أحدث المقالات
تمهيد
موضوع هذه المقالة ـ وفق الاقتراح الذي قُدّم لي ـ هو "نقد التفاسير الحديثة أو القراءات الجديدة للمصادر الدينية"([1])، وهو عنوان يبعث على الاشتباه إلى حدٍّ معينٍ، ذلك أنه يثير استفهاماً حول قابلية كافّة التفاسير الجديدة للكتاب والسنة للنقد والتفنيد، فيما الأمر ليس كذلك بل لا تهدف المقالة إلى أمرٍ من هذا القبيل، فما نهدف إليه هنا إنما هو نقد النسبية المطلقة في فهم النص الديني، فنحن نلاحظ اليوم كتاباتٍ عديدةٍ لمجموعةٍ من الكتّاب في العالم الإسلامي تصب جميعها في الاتجاه النسبي هذا، وبالرغم من أن العبائر المستخدمة أحياناً ذات معاني مختلفة إلا أن الأمور في النهاية تصبّ في مجرى واحد وهو الترويج والدعاية لنوعٍ من النزعة التشكيكية والنسبية في فهم النصوص الدينية.
أمّا كبار المحقّقين المسلمين ففيما يعارضون النسبية المطلقة في فهم النص الديني يذهبون إلى الأخذ بمبدأ الاجتهاد وحيويته المتواصلة، وفي الحقيقة لن يكون لتحوّل الفهم معنى معقول ما لم تكن لدينا مجموعةٌ من الاستنتاجات التي نعتبرها ثابتةً، فهؤلاء يؤمنون بثبات بعض المفاهيم على الصعيد الديني وهي تلك الاستنتاجات المرتكزة على النصوص القطعية للكتاب والسنة أو المفاهيم التي تشكّل بدورها الضروريات الدينية، والتحوّل والاجتهاد في فهم الدين يمكن الاعتراف بهما وفق هذه النتائج الثابتة، ومن دون امتلاكها لن يكون بأيدينا أي معيارٍ لتقييم الأفهام والاستنتاجات.
ووفقاً لذلك عندما نؤكّد في هذه المقالة على بطلان النسبية المطلقة فإننا لا نهدف إلى القول بثبات كافة الأفهام والاستنتاجات، وإنما ندعي أمراً أكثر معقوليةً وتواضعاً وهو تحقيق الاجتهاد المتواصل في بعض المقاطع من الكتاب والسنة ووجود مقدارٍ من الثبات في البعض الآخر.
 
النسبية أو المذهب النسبي
قبل الشروع بنقد المذهب النسبي في قراءة النص الديني لابد لنا من تقديم تصوير أوضح له حتى تنجلي أمامنا النقطة التي يتمحور حولها الخلاف ومن ثم النظرية التي نقوم بنقدها.
إن المطلعين على المجريات الفكرية والفلسفية في الغرب يعلمون جيداً المجالات المتنوعة التي طرحت فيها النزعة النسبية، فهناك توجهات نسبية متشددة ومتطرفة في مجال علم المعرفة (Epistemology) سيما فلسفة العلم (Philosoply of Science) وكذلك في فلسفة اللغة (Philosoply of Language)، وقد كانت هذه التوجهات مورداً للنقد على الدوام من طرف المعارضين والمخالفين لهذه النزعة.
فعلى سبيل المثال ـ بالإضافة إلى المذهب النسبي الموروث عن اليونانيين ـ كانت آراء توماس كوهن (T. Kuhn) وبل فايرابند (Paul Feyerabend) في فلسفة العلم([2])، وغادامر (H. G. Gadamer) في الهرمنيوطيقا([3])، والبعض من آراء كواين في فلسفة اللغة([4])، (لاسيما نظرية الكلية في معاني الألفاظ Holism، ونظرية عدم تعين المعنى Indeterminancy)، ذات جذورٍ نسبيةٍ واضحة، وهكذا الحال في إيمانية فيتغنشتاين (Wittgensteins Fideism) فإنها تعد ـ وفقاً لبعض التفاسير ـ نوعاً من النسبية أيضاً([5]) بالرغم من أن هذه النسبة ليست صحيحةً في حدود اعتقادي، فنظرية أشكال الحياة (Forms of Life) التي يطرحها يقرّ فيها بثبوت البعض من المعارف في كافة أنماط الحياة والعيش وهو بحث له مجاله الخاص به.
نريد هنا ـ ومن دون أن نلاحق فرعاً فكرياً لفيلسوفٍ معين ـ أن نعرض بصورةٍ مختصرةٍ ثلاث أطروحات فقط من بين الأطروحات المتعددة التي تستفاد من مطاوي كلمات النسبيين الدينيين ومن ثم نشير إلى نقدها، والجدير بالذكر هنا أنه من الواضح أن المقالة التي تبنى على الاختصار التام لا تستطيع أن تفي لا بتلك الأطروحات ولا بالانتقادات التي تتوجه إلى جزئياتها وتفاصيلها.
 
الاطروحات المختلفة للنسبية:
الاطروحة الأولى
إن كل أنواع الفهم البشري ـ ومن ضمنها الفهم البشري للكتاب والسنة ـ في حالة تحول، وبالتالي فليس لنا أي فهمٍ ثابتٍ على الإطلاق وهو ما يعني نتيجةً عدم وجود معلومات قطعية الصدق بين أيدينا، أي أنه ليس ثمّة فهم غير قابلٍ للنقد([6]).
هذه الأطروحة النسبية قابلةٌ بنفسها للنقد كما أنها من الناحية المنطقية تدمر نفسها وتنقض ذاتها.
أما النقد فبمثل قضايا من قبيل "استحالة اجتماع النقيضين" و "2+2=4" وكذلك القياسات المنطقية وأمثال ذلك، إذ لا يعقل التحول في فهم هذه القضايا بمعنى أنه ليس ثمة شخص يدعي إمكانية اجتماع النقيضين في ظرفٍ واحدٍ، وبعبارةٍ أكثر منطقيةً يحكم كل إنسان بعدم وجود اجتماعٍ للنقيضين في العوالم الممكنة، أو أن 2+2= 5 مثلاً وهكذا الأقيسة المنطقية و…
وبالإضافة إلى المشكلة السابقة تنقض هذه النظرية نفسها أيضاً، أي أن شمولها لنفسها يستدعي عدم شموليتها أيضاً، فإذا كانت كافة الافهام البشرية في حالةٍ من التحول والتبدل فإن هذا الفهم نفسه هو في حالة تحول وتبدّل أيضاً، فمن الممكن أن لا تصدق هذه القضية في ظرفٍ ما أو في عالمٍٍ ما وبالتالي لن تكون كافة الافهام في حالٍ من التحوّل والتغيّر.
وقد أجاب البعض عن هذه الإشكالية المعقّدة فقال:
أولاً: إن مقولة "كل الأفهام في حال التحول" إنما هي مقولة من الدرجة الثانية؛ بمعنى أنها ناظرة إلى قضايا الدرجة الأولى، ولذلك فليس ثمة أي تالٍ فاسدٍ من تعميم الحكم للقضايا ذات الدرجة الأولى.
ثانياً: ليس تحول الفهم ذا صيغة إثباتية ـ إبطالية دائماً، بل إن ذلك يشمل ظاهرة العمق والتعمق في الفهم نفسه، فالفهم الأعمق لا يلزم منه بالضرورة إبطال أو إثبات الفهم السابق بل إن نفس ذاك الفهم السابق قد أصبح أكثر عمقاًُ([7]).
وفي ظني الشخصي فإن هذا الجواب لا يحل مشكلة النسبية المطلقة بأي وجهٍ من الوجوه، بل إنه في الواقع يعدّ نوعاً من الفرار من المشكلة نفسها، إذ إن مجرد القيام بتقسيم القضايا إلى قضايا من المجموعة الأولى وقضايا ذات الدرجة الثانية لا يرفع المناط في التشكيك فيما سمي بالتحول والتبدل، إّذ إننا نسأل لماذا كانت القضايا ذات الدرجة الأولى (First Order) في حال تحول فيما تلك التي ذات درجة ثانية (Second Order) في أمان من هذا القانون؟ ومجرد كون القضية ناظرةً إلى قضايا أخرى لا يبرر هذا التفكيك.
إن علينا أن ننظر هل أن مناط وجوهر التشكيك الذي أثاره النسبيون شاملٌ لمثل هذه القضايا أو لا؟
في تصوري الأمر كذلك بالتأكيد، ذلك أن القول بتحول المعارف وفق تصريحات الكثير من القائلين به ناشئ عن المحدودية البشرية، ففهم الإنسان يتشكل تبعاً لمحدوديته البشرية وبالتالي فلا مفر من أن تسري تلك المحدودية لمعارفه.
ومن هنا فإذا كان هذا هو استدلال النسبيين فإن هذه الإشكالية تسري إلى المعارف ذات الدرجة الثانية كما هو الحال في المعارف ذات الدرجة الأولى، وحصره بالأخيرة لا دليل عليه.
أمّا الجواب الثاني المتصل بمسألة التعميق فإنه يحتاج إلى إثبات مقولةٍ جديدةٍ تسمى "التعميق"، فهل ثمّة شيء اسمه التعميق غير التكامل الكمّي المتبلور على شكل الإثبات والإبطال؟ إنني غير قادرٍ على الإذعان بشيء من هذا القبيل، فالكثير من الأمور التي أطلقوا عليها اسم تعميق الفهم والفهم المعمّق إنما تؤول إلى تأسيس قضيةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن القضية الأولى، فمثلاً قد يقال أحياناً بأن نظرية الإعتباريات في "الوجوب" هي نوع من تعميق الفهم لقضية "صلاة الجمعة واجبةٌ"([8]).
لكن في تصورنا لا تعمّق نظرية الاعتبار فهمنا لهذه القضية، ولكنها تفسير يقع في مصافّ التفاسير الأخرى التي قد لا تجتمع مع بعضها البعض كتفسير الوجوب على أساس إبراز إرادة الآمر أو بيان الضرورة بين الفعل والكمال المطلوب، وعلى أية حال فأصل مقولة تعميق الفهم بشكلٍ مغايرٍ للتكامل الكمّي فيه أمر غير قابلٍ للتصديق، فكيف بجعلها أساساً للتحول المعرفي العام([9]).
 
الأطروحة الثانية
إن الكثير من المفردات الواردة في الكتاب والسنة تفسّر على ضوء العلوم العصرية، وحيث إن العلوم العصرية في حال تحوّلٍ دائمٍ فإن فهمنا للكتاب والسنة المشتملين على هذه العلوم هو الآخر في حال تحوّلٍ أيضاً.
فالشخص الذي يقرأ في القرآن الكريم مثلاً كيف أقسم الله تعالى بالشمس يفهم ـ إذا كان من أبناء القرن الخامس الهجري ـ أن الله تعالى يقسم بكرةٍ مضيئةٍ تدور حول الأرض ويبلغ حجمها ما يساوي المائة والستين ضعفاً لحجم الأرض، أمّا لو كان معاصراً مطّلعاً على العلوم الحديثة فإنه يفهم الآية على أنها قَسَمٌ بكمٍّ هائلٍ من الغاز الذي تبلغ حرارته العشرين مليون درجة ليشكل كياناً من طاقة ذرية تدور الأرض نفسها حوله، وهكذا الحال فيما يتعلّق بمفردات من قبيل التين والزيتون والشمس والقمر والتراب والدم… الواردة في القرآن الكريم، ومن هنا تقوم الأفكار العلمية والفلسفية بالتحكّم بكلّ مفردةٍ من هذه المفردات لتمنحها معناً جديداً لم يكن لها من قبل([10]).
هذه الأطروحة ـ التي تختزن بشكلٍ واضحٍ التوجّه النسبي في فهم الكتاب والسنة ـ تنبني على مبنى غير سليم فيما يرتبط بمداليل الألفاظ، فكأنه حصل هناك تصورٌ يقضي بأنّ التعرّف على تمام مواصفات وعوارض شيءٍ ما هو أمرٌ يعدّ دخيلاً في فهم معنى هذا الشيء، وبعبارةٍ أخرى معاني الألفاظ ذات سعةٍ كبيرةٍ إلى درجة اشتمالها كافّة هذه الأوصاف، وغايته هو أن معاني ألفاظ أي شيءٍ مرتهنةٌ بحجم اطلاع الشخص نفسه على عوارض وأوصاف وحقيقة ذلك الشيء.
وسر الخطأ والاشتباه في هذا الرأي هو أن أوصاف وعوارض شيءٍ ما خارجةٌ عن معناه، وإلا تبدّلت بعض القضايا الممكنة بالنسبة للأشياء إلى قضيّةٍ ضرورية، فـ "الشمس تدور حول الأرض" أو "الأرض تدور حول الشمس" تعدّان قضيتان ممكنتان، وعلى أية حال فمفهومهما خارج عن مفهوم موضوعهما وبالطبع عن اللفظ الدال على هذا الموضوع، وإذا لم يكن الأمر كذلك وكانت جملة "الأرض تدور حول الشمس" داخلةً في معنى كلمة "الشمس" لكانت قضية "الأرض تدور حول الشمس" قضيةً ضروريةً في هذه الصورة؛ ذلك أن معنى الشمس وفق الفرض الأول متضمنٌ لهذه النقطة وهي أن الأرض تدور حول الشمس والحال أن الذي يبدو لنا هو أن هذه القضية ممكنة، وهكذا الحال في باقي المفردات.
نعم هناك بحث في فلسفة العلم والفلسفة التحليلية يحكي عن ماهية القضايا العلمية فهل هذه القضايا ضرورية أو ممكنة؟ ومن غير البعيد أن يكون القول بضروريتها هو القول الأصح، لكن هذه المسألة لا تؤثر على البرهان المتقدم، إذ يمكن الاستفادة من التحليلية والتركيبية مكان الضرورية والممكنة، فقضية "الشمس تدور حول الأرض" هي بوضوح قضية تركيبية Synthetic)) حتى لو كانت ضرورية Necessary))، والحال أن القول بدخول أوصاف الشمس في معنى لفظها يوجب تبديل القضية أعلاه إلى قضيةٍ تحليليةٍ، ذلك أن المحمول يتحصّل من مفهوم الموضوع، وهي نتيجةٌ لا يمكن الموافقة عليها بأي وجهٍ من الوجوه.
وبهذا يتضح أن أوصاف وعوارض الأشياء ليست داخلةً في معنى لفظها والمعرفة بها هي معرفة يمكن للعلم والفلسفة مثلاً الوصول إليها في مورد ذاك الشيء، فلم يختزن دوران الشمس حول الأرض أو دوران الأرض حول الشمس في مفهوم لفظ الشمس نفسه.
وبناء على ذلك فإن معنى المفردات الواردة من هذا القبيل في الكتاب والسنة لا يتغير من هذه الجهة على الأقل، نعم إن معلوماتنا فيما يرجع إلى القمر عندما نقرأ آية "كلاّ والقمر" مغايرةٌ للمعلومات السابقة، لكننا من لفظ "القمر" نفهم عين ما تمّ فهمه منذ عدّة قرون أو في صدر الإسلام وبالتالي فلم يحصل تغاير في المعنى اللفظي للقمر، وهناك فارق ٌ أساسيٌّ وواضحٌ بين هذين الأمرين([11]).
إن الأطروحة المتقدمة هي نوعٌ بسيطٌ من النظرية التوصيفية للأسماء الخاصّة (Descriptive theory of proper name) والتي يعد بطلانها اليوم من مسلّمات الفلسفة التحليلية، نعم النظرية التوصيفية تملك بياناً أكثر تعقيداً من هذا يقوم على أساس تثبيت المحكي (Fixing Reference) وعلى أساس مجال ونطاق القضايا (Scope) وقد قمت بشرح تفصيلات هذا الأمر في كتابي "الفلسفة التحليلية الدلالات والضرورات"، كما تعرضت هناك للاشكالات المتوجهة على هذه البيانات الأكثر عمقاً بشيءٍ من التفصيل أيضاً.
أمّا فيما يتعلق بالنظريات المبينة لماهيات الأشياء فهذا ما يحوز على بحث آخر ضروري أيضاً، فقد يقال أحياناً بأن نظرياتنا الجديدة تعطي عباراتنا ومشاهداتنا معاني جديدة، ولذلك فإن المعاني مسبوقة بالنظريات التي تمثل لباساً لها، لكن لا المشاهدات ولا العبارات تعطي كل النظريات وكافة المعاني فبعضها أكثر تأييداً فيما البعض الآخر لا تأييد فيه من الأساس والجذر، فثبات الألفاظ لا يصح اعتباره مساوياً لثبات المعاني وموجباً له، فالمعاني تابعة للنظريات وحيث إن النظريات متبدلة فإن المعاني متبدلة أيضاً في نفس الوقت الذي تكون فيه الألفاظ ثابتة([12]).
وقد أشار هذا القائل إلى النظريات المرتبطة بالماء والتراب والسماء والأرض في الماضي والحاضر كما جعل من اختلافها مؤكّداً لكلامه هذا([13]).
والحق أن هذه المسألة تفترق عن المسألة السابقة فالمدعى هنا هو أن النظريات التي تعطينا مثلاً البنية الماهوية للأشياء تعد أيضاً معيّنةً لمعانيها، وهذا الادعاء أكثر وجاهةً حسب الظاهر من الادعاء السابق الذي كان يقول بأن أوصاف وعوارض الشيء دخيلةٌ في مفهومه، فالمدافع عن المدعى المتقدم يمكنه القول: بأنه ألم توضع الألفاظ للماهيات؟ ألم يوضع لفظ الماء مثلاً لماهية الماء؟ وعليه فإذا قالت النظرية بأن ماهية الماء عبارةٌ عن "العنصر البسيط السيال" فإن المعنى يكون قد تحصّل بذلك، وفي المقابل إذا قيل بأن ماهية الماء عبارة عن H2O فإن المعنى سوف يتغير، فإذن في حالة النظريات التي تشرح البنية الماهوية للأشياء يمكن القول بأن هذه النظريات تقوم بتعيين معاني الألفاظ لهذه الأشياء.
وبالرغم من الوجاهة الظاهرية لوجهة النظر هذه إلا أنه لا يمكن اعتبارها صحيحةً ويمكن بالمزيد من التأمل تبين النواقص الموجودة فيها، فحتى في موارد الألفاظ ذات الماهية الواقعية لا يمكن اعتبار النظرية المرتبطة بماهياتها مؤثرةً في معانيها، فلو كان الوضع على هذه الحالة كان ينبغي أن تكون قضية "H2O" قضيةً تحليلية (Analytic) فيما هي قضية تركيبية (Synthetic) بكل وضوح، فليس الأمر بحيث إن معنى المحمول قد تمّ استخراجه من معنى الموضوع وبالتالي فصدقه إنما هو بلحاظ عالم المعنى فقط، بل إن هذه القضية ذات محتوى عيني وواقعي مرتبط بالعالم الخارجي.
سل كريبكي (Saul Kripke) في كتابه "التسمية والضرورة" (Naming and Necessity) سجل مجموعةً من الأدلة في ردّ المدعى المتقدم وقد طرحتُ هذه الأدلة بشكلٍ مفصّلٍ في كتاب "الفلسفة التحليلية، الدلالات والضرورات" ولا مجال لبحثها هنا.
وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن الشيء المعقول ـ حتى في مورد أسماء الماهيات ـ هو وضع اللفظ للماهية بنحو الإجمال، أمّا تفاصيل الماهية (أي تلك الماهية التي لا نملك المعلومات الكافية عن زواياها بالدقة) فهي خارجةٌ عن مدلول الألفاظ، وهذا يعني أن مدلول لفظ "الماء" هو الإشارة الإجمالية للماهية المجملة التي نعرف مصاديقها البارزة، وبالتالي ففي هذا المعنى الإجمالي لا دخالة لا لـ "العنصر البسيط" ولا لـ "H2O" أيضاً بل ولا لأية خصوصية أخرى يمكن أن تقترح من قبل النظريات المستقبلية، وبناءً عليه فإن ما نفهمه من لفظ الماء في قوله تعالى "أنزلنا من السماء ماءً" هو نفس ما كان يفهمه المسلمون الأوائل في صدر الإسلام، والتفاوت الوحيد هو انه من الممكن أن تكون اطلاعاتنا عن الماء غير متوفرة لدى مسلمي صدر الإسلام وهو تفاوتٌ لا علاقة له بالمعنى والمدلول اللفظي.
 
الأطروحة الثالثة
كلما كانت هناك مصادرات دخيلة في قبول الوحي فإن هذا سيكون دخيلاً في فهمه، وحيث إن المصادرات والفرضيات القبلية الدخيلة في الاعتراف بالوحي إنما تمثل في الواقع الفهم الخاص للمتدينين عن العالم والإنسان فإنه لا محالة سيكون مبنياً على جملة مباني فلسفية ومعرفية خاصّة([14])، وحيث إن هذه المباني الفلسفية والمعرفية في حال تحوّلٍ دائمٍ فإن فهم الكتاب والسنة سيكون هو الآخر في هذه الحال أيضاً.
في تصورنا فإن الملازمة بين الفرضيات القبلية للاعتراف بالوحي وفهمه إنما هي مجرد ادعاء، وهو ادعاء غير صحيح ولا يمكن بأي وجهٍ من الوجوه أن تكون شروط الاعتراف بالوحي دخيلةً في فهمه، وواحدة من أفضل الأدلة على هذا الكلام هو التحقيقات التي قام بها المستشرقون على صعيد فهم الكتاب والسنة، فإذا بنينا على أن ما كان شرطاً في قبول الوحي فهو شرطٌ في فهمه أيضاً فهذا يعني أنه لا يمكن لأي مستشرق مسيحي أن يفهم القرآن الكريم أو يدرك الأحاديث النبوية وهكذا، وهي نتيجة لا يخفى وضوح بطلانها على أي مبتدئ.
وسرّ الخطأ في هذا المدعى هو الخلط الذي حصل بين عمليات "فهم النص" وقبولـه، فمن الممكن أن يفهم الإنسان نصّاً معيناً من دون أن يكون معتقداً به، نعم لابد أن يكون هناك نوعٌ من التناغم والانسجام لدى المؤمن فيما بين معتقداته وفهمه للقرآن والسنة، بيد أن هذا الانسجام لا يعني توقف واحدٍ منهما على الآخر.
ما تقدم حتى الآن كان عبارة عن عرض ثلاث أطروحات من بين مجموعة أطروحات مختلفة متصلة بالاتجاه النسبي في فهم الدين، وهناك بيانات أخرى متعددة أيضاً تتعلق بهذه النسبية لا مجال مع الأسف لطرحها هنا ومن ثم نقدها، لكن المقدار الذي بيناه يمكنه أن يدلّل على أن أطروحة الفهم الديني النسبي مقولةٌ مبنيةٌ على أسس غير سليمة في باب الهرمنيوطيقـا (Hermenutics) وفلسفة اللغة (Philosophy of Language) يمكن بتنقيحها رفع هذه النسبية هنا.
 
النسبية من المنظار الديني
كان الكلام في البحث السابق منصباً على المذهب النسبي من زاوية خارجية أي خارج النطاق الداخلي الديني، لكن من الجدير الانتباه إلى أمرٍ أيضاً وهو هل أن هذه النسبية يمكن الاعتراف بها من جانب الكتاب والسنة أو أنها منفيةٌ جزماً؟
بتصورنا الاحتمال الثاني هو الاحتمال الصحيح، فما يستنتج من مجموع الآيات والروايات المتعددة يفيد بطلان وردّ الاتجاه النسبي بشكلٍ قاطع، وفي الحقيقة الدين بفرضياته القبلية لا يمكنه القبول بنسبية الفهم لدى مخاطبيه وبشكلٍ مطلق، أي ذاك الفهم المتعلق بما جاء في الكتاب والسنة بحيث لا نكون قادرين على القول بأن الكتاب والسنة يدلان واقعاً على هذا الأمر.
من جملة الآيات التي لازمها نفي الاتجاه النسبي تلك الآيات التي تعبر عن القرآن الكريم بأنه "نور" وكتاب "هداية" وتنعته بذلك: "قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين" (المائدة:150)، "واتبعوا النور الذي أنزل معه" (الأعراف: 157)، "هذا بيان للناس وهدى وموعظةٌ للمتقين" (آل عمران: 138)، "هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة للمؤمنين" (الأعراف: 203).
إذا كانت كافة الاستنتاجات والتصورات التي نحصل عليها من فهم القرآن الكريم تخضع لإطار النقص والضعف البشري بلا استثناء وبالتالي ولذلك فهي في حالة سيلان دائم بحيث لا يمكننا أن نجزم بأي أمرٍ نفاه القرآن أو أثبته… في هذه الحالة كيف يكون القرآن الكريم كتاباً هادياً؟! فالكتاب والسنة لا يمكن أن يكونا هداةً إلا في الحالة التي يمكن الوصول إلى بعض المحتويات والمضامين التي يحويانها بشكلٍ قاطعٍ ومطابقٍ للواقع.
ومن جملة هذه الآيات تلك الآيات التي تفرض على المسلمين اتباع الكتاب والنور الإلهي كما تعتبر اتباع النبي (ص) أمراً لازماً أيضاً: "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم" (الأعراف: 3)، "وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتبعوه" (الأنعام: 155).
متى يمكننا القول بأننا اتبعنا القرآن الكريم؟ إذا كانت كافة استنتاجاتنا من القرآن قابلةً للترديد والتشكيك فإن الأمر باتباع القرآن سيكون في هذه الحالة بلا معنى بل فوق طاقة البشر، فوِفق النظرية النسبية ما يمكن أن يتبع في كل عصر أو ما يتبع فعلاً إنما هو مجرّد ظنون وتخيلات يمكن أن تطابق الواقع كما يمكن أن لا تكون كذلك.
ومن جملة الآيات هنا أيضاً الآية الشريفة "يعلمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون"، وهذه الآية تدل بصراحة على أن الله تعالى ـ وعن طريق النبي ـ سيقوم بتعليم المسلمين الكتاب والحكمة، فإذا ما كان الفهم البشري في الواقع ناقصاً على الدوام فكيف يمكن أن نقول بأن المسلمين قد تعلموا الكتاب والحكمة من النبي (ص)؟!
ومن الآيات أيضاً "هذا بيانٌ للناس" (آل عمران: 138)، "هذا بصائر للناس" (الأعراف: 203).
ومن الواضح أنه لا يمكن للقرآن أن يكون بياناً للناس أو بصائر لهم إلا في الحالة التي يمكن للناس أن ينالوا فيها الفهم المطابق لهذا الكلام، فإذا كانت أفهامنا عن القرآن الكريم ناقصةً بشكل دائمٍ فكيف يمكن أن يكون القرآن بياناً لنا أو بصائر كذلك؟
ويقول الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: "وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين" (الخطبة: 156)، أي أن كتاب الله هو الملجأ لمن تمسّك به، فإذا كان افتراضنا عبارة عن أنه لا يمكن في أي حالٍ من الأحوال التوصل إلى يقين بمضمون هذا الكتاب المقدس وبالتالي فهمه فهل يمكن أن يكون تمسّكنا به ذا معنى من المعاني؟! بل الصحيح أن التمسّك به لا يكون إلا إذا أمكن الوصول ولو إلى مرتبةٍ من مراتب معانيه.
ويقول (ع) في موضعٍ آخر: "وشاهداً لمن خاصم عليه" (الخطبـة: 198)، أي أن القرآن شاهدٌ لمن أراد التمسّك به في مقام المخاصمة، فلم يقل الإمام بأن ظنونكم أو تصوراتكم التي حصلتم عليها من الكتاب والسنة هي شاهدكم لدى المخاصمة بل قال بأن القرآن شاهدٌ، وهذا يعني إمكانية الوصول إلى فهم القرآن ـ ولو برتبةٍ نازلة منه ـ ليكون بذلك مورداً للاحتجاج ومستمسكاً في الخصام.
 
الخلاصة
لقد ألهبت النسبية في فهم النص الديني ـ بالمعنى الذي تقدّم في صدر البحث ـ في فترة من الفترات الجو العام وشملت في تأثيراتها بعضاً من الكتّاب المسلمين في مختلف البلدان الإسلامية، لكن خطر هذه النسبية لا يلمس بشكلٍ جيدٍ دون الالتفات إلى التوالي واللوازم المترتبة عليها وقراءتها ودرسها، فالنسبية تفضي في النهاية إلى نوعٍ من العلمانية كما أنها تفرغ الكتاب والسنة من الهداية التي تمثّل الهدف الأصلي لهما.
في تصوّر كاتب هذه السطور فإن طرح وترويج هذا النوع من التشكيك والنسبية يمثل خطراً كبيراً على المجتمعات الإسلامية، لاسيما وأن هذا النوع من النظريات يثار ويعرض على أنه "نزعةٌ تجديديةٌ في فهم النص الديني" و "قراءةٌ حديثةٌ للكتاب والسنة" و "رفض التعصب في تفسير المصادر الدينية" و "إحياء الإسلام" وأمثال هذه العناوين، نعم ليس ثمّة محقق معارضٍ للتجديد الصحيح في فهم النصوص الدينية والاجتهاد المستمر ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ فيها، كما أنه ليس ثمة محقق وباحث يقبل بالتعصب في فهم النص الديني مما يؤدي إلى الإضرار بمنهجه التحقيقي، لكن البحث يدور حول حدود هذا الاجتهاد والإحياء ونفي التعصب، إن النسبية في فهم النص الديني تجر إلى عدم إبقاء أي تأثير ودور جوهري للكتاب والسنة وإلى أن يصبح حالهما ـ كما في ثنايا المعارف البشرية ـ هزيلاً فارغاً إلا من الاسم.
وبناءً عليه فعلى المحققين المسلمين التعرّف بـدقة على هذا الخـطر وزواياه وتجنب النتائـج السـيئة لـه والقيام بقراءة نقدية لأسسـه النظرية والفكرية.
 
 
* * *

 

الهوامش
 


[1])) –The Reading of Islamic Sources From a Modemist Viewpoint: A Criticism. وقد كانت هذه المقالة في الأصل محاضرةً ألقاها الشيخ صادق لاريجاني في ملتقى "الإسلام والحداثة"، الذي انعقد في 4 و 5 / 12/ 1375 هـ ش الموافق 1997م في مدينة اسطنبول التركية.
[2])) – توصل توماس كوهن من خلال طرح الأطر (Paradigm) في فلسفة العلم إلى عدم إمكان قياس النظريات مع بعضها البعض (incommensurabiliy) وهو ما دافع عنه أيضاً فايرابند، ومن بين الكثير جدّاً من الكتب والرسائل في هذا المجال يمكن الرجوع إلى المصادر التالية:
أ – Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolution P. 43(Chicago, 1962).
ب – A Musgrave (ed), Criticism and The growth of Knowledge, (CAMBRIDGE University Press 1970).
ج 1789 P 223 (Verso, 1978). 285 P. Feyeraband, Against Method, PP. 142
[3])) – لقد توصّل غادامر بطرحه تاريخية الفكر البشري وتقومه بالفرضيات القبلية وتوقعات القارئ ومن ثم تبدل هذه المصادرات والتوقعات على مرّ التاريخ توصل إلى القول بنوعٍٍ من النسبية المطلقة الكاملة في الفهم البشري، تلك النسبية التي أذعن بها هو نفسه، راجع: H.Gadamer, Truth and Method, PP. 253 240, PP. 269 272. (Cross Road, 1975).
[4])) – من جهته توصل كواين بطرحه النظرية القائلة بأن النظريات تعطي الألفاظ معانيها الموجودة في داخلها وهذه النظريات لا يمكن اختبارها بمفردها بل لا بد من اختبار العلم كله دفعةً واحدةً… توصّل لنوعٍ من الكليّة (Holism) التي تعبر عن أساس للنسبية المعنائية من الدرجة الأولى، وهذه النسبية تعد واحدةً من أهم أسس وأسباب أطروحة عدم قياسية النظريات (incommensurability)، وبالرغم من أن البحث كان يدور في البداية حول ألفاظ النظرية (Theoric term) إلا أنه وعلى أثر التحقيقات اللاحقة على يد بوبر وفايرابند والآخرين تم منع التمييز بين ألفاظ النظرية وألفاظ غيرها من حيث اتصالها بالنظرية، ومن هنا قالوا بأن مقولة المذهب الكلي إذا صحت في مورد ألفاظ النظرية فإنها سوف تصدق في كافة الموارد، راجع للإطلاع على عرض النظرية والدفاع عنها:
أ – W. Quine, Two dogmas of Empricism in: Quine, From a Logical Point of View (Harvard university Press, 1980).
ب – J. Margolis, Science Without Unity PP. 108 – 115 (Blackwell, 1987).
أمّا على صعيد نقد الكلية فراجع:
أ –C. Glymour, Theory and Evidence, PP. 145 152
(Princeton University Press, 1980).
ب – W. H Newton- Smith, The Rationality of Science PP. 9-13, PP. 148- 182 (Routledge, 1981).
[5])) – يقول فيتغنشتاين وفقاً لبعض العبارات الواردة في الكتاب التحقيقي الفلسفي (Philosophical Investigation) بأن معنى الكلام عند المتكلم وكذلك عند السامع تابع لنمط حياتهما (Form of Life) ومن هنا من الممكن أن يكون كلام مؤمن بالله تعالى وكلام ملحدٌ به ينفي أحدهما وجوده فيما يثبته الآخر كلامين غير متناقضين، وهذه النظرية المعروفة بالنظرية الإيمانية إذا جرى أخذها بصورتها العامة فإنها تنتج نسبية من الدرجة الأولى، إلا أن الإنصاف أن فيتغنشتاين يعترف في النهاية بأن بعض الحقائق والمعاني متحدة في كافة أشكال الحياة، وبعبارةٍ أخرى هناك مشتركات في الحياة ونمطها تمثل نحواً من حياةٍ موحدةٍ يشترك فيها كافة البشر، وفي هذا النحو من الحياة الوحدانية تراد القضايا والمعاني على شكلٍ واحدٍ كما تفهم بشكلٍ واحدٍ، لأجل التعمق في هذا البحث يمكن الرجوع إلى النماذج التالي:
أ – L. Wittgenstein, Philosophical Investigation PP. 19, 23, 241, 174, 226. (Blackwell, 1976).
ب – K.Nielson, An Ineroducticon to Philosophy of Religion, PP. 63-140 (Routledge, 1982).
ج – G. Conway, Wittgenstein on Foundations (Humanities Press, 1989). والكتاب الأخير مخصّص بأكمله لدراسة نظرية أنماط وأشكال الحياة.
[6])) – لقد تكرر هذا الادعاء بصور وأشكال مختلفة ـ وإن بمضمونٍ واحدٍ ـ في كلمات المثقفين المسلمين والعلمانيين أنظر:
أ – محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي.
ب – محمد أركون العلمنة والدين.
ج – نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني.
د – نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة.
هـ – عبد الكريم سروش، فبض وبسط تئوريك شريعت: 85 – 128.
و – عادل ظاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية: 347 وما بعد.
[7])) – عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت: 300 ـ 302.
[8])) – م، ن، ص187.
[9])) – صادق لاريجاني، معرفت ديني: 135 ـ 142.
[10])) – عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت: 280 ـ 281.
[11])) – صادق لاريجاني، معرفت ديني: 119 ـ 125.
[12])) – عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت: 190.
[13])) – م، ن.
[14])) – م، ن، 281 ـ 282.
 
* * *
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً