تمهيد
وعلى أية حال، فقد تورّط الدكتور القفاري في خلط واضح بين سورة النورين وسورة الولاية، فما نشره محب الدين الخطيب وأعمل معول النقد فيه الدكتور القفاري، إنما هو سورة الولاية المزعومة المؤلفة من سبع (آيات)، فيما كانت تلك السورة الأخرى التي أوردها المحدث النوري في كتابه فصل الخطاب نقلاً عن كتاب "دبستان مذاهب"، سورةَ النورين المكوّنة من 41 (آية).
وبدورنا سوف نقوم ـ بغية استيفاء البحث كاملاً ـ بدراسة هاتين السورتين، وتسجيل ما عندنا من نقد متعلق بهما.
نظرة إلى بنية السورتين (الولاية والنورين)
إن البنية الداخلية واللحن العام الذي يحكم هاتين السورتين هو إمامة ووصاية أهل البيت ( عليهم السلام) لا سيما الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك ما يتعلق بانحراف المخالفين لهم، وما ينتظرهم من عذاب وعقاب إلهيين.
إن البنية المغلوطة والمضمون الساذج والفقير لهاتين السورتين يمثلان دليلاً واضحاًُ وجلياً لكل باحث قرآني أو من له أدنى اطلاع على المحتوى القرآني والبلاغة والفصاحة القرآنيين على تدخل يد الجعل فيهما، وكل من ينظر إليهما بعين الإنصاف والعدل لا يتردد في الحكم عليهما بالوضع والجعل([1].)
أ ـ وكنموذج، المقطع الأول من سورة النورين حيث نقرأ "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب…"، ففي هذا المقطع يتم أمر المؤمنين بالإيمان بالنورين الذين أنزلا ليتلوا آيات الكتاب و…، من هو المراد بالنورين المنزلين لتلاوة كتاب الله وتحذير الناس من العذاب والعقاب؟ هل يمكن استنتاج معنى معقول ومحصل من وراء هذه الجمل؟!
ب ـ وكذلك نقرأ في مقطع آخر من السورة نفسها: "واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه…" فلماذا اصطفى من الملائكة وجعل المؤمنين، وما معنى أنهم في خلقه؟
ج ـ وهكذا في مقطع ثالث نجد: "ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل" فما معنى هذه العبارة التي لا أول لها ولا آخر؟!
د ـ وفي موضع آخر جاء: "ولقد آتينا بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصياً لعلهم يرجعون"، ما معنى أننا آتيناك كلمات لعلهم يرجعون؟ وما هو مرجع الضمير في لعلهم يرجعون؟
هـ ـ وفي موضع آخر يقول: "يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين"، كيف يتسنى للنبي أن يأخذ عهداً وضع في ذمة المؤمنين وتحت إرادتهم واختيارهم، ومن ثم يكون شاكراً على ذلك؟! لعل هذه العبارة مستقاة ـ عن تقليد ـ من الآية الشريفة 144 من سورة الأعراف، وأُريد لها أن تجعل على نسقها، فقد ورد في هذه الآية ضمن خطاب موجّه إلى موسى (عليه السلام): "يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له في الألواح من كل شيء"، وهذه الآيات تشير إلى أن الله سبحانه يطلب من موسى أخذ الألواح، والشكر على إعطائه التوراة، وهو أمرٌ يمكن فهمه وتعقله.
و ـ وفي موضع آخر أيضاً: "إن علياً قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربّه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون"، ما هو معنى جملة "قل هل يستوي الذين ظلموا" في هذا النص؟ وما هي المناسبة الموجودة بين هذه الجملة وما بعدها؟
لعل من اختلق هذه الآية حاول محاكاة الآية 11 و 12 من سورة الزمر التي كانت آنذاك في ذهنه، والتي جاء في نهايتها: "قلهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، فأراد استخلاص أنموذج من هذه الآية دونما معرفةٍ بسياقها ونسقها، غافلاً عن كونها في مقام الاستفهام الإنكاري، فالقرآن الكريم يقوم هنا بمقايسةٍ ما بين أولئك الذين اتخذوا ـ جهلاً وعناداً ـ شريكاً لله تعالى، وذلك لإضلال الناس عن الطريق السوي، وأولئك العاكفين في محاريب الليل في محضر الله تعالى خاضعين له وخاشعين، يرجون رحمته ويخافون عذابه، "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، لكن هل للاستفهام الإنكاري في تلك العبارة المجعولة السخيفة من معنى؟!
ز ـ وفي سورة الولاية، جاء في المقطع السابع: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي وبالولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى صراط مستقيم * نبي وولي بعضها من بعض وأنا العليم الخبير * إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم * والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبين * إن لهم في جهنم مقاماً عظيماً إذا نودي لهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون المرسلين * ما خلقهم المرسلين إلا بالحق وما كان الله لينظرهم إلى أجل قريب * وسبّح بحمد ربّك وعليّ من الشاهدين".
ففي هذه السورة المختلقة، ثمّة أغلاط فاحشة وجمل لا معنى لها، من قبيل كلمة "وليّ" التي جاءت في المقطع الأول، ومسألة عدم خلق المرسلين إلا بالحق، وعدم إعطاء الله سبحانه المهلة لهم إلى أجل قريب، وتوجيه أمر مركّبٍ من تسبيح الله تعالى وشهادة علي (عليه السلام) في المقطع الأخير و… كل ذلك شاهد جليّ على جعل هذه السورة واختلاقها من جانب مجموعةٍ من الأفراد الجاهلين بالمحتوى والنسيج القرآنيين.
وعلى أية حال، فكل شخص يدرك ويعرف أدلة سلامة القرآن من التحريف، وينظر ويجول في تلك العبارات التي لا أول لها ولا آخر من هاتين السورتين، يحكم ـ بوضوح ـ بكونهما مجعولتين، ولا يجد نفسه مضطراً للولوج في بحث آخر، وهذه القضية لا تختص بهاتين السورتين المختلقتين، بل المسألة أوسع من ذلك وأشمل؛ فبعد نزول القرآن الكريم كل شخص يسعى جاهداً للإتيان بمثله وعلى شاكلته ويعمل على تكوين سورة على نسق سور القرآن الكريم فإن مآل جهده هذا لن يكون سوى الاستهزاء والسخرية، وليس ذلك إلا لأن القرآن الكريم غير قابل للإتيان بمثله، ومن ثم لا يمكن قياس مضامينه السامية وبنيته الرائعة الجمال وأيَّ نص آخر على الإطلاق.
دراسة مستندات أسطورة سورتي النورين والولاية
ما نلحظه ونركز نظرنا عليه هنا هو دراسة المستندات التاريخية لهاتين السورتين، وذلك ليقف الباحثون القرآنيون ـ كل في دائرة اختصاصه ـ على مبدأ ظهورهما، ولتتبدّى لهم سخافة ادعائهم أننا بهاتين السورتين يمكننا اتهام الشيعة بالقول بالتحريف، أو ادعاء أنهما جزء من مصحف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن ثَمّ لندلل لهم على أن هاتين السورتين لم يكن لهما عين ولا أثر قبل القرن الحادي عشر الهجري في كافة المصادر الشيعية وغير الشيعية أيضاً، ولتظهر أمام الجميع كذلك ركاكة ذاك التوهم الذي عاشه جماعةٌ مالوا إلى القول بتحريف القرآن.
سورتي النورين والولاية في قراءات وتقارير المستشرقين
لقد اهتم المستشرقون ـ بغية إيجاد التفرقة بين المسلمين ـ بهاتين السورتين، وقاموا بنشرهما في كتبهم ومجلاتهم، وقد كانت نتائج دراساتهم وتقاريرهم حولهما على الشكل التالي:
1 ـ نولدكه (1836 ـ 1931م، Noldeke) ([2] : يذكر سورة النورين في كتاب تاريخ المصاحف نقلاً عن كتاب "دبستان مذاهب"([3] .))
2 ـ غولدتسيهر(1850 ـ 1920م، Ignas Gogdziher): إنه يقرأ هذا الموضوع بمزيد من التفصيل فيقول: "وهم في الحق لا يأتون بالأجزاء الناقصة من النص، وبدلاً من ذلك جاءوا بسور ناقصة بالكلية من القرآن العثماني، أخفتها الجماعة التي كلّفها عثمان بكتابته، عن سوء نية، في زعمهم، إذ هي تشتمل على تمجيد لعليّ، وقد نشر جارسان دي تاسي Garcin de Tassy ومرزا كاظم بك، لأول مرّة، في المجلة الآسيوية Journal Asiatique (1842)، سورة من هذه السور المتداولة في دوائر الشيعة.
وحديثاً وجدت في مكتبة بانكيبور (بالهند) نسخة من القرآن تشتمل، فضلاً عن هذه السورة، على سورة "النورين" (41 آية)، وسورة أخرى شيعية أيضاً (ذات سبع آيات)، وهي سورة الولاية، أي الموالاة لعلي والأئمة، كما تشتمل على تفسيرات مذهبية كثيرة في بقية السور المشتركة.
وكل هذه الزيادات الشيعية نشرها كلير تسدال W.St. Clair Tisdall باللغة الإنجليزية.
وكل ذلك يدل على استمرار افتراض الشيعة حصول نقص غير قليل في نص القرآن العثماني بالنسبة إلى المصحف الأصلي الصحيح"([4]).
هذا هو ما يستنتجه ويخرج به غولدتسيهر، وهو أن تلك السورة التي نشرها كل من "دي تاسي" و "كاظم بيك" كانت متداولة في الأوساط الشيعية، وهاتين السورتين غير تلك السورتين الموجودتين في تلك النسخة من القرآن التي عثر عليها في بلاد الهند، ويردف غولدتسيهر ادعاءاته هذه ـ ودونما دليل ـ معتبراً أن أولئك الذين عنوا بتدوين المصحف العثماني بأمر من عثمان بن عفان قاموا ـ وفقاً لمنطق التفكير الشيعي ـ بإلقاء هاتين السورتين من القرآن، نظراً لاشتمالهما على فضائل علي (عليه السلام).
والأسئلة التي لا بد من إثارتها أمام المستشرقين هي:
1 ـ ما هو المصدر الذي استند إليه دي تاسي وكاظم بيك فيما يخص هاتين السورتين؟
2 ـ هل أن هاتين السورتين اللتين تحدّث عنهما دي تاسي وكاظم بك غير تلك السورتين المعروفتين باسم النورين والولاية؟
3 ـ هل أن ما نقله كلير تسدال ـ الذي يدعي غولدتسيهر بأنه جمع كل الموارد التي ادعي فيها أنها حرّفت من القرآن الكريم ـ من سور ناقصة كان أزيد من هاتين السورتين؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة يمكن استحصاله عن طريق الرجوع إلى المصادر التي ارتكز عليها غولدتسيهر في هذا الموضوع.
ففي عام 1842م قام دي تاسي ـ ولأول مرةٍ ـ بنشر النص العربي لسورة النورين في مجلة ([5])Journal Asiatioue مرفقاً إياه بترجمة فرنسية له، ويذكر دي تاسي بأن المصدر الذي استقى منه هذه السورة إنما هو أثر فارسي يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي (11 هجري) واسمه "دبستان مذاهب"، وهو من تأليف شخص إيراني زرادشتي يقطن الهند([6])، وبعد سنة واحدة من ذلك، أي عام 1843م، وفي نفس المجلة، قام كاظم بيك بإيراد هذه السورة طبقاً لنسخة تجعل آياتها 43 آية، ونشرها مقدّماً ترجمة أكثر دقّةً عنها، بيد أن كاظم بيك لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى تلك النسخة التي اعتمد عليها([7]).
وبمقايسة متن "سورة النورين" في كلتا المجلتين، نرى أنه ليس هناك أي تفاوت ما بين ألفاظهما، الأمر الذي يدلل على أن كاظم بيك إنما أخذ هذه السورة عن نفس الكتاب، أي عن "دبستان مذاهب"([8])، وبالتالي عن نفس ذاك المصدر الذي كان دي تاسي قد أخذ السورة عنه.
وفي تموز من عام 1913م كتب كلير تسدال (Clair Tisdall) في مجلة ([9]the moslem World وفي مقالة حملت عنوان "إضافات الشيعة على القرآن" (shiah addions to the kotan) يقول: إن هناك علاوةً على سورة النورين المكونة من 42 آية، سورةً أخرى هي سورة الولاية، المؤلفة من سبع آيات، كما قام هو نفسه بترجمة السورتين إلى اللغة الإنجليزية، وتحدث عن مصدره الذي اعتمده في هاتين السورتين فقال: "إن هاتين السورتين مأخوذتان من نسخة خطية للقرآن تعود إلى القرن السادس عشر أو السابع عشر الميلادي موجودة في بانكيبور في الهند"([10]).)
لكن تسدال يذعن ـ فيما يتعلق بنص هاتين السورتين ـ بأن: "الأشخاص العارفين باللغة العربية، يمكنهم اكتشاف وضع واختلاق هاتين السورتين عدا تلك الأجزاء التي وجدت فيهما، مما هو من القرآن نفسه، والتكوين الجعلي لهذه الإضافات لم يكن ليمنحها مجالاً لتحظى بالتوفيق أبداً، بل لقد احتوت على أخطاء نحوية أيضاً، والنص الموجود بين يديَّ لسورة النورين يختلف في كثير من المواضع عمّا هو الموجود في النص الذي نشره كانون سيل (Canon Sell)، وقد كان "سيل" أخذ النص الذي عنده عن مقالة المرزا كاظم بيك المنشورة في المجلة الآسيوية"([11]).
وبناء عليه، فهاتين السورتين لا تعودان إلى مرحلة زمنية أسبق من القرن السادس عشر ـ هذا على فرض أن تلك النسخة من القرآن قد دوّنت في ذلك القرن ـ والحالات التي يتحدث فيها تسدال عن وجود اختلاف بين نسخته والنسخة التي كانت عند كانون سيل، إنما هي من باب الاختلاف ما بين النسخ الخطية، والذي هو أمرٌ طبيعي.
لكن محمد صبيح، ذكر خمس عشر (آية) من آيات سورة النورين دونما إشارةٍ إلى المصدر الذي اعتمد عليه، مطلِقاً على ما أتى به سورة النورين([12])، مدعياً ـ ودون اتكاءٍ على مستند ـ بأن هذه السورة كانت في مصحف الإمام علي (عليه السلام)، ولكن عثمان قام بتنحيتها جانباً([13]).
ويكتب محمد جواد مشكور أيضاً فيقول: "لقد تمّ العثور في الهند على نسخة مختلقة من القرآن تشتمل على سورة ثالثة غير سورتي الولاية والنورين، تحتوي على سبع آيات، وهي في زعم غلاة الشيعة سورة ولاية علي والأئمة"([14]).
لكن مشكور يقع هنا في خطأ واشتباه، ذلك انه لا توجد سورة باسم سورة ولاية الأئمة غير هاتين السورتين، أي سورة النورين وسورة الولاية، ومقايسة نص هاتين السورتين اللتين أوردهما الدكتور مشكور مع السورة التي ذكرها اللاهيجي([15]) وكلير تسدال([16]) باسم سورة الولاية، يرشد إلى انهما سورة واحدة، ومستند الجميع ليس سوى تلك النسخة المجهولة الاسم والعنوان للقرآن الكريم التي ادعي العثور عليها في بلاد الهند.
والحاصل أن مصدر ومرجع المستشرقين، ومشكور، والآخرين حول سورتي النورين والولاية، ليس سوى كتاب "دبستان مذاهب"، ونسخة من القرآن يقال إنها مكتوبة في القرن السابع عشر الميلادي، ولم يقدّم أحد أي مصدر ومستند آخر لهما.
أسطورة "الولاية والنورين" في كلمات السلفيين
ثمّة الكثير من التمسك بهاتين السورتين في كلمات وكتابات السلفيين (الوهابية) لاتهام الشيعة بتحريف القرآن، ونهاية الخيط في ذلك تعود إلى رأسهم، محمّد بن عبد الوهّاب (ت 1206 هـ)، فهو يقول: "… يقال إن الشيعة في هذا العصر أبرزت سورتين من القرآن، يظنون أن عثمان بن عفان أخفاهما، وقد أضافوهما في نهاية المصحف، إحداهما سورة النورين والأخرى سورة الولاء"([17]).
وعقب محمد بن عبد الوهاب، ركّز أنصاره على هذا الاتهام، وكان من بينهم، الشاه عبد العزيز الدهلوي([18])، وعلي أحمد السالوسي([19])، ومحب الدين الخطيب([20])، وموسى جار الله([21])، ومحمد مال الله([22])، وإحسان إلهي ظهير([23])، والدكتور أحمد الجلي([24])، و…
وكما لاحظنا، فإن الدكتور القفاري يدّعي وجود هاتين السورتين في المصحف السرّي المتداول بين الأخباريين([25]).
ويكتب محب الدين الخطيب أيضاً قائلاً: "ونتيجة البحث حول السورتين (النورين والولاية) هو أن هناك قرآنيين رائجين بين الشيعة، أحدهما هذا القرآن، والآخر قرآن خاص مخفي موجود عندهم"([26]).
إن المصدر الذي اعتمد عليه كل هذا الفريق، وكذلك احمد كسروي([27])، ليس سوى كتاب "دبستان مذاهب" وتاريخ المصاحف لنولدكه، ومذاهب التفسير الإسلامي لغولدتسيهر، وفصل الخطاب للمحدث النوري، وتذكرة الأئمة لمحمد باقر اللاهيجي، وقد عالجنا بالبحث والتحقيق المصدر الذي اعتمد عليه غولدتسيهر، أمّا اللاهيجي فإنه يذكر السورتين دونما تعرض لمصدر كلامه ومستنده([28])، (وإذا ما لاحظنا النص الذي يذكره اللاهيجي، وقارناه بالنص المذكور في كتاب "دبستان مذاهب"، نجد أن الاختلاف بسيط جداً، لا يعدو كونه اختلافاً في النسخ ليس إلا)، أمّا البقية، فالمصدر الوحيد الذي اعتمدوا عليه في نقلهم هذا، إنما هو كتاب "دبستان مذاهب"، وحتى المحدث النوري، ينقل سورة النورين عن نفس هذا الكتاب أيضاً، ثم يكتب: "إن الظاهر من كلام دبستان مذاهب هو أنه أخذ هذه السورة من كتب الشيعة، لكنني لم أجد لهذه السورة عيناً ولا أثراً في كتبهم، ولم أعثر على خبر عنها فيها، عدا بناء على ما ينقل عن محمد بن شهر آشوب المازندراني في كتاب المثالب، من أن المخالفين طرحوا من القرآن سورة الولاية، ولعل مراده هذه السورة"([29]).
ومع الأسف، فإن المحدث النوري لم يدقق جيداً في نقل دبستان مذاهب، وكذا في كلام من نسب ذلك إلى ابن شهر آشوب، بل قام ـ وعوضاً عن ذلك ـ بالاعتماد على هذا النقل دون تحقيق، كما سترى ذلك سريعاً، إن شاء الله تعالى.
ومن وجهة نظرنا، فإن تاريخ ظهور سورة النورين ليس سوى كتاب "دبستان مذاهب" الذي يعود إلى القرن الحادي عشر الهجري، وتذكرة الأئمة الذي جاء بعد حوالي القرن منه استقى منه هذه الفكرة، أمّا النسخة المجهولة التي عثر عليها في بلاد الهند في القرن السابع عشر الميلادي، وادعى كلير تسدال بأن هذه السورة موجودة فيها، فثمّة احتمال قوي ـ عندما نلاحظ تاريخ كتابة هذه النسخة ـ في أن تكون مأخوذة من كتاب "دبستان مذاهب" نفسه أيضاً، وبالتالي فقبل هذا الكتاب ليس ثمة مصدر أو مستند يرجع إليه فيما يخص سورة النورين.
أمّا سورة الولاية، فلم يعثر عليها إلا في تلك النسخة المجهولة من القرآن في القرن السابع عشر الميلادي.
وعليه، فلا يوجد أي أثر عن هاتين السورتين في أي مصدر من مصادر الشيعة على الإطلاق، من الكتب الأربعة المتقدمة، وكذلك الكتب المتأخرة، لا سيما في المصادر التي تقع في مظانّ بحثٍ كهذا، ككتاب سليم بن قيس الهلالي (ت 90 هـ)، وكتاب القراءات (والذي سمي اشتباهاً بكتاب التنزيل والتحريف) لأحمد بن محمد السياري (ت 256 هـ)، والتفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمّي، وكذلك في مطاوي كلمات الذين يميلون إلى فكرة تحريف القرآن، من أمثال، أبي الحسن محمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ البغدادي (ت 328 هـ)، من علماء أهل السنة، الذي كان يعتقد بهذا الوهم السخيف القائل بالتحريف، حيث كان يرى بأن عثمان أسقط خمسمائة حرف من القرآن([30])، وكذلك في كلماتهم التي تعرضت ـ قبل القرن الحادي عشر الهجري ـ لمعتقدات الشيعة حول القرآن، كأبي الحسن الأشعري([31])، أو التي نقدت العقائد الشيعية، واتهمتها بالقول بتحريف القرآن، من أمثال ابن حزم الأندلسي([32])، والميرزا مخدوم الشيرازي([33]) (ت في القرن العاشر الهجري)، والمطهر بن عبد الرحمن([34]) (ت في القرن العاشر الهجري).
وعليه، فكل من تعرض لبحث صيانة القرآن من التحريف أو كان بصدد الدفاع عن المعتقدات الشيعية ورفع اتهام التحريف عنها، والإجابة عن الشبهات والاشكالات الموجّهة إليها، وهم جمع غفير من علماء الإمامية، الذين لاحظنا كلماتهم في المقام الأول لدى البحث عن "أدلة سلامة القرآن من التحريف"… لا يعثر في كل آثارهم وكلماتهم على أي اسم أو رسم لهاتين السورتين، لا لإثباتهما ولا لنفيهما، وكما أذعن المحدث النوري ـ الذي يصنف كواحدٍ ممن قل نظراؤهم في مجال التتبع والاستيعاب الشامل والاطلاع الواسع على كتب الفريقين ـ لم يعثر على أثر لهاتين السورتين في الكتب الشيعية.
ونتيجةً لكل ذلك، فإن المصدر الأول لسورة النورين ـ وكما قيل أيضاً ـ ليس سوى كتاب "دبستان مذاهب"، الذي يعود إلى القرن الحادي عشر الهجري.
* * *
[1]– مثل العلامة السيد محمد حسين الشهرستاني (ت 1315 هـ) في رسالة أسماها "حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف"، والشيخ محمود الشهير بالمعرب الطهراني (ت 1312 هـ) في رسالة "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب"، والمحقق الميرزا محمد حسن الآشتياني (ت 1319 هـ) في كتاب "بحر الفوائد في شرح الفرائد"، ص 101، وعبد الرحمن المحمدي الهيدجي في كتابه "الحجة على فصل الخطاب في إبطال القول بتحريف الكتاب" (ألّفه سنة 1372 هـ) ص 144، والعلامة الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدمة تفسيره القيّم "آلاء الرحمن" ص 24، و…
[2]– يعد نولدكه ـ على حد تعبير عبد الرحمن بدوي ـ شيخ المستشرقين الألمان، (المصاحف للسجستاني، المقدمة، ص 4، طبعة مصر) وكذلك يعبر عنه غولدتسيهر بـ "الرائد الكبير"(أنظر مذاهب التفسير الإسلامي، 40) ولمزيد من التعرف على شخصية نولدكه العلمية وآثاره يمكن الرجوع إلى موسوعة المستشرقين، ص 595، وآراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، ج 2، ص 496 وما بعدها.
[3]– تاريخ المصاحف، ج2، ص 102، نقلاً عن الخطيب، محب الدين، ص 12.
[4]– مذاهب التفسير الإسلامي: ص 294 ـ 295.
[5]– May, 1842, pp, 431, 36.
[6]– نفس المصدر: ص 433.
[7]– (Decembsr, 1843, pp, 414 , 19).
[8]– الجدير ذكره أن كاظم بيك ذكر رأي الشيخ الصدوق فيما يخص تحريف القرآن في إطار ذكره لرأي الشيعة في التحريف وكلام الصدوق في صيانة القرآن عنه، نفس المصدر، 401.
[9]– 111, july, pp, 231, 34.
[10]– نفس المصدر: ص 228، والعنوان الوحيد الذي يشير له فيما يخص هذه النسخة من القرآن الكريم هو أن هذه النسخة عثر عليها في حزيران من عام 1912م في بانكيبور في الهند، وقد قال مسؤول مكتبة بانكيبور بأن هذه النسخة قد تمّ شراؤها قبل عشرين سنة من شخص يدعي نواب في مدينة لكنهوي الهندية، وأن تاريخ هذه النسخة يعود في الأكثر إلى 200 أو 300 سنة سابقة، أنظر المصدر نفسه، ص 228.
[11]– نفس المصدر: ص 232.
[12]– تاريخ القرآن: ص 28.
[13]– نفس المصدر: ص 29.
[14]– تاريخ شيعه وفرقهاى اسلامي تا قرن جهارم: ص 155.
[15]– تذكرة الأئمة: 19 ـ 20.
[16]– The Moslem World 111, p. 234.
[17]– رسالة في الرد على الرافضة: ص 14 ـ 15.
[18]– مختصر التحفة الاثني عشرية: ص 33.
[19]– مع الشيعة الاثني عشرية: ص 104.
[20]– الخطوط العريضة: ص 12.
[21]– الوشيعة: ص 104.
[22]– الشيعة وتحريف القرآن: ص 152.
[23]– السنة والشيعة: ص 113.
[24]– دراسة عن الفرق: ص 226.
[25]– أصول مذهب الشيعة: ص 260.
[26]– السنة والشيعة: ص 12.
[27]– در بيرامون اسلام: ص 30.
[28]– تذكرة الأئمة: ص 19 ـ 20.
[29]– فصل الخطاب: ص 180.
[30]– أنظر الجامع لأحكام القرآن: ج 1، ص 80، وتاريخ بغداد: ج 1، ص 280، والمرشد الوجيز: ص 186، وقد بحثنا قبل ذلك ـ وبالتفصيل ـ حول ابن شنبوذ في مبحثنا عن "بداية هذا الافتراء في كتب أهل السنة" في المقام الثاني.
[31]– مقالات الإسلاميين: ج 1، ص 119.
[32]– الفصل: ج 5، ص 119 ـ 120.
[33]– النواقض، مخطوط، الورقة 103، نقلاً عن كتاب أصول مذهب الشيعة الإمامية، ص 210.
[34]– تكفير الشيعة، مخطوط، الورقة 58، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة: ص 210.