو بهذه القسمة العادلة والمزاوجة الواضحة بين الرجل والمرأة في هذا الحديث، يدل على أنه يعتقد أن مشكلة المرأة والرجل واحدة.

4- يمكن القول إن أبرز ما تتسم به مواقف ابن باديس وكتاباته في موضوع المرأة، هذه الطوابع:

الحكمة والاعتدال في الطرح، والرصانة والتروي في المناقشة، والصدق والذكاء في تشخيص الداء وفي وصف الدواء. مما يميز منهجه العام في جميع مواقفه وأعماله، فهو يحافظ في معظم الأحوال على موضوعيته واعتداله ووسطيته، فكان في هذا الموضوع كعهده في غيره، بعيدا عن الإفراط والتفريط، إفراط المستلبين وتفريط الجامدين، فكان بذلك من بين أبرز مفكري تيار الاعتدال والوسطية والروح العلمية في البلاد العربية الإسلامية.

 

معهد الرسول الأكرم(ص)، مجلة الحياة الطيبة العدد السادس عشر

الهوامش:

1 سورة الذاريات الآية : 49

2 ابن باديس حياته وآثاره ج5 ص: 53 إعداد د/ عمار طالبي، دار اليقظة العربية دمشق 1968، وينظر بطرس البستاني: أدب العرب في الجاهلية وصدر الإسلام ص: 23- بيروت 1989.

3 التكوير : الآية 8/9.

4 ابن باديس حياته وآثاره مصدر سابق ج4 ص: 117.

5 د/ فهمي جدعان : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث

ص: 459 وما بعدها ط2 بيروت 1981

6 ALI MERAD : Le réformisme musulman en Algérie P 317.

7 آثار الإمام ابن باديس 3 : 62 – منشورات وزارة الشؤون الدينية الجزائر1981

8 محمد الغزالي : الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر ص 73 الجزائر 1988

9 د / فهمي جدعان : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث ص 45

10 د / محمد ناصر : المقالة الصحفيةج1،ص: 229 الجزائر 1978

11 ابن باديس حياته وآثاره ج1، ص: 20 مصدر سابق وينظر حمزة بوكوشة : مجلةالثقافة ع10 (رجب 1392 / 1972 ) ص 11

12 مطبعة فونتانا الجزائر 1895

13 مطبعة فونتانا الجزائر 1907

14 ابن باديس حياته وآثاره ج4، ص: 116 م س

15 المصدر نفسه: 117

16 ينظر آثار الإمام ج3، ص: 53 م س

17 ابن باديس حياته وآثاره ج2، ص: 209

18 المصدر نفسه.

19 المصدر نفسه.

20 المصدر نفسه.

21 ينظر مالك بن نبي : شروط النهضة ص: 179 ـ 182 بيروت 1969

22 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 472 10.

23 سورة النساء، الآية: 34.

24 آثار الإمام ج3، ص: 53. وينظر م. ن، ص: 61.

25 ابن باديس حياته وآثاره ج2، ص: 44 ـ وينظر م. س ج3، ص: 513

26 المصدر نفسه.

27 المصدر نفسه، ج2، ص: 222.

28 المصدر نفسه.

29 المصدر نفس، س 3 : 469.

30 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 469.

31 محمد كامل الخطيب : القديم والجديد ص: 519.

32 الشهاب : من (ج 6 م 6 إلى ج 12 م 6) (من صفر ـ شعبان 1349 إلى جوليت 1930 ـ جانفي 1931) من (361 ـ 734 ).

33 آثار الإمام ج1، ص: 127

34 ابن باديس حياته وآثاره ج2، ص: 207.

35 المصدر نفسه.

36 المصدر نفسه.

37 آثار الإمام ج1، ص: 127.

38 ابن باديس حياته وآثاره ج4، ص: 207. وينظر آثار الإمام ج1، ص: 441.

39 د / محمد ناصر : المقالة الصحفية الجزائرية ج1، ص: 245 الجزائر 1978.

40 آثار الإمام ج6، ص: 23.

41 مالك بن نبي: شروط النهضة ص 175.

42 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 464 – 465 – 475.

43 المصدر نفسه.

44 المصدر نفسه.

45 آثار الإمام ج1، ص: 127. وينظر ج2، ص: 158.

46 ابن باديس حياته وآثاره ج1، ص: 494 – ج3، ص: 357- ج1، ص: 495.

47 المصدر نفسه.

48 المصدر نفسه.

49 آثار الإمام ج5، ص: 193.

50 ابن باديس حياته وآثاره ج4، ص: 201.

51 آثار الإمام ج1، ص: 373.

52 محمد الصالح بن عتيق : أحداث ومواقف في مجال الدعوة الإصلاحية والحركة الوطنية بالجزائر ص: 168.

53 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 186.

54 وقد سمعت هذه الرواية من الشيخ محمد الصالح رمضان ببيته بتاريخ 25 مارس 1995.

55 النمل : بثور صغار مع ورم يسير… ينظر الجوهري : الصحاح ج5، ص: 1836.

56 آثار الإمام ج3، ص: 61، 62.

57 المصدر نفسه.

58 الاكتراث في حقوق الإناث ص: 83.

59 د / فهمي جدعان : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث ص: 461

60 آثار الإمام ج2، ص: 157- ج3، ص: 88 ـ 89 – ج2، ص: 161

61 المصدر نفسه.

62 المصدر نفسه.

63 المصدر نفسه.

64 المصدر نفسه.

65 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 469، وينظر مالك بن نبي شروط النهضة ص: 176.

66 الإبراهيمي : عيون البصائر ص: 324، 428 – وينظر: محمد صالح المراكشي، تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار ص: 348، (1898 ـ 1935) الجزائر 1985.

67 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 469، 470 وينظر محمد عبده: الأعمال الكاملة ج2، ص: 76

68 المصدر نفسه.

69 ينظر حمزة بوكوشة : مجلة الثقافة ع 10 ( رجب 1392/ 1972 ) ص: 12

70 ينظر آثار الإمام ج1، ص: 370.

71 ابن باديس حياته وآثاره ج3، ص: 464.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً