أحدث المقالات

    مقدّمة

تهتمّ الشرائع الدينية بالجانب القيمي للعلاقات الإنسانية من الناحية المعرفية من جهة، ومن الناحية التربوية السلوكية من جهةٍ أخرى. وبهذا تختلف هذه الشرائع عن الحركات الاجتماعية والسياسية التي تتقوَّم بعلاقات القوى والتغالب.

ولكي تمتاز الشرائع الدينية بقيمها المعرفية والسلوكية المذكورة، من حيث مدى مصداقيتها في هذين المجالين، فإنها تحرص على ضبط السلوك الإنساني بقواعد خاصّة، مبنية على مراعاة تلك القيم، والانفعال بها. ويلعب كلٌّ من الضمير والميتافيزيقيا دور الرقيب في التحكُّم «بالأنا» التي تحرك أسباب الصراع الفردي والاجتماعي في العلاقات الإنسانية، وذلك بالامتثال للعبادات والمعاملات التي تتحكم في السلوكين الشخصي والاجتماعي للإنسان، وفق المعايير المعرفية والسلوكية المتقدّمة. وتدور عملية استنباط الحكم الشرعي من مظانّه من خلال مصدرَيْن أساسيّين، هما: الدليل النقلي، ويتضمَّن نصوص الكتاب الكريم، والسنّة؛ والدليل العقلي، المشتمل على المستقلاّت العقليّة واللامستقلاّت العقلية؛ توصُّلاً لمعرفة آليات ضبط السلوك الفردي والاجتماعي. أمّا الإجماع فلا حجّية له من دون مرتكز شرعيّ، وأيُّ حكم ابتنى على الإجماع، فيما عدا الضروريات؟! بل إن الفقهاء يستدلّون بالإجماع في موارد النزاع، ومنه الإجماع الذى يدَّعيه المرتضى على عدم حجّية خبر الواحد، واعتبار ذلك من الضروريات، بينما يعترض الطوسي بالإجماع([1]) على خلافه.

وتبغي هذه الدراسة تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه كلٌّ من النقل والعقل في عملية الاجتهاد، التي ينبغي أن تتحرّك وفق معايير علمية وموضوعية أكثر مما هي ذوقية وذاتية، ناجمة عن ثقافة الفقيه ومداركه الاجتهادية، ومن هنا تنشأ ثقافته الاجتهادية الخاصّة به. كلّ ذلك لمواكبة آليّات ضبط السلوك المشار إليها؛ لتكون قادرة على توظيف القيم المعرفية والسلوكية لخدمة الإنسان الذي كرَّمته الشرائع.

والمثاقفة مفاعلة لثقافات المجتهدين فيما بينهم؛ لتبادل التجارب والخبرات الاجتهادية؛ لإثراء وتطوير الاجتهاد الفقهي نحو انفتاح على المستجدّات من الأحداث والوقائع في عالم متغيِّر، وتقويم عنصرَيْ عملية الاجتهاد، وهما: المعرفة بالعلوم الشرعية من جهة؛ والمَلَكة في فنّ توظيفها في عملية اكتشاف الحكم الشرعي من جهةٍ أخرى. فثقافة الاجتهاد هي فنّ التعامل مع عنصرَيْ الاجتهاد معاً، وهما: العلم؛ والملكة؛ للتوصل إلى استكشاف الحكم الشرعي الواقعي من مصادره التفصيلية، بدلاً من الانكفاء على الحكم الظاهري؛ وذلك لتحقيق المقاصد الشرعية الحقيقية، لا الاقتصار على المعذِّرية أو المنجِّزية، اللتين لا تعكسان بالضرورة حقيقة التكليف، ولا إدراك قصد المشرِّع في جلب المنافع ودرء المفاسد. وإذا كان الفقه الإسلامي استنباطيّاً في عمومه فإنّ محدودية النصوص، وانقطاع مواردها، وعدم تناهي العلاقات الاجتماعية، يقضي اللجوء إلى الاستقراء العقلي؛ للاستفادة من المخزون النقلي في العملية الاجتهادية كمرتكزٍ شرعي يساعد الدليل العقلي على البقاء في دائرة الشريعة، وعدم الانفصال عنها؛ إذ إنّ نظرية الإثبات الأصولية هي نظرية اعتبارية تعبُّدية، لا نظرية علمية حقيقية، ما دام غرضها التنجيز أو التعذير بغضّ النظر عن إصابتها للواقع. ولهذه النظرية وسيلتان للإثبات، هما:

أـ الإثبات الوجداني: ومؤدّاه القطع بثبوت الواقع بحجّية ظهور النصّ الإلهي أو المعصومي المتواتر. وليس منها الإجماع؛ لأن فتاوى الفقهاء لا تكشف بالضرورة عن الواقع، بل عن ظنّية الاستدلال الجاري مجرى اليقين. وإنّ كثرة الفتوى لا تغيِّر هذه الظنّية، ولا تصيب الواقع؛ لأنّ مدار الحكم الشرعي ليس الكثرة، وإنّما بالدليل الحاكي للواقع، وقد ضعَّفه الأنصاري، ورفضه الخوئي. أما مَنْ اعتمده فهو حجّةٌ إذا كان كاشفاً عن قول المعصوم، لا بطريقيّته، فلا وجدانيّة في دليليته.

ومع استبعاد الإجماع، والتعويض عنه، والانكفاء المستمرّ في دائرة النصّ، روَّج الأصوليون، ومنهم الشهيد الصدر، لنظريّتين:

الأولى: السيرة العقلائية القائمة على الإمضاء التشريعي لسيرة المتشرِّعة؛ باعتبارهم يعبِّرون عن الكثرة التي لا يعقل صرف النظر عنها أو إهمالها. وهي في هذه الحالة تقترب من العرف.

والثانية: السيرة الشرعية القائمة على الكشف عن موقف المعصوم، رغم الفارق الزمني لعصر المعصوم الذي يضعف من القدرة الكاشفة عن هذا الموقف.

وكلتا النظريتين أضعف من الإجماع؛ لأنّ السيرة ملاكها العموم، لا الإجماع، ولا يمكن تعويض الضعيف بما هو أضعف منه. أما الشهرة الفتوائية فهي أدنى من الإجماع في الكشف عن موقف المعصوم.

ب ـ الإثبات التعبُّدي: ومفاده إمضاء الاعتبار الشرعي للظنّ باعتباره حاكياً عن الواقع، وكاشفاً عنه، اعتباراً لا يقيناً؛ وذلك لعدم الكشف واقعاً؛ لتعذُّر القطع، على أساس أن كلّ ما بالغير لا بدّ من أن ينتهي إلى ما بالذات، ومنه حجّية خبر الواحد؛ باعتباره ناقلاً لقول المعصوم. ويقوم الإثبات التعبُّدي على الحجّية بالمعنى الأصولي، لا بالمعنى الأرسطي؛ وذلك على أساس من العقل العملي بما يفيد أن يكون، لا العقل النظري الذي يفيد إصابة الواقع برهانياً بما هو واقع، لا اعتبارياً بما ينبغي أن يكون. ولذا فإنّ مفاد الحجية الأصولية هو التنجيز أو التعذير، لا إصابة الواقع كما هو واقع.

ويعود أساس الحجّية الأصولية إلى مبدأ الانسداد؛ بانقطاع الصلة بالمعصوم، وتعذُّر إصابة الواقع بسبب ذلك. فهو غير معنيّ به؛ لعدم القدرة على بلوغه، فيكتفي الفقيه بإبراء الذمة بغضّ النظر عن الواقع. فالعقل النظري لا يبرئ الذمة؛ لتعذُّره، والعقل العملي يبرئ الذمّة؛ باعتباره مسلكاً للجري مجرى الواقع كوظيفة شرعية تفيد الاطمئنان؛ لتعذُّر اليقين.

ولا يمكن تحويل الظنّ إلى يقين إلاّ تعبُّداً بالعقل العملي عند النائيني؛ لأنّ الظنّ ليس علماً. وعند الخوئي تقوم حجّية خبر الواحد تعبُّداً على أساس حجّية خبر الثقة؛ باعتباره ناقلاً لقول المعصوم، ولا حجّية لخبر غير الثقة؛ لكونه كاذباً، لا ناقلاً لقول المعصوم. فملاك خبر الثقة هو الاطمئنان الذي يحدِّد الموقف العملي للفقيه عند تعذُّر الوصول إلى المعصوم. وبذلك يكون الظنّ علماً تعبُّداً، لا يقيناً([2]).

وسندرس الوسيلتين في المطلبين التاليين:

 

    المطلب الأول: الدليل النقلي

وهو النصّ الذي يعرّف بأنه الخطاب الشرعي الذي منه يستنبط الحكم الشرعي بواحدة أو أكثر من القواعد الأصولية، التي تعتبر بمثابة كبريات واقعة في طريق عملية الاستنباط، بحيث يتمّ الاستدلال بها على الحكم الشرعي التفصيلي دلالة ظنية، حسب ما تقتضيه هذه العملية، بالنظر إلى ما يشوب النصّ من عموم أو إطلاق أو اشتراك أو إجمال، بقرينة أو بدون قرينة، في الدلالة المنطوقية، بل الدلالة المفهومية، إلاّ ما كان قطعياً باعتباره من الضروريات. وبالنظر إلى الوضع في الحديث فإنّ دلالة الصدور هي بدورها ظنّية، إلا ما كان وارداً بالتواتر، وهو قليل. وبهذا فإن الدلالة الظنّية تحيط بنصّ الحديث في المعنى وفي السند في آنٍ واحد، وهذه هي إشكالية الخبر.

وأدى انقطاع النصّ كمصدر للتشريع إلى انسداد باب العلم بالحكم الشرعي الواقعي، الكبير منه وربما الصغير، ولم تنَلْ القواعد العامّة، التشريعية منها والفقهية، الاهتمام الذي نالته الأخبار، بما فيها الضعيفة، التي احتوتها المصنَّفات الحديثية في عملية التدوين في فترة الغيبة الصغرى وما بعدها. حيث تولّى الكليني(329هـ) أثناء الغيبة الصغرى هذه المهمة بتدوين (الكافي). وأعقبه الصدوق(381هـ) بتدوين (مَنْ لا يحضره الفقيه). وواصل الطوسي(460هـ) المهمّة لاحقاً بتدوين (التهذيب)، و(الاستبصار). واشتملت هذه المتون على ما سُميت بـ (الأصول الأربعمائة)، التي لم يصلنا منها إلاّ ما دوّنته هذه المتون الأربعة الكبار. وقد سبق الجمهورُ الإماميّةَ في عملية التدوين هذه بتدوين مجاميع الحديث في مصنَّفات، أطلق عليها (الصحاح)، وهي غير ما دوَّنه مالك زمن المنصور في (الموطّأ)، وغيره آخرون. ولكنْ عندما أفضت الخلافة إلى المتوكّل(247هـ) أمر الناس بترك النظر والمباحثة والجدال، والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق والمأمون، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر شيوخ المحدِّثين بإظهار السنّة والجماعة([3]). وقد رافق ذلك انحسار نفوذ المعتزلة؛ بسبب المضايقات التي تعرَّضت لها المدرسة العقلية إثر فتنة خلق القرآن، وجمعت هذه الصحاح من قِبَل: البخاري(256هـ)، ومسلم(261هـ)، والترمذي(279هـ)، والنسائي(303هـ)، وأبي داوود(275هـ)، وابن ماجة(273هـ). وسمّيت بـ (الصحاح)؛ لأنّها تضمّ الأحاديث المعتمدة لدى مدوِّنيها باعتبارها صحيحة. أما الإماميّة فقد نهجت منهجاً آخر، حاولت به جمع الحديث، صحيحه وضعيفه، بما يمكن الفقهاء والمتكلِّمين من تحقيق هذه الأحاديث، واعتماد صحيحها، وترك ضعيفها. ولكنّ هذه الميزة ضاعت مع الزمن، فأحاطت الإماميّة مصنَّفاتها تلك بالقداسة التي أحاط الجمهور صحاحه بها، رغم أنّها لا تدّعي صحة سوى القرآن الكريم، وما تواتر من الحديث، وهو قليلٌ، ممّا صعّب على العملية الاستنباطية معرفة الحقيقة العلمية على الصعيدين الشرعي والعقائدي. بل قد تؤدّي هذه القدسية إلى تواني الفقيه عن الفحص الدقيق، والإفتاء بناءً على الضعيف، في مقابل النصّ أحياناً، كما هو الحال في تحديد دية المرأة مقابل دية الرجل، بناءً على رواية أبان؛ وقتل الأسير بما هو الإفتاء عليه، بناءً على رواية طلحة بن زيد. ولا ينبغي التذرُّع بالإبقاء على هذه المصنَّفات دون تحقيق؛ بدعوى الحفاظ على الروايات من الضياع؛ لتبرير هذا الحشد من الضعيف منها، البالغ عدده في الكافي 9485 رواية، حسب تحقيق الطريحي في مجمع البحرين، و1169 رواية، حسب محمد باقر البهبودي، وذلك من مجموع 16121 حديثاً، كما في (زبدة الكافي)، رغم محاولة الكليني جمع الصحيح من الحديث، شأنه شأن المستدرَك على صحيحَيْ البخاري ومسلم، أو صحيح ابن حبّان. ومع هذا لم تنَلْ جهود البهبودي في تحقيق الكافي رضا الآخرين، وبقي الحال كما هو عليه من القداسة. ولا يعرف سبب عدم عرض الكافي على المعصوم في الغيبة الصغرى، حيث كان الكليني معاصراً للسفراء الأربعة، ولم يتحقَّق ذلك فعلاً، حسب المحدِّث الإسترآبادي([4]).

ويمكن إلقاء نظرة على أسلوب جمع الحديث، من خلال اختيار المشايخ كمصدر لجمع الروايات. فقد أكثر الكافي الرواية عن سهل بن زياد الآدمي، في 1740 مورداً، وهو رقمٌ كبير في سياق روايات الكافي. في حين ضعَّفه الطوسي في الفهرست([5])، والنجاشي([6])، وفي رجال الحلّي عدَّه ابن الغضائري ضعيفاً جدّاً، وفاسد الرواية والمذهب، ويروي المراسيل، ويعتمد المجاهيل([7])، واعتبره الكشّي أحمقاً([8]). وقال الخوئي في معجم رجال الحديث([9]): إنّه لم تثبت صحّة جميع روايات الكافي، بل لا شكّ في أنّ بعضها ضعيف، بل إنّ بعضها يُطْمَأَنّ بعدم صدوره من المعصوم.

واذا أمعنا النظر في عملية الاستنباط في ضوء الطريقة التي يعتمدها المحدِّث في جمع الحديث فإنّ الفقيه يواجه النصّ القرآني قطعيّ الصدور بأخبار الآحاد ظنّية الصدور، بما يربك (الحجّة)، التي هي غاية عملية استنباط الحكم الشرعي الواقعي؛ اذ ينقلب فيها المرجوح على الراجح، ويرِد الظنّي على القطعي، فتأمَّلْ!

ففي الكافي، في كتاب الجهاد، في الحرب وهي قائمةٌ فإنّ للإمام الخيار بشأن مصير الأسير؛ إنْ شاء ضرب عنقه؛ وإنْ شاء قطع يده ورجله؛ وهكذا. والسند في ذلك رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبدالله([10]). أمّا في قتال أهل البغي، أي الحرب الأهليّة، فعن عبدالله بن شريك، عن أبيه، عن أمير المؤمنين، أنّ الإمام أمر بعدم قتل الأسرى في الجمل، وبقتلهم والإجهاز على جريحهم في صفّين([11]). وقد استفسر ابن تغلب لدى عبد الله بن شريك عن هاتين السيرتين المختلفتين، فقال: إنّ أهل الجمل قتلوا طلحة والزبير، فأصبح القوم لا قائد لهم في الجمل، بينما معاوية لا زال قائماً في صفّين. وأصبح حال الفتوى كذلك لدى كبار الفقهاء؛ وذلك لاعتماد الطوسي رواية طلحة، رغم ضعفه، ولم يجرؤ أحدٌ على إعادة تحقيق ذلك؛ نظراً لهيبة الطوسي لدى الإماميّة، بمَنْ فيهم ابن إدريس. والفقيه في ثقافته الاستنباطية هذه يقيِّد مطلق آية القتال في معاملة الأسرى بالمنّ والفداء فقط بحديث ضعيف السند. وهذا الاستنباط ضعيف الحجّة؛ بضعف مستنده، وهو ما لا ينبغي المضيّ فيه في عملية الاستنباط، وخاصّة في شأن الدماء المحكومة بقاعدة الاحتياط فيها، فلا يجوز الإفتاء بالقتل بدون دليل قطعي، وينبغي الحذر الشديد في استباحتها. فطلحة بن زيد عامّي عند النجاشي، وأمّا عبد الله بن شريك (العامري) فروايته ضعيفة؛ لأنّ صدرها ضعيف، وذيلها مرسل، ولا دلالة فيها على الحُسْن، فضلاً عن الوثاقة؛ وذلك حسب الخوئي في معجم رجال الحديث([12]). وقال عنه النسائي في الضعفاء: إنه ليس بالقويّ([13])، وقال عنه الجوزاني: إنّه كذّاب([14]).

ويثاقف الفقهاء في استدلالهم على حكم الأسير بما يلي:

أوّلاً: معارضة الكتاب في نصّ محكم ومطلق بالخبر الضعيف، كما هو رأي محمد حسن النجفي، صاحب الجواهر، في حكم الأسير المحارِب، حيث يقول: فالذكور البالغون يتعيَّن قتلهم إنْ أُسروا وقد كانت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها، بلا خلاف محقَّق معتدّ به أجده فيه. وإنْ حكي عن الإسكافي أنّه أطلق التخيير بين الاسترقاق والفداء بهم والمنّ عليهم، ومقتضاه عدم القتل. ولكنّه معلوم البطلان نصّاً وفتوى. ولكنّ صاحب الجواهر، عوضاً عن الاستدلال على بطلان قول الإسكافي بالكتاب الكريم، استدلّ عليه بخبر طلحة بن زيد (المنجبر)، عن أبي عبد الله الصادق، عن أبيه: إنّ للحرب حكمَيْن:

1ـ إذا كانت الحرب قائمةً، ولم يثخن أهلها، فكلُّ أسير أخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار؛ إنْ شاء ضرب عنقه؛ وإنْ شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم، ثم يتركه يتشحَّط في دمه حتّى يموت، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ﴾ (المائدة: 33 ـ 34). ألا ترى أنّ المخير الذي خير الله تعالى الإمام× على شيء واحد، وهو الكفر، كما في الكافي، وفي بعض النسخ: القتل.

2ـ إذا وضعت الحرب أوزارها، وأثخن أهلها، فكلُّ أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام× فيه بالخيار؛ إنْ شاء منَّ عليهم فأرسلهم؛ وإنْ شاء فاداهم أنفسهم؛ وإنْ شاء استعبدهم فصاروا عبيداً. واختلاف النسخ في ما سمعته من الحكم الذي لا مدخليّة له في ما نحن فيه، مع عدم وضوح معناه، لا يقدح في دلالته على المطلوب. كما أنّ الاستشهاد فيه بالآية، التي هي في المحارب المسلم، المشتملة على غير القتل، كذلك أيضاً، مع احتمال كون المراد بذكرها التشبُّه في الحكم في الجملة؛ باعتبار كون الفرض من محاربي الله ورسوله وسعاة الفساد في الأرض؛ ولعدم مشروعيّة الأسر قبل الإثخان، انتهى.

ثانياً: إلغاء النصّ بالقول بنسخه، كما هو مذهب الكاساني الحنفي(587هـ) في بدائع الصنائع، حيث يقول: وأما الرقاب فالإمام فيها مخيَّر بين خيارات ثلاث: إنْ شاء قتل الأسرى منهم، وهم الرجال المقاتلة، وسبى النساء والذراري؛ لقوله تبارك وتعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ﴾، وهذا بعد الأخذ والأسر؛ لأنّ الضرب فوق الأعناق هو الإبانة من المفصل، ولا يقدر على ذلك حال القتال، ويقدر عليه بعد الأخذ والأسر…؛ ولأنّ المصلحة قد تكون في القتل؛ لما فيه من استئصالهم، فكان للإمام ذلك؛ وإنْ شاء استرقّ الكلّ، فخمسهم، وقسَّمهم…؛ ولنا قوله سبحانه: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾؛ ولأنّ ترك القتل بالاسترقاق في حقّ أهل الكتاب ومشركي العجم؛ للتوسُّل إلى الإسلام… وأما قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ فقد قال بعض أهل التفسير: إنّ الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وقوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ…﴾؛ لأنّ سورة براءة نزلت بعد سورة محمد، ويحتمل أن تكون الآية في أهل الكتاب فَيَمُنُّ عليهم بعد أسرهم على أن يصيروا عمالاً للمسلمين… ويحتمل أنّ المفاداة كانت جائزة ثم نسخت بقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾…([15]).

ثالثاً: العمل بنصّ الكتاب نصّاً محكماً بالمنّ والفداء بالعنوان الأولي، والقتل أو الأسر بالعنوان الثانوي، أي في حالة الخيفة من الأسرى. وذلك في قول مالك في المدوَّنة: أما مَنْ خيف منه فإنه يقتل([16])؛ لأنّ ظروف الحرب في الأزمان الغابرة لم تكن توفّر أسباب الحفاظ على الأسرى في أماكن خاصّة بهم، تمنعهم من الهرب، خلافاً لما هو عليه الحال في الوقت الحاضر.

ولتوضيح الرؤية في هذا الأمر فإنّه ينبغي التمييز بين آيات القتال وآية الحرابة وآية الأسر، ولا يصحّ الخلط بينها، ممّا يشوّه عملية الاستنباط:

الأمر الأوّل: إنّنا نرى أنّ الاستدلال بآية الحرابة هو في غير محلّه، كما يفهم من عدم مدخليّته فيه؛ لأنّ مورد الآية هو قطّاع الطرق والمسلّحين الذين هم كل مَنْ شهر السلاح وأخاف الطريق، سواء كان في المصر أو خارج المصر. فاللص المحارب في المصر وخارج المصر سواء. فعن أبي جعفر وأبي عبد الله: إنّما جزاء المحارب على قدر استحقاقه؛ فإنْ قتل فجزاؤه أن يقتل؛ وإنْ قتل وأخذ المال فجزاؤه أن يقتل ويصلب؛ وإنْ أخذ المال ولم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده ورجله من خلاف؛ وإنْ أخاف السبيل فقط فإنما عليه النفي لا غير([17]).

وواضحٌ هاهنا عدم دلالة هذه الآية على الأسير الذي يقع في أيدي الخصم في حرب بين الأمم، وتسمى اليوم بالحرب الدوليّة. أمّا المفسدون في مفهوم هذه الآية فهم المتمرِّدون أو مثيرو الشغب، فلا تعتبر أعمالهم حرباً بالمفهوم الاصطلاحي، وإذا وقعوا في أيدي الحاكم فلا يعتبرون أسرى، ولا يتمتَّعون بنظام حماية الأسرى. ثم استدلّ صاحب الجواهر بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ (محمد: 4)، ثم يعرّج على قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ (الأنفال: 68)، مشيراً بذلك إلى كنز العرفان في المنقول عن أهل البيت في الحكم المشار إليه في خبر طلحة بن زيد في القتل أثناء الحرب، وعدمه بعد انقضاء الحرب([18]).

الأمر الثاني: لا يصحّ القول بالنسخ؛ لعدم مدخليّة آيات القتال بالأسرى؛ لأنّ القتال هو ضرب الأعناق في المقاتلين، باعتباره من وسائل الحرب وآلاتها، ولا يكون في الأسرى؛ لأنّ الأسرى غير قادرين على القتال. ولا علاقة لزمن نزول سورتي القتال وبراءة بالنسخ؛ لاختلاف الموضوع بين آيات الأسر وآيات القتال.

ونخلص ممّا تقدم من صاحب الجواهر ومن الكاساني إلى أنّه لا يجوز القتل بعد انقضاء الحرب؛ لأنّ الآية ظاهرة في منع القتل بعد الإثخان، بل ظاهرها عدم الاسترقاق. ولكن الاسترقاق ثبت لدى صاحب الجواهر بالسنّة، من غير بيان يبيِّنه. وقيل: إنّ الأسر كان محرَّماً بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾، ثم نسخ، ولكنّ مصداقيّة الأسر أَوْلى لديه في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ([19]).

الأمر الثالث: إنّ واقع الاستدلال على حكم الأسير في مدلولات الآيات المتقدِّمة هو المنّ أو الفداء أثناء القتال، وبعد انقضائه لا القتل ولا الاسترقاق. وبيانه هو:

1ـ إنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ…﴾ يصدق على المقاتل، وليس على الأسير؛ لأنّ الأخير يخرج عن دائرة القتال عند أسره، فيكون حكم المقاتل أثناء القتال القتل، على فرض صدق الآية على الحرب. وهو ليس كذلك؛ لدلالتها على المفسدين من قطّاع الطرق والإرهابيّين بلغة اليوم، لا على الحرب بين الأمم([20]).

2ـ إنّ قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ (محمد: 4) يعني إذا غلبتموهم أثناء القتال، وأكثرتم فيهم الجراح، فَاْسِرُوهم، لا اقتلوهم.

3ـ إنّ قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ إنّما هو حكم الأسير أثناء القتال، وبعد انقضاء الحرب، ولا دلالة لها على الحكم عليه بالقتل؛ لعدم التمييز بين الحالتين في نصّ الآية التي جاءت بصيغة المطلق، ومن دون قيد. كما لا دلالة لها على الاسترقاق، كما يصرح بذلك صاحب الجواهر([21]).

4ـ إن آية المنّ والفداء آية محكمة، غير منسوخة. وما يستدلّ به على النسخ إنما هو في غير محلّه.

5ـ ولا يبقى من دليلٍ على القتل سوى خبر طلحة بن زيد، وهو ضعيفٌ، ولا يصحّ معارضته للقرآن؛ لأنّه زخرف. ولا دليل على نسخ آية المنّ أو الفداء. والأصل فيها الاستصحاب. وإنّ الإثخان في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ (الأنفال: 67) إنّما هو إكثار القتل([22])، وليس للنبيّ ذلك، وهو ظاهرٌ في عدم القتل([23]).

6ـ أما قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال: 67 ـ 68) فمفاده أن ليس للنبيّ أن يكون له أسرى فيقتلهم، ولولا كتاب الله في إباحة الغنائم والفداء في أمّ الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لمسَّكم في ما استحللتم قبل الإباحة عذاب عظيم([24]).

ولا يفوتنا هاهنا التنويه إلى أنّ أحكام الحرب التي وردت في القرآن الكريم ما زالت نافذة في القانون الدولي الإنساني، من حيث:

أـ إنّ آيات القتال نافذة في النزاعات المسلحة الدولية؛ بموجب المادة 2 المشتركة لاتّفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949، والبروتوكول الأوّل الإضافي لسنة 1977. ويعتبر محتجزو هذه النزاعات لدى الخصم أسرى حرب، يتمتَّعون بحماية اتّفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949.

ب ـ إنّ آيات البغاة نافذة في النزاعات المسلحة غير الدوليّة، ولا يعتبر محتجزوها أسرى حرب، إنّما يتمتَّعون بحماية البروتوكول الثاني الإضافي لسنة 1977، والمادة 3 المشتركة.

ج ـ إنّ أحكام الحرابة نافذة في أحكام المتمرِّدين والإرهابيّين، ولا يتمتَّع هؤلاء بحماية المادة 3 المشتركة؛ لعدم انطباق شروط النزاع المسلح عليهم.

وواقع الحال أنّ الأسر ليس عقوبة للمحارب الأسير، الذي فقد القدرة على القتال، وبالتالي القدرة على إيقاع الأذى بالخصم، وإنّما الأسر وسيلة للحيلولة دون ذلك، وقد تمّ. ولذا لا يجوز قتله؛ لأنه غير قادر على القتل. فيتنافى كلاهما، حيث تصبح وظيفة الأسر الحدّ من الجهد الحربي للخصم، وبشكلٍ متقابل للطرفين، وبذلك يمكن الحفاظ على حياة الأسير لكلٍّ منهما، ولا يصحّ ترك الاحتياط في الدماء.

ومن جهةٍ أخرى جذبت أخبار الآحاد العامّة من المسلمين بما ساعد على شيوع الغلوّ، والإفتاء بما يتعارض والدليل العقلي. وساعد على هذا الاتّجاه لدى الإمامية قرب التدوين من عصر الإمام من جهةٍ، واستجابة المدوَّن من الحديث لحاجات العلاقات الاجتماعية آنذاك، حتّى شاع في الوسط الإمامي القول بأن «الكافي كافٍ لشيعتنا»، مما ألقى نوعاً من الرهبة أمام أية محاولة علمية ناجحة في تحقيق (الكافي). وقد مهَّد هذا المناخ للفكر الأخباري لإرساء جذوره في هذه الفترة، وعلى يد الصدوق، الذي لم يسلم من النقد، حتّى من قبل تلاميذه، وعلى رأسهم المفيد(413هـ)؛ لأن الفكر الإمامي، وخاصة العراقي منه، مطبوع بالحركة والروح النقديّة. فتصدّى ابن أبي عقيل العماني(381هـ)، المعاصر للكليني، للقول برفض العمل بأخبار الآحاد، ولم يعتبرها حجّة، وأقام منهجه الفقهي على الاستدلال بعامّ القواعد الفقهيّة، والخبر الصحيح. وهو بهذا المنهج أوّل مَنْ فتق البحث العلمي في الأصول والفروع. ونقلت آراؤه في أمّهات المصنَّفات الفقهيّة الإمامية. وتبعه ابن الجنيد الإسكافي(378هـ)، الذي استدلّ بالعقل في استنباط الحكم الشرعي بالمقارنة بين الأشباه والنظائر، ممّا اعتبر عملاً بالقياس، كما هو ظاهرٌ في كتاب تهذيب الشيعة الجامع للأصول والفروع، وفي كتابه كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر الاجتهاد، ممّا أدّى إلى عدم الركون إليه في المصنَّفات الإمامية. بل وقول المفيد في التذكرة بأصول الفقه([25]) بأنّ ما يخصّص العموم دليل العقل والقرآن والسنّة الثابتة، نافياً أن يكون الرأي والقياس ممّا يثمر علماً؛ لأنهما لايخصِّصان عامّاً، ولا يعمِّمان خاصّاً.

وامتدّ هذا النهج إلى الطوسي(460هـ) في مدرسته في بغداد، حيث ميَّز بين: فقه الرواية، وهو فقه النصوص؛ وفقه الدراية، وهو فقه الاستنباط. وظهر في كتابَيْه (المبسوط) و(الخلاف) كمجتهدٍ مطلق متأثِّر بعبارات الجمهور، ونقل في (العدّة في الأصول) عن الشافعي وغيره. إلاّ أنّ الطوسي اهتمّ بالحديث على وجه الخصوص بعد هجرته إلى النجف الأشرف، في كتابه (النهاية)، على خلاف منهجه البغدادي المقارن. وانصرف إلى جمع الحديث في (الاستبصار) و(تهذيب الأحكام)، حيث ذكر فيها الأحاديث المتعارضة، وأوجه الجمع بينها، بما يدفع الفقيه إلى التحقيق فيها للتأكُّد من صحّتها، حيث لا يمكن الجمع بينها. ومن هنا يتبيَّن أنّ المسلك العقلي كان وما زال حالة عارضة في الثقافة الإسلامية عموماً، لدى مختلف المدارس الفقهيّة، منذ انحسار سلطان المعتزلة، الذي تزامن مع إرهاصات ضعف الدولة العباسية، حيث اهتمَّت العامّة بالغيبيّات، والانفعال بالروايات التي يشوبها الغلوّ، من خلال المنحى القصصي والإسرائيليّات وأسلوب الوضّاع في الترغيب والترهيب، سواءٌ أكان في مدح آل البيت أو الصحابة، حتّى ذهب الأصوليون إلى القول بالتسامح في أدلّة السنن؛ بدعوى رجاء المطلوبيّة، ممّا يضعِّف الروح العلميّة في تنقيح الحديث، سنداً ومتناً.

وأدَّت هيمنة شخصيّة الطوسي قروناً إلى شيوع النمط الأخباري في التعليم، والإفتاء بالاعتماد على الكتب الأربعة، رغم محاولة مدرسة الحلّة العقليّة العودة إلى الاستدلال العقلي. ورفض ابن إدريس(598هـ) العمل بالآحاد، وتطوَّرت أبحاث المحقِّق الحلّي(676هـ) والعلاّمة الحلّي(726هـ) في علم الأصول، وواصل علم الرجال والجرح والتعديل نموّه على يد جمال الدين ابن طاووس(673هـ)، وهو ما عُدّ محاولة جيّدة للدعوة إلى العمل بالعقل كدليلٍ مستقلّ، بينما رافق ذلك ضمور المدرسة العقلية لدى الجمهور، وخاصّة في مؤلَّفات أبي حامد الغزّالي(505هـ)، وابن تيميّة، وغيرهما.

ولكنّ سقوط بغداد في سنة (565هـ)، وهيمنة حالة الإحباط في الفكر الإسلامي، قد أدى إلى تنامي الفكر الأخباري، وانتشار التصوُّف أو العرفان، خاصّة بعد مجيء المغول، ثم الصفويّين، الذين اعتنقوا المذهب الإمامي، وأشاعوا فيه الفكر الإشراقي، القائم على الوجدان، بدلاً من البرهان. وممّا زاد في ضمور الفكر الاستدلالي تقريب الصفويّين للأخباريين، وقبولهم التعاون مع الدول الغربيّة في العلاقات الخارجيّة. وعملوا على الحدّ من نفوذ العقليّين، الذين رفضوا مثل هذا التعاون. وفضَّل هؤلاء الفقهاء البقاء في العراق، وفي مقدّمتهم: الشهيد الأوّل(786هـ)، والشهيد الثاني(965هـ)، وابنه صاحب المعالم(1011هـ)، وسبطه محمد صاحب المدارك(1009هـ).

وبقيت النجف بعيدةً عن نفوذ السلطان والتدخُّل في شؤونها، ممّا جعل ذلك مسلكاً خاصّاً بالمدرسة النجفيّة، تلتزم به إلى الآن. ودعم الصفويّون الحركة الأخبارية النامية في البحرين، الأمر الذي مهَّد لظهور تيار محمد أمين الإسترآبادي(1033هـ)، ويوسف البحراني(1186هـ)، والحُرّ العاملي(1104هـ)، والماحوزي(1129هـ)، الذي روَّج رأي الأخباريين في وجوب الجمعة في غيبة المعصوم.

كما ساعد على رواج الأخبارية تعاظم نفوذ العرفان لدى الإمامية، وخاصّة المدرسة الإشراقية، على يد الداماد(1041هـ)، والفيض الكاشاني(1090هـ)، والملا صدر الدين الشيرازي(1050هـ)، الذي انتقد الفقهاء، والاستدلال العقلي لدى الفقهاء، رغم كونه من روّاد التجديد في الفلسفة الإسلامية.

وفي هذه الفترة صُنِّفت الطائفة الثانية من مجاميع الحديث لدى الإمامية، وفي مقدّمتها: بحار الأنوار، لمحمد باقر المجلسي(1110هـ)؛ والوافي، للفيض الكاشاني(1090هـ)؛ ووسائل الشيعة، للحُرّ العاملي(1104هـ)، ممّا ساعد على الخمول الفكري، وخاصّة مع سقوط الدولة الصفويّة.

