د. عبدالهادي الحائري(*)
ترجمة: محمد عبد الرزاق
إيماناً منها بالرأي والرأي الآخر تفتح مجلّة «نصوص معاصرة» ملفاً مهماً في الفكر السياسي الإسلامي حول نظرية السلطنة المشروعة، فتقدّم دراسة مدافعة، تتلوها دراسة نقدية بعدها (التحرير).
تمهيد ـــــــ
كانت الرؤية العامة لدى علماء الشيعة تقوم على استدلالهم بإلقاء الأمور الدينية والعبادية، ومهام القضاء بين المسلمين، على عاتق المجتهدين، دون أي شك أو ترديد، أما في ما يخص الشؤون السياسية وإدارة البلاد فهو أمر بحاجة إلى التحقيق والدراسة قبل البتّ فيه([1]).
لذا توصل بعض المجتهدين في العقود المتأخّرة ـ بعد الفحص والتحقيق ـ إلى ضرورة تسيير أمور السياسية تحت إشراف المجتهدين أيضاً([2])؛ في حين ذهب البعض الآخر ـ عقب بحوث استدلالية: عقلية؛ ونقلية ـ إلى أن المجتهدين والملوك جميعهم حكّام المجتمع الشرعيين، يقتسمون الواجبات والأعمال حسب الاختصاص والخبرة([3]).
وسيعنى بحثنا الحالي بمحاولة تسليط الضوء في هذا المجال على آليات تعاطي أربعة من أبرز المجتهدين، الذين كانت لهم آراء مشتركة ومختلفة في هذا الصدد، وكانوا يتمتعون بحضور ونفوذ واسع في أيامهم، بغية الكشف عن مستوى علاقة كل واحد منهم بأسرة «القاجار» الحاكمة، والتوصل إلى سبب إحجام هؤلاء عن التفاعل بشكل واضح مع الحداثة والتجديد إبان ظهورهما الأول على الساحة الإيرانية آنذاك. علاوة على ذلك سنفيد أيضاً من آراء بعض أرباب الفكر الديني في الموضوع ذاته.
أما العلماء الأربعة فهم عبارة عن كل من: الميرزا القمي؛ وكاشف الغطاء؛ والنراقي؛ والكشفي.
وسنطلع خلال البحث على موقف القمي المتذبذب، وكيف أنه وصف شرعية الملوك بالأصيلة والمستقلة في إحدى رسائله، بينما كتب في أخرى أنه لا يعترف بحكم الملوك دون إذن العلماء وتأييدهم.
كما سنتطرق إلى آراء كاشف الغطاء، حيث كان هذا العالم من المتمسكين برأيهم في حكومة المجتهد المطلقة، حتى وصل به الأمر إلى وصف الملك بـ «العبد»؛ أي اعتبره عبداً له، وأن أفضل حالات «عباس ميرزا» عندما يكون جديراً بشفاعته، وتأييده الشخصي له.
ثم سنستنتج من آراء النراقي المختلفة أنه سيمنح الحكم القاجاري الشرعية حيناً، بينما ينص في موضع آخر على أن المجتهد الكفوء هو وحده الجدير بالحكم والسلطة.
أما في ختام المطاف فسنقف عند «الكشفي» وآرائه الداعمة في الأغلب لشرعية حكم الملك، حتى وإن كان جائراً، مع الدعوة إلى التعاون بين الملك والمجتهدين.
الميرزا القمي، «استشارة» بين حكيمين مع «المسايرة» ـــــــ
ينحدر الميرزا القمي من عائلة أصلها من «شفت»، وهي من توابع مدينة جيلان، لكن أباه كان قد رحل إلى «جابلق» في بروجرد، هناك كان مسقط رأس الميرزا، حسب أحد الأدلة التاريخية، وذلك سنة 1150هـ/ 1737م([4]). أتم الميرزا القمي معظم تعليمه في العراق، فأفاد من دروس بعض الأفاضل، أمثال: محمد باقر البهبهاني. وتشير بعض الدراسات إلى أنه كان قد أقدم في «قم» أربعين سنة([5])، ولهذ اشتهر بالميرزا «القمي». وقد توفي فيها سنة 1231هـ/ 1816م.
يعد القمي من كبار مراجع التقليد عند الشيعة، وقد ترك مؤلفات جمة في الفقه، والأصول، والفلسفة، والأخلاق، بين مطبوع ومخطوط. وتكشف لنا مراسلاته مع ملوك القاجار عن وجود علاقة وطيدة معهم، وخصوصاً مع الملك (فتح علي)، الذي كان يولي اهتماماً كبيراً بالقمي ومقترحاته([6]).
وكان القمي بدوره يعلن تأييده لهؤلاء الحكام، ويعترف بحكومتهم رسمياً.
لقد كتب الميرزا القمي الـ «إرشاد نامه» في الخمسين من عمره. وبما أنه من مواليد (1150هـ/ 1737م) فلا بد أن يكون مخاطبه في هذه الحالة هو أقا محمد خان القاجاري([7]).
قد طرح في كتابه «إرشاد نامه» مواضيع حول أهمية مقام الملك، ومعنى تسمية الملك بـ «ظل الله»، بالإضافة إلى رأيه الشخصي ـ بوصفه مجتهداً ـ في قبال الملك، واصفاً جميع ذلك بـ«المناظرة العلمية والنقاش الديني بين حكيمين»، أو «استشارات سرية بين مرجعين».
تنص رؤية الميرزا القمي على أن الملك «مثل خليفة الله»، وأنه صار ملكاً تماشياً مع المشيئة الإلهية، فلا يصح التمرد على أمره أبداً. لذا كتب يقول: «لقد خلق صانع ها الكون الناس من ذكر وأنثى…، ثم وهب بعضهم تاج الزعامة؛ ليكون خليفته على الأرض، ويملك بيده حكم الرعية ورقابهم، فأجلسه على عرش قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً﴾(النساء: 54). كما ألقى برقاب البعض الآخر حبل المذلة والمهانة؛ ليكون عبداً لعباد آخرين، حيث قال: ﴿عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ (النحل: 75).
لذا فلا لهذا الذليل حقّ في التمرد وإنكار النعمة، ولا لذاك الكفر بالنعم وظلم الرعية»([8]).
ويعقب القمي على هذا بأن «الأصل في الملك والحكم هو مشيئة الباري»، لكنه ـ سبحانه ـ يهب هذا المنصب إلى المحسنين «من باب الاستحقاق»، وإلى غيرهم «من باب الامتحان»، أما الملك المسيء فيبقى حسابه عند «الرحمن الرحيم». إذاً فهو لا يفتي برفض الملك الظالم المنصّب من قبل الله، بل يؤكد على ضرورة استجابة «العبيد» لأوامر مثل هذا النوع من الملوك أيضاً. قال&: «إن أساس الملك والحكم مبني على الإرادة الإلهية، وهذا لا يعني أن كل ما يصدر عن الملك إرادة الله وحكمه، بل هو قد يختار البعض على سبيل استحقاقهم للحكم، فتجتمع فيهم درجات الدنيا والآخرة، كما قد يمنح ذلك لبعضهم الآخر؛ نظراً لما يحمل من خبث السريرة والعدوان، فيكون ذلك بمثابة إلقاء الحجة واختبارهم. وعليه يندرج هذا النوع تحت مسمى المستدرج ـ أي العبد المذنب الذي يمنحه الله نعمةً؛ ليبقى في غفلته، ولا يستغفر أبداً ـ الذي لا يخرج عن أصل التكليف. لذا عليه العمل بتكليفه، مع الحرص ـ في الوقت ذاته ـ على راحة الناس، وإدارة شؤون عباد الرحمن الموكلة إليه، وإلا سيكون مقصِّراً كلما تباطأ عن ذلك».
ثم يصل الميرزا القمي في حديثه إلى الدعاء في حفظ مملكة شاه إيران آنذاك؛ لتدوم «باقية»، وتستمر حتى «تتصل بدولة القائم». وهنا يبين مواقع وواجبات كلٍّ من العلماء والملك في مقابل بعضهم البعض، واصفاً إياهم بالأجزاء المكمّلة لبعضها الآخرة داخل جسد المجتمع الإسلامي.
قال&: «مثلما اختار الحق تعالى الملوك من أجل الحفاظ على دنيا الرجال، ودرء شر الأشرار، فكان العلماء وغيرهم في أمسّ الحاجة إليهم، كذلك اختار الحق تعالى العلماء؛ للحفاظ على دين الناس، وإصلاح دنياهم، من خلال حل النزاعات، ورفع المظالم، ومحاسبة التعدي على الحق، ممّا هو سبب في دمار الدنيا والآخرة. لذا فيبقى الملك وغير الملك في حاجة إلى العلماء في سلوك هذا المسلك، واختيار طريق الحق. وعليه مثلما باتت هذه الفرقة محتاجة إلى تلك الجماعة من أصحاب الجلالة كذلك بات على هذه الطبقة عالية المقام أن لا تتردّد في الاهتمام بهؤلاء القوم المغمورين، وتطييب خواطرهم»([9]).
على الرغم من تأييد القمي في الـ «إرشاد نامه» لمنصب الملك وشرعية حكمه «في الحفاظ على دنيا الرجال»، وأنه كان على علاقة حميمية مع الملك فتح علي (انظر المواضيع التالية)، إلا أنه لم يؤيده في سائر المجالات «الدنيوية»، حسب ما ورد في كتاباته الأخرى؛ فقد تطرق في رسالة إلى «العوام»([10]) إلى «وجوب الطاعة»، ونفى تعلقه بالملوك أيضاً، وهو الأمر الذي يتحقق عند أهل السنة على أساس «الإجماع والبيعة». لذا نجده يلوم أهل السنة على إحالة هذا «العمل العظيم» في الدولة، وهو « التالي لمرتبة النبوة»، إلى «الناس»، ليقرروا مصيره([11]). كما ورد في كتبه ورسائله الأخرى ـ التي باتت مرجعاً للمحقِّقين في المسائل الدينية ـ تشكيكه في مصداقية الحكم وشرعيته آنذاك، فوصف السلاطين وقتها بـ «حكّام الجور»([12]). وكان لا يجيز دفع الأموال الخيرية إلى «السلطان الجائر» المنبثق من بين المسلمين([13]). أما رأيه في إعطاء الضرائب إلى الدولة مما هو «دنيوي»، على غرار الموارد الخيرية، فكان كالتالي «كل ما يأخذه سلاطين الجور الشيعة من خراج الأراضي فهو ليس بحلال، إلا إذا كان بإذن المجتهد العادل، على أن يكون جباة الخراج من طلبة العلوم الدينية وأئمة الجماعة وأمثالهم»([14]).
يشدّد الميرزا القمي في موضع آخر من كتابه «جامع الشتات» ـ والذي تفيد القرائن بأن أجزاء منه، في أقل التقادير، كانت قدّ دونت إبّان أولى حروب إيران مع الروس([15]) ـ على مسألة نيابة الفقيه العامة عن الإمام، وفقاً للروايات المشهورة، مثل: «مقبولة عمر بن حنظلة»، إلا أنه يستدرك أيضاً حين يختار للفقيه «المماشاة مع خلفاء الجور» في حالة افتقاده للقدرة الكافية([16]).
يذكر أن أحداً سأل القمي ذات مرة عما لو كانت أمور الجهاد ضد الروس تتم وفق شرع الإسلام، وبإشراف وتوجيه من المراجع، فهل سيكون ذلك مطابقاً للـ «الشرع والعرف» أم لا؟ هنا يجيب القمي بتعليل حسن، حين يذكر أنه لم يعتقد بشرعية حكم الملك فتح علي أبداً، وأنه كان يجاريه؛ استجابة للظروف الحاكمة، فيعمل بمبدأ «المماشاة»، كما يسميه: «…أين نحن من مفهوم بسط يد حاكم الشرع، حتى يتم جلب الخراج وفقاً للشرع، ووفقاً له يتم صرفه للمجاهدين والمدافعين؟! وأين هو مصداق التمكن المستحصل كي تكون السطوة وفتح الدول بمنزلة الجهاد في سبيل الله؟!… فتلفّظ كلمة الحلوى ليس كتذوُّقها»([17]).
كان الميرزا قد كتب رسالة مسهبة ـ قبل سنةٍ من وفاته 1230هـ/ 1815م ـ إلى فتح علي، شرح فيها انتفاء حقّه الشرعي والإلهي الثابت في تولي السلطة، بل أفصح له عن ذلك بعبائر واضحة، وأكثر دلالة أيضاً. وقد دوّنت هذه الرسالة في الوقت الذي كان أعداء المجتهدين الأصوليين ـ ومنهم: المتصوفة (انظر القسم الأخير من هذا الفصل) ـ يسعون إلى مجابهة العلماء من خلال إطلاق مفهوم «أولو الأمر» على الملك فتح علي. وإليك كلام الميرزا القمي المفعم بالانزجار والشكوى: «يا للمصيبة…، ماذا أفعل؟! فتارة أسمع البعض يعتزم إطلاق لقب «أولي الأمر» على الملك، وهو على غرار مذهب التسنن، ومخالف للفكر الشيعي. وهذا ما يتفاخر به أهل السنة أن يكون ملك الشيعة تابعاً لهم؛ وتارة أخرى يريدون ترغيب الملك في المذهب، فيستحل حرمه، ويخرج عن الدين، وهو أفظع من التسنن. وبما أن مذهب التصوف منبثق عن مذهب النصارى نجد الإفرنجي والنصراني يفخر بتبعية الملك لهم. كما أسمع أحياناً بأن البعض يروم إثبات العقول القديمة، الأمر الذي مآله الكفر لامحالة. ثم يزيدون في الطين بلة حين يطلبون مني أداء هذه المهام والمراحل عن طريق المراسلة والمكاتيب…. فأما قضية «أولي الأمر» فهي باطلة باليقين… ويجب أن نعلم بأن المراد من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(النساء: 59) هم الأئمة الأطهار^ بإجماع الشيعة. وقد وردت الأخبار في التفاسير بما لا حصر له. ثم إن الأمر بإطاعة السلطان مطلقاً ـ أي حتى إذا كان ظالماً، وجاهلاً بأحكام الله ـ قبيحٌ. وعليه فإن العقل والنقل [الأدلة العقلية زائداً على الأدلة القرآنية والروائية] يحكمان أن يكون واجب الطاعة معصوماً، وعالماً بجميع العلوم، إلا في مورد الاضطرار، وتعذُّر الوصول إلى المعصوم. فهنا قد تجب إطاعة المجتهد العادل مثلاً. أما إذا كان الأمر يتعلق فقط بصدّ أعداء الدين فيمكن ذلك مع الحاكم الشيعي أيّاً كان، لكن ذلك ليس من باب الإطاعة الواجبة له، بل من باب وجوب الدفاع والمساندة في صدّ العدو، والتكليف عائدٌ للمكلَّف؛ فتارة يكون ذلك واجباً عليه بالوجوب العيني؛ وأخرى بالكفائي»([18]).
إذا قارنا بين ما كتبه الميرزا القمي ـ في سن الخمسين ـ إلى محمد خان القاجاري وما كتبه ـ في سن الثمانين ـ إلى الملك فتح علي حول حكومة غير الفقيه سنلاحظ تحولات عديدة طرأت على الموضوع. وما يمكن أن يستنتج من تعدد آرائه في هذا الصدد هو أن نقول أحد أمرين: إما أنه قد حصل تغير في رأيه بمرور الزمن والوقت؛ أو أن قاعدة «المماشاة» هي التي أدت إلى هذه التعددية.
وعلى أية حال فإن الميرزا القمي لم يعترف بحكم فتح علي نظرياً، لكنه تعاون معه عملياً وبقوة، وقد طلب من الله عز وجل أن يكون «سلطاننا وأولاده» من «أعوان وأنصار» آل محمد([19]).
ومعلوم أن اكتفاء بعض الكتّاب في الاستناد إلى الـ «إرشاد نامه» في تقييم موقف الميرزا القمي من السلطة سينأى بهم بعيداً عن مسار الصواب.
كاشف الغطاء، «مولى» الملك و«شفيع» عباس الميرزا ـــــــ
يعد الشيخ جعفر كاشف الغطاء أيضاً من كبار زعماء الشيعة المؤيِّدين للملك فتح علي، دون أن يتمكن من الاعتراف بحكمه ـ نظرياً ـ بعيداً عن نظريات المجتهدين وثوابتهم. كان هذا العالم العراقي ـ الذي تجمعه مع إيران والإيرانيين عروة التشيع ـ جامعاً للعديد من الصفات والقابليات، وصاحب العبقرية المذهلة. وقد نسب إليه التنكابني ـ وهو من مجتهدي القرن 13هـ/19م في إيران([20]) صفات عجيبة([21]). أما عن بسطته في السياسة فيكفي أن يقال عنه: «كان على اتصال وعلاقة حميمة مع الملوك و الحكام»([22])، وأنه «قد خضعت له العرب والعجم»([23])، الأمر الذي جعل منه «الشفيع» والواسطة في إنهاء الحروب الحدودية بين إيران والعثمانيين([24]).
أما عن معرفته الثاقبة بالعلوم الإسلامية ـ كالفقه، والأصول، والحديث ـ فقد عرف بـ «الشيخ الأكبر»([25])، و«شيخ المجتهدين»([26]). وهو نفسه لم يغضّ الطرف عن التذكير بقدراته الفقهية، حيث قال: «بقي الفقه في بكارته لم يبقر علمه إلاّ أنا والشهيد الأول وولدي الشيخ موسى»([27])، و«لو محيت جميع كتب الفقه لكتبتُها عن ظهر قلب، ابتداءً من كتاب الطهارة وحتى كتاب الديات»([28]).
كما كان هذا العالم ضالعاً في مجال الشعر العربي، حتى قال: «أنا أشعر الفقهاء»، و«أفقه الشعراء»([29]).
لقد كان هذا الفقيه على علاقة وثيقة مع الملك فتح علي([30]). وقد أثنى على دولته كثيراً في كتابه «كشف الغطاء»، ووصفه بـ «صاحب السيف البتار، والرمح النافذ في قلوب الكفّار، والمتضعضع لهيبته سكان الفيافي والقفار، وأنه ذو «رأي صائب» و«فكر ثاقب»، كما دعا له أن يبقى في حماية الملك الديان، حتى تتصل دولته بدولة مولاه ومولاي ومولى الإنس والجان صاحب العصر والنصر، والأمر والنهي، صاحب الزمان. ثم أهدى كتابه في فقه الشيعة إليه «برسم البيشكش»([31]).
على الرغم مما كان يكنّه كاشف الغطاء من احترام للملك، إلا أنه لم يرَ أبداً في حكومته بوادر الحكومة الإسلامية الحقّة، ولم يكن يسمح له أن يصف سلطته بالمشروعة دون تحصيل إذن من العلماء والفقهاء. وإن خير دليل على هذا الكلام هو كتابات كاشف الغطاء حول موضوعة الجهاد ضد الروس، وإحالة مهمة ذلك إلى الملك فتح علي. وقد جاء تفسيره واستدلاله على الموضع من مسألة مساس الكفار بـ «بيضة الإسلام»، ووجوب الدفاع عنها من قبل الإمام والمسلمين كافة، والعمل بأمره طبعاً؛ أما إذا لم يكن الإمام حاضراً فعلى المجتهدين تولي قيادة الجهاد، وعلى الناس اتباعهم أيضاً.
فإذا تعذر الوصول إلى المجتهد وتحصيل فتوى الجهاد منه مباشرة، فإن ذلك سيكون مهمة ذوي الألباب، والمتصدين للسياسة، والمطلعين على أصول القيادة والتزعم، بوصفه واجباً كفائياً، فإذا تصدّى له أحدهم كان عليه واجباً عينياً أن يحارب الروس، وعلى الناس أيضاً مساندته، أما من يخالفه في ذلك فسيكون عدوّاً للإمام والرسول والخالق معاً.
ويضيف كاشف الغطاء أنه وفي مثل هذه الحالة إذا كان العمل وفقاً لفتوى المجتهد مطابقاً للحكمة ولمرضاة الله، ومصداقاً للخضوع والامتثال للأمر المولوي، لذا فلو كان «هو المجتهد، وجديراً بالنيابة عن الأعلام» فإنه سيسمح للملك فتح علي ـ «أمد الله ظله على الجميع» ـ أن يقود الجهاد ضد «أهل الكفر والطغيان والجحود»، ثم أضاف: إنه على المسلمين الامتثال لأمر الملك في الجهاد، وإن التخلف عنه تخلف عن الأمر الإلهي، وموجب للعقاب([32]).
وبناءً عليه نلاحظ أنه عندما لم تكن السلطة بيد المجتهدين بصورة فعلية، وكان الروس في حرب مع إيران، والسلطة بيد الملك فتح علي، حيث تعد دولته القوة الوحيدة التي تستطيع مقارعة الروس، هنا نرى كاشف الغطاء ـ وعلى الرغم من رأيه غير المؤيِّد لكفاءة الملك في إدارة وحكم البلاد الإسلامية بشكل مستقلّ ـ يمنح الملك حق قيادة الجهاد؛ كي يبقى عمل المجاهدين قريباً «من الحكمة ومرضاة الله». ومع ذلك لم يقف كاشف الغطاء عند هذا الحد فحسب، وراح يؤكد على عدم شرعية حكومة الملك فتح علي؛ تحسباً لاستغلاله المحتمل لهذا الدعم.
كما أشار في معرض حديثه أيضاً إلى أن ثمه فرقاً بين وجوب الامتثال لأوامر خليفة رسول الله| ووجوب إطاعة الملك المتصدّي للدفاع عن حقوق المسلمين والإسلام؛ حيث إن اتباع الخليفة باعتبار أصل الخلافة ذاتها، وليس باعتبار أسباب خاصة، ثم إن إطاعة الملك من الواجبات العرضية التي يُراد منها تحقيق الغرض الخاص. وعليه فإن إطاعة الملك في هذا المجال ـ من قبيل: ضرورة تهيئة المعدات والأسلحة وتعبئة القوة البشرية للحرب ـ إنما هي من باب وجوب مقدمة الواجب، التي لابد من تحقيقها في تحقق الواجب الأصلي([33]).
إن جميع ما ورد في هذا المجال من آراء كاشف الغطاء حول الملك فتح علي وعلاقته بالحكومة الشرعية كان مصدره كتاب «كشف الغطاء» تحديداً. أما في ما يخص الإجازة الشرعية لفتح علي وعباس ميرزا في أمر الجهاد فقد كان كاشف الغطاء أصدر «بياناً» منفصلاً أعلن من خلاله مرة أخرى أن الأصل في قيادة الجهاد عائدٌ للمجتهدين، وأن الملك وولي العهد تابعان لهم.
ومن الجدير بالاهتمام أن هذا الفقيه المبرز، صاحب الشخصية القوية، والقرارات والإنجازات المذهلة في العديد من المناسبات، كان قد وصف فتح علي في «البيان» بأنه «عبدنا المذعن بعبوديته»، فترك له أمر الجهاد، وطلب من الله عز وجل أن يشمل عباس ميرزا المكافح في القضاء على «أهل الطغيان والجحود» بـ «شفاعتنا»، وأن يجعله في الدارين «تحت ظلنا وفي حمايتنا»([34]). علماً أنه كانت هناك قضايا أخرى غير جهاد الملك وولي عهده ضد الروس حاضرة في مجتمع إيران أواخر القرن 18 وبداية القرن 19 الميلاديين، وكانت السبب أيضاً في خلق علاقات الصداقة بين الدولة القاجارية وكاشف الغطاء وسائر المراجع، وستأتي الإشارة إليها في محلها خلال البحث.
يذكر أن كاشف الغطاء ـ وعلى الرغم من كل الشروط التي فرضها في موقفه الداعم للملك فتح علي، ودوره في تسيير أمور المسلمين ـ بقي عرضة لانتقادات صهره المجتهد السيد صدر الدين العاملي، المعروف بـ «الصدر الإصفهاني» (1264هـ / 1847م). وقد ذكر السيد صدر الدين الصدر(1332هـ)، حفيده لابنه، وهو من علماء قم المتقدمين، في إحدى حلقات درسه، أن كاشف الغطاء «كان قد سمح للملك فتح علي بالتدخل في جانب من الأمور الشرعية، التي هي من مختصات الحاكم الشرعي، والقضاة ذوي التقوى. وهذا مخالف لرأي جدي المرحوم؛ لأنه كان يعدّ فتح علي شخصاً فاسقاً ظالماً، ولا يحق له التدخل أبداً في شؤون وحياة الناس، ومال أرواح المسلمين. لذا… اعترض عليه جدي، وانتقده بشدة، فردّ كاشف الغطاء على صهره بأن فتح علي رجل مسلم ومجاهد، ومؤمّن لأمن وحماية الشعب الإيراني المسلم، وهو بذلك يملك كل الحقّ والجدارة. وكان هذا الرد قد آلم جدي كثيراً، وابتعد عن كاشف الغطاء. ولهذا انتفت رغبة جدي في البقاء في العراق، فتركه بعد أشهر من الحادثة، وتوجه إلى إصفهان… فصار يدعى بعد ذلك الحين بـ «الصدرالإصفهاني»([35]).
النراقي، تقاطع مع «العقل» و«المدرسة» و«السلطان» ـــــــ
هنا ننتقل إلى مجتهد آخر عاش في العصر المنظور أيضاً، وكان يحظى بمكانة مرموقة واحترام وشهرة ونفوذ واسع. ولم يكن على تعامل ودّي مع الدولة القاجارية فحسب، بل كان يقدم أدلة على شرعية حكمها بطرق خاصة، حتى اكتسب ذلك أطراً عامة. إلا أنه من جهة أخرى، في بحوثه الفقهية حول الحكم والدولة، ينسب حق الحكم إلى المجتهدين ـ وليس الملوك ـ، ويصرح بعبائر قريبة جداً من كلام واستدلالات سائر المجتهدين القائلين بحكومة الفقيه، ثم نجده في قصائده (العرفانية يهاجم وينتقد الكثير من العادات والتقاليد القديمة الموجودة في المجتمع الإيراني المسلم، الأمر الذي يجعل منه شخصية غاية في التعقيد والغموض. وليس هذا الرجل والفقيه الكبير سوى الملا أحمد النراقي (1185 ـ 1245هـ / 1771 ـ 1829م). ولا شك أن الحديث عن آرائه في الحكم ـ وخصوصاً دولة الملك فتح علي القاجاري ـ من صميم ما نحن في صدده حقّاً.
وكما يقول (لسان الملك سپهر) فإن النراقي كان من رجال الدين الذين أفتوا بالجهاد ضد الروس في الحروب الأولى([36]). وروى (فيلوك) Villock أنه اشترك في الحروب الثانية، وخرج مرتدياً كفنه([37]). كان هذا العالم يتمتع بقدرات عالية في العلوم الإسلامية، وحتى الشعر والأدب. وعلاوة على ما قدمه من بحوث استدلالية قيمة في الفقه له أيضاً كتابات في الأخلاق لعامة القرّاء. قال عن الشيخ مرتضى الأنصاري، أحد مؤسِّسي علم الأصول في القرن الأخير، ـ بعد ثلاث سنوات من التتلمذ في كاشان ـ بأن حلقات درسه هي الأفضل بين الحلقات الدرسية في إيران([38]).
تدلنا أشعار النراقي وخواطره التي جمعها في «كشكول» على أنه كان يجلّ كثيراً مقام الملك، وأن فتح علي هو المصداق الأبرز له. وقد وصف الملك في ديوانه بأنه مظهر الخير والكمال، وقد أطلق على ديوانه اسم عرش الملك الساساني (خسرو برويز)، فأسماه (طاقديس)([39]). وقد جاء في حكاية «الببغاء والملك» أنه أثنى على «عزلة الروح»، ورأى أيضاً أنها «العزلة المباركة»، وأن هذا المحل من مختصات الملك التي لا ينبغي السماح لأي أحد باقتحامه: «عزلة الروح وما أشرفها، عزلة السلطان صاحب السمو والجلالة، فلا تدع كل من هبّ ودبّ يقتحمها، ولا تسمح للقش والأشواك أن تعتري عرش الملك، فشأن القلب أن يبقى محلاًّ للكبرياء، ومتى كان محلاًّ للشياطين؟!»([40]).
وقد سعى النراقي في الحكاية ذاتها إلى إبراز الملك في هيئة المرشد إلى الخير والصلاح، ودائماً ما يطلق «التحذيرات» للملك بأن لا ينسى نصائح الببغاء الحكيم الواعظ: «حذارِ أن تنسى مواعظه، ولا تمشِ طريقاً غير ما مشى»([41]).
علاوةً على ذلك فإن الملك مشغول دوماً بمهام المملكة، وهو الذي يخوض المخاطر من أجل راحة الناس، ولا يتوانى عن خدمتهم أبداً. نشاهد في هذه الحكاية أن حياة الملك تتلخص في هذا الإطار تحديداً، دون الإشارة إلى الجوانب الأخرى، من قبيل: ظلم الشعب المسكين، وقتل الأبرياء، واستبداد القرون الوسطى، واللهو واللعب وعشق الغواني، لذا فهو يقول: «فهو إما في خضم الحرب يناور بين عاليها وسافلها، تارة في كرّ وأخرى بالفرار يقتصّ من الأشرار، وأحياناً يكون مشغولاً باحتياجات الجيش وجنوده»([42]).
تطرق النراقي في شعره أيضاً إلى قصة إبراهيم الخليل المعروفة، حين أمره الله عز وجل بذبح إسماعيل، فخرج الاثنان من هذا الامتحان مرفوعي الرأس، وقارن بين سعادة الامتحان الإلهي والمُلك، معتبراً «الملك والنبوة» من مناقب آل إبراهيم: «مدية كانت وما كانت دماء، أصبحت كنزاً لإسماعيل في الخافقين، فصار لقبه الأبدي «ذبيح الله»، صار ملكاً على الناس، بل صار ملكاً على الملوك. فالملك والنبوة من سجايا أصله، لذا بات خالداً إلى يوم الحساب»([43]).
إذاً فالنراقي يجمع هنا بين الملك وأساس الملكية وبين الخير والسعادة والصلاح، وكان ذلك في مجتمعٍ حكمته السلاطين والملوك لقرون طويلة، أي إن معنى ذلك ـ والمعنى في قلب الشاعر ـ يحال إلى الحكام الموجودين في إيران لا غير. علماً أنه ليس من الصعب على الباحث المطَّلع على كتابات وآراء النراقي استنتاج أن ملوك إيران هم مصداق كلامه وأفكاره المطروحة، حيث يصف معالم الكمال والخير والسداد، فهو لا يلمح بذلك إلا إلى ملوك تاريخ إيران؛ لأنه كان يعيش في مجتمع يخاطب فيه أولئك الإيرانيين الذي حُكِموا بسلطة الملوك لحقب متمادية.
وللنراقي أيضاً كلام في ضرورة عدل الملوك، لكنه يعد ـ في الوقت نسه ـ كلاًّ من السلطان محمود الغزنوي وملكشاه السلجوقي مصاديق للحاكم العادل والجدير بالطاعة، فنراه يلقب السلطان محمود بـ «العدالة الخسروية»، ويطلب من «حكام العصر» «التأمل» فيه حين يضعونه في ميزان «المحكمة»، ضمن حكاية يصوغ النراقي فصولها هنا.
وأضاف: إن الملك التاريخي «خسرو» بقي اسمه خالداً يردَّد على المنابر والمساجد طيلة ألف عام؛ وذلك فقط لعدله وإنصافه. كما تكلم عن ملكشاه بالطريقة ذاتها([44]).
ويسترسل النراقي في حديثه عن عدل الملوك، فرأى من المناسبة بمكان أن نمنح «منصب ظلّ الله»، و«درجة ملجأ العالم الرفيعة»، إلى كل ملك عادل؛ فإن «سلاطين العدل وخواقين العدالة» منصبون «من قبل صاحب الجلالة والإكرام؛ من أجل القضاء على الظلم، وحماية عرض الناس وأموالهم»([45]).
والملفت هنا أن النراقي استخدم مفردة «الخاقان»، وهي من ألقاب الملك فتح علي.
وهذه المسألة وغيرها من الشواهد الأخرى دليل على نسبة ألقاب «العدالة الخسروية»، و«ملجأ العالم»، و«ظل الله»، إلى فتح علي، ودرءاً لاحتجاج بعض العلماء في عدم صدق هذه الصفات على هذا الملك نجد النراقي يستشهد برواية للإمام الكاظم× حذَّر من خلالها «الفرقة الشيعية» من أن لا يكون «تمردّهم على الحاكم وحكومته» سبباً في «ذلتهم»، مخاطباً إياهم بأنه إذا كان «الملك عادلاً فادعوا الله أن يحفظه؛ وإن كان ظالماً فادعوا الله أن يهديه ويصلح أمره؛ فإن صلاح أمركم من صلاح السلطان»([46]).
يضاف إلى ذلك العديد من الأدلة والشواهد التي تشير إلى موقف النراقي وتوظيفاته لأحكام الفلك وإفرازاتها المزعومة من قبل البعض؛ بغية إضفاء الشرعية ـ بشكل من الأشكال ـ على الحكام القاجاريين، والتأصيل لذلك أيضاً، من خلال تقديمهم كظاهرة طبيعية حتمية الوقوع. ولذا فهو يستشهد في هذا الصدد بكلام الشيخ البهائي (1030هـ / 1620م) وفلكياته، وهو المشتهر بتبحره في «العلوم الغريبة»، و«العلوم الخفية»، و«العلوم المتنوعة»([47])، ثم استشهد برواية الإمام الصادق× في نفي إلحاق الضرر بالدين جراء اللجوء إلى النجوم والفلك([48]).
ذكر بهاء الدين محمد بن عز الدين، المشهور بالشيخ البهائي، في كشكوله بأن ليلة 13 من شهر رمضان سنة 1000هـ/1591م كانت قد شهدت «القران النحس» في برج السرطان، الأمر الذي ينبئ بـ «فتنة عظيمة»، يعمّ البلاد غوغاء ودمار، و«تنتشر الجيوش على الأسوار»، لكن سرعان ما «تستقر الأوضاع وتهدأ الأمور»، ويعود العمل بـ «الأوامر والنواهي الشرعية»([49]). ولا ننسى في هذا المضمار أن الشيخ البهائي من المقربين من الملك الصفوي عباس الأول (تاريخ حكومته: 996 ـ 1038هـ / 1588 ـ 1629م)، وكان قد عيّن من قبله في منصب «شيخ الإسلام» على إصفهان، وهو من المرافقين له في رحلته إلى مشهد مشياً على الأقدام سنة (1010هـ/ 1601م). لذا كانت نبوءاته الفلكية على ارتباط وثيق بدولة الملك عباس. وكان هذا الأخير قد طرد المحتلين من البلاد واحداً تلو الآخر، وبسط فيها الأمان والاستقرار، بعد حقبة عصيبة من الاضطرابات وسنوات الضياع، كما أقام وليمة كبيرة تكريماً لـ «العلماء والسادة» في شهر رمضان، وقدم لهم على مائدة الإفطار «ثلاثمائة طبق من مختلف الأطعمة، ومثلها من الحلوى»، ومنح «كل حاضر مائة دينار» أيضاً([50]).
وقد أشار الشيخ البهائي إلى أن ذلك «القران النحس» وقع بعد أربع سنوات من حكومة ذلك الملك.
لم يصرح البهائي باسم الملك عباس في هذه القصة، إلا أن النراقي أورد قصة مشابهة ذكر فيها أسماء الملوك المعاصرين صراحة، فقال بأن «القران النحس» حصل مرة أخرى في ليلة 12 من ذي الحجة لسنة 1211هـ/ 1797م، وناتجه مقتل آقا محمد خان القاجاري، وانتشار الفوضى والقتل والدمار بأعداد لا تحصى، لكنه لم يدُمْ طويلاً حتى يسيطر الملك فتح علي على إيران، فيعيد إليها الأمان والاستقرار، كما كرَّم هذا الملك العلم وعلماء الدين، وأشاع العمل بـ «أحكام الشريعة»([51]).
وهذا ما دعا النراقي إلى وصف ومدح فتح علي بطريقة مبالغ فيها، فقال عنه: «…باني مباني الدين المبين، ومروِّج شريعة سيد المرسلين…، نسيم رياض العدل والإنصاف، واللهب الملتهم لأغصان الجور والاعتساف، واضع القوانين العادلة، الداعي إلى قواعد الإحسان والرحمة، صاحب الرأي السديد، الإسكندر الحاكم في البلاد، ظل الله الظليل، المجاهد لله في كل سبيل، المقدم بالعناية الربانية…، له شمس إذا طلعت…أشرق نورها على ربوع الشريعة الغراء»([52]).
وقال عنه في موضع آخر: «إن حدائق أمة محمد الغناء» باتت «تسقى من معين عدله وقسطه»، لذا فهي «مفعمة بالعنفوان والحيوية دائماً». يضاف إلى ذلك جملة من الألقاب والنعوت التي منحه إياها، من قبيل: «محيي السنة والطريقة»، و«المروج لكلمة الله العليا»، و«ظل الله الوارف». كما قال في عباس ميرزا: «حامي ثغور الإسلام، الغازي في سبيل الملة البيضاء…، المؤيد بتأييد الله…، أيده الله بجنود الرفعة والإقبال، ومتّع الله المسلمين على موائد الكرم والأفضال، ما توالت الشهور والأحوال»([53]).
نقطة الافتراق ـــــــ
على الرغم من موقف النراقي هذا، وعلاقته الوطيدة بالملك فتح علي وعباس ميرزا، إلا أنه حين يصل إلى التنظير في مبحث استحقاق الحكم، وحدود الواجبات، وما يرتبط من مؤهلات بالنسبة إلى الحاكم الكفوء، نجده لا يتردَّد في سلب الشرعية عن كل حكومة، ما خلا حكومة الفقيه العادل. ويذكر أيضاً أنه لا ولاية لأحد على أحد إلا ما كان من قبل الباري عز وجل والنبي|، أو من قبل أحد «أوصياء» النبي^. ويرى أيضاً أن الفقهاء وحدهم ـ في زمن الغيبة ـ هم الحكام والنواب عن الإمام#. وهنا يستشهد بتسعة عشر حديثاً تنص جميعها على أن الفقيه هو وحده الحاكم الأصلح للمجتمع الإسلامي.
ومن جملة تلك الروايات التي يستند إليها النراقي في بحثه ما نقل عن الإمام الحسين×، وقد ذكر فيها أن «مجاري الأمور والأحكام» بيد «العلماء بالله»، وهم العلماء الأمناء على ما أحل الله وما حرم([54]).
وجاء في تتمة هذا المبحث أيضاً: تمتد حدود ولاية الفقهاء بامتداد صلاحيات وولاية النبي والإمام، إلا أن يرد دليل على استثناء موردٍ ما. من جهة أخرى لابد من تأدية كل عمل مرتبط بأمور الدين والدنيا، وليس العقل وحده الدليل على ذلك، بل الشرع والعرف وغيرهما من الجوانب الأخرى تحتم ذلك علينا؛ لأن مما يتوقف عليه هو «أمور المعاد أو المعاش» للفرد أو المجتمع، و«النظام العام»، و«أمور الدين والدنيا». ثم إن الله أمر بذلك أيضاً. والأهم من ذلك كلّه أنه يستلزم دفع «الضرر، أو الإضرار، أو العسر، أو الحرج، أو الفساد» عن المسلمين. فإذا لم يعين شخص للقيام بمهام الدين ودنيا الناس فإن ذلك سيلقى ـ تلقائياً ـ على عاتق الفقيه، ويتحتم عليه حينئذ تأديه جميع هذه المهام، فردية أو اجتماعية([55]).
كما يذهب النراقي إلى أبعد من ذلك، فيستشهد بحديث للرسول’، مفاده أن الفقهاء أمناء الأنبياء، ولا ينبغي لهم الركون إلى الملوك، وإن عمدوا إلى ذلك فعليكم تركهم؛ حفاظاً على دينكم([56]).
ويبدو أنه لا حاجة إلى التذكير بأن صاحب هذا الرأي هو نفسه صاحب الإطراء السابق على الملك القاجاري، والحال أنه هذه المرة يدعو الفقهاء إلى نبذ الملوك، وتجنُّب الاتصال بهم.
النراقي في تأملاته الشعرية ـــــــ
تعرفنا في ما سبق على موقفين مختلفين ـ تقريباً ـ للنراقي إزاء شرعية سلطة الملوك المعاصرين له، أما الآن فسنقف عند رؤية ثالثة تختلف ـ نوعاً ما ـ عن موقفين السابقين، وهي عبارة عمّا حملته أشعاره العرفانية من دلالات في هذا الصدد. وقد اختار فيها «الصفائي» اسماً مستعاراً له، وليس هو هذه المرة معرضاً عن إثبات استحقاق وكفاءة الملوك أو الفقهاء في قيادة المجتمع الإسلامي فحسب، بل إنه يعلن براءته، وبكل دروشة، من «الملك أو السلطان»، ويقاطع كل ما ينسب إلى الزهد والمدرسة، وحتى العقل، مما هو شائع في مجتمعه. كما نراه يتذمر كثيراً من طبيعة التدين، والتظاهر به أمام الناس، أن صاحبه ليس سوى المخادع الغشاش من وجهة نظره: «سأجرد كتاباتي من الزهد والرياء، وأنأى عن سجادة الصلاة والمسبحة. تعالَ ارمِ كتاب الزهد في البحر، واسقني رشفة من المدامة؛ فقد ضاق هذا القلب ذرعاً بكل زهد، فأقبل أيها الساقي لنجاتي»([57]).
وتدل أشعاره الأخرى ـ وبكل وضوح ـ على أنه ليس راضياً في قرارة نفسه عمّا سلكه من نهج في المؤسَّسات الدينية، كالمدرسة، آنذاك، وكتابته الشعر أحياناً، ولا عن الناس الجهلة من حوله، فراح يقول عنهم: «إذا كان الإنسان الذي نسمع عنه مثل هؤلاء الناس إذاً ما أروع أرضاً تخلو من الإنسان».
وقال في وضع الأساس لمدرسة في كاشان: «واعجبي لِمَ تُشيّد مدرسة في هذا المكان، وكان يمكن أن تبنى فيه حانة»([58]).
وتجدر الإشارة إلى أن زملاء النراقي، من فقهاء ووعّاظ ـ ممن لم يكن على وفاق من آرائه ـ، لم يسلموا هم أيضاً من نقوده اللاذعة: «صار يدعو نفسه مفتي الديار، فأصدر أحكامه على مال الناس ودمائهم، صار أستاذاً في إنسانيته، شغله العلم، لكن علم القرصنة. فهل تدري يا صاحب الفطنة ما القرصنة؟ هي نهب لأموال الموتى والأوقاف وأموال اليتيم».
وقال أيضاً: «قرأ كل ما يتعلق بفقه الجسد والأعضاء، وأعرض عن فقه الروح والنفس، فالفقه الظاهري في متناول هذا وذاك، فيا لحكمة ذاك الألمعي المختار».
وله أيضاً: «الصيادون في كل حارة وزقاق، وتضج المساجد بالماكرين. وإذا كانت الفيافي ملأى بقطّاع الطرق فلصوص المدينة أعتى من لصوص الصحاري؛ لأن ما يسرق في الصحراء ثياب وطعام، أما في المدينة فالمستهدف هو الإيمان».
وقال: «يرتقي المنبر بلسان عذب وفصيح، كأنه صياد بين فكَّيْه السهام».
وقال أيضاً: «هل ترى علم الفقه يا فتى، فعلى الرغم من احترام المؤمنين له لكنه اليوم بات مجرد أوهام، وعائقاً بوجه الكمالات البشرية، فصواب الفقه جاء من أجل العمل، لا لأجل النقاشات، والتعاريف، وفوضى في الجدل»([59]).
على الرغم من انتماء النراقي إلى الزعماء الدينيين، والعاملين في مجالات المذهب والزهد والمدرسة، ومن أصحاب «السجادة والمسبحة» ـ كما يقول ـ، وأنه كان يعيش ضمن أطر المجتمع الإيراني آنذاك، إلا أن مسار الأحداث والعادات السائدة لم يكن يصبّ في اتجاه طموحاته الشخصية. ولذا نجده حين يحدِّث نفسه ـ لا سيما في أواخر عمره ـ يبدي ندماً كبيراً، فيلوم نفسه على ماضيه وسالف أيامه. فهو أدرك أن مَنْ قاده إلى مسايرة المجتمع وقوانينه، والسير في طرق ملتوية، فسلب منه حرية الفكر والأداء، هو «العقل» لا غير. لذا صار يهاجم ويعنِّف هذا النوع من العقل، فقال في ذلك: «أنا الملقى بأقصى غربة الروح، كطير نادم بلا ريش، أنا الملقى على أعتاب أحزاني، وعنان قلبي بحوزة ذلك العقل، أفكر تارة بالمجد؛ وأخرى بوصمة العار، وتارة أنا في صلح؛ وأخرى في حروب، يعتريني الندم في كل آنٍ، إزاء الفعل، أو ترك الفعال. فماذا تبغي أيها العقل العنيد؟ وماذا تريد مني أنا المهزوم؟ ماذا؟»([60]).
مثلما نعلم ـ من جهة أخرى ـ فإن للنراقي علاقة حميمة مع الملك القاجاري، ولطالما أثنى عليه في كتاباته ورسائله. ويبدو أن الندم انتابه أيضاً تجاه ذلك، فنظم يقول: «ما لأفكاري متذبذبة بين السلطان تارة وبين الوزير أخرى، بين الملك وبين الأمير، فما شأني أنا وشأن الملك أو السلطان؟ فتاج السلطان عارٌ عليّ»([61]).
من الملفت في قصائد النراقي ثناؤه على المدامة والحانة. وهذا لا يشير لدينا تساؤلاً عن التناقض بينه وبين صدوره من فقيه ورع ديدنه العمل بالشريعة، وقد ملأت شهرته الآفاق، فمن وجهة نظرنا إن الحديث عن الخمر والحانة والمشرب عند النراقي مختزل في ألفاظ الكلام، ولا يتعداها إلى الواقع الخارجي أبداً. نعم، هذا ليس بمعنى أن حديثه فارغ المحتوى، وعديم المغزى، بل هو بمثابة سلاح وأداة بيد النراقي في لعن السلوكيات الخاطئة المنبثقة عن الأساليب الشائعة في المجتمع، ولعن العقل الذي يتصرف بما لا يهوى القلب، فيتبع تلك السلوكيات، وتلك الأساليب المرفوضة. وإليك بعض النماذج الشعرية التي يعرّض فيها النراقي ـ بصورة غير مباشرة ـ بممارسات المجتمع، وذلك من خلال الإطراء على الشراب والمشرب، فيطعن بالعقل، ويشجب ارتهان الدين في الحانات: «لقد أوصدوا أبواب المشرب في وجهي، فهل هنالك خمّار يدعو عليّ بالويل والثبور؟ يا «صفائي» عندما أصبح الدرويش سكيراً قضى ما فاته من عبادات وأعمال».
وقال: «أعرضت عن المرور بطريق الحانات؛ خشية كلام الناس، فليت كان في داري باب تفضي إليها»([62]).
وقال أيضاً: «أعطني الأقداح كي أبتهج، وأجدد عهد الصبا بعد المشيب، فأحيي جذوة العمر في شباب، وأعمّر هذه الروح المتهالكة. دع وجهي الأصفر يصطبغ بحمرة المدامة، وأطرد كل همّ عن قلبي المعنّى».
وقال: «سأودع العقل من جديد، وسأترك الدين رهينة في الحانة، سأنادي جنوني التليد، وأعرض عن الألباب»([63]).
تشير مطالعة كتابات النراقي إلى أنه كان يخاطب بها قراء محدَّدين، وطبقات متفاوتة، وذلك عبر نمطية التعاطي مع بعض المواضيع الخاصة، كمسألة السلطة والحكم. فوفقاً لبعض الشواهد ـ التي سنعرض لها لاحقاً ـ كان النراقي وبعض المراجع الآخرين يدعمون حكم الملك فتح علي؛ وذلك من منطلق أن دعم الملك القاجاري يصب في صالح الإسلام ووحدة البلاد، كما يقلل من عجز الحركة الدينية، ويحمي المجتمع من الانحلال والفوضى. من هنا نجد النراقي في كتب: «معراج السعادة»؛ و«الخزائن»؛ و«طاقديس»، الموجَّهة إلى عامّة القراء، يحثّ الناس على اتباع سلطة فتح علي، من خلال الثناء عليه، ووصفه بالملك الصالح، والعادل، والمفيد لمجتمع إيران المسلم. لكنه في بعض الكتب الأخرى، مثل: « العوائد»، الموجَّهة إلى طلاب العلوم الدينية، يتّخذ منهجاً مغايراً تماماً؛ إذا كان يرى نفسه مضطراً إلى بيان موقف التشيُّع من موضوعة الحكومة بطريقته الخاصة، ليستقي منه الباحثون نظريته في السلطة، بوصفه مرجعاً شيعياً يصف لهم الحكومة المثالية المفترضة لديه، علماً أن النراقي كان قد أسس رؤيته وفقاً لحكومة شيعية، قاعدتها نفي الكفاءة في إدارتها عن غير المجتهدين العدول. كما خالف في تنظيراته رأي الميرزا القمي في الـ«إرشاد نامه»، ورأي السيد جعفر الكشفي([64]). ورفض إشراك بعض الأشخاص، مثل: الملوك، في إدارة الأمور السياسية إلى جانب المجتهدين والفقهاء. لكنه حين تكلم شعراً وظّف لغة العرفان في الإفصاح عمّا يعتصره من ألم في الخلجات، بعد أن كان مجبراً على التحمُّل وغضّ الطرف عمّا يدور ويحصل من إخفاق وانتكاسات، تبعاً للظروف الحاكمة.
ومهما يكن من أمر فإن مضامين أشعار النراقي لا تكشف لنا عن الرأي والتعامل الحقيقي والرسمي لديه تجاه الدولة القاجارية، وخصوصاً بالنسبة إلى الملك فتح علي، بل كان كل ما ينقل عنه، ويؤثر من سلوكه، هو دعمه المطلق للملك، والتنسيق مع سلطته. نعم، قد تطرأ بعض التنغيصات في العلاقة؛ بسبب قضايا خاصة، من قبيل: ما يتناقله بعض المؤرِّخين في حادثة والي كاشان، حين طالب النراقي بعزله بصفته «الحاكم الظالم»، فأثار ذلك سخط فتح علي، ونشب بين الاثنين خلاف ومشاحنة إثر رفض الملك لمطلبه، ممّا حدا بالنراقي أن يصفه هذه المرة بـ «السلطان الظالم»، ثم انتهت الحادثة بعزل الوالي، واستبداله، والاعتذار للنراقي أيضاً([65]). لكن هذه الأحداث لم تكن بالمستوى الذي يمكن معه وصف النراقي بأنه من معارضي الملك.
الكشفي، التعاون الحثيث بين الملك والفقهاء ـــــــ
أما آخر مراجع الدين من الفقهاء الأصوليين، الذي سنعرض لأفكاره هنا، فهو السيد جعفر بن إسحاق الكشفي (1189 ـ 1267هـ / 1775 ـ 1850م). وهو من تلامذة العلامة بحر العلوم في مدينة النجف، كما أنه كان قد زاول التدريس فيها لمدة من الزمن. قال عنه فرصت الشيرازي: إنه «قدوة علماء العصر، وزبدة فضلاء الدهر»، وكان «مشهوراً في الاجتهاد والفتيا، وفذّاً في علم التفسير والحديث»([66]). كما عدّه اعتماد السلطنة «من أجلة العلماء الجامعين بين العلم والإيقان، والذوق والعرفان»([67]). وقد روي أنه ألّف 18 مجلداً طيلة خمسين وسبعين عاماً([68])، إلا أن كاتب هذه السطور لم يعثر إلا على كتابين مطبوعين.
كان لهذا العالم ـ كغيره من فقهاء الشيعة في إيران ـ علاقة حميمة مع الملك فتح علي، وخصوصاً مع نجله السابع (محمد تقي ميرزا)، الذي «كان يدعى حسام السلطنة، وتحت إمرته بروجر ومعظم قبيلة البختيار»([69])، وقد كتب العديد من مؤلفاته استجابة لطلب هذا الأمير تحديداً.
ومن جملة المواضيع التي حظيت باهتمام الكشفي في مؤلفاته مسألة الحكومة في المجتمع الإسلامي، وخصائص الحاكم الضرورية. ويبدو أنه يمكن تلخيص آرائه في هذا المجال ضمن إطار محدَّد، وحسب المميزات التالية:
1ـ كان الكشفي مجتهداً أصولياً، آمن وفق الأطر النظرية بأن الحكومة من مختصات الفقية الكفوء.
2ـ ويعتقد في الوقت ذاته بصعوبة توفر الشروط كاملة في حاكم ومجتهد في آن واحد، وأن هكذا شخص بهذه المواصفات المطلوبة قد لا يمكن تحصيله على أرض الواقع.
3ـ ثم إنه كان يولي اهتماماً بالغاً بإمكانية الحكومة وقدرتها على بسط الأمن والنظام داخل المجتمع. وانطلاقاً من هذا المبدأ نجده أحياناً يتنازل عن العديد من القواعد والأسس الركيزة؛ بغية تجنُّب الفوضى والدمار.
وسنسعى نحن بدورنا إلى مناقشة هذه الخصائص المذكورة، من خلال مراجعة آرائه ومعتقداته في موضوع الحكومة.
يشدِّد الكشفي على فكرةٍ مؤسَّسة على حديث منسوب إلى الإمام الصادق×، ومفادها ضرورة اتباع حكم مَنْ يروي عن الأئمة أحاديثهم، ويمعن النظر في ما يحدِّدونه من حلال أو حرام، وهو على علم بأحكامهم. فهذا النوع من الرجال هم ولاة الرعية، المعيَّنون من قبل الإمام المعصوم. وعليه إذا تمرَّد أحدٌ على أوامرهم فهو بطبيعة الحال متمرِّدٌ على حكم الإمام وأمر الله. وهذا العمل كالشرك بالله([70]). كما ذكر في موضع آخر أن من لوازم الملك العلم بأحكام الشريعة، والاجتهاد، ورأى من الضروري على الملك ـ في أقل تقدير ـ أن يكوم مقلِّداً للمجتهد العالم؛ كي يتمكن من السير وفقاً لتعاليم «الشريعة والصواب». قال&: «لا يمكن تحقق السلطة بدون العلم. ولابدّ للسلطان قبل كل شيء من كسب علم الشريعة في الأصول والفروع والأخلاق بحسب ما يمتلك من بصيرة، وبالمستوى الذي يصدق عليه مفهوم الاجتهاد المتداول هذه الأيام، أو بحسب تقليد وملازمة عالم ذي بصيرة، بأن يكون عالماً بمعنى الكلمة؛ لكي يكون مرشده في الحركات والسكنات والعقائد والمعارف والأخلاق، ويضعه على مسار الشريعة والصواب، ولعله بذلك ينال الإلهامات والتسديدات الربانية، فيؤدي مهمة السلطة على أتم ما يمكن… »([71]).
ورأى في كتاب «ميزان الملوك» أن كل شخص «خليفة» منصَّب من قبل الباري؛ من أجل إنجاز عمل ما على وجه هذه البسيطة. ثم قسّم «الخلافة» إلى أنواع، فقال عن خلافة العلماء: «يحتل العلماء المرتبة الأولى في تسلسل الخلافة الإلهية. فخلافتهم هي الأعظم والأقدم بين سائر أنواع الخلافات؛ لأن جميع الخلافات الأخرى إنما هي من باب العمل، ومرتبة العمل مؤخَّرة عن مرتبة العلم، وهي مقدمة عليها…»([72]).
وذكر أيضاً ـ في موضع آخر ـ أن العالم الجامع «للعلم الظاهر والباطن» معاً لهو من «أولياء الله والفائزين بالسعادة الأبدية». ولهذا فإن «خير ويمن» هكذا عالم ومجتهد سيعمّ «شرق الدنيا وغربها، وسينعم الناس بظلّ دولته، ومعالي عزمه»، وهو«قطب الزمان»، المتوَّج بمقولة «العلماء ورثة الأنبياء»، والذي قال رسول الله| في أمثاله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»([73]).
وبناء عليه نفهم من فكرة الكشفي النظرية أنه يقول بأصالة حكومة الفقهاء والمجتهدين خاصة، إلا أن حديثه عن خصائص الحاكم لا يقف عند هذا الحدّ. لذا فهو بحث وفكَّر مليّاً في تطبيق نظريته على أرض الواقع، فطرح في بادئ الأمر شروطاً ومميزات غاية في الصعوبة، وافترض تحقُّقها في الفقيه الجدير بالقيادة وتسلُّم السلطة. فكان يرى أنه لا يمكن للفقيه الاكتفاء بتحصيل «العلوم التقليدية» لكي يكون إماماً ومرجعاً للأمة، بل لابد أن يتمتع أيضاً بـ «تسديدات ربانية، واكتساب قوة قدسية». فإنْ توفرت جميع الشروط والصفات الصعبة في مجتهدٍ ما، وتجلت في شخصيته، فإن الخليفة والحاكم الحقيقي ـ من وجهة نظر الكشفي ـ هو ذلك المجتهد بالتحديد، والذي تحدث عنه الإمام الصادق× في روايته([74]).
من جانب آخر تكشف بيانات السيد الكشفي الأخرى أنه لم يدَّع أبداً أو يعتقد بوجود هكذا رجل في الواقع الخارجي يحمل كل هذه المؤهلات النادرة، حتى قال عن العالم الكفوء والمصداق الواقعي لكلام الرسول| والإمام أنه «نادر الوجود، ولو وجد منه خمسة في كل عصر لكان رقماً كبيراً»([75]).
هذا الكلام هو خير دليل على أن الكشفي لم يكن يستطيع ترشيح العلماء الموجودين في عصره لمنصب السلطة. ولعل هذا السبب ذاته الذي دعاهُ في كتاب «ميزان الملوك» إلى سوق الأحاديث والروايات التي تذمّ العلماء المتخلفين عن أداء مهامهم بالشكل المطلوب، فيشكلون بذلك خطراً على سلامة المجتمع الإسلامي ونسيجه. ونظراً لتعذر التصريح بنقد واقع زملائه الفقهاء لجأ الكشفي إلى الشعر: «لقد ختموا على قلب كلّ من علَّموه أسرار الكون، وكمّموا فاه»([76]).
الحلول العملية عند الكشفي ـــــــ
هنا لابد من الانتقال إلى البعد الثالث في فكر السيد الكشفي؛ كي نتبيّن ما لديه من خطط بديلة تجدي في إدارة شؤون المجتمع الاسلامي. فمن المعلوم أنه تكلم عن مسألة سلطة الملوك غير الفقهاء. ولا بأس ـ في هذا المضمار ـ أن نعلم بأن عبارات الكشفي تكشف أنه لم يكن متفائلاً بشأن النظام الملكي الحاكم؛ فأحياناً كان يتحدث عن «العلامات» «الدالة على قرب موعد الظهور»، أي ظهور الحجة#، فيعرج على بلاط «السلاطين والحكام»، و يصفه ببؤرة المفاسد والمظالم والطغيان.
ثم نجده يقدم نموذجاً على ذلك، فيستشهد برواية عن الأئمة^ تصف الوضع الراهن، حين «يذل العزيز خوفاً من السلطان، ويكون المقرب لديه من يمدحه ويذم أهل البيت»؛ و«إذا شاعت النميمة والوشاية، خصوصاً عند السلاطين والحكام، ينتشر البغي والظلم». ثم يذكر مما يحدث في ذلك العصر أن «السلطان يعمل عل إذلال المؤمن من أجل الكافر»، و«يقوم السلاطين باحتكار الطعام، فترتفع الأسعار»([77]).
وكلام الكشفي هذا لا يعني عدم الالتزام بقانون الملك وأوامره، فهو يشير إلى أن «اقتراب الظهور» سيشهد انتشاراً للفساد في أرجاء المعمورة، وأن من مظهر ذلك الفساد المستشري في البلاط الملكي. يضاف إلى ذلك أنه كان على اعتقاد راسخ بفهمه لحديث الرسول|، الذي يقول بأن الامتثال للحاكم العادل كالامتثال لأمر الله، أما إذا كان ظالماً فعلى الناس الصبر حتى وصول «الفرج» من عند الله([78]). وإنْ كان في موضع آخر قد ذكر بأنه إذا وجد الملك العادل والأصلح وجب «عزل» الملك الظالم الجائر؛ إلا أنه يبدو أنه قد قلّل من أهمية هذه النقطة بالذات فيما بعد؛ إذا نجده أسهب في مبحث ضرورة الصبر وتحمل ظلم الملك([79]).
والجدير بالاهتمام هو أن الكشفي كان قد ركز على أهمية قدرة الملوك في إدارة شؤون البلاد، وبسط الأمن والنظام، أكثر من تركيزه على موضوعات العلم، والدين، وحقّ الفقيه في الحكم، حتى أنه ذهب إلى القول: «بما أن الملك والسلطان من الهبات الربانية لذا فهو يتضمن الخلافة والعلم والنبوّة معاً». وبهذا يتيسر سبيل الآخرة، و«ضمان رضا الله». ففي الواقع «لا جدوى من العلم والنبوة، بعيداً عن عنصر القوة والسلطة». ولهذا قال الرسول|: «أنا نبي السيف»([80]).
كما قد تناول الكشفي موضوع حكومة الملك من زاوية أخرى، حيث رأى أنّ مسألة إدارة شؤون الناس في «أمسّ الحاجة إلى وجود الحكام والسلاطين وحضور الملك»؛ لكي يقوم ببسط الأمن، والاستقرار، ويرسم حقوق الأفراد، ويطبق العدالة بين الناس. وهذا ما يفسّر لديه وصول بعض النصوص الدالة على أن «الملك هو ظلّ الله في الأرض، الذي يلجأ إليه كل مظلوم»، أو أن «السلطان هو الحارس والمحافظ المبعوث من قبل الله»([81]).
أيضاً نجده في مسألة بسط الأمن والاستقرار في المجتمع يستند إلى بعض «الأحاديث وغيرها»، فيقول: «إن الملك الظالم أفضل من بقاء الفتنة وشيوع الفوضى المزمنة»، أو «إن ظلم السلطان لأربعين سنة أفضل من ساعة لرعية متخاذلة تعيش في هوان»([82]).
صحيح أن رأي الكشفي هو تقدم العلم على العمل، وأن العلماء «في سلّم الترتيب» مقدَّمون على الملوك، وفي «المرتبة الأولى من الخلافة»، إلاّ أنهم «حسب المعطيات الخارجية، ومستوى تحقق منافع علمهم، في المرتبة الثالثة من الخلافة»، «فالملوك في المرتبة الأولى، وفي الثانية الوزراء»؛ لأن «نشر العلم يتحق عبر قناة السلطة والسيف»([83]).
وقفة واستبيان ـــــــ
ذكرنا آنفاً أن «الاجتهاد» و«علم الشريعة» من جملة الشروط الضرورية التي وضعها السيد الكشفي للملك، فإذا لم يكن مجتهداً وجب عليه ملازمة «العالم صاحب البصيرة النافذة»، حيث يبدو أنه توصل إلى استحالة وجود مجتهد جامع للشرائط يتولى نيابة الإمام، والحال أن دور «السيف» في إدارة البلاد حياتي جداً، حتى باتت «السلطة من الهبات الربانية» على البشر، وهي متضمّنة أيضاً لكلٍّ من «الخلافة والعلم والنبوة». وعليه من الأرجح أن يتقاسم الملك و الفقهاء مهمة إدارة البلاد، ويقفوا جنباً إلى جنب في تسيير شؤون المجتمع الإسلامي.
لقد اعتمد الكشفي على هذه المنهجية في دراسة مقوّمات ومديات التعاون المفترض بين الملك والفقيه، فانطلق من مقولة العلماء السلف: «الدين والملك توأمان، لا يتم أحدهما إلاّ بالآخر»، ليقضي بضرورة الإبقاء على الحاكم السيّئ؛ هروباً من وقوع «الفوضى» العارمة، مما يصب «في جملته» في صالح المذهب. يقول الكشفي: «من غير الممكن تطبيق الدين دون سلطة سلطان، وبسطة نظام. كما أن السلطة بدون الدين كطريقة الحيوانات في العيش، لا تتأتى منها ثمرة الحياة الأخروية المنبثقة من طبيعة حياة بني البشر؛ لأن الحكم بمثابة الأركان، ولا دوام للأساس بلا أركان، بل مصيره الفناء والزوال. فإن الإمارة المختصة بالإنسان مما ورد في فضلها الآيات والروايات هي تلك الإمارة والحكم المواكبة للدين والمرتبطة به لا غير. ونظراً لاستحالة قيام أمر الدين بدون السلطة وبسط النظام من جهة، واشتمال السلطة بلا دين على نوع من المنفعة، وسيادة القانون، والقضاء على الفوضى، من جهة أخرى، لذا لم يطالب الله عز وجل، ولا الرسل والأئمة^، ولا أي أحد من العقلاء، بمحاربة دولة الحكّام ذوي الحكومات الحيوانية الدنيوية واللادينية، فتركوا على حالهم؛ انطلاقاً من مبداً التقية والمسايرة؛ لأن حكوماتهم تحقق ـ في أقل التقادير ـ الجانب الأمني، وتمنع شيوع الفوضى المعارضة للنظام والقانون»([84]).
بعد هذا ينتقل الكشفي إلى الحديث عن مديات رسالة النبي|، ومجال واجبات الإمام×، فيذكّر بالروايات التي ورد فيها ذكر «الإمام العادل والسلطان العادل»، أو «الإمام والسلطان الجائر»، ثم توصَّل إلى القول بأن «الفقهاء والسلاطين» كليهما يمتلكان «منصب الإمامة»، لكن مع الفصل بين سياسة البلاد وإدارتها وبين شؤون الدينية، على أن تبقى لكل قسم منهما نيابة الإمام، كلٌّ بحسب واجباته، ممثلاً «ركناً» مستقلاًّ في حدّ ذاته أيضاً. علماً أن رأيه في حضور الدين والسياسة عند كلا «الركنين» ضروري «لدى كل شخص ينوب» عن الإمام، وأن عزل الدين عن السياسة لم يكن موجوداً مطلع فجر الإسلام، لكن المجريات ـ خلال القرون المتلاحقة ـ قضت بقيام النظام في المجتمع الإسلامي على «ركنين» مستقلّين. ولذا كتب يقول: «يتمتع كلٌّ من الفقهاء والسلاطين بمنصب واحد، هو منصب الإمامة، الذي يصل إليهما عن طريقة نيابة الإمام×، وفيه ركنان: أحدهما: العلم بأحوال الرسالة، أي الدين؛ والآخر: العمل بتلك الأحوال في تنظيم شؤون العالم، وهو الملك والسلطة. وهذان الركنان هما ما يطلق عليه السيف والقلم، أو السيف والعلم. وكلاهما حاضر في شخص الإمام. وقد أسمى الحكماء هذا النوع من الحكم الجامع لسائر الأركان في شخص واحد برئاسة الحكمة، ولابد لمن ينوب عنه الجمع بين كلا الركنين أيضاً. ولكن نظراً لتبعات معارضة الفقهاء للسلاطين، من حصول الفوضى والاضطراب والفتنة، تنازل الفقهاء عن ركن السيف، كما نجد أن السلاطين؛ بسبب الرغبة في الحكم والسلطة الدنيوية السفلى، تركوا كسب العلم الديني، ومعرفة شؤون الرسالة، فاكتفوا بعلم الحكم والإدارة فقط. ولا شك هنا أن أمر النيابة انقسم بين العلماء والسلاطين؛ فحمل الفقهاء ركناً واحداً، هو العلم بالدين ومعرفة شأن الرسالة؛ بينما انفرد السلاطين ـ من جهة أخرى ـ بالركن الآخر، وهو تطبيق ونشر الأبعاد الرسالية في المجتمع. فحصل في بعض الأزمان أن تعاون الاثنان واتحدا في إدارة الأمور السياسية وتسيير حياة الرعية، بينما اختلفا أيضاً في أزمان أخرى، وانشقا عن بعضهما. ولذا حصل الفصل بين الدين والحكم اللذين كان من المفترض اتحادهما في توأم واحد»([85]).
وبناءً عليه فإن السيد الكشفي كان في صدد منح الشرعية لسلطة الملوك، فهو كان يعتقد بـ «ندرة الحكومات والسلاطين الملتزمة بأمر الدين»([86])، في حين نجده في جانب آخر يبالغ في مدح الملك فتح علي، وابنه محمد تقي ميرزا. فقد قال في ميرزا: إنه «قمر الأمن والنظام، وشمس في الأرض والسماء، وإنه نجم العدل، وجوهر الولاية»، وإنه الوارث الحقيقي لأبيه في السجايا والصفات، فبات مصداقاً لقولهم: «الولد على سرّ أبيه»([87]). كما يرى أن «شمس الفيض الأقدس والعناية الأزلية، وأيضاً معظم الفيوضات الإلهية» «تسطع على رؤوس الملوك والسلاطين»، وأنهم «استكمال الدائرة وآخر السلسلة من الأنبياء والعقلاء»، وأن «هذا المعنى» يتجلى تماماً في «الذات المباركة، وفارس الولاية، وملك الخلافة الإلهية»، أي فتح علي القاجاري، فهو في رأيه «حاكم أرجاء العالم، ومطمئن مملكة الإيمان، خيرة الخلق، ومستودع العلم والمعرفة»([88]).
وباختصار فإن كلّ ما قدمه الكشفي من أوصاف في مدح الملك الجيد والعادل والمتدين هو تلميح باعتقاده الراسخ إلى تحقق جميع ذلك في شخصية الملك فتح علي، وإن غرضه الأبرز من وراء تدوين الرسائل في ما يتعلق بشروط ومواصفات الحكم والدولة هو تدعيم أساس الدولة القاجارية آنذاك.
استنتاج عام ـــــــ
يظهر ممّا تقدّم ذكره من آراء الفقهاء الأربعة وجود التقارب الكبير بينهم وبين رأي الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 ـ 1281هـ/ 1799 ـ 1864م)، القائل بضرورة التحقيق وإمعان النظر في إثبات حقّ الفقيه في الحكم والسلطة. وعلى الرغم من أن الشيخ الأنصاري من معاصري هؤلاء المجتهدين، إلا أنه ينتمي في الواقع إلى الجيل اللاحق؛ لذا يمكن أن يعد رأيه في هذا المجال انعكاساً لبصمات آراء الفقهاء المذكورين وتعاملهم مع مسألة الحكم والدولة؛ فإن ما يمكن استنتاجه من آرائهم هو إجماع الأربعة في الجانب النظري على حقّ الفقيه في الحكم بوصفه الجهة التنفيذية لإرادة الإمام المعصوم×، إلا أن كل واحد منهم كان قد تعامل مع الموضوع وفقاً لمعطيات عصره وعقباته، وما تفرض من سياقات على واقع المسألة. ولعل أبرز العقبات هي افتقاد الاتصال بالإمام الثاني عشر من جهة، وسيطرة غير الفقيه على مقاليد الحكم في المجتمع الإسلامي من جهة أخرى، فلم يكن أمام الفقهاء ـ في تسيير شؤون الأمة؛ التزاماً بواجباتهم ـ سوى اتخاذ مبدأ مسايسة الحاكم، ومؤازرته أيضاً.
لا شك أن التاريخ الإسلامي حافل بمثل هذه الملابسات والظروف الخانقة التي يواجهها فقهاء الشيعة. وكان إلى جانب هذه المجريات الحاكمة في المجتمع روايات على صلة بموضوعة الحكم بالذات، وما يكتنفها من أزمات، علماً أن فهمها وتفسيرها لم يكن على نحو واحد. فمن تلك الروايات: ما نقل في ضرورة الانصياع لحكم الظالم والتزام الصبر، حيث فُسِّر بتفاسير متعددة. فالميرزا القمي أكَّد على بعض الأمور دون التنصيص على الرواية المذكورة، فقال: إن «أساس مقام الملك» مصدره الله، ولم يجز للـ «عباد» أبداً «الخروج عن طاعة» الملك، ولم يطلب منهم حتى رفض ظلمه أيضاً. لكنه في مناسبة أخرى سلَّط الأضواء مباشرة على الرواية ذاتها، معلناً أن «الطاعة المطلقة» للملك الظالم عمل «قبيح»، ولا ينسجم مع «العقل والنقل».
وعلى العكس من ذلك موقف النراقي والكشفي، فبعد أن نسب الأول الرواية إلى الرسول|، والثاني إلى الإمام الكاظم×، استند كلٌّ منهما إلى نصّ الرواية، وأمرا بتقبل الحاكم الجائر صراحةً، ورأى النراقي أن من واجب الأمة الدعاء للملك الظالم بالخير؛ كي يهديه الله إلى «الصلاح».
يبدو أن وجود هذا النوع من الروايات هو السبب المباشر في اختلاف التعاطي مع مسألة الحكومة من قبل الفقهاء، الأمر الذي دعاء الأنصاري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق والإمعان في دراسة الأدلة الروائية.
موقف الشخصيات الأخرى من مشروعية السلطة ـــــــ
حتى الآن كان الكلام مقتصراً على مواقف العلماء الأعلام مطلع العصر القاجاري تجاه أمر السلطة والحاكم، لكن لابد من التذكير بأن ذلك لم يكن مقصوراً على آراء الزعماء الدينيين ممَّن خاض في تفاصيل القول بمشروعية حكم الملك فتح علي. فإذا كان المجتهدون الكبار قد حكموا بشرعية حكمه؛ وفقاً لبعض المعطيات آنذاك، فقد شهدت كذلك هذه الحقبة بالذات ظهور بعض المفكِّرين والشخصيات ـ مثل: الميرزا أبي القاسم قائم مقام، ومحمود خان ملك الشعراء صبا ـ ممَّن لم يكترث كثيراً بواقع المعطيات الحاكمة. ولعلهم تأثَّروا بكتابات بعض الفقهاء، كالكشفي، حين وصفوا (فتح علي) بـ «نائب صاحب العصر والزمان»([89])، و«يا نائب المهدي»([90]). كما ذهب البعض الآخر منهم إلى أبعد من ذلك، فعدّ الملك خليفة الرسول أيضاً.
نظراً لعلمنا بافتقار كتابات هذا النوع من المفكِّرين في بدايات الدولة القاجارية إلى دراسات وافية فقد رأينا من المناسب بمكان أن نفصل في ذكر النماذج والأمثلة:
1ـ كان من جملة المتصدين لأمور «المرافعة» و«الفتوى» و«الجمعة والجماعة» بين شيعة الهند، وصاحب رؤية في هذا الموضوع، سلطان الواعظين، حيث ذكر في إحدى خطبه، التي كان يلقيها في «دار الإمارة في كلكته» في الجمع والعيدين، باسم الملك، وباللغة العربية، أن الله سبحانه وتعالى كان قد أرسل محمداً| لهداية البشر، ثم نصّب الأئمة الاثني عشر خلفاء له، وبعد ذلك «نصّب» ملكاً عادلاً، مبسوط اليد، وكريماً؛ لإدارة شؤون الرعية. ثم ذكر أيضاً بأن فتح علي هو المصداق الأبرز لهذا النوع من الملوك «المنصبين» من قبل الله عز وجل، واصفاً دولته بـ «مباركة الآل الميامين والطاهرين»، واستمراراً لـ «بركات آل طه وياسين»، وأن من واجب «علماء العصر الدعاء للسلاطين العظماء»([91]).
2ـ محمد حسن بن أبي طالب من المفكِّرين الذين صرَّحوا برأيهم في هذا المجال. ورسالته «المدوَّنة» بتاريخ (1233هـ/ 1818م) معروفة للجميع، وقد أسماها بـ «التحفة»، وأهداها إلى حسين علي ميرزا ابن الملك فتح علي، والي إقليم فارس. حيث سعى محمد حسن في رسالته إلى تقديم الفقهاء كشريحة من «أرباب القلم»، حالهم في ذلك كحال «الكتّاب والمحاسبين والأطباء والمنجمين والمهندسين»([92])، لكنه من جانب آخر حرص على وصف الملك بألقاب من قبيل «نائب من نواب النبوة». فقد قال في معرض تقسيمه السياسة إلى: فاضلة؛ وغير فاضلة: «والفاضلة تلك التي يكون صاحبها في صدد الإصلاح، ونظم شؤون المعاش والمعاد للناس، ويُسمّى هذا القسم بالأمانة. وإن صاحب هذه السياسة إذا كان منصَّباً من قبل النبي سُمّي إماماً، وإنْ كان منصَّباً من قبل الإمام كان نائباً عنه، وهكذا إن كان منصَّباً من قبل النائب، وملتزماً بهذه السياسة… فهو نائب لنوّاب النبوة… ومثال هذا القسم من السياسة هو في الواقع دولة صاحب السمو والجلالة، وصاحب السلطة والنفوذ، أشرف النواب [الملك فتح علي]، وخيرة العباد الأجلاء [الوالي حسين علي ميرزا]»([93]).
3ـ كان في رجالات البلاط الملكي جملة من الشخصيات التي طرحت أفكارها في هذه الاتجاه، وبرهنت على فكرتها بطرقها الخاصة أيضاً. ونذكر منهم: (رستم الحكماء)، حيث كان هذا المفكر ـ كغيره من عمّال البلاط القاجاري ـ كثير الحرص على مدح الملك فتح علي، والثناء على أمجاده، بل كان يذهب إلى أبعد من مدح فتح علي، فيمنح «جميع الملوك والسلاطين والولاة» شرعيةً في الحكم تصل إلى مشارف شرعية «خلفاء الله في الأرض»، وينص على أن اتباعهم «فرض»، وأن دم المخالفين لهم «هدر»؛ كونهم مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ (ص: 26)، وقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)([94]).
كما كان قد أورد في رسالته «تنبيه الأنام» أن في «سدة الحكم ملوكاً طيّبي السيرة ينوبون» عن الإمام الثاني عشر([95]). وذكر في موضع آخر أنه لابد «لإدارة الكون من مقام الألوهية، وبعده يأتي مقام النبوة مع السلطة، أو السلطة وحدها؛ إذ لكل شيء مثال، والسلطة مثال الألوهية»([96]). وتجدر الإشارة إلى أن كلام رستم الحكماء، ووصفه الملك بـ «مثال الألوهية»، يأتي في إطار موقف أولئك الذين هم على خلاف مع الفقهاء، من خلال مساعيهم في مدح فتح علي، وتلقيبه بلقب «ولي الأمر»، وتقديمه على أنه «نائب…من نواب مقام النبوة».
4ـ من وعّاظ السلاطين أيضاً الحاج أسد الله قوام الشيرازي (المولود سنة 1197هـ/ 1782م، وحيٌّ حتى سنة 1263هـ / 1846م)([97])، الذي اعترف بشرعية حكم فتح علي، وبرهن عليها أيضاً، فقارن بين حكم الملك و«مقام النبوة»، فرأى أنهما «درّتان لخاتم واحد». وأسد الله هذا هو ابن الحاج ميرزا إبراهيم كلانتر، الذي قتلت أسرته عن بكرة أبيها بأمر الملك فتح علي نفسه. كما قد أمر الملك بـ «سمل عينيه» في سنّ التاسعة عشرة، لكنه في خاتمة المطاف التحق بـ «سلك المتعبِّدين» للملك فيما بعد([98]).
يذهب أسد الله في استدلالاته إلى القول بأن فعل الملك العادل إما أن يكون مصيباً أو مخطئاً؛ فإن كان مصيباً فله «الثواب الجزيل والحظ الجميل»؛ وإن كان الملك قد قام بعمل خاطئ «عن حسن نية واطلاع كامل» فوفقاً لقاعدة «كل مجتهد مصيب» فلن ينال المخطئَ هنا «عقابٌ». وهكذا استرسل في كلامه، حتى وصل إلى نتيجة مفادها أن فتح علي هو المصداق الجليّ للملك العادل، الذي لطالما يفكر ويجتهد من أجل «رفاهية الرعية». وهنا لا بأس بذكر جانب من نصّ كلامه: «بما أن السلاطين العدول خلفاء الله في الأرض، وأن منزلتهم من الأنبياء بمنزلة الخاتم ذي الدرّتين،…لذا فإن تصرفاتهم مع الرعية لا تخلو من إحدى صورتين: فإما أن يكون حكمهم نابعاً من نهج العدالة بحق مجموعة هم في واقع الأمر من الأشرار والفجّار والمفسدين في الأرض وقطّاع الطرق، فهم يستحقون العقاب بالدليل العقلي والنقلي. والشرع والعرف يحكمان بإدانتهم ومعاقبتهم، وإن الله لبريء منهم، ولا شك أنه سيثيب الملك العادل بالثواب الجزيل والحظّ الجميل؛ وفقاً لما تنص عليه الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة، وكذلك مدلول الآيات والأحاديث، التي تنص على أن «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة».
وإما أن يكون تصرف الملك مستنداً إلى الفحص والتأمل الشافي، مع حسن النية وصفائها، لكنه جاء مخالفاً لواقع المجريات؛ بفعل مكر الماكرين وشيطنة الشياطين، فهو هنا أيضاً ستصدق عليه مقولة: «إنما الأعمال بالنيات»، وكذلك طريقة الأصوليين ـ رحمة الله عليهم أجمعين ـ، وقاعدة كل مجتهد مصيب، وبذلك لن يكون مستحقّاً لعقاب الآخرة وعتابها، كما لن يؤاخذ بشيء في هذه الدنيا.
أما إذا كان هناك مَنْ سار وراء هوى نفسه، وقصور فطرته وأخلاقه، فعزم على القلع والقمع، وإتلاف حال المسلمين وإضرار المؤمنين، متخذاً من ذلك فخراً وشرفاً له، فهذا النوع ليس من السلاطين، ولن يبارك الله في خطواتهم، وهم عند العقلاء في عداد الظالمين والمستدرجين.
والحمد لله الملك المتعالي على أن ملك الخصال الحميدة، والأفعال السديدة، لا يقصد سوى العدل بين الناس، وإصلاح أحوالهم، وتأليف القلوب، وستر العيوب»([99]).
5ـ إذا كان الحاج أسد الله انطلق من المقارنة بين «مقام النبوة» ومقام الملك في إطار «طريقة الأصوليين» و«قاعدة كل مجتهد مصيب»، فقدَّم الملك فتح علي على أنه «خليفة الله في الأرضين»، فإن «محمد نديم بارفروشي» (1241هـ/ 1825م)، أمين مكتبة بلاط فتح علي، قد ذهب إلى أبعد من ذلك أصلاً، فاعتقد أن الله جعل «طائفتين» فقط تقوم بإمامة الناس وحكمهم، إحداهما: «الأنبياء العظام والأوصياء الكرام»؛ أما «الطائفية الثانية فهم السلاطين على الأرض…».
ويبدو من كلام (بار فروشي) للوهلة الأولى أنه يضع الرسول الأكرم| والأئمة الاثني عشر^ ضمن مجموعة «الطائفة الأولى، ويضع الملوك في عداد «الطائفة» الأخرى؛ إيماناً منه بأصالة وشرعية هؤلاء الحكّام في المجتمعات الإسلامية. ويرى أيضاً أن «ذرية الرسول وأولاده الطاهرين» قد «نص على إمامتهم بالتنصيص»، خلافاً لعلي بن أبي طالب، حيث قطع بكونه «الوصي الحقيقي والخليفة بلا فصل». لكنه في الوقت ذاته لم يفصح عمّا إذا كانت إمامة الأئمة بمعنى الولاية المطلقة والعامة على سائر الأمة الإسلامية ـ وهو رأي الشيعة الاثني عشرية في انتقال الولاية بعد الرسول| إلى الأئمة من ذريته ـ أم أن لها معنىً آخر؟ ثم إنه لم يُشِرْ أبداً إلى مسألة أخرى، وهي لمَنْ الحقّ في تسلم مقاليد وزمام أمور الأمة الإسلامية بعد الأئمة؟ هل هم العلماء أم الملوك؟
لكن بارفروشي صرَّح على صعيد آخر بأن «الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة تثبت بأنه لا مرتبة أعلى من مرتبة السلاطين، بعد مرتبة ومقام النبوة». وعليه فهو يعد الملك خليفة النبي المباشر، وأن فتح علي هو النموذج الأبرز في عصره لخلافة رسول الإسلام.
قال: «لقد اختار [الله] من بين البشر طائفتين كريمتين جعل لها تاج العظمة وأفضل الدرجة، الأولى: هي طائفة الأنبياء العظام والأوصياء الكرام، وهم الدليل إلى الصراط المستقيم، ومقتدى العبد الأثيم، والدعاة إلى الشريعة السمحاء، وبفضلهم دام الدين، وقامت الملة. وعليه يجب اتباع أقوالهم على الغني والفقير، والصبي والكبير. وقد شرف الباري من بينهم نبراس الرسالة وشمس النبوة خاتم النبيين محمداً المصطفى… أما الطائفة الثانية فهم السلاطين على الأرض، وملوك العدل والإحسان، ممَّن تكرموا بتاج ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، وشرّعت في وجوههم أبواب النعم، وبلغت سلطتهم آفاق البر والبحر الخضم. رفعوا راية العزة بدولتهم وفتوحاتهم، ونكّسوا علم الأعادي المارقين، تستمد رياض الشريعة معينها من سلسال سيوفهم البتارة، وتخضر مراتع الإسلام بحمرة حسامهم المبتلّ بالدماء. وبما أن استقرار الأمة وراحة خواطرها تتأتّى عن طريق عدل وحزم الملك، وبسطه للأمن، إذاً فقد ثبت بالدليل أنه لا مقام بعد النبوة يعلو على مقام السلطان… وفي هذا العهد الميمون تتجلى مباركة الرب المهيمن عزّ اسمه لعباده، ويعم فضله وإحسانه تبارك وتعالى على سائر أهل الأرض، إذ تزين عروش الملوك بحضور صاحب السيرة الحميدة، والعدل المشاع…، وتوج بتاج الخلافة والولاية رأس ذلك الملك المقتدر [فتح علي]، الذي لن يتوانى لحظة واحدة عن تأدية واجبه في إدارة البلاد، وتنظيم الواجبات في الحكومة الربانية، والحفاظ على بيضة الإسلام، وسلامة الأنام…»([100]).
يتضح من كتابات الميرزا القمي وجود جملة من «علماء العصر» ممّن افتى بصدق مفهوم «أولي الأمر» على الملك فتح علي. ومن المعلوم أن هذا النوع من الشعارات والتسميات بحق فتح علي لم تكن لتلقى ترحيباً من قبل فقيه في وزن الميرزا القمي. لذا كان يرى بأن فتاوى «علماء العصر» لم تكن «صريحة في هذا المجال» أبداً، وأن «نسبة تلك الفتاوى إلى العلماء» غير ثابتة أصلاً، فضلاً عن أن المضمون لم يكن واضح المعالم لديه «مما كانوا يقصدون»([101]). وقد مر بنا أن القمي كان رافضاً وبحزم لصدق مفهوم «أولي الأمر» على الملك، وحكم «ببطلانه يقيناً»، لكنه مع هذا كلّه ظل متمسكاً بمبدأ «المماشاة» والمسايسة؛ استجابة للظروف الحاكمة ممّا مرّ ذكره، وأبدى استعداده التامّ لدعم الملك.
نظراً لاتّساع الصراع القائم بين الفقهاء الأصوليين وسائر التكتلات الدينية، من قبيل: المعارضين لولاية الفقيه، يبدو أن من أبرز الأسباب وراء تكثيف الجهود من قبل بعض الشخصيات والمفكِّرين حول فكرة «أولي الأمر» بحق فتح علي هو كسر شوكة الفقهاء الأصوليين، ولاسيما القائلين بولاية الفقيه منهم.
أسباب دعم العلماء المتواصل لفتح علي ـــــــ
ذكرنا خلال البحث جوانب مختصرة لدواعي وقوف العلماء إلى جانب دولة الملك فتح علي. ويضاف إلى ذلك جملة من المؤشِّرات والظروف الأخرى الحاكمة آنذاك، كانت هي السبب وراء دعم رجال الدين للملك، الذي كان بدوره في حاجة ماسة إلى التواصل مع العلماء لتثبيت قواعد دولته حديثة العهد. ويمكن إحصاء أبرز الدوافع الكامنة وراء تقديم الدعم للملك في العقود الأولى من القرن التاسع عشر في ما يلي:
1ـ إن تشبُّث فتح علي بالتقاليد والشعائر الدينية، وحاجته في شرعنة حكم السلالة القاجارية، هو الذي قاده تلقائياً إلى التقرب من العلماء، والاستجابة للعديد من مطالبهم أيضاً. فقد نقل المؤرِّخون دور فتح علي في إحياء وإعمار الأضرحة، وتذهيب قبب الأئمة وأبنائهم في إيران.
لقد كشفت العديد من الرسال المتبادلة بين فتح علي والميرزا القمي عن عمق العلاقة الحميمة والاحترام المتبادل بين الاثنين. فقد كتب القمي في أواخر حياته رسالة إلى الملك جاء فيها: «من مدعاة سروري، وراحة خاطري، وجود السلطان الأعظم، والحاكم الأكرم، من الأمراء الكرام، من سلالة الحسب والنسب، وقرة عين صاحب الجلالة والمقام. وليس قولي هذا بداعي المنصب وطلب الجاه، أو طمعاً بالمال والغنى، بل لأني وجدته مقيماً للدين، وناشراً للشريعة، وملتزماً بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق الحميدة، والخصال الكريمة. نور عيني بدولته، وبهجة قلبي في نصرته على أعداء الدين. لذا أنا في دعاء متواصل؛ لأن يكتب لدولته الاستمرار، وحماية الشيعة الأخيار، أدامه الله ذخراً للدين والإيمان»([102]).
في مقابل كل هذا التودد من قبل الميرزا القمي للملك وأمرائه نجد الملك بدوره يكنّ كل الاحترام والتقدير للقمي؛ حيث نقرأ في بعض رسائل فتح علي له أنه عفا، بطلب من القمي، عن عقاب العمال المخالفين. كما كانت «تقدم المساعدات المالية كل عام، وتصل يد سماحته [الميرزا القمي]؛ كي يوصلها إلى المستحقين والمتعففين»([103]). فقد كتب (محمد نديم بارفروشي) أن الملك كان «يخصِّص في كل عام مبلغاً» بعنوان «الكرم والإحسان»، وكان «الفضلاء والسادة والعلماء الأجلاء» من جملة المنتفعين به([104]).
يبدو أن الملك، وعلى الرغم من حاجته الماسة إلى الأموال، وطلبه المساعدة المالية من بريطانيا، وإدراج بندها ضمن بنود معاهدات إيران وبريطانيا (1224هـ/ 1809م و1227هـ/1812م)، لم يمتنع عن تقديم المال للميرزا القمي وابنه. فقد ورد في رسالة للملك، بتحرير عبد الوهاب نشاط: «بعد أن وصلني مالٌ حلال من قبل رؤساء الدول الأجنبية، وعمال حدود الروم، على وجه الهدية والمنحة المقدَّمة لصاحب الخلافة، رأيت من المحرم التصرف بهذا المبلغ الحلال دون إشراك سماحته؛ انطلاقاً من مقولة أن الهدايا شراكة. لذا خصَّصتُ له مبلغاً قدره مائة تومان، وأرسلته بصحبة رسولنا المقرَّب أمين الدولة العلية، لتصل بيد قرة باصرة الدين المبين، ونور العين، الميرزا جمال الدين»([105]).
والجدير بالذكر هنا أن مسألة اتصال الملك بـ «الدول الغربية»، واستلام الأموال منها، وتخصيص قسم منها للميرزا القمي، لم تكن من الأمور التي يحرص الملك على إخفائها عن القمي. وهذا دليل واضح على الثقة المتبادلة بين الاثنين.
لقد بلغت الحميمية والمودّة بين الملك فتح علي والعلماء مبلغاً قال عنه: «إن سلطاننا نائب عن فقهاء عصرنا، وقد شرفنا بخدمة الأئمة الهادين المهتدين، وبذل قصارى الجهود»([106]).
لقد شهدت إيران في ذلك الوقت العصيب قرناً من الحروب والاستعمار، والشتات والاقتتال الداخلي، وكانت آنذاك تمر بحقبة جديدة استطاع خلالها ملوك القاجار، بزعامة محمد خان، ومن بعده ابن أخيه فتح علي، أن يسترجعوا الاستقرار والوحدة الوطنية إلى إيران، بأساليب القوة المعهودة في آسيا آنذاك([107]).
وبالتالي توفَّرت أجواء مناسبة مكَّنت رجال الدين ـ الذين اضطروا خلال القرن الماضي للهرب، وترك الأوطان، واللجوء إلى الهند والعراق ـ من العودة إلى ديارهم، ومعاودة الأنشطة العلمية الدينية، وفق منهجيات وأسس منظمة، ومن المعلوم أن العلماء بدورهم كانوا يثمِّنون التغيير الحاصل في إيران، ويقدِّرون دور محدث هذا التغيير، أي الملك القاجاري.
2ـ إن حروب فتح علي وعباس ميرزا الطويلة ضد الروس كانت تحتم على العلماء التعاون وتقديم الدعم للملك وولي عهده؛ من أجل «الحفاظ على بيضة الإسلام».
ولذا نجدهم يعدّون هذين الاثنين من المجاهدين في سبيل الله. ومن الطبيعي أن لا يكون باستطاعتهم معارضة دعم الجيش الإيراني وتعزيز قدراته، حتى وإن تم ذلك بالاستعانة بالتقنية الغربية.
3ـ الصراع المتأصل بين العلماء والمتصوفة، والذي كان قد بلغ ذروته مع نهايات الدولة الصفوية، واستمر حتى عهد الملك فتح علي. فقد شهدت هذه الحقبة بالذات تصدي العلماء الواسع لأقاويل المتصوِّفة، فأصدروا في دحضهم الكتب والرسائل، كما نظموا في هجائهم القصائد والأشعار، متهمين إيّاهم بالزندقة والإلحاد.
يقول الملا أحمد النراقي: «تخليت عن التزامك بتعاليم الشريعة، وتجلببت بخرقة الكفر والإلحاد، فما معنى هذا التصوُّف؟! فلو أمعنت النظر فيه لوجدته مجرد ألاعيب وخرافات»([108]).
وكتب الميرزا القمي في هذا الصدد أيضاً: «كلما سعينا في البحث والكشف عما إذا كانت طريقة هؤلاء تنسجم مع ما وصلنا من الشارع المقدس لم نعثر على أية مقاربة، فوجدنا استحالةً في الجمع بين قول الشرع وما يذهبون إليه»([109]).
وكان هذا العالم نفسه قد كتب رسالة مطولة إلى فتح علي حول «ملفوفة» الميرزا عبد الوهاب منشي الممالك هاجم فيها المتصوِّفة و«جماعة القلندرية»، الذين «لا يتورعون عن ممارسة اللواط والزنا وسائر المعاصي». وقد ذكر القمي أيضاً أنه شاهد بأم عينه «أنهم يقلِّدون سوراً قرآنية، فأنشأوا سورة في التشجيع على اللواط، وأخرى على الكفر. وهذا يعدّ تحريفاً واستهزاءً بالكتاب المجيد».
وكانت رسالة «الملفوفة»، التي بعث بها الملك إلى الميرزا القمي؛ لإبداء الرأي والتقييم، قد تضمنت العديد من المفاهيم الفلسفية، من قبيل: «وحدة الوجود»، التي كان القمي يعدها «مخالفة لدين محمد». ويكشف ردّ القمي في رسالته عن أن منشي الممالك أو «الرجل الناجح» ـ كما يعبر عنه القمي ـ كان قد خاض في قضايا فلسفية، وفي «معتقدات كفرة اليونان»، وآراء «الصوفيين…، مثل: الحسين بن منصور الحلاج، وأبي يزيد البسطامي»، وذكرها «عند ملك الإسلام، ودعامة الشيعة الكرام»، محاولاً تضليله. الأمر الذي أثار حفيظة الميرزا القمي، وقلقه البالغ، فكتب يقول: «وبعد أن وصل الحكم لملكنا المسدّد، سيد ملوك العالم، وصاحب العقيدة الحقة، وناشر الشريعة، بلغنا أن هناك من شياطين الإنس مَنْ يريد الإضرار بمعتقداته، وسحبه إلى ضلالاتهم؛ بغية الإضرار بعقيدة عامة الناس، انطلاقاً من مبدأ أن «الناس على دين ملوكهم»»([110]).
أما رجالات المتصوِّفة فهم أيضاً بدورهم لم يتوانوا عن تسقيط العلماء والتشهير بهم، وكانوا في الأغلب يعزفون على وتر محدَّد، من قبيل: ما صرح به الميرزا محمد حسين رونق علي شاه من أن الفقهاء «لا يملكون تفويضاً من قبل الإمام×»، ولا يمثِّلون «النائب العام» عنه أيضاً. علماً أن الصراع والسجالات القائمة بين العلماء والمتصوِّفة لم تقف عند هذا الحدّ من المهاترات الكلامية، فقد روت لنا الكتب عن تلك الحقبة ما كان يدور من صدامات بين الاتجاهين، من نفي وسجن وتعذيب، وحتى تصفية المتصوِّفة جسدياً. و من أمثلة ذلك مقتل مشتاق علي شاه سنة 1206هـ/1791م في مدينة كرمان، بتحريض من قبل الملا عبد الله الكرماني؛ وكذلك مقتل معصوم علي شاه سنة 1212هـ/1797م في كرمانشاه، بتحريض من قبل آقا محمد علي الكرمانشاهي([111]).
وبما أن رجالات المتصوِّفة كانوا يحظون بترحيب وقبول، سواء بين أنصارهم أو لدى الحكّام، كانوا يشكِّلون خطراً محدقاً بمكانة العلماء وزعامتهم الدينية.
وقد كانت شهرة بعض المتصوِّفة تأخذ أصداءً مذهلة وحضوراً عفوياً لدى الناس. فقد روى (مفتون دنبلي) بأن «محمد بن محمد رفيع الإصفهاني» كان من العرفاء والمتصوفة، وكان «أنيساً للفقراء والمساكين، ومعيناً لأهل الدين، وقاهراً لأرباب الظلم». وقد «كانت حادثة وفاته المفاجئة مشهداً من مشاهد يوم القيامة في إصفهان، حيث تجمهرت الجموع لتشييعه من كل حدب وصوب»([112])، سنة 1198هـ/ 1783م.
كما كتب آقا محمد الكرمانشاهي ـ وهو ابن محمد علي الكرمانشاهي المذكور آنفاً ـ في سطوة المتصوفة وحضورهم الواسع بين طبقات المجتمع، ومنهم «الوجهاء»، فقال: «لقد رفعت فرقة المتصوِّفة الضالّة المضلّة لواء الضلالة في دار الإيمان إيران، فاستقطبوا الكثيرين من قادة العسكر والناس، بالإضافة إلى مجموعة من ضعفاء طلبة العلوم الدينية ـ ولا سيما علماء مدينة همدان ـ…»([113]).
لقد كان نفوذ المتصوِّفة في الدولة واسع النطاق، حتى ولّد مخاوف ـ كما أسلفنا ـ لدى الميرزا القمي نفسه. ومن الأمثلة الأخرى: قصة الملا محمد رضا الهمداني. فعلى الرغم من كونه «من جملة العلماء الذين كانوا عرضة للعن والطعن، كما تعرض بيته للسلب والنهب والتخريب أيضاً»، ذهب إلى مدينة تبريز، وأقام عند عباس ميرزا والقائم مقام، وآخرين من أركان الدولة، «متمتعاً بكل عزة واحترام»([114]).
وحين ألّف الهمداني كتابه ضد تصريحات هانري مارتن البريطاني (Henry mertyn) قدّم لكتابه القائم مقام سنة 1232هـ/ 1816م، مثمناً جهوده ومكانته العلمية([115]).
على الرغم من تفوق العلماء على المتصوفة في أرض الواقع، وما صرح به الملك فتح علي نفسه لزين العابدين شيرواني في عام 1230هـ/ 1814م، حين قال له: «لا صفو لنا مع المتصوفة، ولا حاجة لنا بدعاء الدراويش»([116])، مع هذا كله كان العلماء على قلق من تسلُّل المتصوِّفة وتنفُّذهم في الدولة، وتعكير الأجواء عليهم. لذا كان من دواعي حرص العلماء على حسن العلاقة مع فتح علي هو تعزيز دعم الملك لهم، وتجنيبه التفكير في دعم المتصوِّفة، الذين هم زنادقة ضالّون من وجهة نظر الفقهاء والمجتهدين.
4ـ كان لعلماء الشيعة الأصوليين ـ في إيران فتح علي ـ عدوٌّ آخر صعب المراس، وقد بدأ بمحاربتهم منذ العهد الصفوي، وهؤلاء الأعداء هم الأخباريون، الذين لا يعترفون بالاجتهاد أصلاً، وينكرون ـ بشدة ـ مباني الفقهاء الأصوليين، ودعوى الاجتهاد. وقد بلغ الصراع أشدّه بين الأصوليين والأخباريين في القرن 12هـ / 18م في البلاد الشيعية، كإيران والعراق والهند. وكان من أبرز الأسماء المناهضة للأخباريين الآقا باقر البهبهاني، الذي خاض نزاعاً طويلاً معهم، حتّى أوصلهم إلى مشارف النهاية والزوال([117]).
لكنْ مع هذا كان خطر الحركة الأخبارية لا يزال قائماً في العقود الأولى من حكم الملك فتح علي، وكان آنذاك كلٌّ من الشيخ جعفر كاشف الغطاء المجتهد الأصولي، والميرزا محمد الأخباري على طرفي نقيض، حيث كان كلُّ واحد منهما يسعى في سباق محموم إلى استحصال دعم الناس والملك، وسحب البساط من الخصم. فكان الميرزا محمد الأخباري يعدّ كاشف الغطاء من الأمويين، كما قال عن فقيه آخر، هو السيد محسن الكاظمي، بأنه يُجيز زواج المثليين. وبد أن أثارت تصريحاته هذه حفيظة الفقهاء وسخطهم التجأ إلى بلاط الملك فتح علي، وحسب أحد العلماء انبرى له خصمه اللدود كاشف الغطاء سنة 1222هـ/ 1807م([118])، ودوّن رسالة بعنوان (كشف الغطاء عن معايب الميرزا محمد عدو العلماء)، فنّد فيها نظرياته الأخبارية، متهماً إياه بالكذب والتلفيق، واصفاً إياه بـ «عديم الدين»، وقد أرسل نسخة منها إلى فتح علي أيضاً([119]). وبذلك حذّره من إيواء مَنْ لا دين له، ومن هو مضلّ المسلمين([120]).
ومع هذا راح محمد الأخباري يعاهد الملك بأن يأتي له برأس سيتسيانوف (Tsitsianov) قائد الجيوش الروسية في مقابل الاعتراف بالأخبارية كمذهب رسمي لإيران([121]).
وحسب قول هدايت فإن «الحاج ميرزا محمد النيشابوري، المعروف بالأخباري، قد وفى بعهده، وبتنفيذ القتل»([122]).
وبناءً عليه يمكن أن نستنتج أنّ من جملة دواعي وقوف الفقهاء إلى جانب دولة فتح علي هو صراعهم المرير مع الأخباريين، وحاجتهم الملحة إلى مساندته إياهم في هذا السياق.
5ـ لا يمكن غض الطرف عن تنامي نفوذ ومكانة الحركة الشيخية على عهد الملك فتح علي، ولا سيما عقيدتهم، بزعامة الشيخ أحمد الأحسائي (1167 ـ 1242هـ / 1753 ـ 1826م)، التي لا محل لها من الإعراب في أفكار ومباني فقهاء الشيعة. كما أن رجالات الشيخية ـ في المقابل ـ لا يعترفون بنظرية الفقهاء في النيابة المطلقة عن الإمام الثاني عشر، وطرحوا بديلاً عن ذلك نظرية «الشيعي الكامل»، ومفادها أن «الشيعي الكامل» يظهر في كلّ عصر وزمان، وهو الذي يعمل عبر ترحاله المتواصل على نشر مذهبه، ويتصدى لسائر الفقهاء والمجتهدين، بل قد يكفِّر بعضهم أيضاً([123]).
كان الخطر الذي يهدد كيان الفقهاء يكمن في حظوة الأحسائي لدى الرؤساء وعامة الناس، حتى أن فتح علي نفسه كان معجباً بشخصيته كثيراً، فقد أرسل إليه رسالة بتحرير الكاتب (نشاط) مفعمة بالإعجاب والتقدير، وخاطبه بعبارات «حجة الله البالغة»، و«علامة العلماء، أعرف العرفاء، أفقه الفقهاء»، ثم أبدى رغبة جامحة في دعوته للحضور إلى البلاط الملكي، والإفادة من آرائه([124]). إذاً يبدو أن الشيخية كانت تمثل عقبة كبيرة في طريق الفقهاء، يتطلب رفعها التآزر مع فتح علي، والحرص على التواصل معه أيضاً. أما ما يتعلق بتدهور علاقات بعض الفقهاء مع الملك فتح علي وعباس ميرزا ـ من قبيل: حادثة التخلي عن تبريز، ومنحها الروس، ومعارضة مير فتاح الزعيم الديني في تبريز خلال الحرب الثانية بين إيران وروسيا([125])؛ أو مخالفة الميرزا مسيح «مع مبدأ الاجتهاد في الإسلام» عبر التآمر على قتل سفير روسيا في إيران غريبايدوف (Griboyedov)([126])، وهو تصعيد نشأ حسب المؤشّرات على خلفية الخلافات الدائرة بين أعداء عباس ميرزا وبينه([127]) ـ فهذا عائدٌ إلى أوقات لاحقة خارجة عن محل البحث.
موقف الفقهاء من العلوم الأخرى ـــــــ
على أية حال لم يكن أعداء فقهاء الشيعة قليلين أو ضعفاء أبداً؛ لذا لا خيار أمامهم سوى الدفاع عن مواقفهم على جبهات متعددة. في مثل هذه المعطيات، وخصوصاً قيام الحرب بين إيران وروسيا، لم يكن من الحكمة أن يشنّ الزعماء الدينيون حملتهم الواسعة ضد العلم والتطور والغربي، وبرامج الملك وولي عهده في الإعمار والتحديث. وبعبارة أخرى: لم تكن الأجواء مؤاتية آنذاك أمام كبار الفقهاء الأعلام في الإفصاح عن رأيهم ـ بشكل موحَّد ـ في شأن برامج التسليح في الجيش الإيراني، التي كانت تتم بإشراف خبرات فرنسية وإنجليزية. فلو لم تكن هذه الظروف الخاصة هي سيدة الموقف، وكان للفقهاء موقفهم الراسخ، ولم تكن إيران في حرب مع دولة غير مسلمة، كروسيا، لما أبدَوْا مرونة بهذا النحو ـ ولو من بعضهم ـ تجاه اكتساب الإيرانيين للعلوم والخبرات القادمة من غير المسلمين في أوروبا. وهذا ما تؤكده النصوص والشواهد المتعلِّقة بتلك الحقبة.
ذكرنا في مناسبة أخرى ـ بنحو من الإيجاز ـ أن العصر الصفوي كان قد شهد حضور جملة من العلماء الكبار، مثل: الملا محسن الفيض الكاشاني، والملا محمد باقر المجلسي.
وكغيرهم من المفكّرين الإسلاميين السابقين حرصوا على دعوة الناس إلى تجنب الخوض في العلوم المستندة إلى العقل واستدلالاته. وهذا النوع من التعامل مع شتى العلوم حاضر في كتابات وتصرفات اثنين ـ على الأقلّ ـ من بين العلماء المشمولين بالدراسة هنا، وهما: الميرزا القمي؛ والملا أحمد النراقي. فمن أمثلة ذلك ما سجل في عام 1227هـ / 1812م حين كان الميرزا صالح الشيرازي بصحبة (غوراوزلي) سفير بريطانيا في زيارته إلى بعض المدن، ومنها: (قم)، فرصد طبيعة أجواء المدرسة الفيضية، وطريقة تعامل الميرزا القمي ـ زعيم الحوزة القمية آنذاك ـ وموقفه من العلوم الأخرى، فكتب أن «أهل المدرسة» الفيضية لا يعرفون سوى «الفقه والأصول؛ وذلك بسبب وجود الميرزا أبي القاسم چاپلاقي [القمي]، ولا يسمح لهم بدراسة أي علم آخر»([128]).
وكان الميرزا القمي كتب رسالة ضد المتصوِّفة والفلاسفة ذكر فيها أن «إنكار كفر» المتصوفة هو «بمثابة إنكار كفر إبليس»، كما قال عن الفلاسفة، أمثال: الملا صدرا، ممَّن يؤمن بوحدة الوجود، بأن «الكفر والزندقة ظاهرة عليهم»([129]).
وهكذا بالنسبة لكلام الملا أحمد النراقي؛ إذ لديه تصريحات هامة حول دراسة «العلم الدنيوي والعلم الأخروي». فمما نعرفه عن النراقي أنه صاحب قلم سيّال وصريح، وله في شؤون المجتمع نظرات فاحصة أيضاً، لذا كان يشكو كثيراً من الإخفاق والسبل الملتوية الموجودة داخل المجتمع الإيراني آنذاك. وقد رأى في هذا السياق أن «التعليم والتعلم»، وعلاقات «المعلِّم والمتعلِّم»، لا تؤدي إلا إلى الجهل والتجذُّر فيه، وهاجم هذه المظاهر قائلاً: «بإمكان مَنْ له معرفة بأحوال أهل هذا العصر أن يعلم بأن آداب التعليم والتعلم مهجورة كغيرها من الصفات الكمالية، وأن المعلم والمتعلم في غاية البعد عن تطبيقها. فالعصر وأهله في فساد، وسوق الهداية والإرشاد في كساد، فلا نية المعلم خالصة، ولا قصد المتعلم، ولا غرض الأستاذ صحيح، ولا هدف التلميذ. ولهذا لا ينال درجة الكمال واحد في الألف، فمعظمهم قابع في جهله، على الرغم من قضاء العمر في المدارس»([130]).
علاوة على ذلك لم يجوِّز النراقي دراسة بعض العلوم، كالطب والهندسة والنجوم والعروض والموسيقى والرياضيات فحسب، بل رأى «من الواجب الكفائي أحياناً تكفل دراسة بعض القضايا في هذه العلوم»، حتى أنه ذهب إلى أبعد من ذلك، وقال بأن «أفضل سبل معالجة انحراف الذوق واعوجاج الفكر»، التي تصنف عنده في حقل «الجهل المركب»، «هو دراسة العلوم الرياضية من هندسة حساب»؛ كونها تعمل على «تقويم مسار الأفكار»([131]). لكن هذا الكلام لا يعني ترحيب النراقي بالإقبال على العلوم بطريقة أساسية، والتأصيل للأفكار والمعتقدات على أساس العقل واستدلالاته، أو تبنّي رأي جديد.
لم يصرّ النراقي أو يقطع بدراسة العلوم «الدنيوية»، بل لم يَرَ اشتمال تلك «العلوم» على الكثير من «البهجة والسعادة» لعالم العقبى. ولهذا لم يقُلْ بـ (وجوبها)، ولا بدور أساسي يلبي تطلعات العصر الحياتية، فقد اقتصر القول على «بعض القضايا من بعض» تلك العلوم، مع إضافة قيد «أحياناً» على «الوجوب الكفائي»([132]).
لقد وضع النراقي في مقابل «العلوم الدنيوية» التي لا يهتم بها كثيراً ـ «العلوم الأخروية»، وهي «ثلاثة علوم: أحدها: «العلم الإلهي الذي يعرف به أسس عقائد الدين، وأحوال المبدأ والمعاد»؛ والآخر: «علم الأخلاق الذي يتكفل بتحقيق سعادة النفس ونجاتها، أو شقائها وهلاكها»؛ والثالث: هو «علم الفقه الذي يعرف من خلاله العبادات، والمعاملات، والحلال والحرام، والآداب، والأحكام». وعلى الرغم من تصريحه «بوجوب تحصيل هذه العلوم الثلاثة» إلا أنه حكم بضرورة تجنب بعض المسائل المتعلِّقة بـ «العلم الإلهي»، والمستلزمة لدور العقل واستدلاله، فقال في ذلك: «لا حاجة بالمرة لفهم تفاصيل ما يتعلق بصفات [الله]، وهل هي حضورية أم حصولية، وقديمة أم حادثة، وما شاكل ذلك؟ وهكذا بالنسبة للبحث في حقيقة الصفات، وكنه بعض أحوال النشأة الآخرة». فهو يرى بأن «من واجب المكلَّف أن يكون لديه اعتقاد راسخ بجميع» ما جاء به محمد| «بنحو يحصل معه الاطمئنان الداخلي». فـ «التصديق باللسان وحده، دون تحصيل اطمئنان القلب، غير كافٍ في بلوغ النجاة الأخروية، والوصول إلى المراتب الحقيقية». ومع هذا كله لا يرى ضرورة في إجهاد «المكلَّف» نفسه «لإدراك تفاصيل وكنه بعض تلك الأمور»([133]).
كان النراقي يرجِّح عدم إصرار العباد على البحث عن التساؤلات المثارة حول القضايا الدينية، وإيجاد حلول منطقية وعقلية لها. ويبدو أن السبب الرئيس وراء هذا الترجيح ينبع من إيمانه بأن عقيدة «عوام الناس» أقوى من «اعتقادات» الضالعين في «علم الكلام والحكمة المتعارفة». يقول: «إن عقائد أهل التقوى والصلاح من عوام الناس… لهي راسخة كالجبال، لا تتزلزل أبداً، فلا يعيرون بالاً لشبهات أهل المجادلات، ولا يحرِّكهم سماع تلك الأقاويل. أما عقائد أولئك الذي قضوا أعمارهم في علم الكلام والحكمة المتعارفة، ليلاً ونهاراً، لا يفتؤون المجادلات والنقاشات الكلامية، فهي كالريشة في مهب الريح، تسير يميناً تارة وشمالاً تارة أخرى، يثيرهم كل ما يقال ويسمع، ويؤمنون بأقل ما تتوصل إليه عقولهم القاصرة، وإن كان لديهم اعتقاد سليم فهو مما تبقى لديهم من طفولتهم»([134]).
وقد نظم النراقي شعراً في سياق هذا النمط من التفكيرات المستندة إلى العقل، ووصف الفلاسفة، فقال: «صار هذا مفعماً بالفلسفة، وبات من سفهه يرى نفسه عالماً، فانشغل بتحديد الجهات، وتفاصيل حياة الحيوان والنبات. صار يبحث عن العالم بين قدم وحدوث، فهل جاء عرضاً أم على وجه العبث؟ فهو جاهل ولا يعلم من أحكام الله سوى الصلاة، وفي بعض الأوقات. عنده عشرات الأدلة على تجريد النفس، والحال أنك تجده يقيد نفسه بعشرات السلاسل».
وقال أيضاً: «تعساً لعلمك ومكانتك، فقد سوَّدت وجه مئة مدِّرس بجهلك، حين مزجت بين الوهم والشكوك، وخلقت ثرثرة من (لماذا؟ وكيف؟). وضعت كلمة الاستدلال اسماً له، تصفِّف أحجار [الشطرنج]، وتخسر دائماً. لقد تكررت عليك أخطاء هذه الاستدلالات الواهية بعدد الشهود والسنين».
وقال في آخرين: «يقول: ما أبدع كتاب الإشارات والشفاء، وهو لا يزال مريضاً بلا دواء».
ونظم في ذلك أيضاً: «إذا كان العلم هذا دعه جانباً، فأطنان هذا العلم عندي لا تساوي قشة. فاذهب إلى نسّاج السلال وتعلَّم صنعة، توفر لأيامك منها رغيف الخبز»([135]).
كلمة الختام ـــــــ
معلومٌ أن منحى العلوم والتقنية في حضارة الغرب البرجوازي، التي بات العالم، ومنه إيران، في أمس الحاجة إليها، لم يكن على مقربة وشراكة مع العلوم التي يدعو إليها الميرزا القمي. وهذا أيضاً ما يفصح عنه موقف الملا أحمد النراقي من «العلوم الدنيوية»، وحرصه البالغ على «العلوم الأخروية»، التي هي في حاجة إلى تفكُّر وتدبر. فعلى الرغم من تحرُّره الفكري، واطلاعه على العديد من مشاكل العصر، لم يرَ «بهجة وسعادة أخروية» لدى الباحثين وراء تقنيات الغرب، فلم يستطع بطبيعة الحال أن يحدد لها دوراً محورياً ويسوِّغ اكتسابها بنحو من الاضطرار في إطار متطلبات إيران في زمن الملك فتح علي. لكن وعلى الرغم ممن جميع هذه المجريات لم يصدر العلماء ـ في حدود علمنا ـ بياناً أو رسالة ضد برامج فتح علي وعباس ميرزا التطويرية خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، بل إنهم كانوا على تواصل معهما آنذاك، ويقدمون لهما الدعم أيضاً.
الهوامش:
(*) أستاذ جامعي وباحث في الفكر السياسي الإسلامي، توفي قبل عدّة سنوات.
([1]) انظر على سبيل المثال: مرتضى الأنصاري، المكاسب: 153. طبعة تبريز، 1334هـ. ش.
([2]) لعل الميرزا محمد حسين النائيني هو من أبرز مصاديق هذا النوع من العلماء على عهد الحركة الدستورية في إيران (انظر: حائري، تشيع ومشروطية در إيران).
([3]) كان من جملة معارضات الشيخ فضل الله النوري مع الدستوريين هو فصل «النيابة في الأمور الثبوتية» عن «فرض السلطة وبسط الاستقرار» في الدولة، بل كان يرى أنه لابد من القيام بهاتين المهمتين «في موضعين» منفصلين، مع تأكيده على أنهما يكملان بعضهما البعض أيضاً، أي إن الكيان الإسلامي متوقف عليهما معاً» (انظر في هذا الموضوع:
Abdul-hadi hairi. “shaykh fazl Allh Nuri,s Refutation of the Idea of Constitutionalism” ,MES, Xiii (1977), 39;
مهدي ملك زاده، تاريخ انقلاب مشروطة إيران 4: 209 ـ 220، (طهران، 1328هـ. ش). للتوسع في موضوعة موقف زعماء الشيعة ـ كالشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، والشريف المرتضى ـ من شرعية السلطة انظر: محمد بن الحسن الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، بيروت، 1390هـ؛
Ann K.S Lambton, State and government in Medieval Islam:
An Introduction to the study of Islamic Political Throry:
The Jarists (London, 1985), PP. 138 – 51, 219 – 63; Madelung, Religious School, passim; Jean Galmard, “Les olama, Le Pouvoinet La societe en Irank: Le discouvsambigu de la Hierocratie” , in J.P.Digand,ed,Le cuisinier et La philosoph: Hommage a Maxime Rodinson (paris, 1982), PP. 253 – 61.
كما لا بأس بمراجعة هذا المقال حول مرجعية التقليد:
Ahmad Kazemi Mussavi, “The Establishment of the position of Marja – iyyat – I Taqhid in the Twelver – shi|I community” Is, xvii (1985), PP,35 – 51.
([4]) محمد علي مدرس، ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية واللقب، أو الكنى والألقاب 6: 71، تبريز، بلا تاريخ.
([5]) [حسين] مدرسي طباطبائي، «خمس رسائل من فتح علي إلى الميرزا القمي»، ب، ت، ج10، العدد 4: 76 ـ 247 (1354هـ. ش). نشرت أربع من هذه الرسائل قبل هذا في (كنجينه نشاط).
([6]) المصدر السابق؛ انظر أيضاً القسم الأخير من هذا المقال.
([7]) حسن القاضي الطباطبائي، «إرشاد نامة الميرزا القمي»، نشرية كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتبريز 20: العدد 3: 69 ـ 368 (1347هـ.ش). وقد نشرت رسالة القمي هذه في المقال السابق على أنها رسالة منه إلى الملك فتح علي (ص 366). وبعد مدة وجيزة انتشرت رسالة الميرزا القمي بمقدمة مضافة، لكن مستقبلها هذه المرة هو آقا محمد خان القاجاري، وقد ذكر ناشرها بأن هناك مَنْ يعتقد بأن الرسالة كانت موجهة إلى فتح علي، و«لا شك أن هذا خطأ»، لكنه لم يذكر علة هذه التخطئة (انظر: [حسين] مدرس طباطبائي، «نامه إي أز ميرزاي قمي به آقا محمد خان قاجار» وحيد 11: 1150 ـ 1151 وما بعدها (1352هـ. ش)). وجاء (لمبتون) بعد عامين، معتمداً على رأي القاضي الطباطبائي، فعدّ مخاطب الرسالة هو الملك فتح علي، وكتب دراسة عن هذا الموضوع. انظر: Lambton, «some New Trends», 11 ff.
وعن حياة وسيرة الميرزا انظر: مدرس، ريحانة الأدب 6: 68 ـ 72؛ الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الإصبهاني، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات: 96 ـ 493، إعداد: السيد محمد علي روضاتي(1367هـ)
([8]) القاضي الطباطبائي، «إرشاد نامه»: 377.
([9]) المصدر السابق: 380، 382. وكلا النصين منقولان في هذه الصفحات نفسها.
([10]) الميرزا أبو القاسم القمي، أصول الدين: 46 (1308هـ).
([12]) الميرزا القمي، جامع الشتات 1: 36.
([13]) الميرزا القمي، في أحكام الجزية [وهي واحدة في 22 رسالة ملحقة بكتاب آخر للمؤلف بعنوان] غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام: 590، طهران، 1319هـ.
([14]) الميرزا القمي، جامع الشتات 1: 44. وقد كتب القمي الموضوع ذاته بطريقة مبسطة في كتاب أعده لسائر المستويات من القرّاء (انظر: «مرشد العوام»، نسخة خطية باللغة الفارسية، دون ترقيم للصفحات).
([15]) الميرزا القمي، جامع الشتات 1: 87 ـ 88، 92.
([18]) الميرزا أبو القاسم القمي «[رد على الميرزا عبد الوهاب منشي الممالك]»، نسخة خطية بالفارسية، الورقة 69 و70.
([19]) الميرزا القمي، جامع الشتات 1: 92.
([20]) انظر عن حياته كتابه: قصص العلماء: 70 وما بعدها (طهران، 1396هـ).
([22]) السيد محسن الأمين [العاملي]، أعيان الشيعة 16: 308 (1962).
([23]) الخوانساري، روضات الجنات: 152.
([24]) سپهر، ناسخ التواريخ 1: 226؛ اعتماد السلطنة، تاريخ منتظم 3: 99.
([25]) مدرس، ريحانة الأدب 5: 24.
([26]) قائم مقام فراهاني، جهادية: 18.
([27]) التنكابني، قصص العلماء: 183.
([29]) الأمين، أعيان الشيعة 16: 323.
([30]) التنكابني، قصص العلماء: 191، 193.
([31]) كاشف الغطاء، كشف الغطاء: 2 ـ 3.
([34]) مجهول [جهادية]، «الركن الأول» من «المقدمة»، نسخة خطية بالفارسية.
([35]) عبد الهادي حائري، «آية الله صدر»، سنوية نوردانش: 99 ـ 107، (1331هـ.ش)، السنة السابعة، النص منقول عن صفحة 102.
([36]) سپهر، ناسخ التواريخ 1: 184.
)[38]( Abdul – Hadi Hairi, “ansari, shayk, murtada” E12 (supplement), Fascicu – les 1-2 (leiden, 1980), pp-75-77.
([39]) انظر في تخت طاقديس خسرو برويز: آرتور كريستين س، إيران در زمان ساسانيان: 328 وما بعدها، ترجمة: رشيد ياسمي، طهران، 1317هـ.ش.
([40]) الملا أحمد نراقي، طاقديس: 4، 9، طهران، 1374. وقد طبع هذا الكتاب حديثاً بعنوان (مثنوي طاقديس)، بإشراف: حسن النراقي، طهران، 1362هـ. ش، لكن مصدرنا هنا هو الطبعة القديمة.
([41]) المصدر السابق: 10 (الطبعة القديمة).
([44]) الملا أحمد نراقي، معراج السعادة: 357 ـ 359، طهران، بلا تاريخ.
([47]) مدرس، ريحانة الأدب 3: 301 ـ 320، والمصادر المذكورة هناك.
([48]) بهاء الدين محمد (الشيخ البهائي)، الكشكول 2: 149، ترجمة وشرح: محمد باقر ساعدي، طهران، 1358هـ. ش.
([50]) نصر الله فلسفي، زندگاني شاه عباس أول 3: 26 ـ 27، دينداري، سياسة مذهبي، سياسة داخلي، عدالت، دارائي، أملاك أو، طهران، 1339هـ. ش، نقلاً عن«تاريخ عباسي»، جلال الدين محمد يزدي منجم باشي شاه.
([51]) الملا أحمد النراقي، الخزائن: 13، 1308هـ.
([53]) الملا أحمد النراقي، سيف الأمة وبرهان الملة: 39 ـ 40، 1330هـ.
([54]) الملاأحمد النراقي، عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام ومهمات مسائل الحلال والحرام: 187، 1331هـ.
([55]) المصدر السابق: 185 ـ 188.
([56]) المصدر السابق: 185 ـ 186.
([57]) غزل ملا أحمد نراقي متخلص به صفائي: 122، جمعه: أختر نراقي، 1351هـ. ش.
([58]) مدرس، ريحانة الأدب 6: 162.
([59]) نراقي، طاقديس: 104، 279، 323.
([60]) غزل ملا أحمد نراقي: 119 ـ 118.
([62]) مدرس، ريحانة الأدب 6: 162.
([63]) غزل ملا أحمد نراقي: 121.
([64]) انظر: الصفحات اللاحقة من المقال الحالي.
([65]) التنكابني، قصص العلماء: 130.
([66]) محمد نصير فرصت حسيني شيرازي، آثار عجم 1: 103، بومباي، 1353هـ.
([67]) محمد حسن خان اعتماد السلطنة، المآثر والآثار: 156، طهران، 1306هـ.
([68]) سيد جعفر دارابي بروجردي كشفي، إجابة المضطرين 1: د ـ هـ، 1377هـ. دوّن هذا الكتاب بتاريخ 1228/ 1813.
([69]) شيرواني، بستان السياحة: 9.
([70]) كشفي، إجابة المضطرين: 90. وله أيضاً «ميزان الملوك» نسخة خطية بالفارسية. وقد تمّ الفراغ من تدوين هذا الكتاب في آخر يوم من عام 1246هـ (1831م)، ولا يحمل ترقيم صفحات.
([74]) إجابة المضطرين: 84 وما بعدها.
([77]) إجابة المضطرين: 329 ـ 328.
([79]) كشطي، تحفة الملوك (1273هـ)، دوّن هذا الكتاب بتاريخ 1233هـ/ 1818م، بلا ترقيم للصفحات.
([89]) ميرزا أبو القاسم قائم مقام فراهاني، منشآت قائم مقام: 306، تحقيق: محمد عباسي، طهران، 1356هـ. ش.
([90]) فتح علي خان ملك الشعراء صبا، ديوان أشعار ملك الشعراء فتح علي خان صبا: 758، تحقيق: محمد علي نجاتي، طهران، 1341هـ.
([91]) سلطان الواعظين، «سفرنامة»: 8 ـ 13.
([92]) محمد حسن بن أبي طالب، «مناهج السلوك للسلاطين والملوك»، نسخة خطية بالفارسية، بلا ترقيم صفحات.
([94]) رستم الحكماء، «معما نامه»: 1 ـ 2، نسخة خطية بالفارسية. وله أيضاً: رستم التواريخ: 393 وما يليها.
([95]) «معما نامه»: 150 ـ 151.
([96]) رستم الحكماء رستم التواريخ: 172.
([97]) حاجي أسد الله قوام شيرازي، «تاريخ قوامي»: 4، 106، نسخة خطية بالفارسية.
([98]) المصدر السابق: 7، 17، 24.
([99]) المصدر السابق: 21 ـ 22.
([100]) بار فروشي، «مفرح القلوب»: 115 ـ 114.
([101]) الميرزا القمي، [«رد بر ميرزا عبد الوهاب»]: 69.
([103]) مدرسي طباطبائي، «پنج نامه أز فتح علي شاه» [خمس رسائل من الملك فتح علي]: 271.
([104]) بارفروشي، «مفرح القلوب»: 209.
([105]) مدرسي طباطبائي، «پنج نامه أز فتح علي شاه»: 274.
([106]) هدايت، روضة الصفا 9: 379.
([107]) يذكر أن أحداث عصر حكومة الملك آقا محمد خان القاجاري كانت قد خضعت لدراسة وتحليل الكتّاب الإيرانيين وغير الإيرانيين، وقد شهد الجميع بفضل مساعيه من أجل وحدة الشعب الإيراني وتلاحمه على الرغم مما صاحب ذلك من إراقة الدماء وإبادة جماعية انظر المقال:
G.R.G.Hambly,”Ada mohammad Khan and the Establishment of the Qajar Dynsty”, TRCAS, L(1963), 761 – 74.
([109]) الميرزا القمي، جامع الشتات 2: 761.
([110]) الميرزا القمي [«رد بر ميرزا عبد الوهاب»]: 5، 8، 10، 71، وغيرها، النص منقول عن ص 71.
([111]) شيرواني، بستان السياحة: 149، 83 وما يليها، 224. للتوسع في الموضوع انظر: محمد معصوم شيرازي (معصوم علي شاه، نايب الصدر)، طرائق الحقائق، تحقيق: محمد جعفر محبوب، (طهران، 1345هـ. ش)، ج3؛ أحمد علي خان ـ وزيري ـ تاريخ كرمان، تحقيق حافظ فرمانفرمائيان، (طهران، 1340هـ. ش).
([112]) عبد الرزاق مفتون دنبلي، تجزية الأحرار وتسلية الأبرار 1: 159، تحقيق: حسن قاضي طباطبائي تبريز، 1349هـ. ش.
([113]) آقا أحمد كرمانشاهي، «مرآة الأحوال»: 393.
([114]) شيرواني، بستان السياحة: 614.
([115]) انظر: ملا [محمد] رضا همداني، مفتاح النبوة، طهران، 1240هـ. كما يمكن العثور على نص تلك المقدمة في منشآت قائم مقام: 90 ـ 281.
([116]) شيرواني، بستان السياحة: 416.
([117]) لابد في الوقوف على مباني الأخباريين وتاريخهم من الرجوع إلى مؤلفات علمائهم، كالميرزا محمد الأخباري، ودراسة مضامينها. وعن موقف آقا باقر بهبهاني انظر كتابه: رسالة الاجتهاد والأخبار، 1314هـ؛ وانظر أيضاً نبذة عن تاريخهم والمصادر المتعلقة بتفاصيل ذلك:
w.madluny, “Akgbariyy” E12 (supplement), Fascicules 1-2 pp. 56 – 57.
([118]) الأمين، أعيان الشيعة 16: 311.
([119]) الخوانساري، روضات الجنات: 152.
([120]) للشيخ جعفر كاشف الغطاء كتاب آخر ضد الكفر الأخباري، كان قد ألّفه بطلب من نجله علي حين كان مقيماً في إصفهان (انظر: الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين، 1319هـ).
([122]) هدايت، روضة الصفا 9: 415. للتوسع في موضوعة الصراع الأخباري الأصولي انظر:
Juan Cole, “shi,I Clerics in Iraq and Iran, 1722 – 1780: The Akhbari – Usali Conflict Reconsidened” IS, XVIII (1985), pp3 – 34.
([123]) هدايت، روضة الصفا 9: 415.
([124]) التنكابني، قصص العلماء: 53.
([125]) انظر في موضوع التيار الشيخي والشيخية: أبوالقاسم بن زين العابدين، فهرسة كتب الشيخ الأجل الأوحد المرحوم الشيخ أحمد الأحسائي وسائر المشايخ العظام ـ أعلى الله مقامهم ـ؛ و(خلاصة شرح أحوال إيشان)، (كرمان، بلا تاريخ) ج 1 ـ 2؛ عبد الله بن أحمد الأحسائي، شرح حالات شيخ أحمد الأحسائي بومباي، 1310هـ؛ هانري كوربن، مكتب شيخي أز حكمة إلهي شيعي، ترجمة: فريدون بهمن يار، طهران، 1346هـ. ش.
([126]) انظر في تفاصيل وفاته: هدايت، روضة الصفا 9: 674 وما يليها.
([127]) قائم مقام، منشآت: 50 ـ 51، 134 ـ 137.
([128]) ميرزا صالح شيرازي، مجموعة سفر نامه هاي ميرزا صالح شيرازي: 25 ـ 26، تحقيق: غلام حسين ـ ميرزا صالح، طهران، 1364هـ. ش؛ الميرزا القمي [«رد بر ميرزا عبد الوهاب»]: 10 ـ 11.
([129]) ناطق، مصيبة وبا: 157 وما يليها.
([130]) النراقي، معراج السعادة: 59.
([131]) المصدر السابق: 60، 67.
([133]) المصدر السابق: 60 ـ 61.