أحدث المقالات

مفارقة مع أركون حول خطاب العقل والعقلانية

الشيخ د. زكي الميلاد

 

كنت قد أشرت في المقالة السابقة، إلى وجود مفارقة ما بين بسط يتسم بالسعة والشمول في خطاب القرآن الكريم حول العقل والعقلانية، وما بين قبض يتسم بالضيق والأفق الضيق في خطاب العقل والعقلانية عند بعض النخب الفكرية المعاصرة.

وقصدت بذلك نظرية أشار إليها الدكتور محمد أركون في محاضرة له بعنوان (العجيب الخلاب في القرآن) قدمها في المؤتمر العلمي الذي عقدته منظمة تقدم الدراسات الإسلامية بباريس سنة 1974م، ونشرت لاحقاً في كتاب جماعي باللغة الفرنسية سنة 1978م، وأعاد أركون نشرها أيضاً في كتابين له هما (الفكر الإسلامي قراءة علمية) الصادر في ترجمته العربية سنة 1987م، وكتاب (قراءات في القرآن) الصادر بالفرنسية سنة 1982م.

ويمكن تحديد هذه النظرية في ثلاثة أركان، هي:

الركن الأول: يرى أركون أن التحليل اللفظي والنحوي والأسلوبي للمقاطع القرآنية التي تحتوي على فعل – عقل يعقل – يكشف عن فعالية الإدراك، والتصور لدلالات متعالية يقوم بها وعي لا يتجزأ، هذه الدلالات متضمنة في العلامات – الرموز، يتمثل هذا الإدراك – الإحساس – في آن معاً بعملية الحجز أو الربط والتذكر (تفكر، تذكر) وفي فهم الخطاب (فقه)، وفي إحساس صميمي بالمعنى (شعر)، ثم هو يتمثل أخيراً في العلم الآني والكلي (علم)، الذي يولد الموافقة والخضوع لكلام الله الخلاق.

الركن الثاني: إن هذه العبارات المذكورة في الآيات القرآنية، ذات التلوينات الواضحة حسب وصف أركون، لا تتطلب في نظره استخدام الفهم المنطقي الذي يطابق بين الفكرة الواضحة والحقيقة الخارجية عنها بصفتها حقيقة واقعية، ترد هذه العبارات أو الآيات دائماً بعد التذكير بنعم الله على البشر، وتدخله في تاريخ النجاة الأخروي، إنها تنبه إذن إلى ضرورة الاندهاش والتعجب والاستحسان والتأمل والاستبطان استبطان الآيات، لكي يعيش المؤمن رابطة الميثاق أو العهد بشكل أكثر كثافة وقوة. ولهذا السبب نلاحظ أن عضو الإدراك هو القلب وليس العقل.

الركن الثالث: في هذا الركن يتحدد ما يخلص إليه أركون، وما يريد البناء عليه، حين قوله (هكذا ينبغي إذاً ألا نبني أوهاماً كثيرة على تواتر المفردات ذات التلوينات العقلية في القرآن)، وبتوضيح أكثر لهذا الاستنتاج يقول في الهامش (أي ينبغي ألا نظن أن كثرة هذه المفردات تشكل دليلاً على وجود العقل بالمعنى الفلسفي الأرسطي، الذي لم يدخل الساحة الثقافية العربية والإسلامية إلا فيما بعد).

ولا شكَّ أنَّ هذه النظرية تثير جدلاً ونقاشاً في أركانها الثلاثة، ففي ركنها الأول حاول أركون تحليل الألفاظ التي تتصل بمفهوم العقل في القرآن بالعودة إلى معنى العقل في اللغة العربية والثقافة العربية إبان عصر نزول القرآن، استناداً على ما يسميه بالقراءة التزامنية للقرآن، كما يعرفها علماء الألسنيات اليوم، وهو يفاخر بهذه القراءة، التي يقصد بها (القراءة المطابقة زمنياً للنص المقروء، أي القراءة التي تحاول العودة إلى الوراء، إلى زمن النص لكي تقرأ مفرداته وتركيباته بمعانيها السائدة آنذاك، وليس بالمعنى السائد اليوم).

وعلى هذا الأساس يتحدد عند أركون مفهوم العقل في القرآن بمعنى الحجز والربط والتذكر، ثم التعرف على الشيء، والتعرف على الشيء في قاموسه يعني (التحقق من حقيقة موجودة سابقاً، لأنها بكل بساطة كانت موجودة منذ الأزل)، وبالتالي فإن ما يقصده القرآن بعبارة (أفلا يعقلون)، لا يعني عنده مفهوم العقل كما نعرفه اليوم، وإنما هو مفهوم ينتمي إلى شبه الجزيرة العربية، أي إلى بيئته وزمنه.

وهذه ملاحظة شديدة الحساسية، ومتشربة بروح الاستشراق الغربي، لأنها تتعامل مع القرآن المنزل كما تتعامل مع أي كتاب وصلنا من ذلك العصر، والمتأثر بجميع الأطر والعوامل الثقافية والاجتماعية لتلك البيئة، أو كأنها تريد القول أن القرآن ينتمي إلى البيئة الثقافية والاجتماعية التي جاء لمخاطبتها، ويتحدد بالزمان والمكان الذي نزل فيه، وهذا القول لا يقول به إلا المستشرقون أو المتأثرون بهم.

ورداً على هذه الملاحظة نقول: إن القرآن الكريم خاطب مجتمع الجزيرة العربية، وتكونت علاقته الأولى بهذا المجتمع، لأنه كان لابد أن يخاطب مجتمعاً محدداً، ويكوّن علاقة بهذا المجتمع، ولأن الله سبحانه أرسل رسله وأنبياءه إلى مجتمعاتهم أولاً، ولكي يتحدثوا بلسان قومهم، قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه).

وهذا لا يعني على الإطلاق أن يتحدد خطاب القرآن بذلك المجتمع، وينحصر بذلك الزمان والمكان، وإلا لما كان يختلف عن أي كتاب بشري آخر.

انتهيت فيما سبق إلى مناقشة الركن الأول من نظرية الدكتور أركون حول مفهوم العقل في القرآن الكريم، وبقي النقاش في الركنين الثاني والثالث. ففي الركن الثاني حاول أركون تصوير أن مفهوم العقل في القرآن يطابق معنى القلب، وهو عضو الإدراك في القرآن وليس العقل، والذي يوافق بشكل عفوي حسب قوله على صحة ما كان قد رآه أو عرفه أو تعرف عليه، ولأن الأفعال التي استخدمها القرآن كبدائل لكلمة عقل جاءت في نظره بتلوينات عاطفية واضحة، لا تتطلب استخدام الفهم المنطقي وهذا يعني أن العقل في القرآن حسب تصور أركون، هو عقل وجداني أو باطني أو أخلاقي، وليس عقلاً برهانياً أو استكشافياً أو منطقياً وفلسفياً، الذي هو العقل في نظره وليس ذلك العقل القلبي أو الأخلاقي.

وعند النظر في هذه الملاحظة ومناقشتها، يمكن تقسيم الآيات التي تحدثت عن العقل والقلب إلى ثلاثة أقسام، آيات تحدثت عن العقل، وآيات تحدثت عن القلب، وآيات تحدثت عن العقل والقلب معاً، مثل قوله تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

والذي يفهم من هذا التقسيم أن هناك فصلاً من جهة، واتصالاً من جهة أخرى في العلاقة بين العقل والقلب في القرآن. هناك فصل بمعنى التمايز بين العقل والقلب من جهة الطبيعة والوظيفة والملكة، فالآيات التي تحدثت عن العقل كانت قاصدة العقل في معناه ومبناه، والآيات التي تحدثت عن القلب كانت قاصدة كذلك القلب في معناه ومبناه.

وهناك أيضاً اتصال بمعنى التقاء وظيفة العقل بوظيفة القلب، واللافت في الآية التي جمعت بين العقل والقلب، أنها ربطت جانب الفعل في القلب إلى العقل (فتكون لهم قلوب يعقلون بها)، وكأن الآية تدعو إلى عقلنة القلب، وربطت القلب بالعقل بخلاف ما ذهب إليه أركون بربط العقل بالقلب.

وفي الركن الثالث حاول أركون تصوير أن حديث القرآن عن أفعال العقل لا يشكل في نظره دليلاً على وجود العقل الذي نعرفه اليوم، ويرى أن العقلانية في المجال الإسلامي اتصلت بالنزعة الإنسانية، وجاءت نتيجة اتصالها بالتراث اليوناني القديم والأرسطي منه بشكل خاص.

وقد اعتبر المستشرق الفرنسي جان بول شارني أن أركون بهذا القول قام بتفريغ الحالة العقلانية في القرآن، أو أنه وضعها بين قوسين، الرأي الذي استغربه أركون نفسه، وفي رأيه أنه إذا كانت هناك بذور للعقلانية كامنة أو في حالة كمون في القرآن، فإنها مشروطة بالانفتاح على ما يسميه بالعجيب المدهش، أي على الاندهاش والانبهار.

ولا شك أن أركون بهذه الرؤية، قد أفرغ العقل والعقلانية من مضمونهما ومحتواهما في القرآن الكريم، وأغلق الطريق على إمكانية استلهام العقلانية من القرآن، وهو لا يعترف بأي فضل للقرآن في تشكيل النزعة العقلانية عند المسلمين.

وبخلاف هذا الرأي ما وجده المستشرق الفرنسي جاك بيرك، الذي أمضى أكثر من عشرين عاماً في ترجمة معاني القرآن، بقوله في حوار معه لصحيفة الأهرام المصرية سنة 1995م (لقد أقنعتني الدراسة المعمقة للقرآن بالمكانة الكبيرة التي يفسحها دينكم للعقل البشري).

والقرآن الكريم أراد أن يدل على العقل بحديثه الواسع عن أفعال العقل، التي هي أقوى وأوضح وأوثق مصداق في الكشف عن العقل والطريق إليه، وعن إعماله والتبصر به.

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً