أحدث المقالات

حوار مع د. عبدالكريم سروش(*)

ترجمة: حسن مطر الهاشمي

<محمد خالق القرآن>، هذا ما يقوله الإصلاحي الإيراني المعروف عبد الكريم سروش في كتابه <بسط تجربه ديني> الذي سيتم طبع ترجمته في العام المقبل. وبذلك يكون سروش قد تقدم على الكثير من دعاة الإصلاح المتطرفين من المسلمين. وقد بيّن سروش في مقابلته مع صحيفة (زمزم) خلاصة لهذه الآراء.

يعد عبد الكريم سروش رائد تيار الإصلاح في إيران. وقد كان في بداية أمره من أنصار الإمام الخميني، وقد شغل في باكورة قيام الجمهورية  عدة مناصب حكومية، ومن بينها: مستشار الإمام الخميني في إصلاح الثقافة والتعليم. ولكن [بعد فترةٍ] شعر سروش بالإحباط، فتخلى عن هذه المناصب.

ومنذ بداية العقد التاسع من القرن الميلادي المنصرم كان سروش واحداً من المثقفين الجمهوريين الذين بحثوا في (الديمقراطية الإسلامية)، ولكنه ابتعد تدريجياً وبشكل كامل عن نظرية الحكومة الإسلامية برمّتها.

إن دعوى سروش بسيطة، فهي تقول: إن جميع المعارف البشرية واستنباطاتها الدينية تاريخية، وهي عرضة للخطأ، وهو بذلك يحدث وهناً في الحكومة الدينية القائمة في إيران، فبعد احتمال تعرض جميع الاستنباطات البشرية وفهم الدين للخطأ لا يحقّ لأيّ شخص أن يدعي إقامة الشريعة باسم الله، حتى المؤسسة الدينية القائمة حالياً في إيران.

وقد أوضح سروش في كتابه <بسط تجربه نبوي>: أن نظريته بشأن إمكان تطرق الخطأ إلى المعرفة الدينية تصدق إلى حدًّ في حق القرآن أيضاً، وبذلك يصنف سروش في عداد علماء آخرين، مثل: نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، من الإصلاحيين الراديكاليين الذين دعوا إلى الدخول إلى القرآن من زاوية تاريخية.  ولكنه قد تفوق على جميع أقرانه الراديكاليين في كتابه هذا، حيث يدعي أن القرآن ليس نتاجاً للظروف التاريخية الخاصة، والتي تكوّن في صلبها فحسب، وإنما هو كذلك منبثق من ذهن النبي محمد’، مع كل ما يحيط به من القيود البشرية، ويقول سروش: وهذا ليس بدعاً من الكلام، حيث أشار إليه الكثير من العلماء في القرون الهجرية الوسيطة.

(مايكل هوبنغ)

الوحي في عالم متطوّر ـــــــ

¢ كيف يمكن النظر إلى شيء مثل الوحي كحقيقة ذات معنى في عصر متطوِّر يدعو إلى التحرر من الوهم والخرافة؟

£ إن الوحي (إلهام)، وهو التجربة التي يخوضها الشعراء والعرفاء، وإن كان النبي يخوضها بدرجة أرفع وأسمى. في العصر المتطوِّر يمكننا فهم الوحي من خلال الاستعارة الشعرية، كما قال أحد الفلاسفة المسلمين: الوحي أسمى درجات الشعر. إن الشعر أداة معرفية تختلف في وظيفتها عن العلم والفلسفة، فالشاعر يتصور أن مصدراً خارجياً يلهمه، وإن الشاعرية استعداد وقريحة مثل الوحي تماماً، فيمكن للشاعر أن يفتح آفاقاً جديدة أمام الناس، وأن يريهم العالم من زاوية أخرى.

النبي والوحي بين الفعل والانفعال ـــــــ

¢ إنك تذهب إلى ضرورة اعتبار القرآن نتاج عصره، فهل يتضمن ذلك أن يكون للنبي دور فعال وحاسم في إبداع هذا النص؟

£ طبقاً للرواية التقليدية لم يكن النبي سوى وسيلة، حيث يؤدي إلى الناس ما يأتيه به جبريل، ولكنني أرى أن النبي كان له دور محوريّ في خلق القرآن. وإن الاستعارة الشعرية تساعد على توضيح هذه الحقيقة. فالنبي يحسّ ـ مثل الشاعر تماماً ـ أن قوة خارجية تستحوذ عليه، ولكنه في الواقع وفي جميع الأحوال يقوم بكل شيء. وفي الحقيقة كون هذا الإلهام نابعاً من الداخل أو من الخارج لا موضوعية له هنا؛ إذ لا تمايز بين مستويات الوحي على الصعيد الداخلي أو الخارجي. إن هذا الإلهام ينبثق من (نفس) النبي، و(نفس) كل شخص إلهية، إلا أن النبي يختلف عن سائر الأشخاص؛ ذلك انه أدرك إلهية هذه النفس، ويخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل، وقد اتحدت نفسه مع الله. وأرجو عدم إساءة فهم كلامي هذا، فإن هذا الاتحاد المعنوي مع الله لا يعني صيرورة النبي إلهاً، فهذا الاتحاد محدودٌ بحدود النبي ومحتواه البشري، وليس بما لله من سعة مطلقة في الأبعاد، وقد بين جلال الدين مولوي الشاعر العارف هذا المعنى الموهم للتناقض بأبيات شعرية مفادها: (إن اتحاد النبي مع الله مثل صبّ مياه المحيط في الدورق)، إلا أن النبي خالق للوحي بشكل آخر، فالذي يحصل عليه من الله هو مضمون الوحي، ولكن هذا الوحي لا يمكن بيانه للناس بذلك المضمون؛ لأنه يفوق مستوى فهمهم، بل هو فوق مستوى الكلمات، فهذا الوحي فاقد للصورة، وعلى النبي أن يصوغه في إطار صوري؛ ليجعله في متناول فهم الجميع، فيقوم كما يفعل الشاعر بصياغة هذا الإلهام بأدواته اللغوية وأسلوبه الخاص، وما يتوفر له من علم وثقافة، كما أن لشخصيته دوراً مهماً في صياغة هذا النص، وكذلك سيرته وحياته، بما في ذلك: والده، ووالدته، ومرحلة صباه، وحتى حالاته الروحية، ولو قرأتم القرآن تشعرون أن النبي أحياناً يكون في قمة الجذل والفصاحة، بينما يكون في أحيان أخرى مفعماً بالملل، وتجده عادياً في كلامه، وجميع ذلك قد ترك تأثيره على النصّ القرآني، وهذه هي الناحية البشرية التامّة من الوحي.

عصمة الوحي وتعارض العلم والدين ـــــــ

¢ إذاً للقرآن جنبة إنسانية وبشرية، مما يعني إمكان وقوع الخطأ فيه؟

£ من جهة النظر التقليدية لا مجال لتطرق الخطأ في الوحي. وأما في العصر الحاضر فهناك الكثير من المفسِّرين يذهبون إلى اقتصار عصمة الوحي على المسائل الدينية البحتة، مثل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وأسس العبادة، وأما في ما يتعلق بمسائل هذا العالم والمجتمع الإنساني فيمكن للخطأ أن يتطرق إلى الوحي من وجهة نظر هؤلاء المفسرين، فليس من الضروري أن يكون ما ذكره القرآن من الوقائع التاريخية وسائر الأديان والموضوعات العلمية صحيحاً، ودليل هؤلاء المفسرين أن هذا النوع من الأخطاء في القرآن لا يؤثر سلباً على نبوة النبي؛ لأنه إنما نزل منسجماً مع المستوى الفكري السائد في المجتمع آنذاك، وموافقاً للغته. أما أنا فأذهب إلى رأي آخر، حيث لا أتصور أن النبي قد تكلم بلغة قومه وهو يتمتع بعلوم ومعارف مختلفة، وإنما كان النبي مؤمناً بما يقول حقيقة، فكانت تلك هي لغته، وكان الفكر فكره، ولا أتصور أن علمه بشأن الأرض والكون وتكوين الإنسان أكثر من المعاصرين له، فان العلم الذي وصلت إليه الإنسانية حالياً لم يكن للنبي علم به، وهذا لا يؤثر على النبوّة سلباً؛ لأنه إنما كان نبياً، ولم يكن عالماً أو مؤرِّخاً.

الجذور التاريخية لنظرية البعد البشري في القرآن ـــــــ

¢ تشيرون كثيراً إلى الفلاسفة والعرفاء في القرون الوسيطة، مثل: مولوي، فما هو مدى جذور نظريتكم حول القرآن في التراث الإسلامي؟

£ إن جذور الكثير من أفكاري تعود إلى القرون الإسلامية الوسيطة. وإن القول بأن النبوة عامة، ويمكن العثور عليها بين مختلف أصناف البشر، موجود في الإسلام الشيعي، وعند العرفاء؛ فالشيخ المفيد ـ وهو المتكلم الشيعي الكبير ـ لا يعتبر الأئمة أنبياء، ولكنه يمنحهم جميع خصائص الأنبياء، وكذلك يذهب الكثير من العرفاء إلى أن تجربتهم من نوع تجارب الأنبياء. كما جاء الاعتقاد ببشرية القرآن وأنه في معرض الخطأ بالقوة تلويحاً في كلمات المعتزلة، حيث ذهبوا إلى القول بخلق القرآن. ولم يعمد العلماء في العصور الوسيطة إلى بيان هذه الآراء بشكل واضح ومدوَّن، وفضَّلوا الإشارة إليها ضمن طيات كلماتهم وأقوالهم المتفرقة؛ رغبةً منهم في عدم إثارة البلبلة في أذهان عامة الناس، الذين لم يكن في وسعهم هضم هذه الأفكار واستيعابها. من باب المثال: نجد مولوي يقول: (القرآن مرآة ذهن النبي)، ومعنى ذلك أن شخصية النبي وحالاته المتغيرة، وأوقاته السعيدة والعصيبة، منعكسة في القرآن. أما ابن مولوي فقد ذهب إلى أكثر من ذلك حيث قال في واحد من كتبه: إن تعدد الزوجات إنما أجيز في القرآن لأن النبي كان يحبّ النساء، ولهذا السبب أباح لأتباعه الزواج من أربع نساء!

التداعيات المعاصرة لنظرية البُعد البشري  ـــــــ

¢ هل يجيز لكم الاتجاه الشيعي نشر أفكاركم بشأن بشرية القرآن؟

£ المعروف في الاتجاه السني من الإسلام اندحار مذهب الاعتزال العقلي أمام الأشاعرة القائلين بقدم القرآن وعدم خلقه، وأما الاعتزال الشيعي فقد واصل حياته نوعاً ما، وقد أوجد أرضية خصبة لنمو تراث فلسفي غني. إن الاعتقاد بخلق القرآن بين المتكلمين الشيعة كان اعتقاداً راسخاً لا منازع له. كما أننا نجد حالياً اقتراب الكثير من الإصلاحيين السنة من الموقف الشيعي في ما يتعلق بخلق القرآن، إلا أن علماء الدين في إيران مترددون في الاستفادة من المصادر الفلسفية في التراث الشيعي لفتح آفاق جديدة لفهم ديننا، فقد أقاموا سلطتهم على أسس من الفهم المحافظ للدين، وعليه فإنهم يخشون أن يؤدّي فتح باب البحث حول مسائل، من قبيل: ماهية النبوة، إلى فقدانهم لكل امتيازاتهم.

¢ ما هي تداعيات نظريتكم على المسلمين المعاصرين في تعاطيهم مع القرآن بوصفه كتاباً ومرشداً أخلاقياً؟

£ إن اعتبار القرآن بشرياً يسهّل عملية التمييز بين جوانبه الذاتية والعرضية، فبعض المسائل الدينية قد تكونت على نحو تاريخي وثقافي، ولم يعد لها موضوعية في العصر الراهن، وهذا الأمر يصدق على العقوبات الجسدية المذكورة في القرآن، فلو كان النبي يعيش في بيئة أخرى لما شغلت هذه العقوبات حيّزاً من رسالته الدينية. وعلى المسلمين المعاصرين أن يعملوا على ترجمة القرآن وفقاً لمقتضيات الزمن، حيث بالامكان العثور على مثلٍ آخر يحمل نفس الروح والمعنى، وهذا شبيهٌ بترجمة الأمثال من لغة إلى أخرى، حيث لا تتم ترجمتها حرفياً، وإنما يبحثون عن مثل آخر يحمل نفس الروح والمعنى والمضمون، فمثلاً: هناك مثل عربي يقول: <كناقل التمر إلى هجر>، فإذا أردنا ترجمته إلى اللغة الانجليزية نقول: <كحامل الفحم الحجري إلى نيوكاسل>. إن الإدراك التاريخي والبشري للقرآن يجيز لنا ذلك. وأما إذا أصررنا على اعتبار القرآن كلاماً غير مخلوق، وأنه كلام الله الخالد، والذي يتعيّن علينا تطبيقه بحرفيته، فإننا سنقع في مشكلة عويصة لا يمكن حلّها.

 _______________________________________________

(*) مفكر إيراني معروف، وأشهر منظري الإصلاح الديني في إيران. طرح ـ وما يزال ـ سلسلة من النظريات التي أثارت جدلاً واسعاً، كان آخرها حول الإمامة والوحي.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً