مطالعة في تجربة العلامة الفضلي
الشيخ رياض السليم(*)
تمهيد
لا يمكن لنا قرءاة النتاج الأصولي للعلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي إلا من خلال المشهد العلمي العام الذي تمخضت فيه تجربة الشيخ الفضلي. ولا يمكننا تقييم هذه التجربة إلا بعد أن ننظر إلى التجارب التي سبقت هذه التجربة في هذا المضمار. وأقول تجربة، لكي لا أحصر الكلام فقط في آرائه، بل لكي نتحدث عن إسهامه في تطوير علم الأصول في كل مجالاته وميادينه.
ويعتبر الشيخ المظفَّر، مؤسِّس كلية الفقه في النجف الأشرف، الرائد الأول في تجديد علم الأصول وتهذيبه. وتتجلى هذه التجربة الرائعة في كتابه الرائع «أصول الفقه»، الذي يعد نقلة نوعية بين الكتب الأصولية، وخصوصاً الدرسية منها. وقد تمكن الشيخ المظفر في هذا الكتاب من أن يذيب لغة الأصول المعقدة والجافة في قوالب لفظية سهلة سيالة، خفيفة على العقول، عميقة في المعقول. والأهم من ذلك الأسلوب التربوي الذي يُرشّد الطالب ويبنيه علمياً.
ونجد كذلك تجربة السيد محمد تقي الحكيم، التي تأتي امتداداً لتجربة المظفر وإكمالاً لتلك المسيرة. إلا أنها تميزت عن سابقتها ـ إضافة إلى ما تشاركها فيه ـ بالمنهجية المميزة، التي طالما كانت غائبة عن أجواء البحث الأصولي. وتتميز كذلك بالأسلوب التربوي الذي يهتم بتطوير الطالب وإتقانه للمهارات العلمية الأصولية.
ويعد كتابه أصول الفقه المقارن فتحاً جديداً لأحد أبواب البحث الأصولي المهمة، وهو الدراسات الأصولية المقارنة بين المذاهب الإسلامية أو بين المدارس الأصولية.
وتحظى هذه التجربة بإعجاب كبير من الشيخ الفضلي. وكان يكرر كثيراً في مقابلاته وحواراته على أهمية وقوة هذه التجربة، إلى درجة أنه أفرد رسالة عن دور السيد تقي الحكيم في تطوير منهج دراسة النص عند الأصوليين.
وأما التجربة الثالثة التي لا يمكن التغافل عنها؛ لعمقها ودقتها، التي حاكت المنهج القديم في الطرح، وواكبت الجديد في المضمون والأسلوب، فجاءت موغلة في الأصالة ومحلِّقة في التجديد، فهي تجربة السيد الشهيد محمد باقر الصدر.
وعندما نعود إلى تراث الشهيد الصدر نجد أنه يختلف عن التجربتين السابقتين من حيث الكثرة والتعدد؛ بحيث يمكننا تقسيمه إلى نوعين:
القسم الأول: بحوثه في الدرس الخارج، والتي كتبت وقررت على يد تلاميذه، كالحائري، والهاشمي. وتتميز بالعمق والدقة، وبالتجديد والتأصيل، وبالإسهاب والتفصيل، في براعة يقلّ نظيرها.
القسم الثاني: كتبه الدرسية بخط يده الشريفة، كدروس في علم الأصول (الحلقات)، أو المعالم الجديدة.
وفي هذه الكتب تتضح المعالم الإبداعية أكثر عند الشهيد الصدر؛ لأنه ضمّ إلى الإبداع العلمي إبداعات أخرى منهجية وتربوية.
والذي يميز هذه التجربة أنها شمولية. أعني أنها تبدأ مع الطالب من بداية دراسته للأصول، وتتماشى معه في كل مراحله الدراسية (الثلاث)، وصولاً إلى البحث الخارج. وهذا ما افتقرت إليه التجارب السابقة؛ إذ إنها انحصرت في مرحلة دراسية معينة.
ويميز هذه التجربة أيضاً اللغة العربية الموجهة، واللغة العلمية السهلة الواضحة، والتي تزداد صعوبة وتترقى مع ترقي الطالب.
ويميزها كذلك المنهجية الجديدة التي أبدعها الشهيد، والتي تتخذ من المنطق الاستقرائي عمدة لها، بخلاف السائد عند الأصوليين. وهذه المنهجية الجديدة هي التي دعت الشهيد إلى تقسيم علم الأصول تقسيماً جديداً يتلاءم مع الأساليب التربوية والطرق المنهجية.
ومن مميزات هذه التجربة أيضاً احتواؤها على أحدث البحوث والدراسات والنظريات التي طرحت في علم الأصول وفي غيره من العلوم.
وهناك نوع آخر من التجارب استفاد الفضلي منها كثيراً في تطوير تجربته.
ويمكننا أن نصنف المجدِّدون في علم الأصول إلى قسمين:
القسم الأول: سعى إلى تجديد علم الأصول قلباً وقالباً، مثل: التجارب الثلاث التي تحدثنا عنها.
القسم الثاني: سعى إلى تجديد علم الأصول من خلال القلب، دون القالب، فتراها مدرسة تجديدية نقدية للتراث وبقوة، ولكنها تحافظ على المنهج القديم واللغة والأسلوب، مثل: السيد الخوئي، الذي أكثر من نقد المشهور، والسيد السبزواري، الذي حاول تهذيب علم الأصول وحذف ما لا يتعلق به، وغيرها من التجارب التي لا يسع ذكرها. وإنما خصَّصنا الخوئي والسبزواري بالذكر لإعجاب الفضلي كثيراً بهما، واعتماده على ما قدموه من نتاج علمي، وإلا فإنه يمكننا ذكر أسماء أخرى مجدِّدة، كالشيخ مغنية، وغيره من الأعلام.
وقبل أن نبدأ الحديث عن تجربة الفضلي نذكر أهم المحاور التي عمل عليها دعاة التجديد في علم الأصول؛ لأن الفضلي بصفته مجدِّداً ما كانت لتغيب عنه هذه المحاور.
محاور التجديد في علم الأصول
1ـ تهذيب علم الأصول
يرى كثيرٌ من العلماء والمحققين أن علم الأصول أصيب بالتخمة والتضخم، ودخلت فيه كثير من المسائل التي لا ربط ولا علاقة لها بعلم الأصول. ولهذا يرون أن الحل الأفضل هو تهذيب علم الأصول، وحذف المسائل التي لا فائدة منها. وربما تكون أشهر محاولة محاولة السيد السبزواري في كتابه «تهذيب علم الأصول»، والشيخ مغنية في كتابه «علم الأصول في ثوبه الجديد»، وغيرها من المحاولات.
2ـ تجديد المنهج
من المعلوم أن لكل حقل علمي منهج بحث يخصه. والسؤال ها هنا: ما هو المنهج الذي يجب اتباعه في علم الأصول؟ هل هو الأرسطي أو الاستقرائي أو الرمزي أو التجريبي أو الاستردادي أم هو منهج مختلف ومتـنوِّع؟
3ـ تفاعل علم الأصول وانفتاحه
يرى أصحاب التيار التجديدي أن علم الأصول صار ينزع إلى التنظير والمثالية والتجرد، ويبتعد أكثر عن الواقعية والعملية، مما جعل علم الأصول يفتقد ارتباطه بالميادين العلمية الأخرى، مع أن طبيعته تفرض عليه الارتباط الوثيق بها، كالدراسات الإنسانية، مثل: النفس، والاجتماع، وعلم اللغة العام، والقانون، وغيرها. ويحتاج علم الأصول إلى فتح أبواب علمية جديدة من داخل علم الأصول، كالدراسات المقارنة، وغيرها.
وعليه يجب على علم الأصول أن يتخطى حاجز المذهبية؛ لأن علم الأصول عند كل المذاهب الإسلامية هو علم الأصول، وإن تغايرت آراؤهم واختلفت، لأن الاختلاف شيء طبيعي. وعليه فلا بأس بالانفتاح لأجل تلاقح الأفكار والنظريات.
4 ـ مرجعية علم الأصول
يعد علم الأصول من العلوم الإسلامية العريقة التي لم تولد فقط إلا في رحم الإسلام. ولم تسمع عنه البشرية إلا مرتبطاً بالفقه الإسلامي، وخصوصاً عندنا نحن الإمامية. وقد حظي علم الأصول باهتمام فريد، فقفز قفزات قوية، وأسهم فيه إسهامات رائعة. ولذلك نحن نريد أن نعرِّف العالم بالجهود الفكرية في علم الأصول عند الإمامية، ونعرِّفه لغيرنا من المدارس الأصولية.
ولكن ـ للأسف ـ ما زال هذا العلم حبيساً في الكتب التي قيَّدته بالمصطلحات الأصولية الخاصة، وكبَّلته بالعبارات العلمائية المبهمة.
ولأجل تحقيق هذا الهدف علينا أن نعيد صياغة علم الأصول صياغة جديدة تواكب لغة العصر، وتتوافق مع المناهج الأكاديمية الحديثة؛ ليتسنى لعلم الأصول أن يكون مرجعاً لكل الباحثين والراغبين في التعرف عليه.
5 ـ تدريس علم الأصول وتعليمه
ما هو الأسلوب العلمي والتربوي الذي يجب أن نستخدمه في طريقة تدريس علم الأصول؟ والمشكلة كانت تكمن في الكتب الدراسية، إذ إن معظمها لم تكتب لأجل الدرس، ولم يراعَ فيها المنهج التربوي، وكذلك الترتيب والتبويب، لذلك كانت عملية التدريس مليئة بالصعوبة والتعقيد.
ومن هنا نشأت الحاجة إلى كتابة كتب أصولية جديدة يكون عليها مصب البحث والتدريس في عملية تعليم النشء الجديد.
الميِّزات العامة لتجربة الفضلي الأصولية
تراوحت الفترة الزمنية لهذه التجربة على ما يربو على ثلاثة عقود، من خلال كتبه الأربعة؛ إذ صدر له كتابه الأول «مبادئ أصول الفقه» في عام 1386هـ، وصدر له كتابه الكبير «دروس في علم الأصول»، الذي كتبه لمرحلة ما قبل البحث الخارج، وكتابه الآخر «أصول البحث»، الذي تعرض فيه لمنهج البحث في علم الأصول، وكذلك بعض المقالات والبحوث الأصولية التي نشرت كمقالات في بعض المجلاّت العلمية.
1ـ ومما يميز هذه التجربة أن الفضلي عاصر التجارب التجديدية التي سبقته عن قرب، وتلمَّذ على يد روادها، على اختلاف مشاربهم، كالمظفر، والخوئي، والحكيم، والصدر.
لذلك عندما أراد أن يصوغ تجربته الأصولية في كتابه «دروس في علم الأصول» استفاد بقدر ما استطاع من تجارب السابقين عليه، سواء من الوسط الإمامي أو السني، أو حتى الوسط الأكاديمي. فتراه إذا رأى نقطة قوة في مدرسة ما استلهمها، وإن رأى نقطة ضعف تلافاها.
2ـ ومن مميزاتها أيضاً الأسلوب التربوي الرائع الذي يوجِّه الطالب نحو الأهداف الحقيقية لعلم الأصول، ولا يفوته أن يربّي الطالب على أساليب البحث وفنونه وصقل المواهب العلمية عند الطالب.
3ـ ربط الطالب بالتراث، وإرشاده إلى كيفية التعاطي معه، بحيث يعرِّفه على أساليب وطرق القدماء في الكتابة والتعبير، وينقل له عبائرهم؛ لكي يأنس بها الطالب، ويعرف كيف يستفيد منها.
4ـ في هذه التجربة نشاهد مساهمة واضحة في تطوير علم الأصول، لذا نجد المحاور التي تقدم ذكرها حاضرة عنده وبقوة.
5ـ المنهجية المتطورة: وقد وضع الفضلي حجر الأساس في الحديث عن المنهج في كتابه «أصول البحث» بحيث تكلم هناك عن مناهج الأصوليين وطرقهم في البحث. ولكنه عاد في كتابه «دروس في علم الأصول» ليطرح ويقترح منهجاً جديداً لعلم الأصول. ولم يكتفِ بطرح هذا المنهج، بل طبقه في كل بحوث هذا الكتاب. فيكون كتابه «دروس في علم الأصول» هو الحاوي من بين كتبه لهذا المنهج الجديد مع تطبيقاته، وكيفية الاستفادة منه.
ولا يخفى أهمية تحديد المنهج قبل الولوج في البحث. وقد بدأ الاهتمام بتأسيس المنهج لعلم الأصول عند الشهيد الصدر. فنراه قد أدخل إلى علم الأصول المنطق الاستقرائي؛ لأنه لاحظ أن حصر التعاطي مع علم الأصول بالمنطق الأرسطي خلل منهجي. ولهذا يعتبر الشهيد الصدر صاحب السبق في محاولة التجديد، أو التأسيس لمنهج جديد.
والمنطق، كما يقسِّمه علماء المناهج، ينقسم إلى قسمين: منطق خاص؛ ومنطق عام.
أما المنطق الخاص فيقصدون به طريقة التفكير المتبعة، هل هي القياس الأرسطي أو الاستقراء؟
أما المنطق العام فيقصدون به المنهج أو طريقة وأسلوب البحث، بمعنى هل ندرس في هذا العلم ظواهر وجودية أم معارف نظرية؟ وهل بحثنا توصيفي أو تحليلي؟ وهل المنهج المتبع تلقائي أو تأملي؟ وهل هو نقلي أم عقلي؟
وعليه نستطيع أن نقول: إن الفضلي قد أبدع في التنظير للمنطق العام لعلم الأصول. كما أن الشهيد الصدر قد أبدع في المنطق الخاص لعلم الأصول.
مجالات التجديد والإبداع الأصولي عند العلامة الفضلي
ما تقدم كان عبارة عن ملاحظات عامة على تجربة ونتاج الشيخ الفضلي الأصولية، ومدى ارتباطها بالمناخ العلمي، والحراك الثقافي الذي ولدت فيه. وبقي الحديث عن أفكار ونظريات الشيخ واستعراضها. وبما أن هذا المختصر لا يتحملها فسوف نقتصر على الخطوط العامة لهذه التجربة، كالمنهج، وبعد ذلك نذكر بعض التطبيقات والأمثلة.
ويعود سبب التطور الراقي للمنهج عند الفضلي أنه يتبع أحدث ما توصلت إليه البشرية في مجالات البحث العلمي. ولذلك نراه قبل أن يدخل في أعماق البحث الأصولي قد أخضع علم الأصول برمته للدراسة بوصفه ظاهرة خارجية تحتاج إلى وصف وتأمل ودراسة، ليتمكن بعد ذلك أن يسبر أغوار علم الأصول؛ ليكتشف المنهج والأسلوب الذي سار عليه الأصوليون، وما هو الأسلوب الصحيح الذي يجب أن يسيروا عليه؟
وبعد ذلك دخل في البحوث العلمية والمعرفية والنظرية في علم الأصول برفق وعمق ودقة، أي بالعمق الذي يتوافق مع المنهج المناسب لعلم الأصول، لا العمق على طريقة المنهج الفلسفي.
ونحن على وفق هذا المنهج سوف نقسم الكلام عن هذه التجربة إلى ثلاثة مجالات:
1ـ البحث حول علم الأصول كظاهرة.
2ـ البحث المعرفي والتنظيري في علم الأصول.
3ـ أمثلة لمقتطفات تطبيقية من بحوث الشيخ الفضلي.
1ـ دراسة علم الأصول بوصفه ظاهرة
دراسة الظواهر تختلف عن دراسة الأفكار والمعارف النظرية. فلكل منهما منهج يخصه، ولكل منهما فائدة تُرتجى تختلف عن الأخرى. وحسب الترتيب المنطقي المنهجي فإن دراسة الظاهرة يتقدم على دراسة الفكرة النظرية. ولكي ندرس أية ظاهرة يجب أولاً: أن نستقرئ جميع جزئياتها؛ وثانياً: أن نصف ونلاحظ جميع حيثياتها.
أـ استقراء مواد البحث الأصولي
وعلى هذا الأساس انطلق الفضلي في استقراء مواد البحث الأصولية. وقسمها إلى تسع مواد، وهي ـ باختصار ـ :
1ـ مادة علم الأصول: وعنى بها جميع القواعد والأفكار والنظريات والتعاريف التي تدرس في علم الأصول، وهي عند المشهور ـ كما جاء في الكفاية ـ: مقدمة، وفيها ثلاثة عشر مبحثاً، مثل: الموضوع، والتعريف، والمجاز، و…؛ ومقاصد تتكون من ثمانية مباحث، كالأوامر، والنواهي و…؛ وخاتمة في الاجتهاد والتقليد.
2ـ منهج البحث في علم الأصول: تجديد المنهج ضروري لكل علم؛ لأنه يسهل كثيراً الوصول إلى نتائج سليمة ودقيقة. ولكن علم الأصول من العلوم التي تعيش أزمة في تحديد المنهج. لذلك نشاهد علم الأصول قد تأثّر كثيراً بعلم الكلام في بعض مراحله، ونجده في مراحل أخرى قد تأثر بالفلسفة والمنطق. ولأجل تحديد المنهج المتبع عند الأصوليين استعرض الفضلي نصوصاً كثيرة لعلماء الأصول في أزمنة مختلفة، وبعد ذلك خلص إلى نتيجة يقول فيها عن مناهج الأصوليين: «وعند مراجعة كتب أصول الفقه لمختلف المدارس في مجال دراسة الظواهر الأصولية، من خلال ربط النتيجة بالدليل، نستخلص أن لديهم ثلاثة مناهج سارت من ناحية تاريخية بين مدٍّ وجزر، وهي: المنهج العقلي؛ والمنهج النقلي؛ والمنهج التكاملي»([1]). وبعد ذلك يورد ملاحظاته على المناهج القديمة، ويطرح بعدها منهجه الذي يقترحه.
3ـ تاريخ علم الأصول: وفيه يتناول نشأة علم الأصول ومراحل تطوره، ببيان الطابع العلمي لكل مرحلة، والجو الثقافي العالم المهيمن عليها، والترجمة لأبرز أعلامها، والتعريف بأهم ما كتبوه في هذا العلم. وذكر الفضلي أن أبرز مَنْ كتب في تاريخ علم الأصول هو الشهيد الصدر في «المعالم الجديدة»، و د. أبو القاسم كرجي في كتابه «علم الأصول، تاريخه وتطوره».
4ـ التطور الفكري لعلم الأصول: وهو دراسة تطورات الفكر لهذا العلم، صعوداً وهبوطاً، من خلال ما حصل فيه من تطورات وتغيرات، تتمثل في الانطلاق والجمود والتوسع والتضييق، وما جدّ فيه من نظريات، وما اندرس منها. ويشمل هذا دراسة تطور المنهج والمصطلح والمادة والأسلوب. وأكد الفضلي كثيراً على دراسة التطور الفكري الأصولي؛ لأنه ينمي المواهب والقدرات العلمية للطلاب من ناحية تربوية؛ بسبب ما يتحرك في أفقه من مقارنات وموازنات للفكر ومن تعريفات للأعلام وتنويهات لعطاءاتهم وإسهاماتهم([2]). وذكر أن للشهيد الصدر الريادة في هذا المضمار، لكنها قليلة جداً. لذا كانت الحاجة إلى وجود دراسات وبحوث مستقلة في التطور الفكري لعلم الأصول.
5ـ المصطلحات الأصولية: وهي أيضاً من المواد التي قل من كتب وصنف حولها. وقد ذكر مؤلفاً واحداً، وهو «معجم المصطلحات الأصولية»، للسيد محمد الحسيني. ولكن الفضلي من خلال بحوثه التزم بتعريف المصطلحات الأصولية وشرحها، وذكر ما يرادفها أو يوازيها في اللغة أو في العلوم الأخرى.
6ـ أعلام الأصول: وهو التعريف بعلماء الأصول، مع ذكر نظرياتهم ومصنفاتهم في ثنايا ترجماتهم. وذكر الفضلي أنه لم يقف على مصنِّف شيعي تناول هذه الظاهرة، بخلاف الأصول السني فقد صُنِّف فيه.
7ـ الدراسات المقارنة: بحيث يقارن علم الأصول مع العلوم المماثلة، أو التي قد تلتقي معه في بعض القضايا. وكذلك المقارنة بين المذهب العلمي مع المذاهب العلمية الأخرى في علم الأصول؛ وذلك ببيان نقاط الالتقاء والافتراق والموازنة بينهما. وأبرز من ألَّف فيه السيد محمد تقي الحكيم.
8ـ المدارس العلمية الأصولية: قال الفضلي: «ولم يقدَّر لي أن أقف على مؤلَّف يؤرخ أو يدرس المدارس الأولية الإمامية»([3]). ولأجل هذا تحدث الشيخ عن المدارس الأصولية بما يتناسب مع كتابه. وإليك خلاصة ما تناوله عن كل مدرسة:
أـ مدرسة الصدوقين. وقد كانت مدرسة نقلية ملتزمة بالمنهج النقلي حتى في العقائد.
ب ـ مدرسة القديمين، وهما: ابن أبي عقيل العماني؛ والجنيد. وقد كانت مدرسة عقلية، وكان مركزها في بغداد.
ج ـ مدرسة المفيد. وهي مدرسة تكاملية، حاول فيها المفيد الموازنة بين المدرستين. واستمرت هذه المدرسة إلى القرن التاسع والعاشر.
د ـ المدرسة الأخبارية. وظهرت هذه المدرسة مع بداية القرن العاشر على يد الأمين الإسترآبادي. وهذه المدرسة تـنادي بالرجوع إلى المدرسة النقلية.
هـ ـ المدرسة الأصولية. وقد ظهرت هذه المدرسة في قبال المدرسة الأخبارية على يد الأعلام الثلاثة: الفاضل التوني؛ والميرزا الشيرواني؛ والمحقق الخوانساري. وتبلورت هذه المدرسة على يد الوحيد البهبهاني. وقد اتسم التفكير في هذه المدرسة بالجدل الأصولي الأخباري.
و ـ مدرسة الشيخ الأنصاري. وتأتي هذه المدرسة في أواخر نهاية الحقبة الأخبارية. وتتميز هذه المدرسة بعمق التفكير الأصولي، والذي اتسم بأنه أصولي أصولي.
9ـ فهرست النتاج العلمي لعلم الأصول: وقد ذكر الفضلي إحصائيات رائعة لعلم الأصول. وقد مكنه من ذلك خبرتُه الطويلة بالمخطوطات والمكتبات. وقد قسم النتاج العلمي لعلم الأصول إلى تسعة أقسام. ونحن سنذكر هنا عدد المصنَّفات في كل قسم، دون تعداد الكتب، لئلا يطول المقام.
أـ المقررات الدراسية. وذكر فيها 16 مصنفاً.
ب ـ شروح المقررات الدراسية. وقد ذكر للمعالم 35 شرحاً، وللقوانين 35 شرحاً، وللرسائل 99 شرحاً، وللكفاية 105 شرحاً، ولأصول الفقه شرحاً واحداً، وللحلقة الثالثة شرحاً واحداً.
ج ـ تقريرات الأساتذة. واكتفى بذكر أشهر أساتذة البحث الخارج، مع أشهر التقريرات لهم. فابتدأ بالشيخ الأنصاري، وانتهى بالسيد الخوئي. وذكر ما يقارب 40 تقريراً.
د ـ المؤلَّفات المستقلة. وذكر ما يقابل 150 كتاباً.
هـ ـ الأراجيز والمنظومات. وذكر لها ما يقارب 27 منظومة.
و ـ الخلاصات والمختصرات. وذكر 15 كتاباً.
ز ـ المحاكمات. وذكر 5 كتب.
ح ـ الدراسات المقارنة. وذكر لها 10 مصنفات.
ط ـ البحوث والدراسات أو المقالات العلمية. وذكر لها على سبيل المثال 10 مقالات.
ب ـ وصف وتحليل عملية الاستدلال الأصولية
تختلف طبيعة عملية الاستدلال الأصولية عن عملية الاستدلال الفقهية. وكذلك عن الكلامية. فلكل واحدة منها هدف مختلف وطبيعة مختلفة تغاير الأخرى. وقد عالجها الفضلي تحت عنوان (الهيكل العام لعلم أصول الفقه). وهي عبارة عن الخطوات الاستدلالية التي يسير عليها الأصولي؛ ليتوصل في نهاية المطاف إلى إثبات حجية القاعدة الأصولية؛ ليتمكن من توظيف هذه القاعدة في عملية الاستدلال الفقهية.
وقد قسم الفضلي هيكل علم الأصول إلى أربعة أضلاع: 1ـ الهدف؛ 2ـ المادة؛ 3ـ المنهج؛ 4ـ خطوات الاستدلال.
1ـ أما الهدف من البحث الأصولي فهو استخلاص القواعد الأصولية من مصادرها النقلية أو العقلية؛ بغية الاستفادة منها في مجال الاجتهاد الفقهي.
2ـ وأما مادة البحث الأصولي فهي مصادر التشريع الإسلامي أو أدلة الأحكام الفقهية.
3ـ وأما المنهج العام للبحث الأصولي فهو يختلف على حسب مسائله، ففي جملة من مسائله يسلك المنهج العقلي لإثباتها، مثل: حجية الظهور؛ وفي جملة أخرى يسلك المنهج النقلي، مثل: قاعدة تعارض الخبرين؛ وفي جملة أخرى يسلك المنهج التكاملي، مثل: الاستصحاب.
4ـ وأما خطوات البحث الأصولي فهي الخطوات الاستدلالية التي يسير عليها الأصولي؛ ليثبت القاعدة الأصولية. وهذه الخطوات قد تقل أو تزيد بحسب طبيعة القاعدة المراد إثباتها، ولكن الخطوات العامة تتلخص في التالي:
4ـ 1ـ تعيين المصدر (الدليل أو القاعدة الأصولية، مثل: قاعدة الظهور، أو الاستصحاب).
4ـ 2ـ تعريف المصدر.
4ـ 3 ـ إقامة البرهان على حجية المصدر (القاعدة الأصولية)؛ لإثبات شرعيته.
4ـ 4 ـ تحديد مدى حجية المصدر.
4ـ 5 ـ استخلاص القاعدة الأصولية من المصدر.
4ـ 6ـ بيان دلالة القاعدة الأصولية.
4ـ 7ـ بيان كيفية تطبيق القاعدة لاستفادة حكم فقهي([4]).
ولنأخذ قاعدة الظهور مثالاً تطبيقياً لذلك:
أ ـ التعيين: تم اختيار قاعدة الظهور للاستدلال عليها؛ لأن الغاية من دراستها تنقيح كبرى تصدق على صغرياتها من ظواهر الألفاظ. ومحلها من موضوعات علم الأصول هو موضوع دلالة ظواهر الكتاب وظواهر السنة.
ب ـ التعريف: بعد مراجعة كلمات اللغويين والأصوليين نعرِّف الظهور بأنه دلالة اللفظ على المعنى الراجح إذا كان له أكثر من معنى.
ج ـ إقامة البرهان: يمكن القول بأن الأخذ بالظهور من الظواهر الاجتماعية في جميع المجتمعات، ولم يثبت أن الشارع قد منع الأخذ بها أو الاعتماد عليها. إذاً الدليل على إثبات حجية الظهور هو السيرة العقلائية أو العقل الاجتماعي.
د ـ تحديد مدى الحجية.
هـ ـ استخلاص القاعدة.
و ـ دلالة القاعدة: السيرة العقلائية دليل تام، ويثبت لنا المطلوب، وهو حجية قاعدة الظهور، فيمكننا القول بأن ظاهرة الظهور الاجتماعية دليل شرعي يمكن الاستناد إليه في استفادة الحكم الفقهي من ظواهر القرآن والسنة.
ز ـ تطبيق القاعدة. ويتضح من خلال المثال. ولنأخذ آية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} مثالاً تطبيقياً لهذه القاعدة:
«أقيموا» في الآية السابقة أمر مجرد من القرينة الصارفة له عن الدلالة على الوجوب، فهو ظاهر في الوجوب.
«أقيموا» ظاهر في الوجوب، ونطبق عليه قاعدة الظهور التي تقول: إن الظهورات حجة، فتكون النتيجة وجوب الصلاة؛ أخذاً بظاهر الآية الشريفة.
{وَأَقِيمُوا} ظاهر قرآني، وكل ظاهر قرآني حجة، إذاً {وَأَقِيمُوا} حجة.
2ـ البحوث المعرفية والتنظيرية في علم أصول الفقه
وأول ما يطالعنا في هذا المجال هو محاولة الشيخ الفضلي الرائدة في تحديد واستكشاف المنهج العلمي المعتمد في علم الأصول. وقد تطرق للمنهج في أول الأمر في كتابه «أصول البحث». وكان عبارة عن بحث وصفي لمنهج الأصوليين. ولكن في كتابه «دروس في علم الأصول» استأنف البحث عن المنهج؛ ليؤسس وينظّر لمنهج جديد لعلم الأصول.
وفي مجال البحوث المعرفية والتنظيرية سنكتفي بذكر الأمور التأسيسية أو البنيوية في علم الأصول؛ خوفاً من التطويل.
أ ـ محاولة اكتشاف منهج علم الأصول
في الحقيقة يمكن لنا أن نتلمس بذور المحاولة في اكتشاف المنهج عند الشهيد الصدر. لذلك نراه عمد إلى تشييد مباني المنطق الاستقرائي؛ للحد من هيمنة القياس الأرسطي. ولكن من الملاحظ أن الشهيد الصدر نفسه وقع في كثير من بحوثه تحت هيمنة المنطق الأرسطي، علماً أن المنطق الأرسطي لا يتوافق ولا يتماشى مع منهج علم الأصول، ولكنّه تماشى معه مراعاة للوسط السائد؛ لأن الحضور القوي للفلسفة في علم الأصول هو المتعارف عليه في المدرسة الأصولية المعاصرة.
والشهيد الصدر هو أبرز من حاول تقليل الحضور الفلسفي في الدرس الأصولي، ولكن محاولته لا زالت فتية تحتاج إلى رعاية وإلى من يكمل هذه المسيرة.
ومن هنا تأتي تجربة الفضلي كأول تجربة جدية تحاول وتسعى لاكتشاف المنهج العلمي لعلم الأصول، لتكون خير معين لعلم الأصول في شق طريقة نحو التقدم في خدمة الفقه، ولتحدّ هذه التجربة من سريان الخلط المنهجي الذي قد يعيق سير هذا العلم.
ولأجل هذا يقترح الفضلي منهجاً جديداً يجعله بين يدي العلماء؛ ليكون محلاً لدراستهم، ومصباً لإشكالاتهم وإفاداتهم.
المنهج المقترح
من المعلوم أن لكل علم منهجاً يسير عليه. والذي يحدد هذا النهج ويقرره شيئان: طبيعة مادة العلم؛ والهدف من هذا العلم.
أما الهدف من وضع علم الأصول فهو معرفة القواعد الأصولية، أو معرفة قواعد استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
أما طبيعة مادة الأصول فهي متغيرة ومتعددة؛ بسبب تعدد موضوعات علم الأصول، فتجدها تارة لغوية، وتارة نقلية، وتارة أخرى عقلية.
وطبيعة مادة علم الأصول المتغيِّرة هي السبب الرئيسي في عرقلة الرجوع إلى منهج عام؛ لأن المناهج تنقسم إلى: عامة؛ وخاصة. فأما العامة فمثل: المنهج النقلي أو العقلي أو التجريبي أو الوجداني. وليس بين هذه المناهج العامة ما يناسب علم الأصول.
وأما المناهج الخاصة فهي التي تتكون من مجموعة من القواعد المنطقية والعقلية، وتستخدم في حقل خاص من المعرفة، وهذا يتم بعد التعديل أو التغيير أو حتى الجمع بين المناهج العامة.
وبما أن علم الأصول له طبيعته وتركيبته الخاصة فهو يحتاج إلى منهج خاص، ويجب على الأصوليين أن يستكشفوا هذا المنهج ويشيدوه.
ولكي نتعرف على هذا المنهج الخاص لعلم الأصول يجب علينا الرجوع إلى طبيعة مادة علم الأصول، التي يفرضها علينا الهدف؛ لنستكشف طبيعة هذه المادة وحقيقتها، ونتعرف على ماهيتها، وعلى أقسامها.
وقد حصر الشيخ أقسام مادة علم الأصول في خمسة أساسية:
1ـ إثبات حجية خبر الثقة.
2ـ إثبات حجية ظهور الألفاظ.
3ـ تشخيص مراد المتكلم.
4ـ لوازم امتثال الحكم (الملازمات العقلية).
5ـ تحديد وظيفة المكلف عند تعذر النص (الأصول العملية).
ومن خلال هذه المواد الخمس سنتعرف على المنهج، ومن خلالها على موضوع علم الأصول، وعلى مصدر علم الأصول.
1ـ إثبات حجية خبر الثقة يتم عن طريق سيرة العقلاء، وهي ظاهرة اجتماعية عامة يشترك فيها كل البشر.
2ـ وكذلك إثبات حجية الظهور يتم عن طريق سيرة العقلاء، وهي ظاهرة اجتماعية عامة يشترك فيها كل البشر.
3ـ وتشخيص مراد المتكلم يتم عن طريق القواعد اللغوية العامة التي يشترك فيها كل البشر، فنحن أمام ظاهرة اجتماعية لغوية عامة يشترك فيها كل البشر.
4ـ أما الملازمات العقلية فالمتكفل بإثباتها العقل الفطري؛ لأنها من الأمور البديهية التي يدركها كل البشر بفطرتهم، فنحن أما ظاهرة اجتماعية عقلية عامة يشترك فيها كل البشر.
5ـ الأصول العملية، وهي عبارة عن مرتكزات عقلائية يتعاطى معها كل العقلاء، فنحن أمام ظاهرة اجتماعية عامة يشترك فيها كل البشر([5]).
وهذا يعني أننا في علم الأصول ندرس ظواهر اجتماعية عامة يشترك فيها كل البشر.
ولكن بعد التأمل مرة أخرى في الظواهر التي درست في علم الأصول نجد أنها تنقسم إلى قسمين رئيسين:
ظواهر لغوية اجتماعية عامة.
مدركات عامة، أو ظواهر عقلية اجتماعية عامة.
وهدفنا من دراسة هذه الظواهر هو إثباتها؛ لكي يتم الاستناد إليها في الاستنباط الفقهي. وبما أن هدفنا ليس تأسيس نظرية اجتماعية، أو اختبار مصداقية فرضية اجتماعية، لذلك لن نلجأ إلى المنهج العقلي القياسي، ولا إلى المنهج التجريبي، بل سنذهب إلى المنهج الذي يلبي حاجتنا، وهو أننا نريد أن نثبت أنها ظاهرة اجتماعية أولاً، ونثبت ثانياً أنها ظاهرة اجتماعية عامة، لا تختص بمجتمع دون مجتمع، بل هي سارية في كل المجتمعات، وهذا يعني أننا يجب أن ننوعها كالتالي:
ظواهر لغوية ـ اجتماعية عامة.
ظواهر اجتماعية ـ اجتماعية عامة.
والمنهج المناسب لهاتين المادتين هو:
المنهج اللغوي ـ الاجتماعي.
المنهج الاجتماعي ـ الاجتماعي.
وكلا المنهجين يقوم على طريقة الاستقراء.
وعليه سيكون المنهج المتبع في علم الأصول الاستقراء، وليس الاستنتاج المبني على القياس الأرسطي، الذي سرى إلى علم الأصول؛ بسبب هيمنة علم الكلام([6]).
موضوع علم الأصول
عندما نعود إلى الكتب الأصولية نجد أن تحديد موضوع علم الأصول من أكثر الأمور تعقيداً وغموضاً؛ بسبب فقدانه الضابطة التي يُرجع إليها. ونجد أن كلمات الأصوليين متفاوتة في هذا الشأن؛ فمنهم من يقول: إن موضوعه الحجية، ومنهم من يقول: أدلة الفقه؛ ومنهم من يقول: لا موضوع له، ويكتفي بالقدر الجامع بينها، وهو الغرض.
وبعد تتبع موضوع علم الأصول في المصنَّفات الأصولية وجد الفضلي أنه تطور من:
1ـ أدلة الفقه، كما هو عند المرتضى والطوسي، وهي كل ما يصلح لأن يكون مستـنداً للفتوى، من دليل أو أمارة أو أصل.
2ـ إلى القواعد، كما هو عند ابن الحاجب المالكي والميرزا القمي والآخوند الخراساني، وهي القضايا الكلية التي تقع كبرى في قياس الاستنباط الفقهي.
3ـ إلى القانون، عند السيد البروجردي، أي القاعدة التي تعد حجة في الفقه.
4ـ إلى العناصر المشتركة، عند الشهيد الصدر، وهي أعم من القواعد، بما يشمل كل عنصر مشترك له دخل مباشر في عملية الاستنباط الفقهي([7]).
ومع هذه الإفادات واللفتات اللطيفة، التي أدلى بها العلماء حول موضوع علم الأصول، إلا أنه لا يزال الغموض يلفّ منطلقات البحث الأصولية حول الموضوع، بل حتى الموضوع نفسه. فلا يزال ما طرح على أنه موضوع غير واضح الحقيقة والهوية، كما عليه العلوم الأخرى، كالكلمة للنحو.
وفي هذا يقول الفضلي: «وما ذهب إليه الرواد الأوائل من أن موضوع علم الأصول هو أدلة الفقه أقرب إلى طبيعة المسألة، إلا أن نظرتهم انصبت على جانب التطبيق دون النظرية»؛ وأما من الناحية التطبيقية فإننا في علم الأصول نبحث حول الدلالة الفقهية لاستفادة الجعل الشرعي، فيكون موضوعه الدلالة الفقهية. وعليه فيكون موضوع علم الأصول الدلالة العامة والدلالة الفقهية بشكل خاص([8])، بمعنى أنه يجب علينا أن نثبت مثلاً أن الظهور دليل معتمد عند كل البشر وعند كل العقلاء، وبعد ذلك نثبت شرعية هذا الدليل في الاستفادة منه في الفقه والاستنباط الفقهي.
وعليه أيضاً يكون تعريف علم الأصول هو العلم الذي يبحث في الدلالة بعامة والدلالة الفقهية بخاصة.
ومما تقدم اتضح أن موضوع علم الأصول من ناحية نظرية (الدلالة بشكل عام) ينقسم إلى قسمين:
الظواهر اللغوية الاجتماعية العامة.
المدركات العقلية العامة.
ومن ناحية تطبيقية يطبق نتائج البحث على الظواهر الممضاة شرعاً، أي التي يقبل الشارع توظيفها في عملية الاستنباط الفقهي.
ويتحرك علم الأصول في بحوثه داخل دائرة التشريعات الشرعية والقانونية والعرفية.
وبما أنه أعد للفقه الإسلامي فهو يقتصر في دراسته على قضايا التشريع الإسلامي عملياً، وإلا فهو من ناحية نظرية يشمل كل التشريعات الإسلامية وغيرها.
مصدر علم الأصول
هذا العنوان من إبداعات الشيخ الفضلي المنهجية؛ إذ لا نرى لهذا البحث وجوداً قبله.
وقد يكون السبب في عدم تعرضهم للحديث عن مصدر علم الأصول هو اضطراب كلماتهم في تحديد موضوع علم الأصول.
وبعد أن أدلى الفضلي برأيه الرصين في تحديد موضوع علم الأصول صار من اللازم تحديد مصدر علم الأصول؛ لتكتمل بذلك أطروحته.
وعنى بالمصدر المجال الذي يرجع إليه واضعو العلم أو الباحثون فيه؛ بغية استقاء مادة العلم من هذا المجال.
وهذا يعني أن لكل علم مصدر ومجال يستقي الباحثون مادة العلم ومعلوماته من هذا المصدر.
ومن أمثلة ذلك أن مصدر علم النحو:
السماع: ما سمع من كلام العرب.
القياس: ما يقاس على كلام العرب الفصيح.
ومصدر علم التاريخ:
الوقائع: بالمشاهدة والرؤية.
الرواية والحكاية عمَّن شاهد الواقعة.
الوثائق: المدونات.
الآثار: الحفريات والنقوش.
ويبقى السؤال: ما هو المصدر الذي يجب الرجوع إليه في علم الأصول ليُستقى منه مادة ومعلومات علم الأصول؟
الجواب عن هذا يتوقف على معرفة موضوع علم الأصول، حسب رأي الشيخ، لأن موضوع العلم هو الطريق لمعرفة مادة وطبيعة العلم، ومن خلال المادة والطبيعة نكتشف المنهج المتبع، والمصدر المعتمد لهذا العلم.
وقد تقدم أن موضوع علم الأصول ينقسم إلى نوعين:
ظواهر لغوية اجتماعية عامة.
ظواهر أو مدركات عقلية عامة.
وبما أن هذا العلم هو علم أصول الفقه الإسلامي بالخصوص فهو يقتصر فقط على قضايا التشريع الإسلامي.
وعليه ستكون مادة علم الأصول موضوعات الأدلة الرئيسية فيه، وهي:
1ـ الأصول اللفظية: والهدف منها تشخيص صغريات كبرى الظهور. وهي ظاهرة اجتماعية عامة. وقد استدل لإثبات هذه الظاهرة بالسيرة العقلائية.
2ـ الملازمات العقلية: واستدلوا عليها بالبداهة؛ لكونها من الأوليات والفطريات التي قياساتها معها، ويدركها كل الناس؛ لأنها مرتكزة عند كل البشر بما هم عقلاء.
3ـ الأصول العملية: وهي كذلك من الظواهر الاجتماعية العامة، أو من المرتكزات العقلائية، التي استدل عليها بالسيرة العقلائية.
ومما تقدم يلاحظ أن مصدر علم الأصول هو العقل، بل خصوص (العقل الاجتماعي)، كما أطلق عليه الفضلي، وهو الذي يسميه الأصوليين السيرة العقلائية أو بناء العقلاء.
والعقل الاجتماعي هو المتكفِّل بإبراز الظواهر الاجتماعية العقلية العامة. ووظيفتنا التعرف على هذا العقل، وطرق التفكير عنده؛ لنتمكن من إثبات الظواهر الممضاة شرعاً؛ لنستخدمها كأدلة في عملية الاستنباط الفقهية من بين الظواهر التي أفرزها لنا هذا العقل.
وللتعرف على حقيقة وسمات الظاهرة الاجتماعية يقدم لنا الفضلي تعريفين، تتضح من خلالهما معالم الظاهرة الاجتماعية:
أ ـ تعريف الظاهرة الاجتماعية عند علماء الاجتماع «عبارة عن نماذج من العمل والتفكير والإحساس التي تسود مجتمعاً من المجتمعات، والتي يجد الأفراد أنفسهم مجبورين على اتباعها في عملهم»([9]).
ب ـ تعريف بناء العقلاء عند الأصوليين بأنه «صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما صدوراً تلقائياً، شريطة أن يتساووا في صدورهم عن هذا السلوك على اختلافاتهم المكانية والزمانية والثقافية والمعرفية»([10]).
ومن التعريفين يلاحظ أن سمات الظاهرة الاجتماعية هي:
1ـ التلقائية.
2ـ الشمولية.
3ـ الإلزام.
4ـ العقلانية: وعلَّل الفضلي اشتراط العقلانية في الظاهرة الاجتماعية كي ترقي الظاهرة إلى مستوى تباني العقلاء، أي يصدر السلوك من الناس بصفتهم عقلاء يضعون الأشياء في مواضعها.
5ـ الشرعية، أي موافقة الشارع على هذا السلوك، سواءٌ كان بالتصريح أو الإمضاء أو الإقرار.
وعليه فيكون مصدر علم الأصول هو سيرة العقلاء أو العقل الاجتماعي. وما ورد من آيات وروايات في قضايا الأصول هي إقرار وإمضاء شرعي للسيرة العقلائية، وليست مصادر لعلم الأصول. نعم، هي مصادر لعلم الفقه.
ب ـ ترسيخ المنهج الجديد وتفعيله
عمل الشيخ على التنظير والتجديد للمنهج في كتابه «دروس في علم الأصول»، الذي أعده للمرحلة الثالثة، أي ما قبل الخارج. ولكنه في كتابه «الوسيط»، الذي أعده للمرحلة الثانية، سار على المنهج الذي أسسه. ولذلك نرى هذا الكتاب يختلف كثيراً عن الكتب الأصولية السائدة، من حيث المنهج والأسلوب والطرح. فنتلمس الاختلاف مثلاً في عنوان الكتاب، حيث عنونه بـ «الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية». وكأنه يلوح بالقول: إن علم الأصول يدرس فقط قواعد فهم النصوص. وعندما نطلع على فصول الكتاب نجد أنه يتكلم عن ثلاثة محاور أساسية فقط، وهي:
قواعد فهم النصوص؛ وتشخيص مراد المتكلم؛ وعلاقات الأدلة.
ومن هنا يأتي سؤال يطرح نفسه: لماذا لم يذكر الفضلي مباحث الملازمات العقلية أو الأصول العملية وغيرها؟
من خلال العودة لمنهج الفضلي يتضح لنا الجواب؛ لأنّه فرَّق في علم الأصول بين النظرية والتطبيق، فقال: علم الأصول من ناحية نظرية يبحث في الدلالة بشكل عام، فيدور البحث حول الظواهر الاجتماعية العامة التي تصلح للاستدلال، ومن ناحية تطبيقية يبحث في الدلالة الفقهية بشكل خاص، فيدور البحث حول إثبات شرعية هذه الظواهر وجواز الاستناد إليها في استنباط الأحكام.
وقد أولى الشيخ الفضلي في هذا الكتاب اهتمامه الأكبر للناحية التطبيقية؛ وذلك لأن القواعد الأصولية تحتاج إلى المشروعية، والمشروعية مرتهنة بالنصوص الشرعية؛ لأن المشروعية تثبت من خلال:
1ـ تصريح المشرِّع.
2ـ عمل المشرِّع على وفقه.
3ـ عدم منعه المسلمين من سلوكه.
4ـ قيام القرائن ـ حالية أو مقالية ـ على ذلك.
وهذه الأمور ترتبط بدراسة النصوص الشرعية بشكل أو بآخر، والقواعد الأصولية تنبثق من النصوص، وإليها تعود([11]).
وفي مقدمة الكتاب يذكر الفضلي أن وفرة النصوص الشرعية،بما فيها من خصوصات وعمومات، تغطي حاجة الفقيه في مجال الاستنباط.
ويقول أيضاً: إن تجارب الفقهاء الاجتهادية في التعامل مع النصوص تؤكد هذا الشيء، بل صرح بعضهم بذلك.
ولهذا السبب اقتصر الفضلي في هذا الكتاب على قواعد فهم النصوص الشرعية، بما يناسب هذه المرحلة، تاركاً الحديث عن القواعد الأخرى للمراحل المتقدمة، كما فعل في كتابه «دروس في علم الأصول».
ج ـ العقلية الأصولية الجديدة
هذا المنهج الجديد الذي طرحه الشيخ الفضلي يفتح الطريق أمامنا لتتشكل لدينا عقلية أصولية جديدة، تختلف عن العقلية السائدة في طرقها وأساليب تفكيرها. وهذه العقلية، مع ما تحمله من تغيير وتجديد، تتماشى مع المنهج الأصولي الذي رسمه مؤسِّسو هذا العلم، مثل: الشيخ المفيد، عندما قال: «أما الطرق الموصلة إلى علم الشرع في هذه الأصول الثلاثة (الكتاب، والسنة، وأقوال الأئمة) فثلاثة طرق: العقل، واللسان؛ والأخبار. بمعنى أنه يستمد القاعدة الأصولية من العقل واللغة، وبالأخبار يضفي الشرعية عليها، كما أنه يستمد الحكم الفقهي من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة.
وهو نفس المنهج الذي ارتآه السيّد المرتضى، عندما حذّر من إدخال المسائل الكلامية في علم الأصول.
وتتماشى هذه العقلية أيضاً مع الدقة والعمق على طريقة البحث العلمية المنهجية الأصولية، لا الدقة والعمق على الطريقة الفلسفية الكلامية؛ لأن الدقة والعمق يتحققان في البحث العلمي من خلال تتبع المفردة أو الفكرة الأصولية في كتب الأصول، وملاحظة تطورها، ورصد التغيرات التي طرأت عليها، وكذلك من خلال تتبع ما يوازيها في كتب اللغة أو العلوم الأخرى التي تتداخل مع علم الأصول.
ومن مميزات هذه العقلية أنها واضحة جداً وضوح الشمس في رابعة النهار، واضحة على كل أصعدتها التي بدا الوضوح فيها جلياً، وهي:
1ـ الألفاظ والتعابير والتراكيب. بحيث لا يوجد ثمة استخدام لمصطلحات غريبة أو غير مفهومة، ولا يترك مصطلحاً إلا ويشرحه ويوضحه لغوياً واصطلاحياً، ويأتي بمرادفاته عند أهل كل اختصاص، سواء كانوا لغويين أو كلاميين أو فلاسفة، بل حتى عند القانونيين والاقتصاديين والحقوقيين وغيرهم.
2ـ الهدف من البحث. بحيث إننا نرى الآن في علم الأصول بحوثاً استطرادية كثيرة. وفي كثير من الأحيان يكون حضورها والاهتمام بها أكثر من البحوث الأساسية. ولكن بفضل المنهج الجديد ستتجه العقلية الأصولية نحو الهدف الذي حدد لها، ولا تنشغل بغيره؛ إلا في خصوص ما يصب في صالح الهدف. وبذلك سيكون علم الأصول أكثر إنتاجاً، وأوفر عطاءً. ولأجل ذلك نرى الشيخ الفضلي يكاد لا يطرق بحثاً، أو يعالج قضية، حتى يذكر ما هو الهدف من هذا البحث، وما هي الفائدة التي ترجى.
3ـ وضوح خطوات البحث. بحيث لا يُنتقل من مبحث إلى مبحث، أو حتى من مقدمة إلى أخرى، إلا من بعد أن يشار للقارئ إلى انتهاء المطلب، إيذاناً بدخول مطلب جديد؛ كي لا يضيع التسلسل المنطقي للأفكار على القارئ. ونجد التسلسل على سبيل المثال ـ وإلا فهو يتغير من مسألة لأخرى ـ كما يسير عليه الفضلي، بحيث يبدأ بالمعنى اللغوي، ثم الاصطلاحي، ثم التعريف، ثم محور البحث، ثم الهدف من البحث، ثم ذكر الأقسام أو الآراء إن وجدت، ثم التعرض لأدلة الإثبات أو النفي، ثم الموازنة أو الاستنتاج، ثم ذكر النتيجة أو ذكر القاعدة.
4ـ نتائج البحث. وتعطى أهمية كبيرة؛ لأنها ثمار البحث وخلاصته. ولهذا يجب أن تذكر بعد كل بحث، ويجب أن تصاغ وتبرز بشكل واضح، وتجمع وتبوب وترتب على شكل رسوم شجيرية أو جداول بيانية؛ لتكتمل الصورة في ذهن الباحث، ويسهل الرجوع إليها، والاستفادة منها.
ومن مميزات هذه العقلية أنها موضوعية وشمولية وانفتاحية. فهي تحاول أن تتعامل مع كل النظريات أو الأفكار أو المدارس بموضوعية تامة، دون الانحياز إلى مدرسة أو إلى تيار معين. وتحاول كذلك أن تنفتح على كل المدارس أو العلوم الأخرى مهما أمكن.
فالملاحظ مثلاً أن الكتب الأصولية في زمن الحقبة الأخبارية تتسم بالصراع الأخباري الأصولي، وما قبلها تتسم بالصراع السني الشيعي، وما بعد الشيخ الأنصاري تتسم بالصراع الأصولي الأصولي. وهذا يعني أن العقلية الأصولية كانت تتجه نحو الانغلاق على نفسها. ولكنها عند الشيخ الفضلي منفتحة على كل المدارس العلمية والمذاهب الدينية، ومنفتحة على كل العلوم الأخرى التي تلتقي مع علم الأصول، مثل: 1ـ علوم اللغة العربية؛ 2ـ علم اللغة العام؛ 3ـ علم الدلالة؛ 4ـ علم الاجتماع اللغوي؛ 5ـ علم النفس اللغوي؛ 6ـ علم الأسلوب؛ 7ـ علم المنطق؛ 8ـ علم الرجال؛ 9ـ علم الحديث؛ 10ـ علم الكلام؛ 11ـ الفلسفة القديمة؛ 12ـ علم الفقه؛ 13ـ علم أصول الفقه المقارن.
دـ مقتطفات من بحوث الشيخ الفضلي
المثال الأول: المطلوب بالنهي
ينقسم الأصوليون في مسألة المطلوب بالنهي إلى رأيين مشهورين: الأول: طلب الكف عن الفعل؛ والثاني: طلب ترك الفعل.
والشيخ الفضلي يستعرض هذين القولين، مع أهم الأدلة المثبتة أو النافية عند الفريقين، ويستعرض أسماء القائلين بالرأي الأول والثاني.
وبعد ذلك يخرج بنتيجة لطيفة، حيث يرى أن كثرة الاستشهاد بأسماء المعتزلة، كأبي هاشم وغيره، في المسألة يكشف أنها بحثت أولاً في علم الكلام، وبعد ذلك انتقلت إلى علم الأصول بتفاصيلها السابقة متأثِّرةً بمنهج البحث الكلامي.
ويوضح أن المنهج الكلامي لم يقدم جواباً شافياً؛ إذ كل ما أوردوه من استدلالات لا تخرج بمحصلة نهائية، حتى الرأي الذي استقر عليه مشهور متأخري متأخري الشيعة والمعاصرون، وهو طلب الكف، أي الزجر، لا طلب الترك؛ هروباً من إشكال أن الترك عدمٌ، فكيف يتم طلب العدم.
ويشكل الفضلي على نتيجة هذا المنهج فيقول: «ومن البديهي أن الزجر عن الفعل يلزمه طلب الترك، كما أن البعث إلى الفعل يلزمه طلب الإتيان بالفعل»([12]).
وبصيغة أخرى: العرف لا يفرق بين طلب الترك وطلب الكف، والشارع يتكلم بلغة العرف.
ويعقِّب الفضلي على ذلك بقوله: «ولكن تبقى الملاحظة المنهجية قائمة، وهي أن أمثال هذه المسائل لا يرجع فيها إلى النظريات الفلسفية، أو الأخرى الكلامية؛ لأنها خطابات شرعية سلك فيها الشارع المقدس طريقة الناس في خطاباتهم حواراتهم، فكان من المطلوب منهجياً أن يرجع فيها إلى الفهم العرفي. فما الذي يفهمه العرف الاجتماعي من النهي عندما يقال: لا تشرب الخمر؟ إن الذي يفهمه العرف الاجتماعي من هذا الخطاب أن المخاطب مطلوب منه الامتناع عن شرب الخمر. وهذا يكفينا في فهم البلاغات الشرعية.
أما ما رأيناه من الأخذ بمعطيات علم الكلام فلا مبرر له هنا؛ لأنه ينأى بالفكرة عن الواقع، ويربك ارتباط النص بالسلوك الفردي.
وهذه المسألة تبين عمق تأثر أصول الفقه بطريقة المتكلمين، التي نحن في غنى عنها إذا ما أخذنا بالمنهج الأصولي اللغوي، أو المنهج الأصولي الاجتماعي.
المثال الثاني: دلالة ألفاظ العموم
أثار الأصوليون البحث حول ألفاظ العموم، هل تدل على العموم بالحقيقة أو لا؟ بمعنى هل للعموم ألفاظ تخصّه أم يشترك العموم والخصوص في الألفاظ؟
اختلف الأصوليون في هذه المسألة، وانقسموا إلى رأيين. ولكل من الرأيين أنصار من أصوليي الشيعة، ومن أصوليي السنة.
وبعد أن استعرض الفضلي أقوال كل فريق قال: «هذه المسألة أيضاً من المسائل التي بحثت في علم الكلام، وسرت إلى علم الأصول، ويؤكد هذا منهج التعامل معها لدى الأصوليين عند الاستدلال على الأقوال، حيث أوغلوا وأغرقوا في استخدام الأصول والضوابط الكلامية»([13]).
وذكر الفضلي بعد ذلك فارقاً مهماً بين المنهج الكلامي والمنهج اللغوي الاجتماعي في كيفية التعاطي مع أمثال هذه المسائل، فقال:
1ـ إن المنهج الكلامي لأجل أن يصل إلى أن الكلمة أو الجملة أو الأسلوب موضوع لهذا المعنى يعتمد علائم الحقيقة، التي منها التبادر، فمتى تبادر المعنى عند سماع اللفظ إلى الذهن فإن المعنى حقيقي، أي إن اللفظ موضوع له.
2ـ بينما يعتمد المنهج اللغوي الاجتماعي استقراء النصوص الموروثة في تطبيقاتها على مواردها، وملاحظة الاستعمال الخارجي الراهن.
ونحن هنا عندما نبحث عن دلالة الألفاظ، التي عنونت بـ (ألفاظ العموم) نرجع إلى أهل اللغة ـ العرب ـ، ونلاحظ طريقتهم في الإفهام والتفهيم، أي أسلوبهم في الاستعمال، من حيث اللفظ والدلالة([14]).
والتزاماً بهذا المنهج نجد الفضلي يقوم بإحصائية لطيفة ـ بالنسبة إلي شخصياً، بحيث لم أعتد على هذا في الكتب الأصولية المعاصرة والمتداولة ـ لكل ما يصلح أن يكون تحت عنوان ألفاظ العموم، ويذكر أن ألفاظ العموم يمكن أن تقسم إلى سبع وحدات، من حيث الإحصاء، ويأتي بعد ذلك بسرد فروعها مع التطبيقات والأمثلة، ويناقش ما يصلح منها وما لا يصلح.
وبعد ذلك يصل إلى نتيجة مفادها أن العرب في أساليبهم واستعمالهم للألفاظ والدلالات يفرِّقون بين نوعين من الألفاظ، «أو قل: إنهم يصنِّفونها إلى مجموعتين، هما:
1ـ مجموعة تفيد الاستقراء بنفسها، مثل: (كل)، و(جميع)، وما في معناهما؛ الجمع المحلى بـ (ال) الجنسية، نحو: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُواْ المَسْجِدَ الحَرَامَ}؛ النكرة في سياق النفي، مثل: لا عتق إلا في ملك؛ اسم الجنس المعرَّف بـ (ال) الجنسية، نحو: {وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
2ـ مجموعة لا تفيد الاستغراق إلا بمساعدة قرينة السياق، كأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة؛ لأنها تستعمل في المفرد والمثنى والجمع، المذكر منها والمؤنث، والقرينة السياقية هي التي تعيِّن مراد المتكلم.
ويبدو لي أن الخلاف نشأ من هذا؛ وذلك أن من لاحظ استعمالات المجموعة الأولى قال بوجود ألفاظ في اللغة العربية تفيد العموم وتدل عليه؛ ومن لاحظ الاستعمالات في المجموعة الثانية، وهي تفيد العموم تارة، ولا تفيده تارة أخرى، أنكر وجود ألفاظ تختص بالعموم.
وبالرجوع إلى كتاب «المعتمد»، لأبي الحسن البصري، وكتاب «الذريعة»، للشريف المرتضى، تتضح الصورة أكثر، وتنجلي الفكرة بشكل أبين.
ونحن هنا لسنا بحاجة ماسة إلى المنهج الكلامي؛ لأننا نتعامل مع اللغة، واللغة اعتبار ونقل، ولا مسرح للعقليات فيها، إلا في حدود ما يسمح به البحث، حيث تمس الضرورة لذلك، وما نحن فيه ليس منه، فالمرجع هنا هو العرف الاجتماعي»([15]).
المثال الثالث: الملازمة العقلية
ويضرب الشيخ الفضلي لها عدة أمثلة، منها: لو قال الطبيب للمريض: استعمل هذا الدواء المكتوب في هذه الوصفة لمدة أسبوع، فإن المريض يدرك أن عليه أن يذهب إلى الصيدلية؛ لأخذ الدواء منها، وإن لم يأمره الطبيب بذلك.
«ومنه نخلص إلى أن المراد بالملازمة في العرف الاجتماعي استلزام شيء ثابت بالأمر به أو النهي عنه أو الإرشاد إليه بالفعل أو الترك لما يتوقف تحققه عليه عقلاً وتجربة.
وفي ضوئه يمكننا أن نعرف الملازمة في العرف الشرعي بأنها الترابط بين حكم شرعي ثبت بالنص وحكم شرعي آخر كشف عنه العقل.
وهذا نحو الأمر بالوضوء بنص شرعي، المستلزم لذهاب المكلَّف إلى محل الماء واستعماله، فإن العقل يدرك وببداهة وجوب ذهاب المكلف إلى محل الماء لأجل التوضؤ منه، وأنه مطلوب شرعاً، وإن لم ينصّ الشارع على ذلك.
واعتماداً على هذه البداهة الموجودة عند كل إنسان، بما يعطي صفة الاجتماعية العامة للظاهرة، لم يصدر من المشرِّع نصٌّ بحكم أمثال هذه المسلتزمات، أي إنه اعتمد في معرفة حكمها على المكلَّف؛ لأنه يدركها بعقله وببداهة.
وما دامت المسألة بهذا اليسر من التصور والتصوير لا نحتاج إلى أن ندخلها مجالات الفلسفة أو الكلام، ونطيل البحث بما لا ضرورة تدعو إليه.
وكما رأينا: إن الملازمة ليست بين حكم شرعي وآخر عقلي، وإنما هي قائمة بين حكمين شرعيين: أحدهما نصَّ الشارع عليه؛ والآخر ترك معرفته وإدراكه لبديهة عقل المكلف»([16]).
وهذا الكلام يجري في كل القواعد التي لها الصلاحية في أن تدخل باب المتلازمات العقلية، مثل: الأجزاء، والنهي يدل على الفساد، واجتماع الأمر والنهي، وغيرها.
الهوامش
(*) كاتب في الحوزة العلمية، من السعودية.
([1]) دروس في علم الأصول 1: 56.
([5]) دروس في علم الأصول 1: 88.
([6]) دروس في علم الأصول 1: 89.
([7]) دروس في علم الأصول 1: 100.
([8]) دروس في علم الأصول 1: 100.
([9]) دروس في علم الأصول 1: 116.
([10]) دروس في علم الأصول 1: 117، نقلاً عن معجم المصطلحات الأصولية، للحسيني.
([12]) دروس في علم الأصول 2: 143.
([13]) دروس في علم الأصول 2: 144.
([14]) دروس في علم الأصول 2: 229.