د. الشيخ عبد المنعم العبد الله([2])
مقدّمةٌ
تعدَّدت المؤلفات والتدوينات في سيرة النبيّ الخاتم(ص) على اختلاف مشاربها، واتصفت باستنادها إلى المأثور الروائي التاريخي أو القرآن والمأثور الروائي حتى أنها بلغت المطولات، وفيما نحن فيه نقدم قراءة لشخصيته المُلكية والملكوتيّة بلسان الكامل المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه باعتباره خير مبين لمعالم شخصيته بأبعادها المختلفة من المهد إلى اللحد وفق منهج تفسير القرآن بالقرآن، فهو الرحمة المهداة للعالمين، سرّ من أسرار التكوين والتدوين، صنع على عين ربانية، خلقه ورباه وعلمه وهداه وزكاه وكفاه وألهمه الطريق المستقيم، وأوحى إلى عبده وحبيبه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى من آيات ربه الكبرى، فارتقى عبر تهجده ليلاً في مدارج الكمال ليصل إلى المقام المحمود، فهو أحمد قبل خلقه، محمد قبل دعوته، محمود أبداً، خلاصة الأنبياء والرسالات الخاتمة، صفوة الأخيار الخيّرة من خير أمة أخرجت للناس، أفاض على المؤمنين من أموالهم طهارة وزكاة وسكينة بأمر ربه، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 103).
تجسّدت شخصيته في رسالته، ورسالته في شخصيته، فكان مرآة لها، ومدرسة في العلوم التربوية والأخلاقية والعبادية والرسالية والجهادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والتنظيمية… فهو المؤسس لمعالم الحضارة الفاضلة المستوحاة من منهج الإسلام المهيمن على الدين كله في زمن قياسي؛ مرتكزاً على ثلاثة ركائز أساسية:
الأولى: بناء العلاقة الروحية بالخالق: فاستطاع أن يخرّج رجالاً لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله من واقع مجتمع جاهلي.
الثانية: أرسى المعالم الربانية التشريعية والتنظيمية: لقد اعتمد في تشييد معالم تلك الحضارية على قاعدة أساسية حاكمة في كتاب الله «إنما المؤمنون إخوة».
الثالثة: عزز أمن الأمة الاستراتيجي بثقافة حب الشهادة في سبيل الله، ومجاهدة المنافقين، واستثمار مقدرات الأمة اعتماداً على الذات.
وارثُ إبراهيم الخليل
استجاب الله لدعوة النبي إبراهيم(ع) بإرسال نبيّ الإسلام محمد، حيث دعا ربه أن يبعث من ذريته رسولاً هادياً في وادٍ غير ذي زرعٍ عند بيته المحرَّم([3])، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 129) واستمرت الوصاية لأجل اتباعه في موروث بني إسرائيل مؤكِّدة على أُمِّيته كعلامة فارقة لأهم أوصافه في التوراة والإنجيل، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ…﴾ (الأعراف: 157)، ولأهمِّية تلك النبوءة صرح النبيّ عيسى بن مريم(ع) إلى قومه بأحمد أسمائه السماوية، وأوصاهم بلزوم اتباعه، قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الصف: 6)، ولقد سمّاه الله بأسنى محامد أسمائه فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم… بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل([4])، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ (محمد: 2).
قهر الطفولة وحكمة الشباب
ولقد فجعت أمه آمنة بنت وهب(ع) بوفاة والده «عبد الله» فكان يتيماً قبل ولادته، وفي الثاني عشر أو السابع عشر من ربيع الأول عام الفيل سنة(570م) على اختلاف الروايات([5]) سطع الكون بنور ولادته، وما إن فرحت بطلته المباركة حتى ألقته في أحضان مرضع من بني سعد متوكلة على ربها لعلها تحظى برعايته ولو بعد حين، ولكن القدر المحتوم حال بينها وبينه فقد ماتت لست سنوات خلت من عمره الشريف؛ فأصبح يتيم الأبوين، ولقد هيأ الله له جده عبد المطلب لرعايته، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾ (الضحى: 6). وما أن أتمّ العقد الأول من عمره عند جده عبد المطلب(ع) حتى فجع برؤية منيته، فانتقل إلى كنف عمه أبي طالب(ع) العائل الفقير، فكان النبي خفيف الظل فقد آثر العمل(ص) برعي الغنم ليساعده في مؤونة عياله، ولما أصبح يافعاً ذهب معه في تجارة إلى الشام، فذاع حسن مناقبه العليّة في قريش لكثرة محامده وصفاته الذاتية، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ (الشرح: 4)، فائتمَنَتْه خديجة بنت خويلد على تجارتها، فنمت البركة في مالها ما لم يكُنْ من قبل، فطلبته زوجاً لها، وجعلت أموالها بتصرُّفه، قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ (الضحى: 8). ولقد حباه الله بعلم الموهبة الرباني فحفظه من ضلالات قومه الصنمية الجاهلية، قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى﴾ (الضحى: 7)، وأوصاه بأن يحرص على طلب العلم الإلهي الخالي من كلّ انحراف، قال تعالى: ﴿…وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ (طه: 114)، وهكذا كان نِعْم المطيع لربه؛ فأفاض عليه من خزائن علمه وقدسه، قال تعالى: ﴿.. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ (النساء: 113). حتى إذا بلغ أشده أربعين سنة آتاه الله حكماً وعلماً كالذي وهبه للنبي يوسف من قبله، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 22)، حيث نزل عليه الوحي من السماء معلناً أنه خليفته في أرضه، فكان المعلم والهادي من رب العالمين، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1 ـ 5). ولم يكن وقع الوحي عليه سهلاً يسيراً، بل كان أمراً شديداً ثقيلاً لما سيواجهّ من شدة عناد قومه، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزمّل: 5)، فإن حمْلَ رسالة الله تعالى إلى الناس أمانة عظيمة تشفق منها الجبال الراسيات، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر: 21). وهكذا عاش محمد(ص) في بيئة عمياء صماء بكماء، تأخذهم حميتهم الجاهلية للدفاع عن عبادتهم الباطلة، فهم يعبدون الأصنام ويرجون الخير من الأوثان، قال تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ…﴾ (الفتح: 26)، ويدينون بالحكم القبلي الجاهلي، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50)، حتى أنه لا غضاضة عند بعضهم بدفن المولودة حية خوفاً من العار أو الفقر، قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير: 8 ـ 9).
البعثة الميمونة: مبشِّراً ونذيراً
وبينما هو في تأمُّلٍ يفكر في هذه المهمّة الشّاقة والمباركة على حد سواء؛ إذ خاطبه ربه يا أيها المدثر قم فأنذر قومك من عذاب يوم عظيم ونزهه عن وصف الجاهلين، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ…﴾ (المدّثر: 1 ـ 3)، فإنما أنت منذر من عذاب الله، والمرشد الهادي إلى الحق المبين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: 7)، فخصالك تؤهلك أن تكون هادياً إلى الصراط المستقيم، وليس مجرد إراءة طريق النجاة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: 52)، واعلم أنه ليس عليك هداية الناس، لأنها من أمر الله وحده، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ…﴾ (البقرة: 272). وليس لك أن تهدي حتى من أحببت لأن تحقق الهداية الواقعية لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: 56). وإنما تكليفك تذكيرهم بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ (الغاشية: 21)، فما مهمتك إلا أن تنذرهم كما أنذر الأنبياء آباءهم العذاب من قبل، قال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (يس: 6)، ولتكن على يقين من أنه لن ينتفع من تحذيرك إلا من كان حيّ الفطرة يخشى من عذاب النار، قال تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (يس: 70)، وقال تعالى أيضاً: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ (النازعات: 45)، ولقد أكد سبحانه عليه أن يبقى مستمسكاً بالفضائل مبتعداً عن جميع الرذائل ما ظهر منها وما بطن، فهي رجز من عمل الشيطان، قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (المدّثر: 4 ـ 5).
المعراج الروحيّ
ولما كان هدف المولى السير بالمجتمع وفق المنهج الإلهي، كان لابد من تحصين نبيه بكمالات القرب الإلهي عبر خَلْوة الليل متهجداً لله تالياً لكتابه؛ ليزداد بصيرة ويقيناً، قال تعالى: ﴿قُمِ الليْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ (المزمِّل: 2 ـ 4)، فإن صلاة الليل مدرسة التكامل الروحي للعبد، بل منها يرتجى بلوغ المقام المحمود، قال تعالى: ﴿وَمِنَ الليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ (الإسراء: 79)، ولقد مدحه الله والمتهجدين معه من المؤمنين، حيث كانوا يبتهلون إلى الله في جوف الليل حتى أضناهم التعب؛ فعلم صدق قلوبهم، فأشفق عليهم رافعاً عن كاهلهم طول المدة وجَهد العتمة، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الليْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ…﴾ (المزمّل: 20). واستمر النبيّ(ص) ومن معه من المؤمنين تتجافى جنوبهم عن المضاجع في ناشئة الليل للعبادة ورعاية الفقراء والمحتاجين طمعاً في رحمة الله وخوفاً من عتابه وعقابه، قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (السجدة: 16).
الدعوة المكّية
وبقي حبيب الله ثلاث سنوات يدعو إلى محبة الله وغفرانه سرّاً، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران: 31)، ولما انتهت المصلحة من الدعوة السّريّة، أمره الله أن يصدع بأمره متبعاً سياسة الإعراض عن المشركين لئلا يصطدم معهم، قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: 94)، وأوصاه بالصبر على أذاهم، مستعيناً بسلاح الهجر الجميل ردئاً من استفزازهم؛ فهو يقوي الإنسان ويضفي عليه هيبة وجلالاً، قال تعالى: ﴿…وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ (المعارج: 10)، وألّا يكترث لإرجاف المكذبين باعتباره عبثي، قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ﴾ (الحاقّة: 49)، فقد كفاه الله شرّ المستهزئين الحاقدين، قال تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ (الحجر: 95)، فجمع النبي(ص) قومه ووقف أمامهم قائلاً: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي؟ فقالوا: بلى والله، ما جربنا عليك كذباً، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً ألهذا جمعتنا؟» ([6])، فتوعده الله وزوجته الفاجرة بالنار، قال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ (المسد: 1 ـ 5).
رحمةٌ للعالمين
ولقد أوضح الله حدود رسالة نبيِّه لتشمل الناس كافّة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28). وأعلمهم بذلك بوضوحٍ كي لا يقال أنه رسول للعرب وحَسْب، فالعرب هم جزء من قومه وأمته، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً…﴾ (الأعراف: 158)، ولقد حظي بالمراتب الثلاثة الكبرى ـ نبياً ورسولاً وإماماً ـ أمّا الأولَين، فلقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ (الأحزاب: 40)، وأما إمامته وحكومته فلقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الإمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59)، ولقد أمره الله أن يبدأ دعوته بعشيرته الأقربين، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214)، ثم أمره أن يوسع دعوته لتصل أحياء أم القرى ومن حولها، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى: 7). وهكذا انطلق في رسالته العظيمة في بلد أميّ متحصناً بأُمِّيّته حيث لم يتعلم عند أحد، قال تعالى: ﴿..فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأعراف: 58)، لكن الحاقدين منهم لم يستنكفوا عن اتهامه بالتلمذة على يد علماء أهل الكتاب: قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام: 105). وهكذا أدرك النبي(ص)عدم تقبل قريش للدين الإلهي الجديد لما يشكّله من تهديد لمصالح كبرائهم المادية والمعنوية؛ وفي الوقت ذاته لم يكن مُحبِطاً لعزيمته، ولا مانعاً من أداء تكليفه وواجبه، فإنه على بصيرة من ربه، ومن اتبعه من المؤمنين المخلصين، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108).
معالم الشخصيّة المباركة
1ـ الوظيفة الرساليّة
إن من أهم معالم شخصيّة النبي التي أشاد بها القرآن الكريم الجانب الرّسالي، فلقد تصدّى لكل أشكال الفساد وأنواعه، جاهراً بأعظم تكليف من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لما يشكل منعطفاً فارقاً في دعوته، كاشفاً عن روح الإسلام في إحلال الطيبات، وتحريم الخبائث، وفكَّ أغلال العادات الجاهلية المشينة عن كاهل الناس، واللطيف أن الكتب السابقة أخبرت بذلك قبل ولادته، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157). وما فتئ يبين لهم صدق دعوته بالدليل والبرهان كاشفاً عمّا بشّر به كتاب النبي عيسى(ع) من ذكر اسمه وصفته لبني إسرائيل، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الصفّ: 6). وبقي النبي الأمي ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة لا يألو جهداً في اتباع أحسن الأساليب التربوية والسلوكية الشاملة لجميع نواحي الحياة وفق إرشاد علاّم الغيوب رب العالمين، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل: 125)، ولقد شهد الله له بلين العريكة، وطيب المعاشرة وحسن الأداء، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…﴾ (آل عمران: 159)، ولكن ذلك لم يكن ليغني عنه من أمر الله شيئاً لخباثة نفوسهم، واتباع شهواتهم، وإصرارهم على عبادة الأصنام، اتباعاً لآبائهم الأقدمين، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾ (المائدة: 104)، فلم يكن صدهم عن سبيل الله من حجّة إلا اتباع الآباء والأجداد الذين ما كان لهم من علم ولا هدى، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170). ولم يتوانى النبي الأمي في دعوة جميع الملل لعبادة الله وحده من مشركين ويهود ونصارى.. ولكن دون جدوى، مدّعين أنهم على دين إسماعيل وإبراهيمC، ففضحهم الله مبيناً كذبهم، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (آل عمران: 67).
وإنّ ما يدعو للتوقف عنده أن استجابة الجِّن للإيمان به كانت أسرع من قريش، قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً﴾ (الجنّ: 1 ـ 3)، والجدير بالذكر أن إصرار أهل الشرك على الكفر، وأنه لم يكن عن شبهة، وهكذا جحدوا بالإيمان بعد أن استيقنت نفوسهم به ظلماً وعلوّاً، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (النمل: 14)، ولمّا لم يكن لديهم الحجّة البالغة على شرعية عبادتهم الباطلة كذَّبوه بلا دليل، وافتروا عليه، فقالوا ما هو إلا مُعلَّم بتعاليم الجِّن فهو مجنون، فكيف نتبعه فيها؟ قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ (الصافّات: 14)، وهذه التهمة إنما هي مقتبسة من أسلافهم المعاندين لأنبيائهم الماضين، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ (الذاريات: 52)، فرد عليهم القرآن بأن ما أتى به النبي هو مما أنعم الله عليه من الحق المبين، ولا يتأتى مثله لأحد من الكهنة أو المتلبسين، فما لكم كيف تحكمون؟!، قال تعالى: ﴿..فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ﴾ (الطور: 29)، ولم يستسلموا للحجة والبرهان مع أنهم نُكسوا على رؤوسهم خائبين، فادعوا أنه يفتري على الله الكذب! فردّ عليهم الله بأن أكثر المتَّهمِين له ما تحققوا من دعواهم بل اتبعوها تقليداً أعمى لأسلافهم، قال تعالى: ﴿…قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 101)، ولقد تحداهم القرآن بأن يأتوا ولو بعضاً مما أتى به من القرآن لو كانوا صادقين، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود: 13)، ومن ثم حاول بعضهم التقليل من شأن عظمة القرآن بدعوى أنه ليس إلا من تعاليم البشر لا قداسة ربانية له، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ…﴾ (النحل: 103). فردّ عليهم القرآن بالحجة الدامغة متحدِّياً مجاميع المكلفين من الإنس والجن على السواء، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الإسراء: 88). ولما عجز المشركون عن المثول أمام هذا التحدي، ما كان يسعهم إلا السُّخرية منه فأرسلوا أراذلهم ومجرميهم؛ ليثبطوا من عزيمته ومن معه من المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ﴾ (المطفّفين: 29 ـ 32). وأمعنوا في تحريّض الناس على ألا يسمعوا لحديثه ولا لقرآنه؛ بل يلغوا أثناء تلاوته آيات ربه، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصّلت: 26). وازداد حنق المشركين على النبيّ(ص) وأذاهم؛ حتى أنه ضاق صدره من أعمالهم وافترائهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ (الحجر: 97)، فشرح الله صدره وأزال غمه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (الشرح: 1)، حيث أكرمه برحلةٍ ملكوتية من المسجد الحرام في الشهر الحرام إلى القبلة الأولى في بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء السابعة في ليلة واحدة، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1). وهناك وصل إلى قاب قوسين أو أدنى، فرأى من آيات ربه الكبرى، قال تعالى: ﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ (النجم: 7 ـ 11). فازداد النبيّ إيماناً وتثبيتاً، فلم يركن إلى المشركين ولو شيئاً قليلاً([7])، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 74)، وكيف يزيغ عن تعاليم الله ويفتري عليه وهو يعلم أن ربه له بالمرصاد فيعاقبه بالختم على قلبه؟!، قال تعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (الشورى: 24)، ولقد أكد الله على سلامة دعوة النبي وتبليغه للإسلام مرات عدّة حتى أنه بين شدة عذابه وعاقبه المضاعف لو حدث منه أدنى حيف أو خطأ، قال تعالى: ﴿إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء: 75)، ولما أخبر النبي(ص) قومه برحلته الملكوتية كذبوه كعادتهم! قال تعالى: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ (النجم: 12)، إلاّ أن الله صدَّق رسوله بما أخبر به كاشفاً عن بعض أسرارها الكبرى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 13 ـ 18)، ولكن قومه أرادوا به كيداً فجمعوا عليه الناس ليشهدوا كذب ادعائه الجديد، فقالوا صف لنا المسجد الأقصى؟!، فلما وصفه لهم بتمامه وكماله، أدهشوا وأصيبوا بالخيبة!؛ فطلبوا منه أن يقسِم لهم كوكب القمر فلقتين، وجمعوا حشودهم ليلاً والقمر بدراً في كبد السماء منتظرين خيبته!، وفوجئوا بانفلاق القمر نصفين لما أشار إليه([8])، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (القمر: 1 ـ 5)، لكنّ طغاة القوم لم تنفع معهم تلك الآيات العظيمة، فطلبوا منه أموراً على سبيل التعجيز ليحفظوا ماء وجههم، وليقرَّ هو بالعجز وبالهزيمة! فيعلنوا أمام الملأ أن محمداً كاذب مخادع! قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ…﴾ (الإسراء: 90 ـ 93)، ولقد أجابهم النبي(ص) ـ متعجِّباً من عنادهم! ـ: إنما أنا بشر ولا يمكن أن أستجيب لكم من تلقاء نفسي بل إنكم قوم معاندون! قال تعالى: ﴿…قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً…﴾ (الإسراء: 93)، بل يشرفني أن أكون بشراً مثلكم فأتبع ما يوحى إليّ من ربي وأعبد الله وحده ولا أشرك به شيئاً، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف: 110)، ولقد حاول بعض المشركين تخفيف مطالبهم، فطلبوا منه أن يأتي بغير هذا القرآن، فردّ عليهم، بأنه كيف يكون لي ذلك؟، فأنا ما ادعيت ولا أدعي أني أستطيع أن آتي بكتاب آخر غير القرآن أو أبدله من تلقاء نفسي، قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (يونس: 15).
وهكذا أصرّ بعض المشركين على عنادهم بدعوى أنه لا يليق بهم أن يتّبعوا بشراً مثلهم، بل لابد أن يكون المرسل من جنس الملائكة؛ لما لها من القدرة والشأن والرفعة، قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: 94). بل لا يليق بالرسول أن يكون من جنس البشر، يأكل وينام ويمشي في الأسواق..!، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ﴾ (المؤمنون: 33 ـ 34)، فردّ عليهم القرآن بجواب عقلائي مفحِم مفاده: لمّا كان الرسول أسوة حسنة لقومه، فلابد أن تكون خلقته منسجمة وطبيعة جنس المرسل إليهم، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً﴾ (الإسراء: 95).
ولم يكتف المشركون بمعاندة النبيّ(ص) وتشويه دعوته بغية صدّ الناس من اتباعه وحسب، بل أمعنوا بتعذيب من آمن به حتى قتلوا خيرة أصحابه الأوفياء([9])، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23)، ولقد نجى ابنهما عمار بن ياسر من الموت ببركة التقية، قال تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ (آل عمران: 28). ولما لم يكن بالإمكان الدفاع عن المؤمنين وحمايتهم من القتل أذن لهم النبيّ(ص) بالهجرة، فهاجر المسلمون سرّاً ليحفظوا دماءهم؛ تاركين وراءهم أموالهم وممتلكاتهم، قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر: 8).
ولقد ازداد إصرار المشركين على الانتقام من المسلمين بعد أن أفلت المسلمون من قبضتهم، فأجمعوا أمرهم على قتل النبي(ص) ذاته مستغلين افتقاده الحامي والناصر المتمثل بعمه أبو طالب، وزوجته خديجة بنت خويلد لعشر خلت من بعثته المباركة، فأذن الله له بالهجرة إلى يثرب، وبات علي بن أبي طالب(ع) في فراش النبي فداء له(ص)، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (البقرة: 207). وخرج النبي المسدَّد من بين أيدي المتربِّصين به السوء على باب داره؛ بعد أن ألقى الله على أعينهم الكَرى؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: 9)، وتبعه المشركون مغضبين بعد يقظتهم، متعجبين من إفلاته من بين ظهرانيهم! ودخل النبي(ص) وصاحبه الغار، فعمُوا عن مكانه، وردّ الله كيد المبطلين خائبين، قال تعالى: ﴿إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 40).
ووصل النبي(ص) إلى يثرب بخيرٍ وسلام، فاستقبله المهاجرون والأنصار تعلو وجوههم البسمة والفرح، وتترنم ألسنتهم بالأناشيد والأهازيج؛ مرحبين بطلَّته الغراء المشرقة، فكانت يثرب مدينة منورة بعد نزوله المبارك فيها.
2 ـ الإمامة الاجتماعيّة
وبدأ النبيّ(ص) بتأسيس الدولة الإسلامية الفتيّة في مدينته الميمونة، مطلقاً شعار الأخوة الإيمانية الخالد، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10). فاقتسم أنصاره المكرّمين مع المهاجرين ما لديهم من أموال ومتاع مؤثريهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ملحّة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…﴾ (الحشر: 9)، فكانت مبادرتهم تلك من أهم أركان تشييد أسس الحضارة الإسلامية المساعدة لمهام الخلافة الربانية في أرضه.
وانطلق الرسول إماماً منظِّماً لشؤون المجتمع الحضاري الجديد مشيِّداً معالمه بتعليمهم وتزكيتهم لإخراجهم من آثار رواسبهم الجاهلية؛ وبناء الروح الملكوتية لديهم على بصيرة وهدى من ربه، قال تعالى: ﴿هو الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2)، فكان قاضياً بينهم بالعدل فيما كانوا فيه يختلفون، وأدبهم على أن لا يكون في أنفسهم حرج مما قضى به بينهم، قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء: 65). وهكذا زادهم النبي قوّةً ومهابة إلى قوتهم بعد أن أصلح بين قبيلتي الأوس والخزرج، وثارت ثائرة المشركين بعد أن سمعوا أنه يريد قطع الطريق على قافلة تجارية لهم، ليسترد بعض ما فقده المسلمون في مكة، فكان ردة فعل المشركين أن أجمعوا أمرهم وشركاءهم على قتال النبي(ص)ومن معه من المؤمنين في عُقر دارهم؛ لكنّ الله ما كان ليذر النبي ومن معه لقمة سائغة لأعدائه، فقد أمره أن يشجع المؤمنين على قتال المعتدين، وينفخ فيهم روح القوة والصلابة، ورباطة الجأش، وأن الواحد منهم بمقدوره أن يغلب عشَرة من الكافرين، وهكذا خرَّج رجالاً كزبر الحديد يعشقون الموت في سبيل الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال: 65).
3ـ خطواتٌ في الأمن والإدارة
وهكذا كان من أهم معالم سياسة النبيّ الإدارية والأمنية بداية تأسيس دولته اليافعة اعتماد القوة الرادعة للعدو بأن يثخنوا عدوهم قتلاً وتنكيلاً إذا ما حمي الوطيس، وحذّر المؤمنين من مغبة الرأفة بالمشركين طمعاً بمتاع الدنيا الزائل؛ وهكذا حقق النبي استراتيجية الأمن بالرعب فأذعن له عدوه صاغراً، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 67)، فكان النصر حليفه مع قلة العدد والعُدَّة في أم المعارك (بدر الكبرى) بفضل الله وحنكة رسوله، فقد أمدّه الله بجند من السماء، قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ (الأنفال: 9 ـ 11)، وكانت مشيئة الله أن لا ييأس المشركون من محاربة النبي(ص) بعد تلك الفاجعة التي أصابتهم، حيث قتل منهم ما يقرب من سبعين مقاتلاً أكثرهم من وجهائهم وصناديدهم؛ فأرادوا الثأر لقتلاهم واستعادة كرامتهم، وجهزوا أنفسهم لقتاله لرد اعتبارهم، وكانت معركة أُحد التي شكلت النكسة الأولى للمسلمين بعدما تسلل الشيطان لنفوس بعضهم فتركوا مواقع تحصين جيش المسلمين طمعاً بالغنائم التي حذرهم منها النبي(ص) من قبل، فانقض الأعداء على المؤمنين من خلفهم، فلاذ المسلمون بالفرار في مشهد رهيب ملؤه الأسى، حيث كان النبي يناديهم من خلفهم ليثبتوا ولا يفروا خوفاً من عدوهم، وهم يتسابقون طلباً للنجاة وخاصة بعدما سمعوا المنادي يقول: مات محمد، قُتل محمد، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (آل عمران: 152 ـ 153)، وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 143 ـ 144). وما كان ردة فعله(ص) السياسية والجنائية إلا أن سايسهم بأخلاق لم يُعرف لها نظير؛ فعفى عنهم واستغفر لهم الله، وشاورهم فيما يريد فعله من تدبير أمرهم، قال تعالى: ﴿…فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159). وهكذا توالت محطات اختبار المؤمنين فكانت معركة حنين محطة أخرى حيث انغرّ بعضهم بكثرة عددهم وعدّتهم، وقالوا لن نغلب اليوم من قِلَّة فأذاقهم الله عذاب الخوف والهلع، قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة: 25)، ثم أنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين، ونصرهم على عدوهم بجند من عنده، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ (التوبة: 26)، وما كانت تلك المعركة إلاّ درساً بليغاً لأجل أن يمحِّص الله قلوب المؤمنين ويعلمهم أن تكون ثقتهم بالله وحده لا بقوتهم، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 141).
ومن ذلك الحين أطلّت ظاهرة النفاق برأسها، وتشكّل التحالف الثالوثي المشؤوم جامعاً بين المنافقين والمشركين واليهود لمواجهة قوّة المسلمين وتمددهم، وكانت معركة الأحزاب نموذجاً واضحاً لذلك التحالف، حيث أجمعوا أمرهم من الداخل والخارج للقضاء على النبي ومن معه، قال تعالى: ﴿إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً﴾ (الأحزاب: 10 ـ 15)، ولقد شكلت تلك المعركة ابتلاء عظيماً للمؤمنين حيث كشفت الستار عن بعض وجوه الذين في قلوبهم مرض والمنافقين وتآمرهم، ولكن الله من ورائهم محيط، فقد أيد رسوله بجنود لم يروها، وكسر شوكة مؤامراتهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ (الأحزاب: 9)، وهكذا تعددت المواقف المشينة لمرضى القلوب في حق النبي(ص)، فقد وصفوه بأنه (أذن) أي يسمع كل قول فاسد دون اعتراض منه! يريدون بذلك تحقيره، والتقليل من شأنه ومكانته، والحقيقة أن موقفه ذاك عين الحكمة؛ لأنه يصبّ في مصلحتهم باعتباره يقلل من التنازع والاختلاف فيما بينهم، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة: 61). وكان بعضهم ينادونه بصوت عال من وراء الحجرات وكأنه أحد عبيدهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ (الحجرات: 4). وكان بعضهم يثبطون المؤمنين عن القتال يريدون فتنتهم وخبالهم، فحذر الله المؤمنين من مغبّة أن يتخذوهم بطانة يفضون إليهم بأسرارهم، مبيناً لهم خفايا مكرهم وخداعهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران: 118 ـ 120). وكان بعضهم يتقاعس عن تأدية واجبه الجهادي غير متحرج في طلب الإذن بالتخلف عن المعركة، قال تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ (التوبة: 87). ولقد كشف الله عن خبايا فرحهم وسرورهم بقعودهم عن الجهاد خِلاف رسول الله ظناً منهم أنهم استطاعوا خداعه، قال تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ (التوبة: 81)، ولقد مدح الله رسوله لمّا أذن لهم بالتَّخلف لعلمه أن عدم مشاركتهم خير منها، لأنهم سيحاولون تثبيط المؤمنين كما فعلوا في معركة الخندق، قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 47).
ولقد تعرَّض القرآن لبعض مواقف المسلمين السلبية التي ترتبط بسلوكهم حيال بيت النبيّ، حيث تجاسر بعضهم بدخوله من دون إذنه، وكان آخرون يثقِّل عليه بطول جلوسه عنده بعد مطعمه مستأنس لأحاديث لا نفع فيها، وكان النبيّ(ص) يستحي أن يخبرهم أو يظهر لهم ذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ…﴾ (الأحزاب: 53). ولقد وصل الأمر لأن يؤذى النبي في أهله، حيث صرح بعضهم بنكاح أزواجه من بعده([10])، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 53).
هذا…، وتفاقم خطر المنافقين في المدينة بعد خيبتهم من تحقيق مآربهم، فجهروا بالإساءة لشخص النبي(ص) ووصفوه بالأذل وحضوا على عصيانه وإخراجه من المدينة، قال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 7 ـ 8). وكان المشركون يتمنون أن يروا محمداً يَقتل أصحابه !!،(ص) فما كان النبي العظيم ليضع في أيديهم ما يرجونه من أمنيات الفتن الداخلية لتشوّه الإسلام ونبيه، فكان فطناً وحكيماً رحمة للعالمين من الجِّنة والناس أجمعين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
4ـ البناء التربويّ
وهكذا تبلورت استراتيجية النبي التربويّة بضرورة جمع المسلمين حول قيادته الحكيمة، فكان ليِّن الجناح طيّب القلب واللسان، حسَن المداراة، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…﴾ (آل عمران: 159). حتى أنه كان المثل الأعلى في الصبر الجميل الذي يوازن بين الحلم وضبط الأمر، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً﴾ (المعارج: 5)، وقد فاق صفحه عن المذنبين حدّ التصوُّر، فكان صفحاً جميلاً خالياً من التبعات السلبية وآثارها، قال تعالى: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر: 85)، بل همَّ بدفع السيئة بالحسنة، وكان يستغفر لهم ربه عسى أن يهديهم للرشاد، فأخبره الله بعدم الجدوى، قال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 80)، بل وصل به الحال بأن يتفانى في سبيل هدايتهم وعودتهم عن غيّهم، فأشفق عليه ربه وقال له لا تجهد نفسك ولا تَذهَب نفسك عليهم حسرات فهم لا يؤمنون، قال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ لاَ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: 3). وقال أيضاً: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (فاطر: 8).
ولم ينفَّس كرب النبيّ(ص) جراء سلوك بعض أصحابه؛ ليتجرَّع مرارة الأذى من بعض أزواجه([11]) فحرّم على نفسه بعض ما أحلَّ الله له إرضاءً لهن وتطييباً لخاطرهنّ، ونزعاً للشحناء والبغضاء من صدورهنّ، ولو كان ذلك يستتبع مشقته وحرمان نفسه من حقوقه، فأشفق الله عليه مكْبِراً حرصه وتفانيه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التحريم: 1)، ولقد جعل ما حرَّمه على نفسه سراً عند بعض نسائه فأفشَتْه! فعاتبها الله عتاباً شديداّ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (التحريم: 3). ولم تكن تلك المكارم من الأخلاق ضعفاً في شخصيته ولا مشوبة بتنازل عن مبادئه وقيمه، بل كانت آية في ترسيخ معالم الحكم بما يخدم الدين، وحسن تدبير أمور عامة المجتمع.
وهكذا رسم النبي(ص) سياسته الداخلية لتكون قائمةً على مداراة الناس، والإعراض عن الجاهلين، والتغاضي عن سفاسف أخلاقهم، متمسكاً بالعفو عن زلاتهم كسبيل لجذبهم إلى ساحة التوبة والهدى، وحسن الإيمان، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، فمحمد ليس هو إلا صاحب القلب الرؤوف الحريص على الناس عامّةً، والمؤمنين خاصّةً، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128). ولذلك استحق من الله أعظم وسام على الإطلاق، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4).
5ـ الفتح المبين
وهكذا استطاع النبيّ(ص) بعد سبع سنين مضت في حكمه وقيادته أن يوسِّع دعوته وسلطانه، لتصل صداها إلى خارج شبه الجزيرة العربية، فأمره ربه لأداء فريضة العمرة، فوقف المشركون في طريقه في منطقة تسمّى «الحديبية» محاولين منعه، وحرصاً منه على مصلحة الإسلام والمسلمين أبرم معاهدة مع المشركين وأخَّر عمرته إلى قابل، وأمر المسلمين بالتحلُّل من إحرامهم ونحر الهَدْي بأمر الله، قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ…﴾ (البقرة: 196). واعترض بعض صحابته عليه لقبوله بتلك المعاهدة لما في ظاهرها ما يوحي بالتنازل للمشركين في بعض الأمور، فوعظهم النبيّ(ص) وذكّرهم بأنه رسول الله لا ينطق عن الهوى، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 ـ 4). وهكذا انكشفت أسرار تلك المعاهدة وأبعادها بعد حين، فقد حولها رسول الله إلى فرصة لنشر الإسلام وترسيخ معالمه التوحيدية والوحدوية؛ حيث أكرمه الله بفتح القلوب، فدخل القبائل في دين الله أفواجاً، قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ (الفتح: 1). وكان ذلك مقدمة لفتحه مكّة المكرمة مسالماً مستغفراً شاكراً لله وحده تحت شعار «اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة» ولم يكن ذلك النصر المبين ليتسلل إلى نفسه الغرور أو الانتقام من الذين قاتلوه وآذوه وأخرجوه من دياره، بل كان لربِّه من المستغفرين والمسبِّحين الشاكرين، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ (النصر: 1 ـ 3)، فكانت هذه السورة بمثابة نعي له حيث شارفت مهمته على النهاية، حيث أمره الله أن يبلغهم خليفته من بعده لتبقى مسيرة هداية الناس قائمة([12])، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67). فإعلان الولاية والخلافة من بعده ما كانت إلا لتحصين الإسلام والمسلمين من التّيه والفرقة والتنازع الداخلي من جهة، ولييأس الكافرون من أن ينالوا من الإسلام والقضاء عليه من جهة أخرى، قال تعالى: ﴿…الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً…﴾ (المائدة: 3).
6ـ القدوة والأسوة الحَسَنة
لقد كان النبيّ العظيم بحقٍّ نبراساً وأسوةً حسنة يقتدى به في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فهو السبيل للعزة والكرامة والتطور والرقي مادام الليل والنهار، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب: 21)، وبذلك انتهت مهمته وحان موعد لقاءه بربه، فكانت وفاته في الثامن والعشرين من صفر من السنة العاشرة للهجرة، عن عمر دام ثلاثاً وستين سنة خاتماً القرآن العظيم بآخر آية توعظ الناس بأن يتذكّروا اليوم الذي سيرجعون فيه إلى الله، فتوفّى كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ أو سوء، فالموعد الله، وهو خير الحاسبين، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 281).
الهوامش
([1]) مقالٌ مقدم لمؤتمر دار الرسول الأعظم(ص) العلميّ الثالث، التابع للعتبة العبّاسية في كربلاء.
([2]) باحثٌ وكاتبٌ في المناهج الدراسيّة، وأستاذُ الدراسات العليا لعلوم العقيدة والقرآن والحديث في جامعة المصطفى العالميّة(ص) في دمشق
([3]) صدر الدين الطباطبائي، شرح دعاء ندبه (فارسي)، ص120.
([4]) محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ط4، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1983م، ج2، ص661.
([5]) جعفر السبحاني، سيرة سيد المرسلين، ط3، دار الأضواء، 2003م، ج1، ص190؛ عباس القمّي، منتهى الآمال، ج1، ص23، الدار الإسلامية، بيروت، 2003م.
([6]) الجمع بين السلطة والهداية، ص4.
([7]) شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المحقق: علي عبد الباري عطية، ص74، الناشر دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1415هـ.
([8]) حدثنا حبيب بن الحسن بن أبان الآجري، قال: حدَّثني محمد بن هشام، عن محمد قال: حدثني يونس قال، قال: لي أبو عبد الله(ع): اجتمعوا أربعة عشر رجلاً أصحاب العقبة ليلة أربعة عشر من ذي الحجة، فقالوا للنبيّ(ص): ما من نبي إلا وله آية فما آيتك في ليلتك هذه؟ فقال النبيّ(ص): ما الذي تريدون؟ فقالوا: إن يكن لك عند ربك قدر فأمر القمر أن ينقطع قطعتين، فهبط جبرئيل(ع) وقال: يا محمد أن الله يقرؤك السلام ويقول لك: إني قد أمرت كل شيء بطاعتك، فرفع رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين، فانقطع قطعتين فسجد النبيّ(ص) شكراً لله وسجد شيعتنا، رفع النبيّ(ص) رأسه ورفعوا رؤوسهم، ثم قالوا يعود كما كان فعاد كما كان، ثم قالوا ينشق رأسه فأمره فانشق فسجد النبيّ(ص) شكراً لله وسجد شيعتنا، فقالوا: يا محمد حين تقدم سفارنا من الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنه من ربك، وإن لم يروا مثل ما رأينا علمنا أنه سحر سحرتنا به، فأنزل الله اقتربت الساعة إلى آخر السورة. (تفسير عليّ بن إبراهيم القمي، ج1، ص63). وروي كمثله من طرق العامة.
([9]) هما الصحابيان الجليلان «ياسر وزوجته سمّية».
([10]) إسماعيل ابن كثير، تفسير ابن كثير، ص1498، دار الكتاب العربي، ط1، سنه.2004م.
([11]) إسماعيل ابن كثير، تفسير ابن كثير، ص1878، دار الكتاب العربي، ط1، 2004م.
([12]) ذكر المصنِّفون المسلمون بطرق مختلفة أن النبي(ص) وقبل أن يتفرق الحجيج في حجة الوداع قال لأصحابه: «ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا: بلى فقال: مَنْ كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وانصر مَنْ نصره، وأعِنْ مَنْ أعانه». (سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم لكبير، ج4، ص17).