أحدث المقالات

قراءة نقدية في ضوء الكتاب الكريم

 

أ. جلال وهابي همابادي(*)

د. كاظم قاضي زاده(**)

أ. علي أكبر توحيد لو(***)

 

تمهيد ــــــ

من القضايا الهامة في علم النفس البحث في الشخصية والنظريات المرتبطة بها. ويمكن القول بجرأة: إن ما يحقق الانسجام بين الدراسات المنفصلة في علم النفس، ويعطيها معنى ومفهوماً واضحين، هو تفسير وتحليل هذه المعطيات والدراسات في ظل نظرية شخصوية منسجمة، وقادرة على تسويغ وتبيين السلوك الإنساني بمجمل أبعاده.

على الرغم من بديهية الشخصية بوصفها واحدة من المسائل المهمة، أو أهم المسائل في علم النفس، فإن هذا المفهوم ليس كغيره من المفاهيم الأخرى، مثل: الغريزة والسلوك والحوافز…، التي تشترك في تعريف واحد مقبول لدى قاطبة علماء النفس. فقد طرأ تغيير على مفهوم الشخصية على ضوء آراء ووجهات نظر علماء النفس، وذلك على أساس الانطباعات المتباينة حول ماهية الإنسان. ومن التساؤلات في هذا المجال ما يلي:

1ـ هل نقوم بترشيد أعمالنا بوعي وشعور أو أن هناك قوى أخرى تتحكم بها؟

2ـ هل نخضع أكثر للتأثير الوراثي (الطبيعة) أو للتأثير البيئي (التربية)؟

3ـ هل يمكن معرفة شخصية الإنسان من خلال المصطلحات العلمية أو أن شيئاً يكمن فيها، بحيث يستعصي على إدراكنا العلمي معرفة جميع الأبعاد الماهوية للإنسان؟

4ـ هل أن الشخصية الإنسانية في طور التغيُّر والتحول باستمرار أو على العكس من ذلك فإن البنية الأساسية والبنية التحتية للشخصية ثابتة؟

من الواضح أن الإجابة عن هذه التساؤلات رهن الاهتمام الجدي بماهية الإنسان، والموضوعات البنيوية لنظرية الشخصية. ومن هنا سنعتمد دراسة انطباعية لماهية الإنسان من وجهة نظر علماء النفس، ونقارنها مع علم النفس الديني، ومن ثم نتطرق إلى نقد ودراسة آراء علماء النفس.

1ـ مفهوم علم النفس وعلم النفس الديني والشخصية ـــــ

علم النفس من منظار علم المصطلحات هو ترجمة «psychology»، وله أساساً جذرٌ يوناني، ويتشكل من كلمتين، وهما: «psyche» و«logos».

وتعني اللفظة الأولى ـ حسب مختلف التراجم الفارسية ـ: «الروح»، و«النفس»، و«الذهن»؛ وتعني اللفظة الثانية: «المعرفة»، و«التحقيق»، و«البيان»، و«الخطابة»، و«المنطق»، و«الدراسة»، و«العقل»([1]).

بيد أنه لوضع تعريف مصطلحي عن علم النفس يلزم في البداية إلقاء نظرة على تاريخ التحول المعنوي له.

كان «علم النفس» ممتزجاً بالفلسفة في بادئ الأمر. وعرف في اللغة العربية بـ «علم النفس». وكان يطلق على علم يبحث في ماهية النفس أو الروح. «أخذت التحقيقات في علم النفس بعداً فلسفياً، وكانت الدراسات في علم النفس محدودة، وعلى ارتباط بالبعد العقلائي لشخصية الإنسان في الغالب، وقلما كان البحث يدور حول الترابط بين أبعاده الاجتماعية والعاطفية والجسمية»([2]). وفي المرحلة اللاحقة من الدراسة أصبحت «النفس»، وكذلك دراسة «الذهن»، موضع اهتمام، بدلاً من الروح. وأيضاً تعاريف من قبيل: «دراسة الحالات النفسية»، و«التحقيق والوصف الدقيق للنفسانيات والعلم الاستقرائي للحياة النفسانية ودراسة النشاطات النفسية»([3])، و«علم الظواهر النفسية وظروفها والدراسة التجريبية الباطنية (الإدراكات الحسية والأفكار والرغبات)»([4]). وفي المرحلة البعدية اهتم علم النفس بالبعد المادي والفيزيولوجي للإنسان أيضاً، إضافة إلى اهتمامه بالبعد النفسي. وبما أن علم النفس اتخذ شكلاً تجريبياً ظهر في علم النفس الحديث فقد وضعت تعاريف جديدة تتناسب مع ذلك، وتمحورت حول دراسة السلوكيات. وكان هذا التوجه متداولاً بنحو كبير، ولاسيما في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، بيد أنه إثر اتساع علم النفس المعرفي عادت مرة أخرى القضايا النفسية والذهنية إلى واجهة الاهتمام، إلى جانب دراسة السلوك([5]).

وعلى ضوء المتغيرات في سوابق التعاريف الخاصة بعلم النفس يبدو أن التعريف الأكثر مناسبةً هو «أن علم النفس علم الدراسة العلمية لمختلف جوانب السلوك والحالات النفسية وارتباطها فيما بينها». وطبعاً يجب الأخذ في الاعتبار أن وصف السلوك وتبيان السلوك والتوقعات حول السلوك والتحكم بالسلوك تعتبر جزءاً من أهداف علم النفس([6]).

يتناول علم النفس الديني دراسة ظاهرة التدين من وجهة نظر معرفة النفس، ويسعى إلى وصف وتبيان أرضيات وعوامل التدين، وتحليل التدين، وتقييم التدين، وتبيان آثار وتبعات التدين في الحياة الفردية والاجتماعية.

وفي هذا الجزء يمكن تصنيف نظرة علم النفس المعرفي إلى التعاليم والظواهر الدينية والتحليل النفسي المعرفي للسلوك الديني. ومن هنا فإنه علاوة على أن علم النفس قادر على المساعدة في التنظير في جميع حقول العلوم الإسلامية بطريقة التحقيق التجريبي في علم النفس فإنه يمكنه توضيح أحقية الكثير من المعارف الإسلامية في حدود حياة الإنسان، أو توفير الأرضيات لإعادة النظر.

أما الشخصية، وهي مشتقة من لفظ بروسونا اللاتينية، فإنها تشير إلى القناع الذي يضعه الممثلون على وجوههم أثناء التمثيل. والمقصود من هذا اللفظ المظهر الخارجي، والوجه السافر الذي يشاهده المحيطون. ومما هو مصطلح عليه أن الشخصية تشير إلى «الهيكلية الثابتة للنظم الجسمية والنفسية في باطن الشخص، وهي تقوم بتعيين أفكار وسلوك ذلك الشخص»([7]). كذلك فإن الشخصية كلية جامعة لمعرفة النفس، وهي تحدد إنساناً خاصاً([8]). كما تلحظ الوحدة في الهوية، فـ «الهوية الشخصية عبارة عن الشعور بالمثل أو مداومة الذات، على الرغم من التغييرات في البيئة والنمو الفردي، وهي تحضر لخواطر الشخص والآمال والتمنيات المستقبلية للفرد؛ للإحساس بالهوية في الزمن الحاضر»([9]). كما أن الاختلاف بين الشخصية والهوية يكمن في أن الشخصية تشرف على الأمر الواقعي والتكويني، لكن الهوية تطلق على نمط انطباعنا عن الشخصية. ومن هنا ففي نفس الوقت الذي يلحظ نوع من الانسجام والوحدة في الهوية فإنها عرضة للتبعثر والتمزق.

وعلى ضوء النقاط الآنفة الذكر، أي خلو تعريف الشخصية عن المنشأ غير التطبيقي، نسعى هنا إلى دراسة نظرة القرآن كإيديولوجيا ومعرفة شمولية في خصوص الشخصية. ولهذا الغرض نستهلّ بحثنا بتجزئة وتحليل المفهوم القرآني «شاكلة»، في قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 84).

يستنبط من نص هذه الآية الشريفة أن القرآن الكريم يرد منشأ أعمال الإنسان إلى شاكلته، وتعني النية والخلق والسيرة والحاجة والمتطلب والمذهب والطريقة والهيئة والبناء. والشاكلة، إضافة إلى أنها تعني الشكل، وتشكل الظاهر والأعمال والسلوك الخارجي للفرد، فإنها تشير أيضاً إلى الأفكار والعواطف والنيات الباطنية والداخلية للفرد، ومتغلغلة باستمرار وبشكل مداوم في أعماق الطبقات السفلى للإنسان، وتشكل سلوك وإدراك وإحساس الإنسان، وتختلقها على نمطها وسياقها الخاص، وتمثل الخصائص البارزة والثابتة التي لها إحاطة بفكر وإحساس ونية وسلوك الإنسان([10]).

 

2ـ خصائص الإنسان ذي الشخصية المتكاملة من وجهة نظر القرآن ــــــ

1ـ السكينة والطمأنينة: السكينة من خصائص الإنسان الكامل والهادئ الطبع، أي السكينة التي أنزلها الله في قلوب المؤمنين([11]): ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ (الرعد: 28). وتعتبر الصلاة من أهم مصاديق ورموز ذلك. ومن خصائص أولياء الله كما ورد في القرآن: ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة: 69).

2ـ ثبات الشخصية: من خصائص الإنسان الكامل، كما ورد في القرآن، والتي تحصن الإنسان المتحلي بها من التقلب في الشخصية، والاضطراب نتيجة للتقلبات الروحية والخارجية، عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت من النعم. وهي من الخصائص المحمودة لهذا الصنف من الناس، حسب البيان القرآني([12]). أما ثبات الفؤاد الذي هو ينبوع الأحاسيس والعواطف([13])؛ والقول الثابت كصفة حميدة للإنسان المؤمن في الحياة الدنيا وفي الاخرة([14])؛ والثبات في السلوك كنصر من الله للمؤمنين([15])، فهي ثلاث خصال موصوفة في القرآن، وأوتاد تثبت شخصية الإنسان. وقد جاء القرآن على ذكر الثبات أمام الابتلاءات كمكافأة على الإيمان والعمل الصالح، وشبَّه ذلك بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء لا تتغير([16]).

3ـ الكرامة وعزة النفس: عبّر القرآن عن هاتين الخصلتين ضمن الصفات الحميدة لبني آدم، التي كرّمه الله بها، وفضَّله على كثير من المخلوقات([17]). إن خصيصة الكرامة وعزة النفس؛ نظراً لوجود العنصر الملكوتي ونفخة الروح الإلهية في خلق الإنسان([18])، جعلت الإنسان يستحق خلافة الله في الأرض([19])، والكدح إلى الله، فملاقاته([20]).

4ـ الحياة الطيبة: جاء القرآن الكريم على ذكر (الحياة الطيبة) كمكافأة على الإيمان والعمل الصالح([21]). وتطلق هذه الصفة على التمتع بالنعم الإلهية النازلة إثر الطاعة لله والاستجابة لرسوله، ولا تطلق على النعم المادية والدنيوية([22]). ويعتبر القرآن الكريم القصاص وقتل الجسم حياة([23])، وأن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون بالنعم الالهية([24]).

5ـ اليقين: اليقين بحسب القرآن الكريم هو أسمى درجات الإيمان، وغاية العبودية، يؤتاه به الإنسان العابد لربه([25]). فاليقين هو قمة التقوى والورع، والمؤدّي إلى التبصير ومعرفة الذات([26])، ويجعل للإنسان فرقاناً ومعرفة بحقائق الأشياء([27])، بحيث يجعل الإنسان قادراً على رؤية ملكوت السماوات والأرض([28])، وينال مقام الإمامة وكمال النفس([29]).

القلب السليم: تعتبر (سلامة الروح)، ومن جاء ربه بقلب سليم، من الخصائص الأخرى للشخصية المتكاملة في نظر القرآن([30]). وذكر أن إتيان الله بقلب سليم هو الخصيصة القيمة يوم القيامة([31]). تضمَّن القرآن تعريفاً للقلب على أنه نقطة ثقل شخصية الإنسان، وأبعادها التدبر وعقلانية النفس([32])، والقوى العاطفية والمهيجة لها([33])، والقوة السلوكية والعملية للإنسان([34]). أما الخصائص الأخرى، كالسكينة([35])، والرحمة والرأفة([36])، والطهر([37])، فإنها منسوبة إلى تلك الخصائص الرئيسية.

7ـ الانسجام والتضامن: من الخصائص والصفات الأخرى التي تحصل للإنسان توحيد القوى النفسانية المتعددة، وتوحيد وجهتها شطر العبودية للإله الواحد الذي لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون([38]). إن كل واحدة من القوى الداعية للخير والشر الموجودة في النفس التي ألهمها الله فجورها وتقواها([39]) تريد أن تحمِّل الإنسان عملاً وواجباً، وتدفعه نحو هدف معين. ففي هذه المرحلة لايعتبر الإنسان ذو الكمال الشخصي مالكاً لبصره وسمعه وفؤاده، ويضع جميع هذه الأعضاء في دائرة تملُّك الحق تعالى([40])، بل إنه يجرِّد نفسه من الأنانية باتصاله بالمبدأ الواحد، ويوجه جميع هذه الأعضاء بصورة منسجمة ومتضامنة للذي خلقه، وهو فاطر السماوات والأرض، حنيفاً([41]).

8ـ الحكمة: يذكر القرآن الكريم «الحكمة» بأنها خير كثير يؤتيه الله من يشاء([42]). وقد آتى الله بعض رسله من فضل الحكمة([43]). ويذكر القرآن أن الله بعث في المؤمنين خاتم النبيين معلِّماً للحكمة، يعلم العباد الكتاب والحكمة([44])، حتى ينالوا بهذه النعمة التي أنزلها الله عليهم، ويعظهم بها، وصولاً إلى درجة المعرفة والكمال([45]).

9ـ شرح الصدر: يمكن اعتبار شرح الصدر والنفس من الخصائص الأخرى للإنسان ذي الشخصية والكمال الإنساني، وقد منَّ الله بها على بني البشر كنور من ربهم([46])، ومن يرد الله أن يهديه ويوصله إلى درجة الكمال يشرح صدره للإسلام([47]). إن شرح الصدر يمثل أداة مهمة في النبوة والهداية التي طلبها موسى× من ربه، عندما قال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ (طه: 25)، وذكرها الله كنعمة كبيرة منّ بها على خاتم رسله([48]).

10ـ التآلف مع الآخرين: التآلف بين القلوب من الصفات الأخرى للشخصية الإنسانية ذات الأبعاد المتكاملة. وورد ذكر «الإلفة» من بين الصفات والخصائص الذاتية التي غرسها الله في الذات الإنسانية، وألف بين القلوب([49])، وهي من النعم الإلهية والحبل الإلهي الذي يؤدي الاعتصام به إلى الإلفة والوحدة وعدم التفرق([50]). وقد ورد ذكر حب الله([51])، وحب الخير([52])، وحب سائر المؤمنين([53])، من المصاديق الإيجابية في التسامح والمؤالفة بين القلوب في القرآن.

 

3ـ الموضوعات الأساسية في نظرية الشخصية عند علماء النفس ــــــ

1ـ الجبر والاختيار: السؤال الأساسي المطروح حول الجبر والاختيار: هل يوجه الإنسان عن وعي وشعور أعماله أو أن ثمة قوى أخرى هي التي تقوم بذلك؟ وما هي مساحة وحدود حرية الأشخاص ودرجة تحكمهم واختيارهم في ترشيد وتوجيه سلوكياتهم اليومية؟ وهل بوسعنا تحديد مسارات أفكارنا وسلوكنا؟

لقد أصبح هذا الموضوع محط اهتمام علماء النفس في علم النفس الحديث الذي يدرس السلوكيات والتوجهات النفسية. ينقسم علماء النفس عموماً إلى عدة فرق على صعيد مسألة الجبر والاختيار؛ فهناك فريق يؤمن بأن الإنسان مختارٌ وحرٌّ. على سبيل المثال: يعتقد مزلو وروجرز ـ وهما من علماء النفس ذوي المنحى الإنساني ـ أن الإنسان لا يمتلك فقط خصائص الماكينة أو الآلة، ويتحكم بها عبر بواعث لا شعورية ـ مثلما كان يقول فرويد ـ، وإنما هو كائن يتمتع إلى حدٍّ ما بالحرية والاختيار. وحسب اعتقادهما فإن كل شخص يستطيع أن يختار إرادياً أفضل سبيل إلى إرضاء احتياجاته وبرعمة طاقاته الذاتية([54]). كما أن لروجرز ومزلو رؤية واضحة حول الإرادة الحرة والحتمية أو المنحى الجبري، ويعتقدان أن الإنسان صاحب الإرادة الطوعية لا يحدد الآخرون له سمته الشخصية([55]). هناك فريق من علماء النفس يعتقد بأن الإنسان كائن قسري وعديم السلطة والاختيار تماماً. ومن بين هؤلاء العلماء يمكن الإشارة إلى فرويد وإسكينر. يعتقد فرويد أن كل ما نقوم به أو نفكر به، بل حتى ما نراه في الحلم، هو مسجَّل من قبل في أعماقنا بواسطة قوى لا رجعة عنها وغير مرئية. فنحن دائماً في أسر غرائز الحياة والموت. إن شخصيتنا وقت الكبر تتكون بشكل كامل إثر التعاملات المتحققة قبل سن الخامسة، وهي السن التي كان لها تحكم محدود بحياتنا([56]).

كما يعتقد إسكينر بأن الأفراد يتصرفون بنفس طريقة عمل المكائن، وأن نمط سلوكنا يتحدد بواسطة قوى خارجية، وليس قوى باطنية([57]).

2ـ الطبيعة أو التربية: السؤال الذي يطرح هو: هل أننا نخضع أكثر لتأثير (الطبيعة) أو البيئة المحيطة (التربية)؟

اتخذ فرويد في هذا الخصوص موقفاً وسطياً، وكان يعتقد بأن القسم الأكبر للطبيعة الإنسانية ذاتي؛ أي إن الإنسان هو على الأكثر نتاج عوامل فطرية أو بيولوجية؛ لأن الذات ـ وهي أقوى مؤلف للشخصية ـ هي بناء ذاتي أو أساس فيسيولوجي. كما أن مراحل نمونا العقلي ـ الجنسي هي على نفس هذا المنوال. ورغم ذلك فإن قسماً من شخصيتنا خلال المراحل البدائية من الحياة مكتسب نتيجة لنمط تعامل وسلوك الأبوين([58]). لقد أشار «كلي» إلى أن هيئتنا لا تكونها بيئتنا. كما أنه يؤكد على الطباع والوراثة، ويراهما أهم من البيئة([59]). أما موقف روجرز حول موضوع الطباع ـ التربية فإنه ينحو على الأكثر شطر الطبيعة. مثلما يبدي أشخاص آخرون، مثل: موري، ومزلو، وألبِرْت، وإدلر، اهتماماً بمجموعتي العوامل الوراثية والبيئية. وكذلك يعتبر إسكينر ـ تبعاً لعلماء السلوك الأوائل (واتسون) ـ اختلاف البيئة سبباً أساسياً للتباينات الفردية، ويقول بجرأة: إن المتغيرات التي ينتج عنها سلوك الإنسان توجد في البيئة([60]).

3ـ التقلب وعدم التقلب: السؤال الأساس هو: هل أن شخصية الإنسان في طور التغيير والتحول أو لا؟ يؤكد فرويد على حالة عدم التقلب؛ لأنه يعتقد أن النمو الإنساني يقوم على مرتكزات بيئوية، ويرى أن شخصية الفرد البالغ هي من نتاج مختلف أنواع التجارب خلال المراحل الأولى من سن الطفولة([61]). ولدى آدلر مثل هذا الاعتقاد بأنه حتى لو كان هناك تغيير فإنه ضئيل للغاية([62]).

وفي المقابل يؤكد منظّرون مثل: إريكسون، وإسكينر، ومزلو، وروجرز، وبندورا، على تقلب الماهية، وتغيير شخصية الإنسان تبعاً لذلك.

4ـ العقلية والواقعية: من التساؤلات الأساسية الأخرى حول الطبيعة الإنسانية: هل يعيش الأفراد في عالم باطني متأثر بالتجارب الشخصية أو أنهم يخضعون لتأثير عوامل خارجية ومجردة؟ ثمة اختلاف جذري بين آراء علماء السلوك وعلماء الظواهر. يؤكد مزلو، وروجرز، وآدلر، وكلي، على العوامل العقلية؛ أما علماء السلوك، من أمثال: إسكينر، فإنهم يولون أهمية أكبر للعوامل الظاهرية.

وعلى سبيل المثال: يعتقد روجرز أن العالم الباطني لكل فرد ونوع انطباعه عن الحقائق لهما تأثير على سلوكه أكثر من العوامل الخارجية. وفي المقابل لا يشير إسكينر أية إشارة إلى الحالة الباطنية الافتراضية لتبيان سلوك الكائن الحي، ويعتقد بأن الرجوع إليها هو المصدر الأصلي لحيرة علماء النفس المعاصرين.

5ـ الانفعالية الباطنية والانفعالية الخارجية: السؤال الأساس هو: هل أن الإنسان كائن نشط ويبلور سلوكه من الداخل أو أنه كائن منفعل وسلوكياته ترجمان للحوافز الخارجية؟ يحمل منظرون من أمثال: آدلر، وألبرت، ومزلو، وروجرز، رؤى الانفعال الداخلي.

وعلاوة على ذلك يوافق فرويد، وموري، وإريكسون، بتأكيد أقلّ، على نفس هذه الرؤية. ومن وجهة نظر آدلر فإن نقطة مسار السلوك موجودة دوماً في باطن الفرد([63]). ويمكن العثور على الشاهد المفترض للانفعال الداخلي في هذه العبارة لألبرت: «الماهية الأساسية هي هكذا، تصر على الوحدة النسبية للحياة. وكنتيجة لهذه الرغبة ـ أن الجوهر الأساس هو ماهية الإنسان ـ نذكر بأن سلوك الإنسان انفعالي داخلي إلى حد كبير »([64]).

يدافع مزلو عن نظرية الانفعال الداخلي، وهو ما يتضح تماماً في هذه العبارة: «للازدهار الذاتي لا يمكن وجود حافز خارجي؛ فإن الازدهار الذاتي في حدّ ذاته مفهوم انفعالي داخلي»([65]).

إن علماء السلوكية انفعاليون باطنيون، يقيمون السلوك الإنساني على أنه رد فعل واستجابة لحوافز خارجية. ويبين إسكينر سلوك الإنسان في إطار مصطلحي «حافز ـ رد» و«رد ـ تقوية». وهذا يبيِّن أن إسكينر ملتزم افتراضية الانفعالية الخارجية.

6ـ النظرة الكلية والنظرة الجزئية: السؤال الأساس هو: هل بالإمكان معرفة الإنسان من خلال دراسة الكلية الوجودية له أو يجب علينا أن ندرس كلاًّ منهما على حدة؟ يعتقد أتباع مدرسة غشتالت أن الإنسان قابل للدراسة في المجموع أو الكلية فقط. وعلى سبيل المثال: إن نصف قطعة الكلس هو ما يزال قطعة كلس، ولكن بحجم أصغر، أما الإنسان النصف فليس الإنسان الكامل مطلقاً([66]). ويمكن مشاهدة مفاهيم الناظر للكل في نظريات آدلر، وألبرت، ومزلو، وروجرز.

وحسب نظرية آدلر يمكن إدراك سلوكية الإنسان فقط على ضوء معرفة النهاية أو الغاية، ويقول: «لايمكننا بتاتاً اعتبار كل شخص مماثل لنا، وبالتالي غائياً هادفاً»([67]). في حين أن أنصار النظرة الجزئية يعتقدون أنه يمكن معرفة نظام السلوك الإنساني عن طريق تجزئة وتحليل الأجزاء المكوِّنة له. وتعتبر مدرسة السلوكية الممثِّل الأهم لهذه النظرة. وفي نظام إسكينر يعتبر السلوك بشكل واضح تركيباً لعناصر ومؤلفات اختصاصية، ولمعرفة الشخصية أيضاً يجب اتخاذ العناصر الجزئية التي تشكل السلوك وحدة دراسة للسلوك الإنساني([68]).

7ـ المنطقية وغير المنطقية: السؤال هو: هل أن الإنسان كائن يمارس سلوكه بواسطة أو تحت تأثير عقله أو أن ثمة قوى غريزية ولا شعورية تسوق الإنسان إلى ممارسة سلوك ما؟

باعتقاد فرويد يتعامل الناس أساساً بصورة غير منطقية؛ لأن معظم سلوكياته تتم إثر حوافز غريزية لا شعورية، ولا يمكن له التحكم بها([69]).

ومن هنا فإن الذات التي تقع بصورة كاملة في القسم اللاشعوري للعقل لها سلطة على جميع أبعاد الشخصية، أما الحكمة فإنه يفرط عقدها، وإن الذات هي التي تمتلك إرادتنا، وليست الحكمة([70]).

وفي المقابل يعتقد منظرون من أمثال كلي (Kelly)، ومزلو، وروجرز، وبندورا، وموري (murray)، وآلبورت (alport)، ممن يحملون انطباعات متفائلة حول ماهية الإنسان، أن بني البشر كائنات فكرية وعقلانية تمارس سلوكها أيضا بعقلانية. ورغم ذلك يعتقد كلي بأننا نحدد شخصيتنا، لا أن نكون الضحية لها([71]). كما يعتقد روجرز أن الإنسان كائن منطقي يتحكم به بواسطة إدراك شعوري عن نفسه وعن العالم التجريبي، ولايؤمن بتأثير ملحوظ للقوى اللاشعورية واللامنطقية على سلوك الأفراد([72]).

8ـ البحث عن التوازن والنمو: السؤال الأساس هو: هل أن الحافز الأساس للسلوك في الإنسان هو التحرك نحو الازدهار والتكامل أو لا؟ كان فرويد يعتقد أن جميع أنشطة الإنسان نظمت من أجل التقليص من التوترات الجسمية السيئة، وأن الغرائز الكامنة في الذات تعمل باستمرار من أجل إيجاد التوتر، لإظهار نفسها، وأن الإنسان يسلك من أجل تقليص هذه التوترات؛ لأن الهدف الأصلي للذات هو الوصول إلى حالة اللاتوتر أو الرضا المطلق([73]). كان موراي يدافع بشدة عن مفهوم التعادل الحياتي للسلوك، ويعتقد أن الرغبات والحاجات التي تفضي إلى التوتر في العمق الإنساني هي الهدف المهم للسلوك الإنساني. وفي الحقيقة فإن ماهية الإنسان هي بشكل يعمل باستمرار على إيجاد وخفض التوترات المتباينة المرتبطة بالحاجة والرغبة([74]).

وفي المقابل هناك فريق مثل: آدلر، ومزلو، وروجرز، وآلبورت، يؤمنون بتكامل الاعتقاد. وعلى سبيل المثال: إن آلبورت يعتقد أن الطفل والكبير السالمين هما على الدوام في حال خلق التوتر، وفي حال الاتجاه إلى ما وراء المستوى الأولي والمأمون والتعامل الحياتي وأن التجارب الجديدة التي يتمناها الكثير منا لايمكن طرحها على أساس تقليص التوتر([75]).

9ـ القابل للتعرف وغير القابل للتعرف: السؤال الأساسي هو: هل توجد إمكانية للتعرف على الإنسان عبر المصطلحات العلمية أو لا؟ يرى منظِّرون ممَّن يؤمنون بالحتمية والحقيقة أن الإنسان قابل للتعرف. ويعتقد إسكينر، وواتسون، أن المبادئ المولِّدة للسلوك الإنساني قابلة للكشف، لكن روجرز يعتقد أن عالم التجارب عالم خصوصي، ويمكن معرفته بصورة خالصة وكاملة بواسطة الفرد ذاته. ويبين هذا الكلام لروجرز أن الإنسان غير قابل للتعرف عبر مصطلحات علمية بحتة([76]).

كما يعتقد آدلر أن علم النفس غير قادر على معرفة حقيقة الإنسان. وعليه فمن الأفضل التطرق إلى توسيع تلك المفاهيم النظرية التي كانت تجريبية ومفيدة للذين يسعون من أجل معرفة ذاتهم وحياتهم اليومية([77]).

 

4ـ الموضوعات الأساسية لنظرية الشخصية في القرآن الكريم ــــــ

1ـ الحتمية والاختيار: إثر مطالعة القرآن نتوصل إلى أن الإنسان كائن حرٌّ، وإلا فإن مجيء الرسل ونزول الكتب السماوية من دون أن يكون الإنسان حراً عمل لا طائل منه([78]). ولايعني هذا الكلام أن ليس بوسع أي عامل أو قوة أن تؤثر على سلوك وأفعال الإنسان، وإنما المقصود من ذلك أن الإنسان قادر على أداء أفعال، وإن أراد عدم تأديتها أمكنة أيضاً أن لا يؤديها، ويتعامل بسلوكية أخرى، رغم كل العوامل والظروف، محتفظاً بسيادة القدرة والإرادة الإلهية. ويمكننا أن نؤيد هذا الادعاء من جهات مختلفة. فعلى سبيل المثال: الآيات المتعلقة بالمسؤولية الأخلاقية للأعمال التي يكون الإنسان مخيراً في أدائها، وتوجد آيات كثيرة في القرآن الكريم تعتبر الإنسان مسؤولاً عن أعماله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: 23)، و﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 23)، وكذلك الآيات المتعلقة بالوعد والوعود([79])، التي ترجِّح اختيارية الإنسان: ﴿وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ (التوبة: 72)، وكذلك الآيات الخاصّة بابتلاء الإنسان، وهو مبحث في غاية من الأهمية، أي إن الإنسان إذا لم تكن لديه قدرة الانتخاب والاختيار فلا يوجد معنى عقلاني للابتلاء أو الامتحان الإلهي: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الكهف: 6)، وكذلك على صعيد قبول أو رفض هداية الأنبياء، حيث لا يوجد أي إجبار على ذلك: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان: 3)، و﴿قُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29).

توضح لنا هذه الآيات المضيئة بصراحة أن الإنسان كائن مختار، رغم عدم استطاعتنا إغفال بعض العوامل الباطنية، مثل: الغرائز، والرغبات؛ والعوامل الخارجية، مثل: المحفزات في البيئة، والأجر، والعقاب، في السلوك الإنساني. وقد يكون ذلك هو السبب في إيمان علماء النفس بالحتمية والجبر، وعلى الرغم من أن للعوامل الوراثية والتباينات البيولوجية دوراً في تكوين السلوك فإنه ليس صحيحاً اعتبار ذلك السبب الأساس؛ اذ ليس بوسعنا أن نغفل البعدين المادي والمعنوي للإنسان. وقد ثبت وجود البعث المعنوي عبر البراهين الفلسفية والآيات القرآنية([80]).

ومن خلال دراسة معمقة للقرآن نتوصل إلى أن الإنسان رغم أنه كائن صاحب إرادة واختيار فإن ذلك ليس بالمستوى المطلق، وتوجد قيود أمام الإنسان، رغم أن هذه القيود لا تصادر زمام الأمور من يد الإنسان.

2ـ الطبيعة والتهذيب: حسب رأي العلماء المسلمين فإن الطباع والأذواق من نتاج ثلاث مجموعات من العوامل، أي الوراثة؛ والبيئة؛ وما يعبر عنه بالإرادة. وتتكاتف هذه العوامل فيما بينها، وتشكل الهيئة العقلية للإنسان. وإثر قراءة القرآن أيضاً نتوصل إلى أن الطبيعة الإنسانية تخضع للعوامل التربوية والبيئية أكثر من العوامل الوراثية. وعلى الرغم من ذلك فإن الإسلام لاينكر تأثير الوراثة بشكل كامل، بل إن موضع الإنكار هو تأثيرها الحتمي والمصيري، أي ليس الأمر أن مَنْ كان أبواه طيبين فهو طيب مثلهما. فالوراثة تعتبر مجرد عامل من العوامل الممهِّدة، التي تستطيع أن تكون ذا تأثير على الشخصية. وبعبارة أخرى: إن الوراثة ليست العلّة التامة، وتستطيع أن تكون العلة الناقصة. والأجزاء الأخرى هي العوامل البيئية، والأهم من كل شيء التصرفات الإرادية والطوعية([81]).

وقد أشار الامام علي× في باب الشخصية المعنوية إلى البعد الوراثي لهذه الخصائص، وشبَّهها ببذور وضعها الله تحت تصرفهم، ثم ذكر دور العوامل البيئية والإرادة والاختيار في تفتح تلك الخصائص والميزات([82]).

3ـ قبول التقلب ورفض التقلب: يؤكد القرآن الكريم تأكيداً أساسياً على النمو والازدهار الإنساني، وأن الانسان قادر في جميع المراحل العمرية على إيجاد تغييرات لنفسه، وأن هذا التغيير والتأثر يكون أقوى في سنين الطفولة في تشكيل شخصية الإنسان. وإذا استطعنا أن نبين رابطة النفس والجسم والتعامل بينهما سيحصل ـ بشكل أكبر ـ التأثر والتقلب؛ لأن تأثير الجسم على النفس كبير إلى حدٍّ ما، حيث قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (الفرقان: 77)، أي إذا لم تقرأوني فلن أعبأ بكم، وحينما يقول: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ (المزمل: 8)، وأيضاً قال تعالى: ﴿لا تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾ (الإسراء: 37). ويؤكد ذلك تأثير الظاهر على الباطن، أو تأثير الجسم على النفس. وتبين هذه الآيات أن السلوكيات المادية لها تأثير على النفس والأبعاد الخاصة بعلم النفس الإنساني.

كما يقول الله تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الأنعام: 33). وهنا تؤدي القساوة المعنوية إلى انغلاق التضرع، وينم ذلك عن تأثير النفس على الجسم. إذاً من الواضح أن الطبيعة الإنسانية هي في طور التغيير باستمرار، وإن كان لهذا التغيير تأثير أسرع في بعض المراحل من عمر الطفولة.

4ـ العقلانية والمشاهدة: من الخصائص العامة للإنسان تفكره. وإذا كان الإنسان مدعوّاً للتأمل والتدبر والتفكر فهذا ينمّ عن قدرته الذاتية. وإذا تعرض أقوام للتوبيخ؛ بسبب عدم التعقل والتفكر، فليس ذلك بسبب عدم التفكير، وإنما هو بسبب عدم تفكر معين: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ (الروم: 8). كما يوصي القرآن بالسير والسفر الى أقصى نقاط العالم؛ لأخذ العبر من الحوادث التي وقعت لسائر الأمم: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ. ومع هذا، وعلى الرغم من أن العوامل البيئية والعينية تؤثر على نمط السلوك الإنساني، فإن المعرفة والإرادة الحرة والاختيار والقصد والنية ودينامية التفكير ـ وهي جميعاً من الأمور العقلية والباطنية ـ تحوِّل الإنسان من كائن انفعالي بحت إلى كائن نشيط ومؤثِّر. وبما أن المعرفة الإنسانية تؤثِّر باستمرار على سلوكه فإن مستوى معرفة الأفراد هو أيضاً في غاية الأهمية.

وعلى هذا الأساس يدعو القرآن في آيات كثيرة إلى التأمل في آيات الكون، فيقول: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.

يستنبط من الآيات السابقة أولاً: إن الإنسان يتمتع بطاقات عقلية وفكرية كثيرة. وثانياً: أراد الله تعالى أن يفعّل الإنسان هذه الطاقات الذاتية. وثالثاً: أن يقوم بتغيير مصيره باكتساب التجارب الشخصية.

5ـ العمل الباطني والعمل الخارجي: نتوصل من خلال قراءة الآيات القرآنية إلى أنه يجب البحث عن السبب الأساس للسلوك الإنساني وتقصيه في العمق الإنساني: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 36). كما يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: 38)، أي أن الإنسان رهن أعماله وتصرفاته، بمعنى أن الفرد مسؤول عن سلوكه وتصرفه.

ورغم أن للعوامل الخارجية تأثيراتها فإنه لا يجوز تقصي السبب الأساس للسلوك في باطن الإنسان، كالإرادة، والاختيار، وقوة التعقل. وهذه الآية القرآنية، التي تقول: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (الأنعام: 164)، تعني أنه يجب البحث عن السبب الأساس للسلوك في داخل وعمق الإنسان.

6ـ المنطقي واللامنطقي: الإنسان خليط من الرغبة البحتة، والسعي للذة والمتعة، وكذلك الوعي والتحكيم العقلي. فإنه يساق به من جهة نحو المتع واللذات؛ ومن جهة أخرى يسوق العقل الإنسان بواسطة الوعي الذاتي والتحكيم العقلي نحو الحياة المعتدلة. وهذا التناقض يؤدي إلى نمو شخصية الإنسان. فعلى قدر ما يعطي الإنسان في حياته الأصالة للعقل؛ ليطوي بسرعة مراحل التكامل، يكون الإنسان قد سعى أيضاً في إنماء شخصيته. كما أن من المتعذر تحقيق المعرفة العقلية من دون تشغيل وتفعيل الحواس، وقبل تبلور الذهنية والعقلية. وإن المعرفة العقلية موجودة في الإنسان بصورة ذاتية، وعلى شاكلة قوة ذاتية، تتحول بمرور الزمن إلى قوة فعلية([83]). ولذا فإن الحكم على الإنسان بأنه كائن غير منطقي؛ بسبب غرائزه، ليس حكماً صائباً؛ لأنه توجد قوى عقلية إلى جانب القوى الغريزية. يعتقد الإسلام أنه متى ما تم توجيه التفكر والبعد التعقلي للإنسان في الاتجاه الصحيح فإن الإنسان يصبح أكثر قوة ونشاطاً، وسيميز صوابية وعدم صوابية الأمور بنظرة ثاقبة أكثر، وفي غير ذلك يسقط عنانه بيد الشيطان والأهواء النفسانية: «من لم يهذب نفسه لم ينتفع بالعقل»([84]).

نزعة التوازن والنمو: يرتبط هذا البحث بالدوافع والحوافز، وهي عبارة عن مجموعة عوامل باطنية تؤدي إلى قيام الإنسان بسلوك في اتجاه معين. ولكن ماهو منشأ الحوافز والبواعث؟ ومن أين تنبع فتوجد نظريات مختلفة: نظرية الغرائز؛ و…؟ يمكن تبيان السلوكيات اللاإرادية ذات الطابع الفيسيولوجي من خلال نظرية الغريزة، لكن السلوكيات الإرادية تتحقَّق شعورياً، وتلعب الإرادة فيها دوراً، فتقع في صلب النظريات البيولوجية، التي تفترض الإنسان كائناً منفعلاً. وعلى هذا الأساس يوجد توجُّه آخر في الأفكار الفلسفية، وفي علم النفس، يؤكِّد على قوة الحافز و«الإرادة»([85]). ويفترض هذا التوجه الإنسان كائناً نشطاً. وإن أي سلوك إرادي واختياري يحتاج أساساً إلى ثلاثة عناصر في الحد الأدنى، وهي: المعرفة؛ والنزعة؛ والمقدرة. إذا أراد الإنسان أن يقوم بسلوك فلابد أن يمتلك قبل ذلك رغبة ونزعة نحو ذلك العمل. وعليه فإن «الرغبة» هي في الواقع العامل الأساس لتحرك الإنسان صوب سلوك إرادي؛ أما العلم والوعي فهما بمثابة مصباح يضيء مسار التحرك؛ وتمثل المقدرة مجموعة العوامل والوسائل التي يتم وفقها التحرك([86]).

في المنظور الإسلامي رغم أن لبعض الاحتياجات الأولية طابع حياتي فإن الهدف هو الإرضاء الأولي، وتقليل أو تشديد التوتر. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجميع الأشخاص، أي يكون الهدف دوماً هو خفض التوتر، وإنما يتطلب في كثير من الحالات التأخير في الاستجابة للرغبات، وصولاً إلى أهداف أفضل، والتوجه نحو التوترات، مثل: الصيام في شهر رمضان المبارك، الذي يترافق معه أحياناً التوتر، لكن يكمن وراء ذلك هدف أكبر. ومن هنا يمكن الاستنتاج أن برامج وخطط الإسلام مصمَّمة أساساً بحيث يقود الإنسان إلى الكمال والسعادة الحقيقية، وإنْ اضطر الإنسان في بعض الأحيان لاختبار زيادة في التوترات، لطيّ هذا المسار.

8ـ القابلية على التعرف وعدمها: إن استنباطنا من القرآن هو أن الإنسان قابل للتعرف عليه. وطبعاً فإن مستوى هذا التعرف مرتبط بعوامل مختلفة، بينها: التقدم في كافة العلوم التي تبحث في طبيعة الإنسان وسلوكه في بيئات مختلفة، كالعلوم السلوكية، والعلوم البيولوجية. وعلاوة على ذلك توجد آيات كثيرة في القرآن تتناول كيفية الخلق، ومراحل النمو، والأصعدة الوجودية للإنسان. كما يلفت القرآن في آيات كثيرة الإنسان إلى قواه النفسانية، والبواعث الباطنية، والسلوكيات التي تصدر عنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ (الحشر: 18)، وكل ذلك ينمّ عن القابلية على التعرف على الإنسان.

 

نتائج ــــــ

يتضح مما تقدم أنه قد تمت الإشارة إلى كافة الموضوعات الأساسية والبنيوية للشخصية في القرآن الكريم. ولأن الإنسان كائن ذو شعور، ومخيَّرٌ، ومنطقي، وأهلٌ للتعقل والتدبر، فإن عليه أن يوجِّه ويرشِّد أعماله وتصرفاته شعورياً.

ورغم أن للخصائص الوراثية دور مهم في تكوين الشخصية يجب الانتباه إلى أن هذه الميزة يمكنها أن تجعل من الممكن تكوين الشخصية في بيئة مناسبة فقط، وتلعب أهم دور في السلوكيات الاختيارية والإرادية للإنسان.

وعلى صعيد تكوين الشخصية بواسطة أحداث في أوائل الحياة، أو التجارب في سن الكبر، اتضح أنه على ضوء الأخذ بعين الاعتبار كلا العاملين يجب عدم تجاهل مستوى المعرفة والعوامل البيئية؛ لأنه مهما ازدادت قدرة الإنسان على التحليل فإن التأثُّر بالعوامل العقلية تزداد بنفس القدر. كما أنه يجب البحث عن سبب سلوك الأفراد الكبار ذوي المعرفة العميقة في باطنهم وأعماقهم.

إن ماهية الإنسان في طور التكامل أساساً. وعلى الرغم من الوصول إلى هذا الهدف يواجه بعضاً من المشاكل، لكن هذه الماهية قابلة للتعرف، على الرغم من وجود تعقيدات كثيرة إلى حدّ كبير.

الهوامش:

(*) طالب في مرحله الدكتوراه، في قسم علوم القرآن والحديث، في جامعة آزاد الإسلامية في طهران.

(**) أستاذ مساعد في قسم العلوم والدراسات في جامعة آزاد الإسلامية في طهران.

(***) طالب في مرحله الدكتوراه في قسم علوم القرآن والحديث في جامعة طهران.

([1]) مان، نرمان: 7؛ شريعتمداري: 2؛ عظيمي: 17؛ آذربايجاني وسالاري فر: 18؛ شعاري نجاد: 33.

([2]) شريعتمداري: 2.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) آذربايجاني وسالاري فر: 33.

(([5] اتكينسون والآخرون 1: 35.

([6]) شعاري نجاد: 47.

([7]) آليورت: 289.

([8]) ماي لي روبرتو، الشخصية: 17.

([9]) كورسيني 1: 562.

([10]) باقري: 188.

([11]) الفتح: 4.

([12]) الحديد: 23.

([13]) الفرقان: 32.

([14]) إبراهيم: 27.

([15]) محمد: 7.

([16]) إبراهيم: 24.

([17]) الإسراء.

([18]) الحجر: 29.

([19]) البقرة: 29.

([20]) الانشقاق: 6.

([21]) النحل: 79.

([22]) الأنفال: 24.

([23]) البقرة: 179.

([24]) آل عمران: 169.

([25]) الحجر: 99.

([26]) الأعراف: 201.

([27]) الأنفال: 29.

([28]) الأنعام:75.

([29]) السجدة: 24.

([30]) الصافات: 84.

([31]) الشعراء: 89.

([32]) محمد: 24.

([33]) الأنفال: 63.

([34]) الأنفال: 11.

([35]) الفتح: 4.

([36]) الحديد: 27.

([37]) الأحزاب: 53.

([38]) التوبة: 31.

([39]) الشمس: 8.

([40]) يونس: 31.

([41]) الأنعام: 79.

([42]) البقرة: 269.

([43]) النساء: 54.

([44]) آل عمران: 164.

([45]) البقرة: 231.

([46]) الزمر: 22.

([47]) الأنعام: 125.

([48]) الانشراح: 1.

([49]) الأنفال: 63.

([50]) آل عمران: 103.

([51]) البقرة: 165.

([52]) العاديات: 8.

([53]) التوبة: 71.

([54]) شولتز، نظريات الشخصية: 40؛ هيل وزيغلر، نظريات الشخصية: 484.

([55]) هيل وزيغلر، نظريات الشخصية: 539.

([56]) شولتز، نظريات الشخصية: 50.

([57]) المصدر نفسه: 260.

([58]) المصدر نفسه: 46.

([59]) هيل وزيغلر، نظريات الشخصية: 387.

([60]) إسكينر: 10.

([61]) هيل وزيغلر، نظريات الشخصية: 97.

([62]) المصدر نفسه: 68.

([63]) المصدر نفسه: 123.

([64]) آلبورت: 252.

([65]) مزلو، الحافز والشخصية: 488.

([66]) شاملو، مدارس ونظريات الشخصية: 21.

([67]) هيل وزيلغر، نظريات الشخصية: 389.

([68]) المصدر نفسه: 271.

([69]) المصدر نفسه: 65.

([70]) المصدر نفسه: 67.

([71]) كلي: 155.

([72]) شولتز: 450.

([73]) منصور والمدعي العام: 39.

([74]) موراي وهوهن: 49.

([75]) آلبورت: 190.

([76]) روجرز: 545.

([77]) كلي: 241.

([78]) مصباح: 123.

([79]) واعظي: 137.

([80]) واعظي: 95.

([81]) مصباح يزدي: 263.

([82]) نهج البلاغة، الخطبة 214.

([83]) الطباطبائي ومطهري: 234.

([84]) الحكيمي 1: 153.

([85]) فروغي: 196.

([86]) مصباح: 49.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً