أحدث المقالات

على الرغم من ذيوع صيت هذا الكتاب  الذي طبع طبعته الأولى  في مطبعة العرفان بصيدا بلبنان، سنة 1355 هجرية، فإنه لا يزال يثير تساؤلات بين الفينة والأخرى حول حقيقته وطبيعته.

و مؤخرا وبتاريخ 10/10/ 2023م نشر الدكتور رشيد الخيون مقالا في صحيفة الشرق الأوسط، بعنوان: المراجعات، لشرف الدين العاملي، حوار متخيل.

ذكر الكاتب في مقدمة مقاله، بانه يتحرى الحقيقة  ولا شأن للعقائد بما يكتب، إنما هذا تاريخ، ولا يجوز التغافل عما يراه حقيقة.

و ذكر أنه  منذ الثمانينيات من القرن الميلادي السابق، ظهرت عدة نقائض عليه، وأشار إلى أحدها التي اتبعت أساليب السب والقذف والتخوين لطائفة كاملة.

بينات الخيون:

و ساق الخيون ما عده “بينات” على أن الكتاب كان حوارا متخيلا، حاور كاتبه نفسه بما في داخله من رغبة التأثير في الخلاف المذهبي. ورأى أنه  أشبه بأمثاله من قبيل كتاب “الرحلة المدرسية، بحوث في التوراة والإنجيل” للعلامة محمد جواد البلاغي، وكتاب  “حوار مع صديقي الملحد” للطبيب مصطفى محمود.

و أبرز “بيناته” التي ساقها لتأييد رأيه  تتمثل في التفاوت في العمر والموقع الرسمي بين العالمين الجليلين، فالشيخ سليم كان عمره آنذاك 79 عاما، بينما كان عمر السيد شرف الدين 38 عاما. وأن الأول كان شيخ الأزهر الشريف بينما الأخير لم يكن مرجعا ومجتهدا آنذاك. وأن ابن الشيخ سليم أفاد بان والده لم يذكر له عن الشيعة شيئا مع أنه ما كان يخفي عليه شيئ. وأن الكتاب خلا من اسم البشري وموقعه كإمام الأزهر، بل ذيلت المراجعات بحرفي “س” و”ش” ، وفي رأيه  أنهما يرمزان إلى شيعي وسني وليس إلى سليم وشرف الدين، لأن الأخير اسمه عبد الحسين. وأن أسلوب المراجعات واحد وتعبيرها متطابق تماما وأن كاتبها واحد. وأخيرا، أيد رأيه بما جاء في كلام السيد شرف الدين في ختام الكتاب، بانه تم بقلمه.

و أول ما يلحظ فيما أفاده الخيون، أنه اقتصر في أغلب “بيناته” على مقتطفات منتقاة  من مقدمة كتاب المراجعات وخاتمته  بالإضافة إلى  بعض الحيثيات المصاحبة.

و إني إذ أتفهم النتيجة الي توصل إليها الخيون، بل أراني لو اتبعت مقاربته لربما كنت أميل إلى ما انتهى إليه!

 وكنت أتمنى عليه، كباحث  يتحرى الحقيقة ويكتب للتاريخ ، أن لا تفوته إفادات السيد شرف الدين في مقدمة كتاب المراجعات عن خلفيات تأليفه. كما أن تحري الحقيقة في البحث التاريخي يستوجب التوسع في البحث للوصول إلى أجوبة عن التساؤلات المطروحة. ولهذا كان المفترض أن لا يغفل مراجعة أعمال السيد شرف الدين، كسيرته الذاتية التي كتبها بنفسه وطبعت في حياته، فضلا عن بقية كتبه، وما كتب عنه في إرشيف بعض المجلات المعاصرة آنذاك مثل مجلة العرفان اللبنانية. وقد تحدث السيد شرف الدين في سيرته عن زيارته لمصر وأبرز أعماله فيها. ويظهر لي أنها تكفلت بتوضيح بعض ما غمض على الباحثين من خلفيات هذا الكتاب.

و في هذه المقالة، أود توضيح بعض الأمورالتي يغفلها الكُتاب، وأشير إليها تباعا: 1-تفاوت العمر والموقع الرسمي:

 ويبدو لي أنها أمور ثانوية في المقام، وقديما قيل: إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه.  على أن عمر السيد شرف الدين كان 39 آنذاك، فهو من مواليد 1290 هجرية وزيارته إلى مصر كانت سنة 1329 هجرية.

و كثيرا ما يقرب الأساتذة والمشايخ بعض تلامذتهم من مجالسهم ويضاعفون اهتمامهم بهم – بصرف النظر عن أعمارهم – إذا لمحوا فيهم سماة النبوغ.

هذا مع العلم أن السيد شرف الدين كان قد حاز على إجازات في الاجتهاد المطلق من أكابر المجتهدين في الحوزة النجفية، ونال على إجازات في الرواية من أعلام من غير الإمامية.

و قد أشار إليها في سيرته الذاتية، تحت عنوان “نصوص مشايخي في إجازاتهم” وذكر ستة من أعلام الأعلام، وأولهم الشيخ محمد طه نجف، الذي أجازه سنة 1322هجرية، وجاء فيها: بلوته فوجدته ذا ملكة قدسية في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية…فعلى المؤمنين أن يرجعوا إليه في الفتوى وفصل القضاء، فإن حكمه الفصل وقضاءه العدل، لا يسع المؤمن إلا إنفاذه والبخوع له، وليهتد المؤمنون بهديه وليكونوا عند أمره ونهيه..الخ.

و الإجازة الثانية للشيخ محمد كاظم الخراساني ، في سنة 1321 هجرية، ومما جاء فيها: إن سيادة السيد السند والثقة الفقيه المجتهد…مجتهد مطلق وعدل موثق قد أصبح من أهل الذكر الذين ترجع إليهم العباد وترقى من حضيض التقليد إلى أوج الاجتهاد، فخفقت ألوية النيابة عليه..فليتمثل المؤمنون أمره ونهيه وليرجعوا إليه، فإنه حجة عليهم..الخ.

أما الإجازة الثالثة فهي للشيخ آغا رضا الهمداني، في سنة 1320 هجرية، ومما نصت عليه: فهو ذو ملكة راسخة قدسية في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية يباح بها للعوام أن يرجعوا إليه في تلك الأحكام ويجب عليهم تنفيذ حكمه في المرافعات وفصل الخصام..الخ.

و الإجازة الرابعة للشيخ عبدالله المازندراني والخامسة لشيخ الشريعة الاصفهاني والسادسة للسيد إسماعيل الصدر.

و يلحظ فيها التصريح باجتهاده المطلق وتوجيه الجماهير للرجوع إليه وتنفيذ أحكامه. وقد يفهم منها أنهم كانوا يتوسمون فيه أن يتولى مهام المرجعية العامة في بلاده.

2-الغاية من زيارة السيد لمصر:

بمراجعة النصوص التي كتبها السيد شرف الدين عن زيارته لمصر و التي نتج عنها كتاب المراجعات، نجد أن زيارته  لم تكن ذات طابع رسمي، ولم يقدم السيد نفسه كممثل للمسلمين الإمامية. كانت زيارته لمصر – كما عبر عنها –  تحقيقا لأمنية شخصية لديه، لأنها كانت منارة علم ومنتجع الثقافة، تكافئ النجف الأشرف بأزهرها الشريف، وتجاريه في خدماته للثقافة الإسلامية وحراسة العلوم العربية. وأما هدفه الذي كان يطمح أن يحققه  فهو، كما أبانه  “لأقف  على أعلامها، لآخذ العلم عنهم ولأبلو ما يبلغني عن الجامع الأزهر. ولما تحققت أمنيته  وزارها بالفعل سنة 1329هجرية، توخى التعرف على الحياة العلمية والأدبية  فيها وسعى لمجالسة العلماء والسماع منهم وتبادل الزيارات بينهم وإجراء المناظرات معهم في المسائل العلمية التي كانت مدار البحث. والنتيجة إن  زيارته كانت شخصية ولم تكن تحمل أية سمة رسمية.

3-علاقة السيد شرف الدين بالشيخ سليم البشري:

 بدأت العلاقة بينهما بشكل اعتيادي حيث شرع السيد شرف الدين في حضور درسه. وتطورت هذه العلاقة وتوثقت تدريجيا، بعد أن تعرف الشيخ سليم على شخصيته عن كثب واطلع على مداركه وإمكاناته العلمية في شتى المعارف الفكرية والأدبية. ولندع السيد ليخبرنا عنها، قال: وقد بدأت هذه الجولة بالحضور في دورة الشيخ سليم البشري المالكي (رحمه الله) شيخ الأزهر يومئذ وكان يشرف على طلابه من منبره وهو منطلق في درسه انطلاقا يلحظ منه توفره وضلاعته فيما هو فيه، وكان يلقي درسا في مسند الإمام الشافعي، فكان يعرض أول ما يعرض للسند فيترجم رجال سلسلته باختصار، فاذا انتهى إلى الحديث نفسه، فصل الكلام حوله بإفاضة…و لا يفوته ذكر الأصول العملية والقواعد العلمية عند الاقتضاء، كما لم يكن يفوته التعرض لأقوال الأئمة في المسائل الخلافية ولا يفوته مدارك الخلاف، فإذا كان الحديث معارضا جمع بينهما فيما يمكن منه ذلك، او رجح أحدهما صادعا بوجه الترجيح. وحدث أن ناقشه السيد شرف الدين  في إحدى المرات أثناء الدرس، ثم علم أن العرف الأزهري يقضي بأن تؤجل المناقشات عقب الدرس. قال: وكانت مناقشتي الأولى – في كل حال – سبب في اتصال المودة بيني وبينه وسبيلا إلى الاحترام المتبادل ثم كانت الاجتماعات بيننا وتشاجنت الأحاديث وتشعب البحث بما سجلناه في كتاب المراجعات.  وهكذا  بدأت العلاقة بينهما عادية، كانت أشبه بعلاقة التلميذ بشيخه، ثم لم تلبث أن قويت الاتصالات واللقاءات بينهما واقترب التلميذ إلى أستاذه حتى حظي منه بمنزلة متميزة بحيث كان يختلف إليه ويخلو به ويتباحث معه ويزوره في منزله. ويتحدث السيد عنها بقوله: حضرت درسه وأخذت عنه علما جما وكان عيلم علم وعلم وحلم، وكنت أختلف إلى منزله وأخلو به في البحث عما لا يسعنا البحث عنه إلا في الخلوات، وكان جل بحثنا في الإمامة.

و نظرا لطبيعة القضايا الحساسة التي كانا يتناولانها بشفافية عالية في خلواتهما، يبدو أنهما اتفقا على أن لا يُفصح عنها آنئذ. وحسبما نصت عليه المراجعتان  الأولى والثانية، اتفقا على تناول مبحثين هامين هما “إمامة المذهب (الإمامي) أصولا وفروعا، والإمامة العامة وهي الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم” واتفقا على  تذييل الرسائل المتبادلة بينهما بحرفي “س” و”ش” وكان كلا المقترحين مقدمين من الطرف الأول منهما .

و قد تواصلت العلاقة بينهما بعد مغادرة السيد شرف الدين مصر، سنة 1330هجرية، كما ذكر السيد في سيرته  حيث قال: واطردت المراسلة بعد العودة إلى البلاد بيني وبين شيخنا البشري زمنا ثم طغت عليها الشواغل وكوارث الحرب العامة الأولى.

4-إجازة الشيخ سليم البشري للسيد شرف الدين:

تحدث السيد شرف الدين عن الشيخ  سليم البشري بكثير من التقدير والإجلال وأطلق عليه أوصاف المدح والثناء في  مختلف الموارد التي ذكره فيها. وهو أحد أبرز مشايخه الذين نال إجازاتهم. وقد ذكره في سيرته عند حديثه عن إجازاته، قال: وأما مشايخي من أهل السنة قراءة وسماعا وإجازة، فأكثر من مشايخي الإمامية، بيد أني أقتصر الآن على ذكر خمسة من شيوخ إجازتي من أقطابهم.

الأول: أستاذنا الشيخ سليم البشري المالكي شيخ الأزهر وإمام علماء مصر في وقته، لقيته سنة 1329 هجرية، بمصر وحضرت درسه في الأزهر مدة من الزمان، وكانت بيننا مناظرات علمية ومراجعات خطية، مثلت ورعه وإنصافه وعلو منزلته علما وأخلاقا وأدبا. أجازني إجازة عامة مفصلة قد اشتملت على جميع أسانيده وطرقه المتصلة بجميع كتب أهل السنة نقلية وعقلية وبمصنفيها من المتقدمين والمتأخرين. وإليك بعض طرقه إلى صحيح البخاري، كما أجازه شيخه الإمام الشيخ محمد الخناني عن العلامة الكبير الشيخ محمد الأمير عن العلامة الشيخ علي العدوي عن الشيخ محمد عقيلة عن الشيخ حسن بن علي العجيمي عن الشيخ أحمد بن محمد العجل عن الإمام يحيى بن مكرم الطبري عن البرهان إبراهيم بن محمد بن صدقة الدمشقي عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الأول الفرغاني عن عبد الرحمن محمد بن شاذبخت الفرغاني بسماعه عن الشيخ أبي لقمان يحيى بن عمار بن مقبل شاهان الختلاني عن محمد بن يوسف الفربري عن الإمام عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع للكتاب المعروف بصحيح البخاري عن شيوخه بأسانيدهم وطرقهم كلها”

و هكذا توطدت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه وانتهت إلى منحه إجازة عامة في الرواية. وهذا لا يمنع من أن يكون التلميذ أكثر تضلعا وتعمقا في بحوث الإمامة حسب مناهج مذهبه الإمامي. وما أكثر ما رأينا علماء كبارا من هذا الفريق أو ذاك، يجهلون أوليات الفقه والكلام والأصول للفريق الآخر.

5- اعتراف بالواقع وليس تنازلا:

في هذا السياق، لا يفوتني أن أشير إلى قراءتي وفهمي لنص المراجعة رقم (111) والمذيلة بحرف “س” والتي أقتبس منها ما يناسب المقام  : أشهد أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول، وقد أوضحت هذا الأمر فجعلته جليا وأظهرت من مكنونه ما كان خفيا، فالشك فيه خبال والتشكيك فيه تضليل، وقد استشففته فراقني إلى الغاية وتمخرت ريحه الطيبة فأنعشني قدسي شذاه الفياح. وكنت – قبل أن أتصل بسببك – على لبس فيكم لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين، وإجحاف المجحفين..الخ.و في نظري إن هذا النص لا يمثل تحولا أو تنازلا عن مذهب إلى آخر، كما رأى بعض، بل هو نظري، غاية ما يدل عليه الاعتراف باستناد  المذهب الإمامي في الأصول والفروع إلى أئمة أهل البيت النبوي، الأمر الذي يرجف حوله المرجفون في كثير من مصادر التراث بإرجاعه إلى أصول أجنبية دخيلة.

 وتجدر الإشارة إلى أن المراجعات انطوت على تفاهمات أخرى بينهما حول بعض القضايا الخلافية التاريخية العميقة. وقد سبقه السيد شرف الدين في المراجعة رقم (4) أن طالبه بعد مذهب أهل البيت كأحد المذاهب الأربعة حتى يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع ، وهو ما قد لا يوافقه عليه جملة من المسلمين الإمامية.  وفي المراجعة رقم (84) قدم مقاربة مغايرة لما عليه كثير من الإمامية، حول مواقف الصحابة من النصوص النبوية المتعلقة بالشأن السياسي العام. وحاول حمل مواقفهم على الصحة واحتمل لهم العذر في ذلك حتى في قضية الخلافة العامة. ونقتبس من كلامه ما يلزم، قال: أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم انما كانوا يتعبدون بالنصوص إذا كانت متمحضة للدين مختصة بالشؤون الأخروية…أما ما كان متعلقا منها بالسياسة كالولايات والإمارات وتدبير قواعد الدولة وتقرير شؤون المملكة وتسريب الجيش فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحا للبحث ومجالا للنظر والاجتهاد..الخ.

إن مثل هذه التفسيرات التي من شأنها أن تقرب وجهات النظر بين أطراف النزاع، تفرضها طبيعة المباحثات الكلامية التي يهدف أصحابها تحقيق مزيد من التعارف والتقارب بين المسلمين.

6-خلفيات كتاب المراجعات:

أشار إليها السيد شرف الدين في مواضع عدة من كتبه وأعماله – وعلى تفاوت –  ومنها، في سيرته الذايتة  في كتابه “بلغة الراغبين” أثناء حديثه عن حضوره لدرس الشيخ سليم البشري وتطور التواصل والتواشج بينهما.

و تطرق إليها عند حديثه عن شيوخه وإجازاته منهم، في كتابه “ثبت الأثبات”  فذكر أستاذه الشيخ سليم البشري، ومما قاله فيه حول كتاب المراجعات: وكانت بيننا مناظرات علمية ومراجعات خطية.

  كما أشار إليها في سيرته الذاتية تحت عنوان: مؤلفاتي. فذكرقائمة مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة التي فقدت وضاعت بسبب بعض الحوادث المؤسفة. وأما عن كتاب المراجعات، وترتيبه 19، قال: كتاب المراجعات أوالمناظرات الأزهرية والمباحثات المصرية، مجلد واحد، يثبت رأي الإمامية في الإمامة والخلافة بعد رسول الله (ص)، ألفناه في مصر إذ أتيناها سنة 1329 هجرية، فجمعنا الحظ السعيد بإمامها الوحيد الشيخ سليم البشري المالكي شيخ الجامع الأزهر في ذلك العهد. وأضاف: وكنت أختلف إلى منزله وأخلو به في البحث عما لا يسعنا البحث فيه إلا في الخلوات وكان جل بحثنا هذا في الإمامة التي ما سُل سيف في الإسلام على قاعد دينية مثل ما سل عليها. وأردف  وقد أخذنا على أنفسنا أن نمعن النظر في البحث عن أدلتها متجردين  عن كل عاطفة سوى انتجاع الحقيقة والوصول إليها من طريقها المجمع على صحته . وعلى هذا جرت مناظراتنا ومراجعاتنا وكانت خطية تبادلنا بها المراسلة إبراما ونقضا.  ويتبين  من هذه النصوص بأن المباحثات بينهما كانت متواصلة في مختلف القضايا الأصولية والفقهية والكلامية، وأن قضية الإمامة حازت باهتمام أكبر وكانت على نحوين، أحدهما، محادثات شفوية في لقاءات خلوية مباشرة بينهما، والآخر هو تبادل رسائل خطية.

أما المباحثات الخاصة بكتاب المراجعات فقد أوضح السيد شرف الدين خلفياتها، وأنها عبارة عن مناظرات ومباحثات ومراجعات بينه وبين الشيخ سليم البشري، وأنها كانت خطية نقضا وإبراما حيث كان يكتب أحدهما فينقض عليه الآخر وهكذا. وأنها وقعت في مصر أثناء زيارة السيد شرف الدين لها سنة 1329 هجرية.

و قد أعاد السيد تأكيد ذلك في مقدمة كتاب المراجعات عند تطرقه إلى المنهج الذي اتفق العلمان على اتباعه في مباحثاتهما، قال: لذلك قررنا أن يتقدم هو بالسؤال خطا عما يريد، فأقدم له الجواب بخطي على الشروط الصحيحة، مؤيدا بالعقل أو بالنقل الصحيح عند الفريقين. وبهذا يتبين بجلاء بأن أصل هذه المراجعات هو حصيلة مباحثات حقيقية مباشرة بين العالمين الجليلين ولم تكن مجرد حوارات متخيلة.

7- أسلوب الكتاب وتأخر نشره:

 يظهر أن من بين أسباب تأخر نشر الكتاب يعود إلى بعض الحوادث السياسية التي تعرض لها السيد شرف الدين بسبب مواقفه النهضوية في مواجهة المستعمرين الفرنسيين في بلاد الشام مما أدى إلى تلف كثير من المخطوطات والأعمال النفيسة وفقدانها ومنها مخطوطة هذا الكتاب. وقد أشار إليها السيد بحرقة وألم في مواضع من كتبه. ومما قاله في سيرته: وكنت أردت يومئذ طبع تلك المراجعات وهي 112 مراجعة ولكن الأقدار الغالبة أرجأت ذلك، فلما نكبنا في حوادث سنة 1338هجرية – كما سنفصله في محله – انتهبت مع سائر مؤلفاتي يوم صيح نهبا في دورنا. وجاء في هامشه فعظمت الرزية، وجلت المصيبة، إذ لم يكن شيء منها مطبوعا وإنما كانت مخرجة إلى التبييض بذلك الخط الجميل، والله حسبنا ونعم الوكيل. ولما هدأت الأوضاع وأتيحت له الفرصة في استعادة ما أمكنه من ذاكرته، شرع في كتابة كتاب المراجعات. وقد أفصح عن ذلك بوضوح لا لبس فيه، فقال: وما أن فرج الله تعالى عنا بفضله وكرمه حتى استأنفت مضامينها بجميع مباحثاتها التي دارت بيننا من المحاكمات على ما أوضحناه في مقدمة الكتاب، والحمد لله باعث من في القبور على بعث هذا السفر النافع ونشره. كما أوضح ذلك بجلاء في مواضع من مقدمته على كتاب المراجعات، مما يجيب على الأسئلة المطروحة. فقد افتتح مقدمته بقوله: هذه صحف لم تكتب اليوم، وفكر لم تولد حديثا، وإنما هي صحف انتظمت منذ زمن يربو على ربع قرن، وكادت يومئذ أن تبرز بروزها اليوم، لكن الحوادث والكوارث كانت حواجز قوية عرقلت خطاها، فاضطرتها إلى أن تكمن وتكن. ثم قال: فإن الحوادث كما أخرت طبعها مست وضعها. وأومأ إلى ذات المضمون بعد عرضه للمنهج الذي جرت عليه المباحثات بينهما، فقال: وكنا أردنا يومئذ طبعها لنتمتع بنتيجة عملنا الخالص لوجه الله عز وجل، ولكن الأيام الجائرة والأقدار الغالبة اجتاحت العزم على ذلك، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي. وأخيرا بيّن بجلاء بما يجيب على سؤال وحدة الأسلوب فقال: وأنا لا أدعي أن هذه الصحف صحف تقتصر على النصوص التي تألفت يومئذ بيننا، ولا أن شيئا من ألفاظ هذه المراجعات خطه غير قلمي، فإن الحوادث التي أخرت طبعها، فرقت وضعها أيضا – كما قلنا -. وأضاف يقول: غير أن المحاكمات في المسائل التي جرت بيننا موجودة بين هاتين الدفتين بحذافيرها مع زيادات اقتضتها الحال ودعا إليها النصح والإرشاد وربما جر السياق على نحو لا يخل بما كان بيننا من الاتفاق. ثم ذكر منهجه في أجوبته الى الأسئلة التي عرضت عليه بقوله : وقد جهدت في إخراج هذا الكتاب بنحت الجواب فيه على النحو الأكمل من كل الجهات، وقصدت به إلهام المنصفين فكرته وذوقه بدليل لا يترك خليجة وبرهان لا يدع وليجة. وبعد هذه التوضيحات من السيد شرف الدين، لا غرابة في أن يختم الكتاب بقوله: تم الكتاب بمعونة الله عز وجل وحسن توفيقه تعالى بقلم مؤلفه عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي، عامله الله بفضله وعفا عنه بكرمه انه أرحم الراحمين. ولعل لهذه الأسباب ارتأى السيد شرف الدين أن لا يصرح باسم الشيخ سليم البشري في كتاب المراجعات واكتفى بالإشارات الإجمالية إليه. أما حرفا “س” و”ش ” اللذان ذيلت بهما المراجعات، ففي نظرنا إنهما يرمزان إلى كلا الناحيتين، المذهبين والإسمين معا.  فأحدهما سليم والآخر معروف بشرف الدين الموسوي، حتى أن الكاتب الخيون نفسه ذكره بهذا الاسم في عنوان مقاله.

و بهذا فقد تبين، إن كتاب المراجعات كتبه السيد شرف الدين بقلمه وأخرجه بأسلوبه، اعتمادا على ذاكرته، حيث بذل جهده في استعادة مضامين المناظرات الحقيقية  التي جرت بينه وبين الشيخ سليم البشري، مؤكدا أنه نقل مضامينها بحذافيرها وأن الزيادات لا تخل بما اتفقا عليه. وعليه فكتاب المراجعات هو بمثابة  رواية بالمعنى لمناظرات ومباحثات حقيقية جرت بين العلمين، قررها أحد طرفي المناظرة اعتمادا على ذاكرته بعد  مرور ربع  قرن من الزمان على وقوعها.

و لا يوجد مسوغ لتكذيب ما رواه وقرره السيد شرف الدين بعد كل الشواهد المتعاضدة التي دلت على حضوره لدروس الشيخ سليم ووقوع اللقاءات بينهما والتي توجت بمنحه الإجازة العامة  التي لا تمنح في العادة لأي تلميذ.

على أن هناك  مقاربات تنطلق من مسبقات ومزاعم معروفة تسوغ تكذيبه.

نعم هناك فراغات تصادف الباحث – وهو شأن كثير من حوادث التاريخ – وثمة أمور تفصيلية غائبة  حول كيفية انجاز كتاب المراجعات من قبل السيد شرف الدين. وكل ذلك يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء.

و أخيرا نقول، إن الكتاب متداول وفي متناول الجميع، ويجدر بالباحثين أن يدرسوه ويخضعوا منهجه ومضامينه للدراسات التحليلية والنقدية الموضوعية، كأي نتاج فكري اجتهادي بشري.

و الحمد لله رب العالمين.

الهوامش والمراجع:

1-رشيد الخيون، المراجعات، لشرف الدين،حوار متخيل، صحيفة الشرق الأوسط.

2-  موسوعة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ج0، ج1، 6، 7، 8، 9، مركز العلوم والثقافة الإسلامية، دارالمؤرخ العربي، الطبعة الثانية، سنة 2010م،  بيروت.

3- هادي فضل الله، رائد الفكر الإصلاحي، السيد عبد الحسين شرف الدين، مؤسسة عز الدين، بيروت.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً