الشيخ محمد تقي سبحاني(*)
مقدمة ــــــ
يمكن تقسيم الفكر الديني المعاصر في إيران إلى قسمين: الفكر النظري؛ والفكر الاجتماعي. في الفكر النظري يتمّ التساؤل عن حقائق الوجود والطبيعة ومصير الإنسان، بينما يُبحث في الفكر الاجتماعي عن ماهية العلاقات الاجتماعية، وطرق تعامل الإنسان مع المظاهر العامة والتعاطي معها. وعلى التفكير الديني المعاصر أن يبحث في كلتا الجهتين؛ وذلك لظهور الكثير من الأفكار والمفكرين المعاصرين فيهما، الأمر الذي أفضى إلى ظهور تجارب جديدة في فهم الدين، وما نتوخاه هنا هو توظيف هذه التجارب في سياق تطوير المعرفة الدينية، والتعامل مع الاستفسارات والتساؤلات المطروحة منطقياً.
إلا أن هذه الدراسة ستكتفي بالبحث في الفكر الاجتماعي الديني، وتترك البحث في الفكر النظري إلى فرصة أخرى.
لقد شكل الفكر الاجتماعي منذ القدم ركناً أساسياً في الثقافة الإسلامية، بيد أن البحث في (نسبة الدين إلى المجتمع)، والتساؤل عن حدود تدخل الإسلام في رقعة الحياة الاجتماعية ليس ضارباً في القدم([1]). وهناك عدّة أسباب لتكوّن هذه المسألة واتساع نطاقها في الحوار الديني المعاصر.
إن المظاهر الحديثة طوال القرنين المنصرمين، والتواجد الكبير للثقافة الاجتماعية الغربية ومدارسها السياسية في الوسط الإسلامي من جهة، والانحطاط الذي أصاب المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى، أدّت بالعلماء والمفكرين المسلمين إلى الاهتمام جدّياً بهذه الظاهرة، وطرح التفكير الاجتماعي للإسلام بوصفه واحداً من التساؤلات الهامّة في مجال المعرفة الدينية. وفي ما يتعلق بالمجتمع الإيراني كانت نهضة المشروطة من الأسباب التي أسهمت في تسريع عجلة الجهود النظرية في هذا السياق، وقد بلغت ذروتها عند تصاعد أحداث الثورة الإسلامية وما أعقبها من متغيّرات. وطبعاً لا ينبغي لنا أن نغفل في البين التجربة الكبيرة الأخرى في المجتمع الشيعي الإيراني، والتسرّع في طيّ صفحتها في خضمّ هاتين التجربتين السياسيتين، وأعني بذلك تكوّن أول دولة شيعيّة كبرى في إيران بالتعاون بين الملوك الصفويين وعلماء الشيعة، الأمر الذي ترك من دون شكّ تأثيرات كبيرة على تكامل الفكر السياسي بين علماء الشيعة([2]).
ومهما كان فإنّ من إرهاصات الثورة الإسلامية، التي لم يتمّ التعريف بها بالمستوى المطلوب إلى اليوم، دورها في ظهور التيارات الفكرية الداعية إلى شفافية الحوارات الاجتماعية في مجال الفكر الإسلامي. إن التعريف بهذه التيارات والحوارات الحيوية والناشطة، والتكهّن بمسار تحوّلاتها في المستقبل على مستوى إيران والعالم الإسلامي، يمكنه أن يخلق أرضية مناسبة لفهم التساؤلات الأساسية على نحوٍ أفضل، والتعريف بالمشاريع التحقيقية الحديثة، وفتح المناخات الجديدة في الحوارات النخبوية.
طوال العقود الثلاثة المنصرمة أثرت الثورة الإسلامية النمط الفكري في إيران من ناحيتين:
الأولى: إنها ساعدت على شفافية وفرز التيارات الفكرية، وتوضيح الآراء المبهمة والمشتتة أحياناً. وقد كانت هذه الظاهرة مدينة قبل كلّ شيء للنهج السياسي للجمهورية الإسلامية في مجال الإدارة، الأمر الذي أدّى بجميع الاتجاهات إلى التنافس فيما بينها في ميدان تلبية متطلبات المرحلة؛ فأخذت تبيّن مواقفها وآراءها بشكلٍ أكثر وضوحاً وتفصيلاً، بعد أن كانت تطرحها بشكل كلّي ومبهم، وبذلك ظهرت طوال العقود الثلاثة المنصرمة اتجاهات وتيارات ذات أطرٍ نظرية وقيم وإيديولوجيات محدّدة.
الثانية: إنها أسهمت في توفير مناخ يسمح لبعض الأفكار بالظهور، بعد أن كانت محرومة من ذلك، وخلقت لها أرضية صالحة للنمو والمشاركة التدريجية في الحوارات الجادّة، رغم أن التيارات الأخيرة ـ خلافاً للتيارات المتقدمة ـ لم ترقَ حتى الآن إلى مستوى البلوغ الفكري والرشد المعرفي([3]).
مساحة الدراسة وأهدافها ــــــ
يهدف هذا المقال قبل كلّ شيء إلى عرض (إطار نظريّ) لتحليل الآراء والاتجاهات، أو الحوارات الفاعلة في مجال الفكر الاجتماعي الديني المعاصر في إيران. ومن الواضح أن الإطار النظري والوصول إلى ملاكات للتعريف بالأفراد والأفكار وتمييزها من بعضها بحاجة إلى بعض المقدمات. ورغم أن الفئات الفكرية تطرح نفسها على الدوام في طيف واسع يتعذر معه التفريق بينها، ولكن يمكن الفصل بينها من خلال توجّهاتها الأساسية. وإن الإطار النظري الذي نحن فيه يعمل على تبيين المباني والقيم الأساسية، ويرسم مشهداً عاماً للمجموعة الفكرية، ويفتح الطريق أمام المحققين للتفكيك بين التيارات.
وفي القسم الثاني عمدنا ــ من خلال نظرة إجمالية على التفكير الديني المعاصر في إيران ــ إلى التعريف بأهمّ المراكز الفكرية والسياسية لكلّ واحدة من هذه التوجّهات، ورفعنا الخطوة الأولى لدراسة التيارات من خلال التعريف بالمصادر والمؤلفات. وإن هذه المقالة تعدّ مقدّمة لبرنامج تحقيقي واسع في مجال التعريف بالتيارات الفكرية الدينية المعاصرة في إيران. وعليه سنتعرّض في القسم الأول إلى عرض المباني لثلاثة اتجاهات فكرية أساسية في مجال التفكير الاجتماعي الديني في إيران.
ثلاثة اتجاهات نظرية حول علاقة الدين بالمجتمع ــــــ
ويمكن تسمية هذه الاتجاهات الفكرية الثلاثة المعاصرة في إيران على الترتيب الآتي: (النزعة الإسلامية الشرعية)، (النزعة الإسلامية التجديدية)، (النزعة الإسلامية التحضُّرية). وسنبيّن سبب اختيارنا لهذه التسميات في القسم الثاني بالتفصيل. أما الاتجاهين الأولين (النزعة الشرعية، والنزعة التجديدية) فلهما جذور تاريخية في التفكير الإسلامي في القرون المنصرمة. وسنرى أن ظهور النزعة الإسلامية التجديدية قد تحددت معالمها في الحوادث التي تلت شهر شهريور من عام 1320، إلا أننا أرجعنا سابقتها إلى القرن الماضي بسبب انتمائه إلى التجديد العلماني، ومواجهة النزعة الشرعية للتجديد العلماني في عصر المشروطة. وأما التوجّه الأخير (النزعة التحضُّرية) فهو، وإن أمكن تعقب جذوره وإرجاعها إلى بدايات عصر المشروطة، بل وقبلها أيضاً، إلا أن تحوله إلى تيار خارجي محدد يعود إلى العقود الخمسة الماضية. وفي الوقت نفسه تابعنا في القسم الثاني جذور هذه التيارات الثلاثة العصور الأكثر قدماً.
وقد سعينا هنا أولاً إلى التعريف بهذه التوجّهات الثلاثة إلى جانب بعضها، من خلال التنويه بأهم عناصرها الفكرية، ثم عمدنا في نهاية هذا القسم إلى المقارنة بينها ضمن خمسة محاور عامة.
وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع نرى من الأفضل أن نشير إلى بعض المقدمات:
الأولى: إنما عمدنا إلى تقسيم الأفكار الموجودة إلى التوجّهات الثلاثة المذكورة انطلاقاً من الزاوية الاجتماعية. وعليه لا يوجد أي تنافٍ لهذا التقسيم مع الأطياف الفكرية الدينية المعاصرة في إيران المنظور إليها من الزوايا الأخرى. إنّ هذا التبويب يعكس التعريف والتوصيف الذي يقدمه المفكرون والعلماء المسلمون لماهية الدين وعلاقته بالعقلانية العملية والتنمية الاجتماعية، وعليه لا ينبغي تفسير (النزعة الشرعية) على أنها مجرد الدفاع عن الأحكام والشريعة الإسلامية، أو إطلاق (النزعة التجديدية) على كلّ نوعٍ من أنواع التجديد، بل إن هذه المفردات في هذا النسيج ذات دلالات خاصّة.
الثانية: إن هذا التبويب لا ينطبق بالضرورة على التصنيفات السياسية، بل إنها في بعض الجهات قد تتفق مع بعض النظريات السياسية أو تخالفها. وعليه لا تنطبق العناوين المذكورة في هذه المقالة على التصنيفات السياسية، من قبيل: الأصولية، أو الإصلاحية، ونحوهما. وإن عدم التطابق هذا بين التفكير الاجتماعي والمواقف السياسة للمجموعات يحكي في حدّ ذاته عن أزمة معرفية في الساحة السياسية في إيران، مما يجدر البحث عنه في غير هذا الموطن.
الثالثة: يتناول بحثنا الآراء المتداولة بين المفكرين المسلمين في إيران، أي أولئك الذين سعوا إلى تقريب آرائهم من النهج الفكري الإسلامي، أو عمدوا إلى توثيقها. وعليه تخرج الانتماءات العلمانية من دائرة هذا التحقيق بشكل كامل. وإن مفردة (التدين) لا تعني بالضرورة الالتزام التام بالإسلام والتشيع.
الرابعة: إن هذا التصنيف والتبويب ــ كسائر التبويبات الاجتماعية الأخرى ــ ذو جنبة نموذجية([4]) ورمزية، بمعنى أنه لا يمكن بالضرورة إدراج الأشخاص بشكل مطلق تحت واحدٍ من هذه العناوين الثلاثة، وبشكلٍ عام لا يمكن في التحليلات الاجتماعية تحديد (الفرد الكامل) للعناوين الكلية في العالم الخارجي([5]). ولهذه النقطة في خصوص التحقيق الراهن أدلة وأسباب أخرى أيضاً؛ فمن جهة نجد أنّ حداثة البحث حول علاقة الدين والمجتمع حالت دون تحديد جميع التساؤلات حولها بدقة؛ ومن جهة أخرى هناك الكثير من نقاط الضعف والنقص في الأفكار والآراء المطروحة من قبل هذه الجماعات.
الخامسة: في القسم الأول عمدنا إلى بيان كل اتجاه طبقاً لآخر نظرياته أو معطياته الفكرية، ولم نلتفت إلى تطوراته ومنعطفاته الفكرية. وعمدنا في القسم الثاني إلى بيان الجذور التاريخية، حيث كانت مطروحة بشكل أبسط وأكثر إبهاماً في آراء المتقدمين، وإن ما يطرح حالياً عبارة عن تطور وتكامل لتلك الأفكار البدائية.
السادسة: استخدمنا في الإشارة إلى هذه التيارات مفردة الاتجاهات، وقلما لجأنا إلى مصطلحات مثل: (النظرية)، أو (المقولة)؛ وذلك لأن أكثر هذه الاتجاهات أعم وأوسع من النظرية، كما أنها؛ لوجود الإبهام في بعض المفاهيم والأسس، لم تتحول إلى مقولة كاملة أو مستقلة.
إن هذه التوجهات الثلاثة، وإن كانت تنطلق من مناشئ ثقافية ودعائم فكرية مختلفة، إلا أنها من الناحية العملية انبثقت من أرضية اجتماعية واحدة، ونمت في بوتقة التعاطي والتعامل مع بعضها البعض، فقد تكونت النزعة الشرعية الإسلامية والنزعة التجديدية الإسلامية في خضم مواجهتها للثقافة الغربية الجديدة، مع فارق أن النزعة الشرعية كان لها موقفٌ سلبيٌ، في حين أنّ النزعة التجديدية كان لها موقفٌ إيجابيٌ. وعزلت الأخلاقيات عن سائر معطيات الحضارة الغربية، واعتبرت عناصر الثقافية الحديثة وليدة تجربة عقلائية بشرية، وأن الدين مجرد دعامة للقيم الإنسانية، وأنه الحكم الفصل في مثل هذه الأمور([6]). إنّ النزعة الشرعية الإسلامية المنبثقة من الحوزات الدينية كانت تنظر إلى الحضارة الغربية بنظرة الشك والارتياب، وأحياناً كان يبلغ بها الأمر حداً تعتبر فيه كل ظاهرة جديدة تأتي من الغرب نموذجاً للكفر والزندقة، ولا يخفى طبعاً أن هذه النظرة المبالغة كانت تنحصر بفئة قليلة جداً، أما المتشرعة فكانوا في الغالب يؤكِّدون على ضرورة انطباق القوانين والتقاليد الاجتماعية على الشريعة الإسلامية، إلا أنها بدلاً من السعي إلى التعرف على ماهية الحضارة الجديدة، وتقديم الأدوات العملية لتطبيق الدين في الساحة الاجتماعية، وجدت من واجبها الحفاظ على الشريعة، وإلغاء جميع الأفكار والآراء التي تبدو لها متنافية وروح الشريعة الإسلامية.
وللتعرف على الجذور التاريخية للتجديد الإسلامي يجدر بنا الرجوع قليلاً إلى الوراء، ونبحث في ظهور التنوير العلماني. إن ظهور التجديد العلماني في إيران المعاصرة كان متزامناً إلى حدّ ما مع النزعة الشرعية والدينية. وبعد أن اعتنق المتنورون العلمانيون الحضارة الغربية بقضِّها وقضيضها باشروا نقد الثقافة التي كانوا ينتمون إليها، وطالبوا بتغييرات جذرية في الأسس الدينية والقيم الاجتماعية؛ لغرض التمهيد لمؤسسات الدولة والجمهور بالمعنى المعاصر. وقد انبثق التجديد الإسلامي (التنوير الديني) من رحم النزاع المحتدم بين المتنورين العلمانيين وذوي الميول الشرعية المذهبية. إن المتنورين المسلمين بعد اعتناقهم لأطر التقدم الفلسفية والاجتماعية، وانتقاد بعض مظاهر الحضارة الغربية، طالبوا من الناحية العملية بإعادة قراءة النصوص والمعارف الدينية، والمواءمة بين التراث الإسلامي والفكر التجديدي. وهكذا كان التجديد الإسلامي في المجتمعات الإسلامية وليد مثل هذا المناخ([7]).
وفي هذا السياق ظهر الاتجاه الثالث، أي (النزعة الإسلامية الحضارية)، بشكل متأخر عن التيارين المتقدمين. ورغم أن لهذا الاتجاه جذوراً في آراء المفكرين وكبار علماء المسلمين في القرن المنصرم، فإنه لم يظهر في قالب مقولة مستقلة في البلدان الإسلامية، وخاصة في مجتمعنا، إلا في العقود المتأخرة. يسعى الاتجاه الحضاري إلى التوفيق بين الأصولية الدينية والتجديد، وبذلك لا يرى الدين مخالفاً للتجديد والتنمية الاجتماعية، بل يرى التنمية العلمية والتكنولوجية من ضروريات الحياة الاجتماعية. إن نقطة الاختلاف بين هذه الرؤية والتجديد الإسلامي يكمن في أنّ المتنورين المسلمين يأخذون أدوات التنمية من النماذج الغربية المتطوّرة، ويعملون على مجرّد مواءمتها مع الشريعة الإسلامية بحسب الظاهر فقط، في حين أن الاتجاه الحضاري يسعى إلى تبيين وتأسيس أدوات التنمية الاجتماعية في إطار الثقافة الإسلامية وتعاليم الوحي السماوي. وعليه يمكن القول: إن هذا الاتجاه قد تكوّن كردّ فعل للنزعتين المتقدّمتين، واستجابة للتحدّيات الخارجية والعقد المستعصية التي عجز الآخرون عن حلها. وسنتابع هذا البحث بالتفصيل موثقاً بالأدلة والشواهد الكافية والشافية في القسم الثاني من هذا المقال. وفي ما يلي نعرّف الأطر النظرية لهذه الاتجاهات الثلاثة:
1- اتجاه النزعة الشرعية الإسلاميّة ــــــ
مرادنا من المتشرعة هنا مجموعة من العلماء والمفكرين الشيعة في القرنين الأخيرين الذين أبدوا غيرة وحرصاً على الأحكام والشعائر الدينية، في مواجهة ونبذ الثقافة والحضارة الغربية، ووجدوا أن حلّ المسائل الاجتماعية لدى المسلمين يكمن في تطبيق الأحكام الفقهية، وعدم الحاجة إلى الوسائل والعلوم التجريبية. وهذه المجموعة، وإن كانت تفتقر إلى تجمّع خاص، وربما عجزنا عن إيجاد رباط ملموس يربطها ببعضها، ولكنهم بشكل وآخر يتمتعون بالكثير من المشتركات وأوجه الشبه، ويمكن تلخيصها في المحاور الخمسة الآتية:
1ــ 1ــ النزعة الأصولية: ربما كانت أهم ميزة تحسب لهذه المجموعة دفاعها عن الأصول والقيم الدينية بوصفها أهمّ الواجبات الدينية، وأفضل حلّ للمسائل الاجتماعية في الوضع الراهن. إنّ هؤلاء لا يرون الخروج من المآزق الموجودة في الرجوع إلى النصوص الدينية فحسب، بل يذهبون إلى أن أساس ظهور مثل هذه المشاكل والأزمات الاجتماعية يكمن في التنكر للأحكام والأخلاق الإسلامية. وترى هذه الجماعة عدم تطبيق الأحكام الدينية ــ حتى بعد قيام النظام الإسلامي ــ في مجال الإدارة الاجتماعية راجعاً في الغالب إلى فقدان الاعتقاد الراسخ، وعدم استقامة المسؤولين، أو افتقارهم للأخلاق. ويضيفون إلى ذلك العراقيل والمؤامرات الثقافية والسياسية للأدوات الاستعمارية كواحدٍ من الأسباب في ظهور هذه المشكلة.
1ـ 2ـ التدين والشعور بالمسؤولية: لا شكّ في أن الشريعة تعد ركناً أساسياً في الأديان السماوية، وأن تحقق الأهداف والقيم الدينية رهنٌ بالتعبد والإذعان للأوامر الإلهية. وعلى هذا الأساس فإن تحليل المتشرّعة للإدارة الاجتماعية يقع في هذا الإطار، حيث يذهبون إلى أنّ المسائل الاجتماعية ترتبط بالسلوك والتكليف الشرعي، وإن الواجب على المكلف والمجتمع الإسلامي هو تطبيق الأحكام الدينية، والسعي إلى تجسيدها في حياة البشر.
وعليه فإن النزعة الأصولية لدى المتشرّعة في مجال الإدارة الاجتماعية تتجلى في الغالب في إطار التكاليف والشعائر، وكأن تحقق الدين في المجتمع لا ربط له بسائر مجالات المعرفة الدينية. وغالباً ما نلاحظ أنّ المتشرّعة في مجال الحقوق والشريعة يتمسّكون بالبعد الفردي من الأحكام، بل إذا أخذوا الأحكام الاجتماعية في الاعتبار فإنهم يقدّمون لها تفسيراً فردياً. وتعتقد هذه الجماعة أن كلّ إنسان مخاطب بالتكاليف بشكلٍ مستقل، وأن المجتمع أو العلاقات الاجتماعية ليست سوى مجموع علاقات أفراد الناس فيما بينهم. وسنبحث هذا الموضوع بتفصيل أكبر.
1ــ3ــ النزعة الاجتهادية والمنهجية في الفهم: قلنا: إنّ حلّ المسائل الاجتماعية من وجهة نظر المتشرّعة يكمن في الرجوع إلى الأحكام الشرعية، الذي يُصطلح عليه بـ(الفقه)، ويطلق على طريقة فهمه مصطلح (الاجتهاد). إنّ فهم الأحكام في هذه الرؤية يتوقف على الجهد العلمي المستند إلى الأصول والقواعد الخاصة، ولا يكفي في ذلك مجرّد المراجعة السطحية للمصادر والنصوص الدينية. وطبعاً إنّ المراد من الاجتهاد هنا معناه العام الشامل للأصوليين والأخباريين.
إنّ الاجتهاد ــ وخاصّة في النهج الأصولي الذي يرقى إلى عصر أهل البيت ^ ــ من الأساليب الدقيقة والمتقدّمة في الاستنباطات الحقوقية([8])، غير أنّ الذي يُلاحَظ أحياناً ـ بوضوح ـ في النزعة التشريعية هو قلة الاهتمام بالعقلنة، والتعامل العرفي في فهم الدين، وقابلية الأساليب الاجتهادية للتكامل والنمو. وكذلك فإن المتشرعين لا يقيمون كبير وزن لإدراك الموضوعات بوصفها أحد الأركان الأساسية للاستنباط، وأحد أهم أدوات التحقيق الديني في المجتمع. وعليه فإنهم، من خلال تعويلهم على العرف العام أو المتخصصين في تحديد مصاديق الأحكام، قد ميّزوا دائرة المعرفة الدينية من معرفة الظواهر الخارجية والاجتماعية. وسنبحث في توضيح معالم الاتجاه الثالث في هذا المجال بشكل أكثر.
1ـ 4ـ الإخلاص ومكافحة الانتقائية: إنّ من جملة الأمور التي يؤكد عليها المتشرّعون الإبقاء على نقاء وصفاء المعارف والتعاليم السماوية، ومكافحة جميع أنواع الأفكار والآراء الدخيلة التي تمهّد الأرضية للفهم الإسقاطي والانتقائي، والانحراف عن المعارف الأصيلة والنصوص الدينية. ويستنتج المتنورون في الغالب من تأكيد المتشرعة على هذا الخلوص والصفاء أن الدين في مفهومه التقليدي عاجز عن التواجد في مجالات الحياة ومتغيّراتها. وفي المقابل يرى المتشرعة في نهج المتنورين في تقريب الدين من متغيّرات العصر مصداقاً بارزاً للنزعة الإسقاطية.
يرى المتشرعة ضرورة إبعاد ساحة الدين عن التأثر بالأمور العرفية والاجتماعية؛ من أجل الحفاظ على خلوص الدين وصفائه من الآراء والأهواء البشرية. إن الإسلام يتحدّث عن الحقائق الخفيّة والأمور الإلهية القطعية، في حين أن التعاليم البشرية تقوم بأجمعها على الحدس والاحتمالات الذهنية المرتبطة بالأمور الجزئية والمتغيّرة. وقد سلكت هذه الجماعة؛ للحيلولة دون تأثير الأفكار الدخيلة أو التجارب البشرية الناقصة على المعارف الدينية، في الغالب طرقاً مختلفة بحسب الظروف واختلاف الأفراد؛ ففي مستهل تغلغل الحضارة الغربية كان المتشرعون يعملون على نبذ التجديد، ويرون في بروز كلّ ظاهرة أو فكرة جديدة فاتحة للانحراف عن الدين، ولكن هيمنة هذه الظواهر وتفشيها في المجتمع الإسلامي جعلتهم يُؤثرون الصمت وعدم التدخل في الأمور الاجتماعية والسياسية، والاكتفاء بحراسة الحدود الدينية. وقد تبنت هذه النزعة في ما بعد تفسيراً آخر، حيث أخرجت تحديد الموضوعات عن الشريعة والاجتهاد، وأقرت مكانه الاستفادة من العلوم والتكنولوجيا الحديثة؛ تلبية للمتطلبات البشرية الضرورية، ما لم تتعارض مع الأخلاق والعمل بأحكام الدين. ومن وجهة نظر أصحاب النزعة المدنية فإن هذا النمط من التفكير ــ شئنا أم أبينا ـ يقودنا إلى فصل الدين عن واقع الحياة الاجتماعية، وهو نوع من (العلمانية) على المستوى العملي، وهذا ما أدّى بالبعض إلى رؤية بعض أوجه الشبه بين النزعة التشريعة والتجديدية على المستوى السلوكي في المجال الاجتماعي، رغم الاختلاف الواضح بين مبانيهما. وقد وجد هذا البعض في التقارب التكتيكي لدى تيار التنوير الديني من بعض المتشرعين في السنوات الأخيرة جذوراً في هذه المشتركات.
1 ــ 5 ـ النزعة السلفية: يرى المتشرّعون في عصر النبي ‘، أو حياة المؤمنين الأوائل، المدينة الفاضلة التي تضمن للإنسانية السعادة التي تنشدها. وطبعاً إن شعار العودة إلى عصر النبي طُرح في العقود الأخيرة بنحو وآخر من قبل جميع هذه التوجّهات الثلاثة، ولكن عمد كلّ واحد منها إلى تفسيره انطلاقاً من موضعه؛ فالمتشرعون يؤكدون على صون الأحكام والتعاليم الإسلامية، والحفاظ على ما كانت عليه من الصورة الخالصة الأولى، ويرفضون فكرة إمكان التحول والتغيير في موضوعات ومصاديق الأحكام، وتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد، وقد يؤدي ذلك بهم إلى الاعتقاد بتفوّق القوالب الاقتصادية والاجتماعية لعصر النزول، فمثلاً: احتدم في السنوات الأخيرة نقاش جادّ حول أمورٍ مثل: علاقة العمل بربّ العمل، والمؤجّر والمستأجر، والمضاربة، والزكاة، وغيرها من المعاملات، بل وذهبت بعض الاتجاهات المتطرّفة إلى أن الإسلام يريد الحفاظ على العلوم التي كانت موجودة في ذلك العصر، ويرى في كل الإبداعات اللاحقة بُعْداً عن المجتمع الإسلامي المثالي([9]). وخلاصة القول: إن المتشرّعين يعتبرون عصر الغيبة حالة استثنائية واضطرارية، وإن مجتمع عصر ظهور المهدي الموعود # هو عصر العودة إلى النسيج الاجتماعي والاقتصادي التقليدي، وإحياء تلك العلاقات البسيطة الأولى.
وكما هو واضح فإن الاتجاه المتشرّع ـ حتى إذا لم نعدّه مقولة كاملة وحيوية ـ يتمتع في الأقل بتفكير تاريخي عريق يسعى إلى تقديم فكرة منسجمة في قالب مواجهة الدين للظروف الزمانية الراهنة.
2- الاتجاه الإسلامي التجديدي ــــــ
إنّ النزعة إلى التجديد الإسلامي، التي يمكن رصد تجلياتها في القرن الأخير ضمن تيار التنوير الديني، لم تكن سوى ردّة فعل من قبل بعض المثقفين المسلمين في مواجهة الثقافة الغربية، وقد احتكت هذه المجموعة بالحضارة الغربية نتيجة لدراستها هناك، وبذلك شعرت بالمواجهة بين الأصالة والتجديد بشكلٍ مبكر، إلا أن هناك عدّة أمور أدت بالمتنورين الدينيين إلى الوصول إلى الأفكار التي سبقهم إليها أصحاب المذاهب الغربية والمتجددين العلمانيين بصبغة أخرى، ويمكن تلخيص تلك الأمور بامتزاج التعاليم الدينية بالتقاليد والأعراف والثقافات السائدة في المجتمعات الإسلامية، وعدم معرفة هذه المجموعة بعمق الفكر الإسلامي، وكذلك غياب النظريات والتحليلات العميقة في بيان النسبة بين الدين والتقدم الغربي([10]). إن هذا التوجه بين المتنورين المسلمين كان وليد حقيقة مفادها أن الثقافة التقليدية في إيران أصيبت بالانتكاسة في المواطن التي جدّت الحضارة الغربية الجديدة في تجديدها، والتي تتمثل في: الحكمة العملية، والفلسفة الاجتماعية، وتنمية وتجهيز الأدوات العقلية.
إن المثقفين الجدد في مواجهتهم للمعطيات العلمية والمؤسسات الاجتماعية والتقنية الغربية لم يجدوا ما يقابلها في التراث الثقافي الإسلامي. إن الركود الفكري والفلسفي والفقر التنظيري في المجال الاجتماعي في المؤسسات العلمية الدينية، وكذلك الانحطاط السياسي والاجتماعي في المجتمعات الإسلامية، قد أدى بشطر من الجيل المسلم الجديد في بحثه عن حلّ للمعضلات إلى اعتناق الأصول الغربية وأُطُر التقدم الغربي، وبذلوا جهدهم في التوفيق بين الإسلام وهذه المعطيات الثقافية. وكانت نتيجة جهودهم المضنية في القرن الأخير هي تطويع المفاهيم الإسلامية، وإضعاف مقاومة الثقافة الإسلامية في مواجهة المدّ العالمي للحضارة الغربية.
ولست هنا بصدد التنقيب عن أفكار وأهداف المتجددين الدينيين، وإنما أكتفي بالتوجّه العام لديهم في مجال الإدارة الاجتماعية، وكما تقدم بالنسبة لاتجاه المتشرّعة سنلخص مواقف هذه المجموعة في خمسة محاور:
2ـ 1ــ النزعة الإنسانية: تُعَدُّ النزعة الإنسانية([11]) واحدة من المباني والأركان الأساسية للثقافة والحضارة الأوروبية الحديثة. ولم تعتبر النزعة الإنسانية أحد أركان التقدم الحديث فحسب، بل وعدت من الأفكار الفلسفية الأولى التي بشرت بولادة العالم الغربي الجديد من رحم النظام الإقطاعي ـ المسيحي في القرن السادس عشر للميلاد([12]). وقد كانت الإنسانية في بدايتها ردّة فعل ضد (المحورية الإلهية) التي كانت تروج لها الكنيسة في القرون الوسطى.
إن تأكيد الكنيسة على سقوط الحقيقة الإنسانية، ودناءة ذات الإنسان فطرياً، الذي كانت تروّج له الكنيسة باسم الدين، قد أدى إلى ردود فعل متطرِّفة في الغرب، وكان من نتائجها إلغاء أي تأثير للقدرة الإلهية في مصير الإنسان، وأرجعوا جميع المؤثرات في حياة الإنسان إلى الأسباب الطبيعية والمادية.
وقد تسّربت هذه الرؤية إلى فكر ذوي النزعة التجديدية من المسلمين، وعلى ذلك قامت رؤيتهم إلى المسائل الاجتماعية. وأياً كان فإن المتجددين المسلمين لم يتمكنوا في مواجهة المسائل الاجتماعية في إيران من الابتعاد عن الرؤية المعرفية للإنسان لدى العالم الجديد، ويتخذوا لأنفسهم موقفاً مستقلاً([13]).
2ــ 2ـ النزعة التنموية: يذهب الاتجاه التجديدي إلى ارتباط المشاكل الاجتماعية الراهنة بالمناخ العام، وتعود في جذورها إلى فقدان التنمية الاجتماعية المتوازنة. إن التغيير والتطوّر في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات البشرية يستدعي التغيير في كافة المجالات المادية والثقافية. إن المشاكل الاجتماعية إنما تبدأ بالظهور عندما لا يتناغم شطر من المجتمع مع التيار التغييري العام، وعندها يبتلى المجتمع بالتخلف وعدم مواكبة التطور والتقدم. وفي البلدان الموسومة ببلدان العالم الثالث ــ وخاصّة في البلدان الإسلامية ــ نجد هيمنة التقاليد مانعاً من التغيير والتنمية في المجتمع، وعلى مرّ الزمن تشتدّ الفوارق بين مجتمعات هذه البلدان والمجتمعات الأخرى في البلدان الصناعية. وتعدّ التحديات والثورات الاجتماعية نتائج طبيعية لهذه الفواصل الاجتماعية.
ذهب المتنوِّرون الدينيون من خلال هذا التحليل إلى أن حل المسائل الاجتماعية يكمن في إعادة النظر في قراءة الثقافة التقليدية، ووجدوا أنّ إصلاح القوانين الراهنة يكون في التمسّك بأدوات التنمية الحديثة. ويُعتبر الدين ــ من وجهة نظر المجدِّدين ــ مسألة تخصّ الحياة الفردية، ولا يمكننا أن نتوّقع من الدين حلاً للمعضلات الاجتماعية. وعليه كما تعود جذور المشاكل الاجتماعية في التأخر التاريخي لقبول التطوّر فكذلك لابد من البحث عن الحلول في التبعية لبرنامج علمي متناسب مع تنمية المجتمعات المتقدّمة. إنّ هذه الرؤية، وإن تعرّضت في بداية أمرها إلى انتقاد المتنوِّرين الدينيين، ولكن لوجود الأسس النظرية المشتركة بينهم وبين المتجددين العلمانيين، فقد آمنوا بها في نهاية المطاف، بل وصرّحوا بتبنيهم لهذه الرؤية. ويمكن العثور على الجهود الجادة بين المتنورين الدينيين في الخروج من إطار النزعة الإنسانية الغربية في مؤلفات الدكتور علي شريعتي([14])، وإن كان الحديث عن مدى نجاحه في هذا المسعى بحاجة إلى مجالٍ أوسع([15]).
2ـ3ـ النزعة العلمية والتعويل على الأدوات الذهنية: إذا كان حل المشاكل الاجتماعية والمعضلات الاقتصادية رهناً بالتنمية الاجتماعية المتعادلة والمتوازنة، فلابد من التنويه إلى أن التنمية الاجتماعية بدورها نتاج (عقلانية مجموع البشر)، وتظهر هذه العقلانية بفعل التجارب الإنسانية عبر التاريخ، وقد بلغت هذه التجارب ذروتها في العصر الحديث.
لقد تعلم الغرب من خلال تبنيه للنزعة الإنسانية أن طريق سعادة الإنسان وتحرره يكمن في ذات الإنسان، وأن تسخير هذا العالم الميّت والمغترب رهن بإشارةٍ من يده. ومن وجهة نظر المفكرين الغربيين كان أمامهم طريقان: الأول: طريق العقل (العقلانية)([16])؛ والآخر: طريق الاختبار والتجربة (المذهب التجريبي)([17]). وكما نعلم فإنه ومنذ القرون الأولى للعصر الحديث بدأ العقل العملي والعقل النظري بالأفول، وظهرت العقلانية الغربية على قاعدة (الأدوات العقلية). وفي الحقيقة فإنّ ماهية العلم الحديث واختلافه عن العلوم القديمة يكمن في أنه يُقدِّم (التصرف في الكون) و(إنتاج الأدوات) على (كشف الحقيقة). ومن وجهة نظر المتجدِّدين فإن العلم الحديث لا يهتم بالغايات، ولا بالقيم، وإنما يسعى إلى البحث عن الحلول للمشاكل الإنسانية من خلال التعاطي مع المحيط.
وعلى هذا الأساس يرى تيار التجديد الإسلامي تحسين وتنظيم حياة الناس رهناً بتوظيف العلوم الحديثة، وإنه ينشد الخبرة بحثاً عن الأسس وطرق الحل للمشاكل في العلوم الاقتصادية والاجتماعية السائدة، دون أن يرى نتائج هذه العلوم منافية للقيم الدينية، ولا يُنكر ملاحظاتها حول برنامج التنمية، ولكنه يعتقد أنّ أسلوب العلم الحديث ومنطق برنامج التنمية، هو الذي سيلعب في النهاية الدور الأساس في تحديد مسار تقدم المجتمع، ويحول دون انحرافه عن مسار القيم الإنسانية.
2ــ 4ــ التاريخية والنسبية في الفهم: إنّ من خصائص أو لوازم هيمنة الآلية العقلية الرضوخ لتاريخية القيم الإنسانية وقبول النسبية في فهم الحقائق والمعارف. وسنرى أنّ الآلية العقلية في ذاتها لا تنافي القيم الأساسية والحقائق المتعالية، وأما في التطوّر الغربي، حيث تم إلغاء الدين والقيم الثابتة من رقعة العلوم الاجتماعية، وتمّ أيضاً إضعاف أسس العقل النظري والعملي، فإن الآلية العقلية تسعى من خلال اعتماد الإدراكات الجزئية والميول الدنيوية إلى تحسين الحياة الإنسانية. وكما نعلم فإن الحكمة الخالدة والقيم الثابتة لا موضع لها من الإعراب في حياة الإنسان الواقعية، وإن ثقافة الإنسان الاجتماعية تتكون بفعل تناقضات التجارب الذهنية لدى البشر.
إن المجددين المسلمين أو المتنورين الدينيين يذهبون حالياً ــ في الغالب ــ إلى المباني واللوازم النسبية، ويستخدمونها في مجال المعرفة الدينية([18])، وهذا يؤدي إلى جواز جميع أنواع الفهم والإدراك الديني، واعتباره تابعاً للمعرفة العلمية والفلسفية، الأمر الذي يؤسِّس لفهم جديد عن القرآن والسنة متناسب مع هذا المناخ، واعتبار أي فصل بين نداء الوحي ومعطيات العلم الحديث تخلُّفاً ورجعية ومحاربة للعلم.
وفي الخطوة الثانية فإن المجددين شملوا حتى الإسلام ــ وليس مجرد المعرفة الدينية ــ بالنسبية التاريخية، وذهبوا إلى إرجاع المعارف ومضامين الوحي إلى تلك الشروط التاريخية الخاصة، وفي هذه النظرة لابد من اعتبار الأحكام والقيم القرآنية مجرد حلقة من الحلقات التاريخية لانطلاقة الإنسان نحو التكامل، وإلقاء ما تبقى من الطريق نحو التطور في كافة المجالات الاجتماعية على عاتق العقل والتجربة الجماعية للبشر([19]).
2ـ 5ـ التطلع إلى المستقبل: خلافاً للمتشرعين فإن المتجددين ينشدون تحقيق الأهداف البشرية في المستقبل؛ وذلك لأن نظرية الارتقاء([20]) والتطور التي تكوّن فلسفة تاريخ الحداثة تؤمن بتقدم المسار التاريخي، الذي يقوم فيه تفكير الإنسان على نقد الأوضاع الماضية والتطلع إلى غدٍ أفضل وأفق أوسع في التنمية العلمية والاجتماعية([21]). إن تيار التنوير بشكل عام يرى الماضي في حوزة (التقاليد)، وأن التغيير إنما يتم في ظل إلغاء هذه التقاليد وتجاوزها. ومن البديهي أنّ المتجددين يخطِّئون كل عودة إلى الأحكام والعلاقات المتعلقة بالماضي، ويعتبرون إحياء القيم والأحكام الدينية تخلفاً ورجعية، ووقوفاً بوجه التقدّم والتنمية. وفي البداية كان المتنوِّرون العلمانيون هم الذين يروّجون لهذه الرؤية في المجتمع الإيراني، ثم تسللت شيئاً فشيئاً إلى داخل مراكز المتنوّرين المسلمين، وفي العقود الأخيرة تم الاعتراف بها من قبلهم أيضاً، ولكن بعبارات مختلفة.
3ـ اتجاه النزعة الحضارية الإسلامية ــــــ
تقدم أن النزعة الحضارية والاتجاه الحضاري قد انبثق نتيجة نقد الاتجاهين المتقدمين، حيث يرى هذا الاتجاه أنّ المتشرعين ــ رغم تأكيدهم على النصوص والحقائق السماوية ــ عاجزون عن تقديم مشروع لحضور الإسلام على ساحة الحياة الاجتماعية. وفي الحقيقة فإن هذا الاتجاه يرى بقاء الدين في اعتزاله عن واقع مصير المجتمع والعالم. وإن المتجددين يصرّون على حضور الدين وحيويته على مستوى المتغيرات العصرية، إلا أنهم يريدون ذلك على حساب تغيير القيم وأحكام الإسلام الخالدة. وبعبارة أخرى: إن (قيام) الدين و(هدفيته) اللذان هما من لوازم الاعتقاد بالخاتمية وخلود الدين الإسلامي المبين لا يمكن توفرهما في الاتجاهين معاً؛ فإن النزعة التشريعية تقدم قيام الإسلام على هدفيته، في حين أنّ النزعة التجديدية تنحاز إلى هدفية الدين على حساب قيامه.
وبذلك ندرك سبب انغمار هذين الاتجاهين في الحقبة التي سبقت القرن الأخير. وفي الحقيقة إن التعارض بين قيام الدين وحيويته رهن بالتحول السريع في العلاقات الاجتماعية في القرون الأخيرة. وإنّ هذه التحولات التي قامت في مجملها على الفلسفة العلمانية في مهد الغرب الحديث قد أسست لواقع ثقافي مختلف مع القيم والأهداف الدينية. وقد أدى اتساع رقعة هذه الثقافة، وتغلغل النماذج الحضارية في المجتمعات الإسلامية، إلى اختلاف بين العلماء والمفكرين المسلمين في عملية الجمع بين الدين ومعطيات العلم الحديث.
وفي خضم ذلك هناك توجّه ثالث يدّعي تمكُّنه من إدراج هذين العنصرين، أي هدفية الإسلام وقيامه، في نظرية واحدة، ونسبة منطقية منسجمة، حيث يذهب هؤلاء إلى أن الطريق الوحيد للخروج من المشكلة الراهنة في المجتمعات الإسلامية يكمن في التحرك باتجاه إعادة بناء الحضارة الإسلامية بشكل يؤدي إلى التنمية والتغيير الاجتماعي بما يضمن تحقيق كافة القيم الإسلامية، بل إن الحضاريين يعزون ظهور المشاكل الراهنة إلى عدم التناغم بين الثقافة الإسلامية وثقافة التقدم من جهة، وإلى التعارض بين التقاليد الاجتماعية الإسلامية ونماذج التنمية الغربية من جهة أخرى، ولا يزول هذا التناقض ــ من وجهة نظر الحضاريين ــ إلا إذا انسجم الإسلام في جميع أبعاده معها في إطار خارجي وحضاري ملموس.
وأما مدى نجاح الحضاريين في تحقيق هذه المدَّعيات والأهداف، أو الدفاع عنها بشكل منطقي ومستدل، فهو تساؤل مطروح من قبل الاتجاهين الآخرين، حيث يرى المتشرعون في الغالب أن هذه الحركة لا تؤدي بالمعارف الدينية إلى الضلال والإسقاطية فحسب، بل إنها ستعرض المجتمع الشيعي إلى المخاطر والصعاب؛ كما يرى المتجددون أن الطريق الذي سلكه الحضاريون يؤدي بهم إلى واحد من هذين المصيرين الحتميين: الالتحاق بالمتجددين المسلمين من خلال الذهاب إلى عرفية الفقه والمفاهيم الدينية؛ أو إحداث إخفاق آخر باسم الدين، من خلال الإصرار على الفهم التقليدي والتاريخي للدين.
وهنا سنتعرض إلى بيان أهم مكونات الرؤية الحضارية. وسنرى أنّ هذه المقولة هي وحدها التي تحدثت عن (النظام المعرفي الديني)، ومن ثم عن الثورة العلمية التي تهدف إلى (أسلمة العلوم)، وإمكان صياغة (النماذج الإسلامية) في مختلف المجالات الاجتماعية؛ لبناء مجتمع متطور ومتقدم، طبقاً للأسس والقيم الإسلامية.
3 ـ 1ـ الرؤية النظامية للمعرفة الدينية ــــــ
يبدو مما تقدّم أن أهمّ خصوصية في تيار النزعة الشرعية هي نظرتها الجزئية، وافتقارها إلى الرؤية الشمولية في ما يتعلق بالمعارف الإسلامية، حيث ينظر هذا التيار إلى المجتمع من زاوية المسائل الحقوقية، بل إنه لا يمكن الوصول إلى الرسالة الاجتماعية ودور الدين في صياغة المجتمع إلا من خلال النظرة الشمولية.
كما أن النزعة التجديدية قد ابتلت بنفس هذا الداء في مجال المعرفة الدينية، ولكن بنحو آخر، فإنهم ــ بدلاً من النظر إلى الدين بشمولية ــ قد عمدوا إلى تقطيعه، ثم أعادوا قراءة الأجزاء المبتورة بشكل يتناسب والمنظومة المعرفية الحديثة. وبهذه النظرة تخرج الأبعاد الاجتماعية من النطاق الديني تدريجاً، ليحل محلها العقل العرفي، وتتحول الشريعة أيضاً من خلال التحليلات الخارجية إلى مجموعة من القيم الإنسانية العامة، وأجزاء من الإلزامات التاريخية والاجتماعية، وبذلك لا يبقى في رقعة الدين سوى الأبعاد الأخلاقية والعبادية.
في حين أننا إذا نظرنا إلى الثقافة والمعارف الإسلامية من زاوية الحضاريين فعلينا أن لا نطالع كل دائرة من المعارف الدينية بوصفها مجموعة تتفرع إلى مختلف الأقسام الأخرى فحسب، بل ينبغي اعتبارها جزءاً من مجموعة أكبر تتناغم وسائر المجموعات الأخرى. فمثلاً: سنجد دائرة المعارف الاقتصادية ـ بوصفها نظاماً ــ يتجلى بالقياس إلى النظام المعرفي الاجتماعي كنظام تابع، وإن لهذه التبعية بدورها أنظمة فرعية أخرى، مثل: النظام السياسي، والنظام الحقوقي، وغيرهما([22]).
إن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن النظرة النظامية إلى المعرفة الدينية، وتحليل أجزاء المجتمع الإنساني، وبيان المجتمع برمته كمجموعة حيوية وهادفة، يعد من مبادئ التفكير الحضاري التي لا يمكن فصلها عن بعضها.
3 ـ 2 ـ الأصولية في مجال فهم الدين، والنزعة التنموية في مجال تحققه ــــــ
ذكر أن المتشرِّعين يؤكدون على حل المسائل الاجتماعية من خلال تطبيق الأحكام والقيم الدينية؛ وأن المتجددين، من خلال التفاتهم إلى ضرورة تنمية المجتمعات، يذهبون إلى إمكان تحسين أوضاع المجتمع بالاتكال والاعتماد على العقل والتجربة البشرية والتخطيط العلمي؛ وأما الحضاريون فيرون أنهم تمكنوا من الجمع بين هاتين الرؤيتين في أفق أفضل، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية والعلوية ــ رغم اعتبارها الأحكام والقيم السماوية أمراً خالداً، وتطالب بالتطبيق الدقيق والشامل لها ــ قد نبهّت إلى متغيّرات الظروف وقابليتها للتطور والنمو، وبذلك فإن القرآن والسنة لا يفرِّقان بين العقلانية والتجارب البشرية وبين الحياة الإيمانية. إن مشكلة المتنوِّرين المسلمين الأساسية تكمن في أنهم يرون التحول في الواقعية الاجتماعية متوقفاً على إعادة النظر في المعرفة الدينية. ويكمن ضعف المتشرعين في عجزهم عن تطبيق الأحكام والقيم الثابتة في إطار التنمية الاجتماعية، ويذهبون إلى أن حضور الدين في ميادين الإدارة الاجتماعية يؤدي إلى الإسقاطية أو الانحراف عن الأحكام الإسلامية. ومن وجهة نظر الحضاريين فإن كلتا الرؤيتين تنطلقان من فرضية مشتركة، وهي أن المجددين يرون أن التنمية الاجتماعية حتمية تاريخية تتحقق في جميع المجتمعات على وتيرة واحدة، وأن ماهية هذا التحول ــ قبل أن تكون إيديولوجية ــ هي وليدة التجارب البشرية المتراكمة، والضرورات الطبيعية والتكنولوجية؛ وأما المتشرعون فكأنهم آمنوا بعدم إمكانية تأميم التنمية الاجتماعية في ظروف عصر الغيبة، وبنائها على الأسس والقيم الدينية والأخلاقية، والتخطيط لذلك في إطار الأهداف الإسلامية المطلوبة.
وفي المقابل لا تذهب الرؤية الثالثة إلى عدم إمكان الجمع بين الأصولية والتنمية فحسب، بل وتعدّها ضرورة دينية واجتماعية.
وبهذا المعنى يمكن تلخيص الأصولية في الخصائص الثلاثة الآتية:
1ـ السعي المستمر للوصول إلى الأسس والأحكام والقيم الدينية من خلال المصادر الإسلامية المعتبرة.
2ـ قبول الحكومة الدينية، وضرورة قيام المؤسسات المدنية؛ بغية تطبيق الأحكام والمعارف الدينية في المجتمع.
3ـ تقديم العقلانية الدينية والأساليب والنماذج العملية؛ بغية تحقيق الأسس والقيم على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية.
ومع ذلك فإن النزعة الأصولية لا تؤدي إلى عدم تضييق الخناق على قبول العلم والتنمية فحسب، بل ترى أن تحقق الدين بحاجة ماسة إليها، وعليه يمكن التصريح بأن الرؤية الحضارية ـ التي تذهب إلى أن الاجتهاد هو الطريق الوحيد للوصول إلى المعارف الإسلامية الصحيحة ـ ترى ـ على المستوى العملي ـ ضرورة الأساليب العقلانية والتجريبية في معرفة العلاقات الاجتماعية. ولكن ينبغي التأكيد على أن الاجتهاد الديني والعلم التجريبي يختلفان في رؤيتهما الحضارية، وسنتعرض إلى هذا الاختلاف في ما بعد.
3 ـ 3 ـ التكامل في أسلوب الاجتهاد، وإعادة النظر في أسلوب العلوم ــــــ
تعرض المدّعى الأخير للحضاريين إلى نقد واحد من قبل تيار المتشرِّعين والمجدِّدين على حدّ سواء، حيث شكك هذان التياران بشدّة في إمكان التوفيق بين الدين ــ بوصفه مجموعة ثابتة ــ والتنمية الاجتماعية، التي هي في واقعها مقولة متغيِّرة ومتحوِّلة. وقد ذهب المتشرعون في إشارتهم إلى الأفكار المطروحة من قبل الحضاريين إلى أنها استنساخ عن الإسقاطية والانحراف عن الشريعة والسقوط في فخ التنوير. كما ذهب المتنورون الدينيون إلى الإفتاء بعدم إمكانية التوفيق بين الدين والعلاقات الاجتماعية، ولذلك فإنهم يَدْعون إلى المرونة في فهم الدين. ومن خلال الاعتقاد بتحول المعرفة الدينية توصلوا إلى نتيجة مفادها أن الدين حقيقة تاريخية ونسبية.
ومع ذلك يؤكد الحضاريون أن وصولهم إلى الشريعة والمعارف الإسلامية يتم عن طريق الاجتهاد والأدوات الاستنباطية. إن هذا النهج، الذي هو في واقعه أمر عقلي وعقلائي، يتسع تدريجاً، ويصبح أدق، من خلال بذل الجهد والممارسة، وبذلك تكون (حصيلة الاجتهاد) أقرب إلى (الشريعة النازلة). وعليه يمكن القول: رغم ثبات الإسلام في قالب الوحي الإلهي فإن معرفتنا لتلك الحقائق تزداد وتتكامل بازدياد وتكامل الأساليب الاجتهادية، وتقترب معرفتنا بالوحي الإلهي من نظام المعارف الدينية بالتدريج.
ومن هنا تشير الحضارية الإسلامية إلى خطأ المتجددين الدينيين، حيث يفسرون (تكامل المعرفة الدينية) بنحو يجعلها وليدة ومتفرعة عن المعارف البشرية، وبذلك تنقطع النسبة بينها وبين الوحي على المستوى العملي. في حين يتم تعريف تكامل المعرفة الدينية من زاوية الحضاريين من خلال تنمية المعرفة المنهجية عن الحقائق السماوية، استناداً إلى النصوص الدينية، والاستفادة من العقل الاستنباطي.
ومن جهة أخرى قيل: لا ينبغي الاكتفاء بتوظيف العلوم التجريبية لتحقق الدين واستقرار الحضارة الإسلامية، بل لابد من اعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك. وهنا يصر الحضاريون على أنه ليس من الضرورة أن يكون مرادهم من (العلم) الأفكار العلمانية التي أوجدت الحضارة الجديدة، فكما أن الغرب؛ ومن أجل تحقق قيم هذا العالم، أقدم على إنتاج الفكر العلماني فإن تأسيس الحضارة الإسلامية بحاجة إلى أدوات علمية تتناسب والقيم الإسلامية. وهذه المسألة هي التي أطلق عليها الحضاريون مؤخراً تسمية (توجيه العلوم)، وسعوا إلى إنتاج العلوم الإنسانية الإسلامية من خلال تقديم مشروع (التنظير الديني) أو (أسلمة العلوم)([23]).
وعليه يستنتج الحضاريون أن إقامة النسبة الصحيحة بين الدين والمجتمع رهن بملء الفراغ النظري في كلٍّ من (الفقاهة) و(العلوم الاجتماعية)، وإذا كان هناك نقص وضعف في المشاريع المطروحة فإن مردّه إلى فقدان الدعامة النظرية الكافية. إن الاجتهاد والتفقه، مع حفظ مبانيه ونهجه المعرفي، بحاجة إلى التنمية في أصول الاستنباط وطرق الوصول إلى المضامين الواسعة والعميقة للدين الإسلامي المبين، وبذلك يمكن للاجتهاد الفقهي أن يذهب إلى ما هو أبعد من استنباط الأحكام الجزئية، ليشمل النسب القائمة بين الأحكام، بل وتقديم الأطر والأسس التي تحكم التحول والتنمية الدينية في المجتمع. ومن جهة أخرى يتعين على العلوم الاجتماعية أن تتخلى عن المنطق العلماني، وأن تركز على واقع العالم الإسلامي، وأن تهتم بواقعيات المجتمع الإسلامي، من خلال التأسيس للمباني والمناهج المتناسبة والقيم والأهداف الدينية والأخلاقية. وإن ما يقال أحياناً من أنّ الفكر الإسلامي المعاصر بحاجة إلى (فلسفة الفقه) و(الفلسفة الاجتماعية) قبل كل شيءٍ يشير إلى هذه الحقيقة.
3 ـ 4 ـ تدوين النماذج الاجتماعية ــــــ
إنّ اختلاف الاتجاه الحضاري عن الاتجاهين المتقدمين يظهر في هذه النقطة بشكل أوضح؛ إذ تذهب هذه الرؤية إلى أن حضور الدين في المجتمع رهنٌ بامتلاك النماذج الدينية العملية في مختلف أبعاد الحياة الاجتماعية من جهة، والمعرفة الشاملة للمشاكل الماثلة أمام المجتمع من جهة أخرى. وإنما يمكن اتخاذ الخطوات الإيجابية والجذرية في عملية إصلاح المجتمع وتنميته في إطار بسط القيم والأحكام الإسلامية من خلال الالتفات إلى هاتين الثروتين العلميتين. وهذه النتيجة هي التي يعبّر عنها في الآونة الأخيرة في المقولة الحضارية بـ (الهندسة الاجتماعية)، و(الهندسة الثقافية)، ونحو ذلك.
وهنا يجدر بنا الخوض في بيان ضرورة مثل هذا النموذج من زاوية النزعة الحضارية، وأن نوضِّح عدم ضرورة مثل هذا النموذج الديني في أسس الرؤيتين المتقدمتين؛ فحيث يذهب المتشرِّعون إلى كفاية تطبيق الأحكام في أسلمة المجتمع، وأن تحقيق ذلك مرهون بإرادة ورغبة المسؤولين وأفراد المجتمع، فإن تقديم النماذج الاجتماعية ليس عبثاً فحسب، بل هو بدعة وذريعة للعدول عن الشريعة، وحتى لو استخدمت هذه المجموعة مفردة (الأسوة) فإنما تريد بذلك الشخصيات التاريخية في الإسلام، أو نماذج من السلوكيات الاجتماعية التي حدثت في التاريخ الإسلامي.
كما أن النزعة التجدُّدية ــ طبقاً للمباني المتقدمة، وبشهادة معطيات تبعيتها الفكرية في العقود المنصرمة ــ لم تلمس ضرورة إلى تدوين مثل هذه النماذج. ومن زاوية المتنورين الدينيين فإن التخطيط والإدارة الاجتماعية تابع للعلم والمقتضيات الاجتماعية والمصالح الوطنية، وفي هذا المجال يعمل الدين على دعم القيم الإنسانية، ويؤكد على مخزونات العقل البشري، ويشجع الناس على استثمارها، في حين يتحقق مراد المتجددين في هذا الشأن من خلال (قراءة) عن الأصول والقيم الدينية الواقعية في إطار النماذج التنموية الحديثة.
وإذاً في الوقت الذي لا يؤمن فيه المتشرعة برسم النماذج الإسلامية فإن المتجددين المسلمين يطالبون بنماذج تسير بالمجتمع سيراً متناغماً مع الثقافة والحضارة العالمية، ولكن في إطار المحافظة على الأخلاق والقيم المعنوية؛ وفي المقابل يرى الحضاريون أنّ تطبيق الإسلام بشكل كامل إنما يتأتى في إطار إعادة بناء المجتمع، وإقامة مؤسسات مناسبة. وبشكل عام فإن الحضارة إنما تتكون في إطار تاريخي متدرج يقوم منذ بدايته على بناء القيم المتناسبة وثقافة المجتمع، ويستمر حتى اكتمال بناء المؤسسات الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية والسياسية، وإنتاج المحاصيل العلمية والفنية والتكنولوجية، وإلا كان من الصعب توجيه بناء المجتمع نحو الأهداف الإسلامية.
3 ـ 5 ـ تأسيس الحضارة الإسلامية الحديثة ــــــ
قلنا: إن أحد المكونات المناسبة للتعرف على التوجهّات الثلاثة المتقدّمة هو البحث في آرائها بشأن الوضع المطلوب والمثالي. فالمتشرعون يبحثون عن هذا الوضع المثالي في المؤسسات والعلاقات الاجتماعية الماضية؛ في حين يترقب المتجددون حصول التقدم وسعادة الإنسان في مستقبل الحضارة المتطورة؛ وأما الحضاريون فيرون أن الدين الإسلامي امتداد للرسالة التاريخية التي حملها الأنبياء، وقد قدم مشروعاً مستقلاً لتحسين وضع حياة الإنسان وصنع مستقبل أفضل، إلا أن هذا المشروع لم يتحقق في ما تقدم من التاريخ الإسلامي، ولا في النماذج المادية الحديثة، ولكنه تجلى طوال التاريخ بجهود المسلمين، ولن يبلغ مرحلة الكمال التام إلا في المستقبل الموعود.
ومع غض النظر عن مفهوم (الخاتمية) الذي يقوّي هذا التصور لغد مشرق فإن الاعتقاد بـ (المهدوية) يعمل أيضاً على تأييد هذه الرؤية. وقد بشر القرآن بأن الأرض سيرثها العباد الصالحون. ورسمت لنا الروايات الإسلامية صورة للمجتمع العالمي تعكس الرفاه والأمن والعلم والسعادة المادية والمعنوية. إن المجتمع الذي يرى مثل هذا المستقبل ماثلاً أمام ناظره يعتبر نفسه بحكم القرآن مسؤولاً عن تغيير مصيره، وصنع حضارة عظيمة ومشرقة.
وباختصار فإن الحضاريين يطمحون، من خلال الاجتهاد المتواصل والمتكامل في مصادر الوحي، واعتماد التجربة والعقلانية المتناغمة مع الوحي والفطرة الإلهية، للوصول إلى النماذج العملية في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية، بغية تحسين الأوضاع الاجتماعية، وإقامة الحضارة الإسلامية الحديثة، والتي لن تتمكن أية حضارة سواها من توفير الكمال والانتعاش المادي للمجتمع الإسلامي، بل وستجعل منه مهداً للتعايش الإنساني والتقرب إلى الله تعالى.
مطالعة عامة للاتجاهات الثلاثة ــــــ
قمنا حتى الآن بالتمييز بين التوجهات الثلاثة المتقدمة، وبيان معالمها، من خلال استعراض خمسة محاور لكل واحد منها. وهنا يمكن التمييز بينها من زاوية أخرى، وسنكتفي بالإشارة إلى المعالم الأبرز في هذه الاتجاهات. ويمكن في هذا المجال استعراض ستّ خصائص أساسية تميِّز هذه الاتجاهات والتيارات الثلاثة عن بعضها، وهي:
1- ماهية الدين ورقعته ــــــ
ينظر المتشرِّعون إلى الإسلام من زاوية الشريعة والأحكام التكليفية، وخاصة الفردية منها، ويتجنبون كل تفسير حول موقع المعارف السياسية والاقتصادية، وكذلك العلوم العقلية والتجريبية، في منظومة جامعة وشاملة وكاملة. ومن جهة أخرى يذهب المتجددون في تعريفهم للدين إلى التنزل بالإسلام إلى مستوى الإيمان الشخصي والأخلاق الفردية، ويحصرون حاجة الإنسان المعاصر إلى الدين بحدود الاحتياجات العاطفية والمعنوية، ويرون أن أكثر القيم الاجتماعية في الإسلام تؤيد وتؤكد على المعطيات العقلية للبشرية في العصر الحديث.
وفي المقابل نجد الحضاريين يحملون صورة جامعة وشمولية عن الدين، فلا يقتصر الدين على حوزة الأحكام والحقوق، بل يشمل حتى بيان الأسس والقيم وحقائق الكون والإنسان والمجتمع. وعليه فالإسلام في شموليته ليس جزئياً في بيان الموارد المذكورة، بل يؤكد على (الرؤية الشمولية)، و(المنظومة الفكرية)، ويقيم حلقة وصل ثابتة ومنسجمة بين جميع أجزاء المعرفة. وبالإضافة إلى ذلك يؤمن الحضاريون بثبات وخلود المعارف والشريعة الإسلامية.
وبرغم ذلك كله فإنهم يذهبون إلى أنّ حضور الدين في الساحة الاجتماعية يتناسب مع (مقتضيات الزمان والمكان)، ويقوم على منطق لا يعرض ثبات الدين وشموليته للخطر، ولا يعرقل هدفية المجتمع الإسلامي وقابليته للتنمية.
إن بيان المسألة الأخيرة بحاجة إلى كتاب منفصل، إلا أننا نشير هنا إجمالاً إلى أن رؤية الحضاريين في مجال المعرفة الدينية تفرّق بين ثلاثة مجالات مختلفة:
1ـ مجال المعارف والحقائق الإسلامية.
2ـ مجال العلم والثقافة الإسلامية.
3ـ مجال الإدارة الإسلامية.
وفي المحاور التالية سنتعرف على موقع كل واحدٍ من هذه المجالات وامتيازها عن بعضها. ومن الجدير بالذكر أن المجال الأول يعود إلى رقعة الحقائق السماوية وطرق فهمها، والمجال الثاني إلى كيفية تعامل العقلانية والتجربة البشرية وارتباطها بالمعارف السماوية، وفي المجال الثالث يتم التعرض إلى قيام الدين في صقع الحياة البشرية، ومتابعة مشروع التنمية الاجتماعية على أساس المجالين المتقدمين.
2- طـريقة فهم الدين ــــــ
إن الاتجاهات الثلاثة المذكورة تختلف عن بعضها في هذه الناحية أيضاً، وإن كان تيار التجديد في هذه النقطة أكثر بعداً من التيارين الآخرين، فخلافاً للنزعة التجددية التي ترى أنّ معرفة الدين أمر عصري وسيال، وتعتبره تابعاً للظروف الخارجية والعلوم المتغيرة بتغير الأزمنة، يذهب الاتجاهان الآخران إلى وجود أسلوب ثابت وعقلاني لفهم الدين.
وأما اختلاف المتشرعين والحضاريين في نطاق فهم الدين فيعود إلى نقطتين رئيستين:
الأولى: إن الحضاريين يذهبون إلى تكامل الأسلوب الاجتهادي، ويعترفون بكل قاعدة تحرز حجيتها من خلال إحراز استنادها لمصادر الوحي.
الثانية: إن الحضاريين لا يحصرون فهم الدين بالموضوعات التكليفية، وإنما يتوقعون من الأسلوب الاجتهادي فهم (نظام المعارف الدينية) في الشؤون الأساسية من حياة الإنسان. وفي المقابل يحصر المتشرعون الاجتهاد باستنباط الموضوعات، ولا يرون ضرورة لفهم الدين كوحدة متكاملة في منظومة منسجمة ومتلائمة. كما أنهم يؤمنون بكمال وكفاية الأسلوب الفقهي الراهن، ولا يرون ضرورة للسعي إلى تحصيل أساليب جديدة وأكثر كمالاً لفهم النصوص الدينية. كما يذهب الأخباريون من بين المتشرعين إلى ما هو أضيق من ذلك في فهم الدين.
3- العقلانية ــــــ
ربما كانت العقلانية باكورة الاختلاف بين هذه التوجهات الثلاثة، والمتعلقة بنوع العلاقة بين الدين والعقل، وكيفيتها. ففي الوقت الذي يعطي المتشرعون للعقل دوراً هامشياً أو محدوداً ببعض الجوانب المعرفية، ويتجنبون اعتبار العقل مصدراً تشريعياً مستقلاً إلى جانب الوحي، يذهب المتجددون إلى (أصالة العقل)، ويبحثون عن الدين في حدود العقل البشري.
وفي المقابل يذهب الحضاريون قبل كل شيء إلى البحث في المساحة التي ينشط فيها العقل البشري. ومن مجموع المباحث المطروحة في حوار النزعة الحضارية حول العقلانية يمكننا أن ندرك أنهم تعرفوا أو يعترفون بأربع أنواع للعقل: 1ـ العقل النظري؛ 2ـ العقل العملي؛ 3ـ العقل الاستكشافي؛ 4ــ العقل الآلي.
وكما تقدم فإن المتنورين الدينيين، وبتأثير من النهضة التنويرية في الغرب، قلما يعيرون اهتماماً للعقل النظري والعقل العملي كمصدرين أساسين في المعرفة، وحيث يحصرون العقل الاستكشافي في بعض أساليب الهرمونوطيقا الحديثة فإنهم يرون نسبية وتاريخية فهم الحقائق السماوية، وبذلك تنحصر العقلانية من زواية المتجددين بالعقل الآلي، الذي لا يستمدّ أهدافه ومبادئه من العقل العملي أو الوحي السماوي، بل إنه يحددها في ضوء المتطلبات البشرية، فالعقل الآلي كما نعلم إنما يبحث في العلاقة بين الهدف وطرق الوصول إليه.
وأما من زاوية الحضاريين فإن كل واحد من أنواع العقل الأربعة المتقدمة له موقعه ونسبته الخاصة من الدين. أما العقل النظري والعقل العملي فما داما يقدّمان أحكاماً قاطعة وواضحة يتم الإقرار بهما بوصفهما (حجّة باطنية)([24])، وكونهما من الأدوات المعرفية الأولى لهداية الإنسان نحو السعادة وبلوغ وحي السماء؛ وذلك لأن العقل البشري محدود بعالم الشهود أو الحقائق القريبة من عالمنا، وعليه فإنه هو الذي يثبت ويقرر الحاجة إلى الوحي والمعارف الخارجة عن حدود الطبيعة. وبعد الوصول إلى مشارف الوحي يقوم العقل الاستكشافي إلى جانب العقلين العملي والنظري باستنباط الحقائق الإلهية من المصادر السماوية. وبذلك يمكن القول: إن الدين في المرحلة الأولى يقدم للإنسان من طريق (الرسول المعصوم) مجرد مفاهيم سماوية، وينحصر دور العقل في هذه المرحلة باستنباط التعاليم الإلهية من المصادر السماوية، وإدراكات العقل البديهية. وعليه فإن العقل، مضافاً إلى كونه أحد مصادر المعرفة الإلهية، له وظيفة أخرى تتمثل في المنهج المعرفي في الوصول إلى مضامين الوحي، حيث يسعى بحدود أدواته إلى بلوغ الحقائق الخالصة بعيداً عن الإضافات البشرية. وإن حصيلة هذا السعي هو ما أطلقنا عليه في ما تقدم تسمية (رقعة المعارف والحقائق الدينية).
ولكن يجب عدم مقارنة الدين بالأفكار الفلسفية والمدارس النظرية، فالأديان السماوية إنما جاءت لبناء حياة الإنسان، والحفاظ على سلامتها، وتطوير قابلياتها وطاقاتها الكامنة والظاهرة، وبهذه الرؤية فإن الدين لا يقتصر في اهتمامه على الجوانب الروحية والسلوكية فحسب، وإنما يشمل النشاط الفكري بوصفه جزءاً من هذه الحياة الخارجية، ومقدمة للوصول إلى السعادة الحقيقية. إذاً يمكن القول بأن الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، قد قدم طرقاً مناسبة لتحقيق معارفه وقيمه المتعالية. ومن وجهة نظر الحضاريين فإن إحدى وظائف العقل المهمة تكمن في البحث عن الطرق الموصلة لأهداف الدين([25]). إن الدين من خلال اعترافه بالعقل الآلي؛ بوصفه قوة للوصول إلى أساليب تحقق العبودية لله وامتدادها لتشمل جميع مرافق حياة الإنسان، قد ألغى ذاتية العقل، وأحل محلها مزيجاً متناسباً من العقل والوحي على المستوى العملي، وبذلك حفظ للعقل أصالته، مع الحدّ من هيمنة الفكر البشري وكبح جماحه، فلا يستوعب جميع مجالات الحياة، وتركها لهداية وإشراف الوحي السماوي.
4- العلوم التجريبية ومنطق التخطيط ــــــ
إن إحدى المسائل التي شكلت محور النزاع بين العلمانيين وعلماء الدين في القرون الماضية هي مسألة المواجهة بين العلم والدين. إن العلوم التجريبية، وان كانت ضاربة الجذور في تاريخ الفكر البشري، إلا أنها لم تتخذ قالبها الراهن إلا قبل ما يقرب من ثلاثة قرون. يرى المتجددون أن العلوم التجريبية ــ خلافاً للعلوم النظرية ــ تابعة للتجارب المتواصلة، وناظرة إلى التطبيقات الخارجية والعملية، وبذلك فهي علوم نامية وقابلة للنقد، في حين أنّ المعارف والنصوص الدينية ثابتة، ومطلقة، وغير قابلة للنقد.
وعلى هذا الأساس فإن تيار التنوير في العالم الثالث، وانطلاقاً من الثقافة الجديدة والعلم التجريبي، يطالب بالتغيير في العلاقات والقيم الاجتماعية، ويدعو إلى العمل على التنمية وتوجيه الطاقات الإنسانية في إطار توفير السعادة الدنيوية وتلبية الحاجات البشرية. ومن هنا فإن المتنورين يذهبون إلى اعتبار الثقافة القائمة باسم (السنّة) واحدة من العقبات التي تحول دون التطور والتنمية في المجتمعات، وقد كرَّسوا جهودهم لإلغاء أو تعديل هذه الثقافة في إطار الأهداف التنموية.
وبطبيعة الحال فقد أفضى هذا التوجه في المجتمعات التقليدية إلى ردود أفعال جادة، وأثار جدلاً صاخباً في أوساط المتدينين وعلماء الدين. في حين أن المتجددين المسلمين ــ رغم مقاومتهم في البداية لهذا التوجه الذي سلكه المتنورون العلمانيون ــ توصلوا بعد اقتناعهم بمبانيهم الفكرية والمعرفية إلى القناعة نفسها، مع فارق أنهم لم يرَوْا ضرورة لإلغاء السنّة والدين؛ لمواصلة مشروع التجديد في المجتمعات الإسلامية، وإنما قالوا بإمكان الوصول إلى تدين منسجم مع التقدم والتطور، وذلك من خلال قراءة دينية جديدة يتم التفكيك فيها بين عرضيات الدين وذاتياته.
وقد اتخذت هذه المواجهة، وخاصة في المجتمعات الإسلامية، شكلاً حاداً وملتهباً، ومردّ ذلك إلى أن الإسلام وخلافاً للأديان العالمية الأخرى يولي اهتماماً بالنواحي المادية والملموسة من حياة الناس يوازي اهتمامه بالنواحي المعنوية والشعائر العبادية. وهذا ما أكد عليه المستشرقون مراراً([26])، قال ماكس فيبر: «إن شمولية الإسلام هي التي تحول دون قيام النظام الرأسمالي والمناخ السياسي المستقل بين المسلمين»([27]).
وفي المقابل فإن الحضاريين ضمن قبولهم للعلم والتجربة البشرية يؤكدون على تأثر الفرضيات العلمية بالأصول الفلسفية والقيم الإيديولوجية. إن العلوم التجريبية تقوم قبل كل شيء على إيجاد الحلول لتغيير العالم والمجتمع. وعليه يمكن لنا أن نقترح نظريات متنوعة تبعاً لتفسيرنا للكون، والإنسان، والأسباب المؤثرة في الحياة والوجود، وبذلك نشهد نظريات علمية مختلفة في التقدم نحو الغايات الإنسانية بعد تجاوز الاختبارات والتجارب. وطبعاً هذا ما يصرح به الحضاريون بالنسبة للعلوم الإنسانية، إلا أنّ بعضهم يعمّمها حتى على العلوم الطبيعية.
ومهما كان فإن التوجه الحضاري يرى أنّ حل مسائل المجتمع وبلوغ التنمية المطلوبة بحاجة إلى بناء علمي متناسب مع الأسس والقيم الإسلامية، والعمل على إنتاج علوم إنسانية ـ إسلامية تخصّ المجتمع الإسلامي. ومن الطبيعي أن يتأثر مشروع التنمية الاجتماعية بالمقولتين: الدينية؛ والعلمية، المنسجمتين مع بعضهما، وبالتدريج سينفصل مشروع المجتمع الإسلامي عن المجتمعات المتطوّرة والعلمانية.
5- التنمية الاجتماعية ــــــ
إنّ الاتجاه المتشرِّع لا يولي اهتماماً كبيراً لمقولة التنمية في المجتمع الإسلامي، وربما أدّى هذا الإهمال أحياناً إلى الإفراط في إنكار ضرورة التنمية، والبحث عن الأوضاع المثالية في العودة إلى المجتمع التقليدي والقديم، إلا أن المتشرعة في الغالب يغفلون أو يتغافلون عن مقولة التنمية وأدواتها، ويعتبرونها مسألة أجنبية عن الرسالة الدينية، أو أنهم ــ في الأقل ــ يعتبرونها في عصر الغيبة خارجة عن دائرة المسؤولية الدينية؛ ومن جهة أخرى فإن تيار التجديد الإسلامي لا يرى وتيرة التنمية في المجتمعات الغربية صحيحاً فحسب، وإنما يراه أفضل السبل لتقدم المجتمعات الإسلامية؛ أما تيار التنوير الديني المتأثر بالأفكار التنويرية التي ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر فلا زال يرى مسار التنمية خاضعاً للحتمية التاريخية التي تحكم المجتمعات البشرية، وأن جميع المجتمعات ستذعن لها عاجلاً أم آجلاً([28]).
وفي مقابل هذين الاتجاهين يذهب التيار الحضاري الإسلامي إلى أنّ مقولة التنمية والتكامل الاجتماعي لم تغفل من زاوية الأديان الإلهية، بل شكلت جزءاً من رسالة الأنبياء والأولياء الإلهيين، وهذا ما ينبغي أن يستمر في عصر الغيبة بواسطة علماء الدين والأمة الإسلامية. وفي هذا السياق فإن القرآن الكريم يذهب إلى أن التكامل المعنوي والأخلاقي لا يكون في إطار التنمية المادية والاجتماعية فحسب، بل إنه لا يرى إمكانية التفكيك بين الأبعاد المادية والمعنوية في التنمية([29]). من هنا فإننا إذا استخرجنا (معالم التنمية المطلوبة) من القرآن الكريم سنجد بوضوح أن المعالم المادية والمعنوية ممتزجة ببعضها بشكل لا يمكن معه التمييز بينهما بحدّ معين. والملفت هنا أنّ القيم التنموية في الإسلام توظف في آنٍ واحد كلتا الناحيتين المادية والمعنوية. وعليه يمكن القول: إن التنمية بشكلها الجامع قد شكلت أحد الهواجس الأساسية للأنبياء والأديان السماوية.
إلى هنا كان التيار الحضاري من الناحية الفكرية متناغماً مع المتجددين، ويدرج التنمية الاجتماعية في صميم تفكيره واهتمامه، إلا أنّ الذي يميز هذين التيارين عن بعضهما يتمثل في رؤيتهما بشأن الأهداف، ونماذج التنمية، واختلاف التنمية في الإسلام عنها في العالم المتطور. وحيث يذهب المتجددون إلى أن التفكير المتطوّر هو حصيلة تراكم التجربة البشرية عبر التاريخ فإنهم يتجنبون توظيف النماذج لدينية في عملية التنمية. هذا في حين أن موقع التطوّر يقرّ في الوقت الراهن بثقافة التنمية، وأما التيار الحضاري فيرى أنّ اختلاف نموذج التنمية الإسلامية عن التنمية المتطوّرة يكمن في تهرّب الحداثة والتطور من الحقيقة ومحاربتهما للأخلاق، ويذهب إلى إمكانية التمييز بين القيم والأسس الإنسانية الخالدة من الأخلاق العرفية المصطنعة، وذلك من خلال الاستعانة بهدي الوحي، والعقل الفطري، والحقوق الطبيعية([30]).
6- تطبيق الدين وتحققه ــــــ
يُعلم مما تقدّم رؤية كلّ واحدٍ من التيارات الثلاثة المتقدّمة في ما يتعلق بحلّ المسائل الاجتماعية، وارتباطها بتطبيق الأحكام الدينية؛ حيث يذهب المتشرّعون إلى أن الحكومات لو سنَّت القوانين بما يتفق والأحكام الدينية، وطبّق الناس سلكوياتهم عليها، فإنّ المشاكل الاجتماعية بدورها ستُحَلُّ تلقائياً؛ ومن جهة أخرى يرى المتنوّرون الدينيون أنّ ما جاء في النصوص الدينية حول الأمور الاجتماعية يخصّ مرحلة تاريخية كانت العلاقات التقليدية فيها هي السائدة، ولا يمكنها أن تكون مناسبة للمجتمع الراهن الذي تحكمه الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي أضحت أكثر إشكالية وتعقيداً، وعليه لكي نتمكن من تطبيق الموضوعات الدينية على الشرائط الزمنية الراهنة يجب (إعادة بناء الفكر الديني)، وقراءة النصوص الدينية في ضوء متطلبات العصر الراهن؛ أما التيار الحضاري فيرى أنّ بإمكان الاجتهاد المستمر والشامل في النصوص والمصادر الدينية ــ الأعم من تلك التي تخصّ معرفة الوجود والإنسان، أو الأحكام الأخلاقية والحقوقية ــ بوصفها منظومة جامعة وشاملة أن تضمن سعادة الإنسان في جميع العصور وعبر الأجيال. إلا أن الحقيقة المهمة هنا تكمن في أن تطبيق هذه المعارف على الواقع الخارجي لكلّ مجتمع من المجتمعات يفتقر إلى أدوات ومقدّمات ليست بتلك السهولة التي يتصوّرها المتشرّعون. إنّ تصوّر هذه البساطة ينشأ من قياسهم تطبيق الدين على مستوى المجتمع بامتثال التكاليف الفردية، في حين أنّ هذا القياس من وجهة نظر الحضاريين مضلِّل، حيث إن تعقيد العلاقات الاجتماعية، وتشابك الموانع والعقبات، والمتطلبات المتنوّعة على نطاق واسع في المجتمع، مما يستدعي أن تتحوّل الأحكام والقيم الدينية إلى مشروع أو قانون وضعي، بعد أن يطوي مراحل طويلة من التحقيق العلمي والتخطيط الاجتماعي.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) مسؤول مركز دراسات المكتب الإعلامي الإسلامي في قم، باحث مهتم بقضايا المرأة.
([1]) ولكن يمكن طبعاً بشكلٍ من الأشكال إرجاع أغلب أنواع النـزاعات السياسية والدينية بعد رحيل النبي الأكرم‘ إلى هذا الموضوع، ومن ذلك: الخلاف الشيعي السني حول الإمامة والخلافة في منظومة المعارف الدينية، ومقارنة الخوارج بين الحكومة السياسة والحاكمية الإلهية تحت شعار (إن الحكم إلا لله)، وحتى تجنب المرجئة من الخوض في التعقيدات المتعلقة بمسائل السياسة والقيادة. بيد أن ملاحظة الفوارق الكبيرة في مناشئ هذه المسألة في المرحلة الراهنة، والموضوعات المعاصرة والمرتبطة في واقعها بحضور العقل البشري، ورسم الحدود الفاصلة بين العقل والوحي، تفرض علينا إدراج هذا التساؤل في دائرة مستحدثات البحث الديني، من باب المثال راجع: محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، دار الشروق، 1418.
([2]) سنتعرّض إلى هذه الأرضيّة التاريخية بالتفصيل في القسم الثاني من هذا البحث.
([3]) للتعرّف على المتغيّرات والتيارات الفكرية والثقافية بعد الثورة، راجع كتاب: (معرفة التيارات الثقافية بعد الثورة الإسلامية)، تحت إشراف السيد مصطفى مير سليم، طهران، مركز التعريف بإيران والإسلام، 1384.
([5]) لقد تعرض عالم الاجتماع الألماني «ماكس ويبر» لهذه المسألة بالتحديد، ولكنه استفاد هذا المصطلح من ردود الفعل الصادرة من شخص أو عدة أشخاص مفترضين، واختار له تسمية (النوع الخالص) (Pure type). انظر: الاقتصاد والمجتمع: 3، ترجمة: عباس منوشهري وآخرين، 1374.
([6]) محمد مجتهد شبستري، نقدي بر قراءت رسمي از دين، طهران، انتشارات طرح نو، 1379ش، وقد تعرّض هذا الكتاب لهذا الرأي بشفافية وصراحة أكثر.
([7]) رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي ــ سياسي إيران، الطبعة السادسة، بي جا، 1385.
([8]) للتعرف على مفهوم الاجتهاد بمعناه المصطلح راجع: آقا بزرك الطهراني، الاجتهاد والمذاهب الإسلامية؛ الاجتهاد الترجيحي والتخريجي؛ حسين عزيزي، مباني وتاريخ تحول اجتهاد.
([9]) انظر: مهدي نصيري، الإسلام والتجديد، نشرية كتاب صبح، 1381ش.
([10]) فردين قريشي، بازسازى أنديشه دينى در إيران، قصيده سرا، 1384؛ ومهرزاد بروجردي، روشنفكران إيراني وغرب، ترجمة: جمشيد شيرازي، انتشارات فرزان روز، 1384.
([12]) توني ديوس، الإنسانية، ترجمة: عباس مخبر، طهران، انتشارات مركز، 1378؛ وهنري لوكاس، تاريخ التمدّن، ترجمة: عبد الحسين آذرنك، طهران، انتشارات كيهان، 1369.
([13]) يمكن مشاهدة نماذج من هذا التأثر في تفسير الدين في أعمال: محمد مجتهد شبستري، تأملاتي در قراءت إنساني أز دين، طهران، طرح نو، 1378؛ وعبد الكريم سروش وآخرون، سنت وسكولاريسم، طهران، انتشارات صراط، 1381.
([14]) علي شريعتي، الإنسان، الأعمال الكاملة، ج24، طهران، انتشارات إلهام، 1362.
([15]) لهذه الغاية راجع: كتاب معرفة الإسلام، في خصوص بيان المفاهيم الإسلامية الأساسية، مثل: التوحيد، والآخرة، والدنيا، وختم النبوة وما إلى ذلك (علي شريعتي، معرفة الإسلام (دروس جامعة مشهد)، الأعمال الكاملة، ج30، 1368).
([18]) عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، طهران، انتشارات صراط، 1373؛ وعبد الكريم سروش، صراطهاي مستقيم، طهران، انتشارات صراط، 1377؛ ومحمد مجتهد شبستري، هرمنوتيك كتاب وسنت، طهران، انتشارات طرح نو، 1375.
([19]) محمد إقبال اللاهوري، إحياء فكر ديني در إسلام، ترجمة: أحمد آرام، كتاب بايا، بي تا؛ مهدي بازرگان، راه طي شده، الأعمال الكاملة، ج1، انتشارات قلم، 1377؛ مهدي بازرگان، بعثت وتكامل، الأعمال الكاملة، ج2، انتشارات قلم، 1378؛ علي شريعتي، إسلام شناسي، الأعمال الكاملة، ج30 (في الكتابين الأخيرين راجع: بحث الخاتمية على وجه التحديد)؛ عبد الكريم سروش، بسط تجربة نبوي، طهران، انتشارات صراط، 1378؛ عبد الكريم سروش، آيين در آيينه، فصل (بسط تاريخي دين)، طهران، انتشارات صراط، 1384.
([20]) (Progression)، وتسمى هذه النظرية بـ (Progressivism) أيضاً.
([21]) لوسيان جولدمان، فلسفة روشنكري: 19، ترجمة: منصورة كاوياني، انتشارات فكر روز، 1375؛ وإرنست كاسيرر، فلسفة روشنكري، ترجمة: يد الله مدقن، انتشارات نيلوفر، 1370.
([22]) انظر: محمد تقي سبحاني، در آمدي بر ألكوي شخصيت زن در إسلام، دفتر مطالعات زنان، ومن المناسب أيضاً مراجعة مؤلفات: محمد باقر الصدر، اقتصادنا، بيروت، دار الفكر، 1389هـ؛ مهدوي هادوي طهراني، كليت ونظام اقتصادي إسلام، قم، انتشارات خانة خرد، 1378.
([23]) إن الحديث حول أسلمة العلوم طرح من قبل مجموعة من المفكرين العرب في عقد الستينات من القرن الماضي، وكان من ثماره تأسيس (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، وإصدار مجلة (المعرفة) الإسلامية. وللاطلاع على آراء هذه الجماعة راجع: (القضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية)، لنصر محمد عارف (التحرير)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417؛ (أسلمة المعرفة)، ترجمة: مجيد مرادي، قم، تحقيقات الحوزة والجامعة، 1385.
([24]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 1: 16، دار الكتب الإسلامية. (إن لله على الناس حجتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول).
([25]) تأييداً لذلك نستعرض بعض الشواهد، ومنها ما رواه هشام بن الحكم عن الإمام الصادق× حيث قال: «العقل ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان»، وإن كان هذا الحديث يشير إلى العقل النظري والعقل العملي أيضاً، ولكنه يشمل العقل الآلي قطعاً، والشاهد على أن العقل هنا يشير إلى جميع الشؤون العقلانية أن الإمام أجاب عن السؤال القائل: وأما ما في معاوية؟: «تلك الشيطنة… تلك النكراء». وظاهر الكلام أن العقل بوصفه أداة معرفية إذا لم يكن مصحوباً بالفهم الصحيح عن الهدف والغاية لا يكون عقلانية حقيقية، (انظر: محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 1: 11، ح3).
([26]) اليوروا، تجربة الإسلام السياسي: 8.
([28]) سعيد حجاريان، أز شاهد قدسي تا شاهد بازاري، طهران، انتشارات طرح نو، 1380؛ وعبد الكريم سروش وآخرين، سنت وسكولاريسم، طهران، انتشارات صراط، 1381.
([29]) مرتضى مطهري، گفتارهاي معنوي، طهران، انتشارات صدرا، 1372؛ ومحمد تقي مصباح يزدي، راه وراهنماشناسي، قم، مؤسسة الإمام الخميني&، 1376.
([30]) مرتضى مطهري، نظام حقوق المرأة في الإسلام، طهران، انتشارات صدرا، 1374؛ مطهري، بررسي إجمالي مباني اقتصاد إسلامي، طهران، انتشارات حكمت، 1403هـ؛ ومحمد تقي مصباح يزدي، الحقوق والسياسة في القرآن، قم، انتشارات مؤسسة الإمام الخميني للدراسة والتحقيق، 1377.