د. حسن الأنصاري(*)
تمهيدٌ
كتاب الكَشْف، الذي نُشر مرّتين؛ مرّة نشره اشتروتمان؛ وأخرى نشر بجهود مصطفى غالب، نُسب إلى جعفر بن منصور اليمن، الكاتب والداعية الإسماعيليّ المعروف، وصاحب الأثر في القرن الرابع الهجري.
لكنْ منذ نشره كان هناك ترديدٌ في صحّة انتسابه من قِبَل المحقِّقين. وقد ثبت حديثاً أنه من غير الممكن انتسابه إلى جعفر بن منصور.
يتألَّف الكتاب من ستّة فصول (رسائل) متنوّعة في بناها، وأحياناً موضوعاتها، وقد نجد الاختلاف حتّى في الجذور والأُسُس.
وما يهدف إليه هذا النصّ هو تبيين أهمّية دراسة بعض فصول هذا الكتاب في معرفة معتقدات بعض أطياف الشيعة قبل ظهور الدولة الفاطمية، وحتّى قبل عهد الإسماعيليين والقرامطة الأوائل.
وفي هذا الصدد يسعى الكاتب إلى مراجعة ماهية فصول هذا الكتاب المختلفة وجذورها؛ إذ تختلف ماهية فصول هذا الكتاب، كما يختلف تاريخ تحريرها.
ومن الواضح دخول تعديلات وملحقات عليها فيما بعد؛ لتنسجم مع معتقدات الفاطميين التي فُرِضَتْ لاحقاً. فبعض هذه المدوَّنات تعود إلى فترةٍ متقدّمة عن زمن الفاطميّين، بل لا تمتّ بصلةٍ مباشرة بالمجموعات الأولى الداعية للإسماعيلية ـ القرمطية في العراق واليمن والشام، فقد يكونون استفادوا منها فيما بعد ليس إلاّ، وبذلك دخلَتْ خطاب الإسماعيلية المتأخِّرة.
محتويات الكتاب
1ـ الرسالة الأولى والأهمّ: كيف تلقّى غلاة الشيعة بعض المفاهيم الشيعية؟
الفصل الأوّل (الرسالة الأولى) من كتاب الكشف يعود إلى اتجاهٍ من الاتجاهات المتعدِّدة لغلاة الشيعة في الكوفة، وقد شاع خطابهم إلى جانب خطاب أطياف أخرى كثيرة من الشيعة والإمامية والغلاة، نهاية القرن الثالث ومعظم القرن الرابع الهجري، في أوساط مختلف فِرَق الشيعة الإمامية (أي غير الزيدية)، ودخلَتْ بمرور الأيام خطابهم، وخالطت توجُّهاتهم، وخصوصاً الغلاة منهم. وتمثِّل العناصر الأساسية في الفصل الأوّل «الميراث المشترك» لمختلف أطياف الشيعة والإمامية في شتّى صورها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وتتحدَّث عن مفاهيم ومصطلحات مشتركة.
وما يجعل هذا الفصل جديراً بالاطلاع أنه نموذجٌ قيِّم عن كيفية تلقّي بعض الاتجاهات الباطنية وغلاة الشيعة، بين 260 و290هـ، لبعض المفاهيم الشيعية، كموضوع القائم، وحلول الروح الإلهية ونوره في الأئمّة، والتأويل الباطني والرمزي، والتكتُّم والمعتقدات السرّية الباطنية، والدرجات والرُّتَب الباطنية، وتصنيف مَنْ نالوا المعرفة الباطنية، وانتسابهم وعلاقتهم بالأنبياء والأوصياء والأئمّة. فكما نعلم أن هذه المعتقدات تتشعَّب من معتقداتٍ شيعيّة أقدم، وخاصّة ما كان سائداً في أوساط الاتجاهات الباطنية وغلاة الشيعة. وقد تمّ اعتمادها، وبالطبع تحويرها فكريّاً، وتأصيلها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجريّ، ومن ثم على امتداد القرن الرابع، من قِبَل مجموعاتٍ من المغالين، كالنصيريّة والإسحاقية، الذين انفصلوا رسميّاً عن التشيُّع الإمامي، واتّخذوا منحىً آخر.
وكما نعلم فإن القرامطة ومجموعاتٍ من الإسماعيليين، الذين أيَّدوا الفاطميين فيما بعد، استمدّوا من هذا الميراث. وقد كانت هذه المعتقدات هي الأساس في الكوفة حين ظهور أولى الدعوات الثورية للقرامطة الكوفيّين. وفيما بعد أُقصي كثيرٌ من معتقدات القرامطة والإسماعيليّين، بمختلف توجُّهاتهم، أيّام الدولة الفاطمية، وبالأخصّ عبر الإصلاحات التي قام بها المُعِزّ الفاطمي. لكنْ على أيّ حالٍ يمكن ملاحظة أجزاء من هذا الميراث في آثار الاسماعيليّين، وإنْ في فتراتٍ لاحقة؛ إذ نجد بوضوحٍ أسس هذه الرؤى في المؤلَّفات، وخاصّة ما صدر عن جعفر بن منصور اليمن، في مستهلّ عهد الدولة الفاطمية، قبل ظهور منحاها الفقهي من جانبٍ، وتحوُّلها الاعتقاديّ والفلسفيّ من جانبٍ آخر.
كما تداولت فيما بعد أحاديث ونصوص مهمّة من هذا الموروث، كالذي نقل عن المفضَّل بن عمر الجُعْفي، إمام مجموعةٍ من غلاة الخطّابية والمخمّسة، في أوساط الإسماعيليّين، وتُروى لديهم إلى يومنا هذا. وقد عُرِفَتْ مؤلَّفاتٌ، كأمّ الكتاب لدى الفرقة الإسماعيلية في بدخشان، والهفت والأظلة للمفضَّل الجُعْفيّ بين الإسماعيليين في مختلف البقاع، على أنها ميراثُ الإسماعيلية، واجتهدوا في نشرها. كما اتّضح اليوم بأن هذه النصوص تعود لغلاة المخمّسة والنصيرية، ولم تتمتَّع بالطَّبْع بتأييد الخلفاء الفاطميين.
صحيحٌ أن اسم أبي الخطّاب والخطّابيين الأوائل اقترن بأوجهٍ عدّة بظهور الإسماعيليين الأوائل، وحتّى شخص إسماعيل بن جعفر([1])، لكنّنا نجد أبا الخطاب وآراء الغلاة من الشيعة مذمومةً ومرفوضة في المذهب الفاطميّ وأيديولوجيته الرسمية، كما يتجلّى ذلك في كتابات القاضي النعمان، وبعض مؤلَّفات جعفر بن منصور اليمن([2]).
فقبل إنشاء «المذهب الإيراني» للأفلاطونية المحدثة الإسماعيلية على أيدي محمد بن أحمد النسفي وأبي يعقوب السجستاني، والذي كان له بالغ الأثر في تحوُّل معتقدات القرامطة الإسماعيليّين ودعاة ما قبل الفاطميّين، واستبدال معتقداتهم الغنوصيّة والباطنيّة السطحيّة بما جاءت به الأفلاطونية المحدثة([3])، كانت الآراء الباطنية والغنوصية والرمزية ومعتقدات غلاة الشيعة تشكِّل آراء الإسماعيليين والقرامطة الأوائل. وبناءً على باكورة معتقدات أبي الخطّاب والخطّابيين وعدد من جماعات الغلاة والباطنيين الشيعة قُرنَتْ بمفهوم «القائم» (الذي كان يطلق عليه «المهدوية» أيضاً) مفاهيم، كـ «الناطق» و«الصامت»، وآراء غنوصية وباطنية تتعلَّق بدرجات الإنسان الإلهيّ، ومراتب أهل المعرفة، وعلاقتهم بعالم التكوين، ومنتخبات من أحاديث الشيعة عن التوحيد والتنزيه وولاية الأئمّة، ومقتطفات من المعتقدات الباطنية والتأويلية، الداعية إلى تأويل الشريعة، وحتّى تعطيلها، والتي تنسجم مع موضوع درجات المعرفة القُدْسية، ومراتبها في علاقة الظاهر بالباطن. وبالطبع تمّ فيما بعدُ تعديل هذه المعتقدات أو رُفضَتْ تماماً بين الفاطميين، كما تمّ استبعاد الكتب التي تحتويها من المصادر الرسمية الفاطمية.
وعلى الرغم من حساسيّة الفاطميّين، منذ نشوء دولتهم، إزاء توجُّهات نَسْخ الشريعة كردّ فعلٍ تجاه القرامطة، لكننا نجد كثيراً من المعتقدات الباطنية الأولى في مصادرهم حين مراجعة مؤلَّفات رموزهم الفكريّة في عهدهم الأوّل، كآثار جعفر بن منصور اليمن. وقد استبدلت تدريجيّاً آراءهم المعرفية الأولى بالمنظومة الفلسفية لـ «المذهب الإيراني».
في هذا النَّمَط من الآراء المنسوبة إلى مجموعة من القرامطة اقترنَتْ معتقدات باطنيّة وتأويليّة ذات فحوى آراء غلاة الشيعة بمفهوم «القائم»، وهو أقدم من حيث الجذور والمصادر، حيث نجده في معتقدات الواقفية وبعضٍ آخر من فِرَق الإمامية، كما شاعَتْ بين بعضٍ من أتباع القطعيّة بأشكال وأسباب مختلفة، يجب أن تُناقَش في محلِّها. وبذلك أصبح مفهوم «القائم» أساسيّاً وجَذْريّاً؛ لكونه مخرجاً وضماناً للقرامطة في موضوعات تخصّ علاقة «ظاهر» الشريعة و«باطنها»، كما استمرارها أو تعطيلها وتغييرها.
وقد دخلَتْ توجُّهات مختلفة تحت مسمّى «القرمطي»، فهي وإنْ تقاربَتْ في بعض مبانيها الفكريّة، لكنها لم تمثِّل بالضرورة عقداً اجتماعيّاً أو هويّةً واحدة؛ إذ إن التوجُّه الأساس لكافّة فِرَق القرامطة هو تأويل الشريعة، والتأكيد على المعرفة الباطنية، حتّى اعتقد بعضهم بلزوم تحديد الشريعة أو تعطيلها، كما شاع في بعضهم نوعٌ من الانحلال المقدَّس (في العلاقات والإجراءات والطقوس داخل «الجماعة»)، ومعتقدات نشأَتْ عن آراء المغالين، كالحلولية، والاعتقاد بأنواعٍ من التناسخ، وانتقال الروح الإلهية ونوره في المراتب المقدَّسة. فاتّهام الحسين بن منصور الحلاّج أو ابن أبي العزاقر الشلمغاني بالقرمطية في مستهلّ القرن الرابع، أي بعد عدّة عقود من ظهور أولى نواةٍ للقرامطة في الكوفة، لم يكُنْ لعلاقتهم المباشرة والتنظيمية بجماعات القرامطة، بل كان على الأغلب بسبب تشابه آرائهما الباطنيّة والتأويليّة مع بعض آراء القرامطة.
في هذه الفترة، أي قبل تشكيل الدولة الفاطميّة من ناحيةٍ وظهور النصيرية على يد الحسين بن حمدان الخصيبي من ناحيةٍ أخرى، يمكن ملاحظة أنماط من المعتقدات التي تتمحور حول مفهوم «القائم»، فيما دُوِّن بين عامَيْ 260 ـ 290هـ أو بعد ذلك بقليل، معطوفةً بتأويل الشريعة والآراء الباطنية المستمدّة من ميراث الخطّابيين والمخمسة، وخاصّة في الكوفة، أو على شاكلة منظَّمات سرّية نشأَتْ من مدن وقرى مختلفة.
وفي الرسالة الأولى من كتاب الكَشْف أدلّةٌ وقرائن تدعم احتمال صدورها من مجاميع كالتي مرّ وصفها. وعلى الرغم من وجود بعض المصطلحات والمعتقدات النصيرية فيها، لكنْ من الواضح خُلُوّها من المعتقد المحوري والأساسي لدى النصيرية في ما يتعلَّق بالثالوث المقدَّس، أي المعنى ـ الاسم ـ الحجاب. فهذه الرسالة تخصّ الآراء المغالية عن الأئمّة (دون التأكيد على الإمام عليّ× كتجسيدٍ للحقيقة الإلهية، والذي تؤكِّد عليه النصيرية)، ولذلك لا أثر فيها للتحوُّلات التي حصلَتْ لاحقاً في التوجُّهات الخطّابية.
وعلى الرغم من ورود مصطلحات كـ «السيد الأكبر»، إشارةً إلى النبيّ|، أو النقباء والنجباء والأبواب، في هذه الرسالة([4])، لكنّها لم تَرِدْ بالصيغة الرسمية والمقنَّنة التي وُجدَتْ في المنظومة الفكرية للنصيريّة (كما لا تشبه آثار الإسماعيليّين الأولى، وحتّى ما تعلَّق منها بالفترة السابقة لنشوء الدولة الفاطميّة).
كذلك ورد في هذه الرسالة مصطلح «الدعاة» إلى جانب العناوين والمراتب الأخرى، والتي لا صلة له بالنصيريّة، وقد يعود إلى التوجُّهات الأولى للقرامطة المغالين، ولم يَرِدْ به المفهوم الشيعيّ القديم له، ولا ما شاع في ما يلي في خطاب الدعوة الحديث للقرامطة والإسماعيليّين. ويؤكِّد هذا النصّ كثيراً على حفظ الأسرار، وضرورة التكتُّم على الحقائق الباطنية، وهو مطلبٌ مشترك بين كلّ الفِرَق الباطنية والمغالية الشيعية في تلك الفترة.
وقد ورد ذِكْرُ الشيعة المقصِّرة([5]) في موضعٍ من الرسالة. وبديهيٌّ أنه لم يَرِدْ كمصطلحٍ إسماعيليّ، بل يعود إلى الفِرَق المغالية الشيعية، ومنها: النصيريّة، لكنّ ذِكْرَه في الرسالة الأولى لا يعني بالضرورة وروده بصيغته النصيريّة([6]).
ونجد في مستهلّ الرسالة الأولى جهداً ملموساً من المؤلِّف في الردّ على المخالفين من غُلاة الفِرَق الشيعية، ويذكرها بـ «المقصِّرة»، ويعتبرها خارجةً من الهداية التي كانت قد دخلَتْ فيها([7]).
ويذكر في هذا النصّ «المهديّ صاحب الزمان صلوات الله عليه»([8])، لكنْ لا يبدو أن المراد به عبيد الله المهديّ لدى الفاطميّين، أو إمام الزمان لدى الشيعة الإماميّة، أو حتّى «القائم» لدى القرامطة والإسماعيليّين الأوائل. كما يبدو أن هذا العنوان لا يشير إلى شخصٍ ذي هويّةٍ محدَّدة، بل يشير إلى إمامٍ لا يعرف هويّته المؤلِّف والفرقة التي ينتمي إليها على وجه الدقّة، لكنّهم كانوا يعتقدون بوجوده كشخصٍ ينبغي أن يكون إمام زمانه (للتأكيد على مفهوم «القائم»، الذي يُسمّى «صاحب الزمان»)([9]).
وكانت هذه الحالة العامّة السائدة بين الفِرَق الشيعية المختلفة بين 260 ـ 290هـ. وكان بعض الشيعة في هذه الفترة يعتقدون بظهور «القائم»، لكنْ كان هناك اختلافٌ في الرأي حول هويّته الشخصية في معتقدات غُلاة الشيعة والفِرَق القريبة منها. وقد كانوا يعبِّرون عن معتقداتهم الباطنية مقترنةً بهذا المفهوم.
ونعلم أن بعض القرامطة والإسماعيليّين الأوائل ربطوا هويّة القائم بمحمد بن إسماعيل بن جعفر. كما يبدو أن طَيْفاً من الفِرَق الشيعية كانت تطرح فكرة القائم دون الحديث عن هويّته، ودون توفُّر أيّ معرفةٍ به، في النصف الثاني من القرن الثالث الهجريّ، وبعبارةٍ أخرى: كانوا يتحدَّثون عن القائم دون معرفة هويّته الشخصية. وكان خطاب الواقفية أو خطاب بعض الشيعة المغالين، كما أدب الملاحم، يؤاتي عمل هذه الفِرَق الشيعية. وبالطبع انتفع الإسماعيليون كثيراً فيما بعد من هذا الخطاب والميراث في نشر دعوتهم.
وقد ذكر هذا النصُّ الناطقين السبعة، لكنْ في المقدّمات التي يجري الحديث عنها من الواضح أن جذور هذا المفهوم تعود إلى ما قبل الإسماعيليّين، وترتبط كثيراً بالتوجُّهات التي تهدي إليها معتقدات الخطّابيين الأوائل، والتي شكَّلت فيما بعد نواة بعض الفِرَق القرمطية والإسماعيلية الأولى. ويتمّ الحديث في هذه المقدّمات عن تجلّي النور الإلهيّ في عشر قِبَبٍ (عشر قباب)، والتي تتمثَّل سبعةٌ منها في «النطقاء» والثلاثة الأخرى هي: «الكالي، والرقيب، والباب». ويقول المؤلِّف: إن هذه القباب العَشْر «أستار» أو حُجُب العلم المكنون الإلهيّ، وليست هياكل يتجسَّد الله فيها (هياكل يستجنّ فيها الباري)، كما يذهب إليه المسيحيّون عن النبيّ عيسى×، ويعتقد به غلاة المسلمين في شأن الأنبياء والأئمّة. وينفي هنا صراحةً فكرة حلول الروح الإلهيّة في كلّ زمنٍ([10]).
جليٌّ أن هذا النصّ لا يمكن أن يعود للنصيريّة، كما أن المصطلحات التي وردَتْ فيه تدلّ على أنه لا يتعلَّق بالقرامطة أو الإسماعيليّين الأوائل، على الرغم من وجود تشابهٍ في بعض المفاهيم مع ما كان متداولاً بين الإسماعيليين قبل ظهور الفاطميين، وفي مستهلّ تشكيل دولتهم (كنصوص «الرشد والهداية» أو «العالم والغلام» أو آثار جعفر بن منصور اليمن). لكنّ البَوْن شاسعٌ في ما تذهب إليه تفاصيل الموضوعات، ويمكن وضعها فقط في إطار مرحلة عبورٍ من الفِرَق الباطنية والمغالية الشيعيّة إلى عهد القرامطة الإسماعيليين.
كذلك نجد مؤلِّف هذه الرسالة يرفض معتقدات الشيعة المغالين، لكنْ من مجموع ما ورد فيها يظهر أن هَدَفه جَدَليٌّ، أي يريد نقض آراء المنافسين من المغالين، ولا يرفض الأساس الذي تستند إليه آراؤهم. كما نجد بين الغلاة الشيعة مَنْ نُسبَتْ إليه مؤلَّفاتٌ في الردّ على الغلاة، على الرغم من انتمائه إليهم([11]).
وفي المقابل نجد في هذا النصّ تصريحين عن استمرار الأمر الإلهيّ في كلّ جيلٍ بوجود الأئمّة، وتمتُّع أمير المؤمنين× بقوىً خارقة، وشَبَهه بالمسيح، ووحدانيّة الحقيقة([12]). فكما نعلم كان لفكرة المسيح واتّحاده مع المهديّ أهمّية جوهرية لدى القرامطة الأوائل في الكوفة قبل ظهور الدعوة الإسماعيليّة، وشهد الطبري على ذلك في تاريخه([13]).
وممّا يُصنِّف هذه الرسالة في خانة المغالاة نقلُها لأحاديث وخُطَب منسوبة لأمير المؤمنين× ذات صبغة مغالية، نُقلَتْ عن جابر الجُعْفي وأمثاله، الأمر الذي يمتدّ تاريخه قديماً في سنة غلاة الشيعة([14]).
كذلك نجد في هذا النصّ مواجهة شرسة مع أعداء الأئمّة، ومَيْلاً إلى تأويل آياتٍ من القرآن بالخلفاء، وهو ما نجد أمثلة له في خطاب الغلاة، وخاصّة النصيريّة، بتواترٍ. ومن هذا المنظور فإن إحدى خصائص هذا النصّ هو الاعتقاد الثنائيّ بتقابل الأوصياء والأنبياء وأعدائهم في كافّة العصور. ونعرف جيّداً أن الاعتقاد الثنائيّ كان شائعاً بين غلاة الشيعة بهذه الصورة تماماً([15]).
وقد جرى الحديث في هذا النصّ عن «الأبواب»([16])، لكنْ لم يكُنْ ذلك بالصيغة المعروفة في النصوص النصيريّة الرسمية، كما لا يتشارك بشيءٍ مع ما ورد في النصوص الإسماعيليّة وقبلها في موضوع «الباب». وبناءً على ذلك قد يدلّ استخدام تعبير «الحجّة» في موضوع الأبواب على أن النصّ تعرَّض للتغيير والإصلاح بما يؤاتي معتقدات الإسماعيليين الأوائل في دعوتهم، قبل ظهور الدولة الفاطميّة، إلاّ أن نعدّه بالمعنى العامّ والكلّي لمفهوم «الحجّة» في الخطاب الشيعي.
كما أن عدم ذكر أسماء الأئمّة^ بعد الإمام جعفر الصادق×، والاكتفاء بتوالي الأئمّة حتّى ظهور «القائم» في الرسالة الأولى، تنفي رجوع النصّ إلى الإسماعليين الأوائل، حيث كانوا يعتقدون بأن محمد بن إسماعيل هو القائم. فمن المحتمل أن يعود هذا النصّ إلى مجموعات من الغلاة، لم يهمّهم أمرُ هويّة الأئمّة بعد الإمام جعفر الصادق×؛ لوجود خلاف بين الشيعة في خلافة الأئمّة، بقدر ما كان يهمّهم أمر الإجماع على موضوع ظهور «القائم»([17]). وقد التحق بعضُ أصحاب هذه التوجُّهات فيما بعد فعليّاً بقرامطة الكوفة، ومن ثمّ بالإسماعيليين الأوائل.
ما ورد في الرسالة الأولى عن فهرس «الأيتام»، وهو من المصطلحات القديمة لغلاة الشيعة والفِرَق المرتبطة بهم، يختلف عن خطاب الفاطميّين الرسمي، ويمكن مقارنته مع ما يقابله في نماذج من النصيريّة، ويظهر ذلك رجوع النصّ إلى الفِرَق المغالية قبل النصيريّين والإسماعيليّين([18]).
وإذا تقدَّمنا في نصّ الرسالة الأولى([19]) نجد أموراً مشابهةً لما ورد في خطاب الإسماعيليّين الأوائل، والخطاب الذي ساد بداية العهد الفاطمي (كموضع «الأتمّاء» و«المتمّين»). كذلك ما ورد في تأويل الشريعة وأدوار النطقاء. لكنْ يبدو أن علينا اعتبارها من نماذج تحوُّل خطاب الغلاة المخمّسيين، الذي تأثَّر بدَوْره فيما بعد بخطاب الفاطميّين والإسماعيليّين وما كان سائداً قبل ظهور الفاطميّين.
كما نجد نماذج جديرةً بالاهتمام من الاتّجاهات التأويليّة لآيات القرآن، التي رُبَما تمثِّل طريقة تأويل آيات القرآن التي كان يعتمدها المغالون الشيعة، وكانوا يسمّونها «التفسير الباطني»([20]). وقد شهد هذا الخطاب فيما بعد مزيداً من التحوُّل والتغيير مع الإسماعيليّين (وخاصّة في آثار جعفر بن منصور اليمن)، على الرغم من جُهْد الإسماعيليين في تبرئة أنفسهم من معتقدات الشيعة المغالين.
ففي الرسالة الأولى ورد تأويل «يوم القيامة» بيوم ظهور الناطق وقيامه([21])؛ وفي نفس النصّ يتمّ الحديث عن «يوم قيام القائم»، وعن «الكرّة» وتُؤوَّل بالرجعة([22]). وقد تكون هذه أيضاً الجذور الأولى لمعتقدات الإسماعيليّين الأوائل في ما يخصّ منزلة القائم كآخر «ناطق»([23]).
وحين تقديم التأويل لبعض آيات القرآن، الذي بدا جَلِيّاً فيه الاتجاه الباطني، كالذي يظهر لدى الغلاة الأوئل([24])، ذُكِرَ «الدُّعاةُ»، وهم مرتبةٌ أدنى من «الحُجَج»، وينبغي اعتباره ممّا أضافه الإسماعيليون في تحريرهم لهذا النصّ لاحقاً، وقد تمّ ذلك لجعله متناغماً مع معتقدات الإسماعيليين والفاطميين المحدثة([25]).
وممّا يثير الانتباه أيضاً في الرسالة الأولى ما ورد في تفسيرها لكلمة «الكرّة» في آيات القرآن بظهور القائم([26]). كما ورد في أواخرها([27]) حديثٌ عن القائم ـ المهديّ، منقولاً عن الإمام الصادق×، وينطبق تماماً على سُنّة أحاديث «الملاحم» لظهور القائم، وقد نُقل كثيرٌ منها في كتبٍ تحت عنوان: «القائم» أو «الملاحم» في الفترة الواقعة بين 260 ـ 290هـ. ولا نجد في هذا الحديث تغييراً أو تصحيحاً كالذي لحق نصوص وخطاب أحاديث المهديّ والقائم؛ لجعلها منسجمةً مع دعوة الفاطميّين قبل إنشاء دولتهم وبعدها، على يد أمثال: القاضي النعمان؛ وجعفر بن منصور اليمن. كما أن مضمون جميع الأحاديث المنقولة في القسم الآخر من الرسالة الأولى ينطبق تماماً على ما كان متداولاً في الآثار الشيعية أو المغالية الشيعية.
وإجمالاً إذا استثنينا المواضع المعدودة التي دخلها الإلحاق والتصحيح الإسماعيليّ بوضوحٍ فإن هذه الرسالة ينبغي أن تعود إلى فترة ما قبل ظهور الدعوة الإسماعيليّة الأولى، أي فترة ظهور المقدّمات لمرحلة العبور من القرمطيّة إلى الإسماعيليّة.
2ـ الرسائل الخمسة الأخرى
وأما الرسالة السادسة من كتاب الكَشْف أيضاً فجديرةٌ بالملاحظة في هذا المضمار. فهذا النصّ وإنْ وُضع تحت عنوان الرسالة السادسة للكتاب، لكنّ مضامينه قريبةٌ جدّاً من الرسالة الأولى في كثيرٍ من أجزائها، وإنْ لم نجِدْ فيه نقلاً لأحاديث بصيغة الرسالة الأولى، كما لا نجد فيه مصطلحاتٍ كالتي لدى النصيريّة على سبيل المثال، بل حتّى تظهر فيه مصطلحاتٌ ممّا لدى الإسماعيليّين الأوائل، وحتّى الفاطميّين الأوائل. ومن غير المستَبْعَد أن يكون استمراراً للرسالة الأولى، لكنْ تمّ فصلُه عنها، وإلحاقُ عددٍ من المصطلحات والمفاهيم الإسماعيلية به فيما بعد.
أما الرسالة الرابعة فليس فيها غير نصٍّ لحديثين شيعيّين بتوجُّهٍ باطني، ويستوجب الحديث عن جذورها ومصدرها مقالاً آخر.
أما الرسالة الثانية فتختلف تماماً عن باقي رسائل كتاب الكَشْف، ولم تَحْوِ حديثاً عن «القائم»، وإنْ تطرَّقَتْ إلى الناطقين السبعة والأئمّة السبعة([28])؛ إذ تغلب مواضيع التوحيد في محتواها، ولا نجد فيها أثراً خاصّاً للمعتقدات الإسماعيليّة الأولى في موضوعاتها. فأكثر ما تبدو عليه أنها رسالةٌ تحوي التوجُّهات الشيعيّة العامّة، وفي نفس الوقت نرى فيها آثاراً من المعتقدات المتعلِّقة بـ «الناطقين السبعة» و«أدوار» الناطقين والأئمّة. ولعدم ذكر «القائم» فيها، أو بعبارةٍ أدقّ: لعدم تأكيدها على هذا الموضوع، رُبَما يمكن اعتبارها نصّاً للشيعة السبعية، الذين أنشأوا نواة القرامطة والإسماعيليّين فيما بعد، لكنْ لم يتبلور لديهم مفهوم القائم تماماً. وبهذا الوصف ألا يمكن ادّعاء أن الرسالة الثانية، أو جَوْهرها، أقدم من الرسالة الأولى؟
ومن ناحيةٍ أخرى يبدو جليّاً أن الرسالة الثالثة تعود إلى عهد القرامطة والإسماعيليّين الأوائل، الذين تداولوا موضوع ظهور «القائم».
وقد تطرَّقت هذه الرسالة إلى مفهوم «الرَّجْعة». فهذه الرسالة بناءً على محتواها لا يمكن أن تعود إلى الإسماعيليّين بعد ظهور الدولة الفاطميّة، أو القرامطة غير الإسماعيليين في مستهلّ القرن الرابع الهجريّ. وغالب الظنّ أنها كُتبَتْ في العقود الأخيرة من القرن الثالث الهجري، أي مع انتشار الدعوة الإسماعيليّة، وتبليغهم لمعتقد «ظهور القائم». ولها أهمّيةٌ قصوى في معرفة مدى اهتمامهم بالاعتقاد بالقائم، وما انتفعوا به من مفاهيم تتعلَّق بهذا المعتقد بين سائر الفِرَق الشيعية في ذلك العهد، كفِرَق من الفطحية أو التي تمتدّ جذورها في خطاب الواقفة، كما بعض غلاة الشيعة.
لكنّ الرسالة الخامسة تتعلَّق بالعهد الفاطمي، وتستقلّ بماهيّتها عن سائر أجزاء كتاب الكَشْف، ولا ينبغي اعتبارها مشابهةً لرسائل الكتاب الأخرى.
خلاصةٌ
يتطلَّب تدقيق النظر في الرسائل الستّة، التي مرّ ذكرُها، إلى مجالٍ أوسع. وما ورد هنا كان لتبيين الأهمّية البالغة لخمسٍ من رسائل هذا الكتاب في معرفة المعتقدات الشيعيّة والباطنيّة والإسماعيليّة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.
ويتّضح من هذه المراجعة أن الدعوة الإسماعيليّة من حيث المعتقدات المذهبية نشأَتْ ونمَتْ في مجتمع الشيعة الإمامية، واستمدَّتْ من سُنَنها، وإنْ كان العبور إلى المعتقدات الإسماعيلية، كما مرَّ الحديثُ عنه، وخاصّةً في موضوع القائم، تطلَّب التحوُّل من خلال اتجاهاتٍ وسيطة، ويمكن استنباطها من نماذج خطابها المذهبي المذكور في طيّات كتاب الكَشْف.
الهوامش
(*) باحثٌ معروف، متخصِّصٌ في علم الكلام والفلسفة الإسلاميّة. من الشخصيّات البارزة في مجال نقد النُّسَخ والمخطوطات والكتب القديمة. أحد أساتذة جامعة برلين في ألمانيا، وعضو الملتقى الدوليّ حول تاريخ العلوم والفلسفة في باريس.
([1]) راجِعْ: حسن الأنصاري، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى (فصل أبي الخطّاب)؛ وأيضاً: حسن الأنصاري، مقال عن إسماعيل بن جعفر في كتاب تكريم الدكتور مهدي محقّق.
([2]) لرفض الشيعة المغالين في آثار الإسماعيلية المتأخِّرة راجِعْ مثلاً: حاتم بن إبراهيم بن حسين الحامدي الهمداني، رسالة تحفة القلوب وفرجة المكروب. أو كتاب تحفة القلوب في ترتيب الهداة والدعاة في جزيرة اليمن: 44 فما بعد، تحقيق: عباس همداني، دار الساقي ومعهد الدراسات الإسماعيليلة، بيروت ـ لندن، 2012م؛ الداعي محمد بن طاهر الحارثي، كتاب مجموع التربية: 186 ـ 196، تحقيق: حسام خضور، دار الغدير، السَّلَمية ـ سورية، 2011م.
([3]) راجِعْ: دراسات مادلونغ وهالم في هذا الخصوص.
([6]) وبالطبع استخدم الإسماعيليّون فيما بعد هذا المصطلح، راجِعْ: مجموع التربية: 197، وقد ذمَّتْ فيه هذه الفرقة إلى جانب غلاة الشيعة.
([9]) راجِعْ: كتاب الكشف: 30، 310.
([11]) مثلاً: راجِعْ: رجال النجاشي: 329 ـ 330، 338.
([12]) كتاب الكشف: 28؛ وهناك شواهد كثيرة في آراء الباطنيين عن أهمّية المسيح. راجِعْ، على سبيل المثال: حسن الأنصاري، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى (مقال أبي المنصور العجلي).
([13]) راجِعْ: تاريخ الطبري 10: 25 ـ 269.
([14]) وأيضاً أحاديث عن الإمام الصادق×، نقلاً عن المفضَّل بن عمر الجُعْفي، راجِعْ: كتاب الكشف: 32.
([15]) كتاب الكشف: 29 ـ 31. وما كتبه البروفسور محمد علي أمير معزي في هذا الموضوع جديرٌ بالمطالعة، كالذي ورد في كتابه «پيشواي ملکوتي» [الإمام الملكوتي].
([17]) راجِعْ: حسن الأنصاري، مقالٌ في كتاب دراسات تاريخية حول دعاء الندبة.
([18]) راجِعْ: كتاب الكشف: 33 ـ 34.
([20]) راجِعْ: رجال ابن الغضائري: 77، 93؛ رجال النجاشي: 251، 329.
([23]) راجِعْ أيضاً: كتاب الكشف: 44.
([24]) كتاب الكشف: 42؛ وراجِعْ في هذا الموضوع خاصّةً: كتاب الكشف: 43 ـ 44، الذي يتمّ الحديث فيها عن كلمة «صلّى» في إحدى آيات القرآن، ويتم تأويل «الصلاة» هنا بطاعة أمير المؤمنين والأئمّة من بعده.
([25]) أيضاً راجِعْ: كتاب الكشف: 43، وفيها يتمّ الحديث عن «أمر الله وحدود دينه»، و«العهد» في ما يتّصل بموضوع الأئمّة والحُجَج والدُّعاة، وبالطبع بمعنى عامّ تماماً، وما من ضرورةٍ في حصر معناه بمفهوم «العهد» لدى الإسماعيليّين. وكلّ ما ورد قد يكون أولى النماذج عن استخدام الفِرَق الشيعية قبل الإسماعيلية، والمعتقدة بالقائم، للمصطلحات التي شهدَتْ فيما بعد تحوُّلاً في معناها بواسطة الإسماعيليّين، قبل الدولة الفاطميّة، والفاطميّين أيضاً.