ولم يغيِّر القاجاريّون من نهج الصفويّين في محاربة الأصوليين، وتأييد الشيخ أحمد الإحسائي(1241هـ)، رأس جماعة الكشفيّة والمشاهدة، والذي قال بالتفويض والغلوّ. ولم يتوقَّف هذا التيار إلاّ بقتل الميرزا محمد الأخباري في الكاظميّة في 1232هـ. وإثر ذلك عمل الوحيد محمد باقر البهبهاني(1205هـ) على إعادة الروح العقليّة إلى المدرسة الأصولية، بفضل تقرُّبه من القاجاريّين، ثم جاء دور جعفر كاشف الغطاء(1298هـ)، الذي تصدّى بقوة للأخباريين، وكفّر الإحسائي، وساعده في ذلك دعمه للقاجاريّين، حيث أجاز لفتح علي شاه السلطة بالنيابة عنه، باعتباره نائب الإمام المعصوم. وفرض كتاب «القوانين»، للمحقِّق القمّي(1232هـ)، للتدريس في النجف الأشرف. وتوَّج مرتضى الأنصاري(1281هـ) المنهج الأصولي الحديث في كتابه الرسائل (فرائد الأصول). وهكذا تنتهي المرحلة الأخبارية بتحقُّق تحوُّلَيْن أساسيّين في المدرسة الأصولية الإمامية، هما:

الأوّل: التطوُّر الأصولي، بإقرار الوحيد البهبهاني بالحجّة الذاتيّة للقطع من جهة، وتمييزه بين مباحث القطع والظنّ والشكّ من جهة أخرى، واختصاص الأدلة الاجتهادية بالحكم الشرعي الواقعي، بينما تنتفي الأدلة الاجتهادية في موارد الشكّ، حيث تجري الفتوى بالحكم الظاهري بالعمل بالوظيفة العملية والشرعية. وعلى هذا الأساس أقام الأنصاري دراسة علم الأصول في المنهج الحديث عند الإمامية. وهذا التمييز لا نلاحظه في دراسة أصول الفقه عند الجمهور، حيث ترِدُ مباحث الشكّ، من استصحاب وبراءة واحتياط وتخيير، موزَّعة في مظانّ أبحاث الأدلّة الاجتهاديّة النقليّة والعقليّة.

الثاني: التطوُّر الفكريّ، الناجم عن بناء الاستنباط على وظيفة العقل المستقلّ، وذلك بتطوير الشيخ الأنصاري الملازمة بين العقل المستقلّ ـ الذي هو مناط التكليف ـ والشرع وهو المقدار المحدّد الذي يتّصل فيه العقل بالتبليغ، فما يقضي به العقل يقضي به الشرع، ليس فقط في الضروريّات، كما هو مبتنى الفكر الإمامي عادةً، كوجوب قضاء الدَّيْن، ووجوب ردّ الوديعة، وحرمة الظلم، واستحباب الإحسان، وإباحة المنافع الخالية من المضارّ، وغيرها، بل كذلك في جميع موارد الابتلاء عند غياب النصّ؛ لأن ملاك الأحكام الشرعية هو المقاصد الشرعيّة القائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد، التي يسعى العقل إلى استنباطها عند غياب النصّ عليها. فتتَّسع وظيفة العقل كلّما ضاقت دائرة النقل. وكان بإمكان المدرسة النجفية الحديثة الانطلاق من هذا التحوُّل في الرقيّ في الفكر الإمامي في عملية الاستنباط بالانفتاح على الدليل العقلي كدليلٍ مستقلّ عند غياب النصّ، ولكنّ تلامذة الأنصاري لم يملكوا الجرأة العلميّة للقيام بهذه المهمّة الجليلة، التي تنتظر مَنْ يقوم بها.

 

      المطلب الثاني: الدليل العقلي

الدليل العقلي هو حكم العقل بوجوب القطع بالحكم الشرعي، مباشرة (المستقلاّت العقليّة) أو بواسطة مرتكز شرعيّ (اللامستقلاّت العقليّة)، وليس هو الحكم العقلي مقابل الحكم الشرعي، كما يتوهَّم البعض، وإنما هو الوسيلة للوصول إليه؛ لأن الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي إنما ينهض بناءً على مرتكز شرعيّ من أمارة أو علّة أو حكمة. كما أنّ حكم العقل بالحركة على وفق القطع ارتكازيّ غير مرتبط بباب العقل بالتحسين والتقبيح؛ لأنّ حكمه تنجيزيّ، كيف وهذا المعنى ربما يكون جبلياً للحيوانات في حسّيّاتهم([26]). ولذا فإن العقل عند الأصوليين مدرك للأحكام الشرعية؛ لأنها ليست مدركات ذهنية مجرّدة حتّى تصدر عن العقل النظري، ولا هي وقائع خارجية فعليّة تدرك بالعقل العملي، بل هي واقعة في عالم الاعتبار، باعتبارها قضايا حقيقية، تعرف بـ (المطلق) عند هيغل، و(الكلّيّات) عند راسل، و(لوح الواقع) عند الصدر. فالعقل كاشفٌ عن الحكم الشرعي، وطريق إليه، من جهة استمرار التكليف مع انسداد باب العلم، وبدونه يتعذَّر التكليف؛ لعدم منجِّزية الحكم الشرعي إلاّ بعد العلم به، أو قامت لديه حجّة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم، طبقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ الشارع يحاسب على التنجيز، لا على مجرَّد الخطاب غير المنجّز. ولا شكّ في انسداد باب العلم قطعاً؛ لبداهة عدم العلم اليقيني بالأحكام الشرعيّة بالأدلة القطعيّة المتواترة أو المحفوفة بالقرائن القطعيّة، إلاّ بالضروريّ منها، وهي قليلٌ، ولا يفي بالأقل من الأحكام الشرعية. أما انسداد باب العلمي فلا ريب فيه، من حيث عدم حصول اليقين بالحكم الشرعي؛ لأن استنباطه إنّما يتمّ بالأمارات المعتبرة شرعاً بالظنّ، لا بالقطع؛ حيث إنها تقوم على حجّية الظواهر والأخبار الموثَّقة من قبل الفقيه بوثاقة الراوي أو من سائر القرائن والأمارات الأخرى ظنّية الدلالة، بحيث لا يبقى كبير فارق في الظنية بين دلالة الدليل العقلي المستقلّ وبين دلالة هذه الأمارات الظنية، سواءٌ كانت هذه الظنون في كلا الدليلين من الظنون المطلقة أو الظنون المعتبرة، وسواء كان هذا الاعتبار ذاتيّاً بقناعة الفقيه أو موضوعيّاً بالقرائن المتَّفق عليها. وبالجملة إنّ العلم الذي يؤخَذ في لسان الدليل العقلي المستقلّ هو العلم الطريقي، وهو كذلك في باب الظنّ عن طريق الأمارات والأصول المحرَزة، فتكون قائمةً بنفسها مقام العلم زمن الانسداد؛ لأنّ طريقيّة العلم وكاشفيّته هي ذاتها في الحالتين. فإذا ادُّعي نفيها للعلم بالحكم الشرعي بالأدلة القطعيّة فإنها تنفي العلم بالأدلّة الظنّية كذلك، وإلاّ يتوجَّه كلام الأخباريين بأنه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة. وهكذا فإنّ الحكم الشرعي المستكشَف من المستقلاّت العقليّة يكون ممّا وصل إلى المكلَّف بتبليغ الحجة المدركة، وهو العقل، الذي به يُثاب، وبه يعاقب، كما في الخبر، فلا خصوصيّة فيه للسماع من المعصوم. كلّ ذلك لأنّ الحجّية والطريقية من الأحكام الوضعية المتأصِّلة بالجعل، ممّا تنالها يد الوضع والرفع ابتداءً، وليست منتزعة من الأحكام التكليفية. وإذا كان كشف الأمارة والدليل العقلي المستقلّ كشفاً ناقصاً فإنّ الشارع يتمِّم هذا النقص، ولو إمضاءً؛ لأنّ المجعول هو ذات الطريقيّة في إثبات الحكم الشرعيّ، فإنْ أصابه كان منجَّزاً، وإنْ أخطأه كان معذراً([27]).

وعليه، فإن الدليل العقلي يستقلّ لبيان الحكم الشرعي في غياب الدليل النقلي، بالدرجة ذاتها من الظنّية؛ وذلك:

أـ لأن الظنّ بالحكم حجّة، بناءً على الانسداد، تماماً كالظنّ بالحكم ذاته، باعتباره نائباً عن العلم عند غيابه، وهو حجةٌ، سواءٌ وقع على الحكم أم على طريقه؛ لأن ظنّ الفقيه حجّة في حكمه، وفي طريقيّته؛ إذ لا فرق في الحجّية بين المسائل الفقهية والمسائل الأصولية. فيكون الدليل العقلي كاشفاً للحكم الشرعيّ، بناءً على كاشفيته.

ب ـ لأن الظنّ بالحكم حجّة؛ لأنّ المكلَّف عاجزٌ عن الامتثال العلمي في غياب الدليل النقلي. وإنّ الامتثال بالشكّ والوهم مع قدرته على الظنّ مرجوحٌ؛ بغية الامتثال للطاعة. وكلّ ما يعود إلى الطاعة فهو من وظيفة العقل، دون الشرع. وإنّ أمر الشارع بالطاعة إرشاد إلى حكم العقل، على أساس حكومة الظنّ على الشكّ والوهم.

ويعمل الدليل العقلي في دائرة التشريع الإسلامي، وليس في قباله؛ لأنه يستقرئ الدليل العقلي، ليواكبه من خلال المفردات الجديدة التي لم يرِدْ فيها نقلٌ، ليربط بينها وبين المفردة النصّية، ليخرج إلى محصّلة شرعيّة مستخلصة بالربط بين العقل والنصّ بالدليل العقلي. ففي القياس طرفان: أحدهما: الأصل المقاس عليه، وهو الحكم الشرعي؛ والآخر: الفرع، وهو الحكم المقاس على الأصل. والملازمة العقلية بينهما بالعلّة المنضبطة الجامعة لموضوع الحكمَيْن. فالعقلي هو الدليل، وليس الحكم، الذي هو حكمٌ شرعي بدلالة القياس. ويربط المتكلِّمون العقل بمفهوم الحسن والقبح العقليّين لاستحقاق الثواب والعقاب، والمدح والذمّ؛ لأنّ المركوز في العقل وما يصدر عنه هو من المبادئ الأولية بين البشر، وبين المكلَّف والشارع. ويرفض الأشاعرة هذا الربط؛ بدعوى أنّ العقل لا يستقلّ بتقرير الثواب والعقاب، ولذا فلا توجد ملازمة بين العقل المستقلّ والشرع لديهم؛ لأنّ أحكام العقل العملي لا تكفي بمفردها لإثبات هذه الملازمة، حيث يلزم إخضاعها لبرهان العقل النظري، الذي لا يستطيع إثبات هذه الملازمة؛ لأنّهم لا يرَوْن العقل قادراً على إدراك أنّ الحسن يقضي بالضرورة اقتضاء المدح والثواب، ولا أنّه مدركٌ أنّ القبح يقتضي العقاب.

والواقع أنّ الفقه يستند إلى الكُبْرَيَات الأصوليّة لإثبات الحجّة الشرعية، وإلى القضايا الكلامية باعتبارها كلّيات أصولية. ولطالما اعتمدت الأبحاث الأصولية على علم الكلام، ابتداءً بقضية التحسين والتقبيح العقليّين، واستناد البراءة العقليّة عليها بالنظر لقبح العقاب بلا بيان. وقد اتَّجه الاستنباط إلى اتّجاهين متباينَين هما:

1ـ المدرسة الأشعريّة: وتنفي الرابط بين الحكمة والحكم الشرعي. وإنّ علل الشرع مجرّد علامات محضة تدرَك بالاستقراء عند الغزالي. فعادة الشرع أن الأمر والنهي مرتبطان بالمصلحة والمفسدة؛ لا لأن الشرع يفعل ذلك لعلّة أو حكمة. وهذا يعني أنّ المقاصد الشرعية تدخل في عالم الاحتمالات، لا في عالم الحقائق. وليست الحكمة الإلهية قائمة على الربط بين العقل والشرع. ولكنّ المتأخِّرين من الأشاعرة أقرّوا بأن المقاصد الشرعية قائمة على علل شرعيّة محدَّدة، يتعيَّن على الفقيه إدراكها لاستنباط الحكم الشرعي، حيث دلّ الاستقراء على أنّ الأحكام الشرعية موضوعة لمصالح العباد، دون أن يكون ذلك ممّا يدرك بالعقل النظري المستقلّ، سواءٌ أكان ذلك في عالم الاعتبار والتشريع أم في عالم الخلق والتكوين. وفي هذا المنحى لا تقوم الملازمة بين العقل والشرع على أساس العلّيّة، بل بما يحكم به الشارع وحسب، وهو مذهب الآمدي في (الإحكام في أصول الأحكام)، والشهرستاني في (نهاية الإقدام)، والشاطبي في (الموافقات)، والرازي في (المحصول في أصول الفقه). هذا على الصعيد الكلامي، أما على صعيد الاستنباط فإنّ المدرسة الأشعرية المتأخِّرة تعمل بالقياس ظنّي العلّة، إلى جانب القياس قطعيّ العلّة؛ ربطاً بين العقل المستقلّ والحكم الشرعي، على أساس العلّيّة، لا الشرعيّة. وهذه مفارقةٌ فكريّة ناجمة عن إنكار الملازمة بين العقل والشرع كلاميّاً، والعمل بها استنباطيّاً، ممّا يضيِّق شقة الخلاف بين الأشعريّين والعدليّين.

2ـ المدرسة الإماميّة: أمّا الإماميّة فإنّ المفارقة عندها مقلوبة. فهي القائلة بالتحسين والتقبيح العقليّين في علم الكلام، وتنفيه في الاستنباط. فمن جهةٍ ترى أنّ العقل يؤمن بأنّ التشريع تابعٌ لملاكات المصلحة والمفسدة على النحو الإجمالي، إلاّ أنّها ترى العقل المستقلّ عاجزاً عن إدراك هذه الملاكات، والتي لا تدرك إلاّ بالنصّ. وهم في هذا ينحُون بالضرورة منحى الجمهور. وهذا عينُ ما توصَّل إليه المتأخِّرون من الإماميّة على الصعيد النظري في الأقلّ، بالقول بأنّ غرض الأحكام الشرعيّة هو حفظ المقاصد الخمسة، ولكنْ دون أن ينعكس ذلك في عملية الاستنباط لديهم. فلا تعمل الإماميّة بالقياس، بل هناك شعورٌ مضادّ له، مبالَغٌ فيه كثيراً. ولعل مردّه كثرة اللجوء إليه لدى فقهاء الجمهور، خاصّة مع وجود المعصوم. ولعلّ مردّ الحذر من القياس هو قوّة التيّار الأخباري الذي حشر التراث الإمامي بالأخبار الناهية عن القياس، وهي أخبار آحاد، ومراسيل، لا يمكن الاحتجاج بها في تعطيل حكم العقل. وفي الوقت الذي توسَّعت الأشعرية بالعمل بالمقاصد الشرعية في الاستنباط فإنّ الاتّجاه الحديث عند الإمامية هو الدعوة إلى استنباط الحكم الشرعي في غياب الدليل النقليّ بناءً على الدليل العقلي المستقلّ، بالاستناد إلى مقاصد الشريعة. وهذا يسوق بالضرورة إلى العمل بالقياس ظنّي العلّة، والقياس بالحكمة، وهو القياس الخفيّ عند مالك.

ولكنّ المدرسة النجفيّة الحديثة، وعلى يد أستاذها مرتضى الأنصاري، تسبغ الطابع البديهي على حجّية اليقين، ومدركات العقل العمليّ، والربط بين الحسن والقبيح ومقتضاهما. فالعقل لديه يدرك بالضرورة استحقاق الثواب والعقاب؛ لأنه حاكم على هذه المدركات، وليس الحسن إلاّ استحقاق المدح، والقبح استحقاق الذمّ، وإلاّ فلا جدوى من هذه المدركات؛ لأنّ العقل ليس مجرَّد مرآة لتصوُّر المدركات الذهنية والخارجية، وإنّما هو مدرك لمعانيها ومقاصدها كذلك. ووجه ذلك أنّ العقل يدرك الارتباط بين الأحكام الشرعية والمصالح والمفاسد، وإنّ غاية هذه الأحكام جلب المصالح ودرء المفاسد. وما دام الحسن مصلحة فهو يقتضي الثواب، وما دام القبح مفسدة فإنه يقتضي العقاب، وذلك حتّى يستقيم الاجتماع، وهو ما يقتضيه العقل النظريّ، ويبرهن عليه، بقطع النظر عن التجربة والعرف بمقتضى الظروف عند الأنصاري والخوئي؛ لأنّ الربط بين إدراك الحسن وبين نتائجه هو من مقتضيات العقل النظري، الذي يقتضي الجدوى من مدركاته، والقول بخلافه يؤدّي إلى القول بالتفكيك بين الشيء وذاته. ويقوم العقل العملي بنقل هذه المدركات إلى عالم الأفعال بالقول: إنّ هذا الفعل صحيح؛ لأنه حسن، وإن ذلك الفعل غير صحيح؛ لأنه قبيح. ثم يرتِّب العقل العملي النتائج الاجتماعية على هذه المدركات؛ لأن إتيان الحسن يقتضي الثواب، وإنّ إتيان القبيح يستلزم العقاب. وهذا جليّ في الضروريات، وإنما الخلاف ينحصر في ما عداها. ولا يصحّ القول: إنّ العقل إذا ملك القدرة على إرجاع كلّ شيء إلى عنوانه لما كانت هناك حاجةٌ إلى الشرع؛ ذلك أن العقل بما هو عقلٌ يملك هذه القدرة، إنّما المشكلة في الإنسان الحامل لهذا العقل. فالحاكم المستبدّ يدرك بعقله أنّ الاستبداد ظلمٌ، ولكنّه يرفض في مواجهة مواطنيه الإقرار بأنّه مستبدّ، لا بناءً على احتجاج عقليّ، وإنّما لأنه يريد الاحتفاظ بالسلطة، لا لضرورة عقلية، وإنما لنزوة شهويّة، وهي شهوة السلطة والحكم. وبناءً عليه يتدخَّل الشارع ليقرّ للمواطنين حقّ الانتفاض عليه في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ (الشورى: 39)، حتّى يدرك هذا الحاكم أنّ الشارع إنّما يتدخَّل ليكشف له أمام المواطنين زيف ادّعائه بأنه عادل، كما يفهم من قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ (النحل: 14). وفي هذا يقول الشاعر:

إذا الملك الجبّار صعَّر خدَّه

مَشَيْنا إليه بالسيوفِ نعاتِبُه

بمعنى أننا نجادله بالسيف في ادّعائه العدل ادّعاءً زائفاً. فتدخُّل الشارع ليس زائداً على المطلوب، بل هو ضروريّ لتأكيد الملازمة بين قبح الظلم واقتضاء الانتفاضة ضدّ الظالم الذي يدّعي زوراً أنّه عادل، وأنه يوظِّف العقل جدليّاً للدفاع عن شهوته في السلطة، وهو يعلم أنّه كاذب، وهو مفاد قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ (الكهف: 103 ـ 104). وإلى هذا يرد اختلاف الناس في أحكامهم؛ لأنّهم يدافعون عن مصالحهم الذاتية، وإنْ كانت على حساب مصالح الآخرين، كما يفهم ذلك في قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ (النحل: 14). بل إنّ الظالم قد يمضي في غيّه، حتّى يتوهَّم أنّه محقٌّ في ادّعائه العدل، مما يجعل تدخُّل الشارع لينبِّه على هذا الوهم الذي يقع فيه الإنسان، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 11 ـ 12).

وإذا كان الأمر كذلك فالملازمة قائمة بذات الحكم عند مَنْ يؤمن بها بوجود الدليل على الحكم الشرعي، ولا يحتاج مَنْ ينكرها إليها؛ لوجود هذا الدليل. إنّما المشكلة تقوم عند فقدان الدليل. فهل يؤدّي العقل وظيفته باستنباط الحكم الشرعي من خلال المستقلاّت العقلية، وذلك بالملازمة بين العقل والشرع، أم ينكص عن هذا الأداء؛ لعدم إمكان هذه الملازمة؟

وجوابه: إنّ العقل من صنع الشارع الحكيم، منحه للإنسان؛ لتوظيفه عند الاقتضاء. وانعدام الدليل الشرعي النصّي يقتضي تحكيم العقل من باب أولى؛ للوصول إلى الحكم الشرعي؛ لانسداد باب العلم به، حيث يتولَّى العقل وظيفة الوصول إلى الله تعالى من خلال معرفة الحكم الشرعي؛ لأن العقل هو مناط الأمانة التي حملها الإنسان، بينما أشفق الغير منه، وعليه أن يحملها بالفعل، وإلاّ فلا معنى لهذه الأمانة إذا نكصت عن هذا الاقتضاء عندما ينقطع الاتّصال بالشارع عن طريق النصّ. وقد أطبق العقلاء على الالتزام بأن دفع الضرر المظنون احتياطٌ واجب، لا مستحسن، كما هو الشأن في وجوب شكر المنعم، الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى، ولولاه لم يثبت وجوب النظر في المعجزة، ولم يكن لله على غير الناظر حجّة([28]). ولمّا كانت الرسالة المحمّدية هي خاتمة الرسالات، فلا يُنتَظر في معرفة الحكم الشرعي مزيدٌ من الوحي، ولا بدّ من الدليل العقلي لبقاء أحكام الشريعة، وإلا سيكون مآل الشريعة الإسلامية هو مآل ما سبقها من الشرائع. وبناءً عليه لا يُقال بأنْ لا حجّة للعقل في اكتشاف الحكم الشرعي؛ لأن دلالته ظنّية، وأن شرع الله تعالى لا يؤخَذ بالظنون؛ لأنّه لا حيلة للمكلَّف لتوسُّل الحكم الشرعي بغير ذلك؛ لانقطاع الصلة بالمعصوم، وانسداد باب العلم بذلك، وكما جاء في قوانين الأصول عدم حرمة العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم([29])؛ لأنّ النصوص متناهية، بينما الوقائع غير متناهية، وما يتناهى لا يدرك ما لا يتناهى، بل العقل يحكم بالتكليف بصرف النظر إلى الطاعة، بل حتّى باحتمال عدمها، حيث يحكم العقل مستقلاًّ بجواز المخالفة المحتملة. وإذا كان الظنّ بحاجة إلى التحريك على وفقه، بجعل الطريقيّة من المولى؛ كي نصل به إلى التنجيز؛ لأنّ الطريقيّة إنشاءٌ في ظرف الجهل، حاكية عن لبّ الإرادة القائمة بمتعلَّقها بفرض وجوده، وهو المفروض في المقام؛ لأن دائرة إنشائها منحصرة بمقدار دائرتها هذه، ولا نصل إلى التنجيز ما لم ينتهِ الأمر به إلى الجزم بالغرض، ولو بالاعتبار بالظنّ بالواقع، وهو من أحكام اليقين غير المرتبط بالظنّ أصلاً، حيث يمتاز الظنّ عن القطع بصلاحيّته لجعل التحريك على وفقه، بل وجعلت الطريقيّة فيه ولو بالجملة، دون القطع؛ لأنّها ذاتيّة فيه. ويقوم الظنّ مقام اليقين؛ بجعل الطريقيّة فيه، في وروده على الأصول العمليّة، التي يكون العلم غاية للعمل بها؛ وذلك أنّه يكفيه عنايته في تتميم كشفه في لسان الدليل؛ لأنّ رفع العقاب منحصرٌ بالعلم بالواقع، أعم من العلم الحقيقي بالوجدان أو العلم الجعلي بالجعل([30]).

بل إنّ مسلك الظنّ في مقام الإثبات هو حكومة من العقل بلا كشف جعل شرعيّ؛ للإجماع على بطلان الخروج من الدين، حتّى ولو لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً، بالنظر لعدم عقاب المنجّز بالعلم أو غيره، بل ومع عدم صلاحية العلم الجعلي التنزيلي للمنجّزية، وأنه يكفي في المنجّز القطع باهتمام الشارع في حفظ مرامه حتّى في ظرف الجعل بخطابه المستكشف ذلك من إنشائه بأيّ لسان، أو من الخارج، ولو من مثل بطلان الخروج من الدين وأمثاله. ففي هذه الصورة يستقلّ العقل بمنجّزية احتماله، بلا نصيب للشرع فيه، وإنّما شأنه إثبات الاهتمام المذكور بجعله، وإنشائه بأيّ لسان. فليس المرجع إلاّ الحكومة العقليّة، بعد احتمال إبطال الشرع في إثبات أصل الطريق إلى العقل، وحينئذ لا مجال لكشف جعل شرعيّ أبداً([31]).

ويترتَّب على مبدأ الانسداد ما يلي:

أـ إنّ ظنّ الفقيه بحكم أنّ الشيء يقتضي العمل به لجلب مصلحة أو دفع مفسدة هو غاية الحكم الشرعي. وحجّيّة هذا الظنّ عقليّة، وإنْ كانت غير ذاتية؛ لأنّها لا بدّ أن تنتهي إلى القطع بواسطة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وإذا كانت حجّية الظنّ عرضية فإنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات؛ لأنّ مخالفة المجتهد لظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر، ودفع الضرر لازمٌ؛ لأنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب على الترك، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنٌّ باستحقاق العقاب على الفعل، أو لأنّ الظنّ بالوجوب ظنّ بوجود المفسدة في الترك، كما أنّ الظنّ بالحرمة ظنٌّ بالمفسدة في الفعل، بناءً على قول العدليّة بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. وقد جعل في النهاية كلاًّ من الضررين دليلاً مستقلاًّ على المطلب. كما وأن ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه، بل الأقوى، كما صرَّح به الطوسي في عدّة الأصول، في مسالة الإباحة والحظر، حيث تمسَّك بعد العقل بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ([32]).

ويجدر القول بأنّ مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنّة للضرر، ودفع الضرر المحتمل واجبٌ، فكيف بالمظنون؟ فيكون العمل بالظنّ القائم على الحكم الإلزامي واجباً([33]).

ولا يصحّ الدفع بالبراءة العقلية أو الشرعيّة؛ لأنّ الظنّ وارد عليهما في مورد الشكّ، ولو لم يتمّ العمل بالظنّ لانتقل المكلَّف من دائرة الظنّ إلى دائرة الشكّ. ويزول الشكّ بالظنّ من باب الورود والحكومة؛ لأنّ الثاني راجحٌ عليه، ورافعه موضوعاً. فمتى ما حصل الفقيه على الحكم الشرعي بالظنّ ارتفع الشكّ، وانعدمت الحاجة إلى العمل بالأصول العمليّة. فالقول بأن الكبرى ممنوعةٌ مردودٌ؛ لأنّ الضرر العقابي إنّما يرِدُ في أطراف العلم الإجمالي، أو في الشبهات البدوية قبل الفحص، من جهة، ولا تجري البراءة في غيرهما؛ لما تقدَّم، من جهة أخرى. أما الضرر الدنيوي فمحكومٌ بتبعية الأحكام مطلقاً للمصالح والمفاسد الدنيوية عند العدلية، ولا تحتاج إلى دليل إلاّ عند الأخباريّة ونحوها.

ب ـ يؤدّي العمل بالاحتياط في موارد العلم الإجمالي إلى العسر أو التضادّ، عند دوران الأمر بين محذورَيْن. وإنّ الامتثال الحرجي مخالف للطريقة العقلائية، فضلاً عن الطريقة الشرعيّة؛ لأنّ أدلّة نفي الحرج إنما تنفي الجعل الحرجي، ولا يشكل الحرج الحاصل الامتثال الشرعي، ولا تنجز العلم الإجمالي أصلاً([34]).

ج ـ ويرتفع العسر بالعمل بالظنّ، لا بالبراءة؛ لأنّ الحكم بها يؤدّي إلى إلغاء الشرع، ويرفع أكثر الأحكام، على قول الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر، نقلاً عن الرسائل؛ وذلك لأن الأحكام لا ترفع بالأصل، ولا يشكّ فيها حتّى يحتاج إلى الإمام([35]).

د ـ إنّ الظنّ بالحكم حجّة؛ لأن طريقيّته حجّة، ويصبح العمل بما هو دونه بالوظيفة العمليّة في مورد الشكّ عملاً بالمرجوح؛ لأنّ الأحكام العقلية عامّة لا تقبل التخصيص، بقطع النظر عما إذا كان العقل الحاكم محيطاً إحاطة تامّة بما له دخل في حكمه جزئيّة أو كليّة؛ لأنّ الأحكام الشرعية أحكام ظنّيّة، وإلاّ كان الفقيه مصدراً للحكم الشرعي، شأنه شأن المعصوم المدرك للحكم الواقعي الحقيقي، لا الظنّي. وما دام العقل يقضي بحجّية الظنّ فإنّ الحكم العقلي حجّة عقلاً. وحيث لا دخل للشارع في طريقيّة العلم فإنه لا دخل له في طريقيّة الظنّ متى ما قطع الظانّ بظنّه. والقطع ذاتيّ الحجّة متى ما قام على مستنده العقلي. وبناءً عليه يكون العمل بالقياس مشروعاً متى ما تمّ القطع بالعلّة، سواء عن طريق الكشف عن الحكم الشرعي من باب الطريقيّة أو من باب الحكومة، حيث يكون الظنّ كالقطع عند العقل. فكما لا وجه للنهي عن اتّباع القطع فكذا الظنّ الانسدادي بناءً عليه([36])، من حيث إنّ العقل يحكم بأنّ الظنّ طريق للحكم بعد انسداد باب العلم. ولا بدّ من الامتثال للشرع بالقياس، باعتباره طريقاً للحكم، وليس باعتباره دليلاً عليه، وذلك على سبيل الموجبة الكلّية، حيث الطريقيّة تثبت لكلّ ظنّ، بما في ذلك بالقياس، متى ما قطع القايس بظنّه. لذا فإنّ النزاع لا يدور حول مشروعيّة القياس، وإنّما هو في القطع بالعلّة التي يقوم عليها؛ لأنّ ثبوت العلّة يؤدّي بالضرورة إلى الحكم؛ بسبب عدم جواز تخلُّف المعلول عن العلّة.

ولبيان الموقف من القياس، وإشكاليّته بخصوص العلّة، يتمّ التمييز بين نوعَيْه:

الأوّل: القياس منصوص العلّة، أو القطعي، أو الجلي. وهو القياس الذي تعرف علّته من النصّ الشرعي، وبذلك تكون مسالكه مقطوعاً بها. ولا نزاع في شرعيته؛ بالنظر للقطع بعلّته من قبل الفقيه، بتحقيق المناط الظاهر في الحكم الشرعي، وذلك:

أـ بقياس الأولوية، الذي تعرف علّته بمنطوق النصّ، كحرمة ضرب الوالدَيْن، قياساً على حرمة القول لهما: أفٍّ.

ب ـ بالدلالة بالإيماء على العلّة. فالإفطار علّة للكفّارة، والسفر علّة للقصر، وعدم الماء علّة للتيمّم.

ج ـ بالدلالة المناسبة أو بالاقتضاء على العلّة بين الحكم والموضوع. فحفظ النفس علّة للقصاص، وحفظ المال علّة في الضمان. ودلالة حديث وُضِع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه على الإثم، لا على واقع الخطأ والنسيان والإكراه؛ لأنّ هذه الوقائع من طبيعة الإنسان.

د ـ بالدلالة على العلّة بالشبه، وهو الوصف المناسب للحكم، كتعليل الحرمة بالسكر.

هـ ـ دلالة الملازمة في قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ على أن سهم الأب الثلثَيْن؛ للزوم قاعدة (للذكر مثل حظّ الأنثيين)، فالعلة هي النصفيّة.

الثاني: القياس مستنبط العلّة. وهو القياس الظنّي، الذي يتوخّى فيه الفقيه العلّة، بتخريج المناط من بين أوصاف عديدة، يمكن أن يقوم عليها الحكم الشرعي المقاس عليه. وينازع معظم الإمامية والظاهرية في صحّته؛ لاحتمال عدم توصُّل الفقيه إلى علّة الحكم، فالنزاع في العلة هو في مرحلة الإثبات، لا الثبوت؛ بالنظر إلى عدم إمكان تخلُّف المعلول عن علّته. ووجه النزاع في الإثبات هو إمكان عدم إصابة العلّة للأسباب التالية:

أـ عدم تمام وصف العلّة.

ب ـ الخلط بين العلّة والأوصاف الأخرى، كالحكمة.

ج ـ عدم اطّراد العلّة أو تعدّيها إلى الحكم.

ولكن إذا ما قطع الفقيه بالعلّة التي توصَّل إليها فقطعه حجّة عليه، وعليه الامتثال للحكم الشرعي الذي قطع به، سواء أكانت العلّة منصوصاً عليها أو مستنبطة. وهو ما يفهم من قول ابن زهرة الحلبي(585هـ) في (الغنية) بأنه «يجوز من جهة العقل التعبُّد بالقياس في الشرعيّات؛ لأنه يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية، ودليلاً عليها. ألا ترى أنه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلاً بين أن ينصّ الشارع على تحريم جميع المسكر وبين أن ينصّ على تحريم الخمر بعينها، وينصّ على أنّ العلّة في هذا التحريم هي الشدّة. لا فرق بين أن ينصّ على العلّة وبين أن يدلّ بغير النصّ على أن تحريم الخمر لشدّتها، أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظنّ عندها أنّ تحريم الخمر لهذه العلّة، مع إيجابه القياس عليها في هذه الوجوه كلّها؛ لأن كلّ طريق منها يوصل إلى العلم بتحريم النبيذ المسكر. ومَنْ منع من جواز ورود العبارة بأحدها كمَنْ منع من جواز ورودها بالباقي»([37]).

ولذا فإنّ طريقيّة العلم وكاشفيّته ذاتيّة، قائمة بنفسها، ولا يمكن نفيها في عالم التشريع، ولا التصرُّف بها بوجه من الوجوه. ولا يبقى بعد القطع بطريقيّة القياس لاكتشاف الحكم أمام المعارضين للقياس إلاّ الاحتجاج بخروجه عن الحجّية بالتخصُّص. فإذا كان هذا التخصُّص بالاستدلال بمثل رواية (أبان) فهو من باب الاستدلال بالضعيف من جهة، وبالقياس من جهة أخرى. فالرواية ذاتها قائمة على الاستدلال بقياس دية المرأة على دية الرجل، وهو القياس الذي يقيسون به، ثم ينكرونه. أما في غير رواية أبان فعلى فرض صحّتها هي محمولة على النهي عن القياس والاستحسان مع وجود المعصوم، وهو ما يُفهَم من الروايات التي تروى عن الصادق بسبب شيوع العمل بالقياس والاستحسان من قبل الجمهور، ومنها: رواية (السنّة إذا قيست محق الدين). ولم ترِد الرواية بأنّ القرآن إذا أخذ بالقياس محق الدين. وأغلب أوجه الاستدلال بعدم حجّية القياس أنها تخصّ القياس مقابل النصّ، ولا يقول أحدٌ بالقياس مقابل النصّ؛ لأنّ النصّ وارد عليه، علماً بأنّ الاجتهاد إنّما يرِد في النصّ، لا في مقابله.

الثالث: القياس بالمصلحة. وهو القياس المبنيّ على إلحاق حكم واقعة بأخرى لمساواتها في المصلحة ذاتها. ويتولّى الفقيه تخريج المصلحة من الواقعة لما لها من أوصاف متعدِّدة، كما هو شأن القياس مستنبط العلّة. وكلّ ذلك في إطار مقاصد الشريعة التي يدركها الفقيه؛ إمّا من خلال القواعد الفقهية؛ أو من خلال السياق التشريعي. ومن ذلك: قياس مطلق الغسل المندوب والمباح على الأغسال الواجبة في إجزائها عن الوضوء؛ لأنّ المصلحة في جميع هذه الأغسال هي الطهارة الواردة في آية الوضوء، وخاصّة أنّ التطهير في الأغسال يشمل جميع أجزاء الجسم، بينما التطهير في الوضوء يخصّ بعض هذه الأجزاء، ومَنْ يملك الكلّ يملك الجزء، كما هو منطق العقلاء. والحكم بالحكمة القطعيّة نصّاً أو تخريجاً حجّة؛ بالنظر إلى الحجّة الذاتيّة للقطع.

وهذا هو القياس الخفيّ، الذي اشتهر به مالك وتلامذته، والمسمّى بالمصالح المرسلة.

ويذهب منهجٌ جديد في الحوزة العلميّة إلى العمل بمقاصد الشريعة في باب الاستنباط. وينبغي التنويه أنّ العمل بها إنّما يجري مجرى عملية الاستنباط الاعتيادية في علم الأصول، وليس في مواجهتها، كما يبدو من لسان بعض الداعين إلى بناء العملية الاستنباطية كلّها على مقاصد الشريعة؛ لأنّ مقاصد الشريعة في قياس المصلحة إنما يقع في طريق الحكم الشرعي، وليست هي الحكم الشرعي في حدّ ذاته، ممّا ينبغي التنويه. إذ لا شكّ، بل قطعاً، أننا مكلَّفون تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع عن السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقة كذلك مقام القطع، ولو بعد تعذُّره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هي الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعليّ، الذي لا دليل على عدم حجّيته؛ لأنه أقرب إلى العلم، وإلى إصابة الواقع ممّا عداه([38]).

لقد كانت الثقافة الإمامية، ولدى الجمهور، هي موقف الحذر من الاستنباط من آيات القران الكريم، إلاّ ما ورد في آيات الأحكام، التي قدَّرها الفقهاء بخمسمائة آية، ولم تتوغَّل هذه العملية في أعماق القرآن وقواعده العامّة. وأغفل الفقهاء من الإمامية عالم مقاصد الشريعة؛ خشية الوقوع في القياس، بنوعَيْه: الجليّ؛ أو الخفيّ، أو في الاستحسان. وإذا سلَّمنا بعدم حجّية القياس في العبادات، جرياً مع عموم الفقهاء؛ لعدم القدرة على إدراك ملاكات أحكامها؛ لأنها توقيفية، فإنّ الأمر مختلف في أحكام المعاملات والعلاقات السياسية والاجتماعية، التي تدور مدار مصالح المكلَّفين المبنيّة أصلاً على أنّ درء المفاسد أَوْلى من جلب المنافع. ولكنّ الفقهاء عمَّموا عدم إدراك الملاك من الأحكام العباديّة إلى أحكام المعاملات والسياسة الشرعية، وضيَّعوا الفرصة أمام الفقه لمواكبة تطوُّر علاقات المجتمع المدني والسياسي، بحيث إنّ الخوف من القياس أضعفت الاستنباط عند الإمامية، وأبعدتها عن المقاصد الشرعية. وأصبحت الفتوى مبنيّة على موقف الفقيه العمليّ من الحكم الشرعي على البراءة أو الاحتياط، وليس على الدليل الشرعي؛ وذلك خشية الخروج عن الورع، أو عن المشهور، الذي أضفى القداسة على أقوال الفقهاء، ممّا أدّى إلى إغلاق باب الاجتهاد عند الإمامية، كما هو مغلقٌ عند الجمهور([39]). علماً بأن الإفتاء بالمشهور لا اجتهاد فيه، وإنّ الإفتاء بغير المشهور هو الإفتاء في حدّ ذاته؛ لأن فيه الجرأة على بذل الجهد، والشجاعة على مخالفة المألوف، وهو قليلٌ، فتأمَّلْ.

 

   المحصّلة

وثمرة القول: إنّ تصدّي الفقيه للحكم الشرعي إنما ينبغي أن يتمّ في دائرة الحكم الواقعي، لا الحكم الظاهري، وذلك بالعمل بالأدلة الاجتهادية لمواجهة الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي يشهدها التطوُّر السريع للعلاقات الاجتماعية وحاجاتها، وعدم الاكتفاء باستنباط الحكم الظاهري في حدود الأدلة الفقاهتية، التي لا تستطيع مواكبة الوقائع غير المتناهية للمجتمعين المدني والسياسي؛ لأنّ بناء الوظائف الشرعية والعملية على البراءة أو الاحتياط إنما هو إلغاء للتشريع الإسلامي، ونكوص عن مواجهة التطور الاجتماعي؛ إذ الترخيص في مقابل الحكم الواقعي تفويت للمصلحة، بل والإضرار بها؛ بسبب فوات ملاكات الحكم الواقعي، وهو قبيحٌ، لا يصدر عن الشارع الحكيم، بينما يمكن صدوره من الشارع الوضعي. وإنّ إقامة الحكم الشرعي على الاحتياط يعقِّد الحياة الإنسانية، ويؤدّي إلى الحرج في الدين، وما جعل الله تعالى في الدين من حَرَج. أمّا التخيير فيضيِّع المصالح الشرعية بما ينفع الناس. وأما الاستصحاب فإذا ورد في الحكم الشرعي فإنّه يختلط بالبراءة، وأما إذا ورد في موضوع الحكم فإنه ينتقل من القضية الحقيقية، وهي محلّ عمل الفقيه، إلى القضية الخارجيّة، وهي من عمل الخبير. ولذا فإن الفقيه مضطرٌّ إلى ابتداع قواعد أصولية جديدة، كحجّية الشهرة كمفهوم جديد مقابل الإجماع والإجماع المنقول؛ أو إلى جبر الخبر الضعيف السند بعمل الأصحاب، وتعميم انجبار السند بعمل الفقهاء ليشمل انجبار الدلالة بفهمهم الخاصّ للنصّ، بل وتوهين الخبر الصحيح بإعراضهم عنه. ورغم وَهْن هذه القواعد المستحدَثة في علم الأصول على يد المدرسة الحديثة للأنصاري، إلاّ أنها بقيت رائجة في الفقه؛ لخشية الفقيه من تعدّي المسلمات الفقهية، والحرص على المحافظة على الموروث. وهذا هو الغلق الفعلي للاجتهاد.

وقد واجه الجمهور الانسداد بالرجوع إلى العمومات الاجتهادية، والاستدلال بالسيرة العقلائية وبالقياس بالحكمة. بينما ترى الإمامية أن في ذلك تشريعاً لا يمكن للفقيه أن ينهض به، واستبدلوها بسيرة المتشرِّعة، التي لا تملك حجّتها الذاتية بذاتها، وإنّما باعتبارها كاشفة عن إمضاء الشارع. بل يشترط الأصوليّون أن تكون هذه السيرة معاصرة للمعصوم؛ ليكون سكوته عنها إمضاءً لها. ولا يخفى أنّ سيرة المتشرِّعة إنْ أريد منها إمضاء المعصوم فإنّها لا تخرج عن كونها سنّة تقريريّة، ولا تكون بأي حال من الأحوال مصدراً إضافيّاً للتشريع؛ وإنْ أريد بها سيرة غير المعصوم من الفقهاء فإنها لا يمكن أن تملك حجتها الذاتية، إلاّ إذا تمّ حشرها ضمن مفردات الإجماع، وبالتالي شمولها بتضاعيف حجّية الإجماع. ولذا لا يمكن الاطمئنان لسيرة المتشرِّعة؛ لعدم الوثوق بها، بمعاصرتها لزمن المعصوم بالمعنى الأول، ولعدم حجّيتها الذاتية بالمعنى الثاني، حتّى لو اندكَّت بمفهوم الإجماع؛ لأن روح الكاشفيّة وملاكها في الإجماع وسيرة المتشرِّعة قائمة على الاحتمال، لا على اليقين. فكثيراً ما يصعب فهم اختلاف الفتوى من جهة، ومعارضتها بغير المشهور من جهة أخرى. ولا يبقى أمام الفقيه إلاّ اللجوء لسيرة العقلاء بالدليل العقلي، الذي لا يخلو من إحدى المرتكزات الشرعية.

ولم يبذل الفقهاء الجهد في توظيف الظهور العرفي للنصّ، واطمأنّوا للظهور اللفظي، فأغفلوا دور الزمان والمكان والعوامل الأخرى، التي لا تخلو من مدخليتها في الاستنباط رغم التطوُّر الهائل للعلاقات الاجتماعية، ودور التكنولوجيا في تغيير سلوك الأفراد والجماعات في العبادات والمعاملات. فعمَّموا بعض خصوصيات الخبر ليشمل كلّ الحادثات على اختلاف ظروفها، وبقيت خصوصيّة المورد لا تخصِّص الوارد، فعمَّموا الوارد رغم خصوصيّة المورد. ولم يُدرِكوا مناسبة الحكم والموضوع في إطار الفهم الاجتماعي للنصّ، القائم على أنّ درء المفاسد أَوْلى من جلب المنافع.

ويمكن للفقيه أن يستعين بالدليل العقلي في عملية الاستنباط من خلال التالي:

أـ استنباط الحكم الواقعي من مجموعة القواعد الفقهية بدلالة عموم اللفظ. فالتدخين محرَّم بقاعدة (لا ضرر)، وليس مباحاً بالبراءة الشرعية، وإنما بدلالة الاقتضاء. فالتدخين مضرٌّ صحيّاً، قطعاً لا احتمالاً. وإن النيكوتين يرسِّب الكربون على الرئتين، فضلاً عن الأمراض التي تنجم عنه. وهو مضرٌّ كذلك قطعاً بالآخرين، بالتدخين السلبي الذي لا ذنب للمتأثِّرين به إلاّ للصحبة أو بالعرض، إضافة إلى التلوُّث الذي يحدثه الدخان في الأماكن المغلقة، وفي البيئة، ناهيك عن مجهوليّة محتويات علبة السجائر، وفضلاً عن إرهاق الاقتصاد الوطني باستيراد نفايات الدول الصناعية، التي دأبت على منع التدخين تدريجياً في بلدانها، وتصديره إلى الدول الأخرى. فهل أنّ المجتهد ليس في وارد الاهتمام بهذه الحقائق، ويبيح التدخين؛ لعدم النقل؟ وما هو حكم القانون الوضعي بمنع التدخين في الأماكن العامّة؟ أيكون مقيِّداً للحرية الشخصية، أم سيكون مخالفاً لحكم الشرع، أم يضطر الفقيه على حمله على العنوان الثانوي؟ ومن جهة أخرى تستعر المشكلة أكثر عندما يندكّ هذا الإفتاء بقضيّة خطيرة تتعلَّق بالاستنساخ، حيث الجدل اليوم على أشدّه في المجالس التشريعية والعلمية في الدول المتقدّمة حول النتائج القانونية والاجتماعية والأخلاقية الناجمة عن وجود الشخص المستنسَخ، وصلته بالشخص المستنسَخ منه، بينما الفقيه ينأى عن هذه المشاكل، وببساطة يفتي بعدم الحرمة؛ بناءً على البراءة الشرعية. وفي هذا تعطيلٌ للشريعة.

ب ـ استنباط الحكم الواقعي بالقياس مستنبَط العلّة، بتخريج المناط تخريجاً قطعيّاً. ولما كانت حجّية القطع ذاتيّة فإنّه في هذا المقام حجّة. فعلّة تحريم الخمر هو الإسكار، لا السيولة، ولا العنبية، فيقيس الفقيه كلّ مسكر على الخمر في تحريمه، سواء أكان مأخوذ من العنب أو من الشعير أو من غيرهما. فالعلّة هي في تحريم التشابه، لا التماثل، فالعنب والشعير متشابهان في الإسكار، لا متماثلان. أما تخريج المناط ظنّاً، لا قطعاً، فشأنه شأن الأحكام الظنية الأخرى، نقلية كانت أم عقلية، ولا ينحصر بالقياس دون غيره. ويعود سكوت الشارع عن النصّ على العلّة ليفسح المجال للفقيه للبحث عنها حسب مقتضى الحال وتطوّر الأزمان وحاجات الاجتماع. ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ (المائدة: 102).

ج ـ استنباط الحكم الواقعي بالقياس بالحكمة. والفرق بين القياس بالعلّة والقياس بالحكمة أن العلة منضبطة، بخلاف الحكمة، التي يمكن أن تكون منضبطة، كالطهارة في الوضوء، وتكون حجّتها كحجّة القياس منضبط العلة، أو أن يكون ملاكها مقاصد الشريعة، التي يدركها الفقيه بناء على ذوقه الاجتهادي، كذوقه في استنباط العلة، ومنها: قياس جميع الأغسال على الواجب منها في الإجزاء عن الوضوء؛ لأنّ الحكمة في الجميع هي التطهير. ولا ينبغي أن يفهم أن الاستنباط عن طريق مقاصد الشريعة هو استنباط بدون ضابط شرعي، وإنما يقوم على مرتكز شرعي نقلي. فالحكمة منصوصٌ عليها في آية الوضوء، وهي بهذه المثابة منضبطة، وصالحة لشمولها سائر الأغسال في التطهير؛ إذ إنّ الماء المستخدَم في الغُسل في جميع هذه الأغسال واحد، فكما يجزي في الغسل الواجب يجب أن يُجزي في غيره. وهذا هو منطق العقلاء. وإذا كانت مقدمة الواجب واجبة عقلاً فتكون الأغسال مجزية عن الوضوء مطلقاً؛ لصحة الصلاة عقلاً، لا نقلاً. وباب الحكمة أوسع لدى الفقيه من باب العلّة، فسكت الشارع عن النصّ عليها لتمكينه من التوصُّل إلى الحكم الواقعي بناءً على مقتضيات الواقع، لا على مقتضيات ضيق النصوص.

د ـ إن الاستنباط بالآحاد عملٌ بالظنّ المطلق، لا بالظنّ الخاصّ؛ لأن الخصوصية التي يستند عليها العاملون بأخبار الآحاد مبنيّة على هذه الأخبار ذاتها. وفي هذا دورٌ، وهو باطلٌ. وأما العمل بقول الثقة فهو بدوره ظنّي، وخاصّة أن كتب الرجال متناقضة، ولا تبعث كثيراً على هذه الثقة. إضافة إلى أنّ الروايات منقولة بالمعنى، لا بالنصّ، وهذا من شأنه أن يسقط الاعتبار عنها.

هـ ـ وإذا قيل بأن المنع من العمل بالقياس طريقيّ، من جهة غلبة مخالفته للواقع، وأنّ النهي عنه موضوعي؛ لأنّ العمل به مفسدة غالبة على مصلحة الواقع، فجوابه: إن حكم العقل في حالة الانسداد يكون بالعمل بالطاعة الظنية؛ لعدم العلم، شأنه شأن العمل بالطاعة العملية في حال الانفتاح. وكما لا يمكن المنع عن العمل بالعلم حال الانفتاح فإنه لا يمكن المنع عن الظنّ في حال الانسداد، ومن باب أَوْلى؛ لأن جواز العمل بكلٍّ منهما عقليّ، وهو غير قابل للتخصيص. ولو فرض إمكان المنع عن العمل بالقياس حال الانسداد لجرى ذلك في غيره من الأمارات الظنية غير العملية؛ لأن معرفة الحكم الشرعي لا ينحصر بالعلم وحده، بل بغيره، ممّا اعتبر الشارع مؤدّاه بمنزلة الواقع، شأنه شأن القطع.

و ـ لا يحتجّ ببطلان الاستنباط بالقياس بالروايات الناهية عنه؛ لأنّها في حدّ ذاتها من الآحاد، وهي محمولة على القياس في مقابل النصّ، ولا يقول به أحدٌ؛ لأنّ النصّ مانع من القياس؛ من باب الحكومة، كقياس إبليس، وخاصّة أنّ القياس شاع عند الجمهور زمن وجود المعصوم، ما يمكن معه حمل الروايات الناهية عن القياس على وجود المعصوم فقط؛ لأن المنع عن العمل بالقياس مخصوصٌ بحالة الانفتاح، فلا يعمّ حالة الانسداد. والظاهر من الأخبار الدالّة على المنع عن العمل به أنّها في مقام الردّ على العاملين به مع انفتاح باب العلم، وإمكان الرجوع إلى الأئمة، وأنّ بطلان أعماله في الشريعة إنما هو من جهة عدم الإلجاء والاضطرار إلى أعماله؛ لوجود الأدلة والأمارات العملية. ولذا صار بطلان العمل به ضرورياً. وإذا فرض عدم وجود طريق آخر أقرب منه فلا استبعاد في جواز العمل به([40]).

وصفوة القول في هذا: إنّ الثقافة الاجتهاديّة عند عموم الفقهاء ترتكز على المنطق الأرسطي، الذي يحاكي المادة في شكلها، وصورتها الخارجية في حركتها، وفي سكونها، ولا يوغل في ماهيّة المادّة وتطوّرها وتغيُّرها، بخلاف المنطق الجدلي، الذي يحلِّل كيان المادة لمعرفة أسبابها وعللها وأسرارها وتحوّلها. فالصلاة عند الفقيه الأرسطي حركات مادّية وذكر، وليست بالضرورة تأمُّلاً وتذكُّراً، فهي تجزي بدونهما، وإنْ كانت بهما أتمّ؛ لأنّ الصلاة الأرسطية طقس من الطقوس، إن جمعت أركانها وصحّت شروطها فإنّها مجزية. أمّا الصلاة عند العارف بالله فهي عبادةٌ، لا طقس؛ لأنّها رياضة تأمّليّة روحيّة يجزي منها فقط ما أفاد حضور القلب فيها، وإقباله على الله تعالى، في حالة متصاعدة من الشهود الروحي والرضا بالله من جهة، والعصمة عن الوقوع في الخطيئة من جهة أخرى؛ لأنّ (الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وتمنع النفس عن العزم عن الخطيئة، فضلاً عن السقوط فيها، فهي في المنطق الجدلي حركة التناجي بين الإنسان وخالقه في معشوقيّة الحبّ الإلهي، الباعث على الانبهار بالجمال الإلهيّ، وبالربوبية القصوى، وليست مجرّد رياضة فيزيائيّة ذات فوائد بدنيّة. وفي ضوء هذا الفرق في المنهج بين المنطقين يكون الإفتاء بالحكم الشرعي في المنطق الأرسطي باستخراجه من ظاهر اللفظ إنْ كان له ظاهر، ومن تاويله إنْ كان ظاهره لا يسير في سياق المحكم من الآيات والنصوص. فإنْ تعذَّر النصّ صار الفقيه إلى البراءة. أما الإفتاء في المنطق الجدلي فيقوم على استجلاء مقاصد الشريعة عبر النصوص إنْ وجدت، وبالدليل العقلي المستقلّ إنْ لم توجد؛ لأن الإفتاء بالحكم الشرعي وسيلة اجتماعية وتربوية وجمالية تبتغي دفع مفسدة وجلب منفعة، فهي ليست غايةً في حدِّ ذاتها. بخلاف الحال في المنطق الأرسطي الذي يعتبر الإفتاء وظيفة فنّية منطقيّة يكون الحكم الشرعي فيها قضيّة حقيقيّة، وليس قضيّة خارجيّة. فالفقيه الأرسطي موظَّف في الأولى، وغير موظَّف في الثانية. بينما الفقيه الجدلي يتأمّل في جمال ماهية المادة، وبواعث أدائها وأسرارها، وفي جمال الذات الإلهية وحكمته، فيبحث في أسرار الشريعة ومداركها، ولا يتهيَّب من السعي للوصول إليها، بينما الفقيه الأرسطي يتهيَّب من استنطاق هذه الأسرار؛ بدعوى قصور العقل عن إدراك هذه الأسرار، فيفتي بحلّية التدخين رغم مضارّه القطعية، كما يفتي بحلّية المخدّرات ما دامت ليست من المسكرات، دون النظر إلى تشابه المخاطر الناجمة عنهما في نظر العقلاء، وقياس الخدر على السكر في التحريم؛ بسبب حجم الأضرار التي تصيب الفرد والمجتمع منهما. مع العلم أن العقل هو ملاك التكليف، بل الاعتقاد. ووجه تهيُّب الفقيه هو أنّ إدراك هذه المخاطر من الأمور غير القطعية، وقد يكون التحريم في نظر الفقيه الأرسطي شيئاً آخر ممّا لا يدركه العقل، وإنّ الحكم الشرعي قضية خارجية، وليست قضية حقيقية معنية بالواقع. وإذا أقررنا بأن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع فلا بدّ من الإقرار بدور العقل في الاجتهاد؛ بالنظر إلى انقطاع الوحي، ولا يمكن انتظار الوحي ليجيب عن متطلّبات التطوّر الاجتماعي والتكنولوجي. وفي هذه الحالة إمّا أن يعطى للعقل دوره في الاستنباط؛ أو ينتظر رسالة جديدة تستجيب لمقتضيات التطوّر الاجتماعي؛ وإلاّ ففي حالة هذا الانسداد من العلم النصّي لا يستمرّ التكليف؛ لقبح العقاب بلا بيان. ومن هنا لا نجد أيّ مسوِّغ لعزوف الفقهاء عن الدليل العقليّ المستقلّ، وهم يقرّون بأنّ هذه الشريعة صالحة لكلّ زمان ومكان. ولا بدّ في هذه الحالة من الإقرار بالملازمة بينه وبين الحكم الشرعي؛ من أجل معرفة الحكم الشرعي في جميع قضايا الفرد والمجتمع والدولة. ولا ينبغي أن تقتصر مباحث الخارج على المباحث التقليدية في أحكام العبادات والمكاسب والأسرة، التي أشبعها الفقهاء سنين من البحث. وإنّ دور الفقيه لا ينتهي عند معذِّرية التكليف أو منجِّزيته في مقابل النصّ، أو الوظيفة العمليّة عند عدمه، وإنما الفقيه مكلَّف ـ قبل غيره ـ بالتحرّي عن الحكم الواقعي، لا الحكم الظاهري؛ لأنّ غرض الشرائع هو كشف المصالح الشرعية، التي على أساسها يتحقَّق الاجتماع والعمران، والعمل بها، لا العمل بالمعذِّرية؛ لعدم وجود الحكم الواقعي، ولا بالمنجِّزية بمجرد قطع القاطع، بغضّ النظر عن الواقع، وإلاّ فلن تتمكَّن الأمّة اليوم من تحقيق نهضتها، ومعالجة آفاتها النفسية، وأمراضها الاجتماعية، والفساد الذي ينخر في كيانها؛ من أجل أن تأخذ مكانتها بين الأمم المتقدّمة.

 

 

الهوامش

([1]) عدة الأصول: 336 ـ 338.

([2]) حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني: 292 ـ 297، الانتشار العربي، بيروت، 2007.

([3]) المسعودي، مروج الذهب: 4: 4. دار الأندلس، بيروت، 1981م.

([4]) النوري في المستدرك 3: 522.

([5]) فهرست الطوسي: 80.

([6]) رجال النجاشي: 185.

([7]) رجال ابن الغضائري: 229.

([8]) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي) 2: 837.

([9]) معجم رجال الحديث 1: 92.

([10]) الكافي 5: 32.

([11]) الكافي 5: 33.

([12]) معجم رجال الحديث 11: 234.

([13]) النسائي، الضعفاء: 293.

([14]) الذهبي، ميزان الاعتدال 2: 439.

([15]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7: 120، مطبعة الخانجي، القاهرة، 1910.

([16]) المدونة الكبرى 3: 9، رواية سحنون بن سعيد التنوخي، دار السعادة، القاهرة، 1323.

([17]) مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 188، طهران، ط2، 1379.

([18]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21: 70 ـ 71، بيروت، 2009.

([19]) المصدر السابق: 72.

([20]) مجمع البيان 3: 188.

([21]) جواهر الكلام 21: 72.

([22]) مجمع البيان 9: 96.

([23]) مجمع البيان 4: 558.

([24]) مجمع البيان 4: 558.

([25]) التذكرة بأصول الفقه: 38.

([26]) ضياء الدين العراقي، مقالات الأصوليين 2: 11.

([27]) ميرزا حبيب الله ملكي، تلخيص الأصول: 150، 156، چاپخانه مصطفوي، 1378هـ.

([28]) الأنصاري، فرائد الأصول 1: 368.

([29]) القمي. قوانين الأصول 1: 448.

([30]) مقالات الأصوليين 2: 13.

([31]) المصدر السابق 2: 129.

([32]) فرائد الأصول 1: 367 ـ 369.

([33]) عبد الأعلى السبزواري، تهذيب الأصول 2: 136.

([34]) المصدر السابق: 140.

([35]) فرائد الأصول 1: 393.

([36]) تهذيب الأصول: 149.

([37]) غنية النـزوع: 386.

([38]) فرائد الأصول 1: 439.

([39]) محمد حسين فضل الله، الاجتهاد: 241، 248.

([40]) وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول (تقريرات السيد أبو الحسن الاصفهاني): 558، مؤسسة النشر الإسلامي، 1419.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً